The Greatest Miracle: The Quran
المعجزة الكبرى القرآن
Yayıncı
دار الفكر العربي
Türler
مقدمات
الافتتاحية
...
الافتتاحية:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: ١-٥] .
والصلاة والسلام على محمد الذي أرسل للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليه الكتاب المبين حجة باقية شامخة إلى يوم الدين. ورضي الله عن صحابته الأكرمين، الذين بلغوا من بعده شريعة القرآن، ومعه العدل والقسطاس المستقيم.
١- أما بعد: فقد اتجهت النفس متسامية إلى رسول الله ﷺ أتعرَّف سيرته الطاهرة العطرة لأقتبس من نور هديه، وأتنسَّم نسيم عرفه، ولا شاهد إرهاصات النبوة، بل الإعجاز في حياته الأولى، كما أيده الله تعالى بالمعجزات في حياته الثانية بعد أن بعث رحمة للعالمين، وقد تابعنا حياته ﵇ الأولى، ثم تسامينا إلى متابعة حياته الثانية بعد أن نادَى في الجزيرة العربية بصوته القوي العميق يدعو إلى التوحيد في وسط الوثنية، وهو يصبر ويصابر، ويجاهد ويناضل، ويلاقي الأذى، والمؤمنون الصادقون الذين معه يعذَّبون، وقلوبهم بالإيمان لا ينطقون بالكفر، ولو مزّق الأذى أجسامهم، وطواغيت الشرك يتمتعون بالإيذاء، بينما أهل الإيمان يرضون بالعذاب عن الكفران، وقد أخذ النبي من بعد ذلك يعرض نفسه على القبائل، تمهيدًا لبناء دولة الإسلام الفاضلة في غير مكة، وأخذ النور يسري في ظلمات الجاهلية منبثقًا من مكة، وإن لم يستضئ أهلها بنوره لعمى البصائر، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [سورة الحج: ٤٦] .
والمعجزة الخالدة التي يتحدَّى بها قريشًا وسائر العرب هي "القرآن الكريم"، رأينا من مساوقة الحوادث أن نتكلم في هذه المعجزة الكبرى، على أن يكون كلامنا فيها تبعيًّا وليس أصليّا، وبالعرض لا بالذات.
1 / 3
٢- ولكن ما إن قاربنا نوره حتى بهرنا ضياؤه، واستغرض نفوسنا سناؤه، وانتقلت نفوسنا إلى الاتجاه إليه قاصدين ذاته أصلًا، لا تبعًا للسيرة، ولو كانت سيرة من نزل عليه القرآن وخاطب في ظله الأجيال، سيدنا الهادي رسول الله رب العالمين.
وقد حاولنا أن نملأ نفوسنا من ينابيع الهداية فيه، وأن نشفي أمراض قلوبنا بما فيه من دواء، وأن نكشف الغمة بما فيه من حكم وعبر.
لذلك صار القرآن وعلم القرآن، وكل ما يتعلق به هدفًا لنا مقصودًا، وأملًا منشودًا لا نبغي سواه، ولا نطلب غيره.
فكان لزامًا علينا أن نخص كتاب الله ببحث ودراسة، وأن نخرج من ذلك البحث كتابًا نرجو أن يكون قيمًا في ذاته، وإن كان لا يعلو إلى حيث يكون مناسبًا لموضوعه، فموضوعه أعلى من أن تناهده همتنا، وأن تتسامى إليه عزيمتنا؛ لأنه كتاب الله تعالى، وأنَّى لضعيف مثلي أن يصل إلى وصفه أو التعريف به، إنه فوق منال أعلى القوى إدراكًا، وأعظم النفوس إشراقًا.
"أ" وقد اتجهت ابتداء إلى بيان نزول القرآن منجمًا، وحكمته مستمدًّا هذه الحكمة من نص القرآن، وما أحاط بالتنزيل ووجوب حفظه في الصدور، ثم بينت أنه كتب في حياة الرسول، وأنَّ النبي ﵇ كان يملي الآية أو الآيات التي تنزل عليه على كتَّاب الوحي، حتى إذا تمَّ نزوله كانت كتابته قد تمَّت، وقراءته بهذا الترتيب الذي نراه في الآيات والسور قد كملت، وقد تكلمت من بعد ذلك في جمع المكتوب في عهد الصديقين أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، ثم في عهد ذي النورين عثمان رضي الله تعالى عنه.
"ب" وقد اتجهت إلى الحق في وسط ما أثاره بعض العلماء من خلافات حول أحرف القرآن الكريم، وقراءته ونزوله، وقد أسرف بعض العلماء على أنفسهم وعلى الحق، فأثاروا أقوالًا باطلة ما كان من المعقول إثارتها، حتى إنَّ بعض المغرمين بالجمع ونقل الخلاف قالوا أمورًا تخالف نص القرآن الكريم، فيما ذكر من نزلوه، وتهافتت الأقوال حتى وجدنا الذين لا يرجون للإسلام وقارًا يتعلقون بأقوال ذكرت لهؤلاء، كقول بعضهم: إن هناك رأيًا يقول: إن القرآن نزل على قلب النبي ﷺ بالمعنى واللفظ للنبي، ونسوا قوله تعالى معلمًا للنبي ﷺ القراءة والنطق بها: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِه
1 / 4
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦-١٩]، فإن ذلك صريح في أنَّ القرآن نزل على النبي ﷺ باللفظ والمعنى والقراءة، وأنَّ ذلك عليه إجماع المسلمين، والعلم به علم ضروري، ومن يخالفه يخرج من إطار الإسلام، وقد صرَّح القرآن الكريم بأنَّ الله تعالى هو الذي رتل القرآن، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] .
"ج" ولقد تكلمنا من بعد ذلك في إعجاز القرآن، وبيَّنَّا وجوه الإعجاز، ودفعنا القول بالصرفة دفعًا، ثم تكلمنا في علم الكتاب، وجدل القرآن، وتفسير القرآن، ومناهج التفسير، وبيَّنَّا التفسير بالأثر، ومقامه من التفسير بالرأي، وأنَّ الرأي يجب ألَّا يناقض المأثور، وأن التفسير باللغة والأثر مفتاح التفسير بالرأي.
"د" وتكلمنا في الغناء بالقرآن وتحريمه، والتغنِّي الجائز المأثور، وإبطال ما سواه، وسرنا في طرق الحق الذي لا عوج فيه ولا أمت.
٣- وإنا نحمد الله تعالى على ما اختبرنا به في أثناء كتابه ما كتبناه، لقد اختبرنا الله تعالى في أول كتابة ما كتبنا عن القرآن، فانقطعنا عن الاتصال بالصحف السيارة، نخاطب المسلمين من فوق منبرها، وقطعنا عن المجلات العلمية نوجّه الفكر الإسلامي من طريقها، ومن كل طرق الإعلام فلا نصل إليها، وكان الهمّ الأكبر أن انقطعنا عن دروسنا، وعن المحاضرات العامة.
ولكن القرآن آنسنا في وحدتنا، وأزال غربتنا، فكان العزاء النفسي والجلاء الروحي، واختبرنا الله تعالى بالضر كما اختبر نبيه أيوب؛ إذ قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣]، وإنه وإن تشابه المرض فإنه يختلف المقام، فهذا نبي يوحى إليه، ونحن من الأتباع، ونرجو أن نكون من الأبرار في اتباع النبيين، لزمنا المرض المقعد نحو شهرين، فكان ألم الابتعاد عن القرآن أكبر من ألم المرض الممضّ، ولقد منَّ الله تعالى بالشفاء، فخرجنا من الداء العقام، وما منعتنا وعثاء المرض، فعدنا إلى القرآن نقبس من نوره، ونعيق من عرفه، هو أنس المستوحش، وسمير المستغرب، فأنسنا بعد طول الغياب، ومنحنا الله تعالى به العافية، فوفقنا لأنَّ نقطع كل ما أردنا عرضه في مدة المرض، وكأنَّا في مجموع ما بلينا في طول المدة أصحَّاء في أبداننا؛ لأنه سلمت نفوسنا من السقام، بفضل القرآن.
1 / 5
واختبرنا الله تعالى من بعد بهم واصب بأن أصاب رفيقة حياتي بكسر أقعدها، وأقعدني بالغم الشديد والكرب البعيد الأثر، العميق في النفس.
ولكن أنس القرآن خفف همي، وكشف غمي؛ لأنه ملأها إيمانًا بقضاء الله وقدره، ووضع في نفوسنا الصبر الجميل من غير أنين ولا ضجر، ولكن برضا لما أراد، وهو اللطيف الخبير، وهو الشافي في المرض، والجابر في الكسر، والمعين في الشدة، ولا رجاء في غيره.
هذه أمور جرت لنا، ونحن نكتب في المعجزة الكبرى، فما عوَّقت وما منعت، وما أيأست.
اللهم احفظنا بالقرآن، وآنسنا بنوره، ووفقنا للقيام بحقِّه آحادًا وجماعات، وإنك وحدك القائم على كل شيء، اللهم قنا شر نفوسنا، واحفظ الأمة من فساد يعم، وشر يطم، اللهم إنك عفوٌّ قدير فاعف عنا، ولا تؤاخذنا بما تكسب أيدينا، وارفع عنا المقت الذي حلَّ بنا، إنك عوننا وأنت نعم المعين.
محمد أبو زهرة
أول رمضان سنة ١٣٩٠هـ.
٣١ أكتوبر سنة ١٩٧٠م.
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
المعجزة الكبرى
١- يسير الكون على سنن قد سنَّت، ونظمٍ قد أُحكِمَت، وارتباطٍ بين الأسباب والمسببّات العادية لا يتخلَّف، وإن تخلَّفت المسببات عن أسبابها ووجدت الأمور منفكة عن علتها، كالولد يولد من غير أبٍ، وكالحركة تجيء من جامد لا يتحرَّك كعصا،، ونار تنطفئ وقد أوقدت، إذا كان ذلك الانقطاع بين الأسباب العادية ومسبباتها حكم العقل بأن الذي فعل ذلك فوق الأسباب العادية ومسبباتها، ولو ساير العقل منطقه إلى أقصى مداه "وليس بعيدًا في حكم المنطق العقلي المستقيم الذي يصل إلى المدى من أقرَّ به"، فإنَّه لا بُدَّ واصل إلى أن الذي خرق العادات وخالف أساببها ومسبباتها لا بُدَّ أن يكون خالقها وموجدها، وإذا كان القصور العقلي لا يصل إلى هذه الغاية، فإنه لا بُدَّ واصل إلى أن خرق هذه العادات، لا بُدَّ أن يكون لغاية، وأنَّه إذا وجدت هذه الغاية وبينت مقاصدها، وعلم أنَّ ذلك الخرق لهذه الغاية تبين معه صدق ما يدعى، وأنه يعلم من وراء ذلك الخالق الحكيم، المسيطر على كل شيء، الذي يفعل ما يرد، ولا يقيده نظام خلقه، ولا عادات أوجدها.
لذلك كان الأمر الخارق للعادة حجة الصدق لمن يدَّعي أنه يتكلم عن الخالق الحكيم الفعَّال لما يريد؛ لأنه لا يغير العادات سواه، وإن الصادق يعلن دعواه، ويقيم ذلك برهانًا عليها، ويتحدَّى الناس أن يفعلوا مثلها، ويسمَّى في هذا الحال أنه معجزة.
ولذلك عرفوها بأنها: المرّ الخارق للعادة الذي يدَّعي به من جرى على يديه أن نبي من عند الله تعالى، ويتحداهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين، وأن المعجزة المادية تتحدَّى بنفسها مع ادِّعَاء الرسالة، فإن النار لا تنطفئ من تلقاء نفسها؛ إذ يلقى فيها إبراهيم ﵇ فتكون بردًا وسلامًا عليه فلا يحترق، وكالعصا التي تتحرك وتتلوَّى كأنها ثعبان مبين، وليست سحرًا كما أدرك الساحرون، وكانوا أول المؤمنين، وكإبراء عيسى للأكمه والأبرص بإذن الله، وكإحيائه الموتى بإذن الله، فما كان له أن يطلب منهم أن يأتوا بمثلها، والقصور بَيِّن والعجز واضح، ومع ذلك فالتحدي قائم، والعجز ثابت، والحجة قائمة، وكان عليهم أن يؤمنوا بالحق إذا جاءهم.
1 / 7
وهناك بجوار المعجزة المادية معجزة هي شيء قائم بذاته ثابت، ولكن الإعجاز فيه أمر لا يدرك بالحس، ولكن يدرك بالدراسة والفحص، وقد يدَّعي بعض من لا يسبر غوره، ويعرف أمره، أنه يستطيع أن يأتي بمثله، وما هو بمستطيع، وأنه في قدرته، وليس بقادر عليه، وهو من غرور النفس، أو ادِّعاء القدرة أو اللجاجة في الأفكار، والمباهتة المناهضة للحقائق.
وإن ذلك يكون في المعجزة التي تكون من نوع الكلام، وهي معجزة القرآن الكريم، فقد كان الغرور يوهم بعض المخاطبين به أن عندهم القدرة على الإتيان بمثله، فكان لا بُدَّ من كشف هذا الغرور، وإزالة تلك الغشية الباطلة، ليتبين وضح الحق، ولذلك طالهم الله تعالى بأن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة البقرة: ٢٣]، وتحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وقرَّر سبحانه أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثله، فقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] .
٢- وهنا يسأل سائل: لماذا كانت معجزة إبراهيم نارًا موقدة صارت بردًا وسلامًا، ومعجزة موسى ﵇ كانت عصا صارت حية تسعى، وغيرها أيده الله به إلى تسع آيات كلها كانت مادية حسية، وكذلك كانت معجزة عيسى ﵇ إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وإنزال مائدة من السماء، بل كانت ولادته ذاتها معجزة حسية؛ إذ ولد من غير أب، وتكلم في المهد صبيًّا، إذ قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٠-٣٣] .
لماذا كانت معجزات الأنبياء السابقة حسية على ذلك النحو، ومعجزة محمد ﷺ معنوية، فقد كانت بيانًا يتلى، وذكرًا حكيمًا، يحفظ فيه بيان الشراع المحكمة الخالدة.
قبل أن نخوض في الإجابة عن السؤال الوارد في موضعه، نقرر أن كون المعجزة مادية حسية تبهر الأعين بادئ الرأي لا يدل على علوِّ المنزلة، أو عكسها، ولكنها حكمة الله تعالى العليم بكل شيء، القادر على كل شيء، والله تعالى فضل بعض الرسل على بعض، فمنهم من كلَّم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ولكن ليست
1 / 8
الرفعة بكون الآيات مادية أو حسية، بل بأمور قدَّرها الحكيم العليم الذي له وحده حق نوع التفضيل والرفعة.
ونعود بعد ذلك إلى الإجابة عن السؤال الوارد، فنقول: إن العلماء قالوا: إن كل معجزة مناسبة للعصر الذي أرسل فيه كل نبي؛ إذ تكون هادية ومرشدة، وخرقها للعادات الجارية يكون أوضح، ومناسبتها لرسالة النبي المبعوث يكون دليلًا على كمال الرسالة وعموم شمولها لكلّ الأزمنة.
وقد نخالفهم في بعض ما ذكروا أو نوافقهم، فنرى أنَّ إبراهيم جاء في قوم كانوا على مقربة من عبدة النار، فكان في إطفاء الله تعالى للنار من غير سبب ظاهر بيان بعجز النار التي تعبد.
ونوافقهم في أنَّ معجزات موسى ﵇ كانت مناسبة لأهل مصر؛ لأن السحر والكهانة كانا فيهم، وقد كان للسحرة مكانة عندهم، وبقية المعجزات كانت متعلقة بالزرع وآفاته، وهم أهل زرع وضرع من أقدم العصور، كما قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ [الأعراف: ١٣٣-١٣٥] .
وهكذا كانت تسع آيات حسية مناسبة لأهل مصر، وبني إسرائيل، فكانوا يقولون: إنه سحر. واقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ [الإسراء: ١٠١-١٠٢] .
٣- هذه معجزات إبراهيم وموسى -عليهما الصلاة والسلام، وهي مناسبة لزمنهما، وكذلك معجزة عيسى ﵊ كانت مناسبة لعصره، لا لأن عصره شاع فيه علم الطب كما يقول بعض علماء الكلام؛ لأن علم الطب لم يكن رائجًا بين بني إسرائيل، فلم يكن بينهم علم أبقراط، كما قرر رينان في كتابه "حياة يسوع"، بل إن معجزاته كانت من ذلك النوع لسبب آخر يجب أن نتلمَّسه من غضون التاريخ، ومن حال بني إسرائيل، ذلك أن العصر كان عصرًا ماديًّا يؤمن بالمادة ولا يؤمن بالغيب، بل كان من اليهود من لا يؤمن باليوم الآخر، وإنك لترى أن التوراة التي بأيدينا، وهي ميراثهم من التوراة التي حرفت، تقرر أن نفس الإنسان هي دمه.
1 / 9
وكان بجوار هذه الروح المادية التي سادت بني إسرائيل استجابة لما هو سائد في عصرهم الروماني الذي كان يؤمن بالمادة، كان بجوار هذا إيمان بالأسباب العادية والمسببات، بحيث يعتقدون أنه لا يمكن أن ينفكَّ السبب عن مسببه، واللازم عن ملزومه، فلا توجد نتائج من غير سبب عادي، فهلَّا ولد من غير والد، ولا حياة تكون بعد موت من يموت، فلا يرتد حيًّا، وقد عجزت الأسباب عن أن يرتدَّ حيًّا من يموت، وعجزت الأسباب عن أن يرتدَّ بصيرًا من يولد أعمى.
لقد سادت الفلسفة الأيونبه، والفلسفة اليونانية التي تقرر لزوم الأسباب العادية، حتى لقد فرضوا أن الأشياء نشأت عن الخالق لها بقانون السببية، فقالوا: إن الكون نشأ عن المنشئ الأول نشوء المسبب عن سببه بلا إرادة مختارة منشئة. لقد قرروا أن قانون الأسباب هو الذي يحكم كل شيء.
لذلك كانت معجزات عيسى ﵇ متضمنة الرد والتنبيه في أمرين:
أولهما: بيان سلطان الروح، فقد ظهرت الروح مسيطرة موجهة مرشدة في أنه كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وفي أنه ﵇ أحيا الموتى بإذن الله، وأخرجهم من قبورهم بإذن الله، وأنزل عليه مائدة من السماء بإذن الله تعالى.
وثانيهما: أنه كانت معجزاته ﵇ هادمة لارتباط الأسباب العادية بمسبباتها، لقد ولد من غير أب، والأسباب العادية تقرر أنه لا مولود من غير والد، وتكلَّم في المهد صبيًّا، وذلك غير المقرر في الأسباب والمسببات، وأخبر عن بعض المغيب عنه، وذلك غير الأسباب العادية التي توجب المعاينة في صدق الأخبار، وأحيا الموتى بإذن الله، وذلك ما لا يتحقق في الأسباب العادية.
1 / 10
معجزة القرآن:
وكل معجزات الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم -سواء أكانت مادية في كونها، أم كانت متضمنة معاني روحية- كانت من النوع الذي يحسّ بالرؤية، ويكون من بعدها التأمل، وليس من النوع الذي يكون بالتأمل، ولا يدرك إلا بالتأمل، وإن كان قائمًا ثابتًا في الوجود من غير ريب، وكانت حوادث تقع، ولا تبقى، ولا يبقى منها إلا الإخبار بها، فلا يعرفها على اليقين إلا من عاينها.
٤- ولكن معجزة محمد ﷺ كانت من نوع آخر، لم تكن حادثة تقع، وتزول من غير بقاء لها إلا بالخبر، بل كانت قائمة تخاطب الأجيال، يراها ويقرؤها الناس في كل عصر، ونقول: إنها مناسبة لرسالة النبي محمد ﷺ، لعمومها في الأجيال، ولمكانته بين الرسل، ومقامه في هذا الوجود الإنساني إلى يوم القيامة.
إن معجزات الأنبياء السابقين لا يعلم وقوعها على وجه اليقين إلا من القرآن، فهو الذي سجل معجزات نوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام، ولولا أنه سجلها ما علمها الناس، وإذا كانت بعض الكتب القائمة اليوم ذكرت بعضها فقد ذكرته مشوبًا بأمور غير صادقة؛ كإخبارهم بأن لوطًا كان مخمورًا فوقع على ابنتيه، وما يكتب فيه مثل هذا عن بعض النبيين لا يمكن أن يكون مقبول الخبر عن سائرهم ومعجزاتهم.
ونقول: إن معجزة محمد ﷺ كانت القرآن، لقد أجرى الله تعالى على يديه خوارق وعادات أخرى، مثل: إخباره عن بعض ما يغيب عن حسه، ومثل حنين الجذع إليه، ومثل بكاء الناقة عنده، ومثل الإسراء والمعراج، ولكن لم يتحد إلّا بالقرآن الكريم، ولم ير المشركون صرحًا شامخًا يتحداهم به سوى القرآن الكريم.
ولمذا كانت معجزة محمد ﷺ القرآن، وما كان يرجو الاتباع إلا به، ولقد روي أنه ﷺ قال: "ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن به البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي به إليَّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوما لقيامة"، ومن هذا يتبين جواب ذلك السؤال، وهذا لأنه رسالة النبي ﷺ خالدة، لأنه ﷺ خاتم النبيين، ولا نبي بعده، فيجب أن تكون معجزته مناسبة لهذه الرسالة الخالدة الباقية التي لا يحدُّها زمان في المستقبل، بل تبقى إلى يوم القيامة، ولا تكون معجزته واقعة تنقضي وتنتهي بانتهاء الزمن الذي وُجدَت فيه، بل تبقى الحجة ما بقيت الشريعة، وذلك محقق في القرآن، فهو حجة قائمة على العرب والعجم إلى يوم الدين، وهو معجز لكل الخلائق، وذلك ما نتصدى لبعضه، والله هو المعين.
المعجزة الخالدة:
٥- تلك المعجزة الخالدة هي القرآن الذي يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله، ولو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، كما ذكر الله ﷾ في محكم التنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو حجة الله على خلقه، وحجة النبي ﷺ في رسالته، وسجل الشريعة المحكم في بيانه، وهو المرجع عند الاختلاف، والحكم العدل عند الافتراق، وهو الطريق المستقيم المرشد عن الأعوجاج، من سلكه وصل، ومن لجأ إليه اهتدى.
1 / 11
روى الترمذي بسنده عن علي بن أبي طالب ﵁ وكرَّم وجهه في الجنة- أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ستكون فِتَنٌ كقطع الليل المظلم"، قلت: يا رسول الله، وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله ﵎، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبا يهدي إلى الرشد، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور".
وقد رواه الحارث الهمذاني برواية الترمذي، وقد حسَّن رواية الحارث كثيرون من المحدثين، منهم الفقيه المحدث ابن عبد البر، وإن الذين اتهموا حارثًا فيهم نزعة أموية، ومنهم الشعبي، وقد قال فيه ابن عبد البر: "أظن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمذاني: حدثني الحارث وكان أحد الكاذبين".
وإنه في معنى هذا الحديث ما روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه؛ إذ جاء أنَّه فيما روي عنه "إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات".
وإن هذا الأخبار ومثلها كثير تدل على منزلة القرآن في الإسلام، وأنه العصمة من الزيغ، وأنه المرجع المتبع، وأن يشتمل على شرائع الإسلام كلها، وأنه بذلك هو الحكم بين الناس الذي لا يضل حكمه، وأن من تركه من جبار قصم الله تعالى ظهره، وأنه لا تشعب الآراء في حقيقته إذا استقامت الأفهام، ولم تضل المدارك.
والعلماء يجدون فيه المعين الذي لا ينضب، والثروة الإسلامية التي لا تنفد، فيه حكم الأمور كلها ما وقع ما لم يقع، وأن كل ما فيه حق، وأنه مصلحة الدنيا والأخرى، ما من خبر إلَّا له في القرآن أصل معتمد، ونص يمكن الحمل عليه، فما ترك الله الإنسان سدًى. وقد قال تعالى وقوله الحق: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] . وفيه عبر الماضيين وأخبار كل النبيين، فهو كتاب الله الكامل،
1 / 12
فيه معاني كل الكتب المنزَّلة على الرسل، وفيه أخبار أولئك الرسل مع أقوامهم، وفيه المثلات المرشدة، والعظات الموجهة، وفيه أعلى الآداب الإنسانية وأقوم السلوم الكامل للخلق أجمعين، وفيه تعليم الإنسان الاتجاه إلى الكون وتعرف ما فيه، والأخذ بالعلم من قوادمه وخوافيه، وفيه الدعوة إلى العلم بكل ضروبه؛ علم الإنسان، وعلم النفس، وعلم الكون، وإلى العلم بالنجوم في مسالكها، والسماوات وأفلاكها، والأرض في طبقاتها، فيه الدعوة إلى العلم بما لم يعلم، وطلبه فيكل مداراته.
خاطب الله تعالى به أولياءه فعرفوه، وأصحاب العقول المستقيمة فأدركوه، وكان حقًّا كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: ٣١] . ذلك هو كتاب الله تعالى بما حمل من معان وتكليف، وما كساه الله تعالى به من روعة وتشريف، وهو كما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣] .
1 / 13
القسم الأول: نزول القرآن
نزول القرآن
...
القسم الأول:
نزول القرآن:
٦- من وقت أن منَّ الله تعالى على الإنسانية بالبعث المحمدي ابتدأ نزول القرآن، فأول آية نزلت كانت الخطاب من الله تعالى بالتكليف الذي كلفه تعالى لنبيه ﷺ بحمل الرسالة إلى خلقه، فقد نزلت أول آية وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ١-٥]، فكان هذا إيذانًا بأن دين العلم قد وجب تبليغه، وأن كتاب العلم قد ثبت تنزيله، وأن إعلاء شان الفكر قد جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين، وفيه إيماء إلى أن الإسلام والعلم يجتمعان، ولا يتناقضان أبدًا.
توالي نزول القرآن منجَّمًا في مدة الرسالة المحمدية التي استمرَّت ثلاثًا وعشرين سنة يدعو فيها بالحق، وإلى صراط مستقيم، ينير السبيل، ويهدي للتي هي أقوم.
فكانت الآيات القرآنية تنزل وقتًا بعد آخر، وكان التحدي بما نزل وإن لم يكن ما نزل كل القرآن؛ لأن كل جزء منه ينطبق عليه اسم الكتاب، بل القرآن؛ إذ إنَّ التحدي يقع به، والمعجزة تتحقق فيه، فقد تحدى أهل مكة أن يأتوا بمثله، ولم يكن قد نزل كله، فقد قال تعالى في سورة يونس، وهي مكية: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: ١٦، ١٧]، وجاء التحدي في هذه السورة أيضًا فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٧، ٣٨]، وجاء في سورة هود وهي مكية: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا ِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [هود: ١٣] .
ومن هذا كله يتبين أن بعض القرآن قرآن يتحدى فيه، فهو الكتاب الكامل في كله، والكامل في جزئه، وهو معجز في أجزائه، كما هو معجز في ذاته، وإن شئت فقل إنه معجزات متضافرة، وإذا كان لموسى تسع آيات بينات فلمحمد مئات من المعجزات البينات.
1 / 17
حكمة نزوله منجَّمًا:
٧- وقد يسأل سائل: لماذا نزل القرآن منجمًا ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت الألواح العشر على موسى ﵇، وكما نزل الزبور على داوود؟ وإن مثل هذا السؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين، متخذين منه سبيلًا للجاجتهم، وقد نقل القرآن الكريم عنهم ذلك وردَّه، فقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢] .
ونرى أن الن الكريم قد نقل اعتراض المشركين، ورده ﷾ عليهم، وقد تضمَّن الرد ثلاثة أمور تومئ إلى السبب في نزوله منجمًا:
أولها: تثبيت فؤاد الرسول بموالاة الوحي بالقرآن، فإن موالاته فيها أنس للنبي ﷺ، وتثبيت لعزيمته، وتأيد مستمر له، فيقوم بحق الدعوة بالجهاد في سبيلها، وإذا الروح الأمين الذي يجيئه بكلام رب العالمين في موالاة مستمرة.
ثانيها: إن تثبيت الفؤاد بنزول القرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءًا جزءًا؛ ذلك أن هذا القرآن نزل ليحفظ في الأجيال كلها جيلًا بعد جيل، وما يحفظ في الصدور لا يعتريه التغيير ولا التبديل، وما يكتب في السطور قد يعتريه المحو والإثبات والتحريف والتصحيف؛ ولأنَّ الله تعالى كتب للقرآن أن يحفظ، كان يحفظ جزءًا جزءًا، وكان ينزل مجزءًا ليسهل ذلك الحفظ، وكان النبي ﷺ حريصًا على أن يحفظه عند نزوله، فكان يردد ما يتلوه عليه جبريل، ويتعجَّل حفظه، وقد قال الله ﷾ لنبيه في ذلك: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦-١٩]، ونرى من هذا النص حرص النبي ﷺ على أن يحفظ ما يوحَى إليه، فيحرِّك به لسانه مستعجلًا الحفظ، فينبهه الله تعالى إلى أنه يتولى جمعه وإقراءه له، وأنه مبينه وحافظه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] .
الأمر الثالث: هو ترتيل القرآن بتعليم تلاوته، وإنَّ هذا النص يستفاد منه أن تلاوة القرآن وطريقة ترتيله هما من تعليم الله تعالى؛ إذ إنه ﷾ ينسب الترتيل إليه تعالت قدرته وكلماته، وعظم بيانه. فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه، إنما نتبع ما علم الله تعالى نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل، وأمر به النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤]، وما كان تعليم هذا الترتيل المنزل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجمًا، فلما نزل جملة واحدة ما تمكَّن النبي ﷺ من تعلم الترتيل، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده.
هذا ما يستفاد من النص الكريم المتلوّ، وعبارته السامية فيه واضحة بينة تشرق بمعانيه العالية الهادية الموجهة المرشدة.
وهناك سبب آخر لنزول القرآن منجمًا نلمسه من حال العرب ومن شئونهم؛ ذلك أن العرب كانوا أمَّة أمية، والكتابة فيهم ليست رائجة، بل يندر فيهم من يعرفها، وأندر منه من يتقنها، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة؛ إذ يكون بسوره وآياته عسيرًا عليهم أن يكتبوه، وإن كتبوه لا يعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف.
ولقد كان من فائدة إنزال القرآن منجَّمًا أنه كان ينزل لمناسبات ولأحداث، فيكون في هذه الأحداث بعض البيان لأحكامه، والمبيِّن الأول هو النبي ﷺ كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] .
1 / 18
المكي والمدني:
٨- كان نزول القرآن منجمًا سببًا في أن بعضه نزل بمكة وبعضه نزل بالمدينة، فكان منه المكي ومنه المدني، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، فما نزل بعد الهجرة ولو بمكة يسمَّى مدنيًّا، وما نزل قبل الهجرة يسمَّى مكيًّا، فالتقييم زماني وليس بمكاني، ليست العبرة بمكان النزول، إنَّمَا العبرة فيه بزمانه.
والآيات المكية فيها بيان العقيدة الإسلامية، وبطلان عبادة الأوثان ومجادلة المشركين والدعوة إلى التوحيد، ومخاطبة العرب، وفيها قصص الأنبياء الذين جاءوا إلى بلاد العرب ولهم آثار في أجزائها تنادي بما صنع أقوامهم، وما أصابهم الله تعالى بكفرهم من حاصب، ومن خسف جعل عالي ديارهم سافلها، ومن ريح صرصر عاتية.
ولم يكن في الآيات المكية أحكام للمعاملات، وإن كان فيها إشارات إلى المحرمات كالخمر والربا، فقد قال تعالى مشيرًا إلى أن الخمر أمر غير حسن: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: ٦٧]، فإن هذا النص الكريم يشير إلى أن الخمر ليست أمرًا حسنًا؛ لأنه ﷾ جعلها مقابلة للأمر الحسن، ولا يقابل الحسن إلّا القبيح، أو على الأقل الأمر غير الحسن.
ولقد جاء أيضًا في سورة الروم ما يشير إلى أن الربا أمر غير مستحسن، فقد قال تعالى في سورة الروم: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩] .
وإن عدم وجود أحكام للمعاملات في مكة سببه أن الدولة التي كانت قائمة كانت دولة شرك، وأن من المستحيل أن تنفذ أحكام المعاملات الإسلامية في ظلها، وكان
1 / 19
الاتجاه الأول إلى إخراجها من الشرك وإدخالها في التوحيد أولًا، ثم من بعد ذلك تكون الدولة الإسلامية المنفذة، ولكن المحرمات كانت ثابتة في أول تشريع الإسلام، وإن كان مسكوتًا عنها، فلم تكن موضع إباحة، بل كانت موضع سكوت وعفو حتى ينزل التشريع بتحريمها تحريمًا قاطعًا، فما كانت الخمر مباحة، ولكن كان مسكوتًا عنها، أو كانت في مرتبة العفوِ كما يقول علماء الأصول، حتى إذا كان المنع الصريح في المدينة كان معه العقاب، وهكذا كل ما كان مسكوتًا عنه لم يكن موضع إباحة.
ولما انتقل النبي ﷺ إلى المدينة كان التنظيم الكامل للمعاملات؛ لأنه وجدت دولة إسلامية فاضلة، تنظِّم العلاقات بين الناس، وتقوم على تنفيذها، والقضاء بها، فنظم التعامل، وابتدأ بأعلى أنواع التعاون بين الناس وهو الإخاء الذي آخى فيه النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، والأنصار بعضهم مع بعض، والمهاجرين بعضهم مع بعض، وشرعت النظم الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية؛ من أحكام للبيوع والمزارعات، وتحريم للربويات وغيرها. وفرضية الصدقات وتنظيمها، وإعطاء الفقير حقه، والتنظيم الاجتماعي الكامل، وشرعت الزواجر الاجتماعية من حدود وقصاص، وسُنَّت الأحكام الفاصلة بين الحقوق، وفتح باب الجهاد، ووضعت نظم الحرب، وقامت العلاقات الدولية على أسس متينة محكمة، يراعى فيها حق العدو، كما يلاحظ حق الولي على سواء؛ لأن المبادئ المدنية في الإسلام قامت على إعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شطط، ولا مجاوزة للحد ولا اعتداء.
ويلاحظ أن مبادئ العدالة جاءت مع وجود الشريعة الإسلامية، وقد دعا إليها القرآن الكريم في مكة والمدينة؛ لأن العدالة حق ابتدائي لا يختلف في دولة عن دولة، فهو يتعلق بالنفس الإنسانية في ذاتها.
فالأمر بالعدالة والإحسان والوفاء بالعهد جاء في سورة النحل، وهي مكبة عند نظر الأكثرين؛ لأن الله تعالى يقول فيها وهو أحكم القائلين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٠-٩٢] .
ولقد أحصى القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن السور المدنية فقال: "عن قتادة نزل بالمدينة من القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لم تحرّم إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، هذه السور نزلت بالمدينة، وسائر القرآن نزل بمكة".
ويلاحظ أنَّه جعل سورة النحل من السور المدنية، ولكن المذكور في المصاحف التي بين أيدينا أنها مكية، ولعلَّ فيها روايتين.
1 / 20
كتابة القرآن وجمعه:
٩- منذ ابتداء نزول القرآن الكريم على الرسول الأمين، والنبي ﷺ يحفظه، ويأمر من حوله ممن يحسنون الكتابة أن يكتبوه، وقد سمي أولئك الذين كتبوا القرآن بكتاب الوحي، ومنهم: عبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وغيرهم كثير ممن كانوا يحضرون إلى النبي ﷺ قبل نزول الوحي بالقرآن عليه، فيملي عليهم ما نزل، ويعلمون ما حفظه في حف ظه الكثيرون من الصحابة، وخصوصًا من كانوا له ﵊ ملازمين، وعلى مقربة منه ﷺ.
وكان زوال القرآن على غير الترتيب الذي نقرؤه الآن في السور الكريمة، بل كان ذلك الترتيب من بعد النزول بعمل النبي ﷺ بوحي من الله تعالى، فكان يقول ﷺ: ضعوا آية كذا في موضع كذا من سورة كذا، فتكون بجوارها متسقة متلاحقة المعنى مترابطة، متناسقة اللفظ، تلتقي بها كأنها تقف معها، وكأنهما كلام واحد قبل في زمن واحد، أحدهما لاحق، والآخر سابق، وكأن المتكلم قالهما في نفس واحد، من غير زمن بينهما يتراخى، أو يتباعد، وذلك من سر الإعجاز، ولا غرابة في ذلك؛ لأن القائل واحد، وهو الله ﷾ العليم الخبير الذي لا تجري عليه الأزمان، ولا يحد قوله بالأوقات والأحيان؛ لأنه هو خالق الأزمان، والمحيط بكل شيء علمًا.
ولذلك كان ترتيب القرآن الكريم في كل سورة بتنزيل من الله تعالى.
وكان من الصحابة من يحفظه كله، فكان عبد الله بن مسعود يحفظه المكي، ويحفظ المدني، ولكن الرواة قالوا: إنه عرض على رسول الله ﷺ المكي فقط، وكذلك جمع أُبَيُّ المدنيّ، وقالوا: إنه عرض على النبي ﷺ ما جمعه بعد الهجرة، وأكبر العرض هو عرض زيد بن ثابت -رضي الله ﵎ عنه، فقد كان سنة وفاة النبي ﷺ، وقد كان بعد أن قرأ الرسول الأمين على روح القدس جبريل القرآن مرتَّبًا ذلك الترتيب الموحى به الذي نقرأ به القرآن الكريم.
وإنَّ النبي ﷺ لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلَّا وقد جمع القرآن في صدر طائفة من الصحابة، قيل: إن عددهم مائة أو يزيدون، ونحن نرى أنهم كانوا أكثر من ذلك عددًا، فإنه قتل من القرَّاء في إحدى مواقع الردة عدد يزيد على السبعين، وقيل: على سبعمائة، وربما كان الأول أدق، فإذا كان ذلك العدد مقتولًا فالباقي بحمد الله تعالى
1 / 21
أكثر، وإن كان قتل سبعين قد هال المؤمن الثاقب النظر عمر بن الخطاب ﵁ تعالى عنه وجزاه عن الإسلام خيرًا.
وإن كان بعض الكاتبين ذكر أنَّ الحافظ للقرآن من الصحابة أربعة هم: علي بن أبي طالب -كرَّم الله تعالى وجهه، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، فذلك ليس من قبيل الإحصاء ولا قبيل التعيين العادي، فإن العدد أكبر من ذلك.
والأمر الآخر الذي يجب التنبيه إليه هو أن القرآن كله كان مكتوبًا عند الصحابة، وإذا كان لم يكن كله مكتوبًا عند بعضهم، أو عند واحد منهم بعينه، فإن ذلك لم يكن منفيًّا عن جميعهم، فهو مكتوب كله عند جميعهم، وما ينقص من عند واحد يكمله ما عند الآخرين، وهكذا تضافروا جميعًا على نقله مكتوبًا، وإن تقاصر بعضهم عن كتابته كمل الأخر، وكان الكمال النقلي جماعيًّا وليس أحاديًّا.
وقد يسأل سائل: لماذا كان الجامعون له في الصدور كثيرين، وقد حفظوه كاملًا غير منقوص، ولم يوجد من جمعه في السطور جمعًا كاملًا؟
ونجيب عن ذلك بجوابين:
أحدهما: من واقع حياة العرب، فقد كانوا أميين، والمجيد منهم للكتابة قليل، وأدوات الكتابة غير متوافرة، وما يكتب عليه غير معد لها، فكانوا يكتبون على الأديم، وعلى لخاف الأشجار، وعلى العسب، وغير ذلك مما لا يعد للكتابة، فكان الغريب أن تكون كتابة، فضلًا عن أن تكون كتابة كاملة للقرآن عند الواحد من الصحابة، وكتابته كاملة عند الجميع كانت بتوفيق الله تعالى ومن عنايته بكتابه الكريم.
والجواب الثاني: إن ذلك من عمل الله تعالى؛ لأنَّ الله تعالى العليم الحكيم جعل حفظ القرآن الكريم في الصدور ابتداءً وانتهاءً، وفي السطور احتياطًا، ولا تحريف، وإنَّ تواتر القرآن الكريم عن رسول الله ﷺ يكون كما تلقاه عن ربه العليم الحكيم، والتواتر يكون بالتلقي في الصدور لا في السطور، ولا يكون تواترًا في مكتوب إلَّا إذا قرئ المكتوب على من أخذ عنه وأجازه، فالمكتوب يحتاج في نقله إلى الإجازة القولية، والإجازة القولية لا تحتاج إلى كتابة إلَّا بمقدار تسجيل الإجازة.
ترك محمد رسول الله ﷺ الدنيا والأمة على بينة من أمر القرآن، قد استحفظوه وحفظوه وكتبوه، وحمله رسول الحقيقة أمانة الخليقة، وهو القرآن الحكم في هذا الوجود الإنساني، فماذا كان من بعده.
1 / 22
جمع القرآن الكريم بعد الرسول -ﷺ:
١٠- انتقل النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وقد حفظ عدد كبير من الصحابة يبلغ حدَّ التواتر القرآن كله كاملًا غير منقوص، لم يتركوا منه كلمة إلا حفظوها، وعلموا أين نزلت، ومتى نزلت، وعلموا معناها من صاحب الرسالة -ﷺ، حتى إنَّه ليروى عن عثمان بن عفان أنَّه كان يقول: كنا إذا حفظنا عشر آيات من القرآن سألنا الرسول ﷺ عن معناها فيبينها لنا.
ترك الرسول ﷺ لصاحبته القرآن، وهو أعظم ثروة إنسانية مثرية في هذا الوجود، وقد أدركوا حق الأمانة وأنهم حاملوها إلى الأخلاف من بعدهم كاملة كما تسلَّموها، فكان حرصهم عليها أشدَّ من حرصهم على أنفسهم؛ لأنهم فانون وهي الباقية، وهي تراث النبوة، وسجل الرسالات الإلهية، لذلك كانوا يحافظون عليها وعلى الذين حملوها في صدورهم.
ولقد هال عمر بن الخطاب أنه قد استحر القتال بين المؤمنين الأولين -وكثير منهم من حفظة القرآن الكريم، وبين أهل الردة في موقعة اليمامة، وقتل منهم فيما قيل: سبعمائة -كما جاء في الجامع الكبير للقرطبي، فأشار عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- على أبي بكر يجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء كأُبَيّ وابن مسعود وزيد، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه بعد تعب شديد.
روى البخاري عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إليَّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحر يوم القيامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها، فيذهب كثير من القرآن إلَّا أن تجمعوه، وإني لأرى أن يجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلّم، فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ، فتتبَّع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟! فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر".
اختار أبو بكر كما ترى في رواية البخاري ورواية غيره من أصحاب الصحاح زيدًا ليقوم مع من يستعين به من حفظة القرآن، وكان اختياره لزيد لأسباب جمَّة:
أولها: ما اشتُهِرَ به بين الصحابة من العلم والفقه.
1 / 23
وثانيها: لأنَّه من كتبة الوحي الملازمين، لا الذين كتبوا مرة أو مرتين وأخذوا لقب كاتب الوحي شرفًا.
وثالثها: إنه ممن حفظوا القرآن وجمعوه في صدورهم، فكان حقيقًا أن يجمعه مسطورًا بعد أن جمعه محفوظًا.
ورابعها: إنه عرض القرآن على النبي ﷺ في السنة التي انتقل فيها النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى كما قدمنا.
١١- حمل زيد ما هو أشد حملًا من الجبال؛ لأنه يحمل أثقل موازين الهداية في هذا الوجوه الإنساني، وهو وديعة الله تعالى إلى الوجود الإنساني إلى أن تزول السماوات والأرض.
وما كان لمن يحمل مثل هذا الحمل أن ينفرد بالعبء، فقد استعان بالحفظة الكرام من صحابة النبي ﷺ الأعلام، وسلك في سبيل الجمع الخطة المثلى، فما كان ليعتمد على حفظه، وإنه لحافظ، ولا على حفظ من استعان بهم، وإنهم لحفاظ أمناء، ولكنه كان لا بُدَّ أن يعتمد على أمر مادي يُرَى بالحسِّ لا يحفظ بالقلب وحده، فكان لا بُدَّ أن يرى ما حفظه مكتوبًا في عصر النبي ﷺ، وأن يشهد شاهدان بأنهما هكذا رأوا ذلك المكتوب في عصر النبي ﷺ، وبإملائه ﷺ، وقد تتبع القرآن بذلك آية آية، لا يكتب إلَّا ما رآه مكتوبًا عن النبي ﷺ في عهده، ويشهد شاهدان أنهما هكذا رأيا ذلك المكتوب في عهد النبي ﷺ ونقلاه، أو يرى ذلك المكتوب عند اثنين، فهو شهادة كاملة منهما، وقد حصل على القرآن كله مكتوبًا بنصاب الشهادة في عصر النبي ﷺ، فما كان إلَّا أن نقل المكتوب في عصر النبي ﷺ، ولكنه وجد آيتين لم يشهد اثنان بأنهما كتبتا في عصر النبي ﷺ، بل شهد واحد فقط، وهو خزيمة بن ثابت الأنصاري، وهو قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: ١٢٨، ١٢٩]، لم يجدهما إلا عند خزيمة، وقد قال له النبي ﷺ تكريمًا له: "شهادتك باثنين".
وروي أنه لم يجد آية أخرى إلَّا عند خريمة، وهي قوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: ٢٣] .
هذا هو المسلك الذي سلكه المؤمن الحافظ الذي اختاره أبو بكر لحمل التبعة مع من اختاره، ولنترك الكلمة له -أي: لزيد- فهو يشير إلى ما سلكه، فهو يقول فيما رواه البخاري: "قمت فتتبَّعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال،
1 / 24
حتى وجدت آيتين من سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع غيره ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] .
والآية الأخرى التي لم يجدها إلا عند خزيمة أيضًا جاء فيها عنه في رواية البخاري أيضًا: وعن زيد بن ثابت لمَّا نسخنا في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلَّا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل الله تعالى شهادته بشهادة رجلين: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٢٣]، وقد علَّق على ذلك القرطبي: فكانت الأولى من سورة براءة في الجمع الأول على ما قاله البخاري والترمذي، وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب.
وهذا يدل على أنَّ الجمع الثاني اتبع فيه ما اتبع في الجمع الأول بالبحث عن الآيات مكتوبة في عصر النبي ﷺ، وأن يشهد اثنان بكتابتها في عصره، أو توجد عند اثنين، فوجودها عندهما شهادتان، والجمع الثاني كان في عهد عثمان.
ولكن قد يسأل سائل: لماذا كان نصاب الشهادة كاملًا في الجمع الذي حدث في عهد أبي بكر، ثم لم يوجد النصاب في بعض الآي عند الجمع الثاني؟
نقول: إن فرض ذلك يتحقق بغياب أحد ركني النصاب عن المدينة أو موته، ولكن الله تعالى حافظ كتابه في هذا الوجود كوعده بحفظه وأنه منجز ما وعد: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، ولذلك كان الشاهد في الثاني هو الشاهد في الأول، وهو خزيمة الأنصاري الذي جعل النبي ﷺ شهادته باثنين، فالنصاب كان كاملًا.
١٢- ولا نترك الكلام في هذا العمل الجليل الذي اشترك فيه أبو بكر وعمر، وحمل عنه زيد بن ثابت مع جمع من المهاجرين والأنصار، من غير أن نقرر حقيقتين ثابتتين تدلان على إجماع الأمة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغير والتبديل، وأنه مصون بصيانة الله ﷾ له، ومحفوظ بحفظه، وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته.
الحقيقة الأولى: إن عمل زيد ﵁ لم يكن كتابة مبتدأة، ولكن إعادة لمكتوب، فقد كتب كله في عصر النبي ﷺ، وعمل زيد الابتدائي هو البحث عن الرقاع والعظام التي كان قد كتب عليها والتأكد من سلامتها، بأمرين: بشهادة اثنين على الرقعة التي توجد فيها الآية أو الآيتان أو الآيات، ويحفظ زيد نفسه وبالحافظين من الصحابة، وقد كانوا الجم الغفير والعدد الكبير، فما كان لأحد أن يقول: إن زيدًا كتب من غير أصل مادي قائم، إنه أخذ من أصل قائم ثابت مادي.
1 / 25