The Fundamental in Sunnah and Islamic Jurisprudence - Islamic Beliefs
الأساس في السنة وفقهها - العقائد الإسلامية
Yayıncı
دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
Türler
سعيد حوى
الأساس في السنة
وفقهها
المجلد الأول
القسم الثاني
العقائد الإسلامية
دار السلام
للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
1 / 1
الأساس في السنة
وفقهها
العقائد الإسلامية
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلاَةُ وَالسّلامُ عَلَىَ رَسُولِ اللهِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
راجع هذا القسم ودققه
فضيلة الشيخ
عبد الحميد الأحدب
حفظه الله
1 / 4
مقدمة
كان القسم الأول من هذا الكتاب في السيرة وقد حاولنا في ذلك القسم أن نعطي تصورًا عن السيرة النبوية، وعما هو ألصق بها، واعتبرنا ذلك هو المدخل لبقية أقسام هذا الكتاب، وجعلنا الأقسام اللاحقة في: العقائد، والعبادات، والحياتيات، وتحرير الرقيق، والحكم.
فالقسم الثاني إذن في العقائد، هي أهم مضمونات الرسالة النبوية.
لقد بعث الله محمدًا ﷺ بالتوحيد، والقيام بحقوق الربوبية، وبمسؤولية الإنسان أمام الله ﷿.
فالإله واحد؛ وعلى الإنسان أن يقوم بواجب التعبد له، والعبودية له، وذلك هو المظهر الأول لقبول التوحيد، فمن قَبِل التوحيد والعبادة والعبودية فإنه مجازى بالجنة، ومن رفض ذلك فإنه مجازى بالنار.
ويدخل في التوحيد: توحيد الذات، والصفات، والأفعال، وأن الرب واحد، وأنه هو صاحب الحق في التشريع، والأمر والحكم؛ وهذا يقتضي عبادةً وتسليمًا.
ويدخل في العبادات: ما اشتهر أنه عبادة من صلاة وزكاة، ويدخل فيها التسليم له سبحانه في كل ما شرع، وطاعته في كل ما افترض وأوجب، سواء في ذلك ما كان علمًا على عبادته، أو ما كان من أعلام شريعته، وهذه هي العبودية.
وقد جعلنا ما هو أدخل في العقائد في هذا القسم، وما هو أدخل في العبادة في القسم الثالث، وما هو أدخل في العبودية في القسمين الرابع، والخامس.
والأقسام كلها في النهاية توحيد وعبادة وعبودية، وسوابق لذلك أو لواحق له، ولكن تسهيل العرض جعلنا نضع ما هو أخص بقسم من الأقسام الخمسة بجانب بعضه.
وبالله نستعين ونبدأ الكلام من قسم العقائد.
* * *
1 / 5
لم تكن كلمة العقائد مستعملة زمن النبوة، فهي اسم مستحدث للتعبير عما يعتقد عليه القلب فيعتقده ويجزم به، فإذا أخذنا هذا الاصطلاح، وبنينا عليه، فإننا نستطيع أن نقول: هناك العقائد الإسلامية في وضعها الفطري في زمن النبوة، وهناك العقائد كما استقر عليها التأليف، فالعقائد في وضعها الفطري زمن النبوة كانت الأساس الذي يكلمه العمل بالإسلام، ويدخل فيها جانبان: الجانب الأول في الرسالة، والجانب الثاني هو الذي له علاقة بالغيبيات التي أخبرنا عنها الوحي الصادق، ويتداخل الجانبان أحيانًا ويتكاملان، ورمز ذلك كله النطق بالشهادتين.
أما العقائد كما استقر عليها التأليف، فقد شملت هذه الأمور، وزادت عليها، بأن دخل فيها ما اضطرته عملية الصراع بين أهل الإسلام وأهل الأديان، وبين أهل الحق والصواب من جهة، وأهل الباطل والخطأ من غير أهل السنة والجماعة من جهة أخرى، ومن ههنا أدخلوا في بحث العقائد- كما استقر التأليف فيها- وصف الإسلام والإيمان، وما يدخل في كلٍ، ومباحث الإلهيات، والنبويات، والسمعيات، وما يدخل في كلٍ، ويأخذ الكلام عن الحقائق الغيبية التي لا يدركها الإنسان إلا عن طريق الوحي حيزًا كبيرًا من هذا العلم، ويدخل في هذا العلم الحديث عن التصورات الكلية في الشريعة والتكليف.
والناس بالنسبة للإسلام والإيمان والشريعة: إما مسلم مؤمن ملتزم، وإما مسلم مؤمن مقصَّر مذنب، فالأول تقي، والثاني عاصٍ أو فاسق، وهناك متظاهر بالإسلام غير مؤمن به فذلك المنافق، وهناك الكافر، وهناك المسلم المخطئ في الفهم أو في العمل، فذلك المبتدع، وقد تصل البدعة إلى الكفر، وقد لا تصل، فالأول مرتد، والثاني ضال، وقد يرتد مسلم عن الإسلام أصلًا، أو قد يقول أو يفعل ما هو رِدّة، ومن ثم دخل في أبحاث العقائد نواقض الإسلام.
ومن وفاة رسول الله ﷺ إلى قيام الساعة ستحدث أحداث أخبر عنها رسول الله ﷺ، والإيمان بها جزء من الإيمان بنبوته، وبعض هذه الأمور وقع، وبعضها لم يقع بعد، وبعضها يكون قبيل الساعة بقليل، وبعضها يسبقها بزمن، ومن ثم تدخل هذه الأمور في باب العقائد.
1 / 6
وفي مسرى تاريخ الأمة الإسلامية وجدت فرق إسلامية انشقت عن جسمها، وخرجت عن الفهم الفطري للنصوص، وطرحت هذه الفرق آراء شاذةً أو كافرة، وتنبت مواقف خاطئة، وأصبح الحديث عن آرائها ومواقفها جزءًا من علم العقائد.
وهناك تصورات خاطئة، وتصورات يترتب على السكوت عنها لوازم ضارة، يُتحدث عنها عادة في علم العقائد كذلك، ومبنى الحديث في العقائد على النصوص، ولكن للحكم العقلي والعادي محلًا في شريعتنا، فاقتضى ذلك كلامًا عن الاثنين في أبحاث العقائد؛ لمعرفة محل التجارب البشرية، والأحكام العقلية في هذا الدين، وهكذا دخل في أبحاث العقائد الكلام عن الحكم العقلي والشرعي، والعادي، وأنها لا تتناقض.
هذه كلها مباحث تجدها مع غيرها في كتب العقائد، وقد أصبحت بطون هذه الكتب هي موطن البحث فيها.
* * *
وفي العادة فإن البشر يصلون إلى كثير من المعاني عن طريق التأمل والتجربة والممارسة، والله ﷿ وصف الكافرين بقوله: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (١). وقال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (٢) مثل هذه الأمور دور الشريعة فيها التوجيه والتسديد والترشيد، لكن هناك أمورًا تعرف، أولا تستقيم، أو لا تتأكد إلا من خلال الوحي، وتبيان مثل هذه الأمور هي الوظيفة الكبرى للرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك ما افترضه الله على عباده وكلفهم به.
ومن ذلك وضع الأمور في مواضعها على مقتضى الحكم؛ فلا تنحرف الحياة الإنسانية عن المسار الصحيح؛ كترشيد الإنسان في استثمار الكون، والحياة الاقتصادية، والعلاقات الجنسية، والعلاقات الاجتماعية، ومن ذلك الحقائق التي لا يمكن للإنسان أن يعرفها إلا عن طريق الوحي؛ كالمغيبات، وما أعده الله للمؤمنين والكافرين.
_________
(١) الروم: ٨.
(٢) رواه مسلم (٤/ ١٨٣٦) ٤٣ - كتاب الفضائل ٣٨ - باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا عن عائشة وأنس.
1 / 7
تفصيل هذه المعاني وأمثالها هي الوظيفة الكبرى للرسل عليهم الصلاة والسلام، نجد مصداق ذلك في قوله تعالى: - ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾: فمعرفة آيات الله التي تدل على ذاته مما جاء به الوحي. ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾: فتزكية الأنفس على ما تقتضيه معرفة الله والعبودية له مما جاء به الوحي ... ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ﴾: الذي أنزله: ويتضمن ما افترضه الله على خلقه، وذلك مضمون القرآن والكتب السماوية- ﴿وَالْحِكْمَةَ﴾: وهي وضع الأمور في مواضعها على مقتضى الكتاب، وهذا الجانب تكفل به الكتاب والسنة ... ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (١): أي مما لا تستطيعون معرفته إلا عن طريق الوحي.
ومن ههنا كان التعرف على الآيات، وعلى ما تزكو به الأنفس، وعلى الفرائض والمكتوبات، وعلى الحكمة في الكون، أو في التصرفات، أو في التصورات، أو في العلاقات، أو في السياسات، وكان التعرف على ما لا يعرفه الإنسان إلا من طريق الوحي، كل ذلك يدخل في مباحث العقائد، بل إنه لهو الأهم، وهو الذي ينبغي أن يشتغل به الدعاة؛ لأن أعظم ما في الدين هو هذا: آيات الله، والواجبات، والحكمة، وما لا يعرف إلا عن طريق الوحي.
ومن ههنا تعلم خطأ بعض من يدعون إلى الإسلام فيغفلون التركيز على هذه الأمور، ويتحدثون عن نواحٍ أخرى لا تصبُّ في هذا البحر.
* * *
وإذا كان كل ما في الإسلام مبناه على الاعتقاد الحق، فالاعتقاد الحق مبناه على الإيمان الجازم بالله وبالرسول ﷺ، ومبنى الإيمان بالله: يقوم على معرفة آثاره وآياته التي تدل عليه، ومبنى الإيمان بالرسول ﷺ: يقوم على معرفة الدلائل التي تدل على أنه رسول حقًا، وقد دخل ذلك في أبحاث العقائد، وقد جرت عادة كتاب العقائد- كما ذكرنا من قبل- أم يركزوا ما جرى فيه خلاف فيه أهل السنة والجماعة، وبقية الفرق الإسلامية، ومن
_________
(١) البقرة: ١٥١.
1 / 8
ههنا فقد حكم التأليف في العقائد ذكرُ وجهات النظر المطروحة؛ كأثر عن هوى، أو الرد على هوى، فقد وجدت آراء مبتدعة وأهواء متفرقة، فاقتضى ذلكم ردودًا ومناقشات، وغلب ذلك كله على التأليف، تأمل صحيح البخاري مثلًا، فإنك تجد الكثير من عناوين كتابه لها علاقة بقضية هي محل بحث في عصره، والكتب التي خصت العقائد في التأليف غلب عليها هذا الحال، ومع هذا التوسع في موضوعات كتب العقائد فقد أخرج الأقدمون من دائرة أبحاثهم قضايا اعتبروها ألصق بعلوم أخرى كبحث الحاكمية، وأنها لله وحدة، فقد ربطت بعلم أصول الفقه الذي لا يدرسه إلا الخاصة، ومن ههنا وجد الكتاب الإسلاميون المعاصرون شيئًا من الفراغ حاولوا أن يملأوه؛ فوجد ما يسمى- في جيلنا- بكتب التصورات الإسلامية.
وإذا كنت أعتبر أن دراسة العقائد كما استقر عليها التأليف لابد منه للمسلم، فقد جعلني هذا أركز في هذا القسم على ما كان محل تركيز في عصر النبوة، وإن كان القسم مليئًا بما اعتاد عليه كتاب العقائد قديمًا وحديثًا أن يدخلوه في كتبهم، بل لا تكاد مسألة رئيسية من مسائل العقائد إلا وفي هذا القسم حديث عنها، ومع ذلك فإنني أنصح إخواني المسلمين أن يدرسوا العقائد في كتبها، فإن هذا الكتاب ركَّز على المسائل الاعتقادية التي كانت محل التركيز الأقوى في الهدي النبوي.
كان التركيز الأقوى في عصره ﵊ على توحيد الله، وعلى الإيمان بالرسول ﷺ، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وعلى الإيمان بالغيب، وعلى التسليم لله ورسوله ﷺ بالإسلام.
وكان عنوان الدخول في الإسلام بقبول الشهادتين، والنطق بها، والقيام بأعمال الإسلام، والكينونة مع الجماعة، وكان يقف في مقابل ذلك: كفر، ونفاق، وجاهلية؛ ولذلك فإنني سأخص هذا وأمثاله مما هو محل تركيز في عصر النبوة بمزيد عناية، وقد جعلت هذا القسم في ثلاثة أبواب:
الباب الأول: معالم عقدية.
الباب الثاني: الإيمان بالغيب.
1 / 9
الباب الثالث: مباحث عقدية.
وأدخلت في الإيمان بالغيب: أركان الإيمان الستة؛ وما يعتبر من الغيوب، وأدخلت في الباب الأول: المعالم الكبرى التي تعتبر نقاط علام في موضوع العقائد، وأدخلت في الباب الثالث: بعض الأبحاث التي هي ألصق بالجانب الاعتقادي.
* * *
1 / 10
الباب الأول
معالم عقدية
وفيه:
تمهيد وفصول
1 / 11
تمهيد
الإنسان في هذا العالم الكبير لا ينقضي منه العجب، وما خفي منه فذلك أعجب، والعالم الذي يعيش فيه الإنسان أكثر عجبًا، ومع أنه أكثر عجبًا فإنه خلق من أجل هذا الإنسان: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (١). ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ (٢) فكان الإنسان بهذا التسخير قطب دائرة الوجود.
اقرأ عن الكون تدخل في دائرة الدهشة، مليارات السنين الضوئية، أعداد هائلة من المجرات، مجموعات شمسية كبيرة، أنواع من الإشعاعات، وأنماط من توضعات الكهارب الصغيرة، وإشارات فضائية متنوعة، وخصائص عجيبة لكل نجم، ولكل كوكب، ولكل مذَّنب، وهذه الأرض في محلها لا ينقضي منها العجب، ولا ينقضي مما فيها العجب وكل ذلك مسخَّر للإنسان.
واقرأ عن هذا الإنسان تجد كتب علم نفس تبلغ الآلاف، وهي تشمل ملاحظات مجردة عن نفس الإنسان دون أن تعرف كنهها، واقرأ عن التشريح تجد آلاف الصفحات، وهي تسجل حقائق وملاحظات عن جسم الإنسان وأعضاء الإنسان وغدد الإنسان، واقرأ ثبت الأمراض المعروفة تجد الآلاف، حتى إنه شخص حتى الآن من أمراض الوراثة وحدها حوالي ألف وخمسمائة، واقرأ تأثير الأغذية والأدوية تجد ما لا تستطيع له إحصاءً، واقرأ عن أخلاق الإنسان، وعلاقات الإنسان، واجتماعيات الإنسان، وأديان الإنسان، والأنظمة التي اخترعها الإنسان، والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما له علاقة بالإنسان تجد عجبًا، أما إذا وصلت إلى حياة الإنسان، وروح الإنسان، وقلب الإنسان، ومشاعر الإنسان، فتلك عوالم مجهولة مع كثرة آثارها.
فكما أن الذات الإلهية تعرف بآثارها، ولا يحاط بها علمًا، فهذه النفخة التي خلقها الله
_________
(١) البقرة: ٢٩.
(٢) لقمان: ٢٠.
1 / 13
سبحانه وبثها في الإنسان تعرف بآثارها، ولا تدرك ولا يحاط بها: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ (١).
أبعد ذلك كله يعجب الإنسان أن يرسل الله لهداية الإنسان؟!
﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ (٢).
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ (٣).
أفبعد هذا التركيب المدهش للإنسان يعجب الإنسان أن يكلفه الله، ويحمله مسؤولية، ويجعل له حياة أخرى، وقد خلقه هذا الخلق، وخلق له هذا الخلق:
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (٤).
﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ (٥).
إن من تأمل لم يعجب، فإذا جاء الواقع يصدق التأمل لم يبق إلا التسليم، فهذه قوافل الرسل تترى: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ﴾ (٦).
ولقد كذب من لا عقل له ولا إنصاف ولا تدبر، فإن أهل العقول آمنوا، وحملوا رسالات الله ﷿: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ (٧).
وعلى فترة من الرسل وبعد مرحلة من التيه والضياع، وبعد تصميم على الضلال عند كل فرقة من فرق الضالين بعث الله محمدًا ﷺ: - ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
_________
(١) الحجر: ٢٩.
(٢) النجم: ٥٩ - ٦١.
(٣) يونس: ٢.
(٤) القيامة: ٣٦.
(٥) المؤمنون: ١١٥، ١١٦.
(٦) المؤمنون: ٤٤.
(٧) الأنعام: ٨٩.
1 / 14
عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ (١). لقد بُعث محمدٌ- ﷺ في مرحلة لا أمل أن ينبثق من الضلال الذي وقعت فيه الأمم هدى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ (٢). فالجميع مستمرون على الضلال، فكان لا بد من رسول يوقف هذا الاستمرار، ويعطي للناس الهداية.
لقد أُمر كل رسول الله بإقامة الدين وعدم التفرق فيه:
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (٣).
وعند بعثة رسول الله ﷺ لم يكن دين قائم؛ فالتوحيد رأس الدين تغير، ولم تعد نتيجة لذلك عبادة في الأرض، ولا عبودية، والتفرق حاصل:
﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ (٤).
ومن سنة الله ﷿ ألا يستأصل المختلفين في الدين:
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ (٥).
وهكذا ضاع الدين، وحدث التفرق، ولم يبق يقين:
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ﴾ (٦).
لقد ضاع الدين واليقين، وفي هذه الأجواء بعث الله محمدًا ﷺ وأمره:
﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ
_________
(١) المائدة: ١٩.
(٢) البينة: ١ - ٣.
(٣) الشورى: ١٢.
(٤) الشورى: ١٤.
(٥) الشورى: ٢.
(٦) الشورى. ١٤.
1 / 15
كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)﴾ (١).
فمن حاج بعد ذلك فحجته مرفوضة ومهزومة:
﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ (٢).
وإذا جعل الله ﷿ كتاب هذا الدين محفوظًا فلا حجة لأحد ألا يقيم الدين، ولا حجة لأحد يتفرق في الدين، والأمر واضح، وعلينا أن نفهم هذا الدين فلا نتفرق، فبدون علم نزيغ، وبدون قلب سليم نتفرق.
وهذا الكتاب الذي بين يدينا فيه كل ما يحتاجه فهم الدين الذي بعث به محمد ﷺ. والسنة شارحة ومفصلة:
- فقد بعث الله محمدًا ﷺ، دينه الذي لا يقبل دينًا غيره، وأنزل عليه القرآن كتابًا لهذا الدين، مبينًا له ومفصلًا فيه، وجعل الله رسول الله ﷺ مبينًا لهذا القرآن، وشارحًا بالقدوة والحال، والكلمة والفعال، ومن ثم كان الكتاب والسنة هما أصلي هذا الدين.
- وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة لتصف هذا الدين وما يدخل فيه وما يخرج منه على الكمال والتمام، وجاءت نصوص هي بمثابة المعالم الكبرى في الإسلام؛ ليعلم من يريد الإسلام ما يعني انتماؤه للإسلام؛ وما هي المطالب الكبرى فيه: من توحيد، وصلاة وزكاة، وصوم، وحج، وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وما هي المحظورات الكبرى فيه: من شرك، وزنى، وشرب خمر، ...
- وجعل الله دينه منسجمًا مع العقل والقلب والروح، واحتياجات الجسد في الأمر والنهي، والتكليف، فكان هذا الدين هو دين الفطرة، الدين الذي ينسجم مع حكمة الخلق، ومع تركيب الإنسان.
_________
(١) الشورى: ١٥.
(٢) الشورى: ١٦.
1 / 16
- وقبل بعض الناس هذا الدين فكان من المسلمين، وبتصديقه بهذا الدين وقبوله له أصبح من المؤمنين، الذين دخلوا في دائرة الخطاب بوصف الإيمان؛ ومن ثم جاءت النصوص لتوضح ماذا يدخل في دائرة الإيمان، وماذا يطالب به أهل الإيمان من عقائد، وأعمال، وتكاليف، ومقامات، فكان هذا النوع من النصوص مكملًا للنصوص التي وصفت الإسلام، وجاءت نصوص تصف الإيمان مطابقة للنصوص التي وصفت الإسلام؛ لأن الإيمان والإسلام يتطابقان أحيانًا، ويدل كل منهما على مفهوم يكمل الآخر أحيانًا.
- فالإسلام بمعناه الكامل: هو إسلام القلب، والجوارح، لله تعالى بهذا الدين، بنصوصه، وبعقائده، وتكالفيه، والإيمان بمعناه الكامل: هو تصديق القلب بنصوص هذا الدين، وتصديق السلوك لهذا التصديق، فالإسلام والإيمان من هذه الحيثية متطابقان.
- وأحيانًا يراد بالإسلام: عمل الجوارح بالطاعة، وبالإيمان: التصديق القلبي، وانشراح الصدر بنور الإيمان؛ حتى يرى القلب الأشياء بنور هذا الدين، فههنا الإسلام والإيمان يتكاملان، فالإسلام بهذا المعنى أثر الإيمان العقلي، ويوصل إلى الإيمان القلبي: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (١).
- إنه بمجرد أن يقبل الإنسان الإسلام ويدخل في عداد المؤمنين به فإنه يطالب بأمر ونهي، أو بفعل وترك، ومجموع ما يطالب به مباشرة كفرائض ونوافل حوالي سبعين شيئًا هي ما يسمى بشعب الإيمان، وكثير من الشعب تعني المطالبة بها: الكف عما يناقضها، فالمطالبة بالتوحيد تعني الكف عن الشرك، وليس كل ما نهي عنه يقابل شيئًا مأمورًا به، وهكذا تتوسع دائرة المنهيات حتى تشمل أمورًا كثيرة، منها ما يسمى كبيرًا من الذنوب، ومنها ما يسمى صغيرًا من الذنوب.
- ودوائر التكليف الرباني أوسع من هذا الذي ذكرناه، فقد يقوم الإنسان بكل شعب الإيمان وينتهي عن الكبائر والصغائر، ومع ذلك يكون مقصرًا في التكليف، لأن دوائر التكليف أوسع من مجرد هذا وهذا.
_________
(١) الحجرات: ١٤.
1 / 17
- وكأثر عن القيام بالتكليف يتحقق الإنسان بالصفات العليا التي أثنى الله على أصحابها: التقوى، والإحسان، والإيمان، والإسلام، والشكر، والتوكل، والصبر ...
- وبرفض الإسلام، أو بالتقصير في تكاليفه، أو بعدم التحقق بمقاماته، أو بالانحراف الاعتقادي أو العملي عنه، أو باعتقاد ما ليس منه على أنه منه، أو بعمل ما يتناقض معه على أنه منه: يستحق الإنسان وصفًا قبيحًا على حسب بشاعة الجرم: الكفر، النفاق، الضلال، العصيان، الفسوق، الابتداع، المروق من الدين، الردة، الزندقة، وعلى حسب القيام بالتكليف يكون للمؤمن وزنه ودرجته ورتبته: من صديقية، وشهادة، وصلاح، وربانية، وربِّيَّة، وللمؤمن ما يستحقه بفضل الله وكرمه، وما يتكرم به الله ﷿ أعظم، وللآخرين ما يستحقونه من عقاب معنوي ومادي ودنيوي وأخروي.
- وشيء عادي- والرسول ﷺ يدعو إلى الإسلام فيصفه أو يربي على الإيمان فيفصله- أن تتعدد النصوص، فأحوال المدعوين متعددة، وأحوال المؤمنين ليست واحدة، فهذا عرف شيئًا فأتقنه، وغاب عنه شيء فجهله، فهذا يعرف على المجهول، ومجهول إنسان قد يختلف عن مجهول آخر، وما وصل إليه الصف الإسلامي اليوم غير ما وصل إليه بالأمس، والتكليف في زمن الرسول ﷺ كان متدرجًا، كل ذلك يجعلنا أمام نصوص كثيرة، تصب كلها في بحر واحد، وتنبثق عن نور واحد، ولكنها تلاحظ حالات شتى بعضها متشابه، وبعضها متداخل، وبعضها متكامل، والرسول ﷺ كان يواجه جاهلية متعددة الصور، ذات عقائد خاطئة، فينبثق عنها عبادات وسلوكيات خاطئة، فصحح المسار، وقطع الطريق على العودة إلى الجاهلية. وفي الباب معالم عقدية تتحدث عن بعض ما ذكرناه وغيره معه.
وقد جعلنا الفصل الأول في: العقل، والجسد، والقلب، والروح، والنفس، وهي المعالم الكبرى في الإنسان، وإثباتها هو الأساس في التكليف؛ فلا تكليف إلا بعقل، الجسد بما حوى هو المكلف، وللقلب تكليفه، وللنفس تكليفها، وللروح أحوالها، وقد اقتصرنا في هذا الفصل على ذكر النصوص التي تثبت هذه العوالم وتفصل في معاني إطلاقها.
* * *
1 / 18
فصول الباب الأول
الفصل الأول: في الجسد والروح والعقل والقلب والنفس.
الفصل الثاني: في التكليف ومسؤولية الإنسان أمام الله ﷿.
الفصل الثالث: في مباحث في الإسلام والإيمان.
الفصل الرابع: في فضل الانتساب إلى الأمة الإسلامية.
الفصل الخامس: في فضل الإيمان وفي فضل المؤمن.
الصفل السادس: في أمثال مثل بها لدعوة رسول الله ﷺ وللمستجيبين له.
الفصل السابع: في الإسلام وأسهمه وأركانه ومقاماته وبعض أعماله.
الفصل الثامن: في بعض شعب الإيمان.
الفصل التاسع: في بعض الموازين التي يزن بها المؤمن إيمانه وإسلامه.
الفصل العاشر: في فضل الشهادتين وكلمة التوحيد هي أصل الإيمان.
الفصل الحادي عشر: في الإيمان الذوقي وما يقابله.
الفصل الثاني عشر: في الجيل الأرقى تحققًا.
الفصل الثالث عشر: في الوساوس العارضة وفي خفوت نور الإيمان وزيادته وتجديده وإقلاعه.
الفصل الرابع عشر: في الفطرة وحقيقة الإيمان والكفر والنفاق.
الفصل الخامس عشر: في الكفر والشرك والكبائر.
الفصل السادس عشر: في النفاق وعلاماته وشعبه.
الفصل السابع عشر: في نواقض الشهادتين.
1 / 19
الفصل الثامن عشر: في الاعتصام بالكتاب والسنة.
الفصل التاسع عشر: في التمسك بالسنة وفي التحذير من البدعة وأهلها.
الفصل العشرون: في البدعة.
الفصل الحادي والعشرون: في افتراق هذه الأمة افتراق اليهود والنصارى وزيادة، وفي وجوب الكينونة مع الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة واعتزال فرق الضلال.
الفصل الثاني والعشرون: في التحذير من مواطأة الأمم في انحرافاتها.
الفصل الثالث والعشرون: في التحذير من الفتن.
1 / 20
الفصل الأول
في:
الجسد والروح والعقل والقلب والنفس
وفيه:
مقدمة وفقرات
الفقرة الأولى: نصُوص في الجسد.
الفقرة الثانية: نصُوص في الروح.
الفقرة الثالثة: نصُوص في العقل.
الفقرة الرابعة: نصُوص في القلب.
الفقرة الخامسة: نصُوص في النفس.
1 / 21
مقدمة الفصل
في الإنسان جانب غيبي أخبرتنا عنه نصوص الكتاب والسنة، وهذا الجانب الغيبي يعرفه الإنسان من آثاره، وبعضه يحس به إحساسًا، حتى إن إنكاره يكون إنكارًا للمحسوس، فالإنسان يميز به بين العاقل وغير العاقل، ويحس بمطالب النفس والجسد، ويحس في قلبه الذي في صدره بكثير من المعاني، وأهل الإيمان لهم إحساستهم القلبية النامية، وهناك فارق بين حياة الجنين قبل نفخ الروح، وبعد نفخ الروح فيه، فمتى نفخت الروح فيه تبدأ الحركة، هذه القضايا التي نرى آثارها جاءت نصوص كثيرة تتحدث عنها، فأصبحت من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، مما لا يسع مسلمًا أو مسلمة أن ينكرها، وإن كان يسع المسلم أن يجهل تفصيلات فيها، أو تحديدات لمعانٍ دقيقة للنصوص في شأنها.
وإنها لإحدى معارك عصرنا الإيمانية: الصراع مع الذين يفسرون كل ما في الإنسان، وكل ما يجري للإنسان أو على الإنسان، بالمادة والمادية، فكل شيء عندهم في الإنسان مرتبط بآلية المادة، وإفرازاتها، وقد سرى ذلك إلى بعض أبناء المسلمين؛ فصاروا يفسرون القلب بأنه الدماغ، وهم بذلك ينكرون أن يكون للمسلم قلب مرتبط بالقلب الحسي، له وظائفه الإيمانية، وهو محل الإلهام، ومحل الإشراق، وهو محل الكفر والنفاق، وأصبح هؤلاء يميلون إلى تأويل ما ورد عن الجانب الغيبي في الإنسان بأنواع من التأويلات.
والإسلام يعطي للتجربة البشرية مداها، وللبحث العلمي مداه، ولكن هل استطاع الإنسان أن يجيب جوابًا جازمًا على كل الأسئلة التي لها علاقة في الإنسان، أو أن الإنسان لا زال مجهولًا.
وفي كل الأحوال فنصوص الإسلام القطعية الثبوت، القطعية الدلالة، لا يمكن أن تتناقض مع حقيقة علمية فالأصل الأصيل أن يسلم المسلم للنصوص كلها، فكيف إذا كانت النصوص في أمور غيبية تشهد لها آثارها؟!
إنه لمن فساد التصورات، ومن المكفرات، إنكار الروح، أو القلب، أو النفس، أو العقل، أو الجسد، ثم إن هذا الإنكار يترتب عليه فساد عريض، فالتربية التي لا تلحظ
1 / 23