The Crusade against the Islamic World and the World
الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم
Yayıncı
صوت القلم العربي
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
Yayın Yeri
مصر
Türler
يوسف العاصي الطويل
حملة بوش الصليبية
على العالم الإسلامي والعالم
وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى ونهاية العالم
الجذور- الممارسة- سبل المواجهة
Bilinmeyen sayfa
قال تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٤ - ٨].
صدق الله العظيم
1 / 5
إهداء
إلى الأقصى السجين، وفلسطين المغتصبة ...
إلى أفغانستان المنسية، والعراق المنكوب ...
إلى القائمة الأمريكية الطويلة من الإرهابيين ... !
إلى كل مسلم ليعرف مسئوليته التي سيحاسب عليها يوم لا ينفع مال ولا بنون ...
إلى القائمة الطويلة من الأمميين ..
مسيحيين ومسلمين وغيرهم ..
مستحقي لعنة (شعب الله المختار) من اليهود والصهيونيين المسيحيين ...
هذا نداء عاجل للتصدي للهجمة الدونية الوحشية للصليبين الجدد ..
الذين نشروا الحرب والدمار في كل مكان حلوا به ..
بدءً من إبادة الهنود الحمر واستعباد زنوج أفريقيا ..
مرورًا بنهب أمريكا اللاتينية وتدمير أوروبا وإذلال آسيا ..
وانتهاءً بما يحدث في فلسطين وأفغانستان والعراق .. ومن سيتبعهم.
إلى هؤلاء جميعًا أهدى هذا الكتاب
المؤلف
يوسف العاصي الطويل
1 / 6
إهداء خاص
إلى روح من علمني معنى الحب والوفاء وحب الخير لكل البشر .. والذي كانت حياته مثالًا رائعًا للتعايش والصداقة بين الشعوب بمختلف ألوانها وأديانها ... والذي جعلني أصل إلى يقين ثابت بأن هؤلاء الأنجلوسكسون دعاة صراع الحضارات وثقافة الهمبرجر والبيبسي كولا لن يطول تسلطهم على العالم .. وان نهج المحبة والإخاء والصداقة بين الشعوب سينتصر .. فالطبيعة الخيرة والمحبة موجودة في كل مكان في العالم .. وكما لفظت حضارات العالم القديم دعاة الحروب والعنصرية والحقد والتعالي وجعلتهم يتوهون في أرجاء الأرض .. فستلفظ حضارتنا المعاصرة هؤلاء أيضا، وسيكون العالم مقبل على مرحلة جديدة من تلاقح الحضارات ...
أخي الحبيب سامي
لطالما انتظرت صدور هذا الكتاب .. وكنت على علم بكل صغيرة وكبيرة فيه .. وكانت الأفكار قبل أن تجد طريقها إليه تمر أمامك فتضيف إليها الكثير من روحك المشبعة بالمحبة والكارهة للظلم والغطرسة ..
وها هو الكتاب يصدر ويرى النور وأنت بعيد عنا بجوار ربك الرحيم .. هكذا شاء القدر .. وهكذا هي الحياة ... لقد رحلت قبل إن ترى هذا الكتاب .. ولو كنت حيًا لفرحت من قلبك .. فأنا اعرف الناس بك .. اعرف كيف كنت تحب الله وتحب الحياة والناس.
1 / 7
برحيلك أيها الحبيب رحل أخي وصديقي ذو القلب الأبيض الناصع البياض الطفل الرائع .. الذي آمن بالله صدقًا فأحب الأرض والناس .. وعاش من اجل الناس .. لقد كنت تكره منظر الدماء حتى لو كانت ذبحًا حلالًا .. وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقين .. وتحزن بعمق لخبر عن كارثة أصابت بشرًا على الشاطئ الآخر من بحر الظلمات.
إلى روحك الطاهرة ..
والى اسرتنا الصغيرة زوجتى حنان وابنائي محمد وعبد الرحمن وعمر والى غالية وفاطمه ولما وزين وعبد الله وخليفه ويمنى الذين احبتتهم جميعا واعطيتهم كل ما تستطيع ..
اهدي هذا الكتاب
أخوك
يوسف الطويل
1 / 8
تقديم
بالرغم من أنه مضى أكثر من ١٨ عامًا على صدور كتابي (الصليبيون الجدد .. الحملة الثامنة) -حيث كان ينشر على حلقات في جريدة الخليج الإماراتية (١) - إلا أنني اشعر في كل مره تمر بها امتنا العربية والإسلامية بلحظات عصيبة، بالحاجة إلى إعادة نشره والتذكير به، وبالذات عندما يكون الأمر متعلقًا بأمريكا وبريطانيا ومشروعهما الصليبي في المنطقة (إسرائيل).
فهذه المدة الطويلة التي مرت على أول مره نشرت بها الدراسة لم تفقدها أهميتها وموضوعيتها في تفسير ما يجرى على الأرض العربية، بل أكدت الحاجة إلى إعادة نشرها وتنقيحها، وبالذات وأنها تعالج موضوع حساس ومصيري للأمة العربية والإسلامية وهو أسباب تحيز أمريكيا وبريطانيا السافر لإسرائيل وعداءهما لكل ما هو عربي وإسلامي، حيث لم تكتفي هاتان الدولتان بزرع إسرائيل في قلب الأمة العربية ومدها بكل أسباب الوجود، بل لجأت خلال القرن الحالي إلى محاربة وتدمير أية قوة عربية أو إسلامية يمكن أن تهدد إسرائيل، وسعتا بكل ما أوتيتا من قوة إلى تفكيك العالم الإسلامي وأضعافه بكل الوسائل، مستخدمة مبررات وألاعيب مختلفة، والتي كانت للأسف تنطلي على العرب والمسلمين مره باسم التحرر من السيطرة العثمانية ومحاربة النازية والفاشية، وأخرى باسم محاربة المد الشيوعي والقومي، وثالثة بدعوى نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأخيرًا بدعوى محاربة الإرهاب.
ولسنا هنا بحاجة كبيرة إلى إمعان النظر لنتبين الدور الخبيث الذي لعبته هاتان الدولتان مجتمعتين أو منفردتين في تقسيم الدول العربية جغرافيًا وسياسيًا، ونهب ثرواتها، ومحاربة توجهاتها الوحدوية والنهوضوية، ابتداءً من وعد بلفور ومعاهدة سايكس بيكو ومرورًا بحرب ٤٨، ٥٦، ٦٧، ٧٣، وحرب لبنان ٨٢، حتى حرب الخليج، التي دمرت خلالها القوة العسكرية والاقتصادية للأمة العربية، وفرض عليها الجلوس على طاولة المفاوضات مع إسرائيل خاوية اليدين.
_________
(١) نشرت هذه الدراسة ما بين ٦/ ٢/١٩٨٩ - مارس ١٩٨٩ في جريدة الخليخ الاماراتية على حلقات تحت عنوان اليهود في التراث الديني المسيحي.
1 / 10
أما حربها الحالية ضد ما تسميه بالإرهاب التي وضعت على قائمتها ٦٠ دوله غالبيتها العظمى، إسلامية وعربية، بدأتها بأفغانستان وفلسطين والعراق، وتقف في الانتظار، دول مثل إيران وسوريا ولبنان والصومال وليبيا والسودان، وحتى دولًا تعتبر حليفه لأمريكا مثل السعودية ومصر .. الخ، فالحديث عنها يطول، ويبدو أن أمريكيا وبريطانيا تريدان أن تتوجا حملتهما الصليبية على العالم الإسلامي والعربي والتي بدأت قبل أكثر من قرنين من الزمن، بهذه الحرب الفاصلة، حيث اتخذتا من أحداث ١١ سبتمبر مبررًا لشن هذه الحملة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان بدعوى محاربة الإرهاب. وقد قمت في حينه وبعد أحداث ١١سبتمببر مباشرة بنشر دراسة عن هذه الحملة في عدد من الصحف والمجلات العربية وعبر مواقع الإنترنت، بينت فيها البعد الديني لهذه الحملة وكيف أن بوش عندما أعلن أنها حرب صليبية فأنه كان يعنى ما يقول حرفيًا، وبينت أيضا كيف أن أحداث ١١ سبتمبر هي من تدبير أمريكي لا علاقة للمسلمين بها من قريب أو بعيد، ولكن قامت الإدارة الأمريكية والتيار الديني الأصولي المسيحي الذي يحكم أمريكيا الآن بافتعال هذه الأحداث لتبرير شن هذه الحملة على العالم الإسلامي، حيث يؤمن إتباع هذا التيار الأصولي بخرافات ونبوءات توراتية تقول بضرورة قيام معركة فاصلة بين قوى الخير والشر تسمى هرمجيدون في ارض فلسطين كمقدمه ضرورية لعودة المسيح المنتظر الذي سيحكم العالم من مقره في القدس.
فقد كانت حرب أفغانستان هي البداية الأولى لهذه الحرب التي تسميها أمريكيا حرب الإرهاب والتي صرح الرئيس بوش بأنها ستشمل ٦٠ دوله وستستمر لعدة سنوات، حيث يسعى التيار المسيحي الأصولي الذي يحكم أمريكيا الآن، بكل الوسائل إلى تطبيق وإخراج النبوءات التوراتية على ارض الواقع ولو كان ذلك بافتعال الأحداث وإخراجها كما يريد، وهذا ما حدث في أحداث ١١ سبتمبر، وما تلاها من أحداث، حيث اجمع كافة المختصين والمحليين استحالة تنفيذ هذا العمل من قبل تنظيم كتنظيم القاعدة أو إيه جهة خارجية، نظرًا للإمكانيات والتدريب والمعلومات الدقيقة التي لا تتوفر إلا لشخصيات قيادية في المخابرات أو الجيش الأمريكي. كما أن الولايات المتحدة لم تستطع حتى هذه اللحظة الآتيان بديل مقنع على تورط تنظيم القاعدة
1 / 11
في هذه العمليات. لهذا نؤكد أن كل ما حدث ليس إلا تدبير أمريكي مسبق لخلق الذرائع والمبررات لشن هذه الحملة الصليبية على العالم الإسلامي، خدمه لمشروعها الصليبي في المنطقة والمتمثل في دولة إسرائيل.
ونفس الشيء يقال عند محاولة معرفة الأسباب الحقيقة لحرب أمريكيا على العراق الشقيق الذي تعرض لمدة أكثر من ١٣ عامًا لحرب شرسة وحصار همجي وحاقد شنته كلا من بريطانيا وأمريكيا بحجج ومبررات مختلفة، بدأت بدعوى تحرير الكويت وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وعمل لجان لتفتيش وأخيرا قامت باحتلاله بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل ... الخ.
ولسنا هنا في سبيل الخوض في هذه الدعاوى والمبررات التي افتعلها أمريكيا والتي يعلم القاصي والداني بطلانها وأنها ما هي إلا شعارات تخفى أمريكيا وراءها الأسباب الحقيقية ومخططاتها الخبيثة في المنطقة العربية والتي تصب في خدمة مشروعها الصليبي في المنطقة والذي يحتل وجود إسرائيل جوهر هذا المشروع الصليبي الذي بدأ التخطيط والتنفيذ له منذ قرون طويلة مع ظهور المذهب البروتستانتي.
فليس مصادفة أن تتزامن هذه الحملة الانجلوسكسونية (الانجلوأمريكية) على كثير من الدول والمنظمات وحركات المقاومة الإسلامية مع هجمة مماثلة يشنها العدو الصهيوني على شعب فلسطين، حيث وصلت عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى طريق مسدود بسبب تعنت الحكومة الإسرائيلية وممارساتها المناقضة لكل ما اتفق عليه سواء في مؤتمر مدريد أو في اتفاقيات أوسلو والتي تم التوصل إليها جميعا برعاية وضمانة أمريكية، حيث كان من المفترض أن تمارس الأخيرة دورها في الضغط على الجانب الإسرائيلي لإجباره على تنفيذ ما اتفق عليه. ولكن الذي حدث أن الولايات المتحدة لم تقم بدورها المطلوب، بل اختارت أن تكون في خندق واحد مع الجانب الإسرائيلي، وعملت كل ما في وسعها من اجل تمرير السياسة الإسرائيلية المناقضة لاتفاقيات السلام، بحيث أصبح التفريق بين الموقف الإسرائيلي والموقف الأمريكي من أصعب الأمور، بل إننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أن التعنت الإسرائيلي أضحى مطلبًا أمريكيًا بالدرجة الأولي.
1 / 12
ولسنا هنا في مجال تقييم اتفاقيات السلام لان ذلك لا يدخل ضمن أهداف هذا الكتاب، ولكن الذي نريد توضيحه والتركيز عليه هو تحديد ماهية الصراع الدائر في منطقتنا منذ قرن من الزمن، وتحديد أبعاده والمتغيرات التي يمكن أن تؤثر فيه، ودوافع الدول التي تدعمه وتقف وراءه وتعمل كل ما بوسعها من اجل استمراره وترسيخ وجود الظاهرة الإسرائيلية في المنطقة، وذلك بعيدًا عن كل ما يقال عن اثر اللوبي والصوت الانتخابي اليهودي وظروف الحرب الباردة وغيرها من الأقاويل التي أثبتت الأحداث عدم صحتها إطلاقا، حيث سنركز في هذه الدراسة على البعد الديني للصراع، والذي يمكن أن يوضح لنا طبيعة العلاقة القائمة بين إسرائيل والدول الداعمة لها وعلى رأسها بريطانيا وأمريكيا، والسبب الذي يدفع هذه الدول إلى تبني المطالب الصهيونية والدفاع عنها باستماتة.
في كلمة ألقاها بنيامين نتنياهو أثناء صلاة الصباح التي يقيمها المسيحيون الأمريكيون لإسرائيل، في مستهل فبراير ١٩٨٥م عندما كان سفيرًا لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، أشاد نتنياهو بـ "الزمالة التاريخية بين المسيحيين المؤمنين واليهود، لان هذه الزمالة قد عملت بنجاح على تحقيق الحلم الصهيوني".
وفي كلمته تعجب نتنياهو كثيرًا من جهل أولئك الذين يجدون مدعاة للدهشة فيما يقدمه المسيحيون الأمريكيون الإنجيليون من تأييد قوى وراسخ لإسرائيل ويصورونه كظاهرة جديدة، حيث قال: "فأولئك الذين يعرفون التاريخ الحقيقي للانخراط المسيحي العميق في الحركة الصهيونية لا يجدون أي مدعاة لأية دهشة أو تساؤل بشأن الدعم القوى الذي يقدمه لإسرائيل كل المسيحيين المؤمنين في العالم .. والذي جعل الكتاب والقساوسة والصحفيين ورجال الدولة - بريطانيين وأمريكيين - دعاة متحمسين لإعادة اليهود إلى وطنهم، حيث لم تكن هذه الصهيونية المسيحية قاصرة على الدعوة أو المثاليات بل امتدت إلى الخطوات العملية اللازمة لتحقيق ذلك الذي كان حلمًا ".
هذا ما قاله نتنياهو قبل أكثر من ٢٣ عامًا، عندما كان سفيرًا لبلاده في أميركيا، وها هو الآن يستعد لترأس الحكومة الإسرائيلية التي لن نقول عنها أنها ستكون أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفًا وسعيا ً إلى التوسع فحسب، بل نضيف إلى
1 / 13
ذلك إنها ستكون أكثر الحكومات إدراكا ووعيا لحقيقة الموقف الأمريكي الرسمي والشعبي من الصراع الدائر في المنطقة. فنتنياهو تربى وتعلم في أمريكيا وعمل سفيرًا لبلاده فيها، وتعرف خلال وجوده فيها عن قرب على التيار المسيحي الديني الداعم لإسرائيل، وسعى هذا التيار لتحقيق المشروع الصهيوني بكامله، انطلاقًا من إيمان أتباعه بنبوءات توراتية تعتبر إقامة إسرائيل وعودة اليهود إليها وبناء الهيكل مقدمات ضرورية لعودة المسيح الثانية، وبداية العصر الألفي السعيد حيث سيحكم المسيح العالم من مقره في القدس!! وانطلاقًا من إدراك نتنياهو لهذه الحقائق فقد حرص خلال عمله في أمريكيا وحتى بعد توليه رئاسة الوزراء على التقرب إلى هذا التيار والاجتماع بزعمائه ومؤيديه لكسب دعمهم وتأييدهم لكل ما يقوم به.
ففي الوقت الذي كان الجيش الإسرائيلي يتصدى بكل وحشية للمظاهرات العارمة التي اندلعت في فلسطين عام ١٩٩٦ م بسبب إقدام الحكومة الإسرائيلية على افتتاح نفق بالقرب من المسجد الأقصى، كان نتنياهو يحضر اجتماعًا لمئات المسيحيين البروتستانت أعضاء السفارة المسيحية الدولية في مدينة القدس، غير عابئ بالانتقادات الدولية لهذا القرار، حيث ألقى أمام المجتمعين خطابًا حماسيًا مثيرًا، أكد فيه انه لن يغلق النفق وان القدس ستظل العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، حيث قوبل خطابه بالتصفيق الحاد والتهليل، وقام بعض القساوسة الحاضرين بمباركة نتنياهو، وامسك به أحدهم ووضع يده على رأسه وهو يرتدى القبعة اليهودية، واخذ يقرأ عليه الأدعية والابتهالات الإنجيلية داعيًا الله أن يمده بالقوة للثبات على موقفه، وفي نفس الوقت كان جميع الحاضرين في القاعة يرددون كلمة آمين. وخلال هذا الاجتماع قام نتنياهو بإهداء المجتمعين مجسم لمدينة القدس خالي من أي اثر للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، حيث وضع مكانهما مجسم للهيكل اليهودي.
ولسنا هنا في مجال سرد للوقائع والشواهد الكثيرة التي توضح اثر العامل الديني في كسب تعاطف المسيحيين البروتستانت، مع دولة إسرائيل وعدائهم لكل ما هو عربي وإسلامي، لأننا لو فعلنا ذلك سنكون بحاجة إلى عدة كتب لتسجيل ذلك. كما أننا لو أردنا متابعة الأحداث الجارية والتصريحات والشواهد اليومية الصادرة عن
1 / 14
المسيحيين البروتستانت فإننا سنضطر لإعادة كتابة هذا العمل كل شهرين أو ثلاثة تقريبًا .. ولكننا نكتفي بما ورد في هذا الكتاب من معلومات، والتي نعتقد بأنها كافية لإلقاء الضوء على البعد الديني وأثره في تشكيل السياسة الأمريكية والبريطانية ليس فقط تجاه فلسطين، بل تجاه الأمة العربية والإسلامية .. والعالم، وهذا سيمكننا من معرفة الدوافع الحقيقية لحملتهما الصليبية على العالم الإسلامي، بعيدًا عن كل المزاعم التي تحاول أمريكيا وأعوانها ترويجها مثل القول بان الهدف هو محاربة الإرهاب، أو غيرها من الأقوال والمبررات التي أصبح القاصي والداني يدرك بطلانها وعدم كفايتها لتبرير كل هذا الحقد والكراهية التي لا تذخر أمريكا جهدًا في صبها على امتنا العربية والإسلامية، ممثلة في فلسطين والعراق وليبيا والسودان وإيران وأفغانستان .. الخ.
فما يحدث في أفغانستان والعراق لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته العضوية بما يحدث في فلسطين، وسياسة أمريكيا وبريطانيا تجاه العراق والعالم العربي والإسلامي لا يمكن فهمها إلا من خلال علاقتهما المباشرة بسياستها تجاه فلسطين. وسياسة أمريكيا وبريطانيا تجاه فلسطين لا يمكن فهمها فهمًا صحيحًا بعيدا عن بعدها الديني المرتبط بالمذهب البروتستانتي السائد في هذه الدول الذي أعطى إسرائيل دورًا مركزًا في نظرة هذه الدول للعالم، ودوره في تشكيل العقل والفكر الأمريكي منذ البدايات الأولى وحتى الآن، حيث لم يكن بعيدا عن كل ذلك ما جرى للهنود الحمر والزنوج في أمريكا، أو ما حدث في فيتنام وهوريشيما وأمريكا اللاتينية، فكان الدين حاضرًا في كل تلك المشاهد، وكان التراث الديني المستمد من التوارة ونبوءاتها وتفسيراتها هو المحرك لكل ما جرى من حروب صليبية لتطهير أمريكا من الهنود الحمر، ولنهب واستغلال شعوب العالم الاخرى بدعاوى مختلفة، حيث حرص قادة المجتمع الأمريكي السياسيين والروحانيين على السواء، بأن يتخذوا مواقفهم منذ نشأة جمهوريتهم وحتى الآن، على قمة متاحة من الأرض الأخلاقية العالية، مستمدين باستمرار السند والمبرر لكل تصرف أمريكي في شؤون أمريكا والعالم من الدين والأخلاقيات العليا، ومن المصطلحات ذات الرنين الأخلاقي القوى، كـ "الحقوق الإنسانية"، "والقانون الدولي"، و"الحضارة" وما أشبه، ومسبغين على
1 / 15
أنفسهم وعلى بلدهم عباءة الاضطلاع بعبء رسالة حملت العناية الإلهية ذاتها لا أقل، الأمة الأمريكية بها لصالح البشر جميعًا.
وقبل أن اختم هذه المقدمة أود الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن هذا الكتاب، لا يهدف إلى القول بأن كل مسيحيي العالم يدعمون إسرائيل ويؤيدون ما تقوم به في فلسطين، بل إن هذا الأمر مقتصرٌ فقط على إتباع المذهب البروتستانتي الذين ينتشرون في أمريكيا وبريطانيا وبعض الدول الأوربية واستراليا، أما الطوائف المسيحية الأخرى - كاثوليك وارتوذكس - فلا يؤمنون بالتفسيرات والنبوءات التوراتية الخاصة بإسرائيل كما وردت في الإنجيل، ولهم موقفهم الخاص من اليهود وإسرائيل، والذي يصل إلى حد العداء. فالصليبيون الجدد الذين نتحدث عنهم في هذا الكتاب، هم أتباع المذهب البروتستانتي، الذي ظهر مع ما سمي بحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. أما بالنسبة لموقف المسيحيين العرب، فلا مجال هنا للمس بهم وبمواقفهم المشرفة عبر التاريخ وبنضالهم في سبيل نصرة قضايا أمتهم العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، حيث شاركوا بكل قواهم في التصدي للخطر الصهيوني، سواء بدمائهم أو بأقلامهم التي كانت لها صولات وجولات في فضح الخطر الصهيوني، والتصدي له من خلال كتابات ومواقف كثيرة.
إن هذه الإشارة وهذا التوضيح كان ضروريًا، حتى لا يظن البعض أننا نهدف إلى تصعيد الصراع بين المسيحية والإسلام في وقت حقق الحوارـ بين الإسلام وممثلي الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، تفاهما واتفاقًا حول كثير من الأمور، والذي نتمنى أن يستمر للوصول إلى تعايش وتعاون مثمر بين أتباع الديانتين، بعيدًا عن محاولات التهويد المنظم التي تخضع لها الفرق المسيحية البروتستانتية. كما إن هذا التوضيح كان ضروريا حتى لا يوضع المسيحيون العرب موضع الاتهام عن جهل أو سوء نية، فالتعايش المسيحي الإسلامي في عالمنا العربي سيظل شاهدًا على التسامح والتعاون المثمر بين الأديان بالرغم من كل المحاولات التي يقوم بها أعداء أمتنا العربية من أجل تعكير صفو هذا التعايش.
والكتاب الذي بين أيدينا ينقسم إلى خمسة أقسام، تعالج جميعها موضوع رئيس وهو أثر البعد الديني في تشكيل السياسة العدائية البريطانية والأمريكية
1 / 16
تجاه قضية فلسطين والمنطقة العربية والإسلامية .. والعالم، حيث ركزنا في الباب الأول، على إبراز الجذور التاريخية لعلاقة المسيحيين باليهود، والانقلاب الذي حدث لهذه العلاقة مع ظهور المذهب البروتستانتي وانتشاره في بريطانيا وأمريكا؛ نتيجة للأفكار التي جاء بها هذا المذهب والتي مهدت السبيل إلى إقامة إسرائيل وإعادة اليهود إليها، من خلال سعي إتباعه إلى تحقيق ذلك منذ أكثر من أربعة قرون، وقبل ظهور الحركة الصهيونية، وبينا كيف أن الساسة البريطانيين والأمريكيين كانت ولازالت النظرة الدينية البحتة، هي التي تحكم مواقفهم تجاه قضية فلسطين والعالم الإسلامي.
وفي الباب الثاني عالجنا الأبعاد الدينية للهجمة الأنجلو أمريكية الشرسة على العراق وعلاقتها بمخطط إسرائيل الكبرى ومعركة هرمجيدون، حسب ما جاء في نبوءات التوراة الحاقدة للانتقام من بابل العراق التي سبت اليهود أيام نبوخذ نصر، وليس كما تزعم أمريكا بأنها جاءت لتحرير الكويت أو لتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية.
أما في الباب الثالث فقد عالجنا ما سميناه حملة بوش الصليبية على العالم الإسلامي والتي كانت بدايتها مع أحداث ١١ سبتمبر، والتي اتخذتها إدارة بوش ذريعة لتنفيذ مخططها الرهيب والشيطاني في طول وعرض العالم الإسلامي؛ ولتطلق يدها في شن حرب تشمل ٦٠ دولة غالبيتها إسلامية وتستمر لعدة سنوات تحت مسمى مكافحة الإرهاب. حيث أوضحنا أن هذه الأحداث ما هي إلا صناعه أمريكية، ليست بعيده عن صناع القرار الأمريكي والجماعات الأصولية المسيحية الإرهابية، وأن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن ليس لهما علاقة بهذه الأحداث. وأن الأولى بالملاحقة هم أتباع التيار الديني الأصولي المسيحي المتطرف، الذين يشكلون خطرًا ليس فقط على العرب والمسلمين، بل خطرًا على العالم بأسره من خلال إيمانهم بأفكار ومعتقدات عنصرية حاقدة على الإنسانية جمعاء، والتي تستدعى وقفه واعية وشجاعة من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية - في شقها الكاثوليكي والأرثوذكسي - لمواجهة التهويد المنظم للبروتستانتية والذي جعل أتباع هذا
1 / 17
المذهب يقتربون من اليهودية أكثر بكثير من كونهم مسيحيين، حيث أصبح يطلق على حركتهم تسميه الصهيونية المسيحية (١)، والمسيحية منهم براء.
وفي الباب الرابع عالجنا فيه موضوع الإرهاب الأمريكي عبر التاريخ منذ تأسيس أمريكا وحتى الآن، حيث حاولنا إبراز اثر البعد الديني والخرافات التوراتية المتعصبة، في صياغة سياسة أمريكا تجاه العالم أجمع، من خلال إيمان هذه الدولة بخرافات ونبوءات توراتية حاقدة ومتعصبة على البشرية جمعاء، تشرع الإبادة والقتل والسيطرة والنهب على أسس دينية لاهوتية متعصبة، اعتقادًا منها بأن الله اختارها لتحضير العالم، لنوضح حقيقة أن الإرهاب ما هو إلا صناعة أمريكية مارسته ضد شعوب العالم أجمع باسم الشعارات الكاذبة من نشر للحرية والديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان ... ابتداءً من إبادة الهنود الحمر واستعباد العبيد ومرورًا بحروب أمريكيا الخارجية في أمريكا اللاتينية وأوروبا وفيتنام وكوريا والعراق وأفغانستان، والتي راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر. وعرضنا في هذا الفصل للإرهاب الأمريكي الداخلي، وللعديد من المنظمات الإرهابية الأمريكية المتطرفة التي تنطلق من منطلقات عنصرية متطرفة تشكل خطرًا على العالم اجمع، حيث بينا أثر البعد الديني التوراتي على تشكيل الإرهاب الأمريكي الداخلي والخارجي.
وفي الباب الخامس والأخير حاولنا وضع تصور لكيفية مواجهه هذه الهجمة الصليبية الدونية على العالم الإسلامي .. والعالم. والتصور الذي وضعناه يقوم في الأساس على ضرورة تعاون وتضامن كافة دول العالم مسيحية وإسلامية وغيرها، من أجل التصدي للخطر الذي تشكله الصهيونية المسيحية على العالم أجمع، والتي قادت العالم إلى أكثر الحروب دمارًا ووحشية في التاريخ، وذلك بمواجهه هذا الخطر من الداخل والخارج وتفعيل حوار الحضارات والأديان وبناء مشروع نهضوي عربي، وتسليط الضوء على دور فلسطين الحضاري وكيف يمكن ان تساهم في هذه المواجهة.
_________
(١) من الجدير بالذكر هنا أن أول من استعمل تعبير (الصهيونية المسيحية) كان ثيودور هرتزل في وصفه لمؤسس الصليب الأحمر الدولي (هنري دونانت) وكان دونانت من الأثرياء الذين مدوا يد العون إلى الحركة الصهيونية، وكان واحدا من شخصيات مسيحية قليلة جدا لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة دعيت إلى المؤتمر الصهيوني الأول في بال انظر كتاب الدين في القرار الأمريكي - محمد السماك - ص١٦.
1 / 18
وأخيرا أرجو أن يكون هذا الكتاب إضافة جديدة للمكتبة العربية، يساهم ولو بقدر بسيط في فهم طبيعة الصراع الدائر في المنطقة، وطبيعة القوى التي تديره، حتى نتمكن من وضع تصور مستقبلي شامل لإدارته، يكون مبنيًا على أسس سليمة وفهم صحيح ومعطيات دقيقة، لأن الخطأ في فهم طبيعة العلاقة بين إسرائيل والقوى العظمى المؤيدة لها، ترتب عليه أخطاء كبيرة في التعامل معها، واتخاذ العلاج الخاطئ للأمور المصيرية، لا ينتج عنه إلا أخطاء فادحة على كافة المستويات.
والحمد لله في البدء والختام
يوسف العاصي الطويل
رفح /فلسطين ٧/ ٢٠٠٧
1 / 19
الباب الأول
البعد الديني للتحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل
تمهيد
على غزارة ما كتب عن القضية الفلسطينية خلال القرن الحالي، فإن هناك صعوبة كبيرة في الكتابة عن بعض جوانبها، وبالذات الجوانب التي تتعلق بأسباب نشوء هذه القضية، والقوى التي عملت على إيجادها. والصعوبة هنا لا تنشأ من القضية ذاتها وعدالتها ووضوح الحق فيها، ولكنها تنشأ من الكتابات العديدة التي كتبت عن هذه النقطة أو تلك، وتناولتها من زوايا متعددة، حتى أصبح تاريخ هذه القضية وكأنه سجل للتاريخ المعاصر بكل تناقضاته وصراعا ته الأيدلوجية والفكرية.
فقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة ومتصارعة، على المستوى العالمي، والعربي، والإسلامي، وحتى الفلسطيني. وامتد هذا التباين حتى برز في داخل الأطر السياسية نفسها، حيث تناقضت الشعارات حتى في الميدان الواحد، ونما التباين حتى أصبح كمية هائلة تحتاج وحدها إلى بحث وتمحيص، ونما القصور والتباين حتى تحول إلى صراع مكشوف أو تنافس مدمر. فعلى المستوى العربي والفلسطيني، لم تخرج معظم التحليلات والكتابات، عن إعتبار إسرائيل حاملة طائرات أمريكية في قلب الشرق الأوسط، وان مهمتها الإمبريالية تكمن في عزل الشرق العربي عن المغرب العربي للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية، التي تستولي على إمكانيات اقتصادية وبشرية وجغرافية وسياسية هائلة.
فمن ناحية ركز الفكر العربي الثوري على حقيقة إسرائيل الإمبريالية، فقال إن هدفها ضرب الأنظمة الثورية المعادية للإمبريالية في المنطقة العربية. والمثقفون العرب من ناحيتهم، حصروا إسرائيل في كونها، كيان استيطاني عنصري مفرز عن العالمية الرأسمالية. أما الإسلاميون فلم يخرجوا في تحليلاتهم عن هذا وذاك، واعتبروا إسرائيل أداه في يد الاستعمار لضرب الصحوة الإسلامية، والحيلولة دون نشوء أي حكم إسلامي ... وقد نسى هؤلاء جميعا عدة حقائق منها:
1 / 20
١ـ إن قضية فلسطين بدأت قبل وجود أي نظام عربي ثوري، وقبل ظهور الحركات الإسلامية المعروفة وحتى قبل استقلال الدول العربية نفسها.
٢ـ إن الدول الشيوعية وعلى رأسها الإتحاد السوفيتي - وهى النقيض للنظام الرأسمالي - كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل عند نشأتها، وكانت أيضا من أوائل الدول التي فتحت أبواب الهجرة على مصراعيه أمام اليهود!
٣ـ إن الإمبريالية الأمريكية تمتلك العديد من القواعد العسكرية والتواجد المباشر وغير المباشر في كثير من الدول العربية، ولكن ذلك لم يحد من تأييدها لإسرائيل.
من هنا فإن الحديث عن الإمبريالية والثورية والوحدة العربيةـ التي لم تتحقق حتى على مستوى قطري - يصبح حديث مبتور لا معنى له. كما أن الحديث عن دور اللوبي الصهيوني والصوت الانتخابي اليهودي في تشكيل هذه السياسة أمر عارً عن الصحة كما سنوضح. ومن هنا لا بد من البحث عن سبب آخر يمكن أن يوضح لنا حقيقة وجود إسرائيل في المنطقة العربية، والقوى التي تقف وراء هذا الوجود، ودوافعها لذلك ... فلا يزال للحديث عن قضية فلسطين سبيل وسعه، فهناك معالم لابد من جلائها وتأكيدها على الدرب الممتد إلى فلسطين ... كل فلسطين. وأول خطوة نود أن نؤكدها هنا، هي ضرورة توحيد التصور الفكري لقضية فلسطين، طبيعتها - القوى التي تقف وراء نشوئها - دوافع هذه القوى وأهدافها. وإذا استطعنا أن نصل إلى هذا التصور فإن علاج هذه القضية وتداعياتها سيكون أمرا سهلًا ... فبدون معرفة الداء لا يمكن وصف الدواء.
أسباب التحيز البريطاني الأمريكي لإسرائيل
هناك تساؤلات كثيرة تطرح نفسها على المتتبع للموقف المتحيز لبعض دول أوروبا بوجه عام، وأمريكيا وبريطانيا بوجه خاص، حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فلا بد وأن الكثيرين سألوا أنفسهم عن أسباب هذا التحيز، وعن المكاسب التي تسعى لتحقيقها هذه الدول من وراء هذا التحيز. وسيجد السائل إجابات عديدة على هذا السؤال، من خلال ربط هذا التحيز بالأطماع الاستعمارية لهذه الدول سواء كانت
1 / 21
اقتصادية أو سياسية أو عسكرية - في هذه المنطقة، هذا بالإضافة إلى ما يقال عن أثر اللوبي الصهيوني في تشكيل هذه السياسة المتحيزة لإسرائيل والمعادية للعرب. فقد اعتاد الناس في عالمنا العربي الإسلامي أن يفسروا التحيز الأميركي لإسرائيل بأسباب سياسية وإستراتيجية، مثل المال اليهودي المؤثر في الحملات الانتخابية، والإعلام اليهودي المتلاعب بالرأي العام الأميركي، والصوت اليهودي الموحد في الانتخابات، ثم موقع إسرائيل رأس حربة في المنطقة العربية، ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة.
وأعتقد أن هذه الإجابات والتفسيرات - عند التأمل - تبدو سطحية وبعيدة عن الدقة، أو هي - على أحسن تقديرـ ليست سوى مظاهر تعبر عن ظواهر أعمق وأرسخ، وليست كافية لتبرير هذا التحيز والعداء التام من قبل هذه الدول - وبخاصة إنجلترا وأمريكيا - لأمتنا العربية والإسلامية. والسبب في عدم كفاية هذا التبرير - حسب رأيي - هو أن هذا الموقف المتحيز ليس من قبيل التحيز المرحلي الذي يتغير حسب سير المصالح وتغيرها، فيكون متحيزًا لأحد الأطراف عندما يجد أن مصالحه وأطماعه تتطلب ذلك. ولكن هذا التحيز - كما أعتقد وسأبين - مبنى على أساس عامل مهم جدًا يجعل منه موقفًا مبدئيًا لا يتغير بسهولة.
حساب المصالح:
بالرغم من أن تحيز بعض الدول الغربية وأمريكا إلى جانب إسرائيل يحقق لها أهدافًا ومصالح كثيرة ويبقى على أطماعها التوسعية حية في المنطقة العربية، إلا أنه وفي نفس الوقت يضع مصالح هذه الدول في خطر كبير؛ لأنه يزيد من حجم العداء لهذه الدول في المنطقة العربية والإسلامية، بالإضافة إلى أنه يدفع الدول العربية إلى اللجوء إلى دول أو أحلاف معادية لأمريكا وحلفائها، كما كان الحال قبل انهيار المعسكر الشرقي، كما أن موقع إسرائيل في المنطقة العربية لا يكفي لتفسير التحيز الأميركي. فقد كانت إسرائيل دائما مصدر حرج للنفوذ الأميركي في المنطقة العربية، أكثر من كونها مصدر دعم، إضافة إلى أن بعض حكام الدول العربية أغنوا أميركا عن إسرائيل في هذا المضمار.
1 / 22
ومهما حاولنا أن نتكلم عن الأهداف التي تسعى أمريكا وحلفائها إلى تحقيقها من خلال تحيزها إلى جانب إسرائيل، فإن هذا التحيز بحساب المصالح يعد خاسرًا وفيه مغامرة كبيرة لا تحمد عقباها على هذه الدول. فأمريكا وحلفائها يمكنهم أن يبقوا على هذه المصالح، بل ويزيدونها من خلال وقوفهم موقفًا عادلًا وليس متحيزًا حيال الصراع العربي الإسرائيلي. فما دامت هذه المصالح مصانة إلى حد كبير بالرغم من وجود التحيز الأمريكي والأوروبي لإسرائيل، فأنها ستكون مصانة أكثر لو أن هذا الموقف تغير لصالح القضية العربية. فالتاريخ لم يشهد محاولة دولة معينة الحفاظ على مصالحها في منطقة معينة عن طريق معاداتها لدول هذه المنطقة، أو التحيز لمن يعاديها. فأي دولة تريد الحفاظ على مصالحها في منطقة معينة، تسعى بكل الوسائل إلى تعزيز روابطها بدول هذه المنطقة، وتحاول بقدر المستطاع الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يعكر صفو هذه الروابط، حتى لا ينعكس ذلك سلبًا على مصالحها. ولهذا فإن حساب المصالح هذا دفع كثير من الدول الأوربية إلى تغيير سياستها حيال الصراع العربي الإسرائيلي، بحيث أصبح هذا الموقف أكثر اعتدالًا ومعقولية من ذي قبل (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا وإيطاليا على سبيل المثال)، كما أن هذه الدول تحاول قدر المستطاع الابتعاد عن كل ما يمكن أن يؤثر سلبًا على علاقاتها مع الدول العربية. ولكن الموقف البريطاني والأمريكي بالذات بقى كما هو عليه، بل أزداد في تحيزه ودعمه لإسرائيل، وأصبح موقفًا استفزازيا وعدائيًا أكثر من أي وقت مضى. ففي أعقاب كل عدوان إسرائيلي على الأمة العربية والشعب الفلسطيني، تجد إسرائيل مكافأة أمريكية تنتظرها، ابتداءً من صفقات الأسلحة المتطورة والمعونات الاقتصادية الضخمة، وانتهاء باستخدام حق الفيتو ضد أي قرار يكون في غير صالح إسرائيل.
فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكيا من خلال نقل سفارتها إلي القدس الشريف، بالرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكيا بالمكانة الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والمسيحيين ..؟ بالطبع لا توجد أي مصلحة من هذا النوع، حيث أن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية
1 / 23
السابقة سيلحق ضررًا كبيرًا بالمصالح الأمريكية ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي أيضا عاجلًا أم آجلًا.
كل هذا يجعلنا نفترض أن حساب المصالح كما نفهمه ليس هو المؤثر الوحيد في هذا التحيز، بل لا بد من البحث في عوامل أخرى يمكن أن تبرر هذا التحيز من قبل أمريكيا وإنجلترا بالذات، لصالح إسرائيل والتي يمكن أن تجعلنا نتعرف على السر في أن بريطانيا وأمريكيا من دون دول العالم هما اللتان جعلتا تحقيق الحلم الصهيوني في أرض فلسطين حقيقة واقعة. فبفضل وعد بلفور والانتداب البريطاني على فلسطين، استطاع اليهود إقامة دولتهم، وبفضل الدعم الأمريكي المتواصل، واستطاعت إسرائيل بناء نفسها والتصدي لكافة الأخطار التي واجهتها. فما هو السر في ذلك؟! هل يعود ذلك إلى نفوذ اللوبي الصهيوني وأثر الصوت اليهودي في الانتخابات - كما يحلو لكثير من المحللين السياسيين أن يفسروه - أم إلى أمر آخر؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه.
نفوذ اللوبي الصهيوني
يحاول كثير من المحللين إظهار اليهود كنموذج فريد لمجموعة ناجحة في كل مجالات الحياة، تستطيع التأثير على صناع القرار في أمريكيا وإنجلترا من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام والاقتصاد في هذه الدول، ومن خلال ما يلجئون إليه من وسائل لممارسة الضغوط على صناع القرار في هاتين الدولتين، هذا بالإضافة إلى ما يقال عما يتميز به اليهود والزعماء الصهاينة من عبقرية ودهاء واستغلال للفرص، أمثال هرتزل، ووايزمان، وسوكولوف وغيرهم. لذلك فإن هؤلاء المحللين يعزون صدور وعد بلفور إلى حاييم وايزمان وطاقاته الجبارة وتصميمه وإخلاصه ومواهبه السياسية والعلمية، كما يعزون نجاح الحركة الصهيونية في أمريكيا إلى اللوبي الصهيوني القوى، وما يتمتع به من تنظيم، وما يملك من وسائل للضغط على الرؤساء الأمريكيين.
ان تضخيم نفوذ اللوبي الصهيوني وجعله وكأنه يحكم أمريكيا شيء مبالغ فيه جدًا، إلا إذا حاولنا فهم هذا النفوذ على أساس أن هذا اللوبي يعمل في بيئة سياسية
1 / 24