The Fundamentals of Faith in Light of the Quran and Sunnah
أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة
Yayıncı
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢١هـ
Yayın Yeri
المملكة العربية السعودية
Türler
[مقدمة معالي الوزير الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ]
كتاب
أصول الإيمان
في ضوء الكتاب والسنة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة بقلم معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد المشرف العام على المجمع الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، القائل: «بلغوا عني ولو آية» [البخاري: ٣٤٦١] .
أما بعد: فإنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله- في إيصال الخير إلى عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بدءًا بالعناية بكتاب الله، والعمل على تيسير نشره، وترجمة معانيه، وتوزيعه بين المسلمين، والراغبين في دراسته من غيرهم، ثم نشر ما ينفع المسلمين في جميع شؤون حياتهم الدينية والدنيوية.
وإيمانًا من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية، بأهمية الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة فإنه يسرها أن تقدم كتاب:
«أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة»
1 / 1
وذلك لتبصير المسلمين في أمور العقيدة التي هي أساس الإيمان، لقوله صلى الله ﷺ: «إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» [البخاري: ٥٢]، وستتبعه إن شاء الله تعالى سلسلة من الكتب في الحديث، والفقه، والذكر والدعاء، والتي نرجو من الله العلي القدير أن ينفع بها عموم المسلمين.
وبهذه المناسبة يسرني أن أشكر الإخوة الذين قاموا بإعداد الكتاب (تأليفًا، ومراجعة، وصياغة) جهدهم المخلص، وللأمانة العامة للمجمع حسن اهتمامها ومتابعتها، وأدعو الله تعالى أن يحفظ هذه البلاد راعية للدين، وحامية للعقيدة الصحيحة في ظل قيادة خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، وسمو النائب الثاني، حفظهم الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 2
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدِّمة الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة، وجعل أمَّتنا -أمَّة الإسلام- خيرَ أمَّة، وبعث فينا رسولًا منَّا يتلو علينا آياته ويزكينا، ويعلِّمنا الكتاب والحكمة، والصلاة والسلام على مَن أرسله الله للعالمين رحمة، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإنَّ الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] (الذاريات: ٥٦) . ولذا كان التوحيد والعقيدة الصحيحة المأخوذةُ من منبعها الأصلي وموردها المبارك كتاب الله وسنة رسوله ﷺ هي الغاية لتحقيق تلك العبادة، فهي الأساس لعمارة هذا الكون، وبفقدها يكون فساده وخرابه واختلاله، كما قال الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٢] (الأنبياء: ٢٢)، وقال سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢] (الطلاق: ١٢)، إلى غير ذلك من الآيات.
ولما كان غير ممكن للعقول أن تستقلَّ بمعرفة تفاصيل ذلك بعث الله
1 / 3
رسلَه وأنزل كتبَه؛ لإيضاحه وبيانه وتفصيله للناس حتى يقوموا بعبادة الله على علم وبصيرة وأسسٍ واضحةٍ ودعائم قويمةٍ، فتتابع رسلُ الله على تبليغه، وتوالوا في بيانه، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] (فاطر: ٢٤)، وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ [المؤمنون: ٤٤] (المؤمنون: ٤٤)، أي يتبع بعضُهم بعضًا إلى أن ختمهم بسيِّدهم وأفضلهم وإمامهم نبيِّنا محمد ﷺ، فبَلّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده ودعا إلى الله سرًّا وجهرًا، وقام بأعباء الرسالة أكملَ قيام، وأوذيَ في الله أشدَّ الأذى، فصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولم يزل داعيًا إلى الله هاديًا إلى صراطه المستقيم حتى أظهر الله به الدِّين، وأتم به النِّعمة، ودخل الناس بسبب دعوته في دين الله أفواجًا، ولم يَمُت ﷺ حتى أكمل الله به الدِّين وأتمَّ به النِّعمة، وأنزل في ذلك سبحانه قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] (المائدة: ٣) .
فبيَّن صلوات الله وسلامه عليه الدين كلَّه أصوله وفروعه، كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس ﵀: " مُحال أن يُظنَّ بالنبي ﷺ أنه علَّم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ".
وقد كان ﷺ داعيةً إلى توحيد الله وإخلاص الدِّين لله ونبذ الشرك كلِّه كبيرِه وصغيره شأن جميع المرسلين؛ إذ أنَّ الرسلَ كلَّهم متَّفقون على ذلك، متضافرون على الدعوة إليه، بل هو منطلقُ دعوتهم وزبدة رسالتهم وأساس بعثتهم، يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: ٣٦] (النحل: ٣٦)، وقال:
1 / 4
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥] (الأنبياء: ٢٥)، وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] (الزخرف: ٤٥)، وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣] (الشورى: ١٣) .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ عن رسول الله ﷺ أَنه قال: «الأنبياء إخوة لعلَّات، أمَّهاتُهم شتَّى ودينُهم واحد» (١) فالدِّين واحدٌ، والعقيدة واحدةٌ، وإنَّما حصل التنوُّعُ بينهم في الشرائع، كما قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨] (المائدة: ٤٨) .
ولذا ينبغي أن يكون متقرِّرا لدى كلِّ مسلم وواضحا لدى كلِّ مؤمن أنَّ العقيدة لا مجال فيها للرأي والأخذ والعطاء، وإنَّما الواجب على كلِّ مسلم في مشارق الأرض ومغاربها أن يعتقد عقيدة الأنبياء والمرسلين، وأن يؤمن بالأصول التي آمنوا بها ودعوا إليها دون تشكُّكٍ أو تردُّدٍ، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] (البقرة: ٢٨٥) .
فهذا شأنُ المؤمنين، وهذا سبيلهم: الإيمان والتسليم والإذعان والقبول، وعندما يكون المؤمن كذلك ترافقه السلامة، ويتحقق له الأمن والأمان، وتزكو نفسُه، ويطمئنُّ قلبُه، ويكون بعيدًا تمام البعد عمَّا يقع فيه ضلَّال الناس
_________
(١) صحيح البخاري (٣٤٤٣)، وصحيح مسلم (٢٣٦٥) .
1 / 5
بسبب عقائدهم الباطلة من تناقض واضطراب وشكوك وأوهام وحَيرة وتذبذب.
والعقيدة الإسلامية الصحيحة بأصولها الثابتة وأسسها السليمة وقواعدها المتينة هي - دون غيرها - التي تحقِّق للناس سعادتهم ورفعتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة؛ لوضوح معالمها، وصحَّة دلائلها، وسلامة براهينها وحججها، ولموافقتها للفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، والقلوب السويَّة.
ولهذا فإنّ العالَمَ الإسلامي كلّه في أشدِّ الحاجة إلى معرفة هذه العقيدة الصافية النقيَّة؛ إذ هي قطبُ سعادته الذي عليه تدور، ومستقر نجاته الذي عنه لا تحور.
وفي هذا المؤلّف الوجيز يجد المسلم أصولَ العقيدة الإسلامية وأهمَّ أسسها وأبرزَ أصولها ومعالمها ممَّا لا غنى لمسلم عنه، ويجد ذلك كله مقرونا بدليله، مدعَّمًا بشواهده، فهو كتاب مشتمل على أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة، وهي أصول عظيمة موروثة عن الرسل، ظاهرة غاية الظهور، يمكن لكل مميِّز من صغير وكبير أن يُدركها بأقصر زمان وأوجز مدَّة، والتوفيق بيد الله وحده. وبهذه المناسبة نتقدم بالشكر الجزيل للذين ساهموا في إعداد هذا الكتاب وهم: الدكتور صالح بن سعد السحيمي، والدكتور عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد، والدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي. كما نشكر اللذين قاما بمراجعته وصياغته وهما: الدكتور علي بن محمد ناصر فقيهي، والدكتور أحمد بن عطية الغامدي.
وإنَّا لنرجوه سبحانه أن ينفع به عمومَ المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأمانة العامة
لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
1 / 6
[تمهيد]
تمهيد لا يخفى على كل مسلم أهمية الإيمان، وعظم شأنه، وكثرة عوائده وفوائده على المؤمن في الدنيا والآخرة، بل إن كل خير في الدنيا والآخرة متوقف على تحقق الإيمان الصحيح، فهو أجل المطالب، وأهم المقاصد، وأنبل الأهداف، وبه يحيا العبد حياة طيبة سعيدة، وينجو من المكاره والشرور والشدائد، وينال ثواب الآخرة ونعيمها المقيم وخيرها الدائم المستمر الذي لا يحول ولا يزول.
قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] (النحل: ٩٧) . وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء: ١٩] (الإسراء: ١٩) .
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا﴾ [طه: ٧٥] (طه: ٧٥) . وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا - خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف: ١٠٧ - ١٠٨] (الكهف: ١٠٧، ١٠٨) . والآيات في هذا المعنى في القرآن الكريم كثيرة.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الإيمان يقوم على الأصول الستة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقد جاء ذكر هذه الأصول في القرآن الكريم والسنة النبوية في مواطن عديدة. منها:
١ - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ١٣٦] (النساء: ١٣٦) .
1 / 7
٢ - وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: ١٧٧] (البقرة: ١٧٧) .
٣ - وقوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] (البقرة: ٢٨٥) .
٤ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] (القمر: ٤٩) .
٥ - وثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب المشهور بحديث جبريل «أن جبريل سأل النبي ﷺ فقال: أخبرني عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (١) .
فهذه أصول ستة عظيمة يقوم عليها الإيمان، بل لا إيمان لأحد إلا بالإيمان بها، وهي أصول مترابطة متلازمة، لا ينفك بعضها عن بعض، فالإيمان ببعضها مستلزم للإيمان بباقيها، والكفر ببعضها كفر بباقيها.
ولذا كان متأكدا في حق كل مسلم أن تعظم عنايته واهتمامه بهذه الأصول علما وتعلما وتحقيقا.
وفيما يلي بيان ما يتعلق بالأصل الأول من هذه الأصول وهو الإيمان بالله.
_________
(١) صحيح مسلم برقم (١) .
1 / 8
[الباب الأول الإيمان بالله]
الباب الأول: الإيمان بالله إن الإيمان بالله ﷿ هو أهم أصول الإيمان، وأعظمها شأنا، وأعلاها قدرا، بل هو أصل أصول الإيمان، وأساس بنائه، وقوام أمره، وبقية الأصول متفرعة منه، راجعة إليه، مبنية عليه. والإيمان بالله ﷿ هو الإيمان بوحدانيته سبحانه في ربوبية، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فهذه أصول ثلاثة يقوم عليها الإيمان بالله، بل إن الدين الإسلامي الحنيف إنما سمي توحيدا لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وواحد في ذاته وأسمائه وصفاته لا نظير له، وواحد في ألوهيته وعبادته لا ندَّ له.
وبهذا يعلم أن توحيد الأنبياء والمرسلين ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو الإقرار بأنَّ الله تعالى رب كلّ شيء ومليكُه وخالقُه ورازقُه، وأَنه المحيي المميتُ النافعُ الضار، المتفرِّدُ بالإجابة عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله، وإليه يُرجع الأمرُ كله، لا شريك له في ذلك.
القسم الثاني: توحيد الألوهية، وهو إفراد الله وحده بالذلِّ والخضوع والمحبَّة والخشوع والركوع والسجود والذبح والنذر، وسائر أنواع العبادة لا شريك له.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى. بما سمى ووصف نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ وتنزيهه عن النقائص والعيوب ومماثلة الخلق فيما هو من خصائصه والإقرار بأنَّ الله بكلِّ شيء عليم، وعلى كلِّ شيء قدير، وأنَّه الحيُّ القيُّوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم، له المشيئة النافذة والحكمة البالغة، وأنَّه سميع بصير، رؤوف رحيم، على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وأنَّه المَلِك القدوس السلام المؤمن
1 / 9
المهيمن العزيز الجبَّار المتكبِّر، سبحان الله عمَّا يشركون، إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى.
ولكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة دلائلُ كثيرة من الكتاب والسنة.
فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.
وهذه الأقسام الثلاثة للتوحيد قد أخذها أهل العلم بالاستقراء والتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وهو استقراء تامٌّ لنصوص الشرع، أفاد هذه الحقيقة الشرعية، وهي أنّ التوحيد المطلوب من العباد هو الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، فمَن لم يأت بهذا جميعه فليس بمؤمن، وفيما يلي فصول ثلاثة في كل فصل منها بيان لقسم من هذه الأقسام:
1 / 10
[الفصل الأول توحيد الربوبية]
[المبحث الأول معناه وأدلته من الكتاب والسنة]
الفصل الأول: توحيد الربوبية المبحث الأول: معناه وأدلته من الكتاب والسنة والعقل والفطرة أولا: تعريفه: أ- لغة: الربوبية مصدر من الفعل ربب، ومنه الربُّ، فالربوبية صفة الله، وهي مأخوذة من اسم الرب، والرب في كلام العرب يطلق على معان: منها المالك، والسيد المطاع، والمُصْلِح.
ب- أما في الاصطلاح: فإن توحيد الربوبية هو إفراد الله بأفعاله.
ومنها الخلق والرزق والسيادة والإنعام والملك والتصوير، والعطاء والمنع، والنفع والضر، والإحياء والإماتة، والتدبير المحكم، والقضاء والقدر، وغير ذلك من أفعاله التي لا شريك له فيها، ولهذا فإن الواجب على العبد أن يؤمن بذلك كله.
ثانيا: أدلته: أ- من الكتاب: قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان: ١٠ - ١١] (لقمان: ١٠، ١١) . وقوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: ٣٥] (الطور: ٣٥)
ب- من السنة: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن الشخير ﵁ مرفوعا وفيه: (السيد الله ﵎. .) . وقد ثبت في
1 / 11
الترمذي وغيره أن النبي ﷺ قال في وصيته لابن عباس ﵄:. . «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (١) .
ج- دلالة العقل: دل العقل على وجود الله تعالى وانفراده بالربوبية وكمال قدرته على الخلق وسيطرته عليهم، وذلك عن طريق النظر والتفكر في آيات الله الدالة عليه. وللنظر في آيات الله والاستدلال بها على ربوبيته طرق كثيرة بحسب تنوع الآيات وأشهرها طريقان:
الطريق الأول: النظر في آيات الله في خلق النفس البشرية وهو ما يعرف بـ (دلالة الأنفس)، فالنفس آية من آيات الله العظيمة الدالة على تفرد الله وحده بالربوبية لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] (الذاريات: ٢١)، وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٧] (الشمس: ٧)، ولهذا لو أن الإنسان أمعن النظر في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله لأرشده ذلك إلى أن له ربا خالقا حكيما خبيرا؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يخلق النطفة التي كان منها؟ أو أن يحولها إلى علقة، أو يحول العلقة إلى مضغة، أو يحول المضغة عظاما، أو يكسو العظام لحما؟
الطريق الثاني: النظر في آيات الله في خلق الكون وهو ما يعرف بـ (دلالة الآفاق)، وهذه كذلك آية من آيات الله العظيمة الدالة على ربوبيته، قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] (فصلت: ٥٣) .
_________
(١) سنن الترمذي (٢٥١٦)، ومسند أحمد (١ / ٣٠٧)، وقد حسن الحديث الترمذي وصححه، وصححه الحاكم.
1 / 12
ومن تأمل الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم وكواكب وشمس وقمر، وما اشتملت عليه الأرض من جبال وأشجار وبحار وأنهار، وما يكتنف ذلك من ليل ونهار وتسيير هذا الكون كله بهذا النظام الدقيق؛ دله ذلك على أن هناك خالقا لهذا الكون، موجدًا له مدبِّرًا لشؤونه، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع الكائنات علم أنها خُلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات، وكتب براهين ودلالات على جميع ما أخبر به الله عن نفسه وأدلة على وحدانيته.
وقد جاء في بعض الآثار أن قوما أرادوا البحث مع الإمام أبي حنيفة في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم ﵀: " أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام وغيره بنفسها وتعود بنفسها، فترسو بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟ ".
فقالوا: " هذا محال لا يمكن أبدا. فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ ".
فنبه إلى أن اتساق العالم ودقة صنعه وتمام خلقه دليل على وحدانية خالقه وتفرده.
1 / 13
[المبحث الثاني بيان أن الإقرار بهذا التوحيد وحده لا ينجي من العذاب]
المبحث الثاني:
بيان أن الإقرار بهذا التوحيد وحده لا ينجي من العذاب إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة كما تقدم؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل ﵈، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: ١٠٦] (يوسف: ١٠٦)، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله ربا وخالقا ورازقا ومدبرا- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس ﵄: " من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله وهم مشركون ".
وقال عِكْرِمَة: " تسألهم من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره ".
وقال مجاهد: " إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره ".
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: " ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو
1 / 15
يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٧٥ - ٧٧] (الشعراء: ٧٥- ٧٧) " (١) .
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي ﷺ مقرين بالله ربا خالقا رازقا مدبرا، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء يدعونهم ويستغيثون بهم وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦١] (العنكبوت: ٦١)، وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٣] (العنكبوت: ٦٣)، وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ [الزخرف: ٨٧] (الزخرف: ٨٧)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ - قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ - قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٤ - ٨٩] (المؤمنون: ٨٤- ٨٩) .
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (٧ / ٣١٢- ٣١٣) .
1 / 16
العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا استقلالا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا تسمع ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣] (الزمر: ٣)، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون وتوعدهم بالنار والخلود فيها واستباح رسوله ﷺ دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال.
1 / 17
[المبحث الثالث مظاهر الانحراف في توحيد الربوبية]
المبحث الثالث: مظاهر الانحراف في توحيد الربوبية بالرغم من أن توحيد الربوبية أمر مركوز في الفطر، مجبولة عليه النفوس، متكاثرة على تقريره الأدلة، إلا أنه وجد في الناس من حصل عنده انحراف فيه، ويمكن تلخيص مظاهر الانحراف في هذا الباب فيما يلي:
١ - جحد ربوبية الله أصلًا وإنكار وجوده سبحانه، كما يعتقد ذلك الملاحدة الذين يسندون إيجاد هذه المخلوقات إلى الطبيعة، أو إلى تقلب الليل والنهار، أو نحو ذلك ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] (الجاثية: ٢٤) .
٢ - جحد بعض خصائص الرب سبحانه وإنكار بعض معاني ربوبيته، كمن ينفي قدرة الله على إماتته أو إحيائه بعد موته، أو جلب النفع له أو دفع الضر عنه، أو نحو ذلك.
٣ - إعطاء شيء من خصائص الربوبية لغير الله سبحانه، فمن اعتقد وجود متصرف مع الله ﷿ في أي شيء من تدبير الكون من إيجاد أو إعدام أو إحياء أو إماتة أو جلب خير أو دفع شر أو غير ذلك من معاني الربوبية فهو مشرك بالله العظيم.
1 / 19
[الفصل الثاني توحيد الألوهية]
الفصل الثاني: توحيد الألوهية الألوهية مشتقة من اسم الإله، أي المعبود المطاع، فالإله اسم من أسماء الله الحسنى، والألوهية صفة من صفات الله العظيمة، فهو سبحانه المألوه المعبود الذي يجب أن تألهه القلوب وتخضع له وتذل وتنقاد؛ لأنه سبحانه الرب العظيم، الخالق لهذا الكون، المدبر لشؤونه، الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، ولهذا فإن الذل والخضوع لا ينبغي إلا له، فحيث كان متفردا بالخلق والإنشاء والإعادة لا يشركه في ذلك أحد وجب أن ينفرد وحده بالعبادة دون سواه لا يشرك معه في عبادته أحد.
فتوحيد الألوهية هو إفراد الله وحده بالعبادة، وذلك بأن يعلم العبدُ علمَ اليقِين أن الله وحده هو المألوه المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة في أحد من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله تعالى، فإذا علم العبد ذلك واعترف به حقا أفرد الله بالعبادة كلها الظاهرة والباطنة، فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبرِّ الوالدين وصلة الأرحام، ويقوم بأصوله الباطنة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لا يقصد بشيء من ذلك غرضا من الأغراض غير رضا ربه وطلب ثوابه.
وفي هذا الفصل سيتم تناول جملةٍ من المباحث المهمة المتعلقة بهذا النوع من التوحيد.
1 / 21
[المبحث الأول أدلته وبيان أهميته]
[المطلب الأول أدلّتُه]
المبحث الأول أدلته، وبيان أهميته المطلب الأول: أدلّتُه. لقد تضافرت النصوص وتظاهرت الأدلة على وجوب إفراد الله بالألوهية، وتنوعت في دلالتها على ذلك:
١ - تارة بالأمر به، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١] (البقرة: ٢١)، وقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦] (النساء: ٣٦)، وقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] (الإسراء: ٢٣)، ونحوها من الآيات.
٢ - وتارة ببيان أنه الأساس لوجود الخليقة والمقصود من إيجاد الثقلين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] (الذاريات: ٥٦) .
٣ - وتارة ببيان أنه المقصود من بعثة الرسل كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] (النحل: ٣٦)، وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥] (الأنبياء: ٢٥) .
٤ - وتارة ببيان أنه المقصود من إنزال الكتب الإلهية، كما في قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ [النحل: ٢] (النحل: ٢) .
٥ - وتارة ببيان عظيم ثواب أهله وما أعد لهم من أجور عظيمة ونعم كريمة في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢] (الأنعام: ٨٢) .
1 / 23
٦ - وتارة بالتحذير من ضده، وبيان خطورة مناقضته، وذكر ما أعد سبحانه من عقاب أليم لمن تركه، كقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: ٧٢] (المائدة: ٧٢)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ [الإسراء: ٣٩] (الإسراء: ٣٩) .
إلى غير ذلك من أنواع الأدلة المشتملة على تقرير التوحيد والدعوة إليه والتنويه بفضله وبيان ثواب أهله وعظم خطورة مخالفته.
والسنة النبوية كذلك مليئة بالأدلة على هذا التوحيد وأهميته، من ذلك:
١ - ما رواه البخاري في صحيحه عن معاذ بن جبل ﵁ قال: قال النبي ﷺ: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم» (١) .
٢ - وعن ابن عباس ﵁ قال: لما بعث النبي ﷺ معاذا نحو اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات» . . . . الحديث، رواه البخاري (٢) .
٣ - وعن ابن مسعود ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «من
_________
(١) صحيح البخاري (٧٣٧٣) .
(٢) صحيح البخاري (٧٣٧٢) .
1 / 24