The Arab Woman in Her Age of Ignorance and Islam
المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها
Yayıncı
مكتبة الثقافة
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٣٥٠ هـ - ١٩٣٢ م
Yayın Yeri
المدينة المنورة - المملكة العربية السعودية
Türler
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم باسمك نعتزم وبركنك نعتصم وبحولك نستدفع الوهن ونستعدي على الزمن، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، لك الحمد في الأولى والآخرة، إنك أنت ملهم القول وولي التوفيق.
1 / 5
مقدمة
في سبيل المرأة
ماضينا وحاضرنا
نحن لا ننزع إلى الكمال لأن لنا فيه نسبًا عريقًا، وطريقًا عميقًا إذا أنني عطف الزمان، فنحن مطلع فجره فخره. أو التبست عُقد العظائم، فنحن حُماة شرعتها، وكماة حومتها بنا استصحفت مِرة المجد واستشرقت ذروته ولنا عُقد لو اؤه، وتأثل بناؤه، فإذا ابتغينا الحياة سنَية، وابتعثنا الأمل جنيًاّ، فلسنا بغاة نصفة ولا عُفاة معدلة، وإنما هو ميراث سُلبناه في غفوت الليل، وغلس الظلام، فنحن ننزع عنه شرك العوائق، ونرد دونه كيد الخطوب.
1 / 6
تلك صفحة من صفحات تاريخنا الذي نعتز به، ونطرب له، ونستثني من الرجاء منه ولعلها أحفل الصفحات بالعظات، وأجمعها للعظائم، وآهلهَا بنُبل الُخلق، وسناء الحياة. تلك هي المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها، حياة العظمة الوادعة الرائعة؛ النفس الأبية النقية.
تلك هي المرأة التي يحدث المؤرخ المُنقَرّ الإنجليزي العظيم (كلاي مما استَشفه من أطلال بابل إنها كانت منذ أربعة وأربعين قرنًا تجاذب الرجل سياسة الأمة، وولايتها الأمر، إنها كانت منذ أربعة وأربعين تجاذب سياسة الأمة، وولايتها الأمر، وجدّ العمل، وشُئون الحياة.
تلك هي للمرأة التي وثب بها الإسلام ووثبت هي به، وكان أثرها في تكوين
رجاله، وتصريف حوادثه، أشبه ما يكون بأثر الهادئ الفياض في زهر الرياض.
يريد نساؤنا أن ينهضنَ، فهن يبتغين الوسائل ويتلمسن الخطى. وما لهن لا ينهضن؟ ومنذا يذودهن عما شرع الله لهن؟ وهل هن إلا منابت حُماتنا، وأساة جراحنا، وبُناة دولتنا ومنار دعوتنا، ومثار قوتنا؟ وهل نحن وإياهن إلا كجناح النّسر الصاعد إذا ينهض أحدهما خفُض الآخر فيصبح لا يجد في الأرض مَقَعدًا ولا في السماء مصعدًا؟
لينهض النساء ما شئن أن ينهضن، ففي نهوضهن، وبلغ غايتنا، ولكن ليحذر الآخرون بيدها والداعون إلى نهوضها التواء القصد، والتباس الطريق فينالها الزلل وتَلِجُّ بها العثرات حتى يقول قوم لقد كان ما كانت فيه خيرًا وأبقى.
1 / 7
ألا وإن من الالْتِواء القصد، وضلال الطريق، وأن ندع نساءنا يتخذن من المرأة الأوربية مثالًا يحتذينه، ويمعنَّ في التشبيه به.
نحن قوم تحتكم بنا أمزجتنا، وأسلوب حياتنا، وأجواء بلادنا وتكوين طبائعنا، ونظم شرائعنا، فمن الظلم أن نقول لنسائنا خُضن ثَبَجَ البحر واقتحمن شعاف الجبل وكن نساء أوربيات تَرَيَنَ ما يرين، وتدّعن ما يدعين. ذلك تكليف لا قدرة عليه ولا خير فيه. .
نعوذ بالله أن ننكر على المرأة الأوربية وفر فضلها، وسماحة عقلها، فذلك ما لا نجد له السبيل غلى جحده والإنكار له ولكننا ننكر عليها أعراضًا قد لا تبتئس بها، ولا يأبه لها من حولها، على أنها مما يحز المفاصل، ويستثير الغوائل وهي إذا نقلت إلينا كانت أشد وأفتك. ونخشى إذا حملنا نساءنا على الأسوة بنسائهم أن تكون الأعراض هي الأولى والآخرة.
لا أكذب فالمرأة الأوربية ليست المثل الأعلى للمرأة العظيمة. فإن قيل هي كاتبة حاسبة، وصانعة بارعة، قلنا لم تزد أن دعمت حياة المادة وزادتها نوطًا جديدًا.
ولو كان لها أثر نافذ لنُسخت عبادة القوة، ودال سلطان الأّثَرَة ولأبصرت القوم يبادرون إلى عون الضعيف، وغوث اللهيف، ولما استمتعت أنه المظلوم تكاد تنفطر لها السماوات وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هَدّا.
أجل بصرك بين أعطف هذا العالم وأطرافه ثم انظر هل ترى إلا رجلا مغشيًا بالغل أو محنيًا على الضغينة؟ وهل تجد إلا امرأة مَطْويةً على كبد حَرّى أو مهجة
1 / 8
حَسْرى؟ وهل تبصر إلا واترًا وموتورًا، قاهرًا ومقهورًا؟ وهل تُحسُّ الأُلفاء والقرَناء بإخاء صاف، وودّ غير مدخول؟ وهل تعلم في القوم إلا الخُلق المضطرب، والخَلة المُموّهة، ويدًا شعث الكلب، وتدمي قلوب الشعوب، فما ينهل من الدم ويشكو الأوام، فأين يد المرأة أثرها، غير تهذيب النفوس وتطهير القلوب خُلقت المرأة؟
لكل ذلك أُناشد نساءنا أن يَسْدلن الحُجٌب بينهن وبين نساء أوربا ففي أمهاتنا الأوليات فضل وغَناء. أولئك اللواتي نَستَنُّ عن طيب عروقهن وكرم أخلاقهن، وتلك دماؤهن تترقق بين جوانحنا وأعطاف قلوبنا. فأما نحن فيه من مظاهر النَّوْة بالواجب والنّكول عن الجد فإنما هو صدأ عارض وغشاء مستحدث علينا تطاول الزمن وتتابع الحادثات وما أصابنا في سبيل ذلك من فداحة الظلم وذل الإسار.
ففي سبيل الكمال المُطلق، والحياة الخالدة، أسواق حديث المرأة لا إلى النساء فحسبُ، بل إليهن وإلى الرجال معهن فإن صلاح كل من الفريقين لا يقوم إلا على صلاح صاحبه، والتجاوز له عن حقه الذي شرع له، وسيعلم الناس مبلغ تلك المرأة في عهد جاهليتها من قّوة النفس. وحرمة الرأي، وعزة الجانب، ونبل الخليقة، وكيف انتهى بها الإسلام إلى أبعد مدى من الحياة ونهج لها أوضح سُنَّة من الفضائل وألبسها أحسن لَبوس من جلال الكمال وجمال الخلال.
لذلك أنشأت كتابي مستعينًا بعناية الله، مستهديًا بهداه وحده وليّ النُّجْح، وهادي
السبيل.
1 / 9
وقد فصلته على أربع أجزاء:
الجزء الأول: المرأة العربية في عهد جاهليتها.
الجزء الثاني: المرأة العربية المسلمة في عصورها الزاهية.
الجزء الثالث: الدور الثاني من أدوار المرأة العربية في عصورها الزاهية.
الجزء الرابع: المرأة العربية الحديثة، وفيه وصف المرأة في أرجاء جزيرة العرب. مما قاله أهلها وما كتبه المستشرقون الذين نزلوا بها. ووصفها في كل قطر من الأقطار المتعربّة.
1 / 10
المرأة في الحياة
(ومن آياته أَن خَلقَ لكمِ مِن أَنفسكم أزواجًا لتَسكُنُوا إليها وَجَعَل بينَكم موَدة وَرَحمة لآيات لقوم يَتَفَكَّرُن).
ما كان الله لِيَدَع الرجل تحت أوقار الدهر: وأثقال الحياة، حتى يخلق له من نظام نفسه، من يذود عنه هموم نفسه، ويحتمل دونه الكثير من شئونه، ويضيء له ما بين من شعاب العيش وظلم الخطوب.
تلك هي المرأة قسيمة حياته، ومباءة شكاته، وعماد أمره، وعتاد بيته، ومهبط نجواه، وتلك هي آية الله ومنته ورحمته لقوم يتفكرون. ينهض الرجال إلى الحياة بعزم وقوة يستمدان عقله ورايه، وتستقبل المرأة الوجود بعواطف فياضة يتجلى بها قلبها الخفاق فتأسو بها ما جرحته من قلب الفضيلة.
فإن ظهر الرجل بمضاءه وذكاءه فغن للمرأة غايتها من صفاء القلب، ونقاء السريرة، وما ينبعث عنهما من وفاء ووَلاء، وحنان وإحسان، وتسلية، وغَياث مكروب ونجدة منكوب، وما إلى ذلك مما يقيم مائل الارض، ويلم صدعات الحوادث.
من أجل ذلك كان قول المرأة في قلب الرجل وأملك لنفسه سواه. ولقد ريع النبي ﷺ لرؤية الروح الأمين أوَل عهده
1 / 11
به وملكه الفزع منه فلم يجد - وهو صفي الله وصفوتهُ من خلقه - من يُسرى روعه ويَشُدُّ قلبه إلا زوجه خديجة إذ تقول له: كلا والله لا يخزيك أبدًا إنك تحمل الكَل، وتُكْسِبُ المعدوم. وتعين على نوائب الدهر.
ذلك قول المرأة التي أزرت نبي الله، وَوَاسَتْهُ بمالها وقلبها، وفرجَت عنه مواطن محدقة مُطبقة واحتملت دونه خطوبًا جمة فوادحَ، وكان قولها أنفذ في نشر دين الله من ألف سيف تنْتَضى في سبيل الله.
ذلك وحي من الله وإلهامه على لسان المرأة فنزل بردًا على قلب الرجل. أفبعد هذا
القول من ذلك القلب غاية لمستمع أو سبيل لمستزيد؟
ألا إن خشية الله ودينه - وهما سبيل الكمال - لا يجدان مجالًا أهدى، ولا موطنًا أخصب من قلب المرأة، لأن حاجة الدين إلى قلب صاف، وعواطف غالية أشد من حاجته إلى قلب ذكيّ، ورأى أَلَمعِي.
إلى كل ذلك تنتقل المرأة إلى طور آخر تبلغه، فتبلغ به غاية ما أُعدّت له من كمال النفس وشرف العاطفة. ذلك طور الأمومة. فهناك تنزل المرأة عن حقها من الوجود لمن فصل عن لحمها ودمها تسهر لينام، وتظمئ ليروى، وتحتمل الألم الممض - راضية مغتبطة - لتذيقه طعم الدعة، وتنشيه نسيم النعيم.
تلك هي التضحية بالنفس بلغت بها الأمومة غايتها.
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
إن من آيات التضحية في المرأة ما يقف دونه الرجل عانَىِ الوجوه نادِىَ الجبين ومن أمثال ذلك ما أنا سائقه وقاُّصه عليك: -
1 / 12
في صيف ١٣٢٩هـ كانت إحدى بواخر النيل تحمل العابرين غادية رائحة بين كفر الزيات ودسوق. ففي ذات مرة أخرج الرُّبان صدرها بمن احتملهم من قصاد المولد الدسوقي، فقذفها بضعفي ما تحمل.
سارت البواخر متعثرة تتحامل على نفسها وتضطرب في خطاها فما كادت تنكشف إلى عرض النيل قليلًا حتى آدها حملها، فانبتَّ عِقدها، وانحلت عُقدتها ومالت على نفسها، وتدفق الماء من منافذها. هنالك خرج الناس عن عقولهم، وتملكهم الفزع الأكبر، وظنوا أنهم أحيط بهم، فأخذوا يتدافعون على صدر النيل علَّهم يلقون يدًا تدفعهم أو ترفعهم.
بين هذا الحفل المتماوج المتدافع تقطعت الأنساب، فلا أب ولا أم ولا زوج ولا ولد. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وفي ذلك الموطن الذي دارت عليه كؤوس
الموت مُترعة ظهرت امرأة لا تتلمس الشاطئ كما يتلمسون، ولا تُلَوَّح بيدها كما تلوحون بل كان كن شُغلها والموج يرفعها ويخفضها والموت يقبضها ويبسطها: أن نزعت خمارها، وأدرجت فيه ولدها، ثم لوحت به إلى زوجها، وقذفته على صفحة الماء مترافقة إليه وصاحت به متهدجة قائلة: -
خذ يا فلان فذلك وصيتي إليك. . .
قالت ذلك ثم غاصت بين طيات الماء بعد ان أسلمت وديعتها وأبرأت إلى الله نفسها. . .
إلى تلك المنزلة السامية رفع الله المرأة ليكل إليها أشرف منازل الحياة: منزلة
1 / 13
التربية والتعليم، منزلة الأستاذ الذي لا يمحو علمه، ولا ينسخ آيته أستاذ سواه، بل كل سائر على سنته، ومستنبع طريقه.
لقد كان من سنن اليونان أيام سقراط وأفلاطون ومن لفَّ لفهما أن يقف الرجل خاشعًا حاسرًا الرأس إذا مرت به حامل وما كان ذلك لمظهر جثماني فليس في ذلك ما يدعو إلى الهيبة والخشوع، بل ذلك لما مهد الله لها من عمل روحي ملكّي مقدّس.
فيأيتها الأم الرؤوم: ليس ذاك الذي بين يديك بالطفل الذي يبقى أمد الحياة طفلا، بل هو سر الوجود يذاع عنك وصفحة الحياة تنشر عن أثرك وهو أدل عليك من أسارير وجهك وبيان لسانك.
ليست هذه البَضْعة المتحركة باللعبة الُملهِيَة هي العاَلم الأكبر يضطرب كأضطرابه، ويتخايل في مخايله. فانضري على أي حالة تريدين أن يكون الكون.
ليس ذلك الدارج بين عينيك بالصبى الخَلى بل هو خبيئة الدهر وعُدّتُه وربما ضم معاطف ثوبه على رجل الدنيا وواحدهما. وما ينبئك لعل هناك ملكًا يترقب سيفه، أو عرشًا يطمئن لقدميه، أو أمة تنتظر النصفة من وَضَح رأيه، وفيض بيانه.
إن تلك النزلة التي أعدك الله لها هي تلك التي وصفها بحقّ وصفها بطلُ التاريخ لحديث - بونابرت - فقال: إن المرأة التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسراها ولقد سائل ذات مرة: أي حصون فرنسا أمنع؟ فقال: المرأة الصالحة. . .
1 / 14
ليست المرأة باْلَخلْق الضعيف. فإن من احتمل ما احتملته في ظلمات التاريخ من عنت الدهر، وعسف الأب، وصَلَف الزوج، إلى وَقْر اَلحْمل، وألم المخاض وسُهد الأمومة - راضيًا مطمئنًا - لا يكون ضعيفا.
وليست بالخلق الحقير. فإن من وكَلَهُ الله بابتناء الكون وإنشاء الأمة لا يكون حقيرًا.
ألا إنما المرأة دعامة الكون لا يزال ناهضًا مكينًا ما نهضت به. فإن وَهَنَتْ دونه، وتخاذلت عنه، تهاوت عمده، وتصاعدت جوانبه.
ولقد فتح المعز لدين الله ما يلي أفريقية حتى البحر المحيط، ثم أخذ يرنو إلى مصر واجمًا متهيبًا فلم يزال ذلك أمره حتى قال قائل: إن نساء قصر الإخشيد أغرقن في الترف واستهن بالفضيلة. . . فما لبث أن قال: اليوم فتحت مصر. . .
وكذلك وهنت نفس المرأة وهي مصدر قوتها وسبيل عملها فانَبت نظام الملك وانفصمت عروة الأمة، وكان حقًا على الله أن يبدلها ويُديل منها وما ربك بظلام للعبيد.
1 / 15
المرأة العربية في عهد جاهليتها
نصيبها من الوجود
لم تطْوَ التاريخ على امرأة بلغ من الضَّنَّ بها، والإيثار لها، وبذل المهج رِخصًا في سبيلها، ما بلغ بالمرأة العربية في تلك الحقب المتطاولة المترامية.
نشأت المرأة المصرية في قوم غَلَبت عليهم دقت الحِسَّ، وسَورة النفس، وخوض مناهل الدم خوف انثلام الشرف، واستباحة الحمى، فكانت هي أدق أوتار الحس في قلوبهم، وأوضح مواطن الشرف في نفوسهم. ولولا المرأة ما كان بالرجل نزوع إلى حًمى، ولا رَعْى على وطن.
لقد كان العرب رُوَّادَ غارات، وطلاَّب ثارات، وكان الرجل منهم يغتمر الموقعة لا يدري أَوقع على الموت أم وقع الموت عليه؛ غير أن ابنته وما عسى أن يصيبها بعده من حاجة وهوَ إن كان يتغلغل في نفسه فيهيج بها حبّ الحياة. فمثله في ذلك مثل إسحاق بن خلف حيث يقول: -
لولا أُمَيْة لم أجزع من العدم ... ولم أَُجب في الليالي حِنْدِس الظُّلَم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذل اليتيمة يجفوها ذوو الرحِم
تهوى بقائي وأهوى موتها شَفَقًا ... والموت أكرم نزال على الحرَم
أحاذرُ يومًا أن يُلم بها ... فيكشف الستْرَ عن لحم على وَضَم
إذا تذكرت بنتي حين تندبني ... فاضت لرحمة بنتي عَبرتي بدم
1 / 16
وفي سبيل ذلك يقول حَّطانُ بن المعلَّى:
لولا بُنَيَّات كزُغْب القطا ... ردُدن من بعض إلى بعض
لكان لي مُضْطَرَب واسع ... في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم ... لامتنعت عيني عن الغمض
كذلك كانت المرأة تهتف بالرجل أو تلمُّ به تحت ظلال السيوف، وقد ملَلك الروعُ القلوبَ، وعقد الهول الألسنة، وانثغرت الأفواه، وحارات النواظر في المحاجر؛ فيستمد عزمًا نبا؛ ويسترد قوة عَزَبت. ومَثَل ذلك ما فعل ابنتا الفِنْد الزَّمَّاني يوم تَحْلاَق اللمم وهو يوم انتصاف بكر من تَغْلب. فقد اشتجرت
1 / 17
الأسنة، واعتنقت الأبطال، ونفذت السيوف إلى أعماق القلوب وظهرت تَغْلبُ كالجذوة المضطرمة، وبدأت تنكشف وترتد. وهنالك الفتاتان البكريتان خماريهما ونفذتا بين صفوف قومها وأخذتا تُنْشدَان نفوسهم، وتذْكيان نار الحفيظة فيهم وكان مطلع قولهما:
وغى وغى وغى وغى ... حَرَّ الحَرَار واْلتَظَى
ومُلَئت منه الرُّبى ... يا حَبّذَا الُمحَلّقون بالضحى
وأقبلت من ورائهما كَرْمة بنت ضِلَع، أم مالك بن زيد، فارس بكر وواحدِها فتغنت بما يُحيل الجبان المستطار شهابًا ثاقبًا، وسعيرًا مستطيرًا، وكان مما تغنت به قولها:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مَشْيَ القُطَيّ البارق ... المسكُ في المفَارق
والدُّر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق ... فِرَاقَ غير وامِق
عِرسُ المُوَلّي طالق ... والعار منه لاحق
فلم يلبث القوم أن تدافعوا وراءهن على أعدائهم، واقتحموا صفوفهم، واستباحوا معاقلهم، وأعملوا السيوف في رؤوسهم، وأنهلوا الأسنة من صدورهم فلم ينكشف
1 / 18
الهول حتى كانت تغلب بين قتيل وأسير وشريد، وفي مثل هذا الموقف يقول عمرو بن كلثوم:
على آثارنا بِيضٌ حِسَانٌ ... نُحاذر أن تُقَسم أو تهونا
أخَذْنا على بعولتهنّ عهدًا ... إذا لا قَوْا كتائب مُعلمينا
لَيَسْتَلِبُنّ أفراسًا وبيضًا ... وأسرى في الحديد مُقَرّنينا
إذا ما رُحْن يمشين الهُوَينى ... كما اهْتَزَّت متون الشاربينا
يقْتَن جيادنا ويقلن لستم ... بُعُولَتَنَا إذا لم تمنعونا
إذا لم نحمهن فلا بقينا لشيء بعدهن ولا حيينا
كل ذلك ينبئك أن المرأة العربية مَثَار عاطفة الرجل، ومَدَار وِجدانه، هي سر حياته وموته، هي مَهَاج غضبه، ومَعقِد أُلفته، هي مُجْتَلَى قريحته، ومطلع قصيدته، هي موطن غنائه، ومذهب غِنَائه، هي مَشْرِق وحيه، ومنار إلهامه، هي نور الوجود في ناظريه، هي كل شيء بين يديه.
لقد بلغ خيال العربي من السموّ بالمرأة أن جعل الملائكة أشباهًا لها ونظائر فقال:
هم بنات الله وصَفِيَّاته. . .
تعالى الله عما يقولون علَّوا كبيرا.
وإذا علمت العرب اتخذوا الملائكة آلهة من دون الله فما ظنك بأشباههم يومئذ؟
بل ما ظنك بامرأة ملكت على الرجل قلبه ورأيه فلا يكاد يصيب معن، أو يطيف بموضوع، حتى يُلِمَّ بذكْرها، يتغنى بمحاسنها، ويمتدح بشمائلها، ويتأثر بأطلالها ومَعَالمها.
1 / 19
كذلك كان يفعل شعراء العرب، وهم ألسنة القوم، وحَفَظة آدابهم وحُماة مجدهم، وشُرَّاع فضائلهم. حتى لقد بكى مُهَلْهِلُ بن ربيعة كليبًا أخاه وهو مُحْرَق الكبد، موصل الكَمد، فبدأ بالمرأة يذكرها ويصف دارها، قبل أن يذكر أخاه، وذلك حيث يقول:
الدار قَفْرٌ عفاها بعد ساكنها ... بالريح بعد ارتحال الحيَ عافيها
وغالها الدهر إن ذو غِيَل ... فأصبحت بَلْقعًا قفرًا مغانيها
إلا رَواكدَ سُفْعًا بين مُلْتَبِد ... مثل الحمامة منتوفًا خوافيها
دار لمهضومة الكَشْحَين خَرْعَبةٍ ... كالشمس حين بدا في الَّضْوء باديها
فما زال يستتبع قوله في وصف صاحبة الدار حتى قال:
كليبُ لا خير في الدنيا ومن فيها ... إذ أنت خلَّيتها فِيمن يُخَلّيها
كذلك فعل الحارث بن عُباد بعد أن قتل مهلهل ابنهُ بحيرًا واستَعَرَت جمرة الحفيظة والثأر في صدره، حتى صبها على آل مهلهل جحيمًا وحميمًا. فقال يصف فتكته، ويذكر ولده في قصيدة ضافية ألم في أولها بالمرأة فقال:
بانت سعاد وما وَّفتك ما تعد ... فأنت في إثِرها حَرّانُ مُعتَمدُ
1 / 20
وما زال يمعن في وصف سعاد حتى استكمل فيها عشرة من أبيات كاملة، ثم عطف على موضوعه فقال:
سل حتى تغلب عن بكر ووقعتهم ... بالِحنو إذ خَسِرُوا جهدًا وما رَشَدوا
لعمرك ما ترك الحزن لمهلهل ما يشغله عنه، وما أبقى الزمن للحارث ما يقوى على اللهو به. فما لهما يفعلان ذلك؟ أما إنهما لم يفعلا ما فعلا إلا ليتألفا المعاني النافرة ويستقيدا الألفاظ الشاردة. ولولا ذلك ما جاء قولهما كماء جاء عذبًا فراتا.
ذلك طبع العرب. وتلك سنتهم.
ولقد كان الرجل منهم وما كاد يبتدر صالحةً، أو يسبق إلى مَكْرُمة، حتى يسبق إلى المرأة، فيسوق إليها الشعر فياضًا بمأثرته، حفيلًا بمفخرته، وأكبر أمله أن تذكره بكلمة طيبة بين نظرائه، فيروحَ عنها بفخر لا ينفد، ومجد لا يبيد. وفي مثل ذلك يقول شاعر قيس:
إنا مُحَيُّوكِ فَحّيينا ... وإن سَقَيْتِ كرام الناس فاسقينا
وإن دعوت إلى جُلى ومكْرُمة ... يومًا سَرَاة الناس فادعينا
ويقول شاعر ذُهل يوم ذي قار:
إن كنت ساقية يومًا ذوي كرم ... فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا
واسقي فوارسَ حاموا عن ذِمارهم ... واعلي مفارقهم مسكًا ورَيحانا
بل لقد كان الرجل يأتي الأمر تسوّغه نفسه؛ ويحمله عليه موقفه وربما كان الخير كله فيه، فلا تهدأ نفسه، ولا تطمئن سريرته، حتى يُفضى إليها بعذره،
1 / 21
ويكشف عن مكنونه أمره. وفي مثل ذلك ما يقول أَزهَرُ بن هلال التميمي يعتذر عن فراره:
أعاتِكَ ما ولّيت حتى تبددت ... رجالي حتى لم أجد متقدّما
وحتى رأيت الوَرد يَدْمَى لَبَاُنهُ ... وقد هزه الأبطال وانتعلَ الدَّما
أعاتك إني لم أُلم في قتالهم ... وقد عَضّ سيفي كبشهم ثم صّمما
أعاتك أفناني السلاح ومن يُطِل ... مقارعة الأبطال يرجعْ مُكلما
وشبيه بذلك قول من يقول:
قالت سَلاَمة ما رأى عادةً ... أن تترك الأعداء حتى تُعذِرا
لو كان قتل ياسلامَ فراحةُ! ... لكن فررت مخافةً أن أوسَرا
وسبقت قبل المقرفين فوارسًا ... لبني فزارة دارعين وحُسَّرا
ولعل هذا أبلغ من هذين معذرة، وأقوام سبيلًا، ذلك الذي يعتذر عن قراره في داره، ورضاه باليسير من عيشه، فيقول:
قالت أما ترحل تبغي الغنى ... قلت فَمنْ للطارق المُعتم؟
قالت فهل عندك شيء له ... قلت نعم جُهْدُ الفتى المعْدِم
فكم وحقّ الله من ليلة ... قد أُطعِمُ الضيف ولم أَطَعم
إن الغِنَى بالنفس يا هذه ... ليس الغِنَى بالمال والدرهم
ومن أمثل ما جاء في الاعتذار إلى المرأة قول عنترة العبسي:
بَكَرَت تَخوّفني الحتوف كأنني ... أصبحتُ من غَرَض الحتوف بمعزلِ
فأجبتها: إن المنية منهل ... لا بدّ أن أُسقى بكأس المنهل
1 / 22
أما ضنُّ الرجل بها، وإيثاره لها، وحرصه عليها، وتفديته إياها بنفسه وما ملكت يمينه فقد بلغ من أمره أن كسرى أَبْرويز ملك الفرس وسيد ملوك المشرق، وأرسل إلى النعمان يبغي مصاهرته - ولو أن ملكًا من أقطاب العالم وأبطاله الفاتحين خَطبَ إليه كسرى ابنته لوثب عن عرشه زهوًا واختيالًا بتلك النعمة السابغة - على النعمان وهو مولاه، وصنيعته، والقائم بأمره، والقارّ لسيفه، والخاضع لسلطانه، رَدّ رسوله مُقَنّعًا بالخيبة ضنّا ببنات المنذر أن يكون قائد بيت أعجمي أيًّا كان مكانه وسلطانه. حتى إذا عاود الرسول مولاه بما لا يرضاه اضطرمت في صدره جذوة الغضب، وثارت بين جنبيه سورة الملك، فأرسل يستقدم عاهل العرب!
هنالك أبصر النعمان وميض الموت يلمع من صوب المدائن، فأودع ابنته حرقة وما يعتزُّ به من سيوف ودروع هانئ بن قبيصة الشيباني وذهب إلى حيث طرح تحت أقدام الفيلة، فذهبت بلحمه وعظمه ودمه كل مذهب من ثَغَرات الأرض وسَوّت معالم جسمه بالتراب.
بذلك نقع كسرى غليل غضبه، وأراد أن يعاود ما بدأ، فأرسل إلى هانئ يقضيه ابنة النعمان، فما كان نصيبه منه بأجمل من نصيب صاحبه. هاج كسرى هائجُ الحَنق على هذه الأمة التي استأسدت في وجهه، واحتجزت فتَاتَها دونه. فأرسل فيالقه يزَحم بعضها بعضًا ليوقع الخسف بها، وَيبسط رواق الذل ضافيًا عليها. وهنالك قام العرب يدفعون عن حوزتهم، ويذودون عن أعراضهم فالتقوا بجحافل الفرس على بَطحاء ذي قار، في موقعة احمرّ لها وجه الأفق. وارتفع النّقْع المثار، حتى مَحَا آية الشمس، فظهرت الكواكب واضحة عند منتصف
1 / 23
النهار. وقام من أبطال العرب من قطع وُضُن النساء حتى لا يجدن سبيلًا إلى الفرار إذا جاشت به
نفوس ذويهن؛ فتأججت عند ذلك قلوب القوم، وأرهفت أنياُبهم، واستحالوا إلى صواعق ساحقة. ثم انحسر القتال وقد ضربوا أعداءهم ضربة أطارت قلوبهم، فنكصوا على أعقابهم، وفزعوا إلى ديارهم، وسيوف أولئك البواسل، القلائل، الأباة الضيم، الحماةِ الذَّمار، تعمل في أقفيتهم حتى أرباض المدائن. وفي ذلك يقول العُديل العِجلى:
ما أوقد الناس من نار لمكرُمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار
وما يَعُدٌّون من يوم سمعت به ... للناس أفضَلَ من يوم بذي قار
جئنا باسلابهم والخيلُ عابسة ... لما استلبنا لكسرى كل أُسوار
ذلك يوم ذي قار. ذلك يوم انتصاف العرب من الفرس، وتحريرهم من رقهم ولم تكن المغالاة بالمرأة العربية وقفًا على ذوات الثراء والسناء منهن. فقد كان يغَالي بها وتغالي بنفسها، مها هان أمرها، أو اتضعت عشيرتها، ومثل ذلك ما حَدَّث ابن الأثير أن أحد دهاقين الفرس جَهدَ أن يتزوج امرأة من باهلة فأبت عليه ذلك. كل ذلك رَغم ما لدَهاقين الفرس من سعة العيش، ونعومة الحال، وما بلغته باهلة بين العرب، من لؤم الحسب، وانصداع النسب.
كذلك بلغ من غضب العربي للمرأة، وحرصه على كرامتها، ووقف شرفه على شرفها: أن يعمد الرجل منهم إلى الملك المتوج فيقصم هامته، حِيَاطة لهذا
1 / 24