The Biography of the Prophet as Narrated in Authentic Hadiths
السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة
Yayıncı
مكتبة العبيكان
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤ م
Türler
السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة
(قراءة جديدة)
محمد الصوياني
الجزء الأول
مكتبة العبيكان
1 / 1
(ح) مكتبة العبيكان، ١٤٢٤هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الصوياني محمَّد
السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة. / محمَّد الصوياني
- الرياض، ١٤٢٤ هـ
٢٨٦ ص، ١٦.٥ × ٢٤ سم
ردمك: ٠ - ٣٧٥ - ٤٠ - ٩٩٦٠ (مجموعة)
٩ - ٣٧٦ - ٤٠ - ٩٩٦٠ (ج١)
١ - السيرة النبوية ٢ - الحديث- مباحث عامة أ. العنوان
ديوى ٢٣٩
٢٨٧٨/ ١٤٢٤
ردمك:٠ - ٣٧٥ - ٤٠ - ٩٩٦٠ (مجموعة) رقم الإيداع: ٢٨٧٨/ ١٤٢٤
٩ - ٣٧٦ - ٤٠ - ٩٩٦٠ (ج١)
الطبعة الأولى الخاصة بمكتبة العبيكان
١٤٢٤هـ/٢٠٠٤ م
حقوق الطباعة والنشر محفوظة للناشر
الناشر
مكتبة العبيكان
الرياض- العليا- تقاطع طريق الملك فهد مع شارع العروبة
ص. ب: ٦٢٨٠٧ - الرمز: ١١٥٩٥
هاتف:٤٦٥٤٤٢٤ - فاكس: ٤٦٥٠١٢٩
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 3
الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ..
1 / 5
هذه القصة
قصة طفل طهور كالبرد .. ولد يتيمًا .. واستمر اليتم يلاحقه ويلاحق طفولته في طرقات مكة ودروبها .. يذيقه المرارة .. يفجعه بأهله وأحبابه ..
ويكبر محمَّد ﷺ .. وتكبر غربته .. ويكتشف في دروب الحياة يتمًا أكبر من يتمه .. وهمًّا أثقل من همِّه .. فالأرض كلها يتم .. والبشرية تئن همًا وحزنًا يعصر قلبها ..
الجزيرة العربية كانت غابةً من الأصنام .. وأوديةً تسيل دماء بريئة .. تسيل عادات بالية وتقاليد محيرة ..
ماذا يفعل أمامها .. وماذا بيديه حيالها .. ماذا يفعل سوى الغربة مهربًا وملاذًا .. يناجي بها ربه ويعج إليه بالتوحيد والدعاء .. وفي غربته الشعورية تلك تهبط عليه الرسالة .. فيحمل الأمانة وينحدر بها نحو مكة .. نحو أمته فينطق بها بهجة وبشرى لهم .. وينتظر الإجابة .. وتأتي الإجابة على غير ما يتمنى ويحب .. تأتى الإجابة سياطًا وشتائم وتكذيبًا له وهو الذي يلقب بالأمين.
فماذا فعل الأمين ﷺ مع هؤلاء؟
الإجابة كانت أكثر من خمسين عامًا من فنِّ التعامل مع الغير .. نقشها ﷺ في قلوب من حوله وقلوب غيرهم ممّن دبَّ على هذه الأرض إلى قيام الساعة.
الإجابة سيرة لم تكن ماضيًا أبدًا .. بل شعلة توقد شموس الحياة .. ودماء تتدفق في عروق المستقبل والأجيال.
1 / 7
سيرته ﷺ في مكة هي واقع هذه الصحوة التى تهز أركان الأرض من أقصاها إلى أقصاها .. ولا بد لهذه الصحوة من أن تشرب من النبع الذي شربت منه في مكة .. لا بد لها من أن تتقد بشعلتها الخالدة وإلا تحولت إلى رماد تذروها الرياح والأهواء.
أحاول في هذه السيرة- القصة أن أبسط ما أمكن .. أن أجعل هذه الأحداث سهلة في متناول الجميع خاصة من لا يبحثون عن التعقيد أو التفريع .. لذلك صغتها وربطت بين أحاديثها الصحيحة لتكون قصة لا روايات أحداث متفرقة فقط.
فالحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمته إن كنت قد وفقت في ذلك ..
وأرجوه الصفح والغفران إن كنت قد زللت ..
1 / 8
جده عبد المطلب
لا أدري من أين أتى ..
ربما صعد جبلًا أو منه انحدر ..
ربما هبط واديًا؛ أو كان يرعى الغنم ..
لا أدري ..
لكنه كان متعبًا يقتلع خطاه ..
يسحب جسده الثقيل نحو الكعبة ..
حيث ألقى بذلك الجسد في الحجر ..
وتردى في هوة سحيقة من النوم ..
ليجد في قعرها هاتفًا يطالبه بعمق أكثر ..
فيقول له: (احفر طيبة) (١) ..
لم يمهله عبد المطلب ..
لقد عاجله قائلًا: وما طيبة؟
ولم تأت إجابة .. وأطبق الصمت، والهاتف اختفى ولم يرد. وفي الغد .. رجع عبد المطلب إلى مرقده ذلك عله يجد لذلك الحلم تفسيرًا. وما إن غاص في سباته حتى سمع ذلك الصوت الخفي يناديه مرة أخرى: (احفر بره) (٢).
_________
(١) اسم من أسماء زمزم.
(٢) اسم من أسماء زمزم.
1 / 9
(يقول عبد المطلب: قلت: وما بره؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه .. فجاءني فقال:
احفر زمزم.
قلت: وما زمزم؟
قال: لا تترف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل ..
فلما بيّن لعبد المطلب شأنها، ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمِعْوَلِه ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ وليد غيره .. فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطي (١) كبَّر (٢). فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته .. فقاموا إليه.
فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًا .. فأشركنا معك فيها.
فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأُعطيتُه من بينكم.
فقالوا: أنْصفنا فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.
قال عبد المطلب: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.
قالوا: كاهنة بني سعد هذبم.
قال عبد المطلب: نعم.
_________
(١) طي البئر وهو من الحجارة.
(٢) قال: الله أكبر.
1 / 10
وكانت -هذه الكاهنة- بأشراف الشام. فركب عبد المطلب، ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز (١)، حتى إذا كانوا ببعضها نفذ ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم، فأبوا عليهم.
وقالوا: إنا بمفاوز .. وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.
فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل، دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه، حتى يكون آخرهم رجلًا واحدًا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه. فقالوا: نِعْمَ ما أمرت به.
فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا) (٢)
لقد كان ذلك الرأي سقيمًا، إنه انتحار بطىء سببه تلك الخصومة والضيق الذي لا مبرر له إلا حب الرياسة والشرف عند أولئك العرب، لقد أحس عبد المطلب بفساد ذلك الرأي فصاح في تلك الجثث الملقاة في اللُّحُود: (والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغى لأنفسنا؛ لَعَجْزٌ .. فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد: ارْتَحِلُوا.
فارتحلوا، حتى إذا بعث (٣) عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب
_________
(١) سميت بذلك لأنها مهلكة.
(٢) ما بين الأقواس خبر صحيح الإسناد، انظر ما بعده.
(٣) دفعها للنهوض.
1 / 11
وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم. ثم دعا قبائل قريش، وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال.
فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا واستقوا كلهم. ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة (١) هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم) (٢).
رجع عبد المطلب بقسمة الله لا بقسمة الكاهنة وتمتماتها .. وأرجع الله بنبع الماء البارد الحياة إلى جثث التحفت بقبورها .. وقادتهم ناقة عبد المطلب إلى مكة يحملون على عيسهم بعض الماء والتسليم بحق عبد المطلب وزعامته. إنه الآن يتولى سقاية زمزم .. بئر جده إسماعيل ﵇.
_________
(١) الأرض التي لا ماء فيها.
(٢) ما بين الأقواس خبر صحيح الإسناد إلى علي بن أبي طالب، رواه لنا ابن إسحاق فقال: حدثي يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير، إنه سمع علي ابن أبي طالب ﵁، قال: قال عبد المطلب بن هاشم: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلي مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة. قلت: وما المضنونة ... إلخ. انظر سيرة ابن كثير (١/ ١٦٧) ودلائل النبوة (١/ ٩٣). وإسناد ابن إسحاق قوي: يزيد بن أبي حبيب شيخ ابن إسحاق: ثقة فقيه من رجال الشيخين، انظر تقريب التهذيب (٢/ ٣٦٣). ومرثد بن عبد الله اليزني شيخ ليزيد، انظر التهذيب (١٠/ ٨٢) وهو ثقة أيضًا وفقيه. انظر تقريب التهذيب (٢/ ٢٣٦). وأما عبد الله بن زرير فهو تابعي ثقة، انظر التقريب (١/ ٤١٥) والتهذيب (١٠/ ٨٢) والتهذيب أيضًا (٥/ ٢١٦) علي ﵁ لم يدرك جده فهو مرسل سمعه من أحد أعمامه أو غيرهم.
1 / 12
جده إسماعيل صاحب البئر .. وأول من شرب منها رغم أنه لم يحفرها لكنها من أجله تفجرت.
جده إسماعيل هو أول من جاء مكة من أجداد عبد الطلب .. بل هو أول من سكن مكة ..
عندما وصل إليها كان طفلًا محمولًا .. كان رضيعًا .. لكن مكة كانت أكثر طفولة ...
كانت أرضًا عراء .. جدرانها جبال .. كانت واديًا بلا شجر بلا حياة .. بلا بشر .. تمر بها القوافل فلا تتوقف .. والرياح أيضًا كانت تمر فلا تتوقف ..
لكن رفقة طيبة توقفت .. رفقة طاهرة قادمة من البعيد البعيد .. تعلو مع الدروب وتنخفض .. تعبر الفيافي والقفار .. تعبر المفاوز والرمال وتشق أمواج السراب.
امرأة طاهرة .. اسمها: هاجر .. جاء بها زوجها الخليل ﵇.
[جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت (١) عند دوحة (٢) فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها .. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند
_________
(١) قبل أن يبنى. والمقصود هنا موقع البيت الحرام- الكعبة.
(٢) الدوحة: الشجرة العظيمة.
1 / 13
الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (١).
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه، يتلوى، يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت (الصفا) (٢) أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي (٣) رفعت درعها (٤) ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت (المروة) (٥) فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فعلت ذلك سبع مرات.
قال النبي ﷺ: "فلذلك سعى الناس بينهما".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه .. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه (٦)، وتقول بيدها هكذا .. وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.
_________
(١) سورة إبراهيم: الآية ٣٧.
(٢) هو جبل الصفا الذي يبدأ الحاج منه السعي.
(٣) وهو ما بين العلامات الخضر الموجودة داخل المسعى الآن.
(٤) درع المرأة هو قميصها.
(٥) جبل أخر.
(٦) تجمعه.
1 / 14
قال النبي ﷺ: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينًا معينًا".
فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله .. فكانت كذلك حتى مرت بهم رِفْقَةٌ من جُرْهُم، أو أهل بيت من جرهم (١)، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطير ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين (٢)، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم .. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم.
قال النبي ﷺ: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم". وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم.
وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشتهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشرٍ، نحن في ضيق وشدة وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي ﵇ وقولي له يغير عتبة بابه.
_________
(١) جرهم حي من اليمن نزلوا مكة تزوج فيها إسماعيل، ومع مرور السنين ألحدوا فأبادهم الله (لسان العرب).
(٢) الجري هو الرسول.
1 / 15
فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشىء؟ قالت: نعم .. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي .. وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوج منهم أخرى.
ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه: فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم .. فقالت: نحن بخير وسَعَة، وأثنت على الله ﷿، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: ما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللَّهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي ﷺ: "ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ .. ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه".
قال ابن عباس: فهما لا يخلو عليهما (١) أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.
قال إبراهيم ﵇: فإذا جاء زوجك فاقرئي ﵇ ومريه: يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة -وأثنت عليه- فسألني عنك فأخبرته .. فسألى: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم. وهو يقرأ عليك السلام. ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة .. أمرني أن أمسكك.
_________
(١) أي اللحم والماء.
1 / 16
ثم لبث عنهم ما شاء الله .. ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا من زمزم .. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل .. إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك به ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: "فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا .. وأشار إلى أكمة (١) مرتفعة على ما حولها".
فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له .. فقام عليه وهو يبني .. وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:
"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم"
فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت .. وهما يقولان:
"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم"] (٢)
هذه هي قصة قدوم إبراهيم وهاجر وابنهما إسماعيل عليهم الصلاة والسلام .. وهذه هي بداية الكعبة المشرفة التي أمر الله ببنائها. وفي ذلك يقول ﷾: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا
_________
(١) الأكمة الموضع الذي هو أشد ارتفاعًا مما حوله.
(٢) رواه البخاري عن ابن عباس.
1 / 17
مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (١).
وكان لإبراهيم وابنه إسماعيل ﵉ قصة أخرى .. ليس فيها بناء .. بل فيها الصبر والدماء .. فقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه .. ورؤيا الأنبياء وحي من الله .. فكانت هذه الأحداث التي يقول الله عنها: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)﴾. (٢)
وكان هذا الذبح كبشًا افتدى الله به نبيه إسماعيل .. وحفظ به نسله من الانقطاع.
سافر إبراهيم .. وماتت هاجر .. وبقي إسماعيل في مكة حتى مات .. ودفن هناك .. ومرت الأيام على بيت الله وكعبته، وسلالة إسماعيل تحيط بها وتوحد الله .. وتحج بيته الحرام لا تشرك به شيئًا.
نعم لا تشرك به شيئًا .. حتى خرج ذلك المخرب .. ذلك الشيطان المسمى بـ: عمرو بن لحي .. فأعاد غرس الشك في أرض مكة وقلوب أهلها .. وانحرف بهم وبغيرهم عن توحيد الله الذي من أجله بعثت كل الرسل .. وأنزلت كل الكتب السماوية ..
(عمرو بن لحي بن عامر الخزاعي، يجر قصبه في النار .. وكان أول
_________
(١) سورة البقرة: الآيات ١٢٥ - ١٢٩.
(٢) سورة الصافات: الآية ١٠٧.
1 / 18
من سيب السوائب وبحر البحيرة) (١) وهي شياه وبهائم تترك للآلهة لا تُمَسُّ ولا تُحْلَب ..
غصَّت مكة بالشرك والأصنام .. وشكت الكعبة مما نصب على ظهرها .. وانحرف بنو إسماعيل عن توحيد ربهم الواحد الأحد وعن ملة أبيهم إبراهيم .. وكان آخرهم: عبد المطلب الذي حاز الزعامة والشرف .. وحاز بئر زمزم .. ولكنه لم يحز بعد كل أحلامه .. لقد كان يحلم وينذر ..
كان يحلم بعشرة وذبيح
تَلَفَّت عبد المطلب فوجد الناس تنظر إليه .. تحبه وتجله وتحمله في قلوبها .. وتَلَفَّت ثانية وثالثة .. ونظر وراءه فلم يجد خلفه إلا ابنه الحارث .. فرفع رأسه إلى السماء يخاطب خالقها الكريم الذي ساق له المجد .. أن يقر عينه بأخوةٍ للحارث، وظل يدعو ويدعو .. يخاطب الناس حوله .. يشهدهم ويقول لهم إنه (قد نذر إن توافى له عشرة رهط (٢) أن ينحر أحدهم، فحقق الله له ما أراد، ولما توافى العشرة أقرع بينهم أيهم ينحر، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب - وكان أحب الناس إلى عبد المطلب.
فقال عبد المطلب: اللَّهم هو أو مائة من الإبل.
ثم أقرع بينه وبن الإبل، فطارت القرعة على المائة من الإبل) (٣)
_________
(١) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ. انظر صحيح الجامع الصغير للإ مام الألباني (٦٥٣).
(٢) أي رزقه بعشرة أبناء.
(٣) إسناده حسن، ورواه ابن جرير في تاريخه (٢/ ٢٣٩): حدثي يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب أنه =
1 / 19
إن الله يعطى بلا ثمن .. يرزق من يشاء بغير حساب .. ليس بحاجة لدماء ذلك الطفل الصغير .. لكن والده شدد فشدد الله عليه .. فأصابه بأغلى ولده فلم ينجه من ورطته إلا مائة من الإبل .. انتشلت ذلك الصغير من السكين ليعيش بقية عمر قصير .. منقوشًا في التاريخ ما بقيت الجبال على ثباتها والأرض على استقرارها.
الزواج
تربى عبد الله ذلك الطفل الوديع في قلب عبد المطلب .. وتربع فيه .. وبلغ مبلغ الرجال دون أن يعرفه قومه بطيش أو سفه .. كأني به هادئ كثير الصمت والتأمل .. مليء بالانتظار .. ليس في حياته ما يثير .. كان كالعالم من حوله ينتظر وينتظر .. ويبحث عن زوجة له في بيوتات مكة ويسأل .. فكانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف هي الحبيبة .. وهي الاجابة.
تزوجا .. فكان الحب .. وامتلأ بيتهما الصغير بالبهجة .. وبالشباب الغض الحالم بحياة بيضاء فسيحة .. مليئة بالربيع والأطفال والجمال ..
_________
= أخبره أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة ...
شيخ ابن جرير يونس بن عبد الأعلى الصدفي ثقة من رجال مسلم، وشيخه عبد الله بن وهب، أبو محمَّد المصري: ثقة حافظ عابد، انظر التقريب (١/ ٤٦٠). أما يونس بن يزيد ابن أبي النجار، فهو ثقة، لكن هناك اختلاف في روايته عن الزهرى عند النقاد، فالأغلب يجعله أوثق الناس فيه وبعضهم يرى في رواياته عنه وهمًا، لكن الأرجح ما مال إليه الحافظ ابن حجر في التقريب من أن في روايته وهمًا قليلًا. لا يسقط حديثه بل يجعله حسنًا لذاته ما لم يخالف، وهذا ليس من أحاديث الرسول ﷺ بل هو رواية تاريخية. انظر التهذيب (١١/ ٤٤٧، ٤٤٨، ٤٤٩) والتقريب (٢/ ٣٨١).
1 / 20
ولم يكن هذا الشاب يدري أن القضاء أقوى منه .. ومن فدية أبيه .. لم يكن يدري أن تلك الأحلام الراقصة في مخيلته كانت لغيره .. إنها للعالم أجمع .. أما هو فتوشك أن تدلف بيته الصغير سحابة سوداء .. مشبعة بالحزن والدموع والنواح .. فعبد الله الذي فر من الموت بمائة من الإبل يسعى إلى حياضه على واحد منها .. امتطى راحلته وتوجه نحو يثرب .. حيث كان الموت في انتظاره ليسكنه في أحد مقابرها .. بعيدًا عن عبد المطلب .. بعيدًا عن مكة .. بعيدًا عن آمنة الحزينة .. التي كانت تحمل أمانة عبد الله وأحلام عبد الله .. جنينًا يتيم قبل أن يرى هذه الدنيا.
كانت مكة تتساءل: أحقًا مات عبد الله؟
كأني بعبد المطلب والفاجعة أفقدته صوابه يسأل القادمين من يثرب فردًا فردًا .. يعترض قوافلهم .. يتعلق بأزمة مطاياهم .. علّه يسمع تكذيبًا لما سمع .. علّ أحد المسافرين يصيح بوجهه فيقول: أبشر فعبد الله لم يمت ما زال حيًا .. وهو قادم إليك ..
لكن صمت القوافل كان يحمل أنفاس عبد الله الأخيرة تودع هذه الدنيا .. وتودع عبد الطلب .. لينثني ذلك الشيخ الكظيم طاويًا حرقته بين أضلاعه .. يحاول دفع ما به من حزن فتفضحه عيناه أمام آمنة المفجوعة .. فتبكي حبيبها الذي قبض بعيدًا عنها .. وفارقها في وقت كانت تحترق لعودته .. تشتاق لرجوعه محملًا بالحب والهدايا وحكايات السفر.
الحيرة والوجوم يملآن مكة لهفًا على عبد الله .. لكن ذلك لم يدم طويلًا فقد جاء:
1 / 21
الفيل يمزق السكون
لم يطل ذلك الوجوم في مكة .. فسرعان ما تفجر الخوف من جبالها .. وانتفضت بطحاؤها هلعًا .. فمكة اليوم تئن تحت أقدام فيل مخيف .. وحراب جيش ضخم زاحف لهدم بيت الله الحرام وطحنه .. كان ذلك الجيش يرج مكة من أقصاها إلى أقصاها .. ومن عبيدها إلى ساداتها .. كأنما كان يدحرج أمامه جبال اليمن وسد مأرب معها. فتطاير أهل مكة فوق ذرى الجبال .. وتفرقوا بين الشعاب .. فالأمر فوق ما يحتملون .. ولكن سيد قريش عبد المطلب لم يهرب .. لقد ثبت لهم .. وحمل روحه بين كفيه لمساءلتهم. فقال لملكهم (١):
(ما جاء بك إلينا، ما عناك يا ربنا، ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال الملك:
أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا آمن، فجئت أخيف أهله. فقال عبد المطلب:
إنا نأتيك بكل شيء فارجع. فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت. وأَهَلَّ ثم قال:
اللَّهم إن لكل إله ... حلال فامنع حلالك
لا يغلبن محالهم ... أبدًا محالك
_________
(١) لم ترد تسمية هذا الملك ربما كان أبرهة كما جاء في بعض الروايات الضعيفة عند ابن إسحاق، وأبي نعيم في الدلائل (١٤٤) وغيرهما، وقيل: إن أبرهة بعث رجلًا اسمه سمبر مصفود على عشرين ألفًا ...
ليس لدي ما يرجح رواية على رواية.
1 / 22