The Concise Guide to Islamic Jurisprudence
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي
Yayıncı
دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
Yayın Yeri
دمشق - سوريا مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
Türler
الوجيز في أصول الفقه الإسلامي
«المدخل - المصادر - الحكم الشرعي»
تأليف
الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الزحيلي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة
[الجزء الأول]
مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
Bilinmeyen sayfa
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
الْوَجِيز فِي أصُول الْفِقْه الإسلامي
«الْمدْخل - المصادر - الحكم الشَّرْعِيّ»
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار الْخَيْر
الطّبعَة الثّانِيَة
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
دَار الْخَيْر
للطباعة والنشر والتوزيع
للمراسلة: دمشق - سوريا - حلبوني - جادة الشَّيْخ تَاج
هَاتِف الْمكتب: ٢٢٤٥٨٢٢/ ٠١١ - تلفاكس: ٢٢٢٢٦٩٤/ ٠١١
هَاتِف المكتبة: ٢٢٢٨٠٧٤/ ٠١١ ص. ب: ١٣٤٩٢
E-mail: abualkhair@mail.sy
دَار الْخَيْر
للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان - فردان - جنوب سيّار الدَّرك - بِنَاء الشَّامي
هَاتِف: ٨١٠٥٧١/ ٠١ - تلفاكس: ٨٦٥٦٩٧/ ٠١
ص. ب: ٥٦٣٠/ ١١٣ - الرَّمْز البريدي: ٢٠٦٠/ ١١٠٣
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمة للعالمين، الذي أدى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونَصَحَ الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وترك أمته على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك.
وبعد:
فقد عشت مع علم أصول الفقه أكثر من أربعين سنة، فدرَسْته في الثانوية الشرعية، وفي كلية الشريعة وكلية الحقوق بجامعة دمشق، وفي جامعة القاهرة وجامعة الأزهر، ثم درّسته أكثر من ربع قرن.
ومارست كتبه في التأليف والتحقيق، ولمست أهميته وفائدته النظرية والعملية، وأحببت أن أكتب فيه كتابًا مبسطًا يغطي مباحثه؛ لأن دراسة علم الأصول تصقل الذهن، وتشحذ العقل، وتفتح الدماغ، وتنير الطريق، وتكوِّن الملكة الفقهية، وترشد الإنسان إلى ينابيع المعرفة، ومصادر الخير، وتضع اليد على الموازين السليمة، والمعايير الدقيقة، والضوابط الحكيمة، لإدراك الأحكام الشرعية، وبيان مدى الالتزام بشرع الله ودينه القويم، ليكون المؤمن على المحجَّةِ البيضاء، ويقف الإنسان لمامة على محاسبة نفسه قبل أن يحاسب.
1 / 5
وإن علم أصول الفقه يشكل المنارة الوضَّاءة بين العلوم الشرعية، ويعتبر مفخرة الأمة في حضارتها وعلومها، وذلك أنه عبارة عن القواعد والمبادئ التي سار عليها الفقهاء في استنباط الأحكام وبيانها للناس، وأنه يكوِّن الضوابط التي يلتزم بها الفقيه، بقصد أن يكون طريقه مستقيمًا واضحًا، لا يعتريه وهن أو انحراف، ولا خبط أو اضطراب.
كما أن هذا العلم هو المصباح الذي ورثته الأجيال، وحمله العلماء على مر العصور، لبيان الأحكام الشرعية في كل جديد، ومعالجة المشاكل التي تطرأ، وغير ذلك من تفسير النصوص، وبيان دلالات الألفاظ، والتوفيق بين الأدلة، وإزالة التعارض وكيفية الترجيح، ومنهج الاجتهاد، ومقوماته، وفق منهج محدد يسير عليه العالم في الاجتهاد والاستنباط (١).
ومما يبهج النفس، ويسعد القلب أنه ظهر في هذه السنوات الثلاثين الأخيرة عدد من أمهات كتب الأصول، التي تعتبر من مصادره الأصلية، ومراجعه المعتمدة، كالبرهان لإمام الحرمين الجُويني، والمحصول لفخر الدين الرازي، والعُدَّة لأبي يَعْلى الفراء الحنبلي، وشرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي، وشرح تنقيح الأصول للقرافي المالكي، والتبصرة للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والمنخول لحجة الإسلام الغزالي، وشفاء الغليل للشيخ أبي جامد الغزالي أيضًا، والمختصر في أصول الفقه لابن اللحام البعلي، والمغني للخبازي الحنفي، والتمهيد لأبي الخطاب الكلوداباذي ..، وغيرها كثير (٢).
_________
(١) انظر فوائد علم أصول الفقه في الفصل الثاني من الباب التمهيدي.
(٢) منها الوصول إلى علم الأصول لابن بَرْهان، والفصول في الأصول للجصاص، وميزان الأصول للسمرقندي، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي، وبيان المختصر للأصفهاني في شرح مختصر ابن الحاجب، وتقريب الأصول إلى علم الأصول لابن جزئ المالكي، وغيرها.
1 / 6
وأعيد طباعة وتصوير بعض الكتب العظيمة في أصول الفقه، كالمعتمد لأبي الحسين البصري المعتزلي، وكشف الأسرار عن أصول البرذوي، وأصول السرخسي، والمستصفى للغزالي، وفوات الرحموت على مسلم الثبوت لابن عبد الشكور، والشرح للأنصاري، وجمع الجوامع لابن السبكي مع شروحه وحواشيه ...، وغيرها كثير كالشروح على مختصرات ابن الحاجب.
فصارت المكتبة الإسلامية غنية -والحمد لله- بكتب الأصول الأصلية، وصنفت كتب قيمة بأسلوب معاصر، وثوب قشيب في العصر الحاضر، من كبار العلماء، وأساتذة الجامعات، فأصبحت الأمور ميسرة، رجاء أن يكون ذلك مقدمة لعودة الحياة إلى هذا العلم المفيد، عمليًّا، وأن تعود الأمة إلى الاستفادة من تراث السلف الصالح، وذخائر أمتنا المجيدة، ليتجدد العمل بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه ﷺ، وتظفر -بعد ذلك- بالعزة والكرامة، وتحرير المقدسات، والنصر على الأعداء في الدنيا، والفوز بالسعادة الأبدية ومرضاة الله تعالى في الآخرة.
طريقة البحث ومنهجه:
التزمت غالبًا بالنقاط التالية:
١ - الطريقة المدرسية التي تعتمد الوضوح والتنظيم والموضوعية والإقناع.
٢ - الجمع بين القواعد والمبادئ والضوابط الأصولية، مع بيان مدلولاتها، وبين الأحكام الفقهية والفروع الجزئية، باعتبارها أمثلة تطبيقية للقاعدة وتوضيحًا لها، وللترابط الكامل، والتلازم الدائم بين علم أصول الفقه وعلم الفقه.
٣ - تجنب طرح الموضوعات الأصولية الجزئية التي تتفرع عن المبادئ العامة، وهي مسائل فرعية بحثها الأصوليون في كتبهم، وبينوا
1 / 7
آراء العلماء فيها، وأدلتهم، ومناقشة الأدلة، والردَّ عليها، وهي في معظمها نادرة الوقوع، وبعيدة عن الحياة، وقليلة الفائدة، مما يشوِّش ذهن القارئ، ويشتت فكره، ويضعه في متاهات علمية وجدلية، يصعب عليه أن يغوص فيها في المراحل الأولى لدراسة الأصول، ولا يصل فيها إلى شاطئ الأمان والسلامة، وخاصة لمن يدرس هذا العلم لأول مرة، ونترك هذه التفاصيل والجزئيات ريثما تتكون لديه ملكة أصولية، يستعين بها على فهم هذه المباحث.
٤ - العرض المبسط لمبادئ أصول الفقه، وبيان الآراء والأقوال المختلفة في المسألة الواحدة، وذكر أصحاب كل رأي، ودليله، مع مناقشة موجزة للأدلة، وما قد يرد عليها من ملاحظات، مع الاقتصار على الآراء المشهورة والمعتمدة، والإعراض عن ذكر الآراء الشاذة والضعيفة.
٥ - الاعتماد بشكل مباشر على المراجع الأصلية في الموضوع، والإشارة إلى أهمية بعض المراجع الثانوية في الهامش، واقتباس بعض النصوص أحيانًا، لبيان الدقة العلمية، والصياغة الحكيمة، والأسلوب الناصع لعلماء هذه الأمة وسلفها الصالح الذين بذلوا أقصى طاقاتهم في خدمة هذه الشريعة الغراء، ومن ثمَّ نوجه الأذهان نحو هذه المراجع والمصادر والكتب الأصلية في علم الأصول، ولا يفوتنا أن نستفيد من كتب الأصول الحديثة والمعاصرة.
خطة الكتاب والبحث:
سيأتي الكتاب بمشيئة الله تعالى في جزأين، يتضمن كل جزء ثلاثة محاور أساسية، وهي:
الجزء الأول: في المقدمات لعلم أصول الفقه، ومصادر التشريع الإسلامي، والحكم الشرعي.
الجزء الثاني: في الدلالات وتفسير النصوص، والاجتهاد،
1 / 8
والتعارض والترجيح. وقسمت الجزء الأول إلى باب تمهيدي، وبابين.
أما الباب التمهيدي: فيتناول تعريف علم أصول الفقه، وفائدته، ولمحة تاريخية عنه، وطرق التأليف فيه، وأهم المصادر والمراجع، وأسباب اختلاف الفقهاء، ومقاصد الشريعة.
والباب الأول: نعرض فيه مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها، والمختلف فيها، بشيء من الإيجاز، وخاصة في الأدلة المختلف فيها.
والباب الثاني: في الحكم الشرعي لتعريفه، وتقسيمه إلى حكم تكليفي، وحكم وضعي، وبيان موجز عن الحاكم، والمحكوم عليه وهو المكلف، والمحكوم به وهو الفعل.
وأسأل الله أن يسدد خطانا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بيدنا إلى الصراط المستقيم، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يلهمنا رشدنا، ويجنبنا شر أنفسنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكتب لنا هذا العمل في صحائف أعمالنا المقبولة، ندَّخره ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، مع الأمل أن يدعو لنا من يقرؤه وينتفع به دعوة صالحة في ظهر الغيب، تنفعنا في الدنيا، وفي القبر، ويوم الحشر، والحمد لله رب العالمين.
ونقدم -الآن- الجزء الأول للطباعة، ونسأل الله العون على استكمال الجزء الثاني.
الشارقة في ٨ رمضان ١٤٢٢ هـ.
الموافق ٢٣/ ١١ / ٢٠٠١ م.
الأستاذ الدكتور محمد الزحيلي
عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الشارقة.
وكيل كلية الشريعة للشؤون العلمية بجامعة دمشق- سابقًا.
1 / 9
الباب التمهيدي المدخل إلى أصول الفقه
قبل أن نبدأ بدراسة موضوعات علم أصول الفقه لا بد لنا من أن نعرفه ونبين فوائده، ونذكر لمحة موجزة عن تطوره وتاريخه، ثم نعرج على المنطلق الأساسي والباعث الحقيقي، بل والثمرة الكاملة التي تنتج عنه، وهي أسباب اختلاف الفقهاء، ثم نعرض المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية (١)، وسوف نخصص كلا من ذلك بفصل.
_________
(١) يقول العلامة ابن الجوزي ﵀ في "صيد الخاطر": "فائدة: اعلم أن شرعنا مضبوط الأصول، ومحروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل، وكذلك كل الشرائع، وإنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال". صيد الخاطر ص: ١١٤ تحقيق الشيخ محمد الغزالي.
1 / 11
الفصل الأول في تعريف علم أصول الفقه وموضوعه
يذكر العلماء تعريفين لعلم أصول الفقه:
أحدهما: ينظر إليه على أنه علم مستقل، وأن هذا الاسم لقب له، وأصبح حقيقة عرفية دون النظر إلى أجزائه المركب منها، مثل عبد الله وركن الدين، إذا جُعل كل منهما علمًا أو لقبًا لإنسان.
وثانيهما: يعرفه على أنه مركب إضافي مكون من ثلاث كلمات، فيعرف كلًّا منها على حده.
ونتناول كل تعريف في مبحث مع شرح التعريف وبيان حدوده وما يدخل فيه، وما يخرج منه، ونخلص من التعريفين إلى بيان موضوع علم أصول الفقه في مبحث ثالث، ونحدد الموضوعات التي سنتناولها في هذا الكتاب.
1 / 13
المبحث الأول في تعريف علم أصول الفقه مركبًا
عرف الكثير من الأصوليين علم أصول الفقه باعتباره مركبًا إضافيًّا، وأنه مؤلف من ثلاث كلمات، وهي: علم، وأصول، وفقه، ولا بد من فهم معنى كل كلمة على حدة لفهم المعنى العام لعلم أصول الفقه، وإدراك مضمونه وحدوده.
أولًا: العلم:
العلم في اللغة: هو المعرفة واليقين والشعور (١).
أما في الاصطلاح فيطلق العلماء لفظ العلم على أحد المعاني الأربعة التالية (٢):
١ - العلم: هو إدراك الشيء ومعرفته، وهذا الإدراك أو المعرفة إما أن يكون بدليل قطعي يجزم الشخص به ويطمئن إليه، فيفيد العلم القطعي الذي تثبت به الأحكام الاعتقادية كالإيمان بالله وملائكته وكتبه
_________
(١) القاموس المحيط: ٣ ص ١٥٣، المصباح المنير: ٢ ص ٥٨٣.
(٢) انظر التعريفات: الجرجاني: ص ١٣٥، كشف الظنون: ١ ص ٤، كشاف اصطلاحات الفنون: ٤ ص ١٠٥٥، شرح الكوكب المنير: ١ ص ٦٣.
1 / 15
ورسله واليوم الآخر؛ لأن العقيدة لا تثبت بالظن، وإما أن يكون الدليل غير مقطوع به. وإنما يدل دلالة راجحة على غيره، فيفيد الظن، والأحكام العملية الفقهية تثبت بالقطعي وتثبت بالظني، فالعلم هنا عملية ذهنية في تصور الأشياء، أو تصور المعلوم.
٢ - العلم: هو نفس الأشياء المدركة، فعلم الفقه مثلًا هو مسائل الفقه، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية العملية، وعلم الطب هو مجموعة التعليمات والمعارف التي تميز بين الذات الصحيحة والمريضة، وعلم الأصول هو مجموعة القواعد والأبواب التي ترشد إلى استنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية.
٣ - العلم: هو الملكة والقدرة العقلية التي يكتسبها العالم من دراسة العلم ومسائله، فيقال مثلًا: فلان عنده علم.
٤ - العلم: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل، مثل: النار محرقة، والعالم حادث، وذلك إذا وصل البحث إلى المعرفة الكاملة المطابقة للحقيقة والواقع، فإنه يسمى علمًا، وإلا فإنه يكون فرضية أو ظنًّا أو شكًّا أو وهمًا وتخمينًا ورجمًا بالغيب، فالعلم أعلى درجات المعرفة (١).
_________
(١) إن معرفة الأشياء تقع على درجات، فإن كانت المعرفة صحيحة بشكل كامل، وكانت مطابقة للواقع، ولا تحتمل النقيض والعكس فهي "العلم"، وهو أعلى الدرجات، وإن كانت المعرفة أقل درجة، ويرد عليها احتمال النقيض والعكس، لكن يترجح فيها جانب الصدق على الكذب فهي "الظن"، ويتفاوت الظن حتى يقال: غلبة الظن، وإن ترجح جانب الكذب على الصدق، وكانت المطابقة مع الواقع مرجوحة، فهي "الوهم" وهو أدنى درجات المعرفة، وإن تساوى الأمران، ولم يترجح جانب على آخر، وكان احتمال النقيض مساويًا لغيره فهو "الشك".
انظر: مختصر ابن الحاجب: ١ ص ٥٨ وما بعدها، طبعة بولاق، شرح الكوكب المنير: ١ ص ٧٤، الورقات، للجويني: ص ٤٨.
1 / 16
وأقرب المعاني التي تتصل بعلم الأصول هو الأول والثاني، فعلم أصول الفقه هو إدراك الأصول ومعرفتها، أو هو نفس الأصول التي تؤخذ منها الأحكام.
ثانيًا: الأصول:
الأصول: جمع أصل، وهو في اللغة أسفل الشيء، أو ما يبنى عليه غيره، سواء كان الابتناء حسيًّا، كالأساس الذي يشيد عليه البناء، فهو أصل له، أم كان الابتناء عقليًّا، كابتناء الأحكام الجزئية على القواعد الكلية (١).
أما في الاصطلاح: فقد استعمل العلماء كلمة أصل في معان كثيرة أهمها (٢):
١ - الأصل: هو ما يقابل الفرع، وذلك في الفقه وأصول الفقه، مثل الخمر والأب، فالخمر أصل والنبيذ فرع له، والأب أصل والولد فرع له.
٢ - الأصل: بمعنى الراجح، مثل الحقيقة أصل للمجاز، أي راجحة عليه عند السامع، والقرآن الكريم أصل للقياس أي راجح عليه، والأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز.
٣ - الأصل: بمعنى المستصحب، مثل: الأصل الطهارة، لمن كان متيقنًا منها، ويشك في الحدث، أي تستصحب الطهارة حتى يثبت
_________
(١) المصباح المنير: ١ ص ٢١، القاموس المحيط: ١ ص ٣٢٨.
(٢) انظر: المستصفى، للإمام الغزالي: ١ ص ٥، فواتح الرحموت: ١ ص ٢٨، التلويح على التوضيح: ١ ص ٩ ط صبيح، نهاية السول: ١ ص ١٨، مباحث الكتاب والسنة، الدكتور فوزي فيض الله: ص ٢، مباحث الحكم عند الأصوليين، للأستاذ محمد سلام مدكور: ص ٨، أصول الفقه، أَبو النور: ١ ص ٥، شرح الكوكب المنير: ١ ص ٣٨.
1 / 17
عكسها، ومثل: الأصل براءة الذمة، ويقال: ما هو أصل القضية، أي الأمر الذي كان في الماضي والسابق لنستصحبه إلى الحاضر.
٤ - الأصل: بمعنى القاعدة التي تبنى عليها المسائل، مثل: "بني الإسلام على خمسة أصول"، ويقال: أكل الميتة على خلاف الأصل، أي على خلاف الحالة المستمرة.
٥ - الأصل: بمعنى الدليل، وهو ما تعارف عليه الفقهاء وعلماء الأصول، مثل قولهم: أصل هذا الحكم من الكتاب آية كذا، ومن السنة حديث كذا.
وهذا المعنى الأخير هو المقصود من استعمال أصول الفقه، أي أدلة الفقه، وهذه الأدلة إما أن تكون إجمالية وكلية وتدرس في أصول الفقه، وهي مصادر التشريع، كما سنرى، وإما أن تكون الأدلة تفصيلية، ويختص بها علم الفقه والخلاف.
ثالثًا: الفقه:
الفقه لغة: الفهم (١)، وهو إدراك معنى الكلام، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)﴾ [طه:٢٧ - ٢٨]، وقوله ﵊: "مَنْ يُردِ اللهُ به خيرًا يُفقّهه في الدِّين" (٢).
وفي الاصطلاح، عرفه أصحاب الشافعي بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" (٣)، وهاك شرح هذا التعريف.
_________
(١) المصباح المنير: ١ ص ٦٥٦، القاموس المحيط: ٤ ص ٢٨٩.
(٢) رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه.
(٣) نهاية السول: ١ ص ٢٣، المستصفى: ١ ص ٤، فواتح الرحموت: ١ ص ١٠، التوضيح على التنقيح: ١ ص ١٢، ط صبيح، غاية الوصول: ص ٥، منهاج الوصول: ص ٣، التعريفات: ص ١٤٧، شرح الكوكب المنير: ١ ص ٤١، ٦٣، وعرف الإمام أَبو حنيفة -رحمه الله تعالى- الفقه بأنه: معرفة النفس ما لها =
1 / 18
١ - العلم: هنا هو الإدراك والتصديق والمعرفة، ويدخل فيه سائر العلوم.
٢ - الأحكام: جمع حكم، وهو لغةً: القضاء والمنع (١)، وعند الأصوليين هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وعرف الفقهاء الحكم بأنه ما ثبت بالخطاب، أو هو أثر الخطاب (٢)، كوجوب الصوم؛ فإنه حكم ثبت من الآية الكريمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] ويكون العلم بالأحكام هو التصديق بكيفية تعلق الأحكام بأفعال المكلفين.
ويخرج من التعريف العام بذات الله تعالى وصفاته وأفعاله؛ فإنها تدخل في علم التوحيد والعقيدة، ويخرج العلم بالأدلة الكلية وبالقواعد والضوابط؛ فإنها تدخل في علم الأصول.
٣ - الشرعية: أي الأحكام التي تتوقف على الشرع، ويخرج من الفقه العلم بالأحكام العقلية مثل: الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والأحكام اللغوية مثل: الفاعل مرفوع، والباء للتعليل، والأحكام الحسية مثل: النار محرقة، والماء بارد.
٤ - العملية: وهي صفة للأحكام، بأن تقتضي عملًا، سواء كان من عمل القلب كوجوب النية، أو من عمل اللسان كالقراءة والكلام، أو من عمل الجوارح كالعبادات والجهاد.
_________
= وما عليها، وهو تعريف عام يشمل العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات، ولذلك فقد أضاف صدر الشريعة عليه لفظة "عملًا" لقصره على العبادات والمعاملات، انظر: تنقيح الأصول: ص ١٠، ط صبيح، المدخل لابن بدران: ص ٥٨، وانظر تعريف الفقه في مقدمة "البحر الرائق" لابن نجيم الحنفي.
(١) المصباح المنير: ١ ص ٢٠٠، القاموس المحيط: ٤ ص ٩٨.
(٢) سيأتي معنا -إن شاء الله تعالى- شرح تعريف الفقهاء والأصوليين تفصيلًا في الباب الثاني من هذا الكتاب، عند الكلام عن الحكم.
1 / 19
ويخرج من الفقه الأحكام الاعتقادية التي لا تتعلق بكيفية عمل، وإنما قصد منها الاعتقاد فقط، مثل العلم بأن الله واحد، وأنه يُرى في الآخرة، وأن محمدًا رسول الله، وأن البعث حق، والأحكام الأخلاقية كالوفاء والكرم، كما تخرج الأحكام النظرية في علم الأصول كالعلم بأن الإجماع حجة (١).
٥ - من أدلتها: جار ومجرور متعلق بصفة العلم، أي العلم الناشئ من الأدلة، فيخرج من الفقه العلم الذي لا يتوقف على دليل كعلم الله تعالى للأحكام، وعلم رسوله ﷺ، وعلم جبريل، فإنها علوم غير مكتسبة من الأدلة، وكذلك يخرج العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية التي يسأل عنها العالم، فإنه يعلم أنها حكم الله بدون معرفتها من دليل (٢)، وهذا ما يفرق العالم وطالب العلم الشرعي عن الأمي وغير المختص بالشريعة.
٦ - التفصيلية: وهي الأدلة التفصيلية التي تتعلق بمسألة معينة كوجوب الصلاة في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: ٨٧]، وتحريم أكل مال اليتيم في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢].
وخلاصة ذلك فإن الفقه هو: معرفة الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة (٣).
_________
(١) زاد بعض العلماء هنا على التعريف لفظة: "المكتسب" أي العلم المكتسب والمستنبط والحاصل عن نظر واستدلال من الأدلة، ليخرج العلم غير الاكتسابي كعلم الله تعالى، والعلم بالأحكام الشرعية التي تعرف من الدين بالضرورة كوجوب الحج، فإنه لا يدخل بالفقه، انظر: نهاية السول: ١ ص ٢٦.
(٢) نهاية السول: ١ ص ٢٧.
(٣) انظر: شرح الكوكب المنير: ١ ص ٤١.
1 / 20
يقول أستاذنا الدكتور فوزي فيض الله-: الفقه: "هو التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العلم، تصديقًا حاصلًا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا" (١).
وإن علم أصول الفقه هو العلم بأدلة الأحكام، ومعرفة وجوه دلالتها عليها من حيث الجملة (٢).
ويظهر لنا أن ميدان عالم الأصول: هو الأدلة الكلية كالكتاب والسنة، وغايته: وضع قواعد كلية لمعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة بالاجتهاد، كالأمر للوجوب.
أما ميدان الفقه: فهو الأدلة التفصيلية الجزئية الخاصة، وغايته: الوصول إلى الحكم الجزئي لكل فعل من أفعال المكلفين.
_________
(١) مباحث الكتاب والسنة من علم أصول الفقه، محاضرات للسنة الثالثة، له: ص ٤.
(٢) المستصفى: ١ ص ٥.
1 / 21
المبحث الثاني في تعريف أصول الفقه لقبًا
عرف الشافعية أصول الفقه -باعتباره لقبًا- بتعريف يختلف عن تعريف الجمهور، وإليك التعريفين:
أولًا: تعريف الشافعية:
عرف البيضاوي من الشافعية أصول الفقه بأنه "معرفة دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد" (١).
١ - المعرفة: هي العلم والتصديق بأدلة الفقه الإجمالية، سواء أكان التصديق على سبيل القطع، أم على سبيل الظن، ومن هذا يظهر السبب
_________
(١) منهاج الوصول، له: ص ٣، وانظر نهاية السول: ١ ص ١٧، غاية الوصول: ص ٤، وذهب كثير من علماء الأصول إلى تعريف أصول الفقه بأنه "دلائل الفقه ... " والفرق بينهما أن الأول يعرفه بأنه معرفة الأدلة، بينما يقصره الثاني على نفس الأدلة، وكلا التعريفين صحيحان، لأن اسم أي علم من العلوم، كعلم النحو، أو علم الفقه، أو علم الأصول، يطلق على القواعد التي تدرس فيه، ويطلق على التصديق بهذه القواعد ومعرفتها، كما يطلق على الملكة الناشئة عن مزاولة هذه القواعد، انظر شرح التعريف، في نهاية السول: ١ ص ١٩، أصول الفقه لغير الحنفية، عدد من العلماء: ص ٦ وما بعدها.
1 / 23
في اختيار لفظة المعرفة، دون لفظة العلم، لأن البيضاوي يحصر معنى العلم بالتصديق على سبيل القطع. ويخرج من التعريف علم الله تعالى بالأدلة، لأن علمه تعالى قطعي، وليس ظنيًّا (١).
٢ - دلائل: جمع دلالة بمعنى دليل، أو جمع دليل، والدليل في اللغة: المرشد إلى الشيء، والكاشف عن حقيقته (٢).
وفي الاصطلاح: هو ما يمكن بالنظر فيه التوصل إلى إدراك حكم شرعي على سبيل العلم أو الظن (٣)، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: ١]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [يونس: ٨٧]، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠].
فهذه الآيات الكريمة أدلة عند الأصوليين، لأنهم ينظرون إليها بأنها أوامر شرعية، ويتوصلون منها إلى إدراك الأحكام الشرعية بوجوب الوفاء بالعقد، وإقامة الصلاة، والجهاد في سبيل الله.
والصحيح عند جمهور الأصوليين أن الدليل إما أن تكون دلالته على الحكم قطعية بأن ينتج حكمًا قطعيًّا، وإما أن تكون ظنية بأن ينتج حكمًا ظنيًّا، بينما قصر بعض الأصوليين الدليل على ما يتوصل منه إلى إدراك حكم شرعي قطعي، أو ما يتوصل منه إلى إدراك حكم شرعي ظني فهو أمارة (٤).
_________
(١) المعرفة أعم من العلم من حيث إنها تشمل اليقين والظن، أما العلم فلا يطلق إلا على اليقين، كما أن المعرفة أخص من العلم لأنها تشمل العلم المستحدث أو بعد انكشاف، أما العلم فيشمل العلم غير المستحدث، وهو علم الله تعالى، فإنه لم يسبقه جهل، ويشمل العلم المستحدث بعد الجهل، وهو علم العباد، انظر: شرح الكوكب المنير: ١ ص ٦٥، أصول الفقه لغير الحنفية: ص ١٠.
(٢) القاموس المحيط: ٣ ص ٣٧٧، المصباح المنير: ١ ص ٢٧٠.
(٣) انظر: شرح الكوكب المنير: ١ ص ٥٢.
(٤) نهاية السول: ١ ص ١٩.
1 / 24