The Forty Creedal Principles
الأربعون العقدية
Yayıncı
دار الآثار
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
٢٠٢١ م
Yayın Yeri
مصر
Türler
إهداء
إلى من علَّمني حروفًا، فصارت غُيوثًا تموج بها أَسْطُرُ هذه الصفحات.
* إلى أبي وأمي، إلى زوجتي وأبنائي، رُفَقاء دربي في المَضايق والمَسَرَّات.
* إلى من واراه السِّتار، ولولا فضلهم -بعد الإله - ما رأى هذا السِّفْرُ نُور المنارات.
** لهؤلاء أقول:
عجز اللسان عن موافاة شكركم، فانبري لذلك القلم، فانتهى مِدادُهُ قبل أن يَصل إلى مبتغاه ومَداه.
1 / 4
تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله -
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١]
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١]
إن خير الحديث، كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد.. مما لا شك فيه، أن أهمية العقيدة للأمة الإسلامية لا يدانيها أهمية؛ فإن العقيدة أهميتها للقلب في سلامته وأستواءه، وهذا هو مدار القبول عند الله ﷿
فإن الله ﷿ لا يقبل من العبد صرفًا ولا عدلًا، إلا إذا وافي ربه ﵎ بقلب سليم، قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾ [الشعراء: ٨٨، ٨٩] وقال تعالى عن خليله إبراهيم ﵇: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ
1 / 5
رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)﴾ [الصافات: ٨٣، ٨٤] والقلب السليم، لا يكون إلا بالاعتقاد السليم.
ومن المستقرء في السنة الجارية، بين البشر أن الانحراف العقدي يؤثر سلبًا في الاعتقاد والعبادة، وعملًا وسلوكًا.
وقد تفضَّل الأخ الكريم، أيمن إسماعيل في هذا الكتاب القيم، بذكر جملة من الأحاديث في أبواب الاعتقاد، جمعًا وتخريجًا وشرحًا، مع النظر في الملمح العقدي المهم الذي يستوي به القلب.
وقد وقفت له في هذه الأحاديث على قاعدة قد جعلها نصب عينيه، وهذه القاعدة في الأصل هي قاعدة سلفية أصيلة، وهي أن الاعتقاد لا بد أن يتلو الاستدلال، ولذلك ما انحرف من انحرف من أهل البدع والضلالات إلا لما خالفوا هذا الأصل، فصاروا يعتقدون، ثم يستدلون، ولذا فقد عمدوا إلى أدلة الشرع؛ تحريفًا، وتبديلًا، وتقديمًا وتأخيرًا؛ لتوافق ما اعتقدوه، وصار من حرفتهم لي عنق الأدلة لتصير وفق أهوائهم.
وختاما: نشكر أخانا الفاضل، على ما بذل من وسعه؛ في تقريب عقيدة السلف. ونسأل الله ﷿ أن يبارك جهده، وأن يجعل عمله خالصًا لوجه تعالي.
فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.
كما نسأله تعالى أن ينفع به الأمة الإسلامية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
* * *
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أمّا بعدُ:
فإنّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله- تعالى-، وخير الهَدي هَديُ محمد- ﷺ، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أمّا بعدُ
فلا شكَّ أنّ أعظم زادٍ يلقى به العبد ربه- تعالى- يوم القيامة إنما هو صحة الاعتقاد في الله- تعالى- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر.
فمقام العقيدة مقام عظيم وخطير، فكم زلّت أقدام، وضلّت أفهام، وتشعبت فِرَق بسبب سوء الفهم واتباع الهوى.
قال ابن القيّم:
"وهل أوقعَ القدَريّةَ والمُرجئةَ والخوارجَ والمعتزِلةَ والجَهْميةَ والرافضةَ وسائرَ الطوائف أهل البدع إلا سوءُ الفَهم عن الله ورسوله؟ حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجَب هذه الأفهام". (^١)
لِذا الواجبُ على كل مسلم أن يتعلم ما يُصلح به عقيدتَه، ولمَ لا؟ وهي رأس
_________
(^١) الروح (ص /٦٣).
1 / 7
ماله وزادُه في مسيره إلى الله تعالى.
قال تعالى:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: ١٩].
وعن أنس- ﵁ عن النبي- ﷺ أنه قال:
«طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ». (^١)
فإن لم يكن طلب علم الاعتقاد فرضًا، فأيُّ علم يكون طلبه فرضًا بعد ذلك؟!
ويكفي في خطورة هذا الباب: أن الخطأ فيه ليس كالخطأ في غيره؛
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ١١٦].
قال المُزَنِيّ:
"كنت عند الشافعي أُسائله عن مسائلَ بِلِسان أهل الكلام، قال: فجَعَلَ يسمعُ مني وينظرُ إليّ
ثم يُجيبُني عنها بأقصرِ جواب، فلما اكتفيت قال لي: يا بنيّ، أدلك على ما هو خير لك من هذا؟
قلت: نعم، فقال:
"يا بنيّ، هذا علمٌ إن أنت أصبتَ فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه كَفَرْتَ". (^٢)
ولما ذكر القُرطبي مسألة مهمة من مسائل إفراد الله- تعالى- بالعبادة، قال- ﵀:
"وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه؛ لأنَّ جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهمْ ذلك". (^٣)
_________
(^١) أخرجه ابن ماجه (٢٢٤) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (١٥)، وهو من حديث حفص بن سليمان. متروك، قال السخاوي: وحفص ضعيف جدًا، بل اتهمه بعضهم بالكذب والوضع. قال البيهقي: هذا حديث متنه مشهور، وأسانيده ضعيفة، لا أعرف له إسنادًا يَثبت بمثله الحديث، والله أعلم.
قال العراقي: قد صحح بعض الأئمة بعض طرق هذ الحديث. قال المزّي: إن طُرُقه تبلُغ به رتبة الحسن.
تنبيه: قال السخاوي:
قد ألحق بعض المصنفين بآخِرِ هذا الحديث زيادة "ومُسْلِمَةٍ"، وليس لها ذِكرٌ في شيء من طرقه، وإن كان معناها صحيحًا.
وانظر المقاصد الحسنة (ص/٢٧٥)، والمدخل إلى السنن الكبرى (ص/٣٢٥)، ومأخذ العلم (ص/٥٩).
(^٢) وانظر مناقب الشافعي (١/ ٤٦٠)، وطبقات الشافعية الكبرى (٢/ ٩٨).
(^٣) وانظر الجامع لأحكام القرآن (١٤/ ١٧).
1 / 8
فأرجى ما يلقى به العبد ربه- ﷿ أن يكون صحيح المعتقَد، فهذا سبيل النجاة.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾ [الشعراء: ٨٨ - ٨٩]. قال مُجاهِد والحسَن: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ يعني: من الشرك. وقال أبو عثمان النيسابوري: "هو القلب الخالي من البدعة، المطْمئن إلى السنة". (^١)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو- ﵄ أن رَسُولَ اللهِ- ﷺ قال:
«إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟
أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟
فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ.
قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ». (^٢)
وفي هذا المعنى قال ابن رجب:
"فإنْ كَملَ توحيدُ العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلِّها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت؛ أوجبَ ذلك مغفرةَ ما سلفَ من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكُلّية. فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قلبه؛ أَخرجتْ منه كل ما سِوى اللهِ محبةً وتعظيمًا وإجلالًا ومهابةً وخشيةً ورجاءً وتوكلًا، وحينَئذٍ تَحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مِثل زَبَدِ البحر، ورُبّما قلَبتْها حسناتٍ". (^٣)
وقد حرَصتُ في هذا الكتاب على أن يشتمل في كل مبحث من مباحثه على أمور أربعة، بها يكمُل بنيان العقيدة في حياة طالب العلم:
الأول: ذكر عقيدة أهل السنة في المسألة.
_________
(^١) وانظر جامع البيان في تأويل القرآن (١٩/ ٣٦٦)، وتفسير القرآن العظيم (٦/ ١٥٠).
(^٢) أخرجه الترمذي (٢٦٣٩)، وقال: "هذا حديث حسَن غريب "، وصححه الألباني في "الصحيحة" (ح: ١٣٥).
(^٣) روائع التفسير (١/ ٣٤٠).
1 / 9
الثاني: ذكر أدلة هذا المعتقَد من: الكتاب، والسنة، والإجماع، والنظَر.
الثالث: ذكر شُبهات المخالفين لأهل السنة.
الرابع: ذكر الرد على تلك الشبهات.
* وهكذا يكون البناء العقَدي لطالب العلم مبنيًّا على ترسيخ التأسيس، وكشف التلبيس:
ترسيخ التأسيس: وذلك بمعرفة المعتقَد، ومعرفة أدلة هذا المعتقَد.
كشف التلبيس: وذلك بالوقوف على شبهات المخالفين، الذين أبَوْا إلا أن يخالفوا نهج أهل السنة والجماعة، حتى حادُوا عن طريق البيّنات إلى بُنَيّات الطريق.
* ولقد كان جُلُّ اهتمام العلماء في منشأِ الأمر متوجهًا نحو تأسيس عقيدة السلف وتبيينها، حتى اضطُرُّوا بعد ذلك إلى الرد على نابتة السوء من أهل البدع ومَن على شاكلتهم.
قال الدارمي:
"وما ظَنَنّا أنا نُضطر إلى الاحتجاج على أحد ممن يدَّعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به، حتى ابتُلِينا بهذه العِصابة المُلحدة في آيات الله؛ فشغلونا بالاحتجاج لِما لم تختلف فيه الأمم قبلنا، وإلى الله نشكو ما أَوْهَتْ هذه العصابة مِن عُرَى الإسلام، وإليه نلجأ، وبه نستعين". (^١)
*وصدقَ ﵀، فحينما تقرأ في شبهات أهل البدع وأباطيلهم فسترى عقولًا فيها باضَ الشيطان وفرَخ، حتى أنتج لأوليائه فِكَرًا بلهاء، بل زندقة صلعاء، لا تملك أمامها إلا أن تحمد ربك على سلامة العقل، والعافية في الدين.
* ولا شك أن الرد على أهل البدع من أفضل ما يتقرَّب به طالب العلم إلى الله ﷿، وهذا ضَرْبٌ من الجهاد في سبيل الله تعالى.
وقد روجع شيخ الإسلام ابن تيمية في كثرةِ رده على أهل البدع، كما حكى ذلك
_________
(^١) الرد على الجهمية (ص/٢٦). قوله: "ما أوهب هذه العصابة... "، قال صاحب التاج: أوهبَ لك الشيءَ: أمكنك أن تأخذه وتناله. ا. هـ، فيكون المراد أنهم جعلوا عُرى الإسلام سهلة المَنال لأعداء الإسلام.
1 / 10
عنه أحد تلامذته، وهو أبو حفصٍ البزَّار، حيث قال:
"ولقد أكثر شيخ الإسلام- ﵁ التصنيف في الأصول، فضلًا عن غيرها من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك، فقال:
إني رأيتُ أهل البدع والضلالات والأهواء قصدوا إبطال الشَّرِيعَة، وأوقعوا النَّاس فِي التشكيك فِي أصول دينهم، فبان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شُبَههم وأباطيلهم وَقطع حجتهم وأضاليلهم أن يَبْذُلَ جُهده ليكشف رذائلهم، ويُزيِّف دلائلهم ذبًّا عَن المِلّة الحنيفية والسّنّة الصحِيحَة الجليّة.
فهذا ونحوُه هو الذي أَوْجَبَ أنّي صرَفتُ جُلَّ همّي إلى الأصول، وألزمَني أن أوردتُ مقالاتِهم وأجبتُ عنها بما أنعم الله- تعالى- به من الأجْوبة النقلية والعقلية". (^١)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإنّ بيان حالهم وتحذيرَ الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمدَ بنِ حنبل:
الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحبُّ إليك، أوْ يتكلم في أهل البدع؟
فقال:
إذا قام وصلَّى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضلُ". (^٢)
* وما فَتِئَ علماءُ الأمة وحُماة المِلّة يسطِّرون فى الرد على أهل البدع والأهواء،
وأمثلة ذلك لا حصر لها، لكن من باب التمثيل نذكر:
الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل، والرد على المنطقيِّين لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المرسَلة على الجهمية والمعطّلة لابن قيّم الجوزية، والرد على الجهمية للدارمي... وغير ذلك كثير.
*ولا شكَّ أن الرد على أهل البدع وكسْرَ أقلامهم وقمْعَ نَهْجهم هو ضَرْبٌ من ضُروب الجهاد في سبيل الله تعالى.
_________
(^١) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية (ص/٣٥).
(^٢) مجموع الفتاوى (٢٨/ ٢٣١)، وطبقات الحنابلة (٣/ ٤٠٠).
1 / 11
*ومما يُستأنس به لهذا الأصل: ما قد رواه أَنَسٌ- ﵁ عن النَّبِيِّ- ﷺ أنه قالَ: «جاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ». (^١)
قال أبو العباس ابن تيمية:
"فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدَع مناظرةً تَقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلامَ حقَّه، ولا وفَّى بموجَب العلم والإيمان، ولا حَصَلَ بكلامه شفاءُ الصدور وطُمَأنينة النفوس، ولا أفاد كلامُه العلمَ واليقينَ.
وقد أوجب الله- تعالى- على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومِن الإيمان به تصديقُه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفعُ كل مَن عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته". (^٢) وكان هذا دأبًا ومنهجًا لأبي العباس ابن تيمية فى جهاد أهل البدع بقلمه ويده، ما لم يترتب على ذلك مفسدة، كما حكى تلميذه ابن كثير قائلًا:
"وراح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد النارنج، وأمرَ أصحابَه ومعهم حجَّارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قَلُوط- تُزارُ ويُنذَرُ لها- فقطعَها، وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًا". (^٣)
قال ابن القَيّم:
"وتبليغ سُنّته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نُحور العدوّ؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السُّنَن فلا تَقُوم به إلا وَرَثة الأنبياء وخُلَفاؤهم في أُمَمهم، جعلَنا الله- تعالى- منهم بمَنّه وكرمه". (^٤)
قال الغَزالي:
"فهذا حُكم العقيدة التي تعبّد الخلق بها، وحُكم طريق النِّضال عنها وحِفظها، فأمّا إزالة الشبهة وكشف الحقائق ومعرفة الأشياء على ما هي عليه وإدراك الأسرار التي يُتَرْجمها ظاهرُ ألفاظ هذه العقيدة فلا مِفتاح له إلا المُجاهَدة... ". (^٥)
_________
(^١) أخرجه أحمد (١٢٢٤٦)، وأبو داود (٢٥٠٤)، وانظر صحيح أبي داود (٢٢٦٢).
(^٢) مجموع الفتاوى (٢٠/ ١٦٥).
(^٣) البداية والنهاية (١٨/ ٤٦).
(^٤) جِلاء الأفهام (ص ٤١٥).
(^٥) قواعد العقائد (ص ١١١).
1 / 12
قال ابن رجب:
"وكذلك من يشتغل بالعلم؛ لأنه أحد نوعَي الجهاد، فيكون اشتغاله بالعلم للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، فلْيأخذْ مِن أموال الفَيْء أو الوُقوف على العلم قَدْرَ الكِفاية ليتقوَّى على جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من كفايته من ذلك". (^١)
أقول:
إنّ المتصفِّح لأسطُر هذا الكتاب سيقف على حقيقةٍ هي من الأهمية بمكان، وهي أنّ أخصَّ ما ميَّزَ أهل السنة والجماعة مِن غيرهم مِن فِرَق الأمة أمران:
(تعظيم الأثَر، والثبات على المنهج).
فتعظيم الأثر هو أحد أهمّ الدلائل على صحة الادّعاء أنّ أهل السنة والجماعة هم الفِرْقة الناجية.
فاعتصام أهل السنة والجماعة بالآثار أمرٌ بيّنٌ واضحٌ وُضوحَ الشمس في رائعة النَّهار، وليس أدلّ على صحة هذا الأمر- الذي هو اتباع ظواهر النصوص والعَضّ عليها بالنَّواجِذ- مِن كونه صار سُبّةً يُرمى بها أهل السنة والجماعة.
فالآثار هي غنيمة أهل السنة، ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾، فقد تمسَّكوا بالمسطور، ونبذوا محدَثات الأمور، حتى خرجت عقيدتهم مِن بَينِ فَرْثٍ ودمٍ لَبَنًا خالصًا سائغًا لِلشّاربينَ.
وأما الأمر الثاني "الثبات على المنهج":
فمن سمات أهل السنة والجماعة الثباتُ على المنهج، وهذه مما حَظِيَ به أهل السنة والجماعة دُونَ غيرهم من الفرق، فتقرأ كثيرًا عن الاختلاف البيِّن الواسع والتخبُّط الظاهر الشاسع بين المتقدمينَ والمتأخرينَ في كل فرقة من الفرق الضالّة، وتسمع كثيرًا قول القائل: متأخِّرو القدرية، ومتقدِّمو الأشاعرة... إلخ، ومِثل هذا لا تراه- بفضل الله- عند أهل السنة والجماعة.
وكم من إمامٍ من الأئمة الكبار في تلك الفِرَق رأيناه يُظهر الندامة على عُمره الذي أضاعه في القِيلِ والقالِ، والطريقِ السقيمِ الضالّ؛ لِيُعلنَ العودة إلى سَواء السبيل وشِفاء العَليل، إلى آثار النُّبُوّة والتنزيل!
_________
(^١) الحِكَم الجديرة بالإذاعة (ص/٣٣).
1 / 13
وأخيرًا...
هذا جُهْدُ المُقِلِّ، قد أنفقتُ فيه جُهدي، وبذلت وُسْعي، وقد سطَّرته وأنا أعلمُ أنّه عملٌ بشريٌّ يعتريه الخطأ والتقصير، وهذا المعنى قد ذكره الله- ﷿ في قوله- تعالى-:
﴿... وَلَوْ كَانَ من عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢].
وفي هذا المعنى قال الصَّحابيُّ الجَليل عبد الله بنُ مسعود ﵁:
"فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فمِنَ اللَّهِ وإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ". (^١)
وأمّا أنا فقد اعترفتُ بقُصوري فيما اعتمدتُ عن الغاية، وتقصيري عن الانتهاء إلى النهاية، فأسأل الناظرَ فيه ألّا يعتمد العَنَتَ ولا يقصدَ قَصْدَ مَن إذا رأى حسنًا سَتَرَهُ، وعيبًا أَظْهَرَهُ، ولْيتأمَّلْهُ بعين الإنصاف لا الانحراف، فمَن طلبَ عيبًا وَجَدَّ وَجَدَ، ومَن افتقد زَلَلَ أخيه بعين الرِّضا فقد فَقَدَ. (^٢)
*فيا أَيها القارئ لِما سطَّرتُه والناظرُ فيه، هذه بِضاعةُ صاحِبِها المُزْجاةُ مَسُوقةٌ إليك، وهذا فَهْمُهُ وعقله معروضٌ عليك، لك غُنْمُهُ، وعلى مؤلِّفه غُرْمُهُ، ولك ثمرتُه، وعليه عائدتُه، فإنْ عَدِمَ منك حمدًا وشكرًا، فلا يَعْدَم منك مَغفرةً وعُذْرًا، وإِنْ أَبَيْتَ إلا المَلامَ فبابُه مفتوح. (^٣)
فاللهَ- تعالى- أسألُ أن يتقبل هذه الورقات بقَبولٍ حَسَنٍ، وأنْ يُنبتها- نشرًا وعملًا بين المسلمين- نباتًا حسنًا، وأن يجعلها خالصة لوجهه- تعالى- ولا يجعلَ لأحدٍ فيها شيئًا.
ولا يفوتُني أن ألتمس مِن كل من قرأ هذا الكتاب أن يتفضل مشكورًا بإبداء نُصحه وملاحظاته؛ فإنَّ المؤمن مِرْآة أخيه المؤمن، والله -تعالى- في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، واللهَ -تعالى-أسألُ أنْ يوفقَنا لِما فيه الصواب.
وَنَادَيْتُ أللَّهُمَّ يَا خَيْرَ سَامِعٍ... أَعِذْنِي مِنَ التَّسْمِيعِ قَوْلًا وَمِفْعَلَا
إِلَيكَ يَدِي مِنْكَ الأَيَادِي تَمُدُّهَا... أَجِرْنِي فَلا أَجْرِي بِجَوْرٍ فَأَخْطَلَا
_________
(^١) سنن أبي داود (٢١١٦).
(^٢) مُعجَم الأدباء (١/ ١٦).
(^٣) طريق الهجرتين (ص/٧).
1 / 14
أَمِينَ وَأَمْنًا لِلأَمِينِ بِسِرِّهَا... وَإنْ عَثَرَتْ فَهْوَ الأَمُونُ تَحَمُّلَا
أَقُولُ لِحُرٍّ وَالْمُرُوءةُ مَرْؤُهَا... لِإخْوَتِهِ الْمِرْآةُ ذُو النُّورِ مِكْحَلَا
أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ... يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوقِ أَجْمِلَا
وَظُنَّ بِهِ خَيْرًا وَسَامِحْ نَسِيجَهُ... بِالِاغْضاءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلَا
وَسَلِّمْ لَإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ... وَالُاخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْبًا فَأَمْحَلَا
وَإِنْ كانَ خَرْقٌ فَادَّرِكْهُ بِفَضْلَةٍ... مِنَ الْحِلْمِ وَلْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلا (^١)
للتواصل مع المؤلف الشيخ أيمن إسماعيل الموقع الرسمي للشيخ: https://aymenesmail.com
الايميل: aymanismail ٧٠٠@gmail.com
قناة اليوتيوب: https://youtube.com/user/ay mnismail
الصفحة الرسمية على الفيس بوك: https://www.facebook.com/ayman.ismaeil ٦٦
_________
(^١) أبيات من متن الشاطبية (١/ ٦).
1 / 15
الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق
نص الحديث:
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ»، وفي رواية: «مَا كان على مِثل ما أَنَا عَلَيْهِ اليومَ وَأَصْحَابِي».
تخريج الحديث، وطُرقه:
هذا الحديث مستفيض، فقد ورد من حديث أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنَس بن مالك، وعَوف بن مالك الأَشجَعِيّ، وأبي أُمامة الباهليّ، وسعد بن أبي وَقّاص، وعمرو بن عَوف المُزَنيّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدَّرداء، وواثِلة بن الأَسقع ﵃.
ورواية هذا الجمع الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب تَرقى بالحديث إلى حد التواتر، أوما هو قريب منه.
كما أن كثيرًا من هذه الأحاديث أسانيدها نظيفة؛ كحديث أبي هريرة، ومعاوية، وعوف بن مالك، وأبي أمامة وغيرهم.
وعلى فرْض أن أسانيد هذه الأحاديث في مفرداتها ضعف، فلا يشك من له أدنى
1 / 19
خبرة بالصناعة الحديثية أن ضعفها ليس شديدًا، وهي بذلك ترتقي إلى درجة الصحة والثبوت والاحتجاج.
أضف إلى ذلك أن أئمة الصنعة الحديثية قد حكموا على حديث (الفرقة الناجية) بالثبوت ولم يختلفوا في تصحيحه، ودُونَك سردًا بأسمائهم ومواطن قولهم:
أولًا:
حديث أبي هريرة ﵁ قال عنه الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وقال الحاكم (١/ ١٢٨): "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.
ثانيًا:
حديث معاوية بن أبي سفيان ﵁.
قال الحاكم: "هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حَجَر في تخريج أحاديث الكَشّاف (ص/ ٦٣) "حديث حسن".
ثالثًا:
قال شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى] (٣/ ٣٤٥): "الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد".
قال الشاطبي في [الاعتصام] (٢/ ١٨٦): "حديث تفرُّق الأمة صح من حديث أبي هريرة ﵁". وقال الحافظ ابن كَثير في [تفسيره] (٢/ ٤٨٢):
"هو حَدِيثٌ مَرْوِيٌّ فِي الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا".
كذلك فقد ذكره السخاوي وأسهب في سرد طرقه في "الأجوبة المرضية" (٢/ ٥٦٩)
رابعًا:
وممّن نص على ثبوته: عبد القاهر البَغداديّ في [الفَرْق بين الفِرَق]، فقال: "للحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيدُ كثيرة".
خامسًا:
وكذلك العلامة الأَلباني قد عقدَ في «الصحيحة» (٢٠٤/ ٢٠٥) بحثًا حديثيًا نفيسًا، وفنَّد شبهات المخالفين المضِّعفين للحديث، وردَّ عليها.
كل هؤلاء الأعلام الفُحول جزموا بصحة الحديث وثبوته، خلافًا لبعض المعاصرين الذين تكلموا في غير فنهم فأتَوْا بالعجائب!
1 / 20
ويمكن الجزم بتلقي أئمة الحديث هذا الحديثَ بالقبول بطريقتين:
١) كثرة أصحاب السنن، والمسانيد، والمعاجم، وكتب التراجم، والعقائد الذين روَوْا هذا الحديث دون إنكارٍ لمتنه.
٢) كثرة الكتب التي صُنفت في «الملل والنحل»، منها: [الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل] لابن حزم، و[الفرْق بين الفرَق، وبيان الفرقة الناجية] لعبد القاهر البغدادي، و[مقالات الإسلاميين] لأبي الحَسن الأشعريّ (^١)
وممن صححه: الذهبي، والعراقي، والشاطبي، والبيهقي، والبَغَوي، وابن حَجَر، وابن كَثير، والحاكم، والذَّهَبي، والتِّرمذي، والسيوطي، وابن الوزير، وقال فيه السخاوي: رجاله موثقون، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. فهوحديث أتى من جملة من الطرق يقوى بعضها بعضًا، فيرتقي إلى الصحة. والله أعلم (^٢).
وقد ذكره الكتاني في كتابه [نَظْم المتناثر من الحديث المتواتر/ ١٨]. وكذلك عدَّه الإمام السيوطي من الأحاديث المتواترة (^٣)، ولكن دعوى القول بتواتره فيها نظر، بل نقول: إن التواتر في هذا الحديث تواترٌ معنويّ، فقد جاءت جملة من الأحاديث تحمل المعنى نفسَه، مثل: قول النبي ﷺ: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا»، وكذلك حديث الحوض، وأنه سيرِد ناس على الحوض، ثم يردُّون عنه، لأنهم قد خالفوا سنة النبي ﷺ، وتفرقوا واختلفوا.
فالحاصل أن هذا الحديث حديث متواتر من حيث المعنى.
* وقد تكلم البعض في تضعيفه، فمنهم من ضعفه بالرأي، ومنهم من ضعَّفه من ناحية إسناده، والذين ضعفوه بالرأي قالوا:
إنه بناءً على هذا الحديث سيكون أكثر
_________
(^١) بشرى المشتاق لحديث الافتراق للشيخ سليم الهلالي.
(^٢) قد صُنفت رسائل في جمع طرق حديث الافتراق، وبيان ألفاظه ومَخارجه على سبيل التفصيل، ومن ذلك: دفْع المِراء عن حديث الافتراق لحمد العثمان.
(^٣) فيض القدير (٢/ ٢١).
1 / 21
هذه الأمة هَلْكى؛ لأن النبي ﷺ قال: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة».
يخالف ما أخبر عنه النبي ﷺ، أن أمته نصف أهل الجنة، كما ورد ذلك في الصحيحينِ.
الرد على هذه الشبهة:
قال أبو العباس ابن تيمية: "الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلًا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة". (^١).
يقول الإمام الصَّنعانيّ:
"هذه الفرق المحكوم عليها بالهلاك قليلة العدد، لا يكون مجموعها أكثر من الفرقة الناجية. فلا يتم أكثرية الهلاك، فلا يرِد الإشكال.
وإن قيل يمنع عن هذا أنه خلاف الظاهر من ذكر كثرة عدد فرق الهلاك، فإنّ الظاهر أنهم أكثر عددًا!! قلتُ: ليس ذكر العدد في الحديث لبيان كثرة الهالكين، وإنما هولبيان اتساع طرق الضلال وشعبها ووحدة طريق الحق". اهـ (^٢).
قال الشيخ صالح المُقْبلي:
"إن الناس عامة وخاصة، فالعامّة آخِرُهم كأولهم، كالنساء والعَبيد والفَلّاحين والسُّوقة ونحوهم ممن ليس من أمر الخاصة في شيء، فلا شك في براءة آخِرهم من الابتداع كأولهم، وهم الأكثر عددًا قديمًا وحديثًا، وأما الخاصة فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها أصلًا يردُّ إليها صرائح الكتاب والسنة، ثم تبعه أقوامٌ مِن نَمَطِهِ في الفقه والتعصُّب، وهؤلاء هم المبتدعة حقًّا عند الله تعالى،
_________
(^١) مجموع الفتاوى (٣/ ٣٤٥، ٣٤٦).
(^٢) افتراق الأمة إلى نَيِّفٍ وسبعينَ فِرقةً (ص/٦٦).
1 / 22
وأفراد الفرق المبتدعة وإن كَثُرَت الفرق، فلعله لَا يكون مجموع أفرادهم جزءًا من ألف جزء من سائر المسلمين؛ فتأملْ هذا تَسلَمْ من اعتقاد مُناقَضة الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة". اهـ (^١).
وعليه فهذه الفرق (كثرة في الأعداد، لا في الأتباع)
فإن قيل: حديث الباب معارض لما ورد في قوله ﷺ:
«أمتي هَذِهِ أُمَّةَ مَرْحُومَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ، وَالزَّلَازِلُ، وَالْقَتْلُ». (^٢)
يقال:
إن هذا الاختلاف الواقع بين فرق هذه الأمة -أمة الإجابة- هو اختلاف لا يؤدي بها إلى الخلود في النار، بل غاية ما فيه إنما هو استحقاق العذاب، ولا يعني بأنها مرحومة أنها لن تُعذَّب، بل تؤول الرحمة على نفي الخلود في النار، لا أصل العذاب.
*وثمة جواب آخر: أن قوله ﷺ: «كلها في النار» غاية ما فيه: أن هذا الحديث من أحاديث الوعيد، فهذه الفرق قد أتت بما تستحق عليه العذاب، وأحاديث الوعيد قد يتخلَّف وقوعها لموانع أخرى، والتي منها: أن تدركهم رحمة الله تعالى، أو شفاعة النبي ﷺ، أو شفاعة الصالحين.
بل إن نجاة الفرقة الناجية نفسِها لا يلزم منها عدمُ تعذيبها، فهم نَجَوْا بعقائدهم نَعَم، لكنهم سيحاسبون على أعمالهم، والمخالف منهم والعاصي مستحق للعذاب.
_________
(^١) العَلَمُ الشّامِخ في إِيثار الحقِّ على الآباء والمَشايخ (ص/ ٤١٤).
(^٢) أخرجه أحمد (٤١٠) وأبوداود (٤٢٧٨) وذكره الألبانى في الصحيحة (٩٥٩)، وقال: "قال الحافظ ابن حجر في " بذل الماعون ": " سنده حسن ".
1 / 23
أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:
الفائدة الأولى:
هذا الحديث قد ذكر تفرق الأمة يُعد عَلَمًا من أعلام النّبوّة الذي تنبأ به النبي ﷺ، وقد وقع بالفعل، والتفرق أمر قدَري كوني قد قدَّره الله تعالى، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٨ - ١١٩].
قال ابن كَثيرٍ:
"ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مِللهم ونِحَلهم ومذاهبهم وآرائهم؛ وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ أيْ: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أُمروا به من الدين، فأهْلُ رَحْمَتِهِ لا يختلفون" (^١).
وعن خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ﵁ أن النبي ﷺ قال: سَأَلْتُ رَبِّي ﷿ ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي ﷿ أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي ﷿ أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا، فَمَنَعَنِيهَا " (^٢).
٢ - الفائدة الثانية:
قول النبي ﷺ: «وستفترق أمتي...».
وهنا سؤال: ما المقصود بقوله ﷺ: «أمتي»؟
نقول:
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نعلم أولًا أن أمة النبي ﷺ تأتى على عدة معانٍ:
١ - المعنى الأول: أمة الدعوة، وتسمَّى أيضًا " أمة التبليغ ":
فهُم جميع من بُعث إليهم النبي ﷺ، وقد بُعث ﷺ للناس كافة.
_________
(^١) فتْح القَدير (٢/ ٦٠٧)، وتفسير القرآن العظيم (٤/ ٣٦١).
(^٢) رواه أحمد (٢١٠٥٣) والنسائي (١٦٣٨)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٢٤٣٣)
1 / 24
قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨» (سبأ: ٢٨)
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». (^١)
وقال النبي ﷺ: «... وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» (^٢)، فيدخل في ذلك: أهل الكتاب، وغيرُهم.
٢ - المعنى الثاني: أمة الإجابة:
وهم الذين استجابوا لدعوة الرسول ﷺ، ودانوا بدين الإسلام، وذلك يشمل كل مسلم، وإن كان واقعًا في جملة من البدع المفسقة التى لا تُخرج من دائرة الإسلام.
وهم المعنيون بقوله ﷺ في حديث الباب:
" وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً ".
٣ - المعنى الثالث: أمة الاتباع:
وهم الذين سلكوا نهج أهل السنة والجماعة، فساروا على هَدى النبي ﷺ، وهم في ذلك ليسوا على درجة واحدة في الاتباع.
وعليه فهُم أخصُّ من أمة الإجابة، فهي الفرقة الناجية التي وردت في حديث الباب، وذلك في قوله ﷺ: «مَا كان على مِثل ما أَنَا عَلَيْهِ اليومَ وَأَصْحَابِي»
فهي كل من اتبع أصول الاعتقاد التي بُعث بها النبي ﷺ، فكان على الأصول العامة لمنهج أهل السنة والجماعة، حتى وإن كان مقصرًا في جانب العبادات العملية.
*وهنا نعود للسؤال:
لأي المعاني نوجه قوله ﷺ: «وستفترق أمتي...»؟
هل هي أمة الدعوة أم أمة الإجابة أم الاتباع؟
أما أهل البدع فتراهم يفسرون هذا الحديث فيقولون: إن النبي ﷺ إنما قصد بقوله «وستفترق أمتي...» أمة الدعوة.
_________
(^١) أخرجه مسلم (١٥٣).
(^٢) متفق عليه (١٠٣ (.
1 / 25
فإذا سألتَ: فما مقصدهم من ذلك؟
نقول:
إنما أرادوا أن يؤسسوا أصلًا باطلًا، وهو أن الافتراق الذي عناه الرسول ﷺ إنما هو افتراق الناس إلى المِلل، وليس افتراق أهل الإسلام إلى مذاهب وفرق تنتسب إلى الإسلام، هكذا قالوا.
وعليه فتكون الفرقةُ الناجيةُ التي قال عنها الرسول ﷺ: هي «الْجَمَاعَةُ» - وفي رواية: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» - على تفسيرهم:
هي كل من قال: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، سواء أكان جَهْميًا أم حُلوليًا أم قدَريًا أوقُبوريًا.
وقالوا:
إن الشرك لن يقع في الأمة؛ لحديث النَّبِي ﷺ:
«وَاللَّهِ، مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا»، أي: أن تتنازعوا وتختصموا على الدنيا) (^١)، وقول النَّبِي ﷺ:
«إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (^٢).
*والصحيح - والله أعلم - أن المراد بقول ﷺ: " «وستفترق أمتي...» ":
هى أمة الإجابة، وليست أمة الدعوة؛ وإنما رجحنا هذا المعنى للسباق والسياق واللِّحاق، ففي السباق ذكر الرسولُ ﷺ افتراق اليهود والنصارى، وهي أمة الدعوة،، وفي اللحاق ذكرَ ﷺ الفرقةَ الناجية، فقال:
«مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي». وفي السياق ذكرَ ﷺ قوله: «وستفترق أمتي...»، فدل أن النبي ﷺ قصد أمة الإجابة فَقَطْ.
ومما يؤيد ذلك:
قوله ﷺ: «وستفترق أمتي...»، أي: إنه أمرٌ سوف يحدث في المستقبل، وأما افتراق اليهود والنصارى فقد تفرقت قبل ذلك؛ ومما يؤيد ذلك: أن المتتبع لفظة "أمتي" التي وردت في الألفاظ النبوية يجد أنها
_________
(^١) رواه البخاري (١٣٤٤).
(^٢) أخرجه مسلم (٢٨١٢).
1 / 26