Modern Şiir Devrimi: Baudelaire'den Günümüze (Birinci Kısım) - Çalışma
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Türler
تقديم
1 - مدخل إلى الشعر الحديث
2 - بودلير (1821-1867م) شاعر العصر الحديث
3 - رامبو (1854-1891م)
4 - مالارميه (1842-1898م)
5 - ثورة الشعر في القرن العشرين
خاتمة
كلمة أخيرة
تقديم
1 - مدخل إلى الشعر الحديث
Bilinmeyen sayfa
2 - بودلير (1821-1867م) شاعر العصر الحديث
3 - رامبو (1854-1891م)
4 - مالارميه (1842-1898م)
5 - ثورة الشعر في القرن العشرين
خاتمة
كلمة أخيرة
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول)
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول)
الدراسة
تأليف
Bilinmeyen sayfa
عبد الغفار مكاوي
تقديم
صلتي بالشعر صلة قديمة وحميمة. بدأت أكتبه في العاشرة من عمري حتى اجتمع لي منه بعد ذلك بسنتين ديوان صغير في حجم الكف لم يكن فيه بيت واحد موزون! وظللت محتفظا بهذا الديوان حتى ضاع فيما ضاع من كتب وأوراق، وتبعته بعد ذلك دواوين أخرى كنت أعتني بكتابتها وأفرح بوضع اسمي على غلافها وإثبات صدورها عن «مطبعتي الخاصة». كنت أخبئها في دولاب خشبي صغير أجعل مفتاحه دائما في جيبي. ولم تلبث أمي رحمها الله أن عثرت عليه فأراحتني منها جميعا؛ إذ عرفت بفطرتها - ولم تكن تقرأ وتكتب - أن أفضل ما يمكن عمله بهذه الكراسات الصغيرة المضيعة للوقت هو إحراقها في الفرن أو «الكانون» واستغلال أوراقها في شيء مفيد! واستمرت تجربتي في الشعر حتى الثانية والعشرين عندما توقفت تماما بعد حب فاشل. وبدأت تجارب أخرى في القصة والمسرحية تزاحمه، وأخذت الدراسة تحاصرني من كل ناحية حتى توارى غضبا أو حياء وراء طموح أكاديمي سخيف، واختنق تحت تراب المراجع والكتب العقيمة فلما عرفت أنني فقدت كنزه إلى الأبد، رحت أعزي النفس بتسمع خفقاته الضائعة بين ركام الكتب والأوراق والهموم، وأقنع بلمسات منه تصحبني في رحلتي اليومية فتعزيني عن خيبة أملي في الحياة والناس، وتسري في كل ما أكتبه - أو هذا على الأقل ما أرجوه - فتخفف من حسرتي التي لا تنقضي عليه.
وظل اهتمامي بالحياة مع الشعر قديمه وحديثه هو البقية الباقية من التركة الضائعة بعد أن تأكد عجزي عن قوله حتى في أشد أزماتي وأتعس لحظاتي. ويبدو أن روح الشعر أشبه بروح الآباء والأجداد لا تترك جسما دخلته ، ولا تخرج منه قبل أن يصبح جثة باردة. ومن يدري؟ فقد تكون قبسا صغيرا من النار الخالدة التي سرقها ذلك اللص الإغريقي العظيم «برومثيوس» وبدلا من أن يضعها بين أيدي البشر نسي فألقاها في قلوبهم. وتمر الأجيال بعد الأجيال ولم يزل لهيبها يحرقهم، ويجلو نفوسهم، ويشعرهم بعظمتهم وتعاستهم، ويجعلهم يسيرون على الأرض كالنيام الذين يحلمون بعالم أبهى وأكمل وأعدل ممكن التحقق على هذه الأرض نفسها.
هكذا رحت أعزي النفس من حين إلى حين بترجمة الشعر ودراسته وتقديم لمحات من تراثه إلى القراء والشعراء. فعلت هذا مع أشعار سافو اليونانية ولاوتسي الصيني وبرشت الألماني، إلى جانب دراسات أخرى في شعر جوته وغيره من أدباء الغرب. غير أن هذه الأعمال لم تقنعني أو ترضني، فقد كنت أطوي في الصدر أملا أعيش عليه وأنتظر اللحظة التي تسعفني بتحقيقه. كنت أحلم بإلقاء نظرة شاملة على الشعر الأوروبي الحديث، وتقديم نماذج من كبار شعرائه إلى القارئ العربي في طبق واحد. وظل هذا الحلم يشير إلي من بعيد حتى كان صباح يوم من الأيام في أوائل سنة 1966م؛ فقد شاءت الظروف أن تجمعنا - الشاعرين الكبيرين عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأنا - في مجلس واحد. ودار الحديث بطبيعة الحال عن الشعر. وذكرت ترجماتي المتواضعة فيما ذكر عن الشعر والشعراء المحدثين. وبرزت الأمنية القديمة حتى أوشكت أن تتجسد أمامنا وتزاحمنا في الحديث. وترددت أسماء نحبها جميعا: لوركا، كافافيس، إليوت، برخت، ناظم حكمت، أنجارتي ... إلخ. واتفقنا على أن هناك أمانة تنتظرنا؛ أمانة تقديم نماذج من هذا التراث العظيم الذي أصبح معظمه كلاسيكيا بالفعل. وسألنا أنفسنا: بمن نبدأ؟ ماذا نختار وكيف نختار؟ أيكون الاختيار على أساس الموضوعات أم البلاد أم الشعراء؟ هل نضع لأنفسنا حدودا في الزمان والمكان؟ وإذا التزمنا بالقرن العشرين فمن من الشعراء نأخذ ومن ندع؟ هل نكتفي بتقديم نماذج من شعرهم أم نضيف نبذة عن حياتهم وأعمالهم؟ ولكن هل تغنى هذه النبذ القصيرة عن دراسة شعرهم؟ وهل تغني دراسة الشعر عن فهم الحركة أو العصر الذي ينتمون إليه؟ وهل يمكن أن ينفصلوا عن الرواد الذين أثروا عليهم؟!
أسئلة كثيرة واجهتنا كصخور اليأس. ومع ذلك فقد اتفقنا على تقسيم العمل بيننا، وما أسهل الاتفاق على مشروعات المستقبل الضخمة في لحظة قصيرة تتضوع بعطر المحبة والقهوة والدخان! كان شعر العالم الأنجلوسكسوني بما في ذلك اليونان ولوركا وشعر الزنوج من نصيب صلاح عبد الصبور، ووقع شعر العالم الشرقي، سواء في ذلك العالم السلافي أو الآسيوي، من نصيب عبد الوهاب البياتي الذي يعرف اللغة الروسية ويترجم عنها، أما أنا فقد كان الشعر في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا من حظي.
ومضيت أعمل بالجدية الساذجة التي يعرفها عني أصدقائي! فلم ينقض العام حتى اجتمع لي أكثر من ثلاثمائة قصيدة لأكثر من أربعين شاعرا. وعرضت المسودات على صديق العمر صلاح فهاله ما فعلت. ثم سألت صديقنا البياتي بعد ذلك فهالني أن الصديقين الكبيرين لم يسيرا في مشروعنا خطوة واحدة؛ لقد عكف كل منهما على شعره وإنتاجه. وحزنت في مبدأ الأمر. ثم تبين لي أنهما أحسنا صنعا. فليس أضر بالفنان المبدع من التخلي عن موهبته إلى النقل والترجمة، ولكنني كنت قد وقعت في الفخ، ولم يكن بد من الاستمرار فيما بدأت. ومرت الأيام ومرت السنون، فإذا بالمشروع يكبر بالتدريج. أضفت إلى النصوص المترجمة دراسة قصيرة عن الشعر في القرن العشرين، ثم رأيت أن هذا الشعر لا يفهم على حقيقته حتى يوصل آخره بأوله. ورحت أفتش عن جذور الحركة الشعرية المعاصرة حتى عثرت عليها في البدايات الرومانتيكية وكتابات بودلير وترجماته، وتتبعت خيوط نسيجه الشامل الذي بدأه بودلير وأحكم بناءه رامبو ومالارميه، ثم طبع الشعر المعاصر كله بطابعه. واهتديت في هذا كله بكتاب قيم يعد من أهم الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة عن الشعر الحديث، بل أرجو ألا أكون مغاليا إذا قلت إنه عند المختصين أهمها جميعا، ولقد عرفت الكتاب عند صدور طبعته الأولى سنة 1957م، وكان لي حظ الاستماع إلى بعض محاضرات صاحبه العالم الكبير في اللغات الرومانية . وإذا كنت قد اعتمدت أكبر اعتماد على هذا الكتاب القيم، بحيث لم أغفل حقيقة علمية واحدة من الحقائق التي ذكرها ولا تركت سطرا واحدا بغير أن أستفيد منه؛ فلقد نقلته كذلك نقل المتذوق المتأمل لا نقل المترجم الحرفي، أضف إلى هذا أنني استعنت بمراجع أخرى عديدة في الشعر الحديث تجدها مثبتة في هوامش الكتاب، وتوسعت فيه وأضفت إليه - وبخاصة في الفصل الخاص بمالارميه والفصلين الأول والأخير - إضافات عديدة أملاها ذوقي أو اطلاعي، وزدت في المختارات التي ألحقها بدراسته؛ بحيث صار الكتاب الذي بين يديك خمسة أضعاف الكتاب الأصلي. ولست أريد من هذا الكلام كله إلا أن أؤكد فضل هذا الكتاب القيم علي، واعترافي بديني العظيم نحو صاحبه. ولولا أن عملي فيه جاء في وقت كرهت فيه الترجمة وزهدت فيها، ولولا أنني تصرفت فيه وأضفت إليه من عندي، لما ترددت في وضع اسم «هوجو فريدريش» في موضع المؤلف على الغلاف. ومع ذلك فأرجو أن ينظر القارئ إلى الكلمة التي تشير إلى اسمي نظرته إلى كلمة «المؤلف» و«التأليف» بمعناهما اللغوي الدقيق، أعني بمعنى الجمع والترتيب و«التأليف» بين فصول وأفكار ليس لي فيها فضل الخلق والإنشاء بل نصيب التذوق والعرض والتجميع.
أقول هذا عرفانا بالفضل الأكبر لأصحابه أو بالأحرى لصاحبه، وإنصافا لنفسي التي لا أحب أن أنسب لها شيئا لا تستحقه. •••
تبين لي من خلال العمل في هذا الكتاب أن الشعر الأوروبي الحديث ينبع من رافدين كبيرين تدفق عطاؤهما في القرن التاسع عشر وفي بلد واحد هو فرنسا، وأعني بهما الشاعرين رامبو ومالارميه. إن ما يجمعهما بالشعر الحديث ليس مجرد الريادة والسبق، بل عوامل مشتركة في البناء، لم تزل تظهر بصور مختلفة في ظواهره العديدة. ولعل البدايات ترجع إلى أبعد من القرن التاسع عشر، ولعل بعضها أن يمتد بجذوره إلى القرن الثامن عشر. ولكن هذا البناء الشامل قد بدأ يتشكل في صورته النظرية والنقدية حوالي سنة 1850م، ثم وضحت آثاره على الخلق الشعري حوالي سنة 1870م. ولم يزل هذا البناء يتعقد ويزداد تعقدا وتركيبا، ولم يزل يزداد تخصصا وتفردا عند كل شاعر جدير بهذا الاسم، بحيث نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إنه لا يزال أيضا يترك آثاره على كل الإنتاج الشعري الأوروبي؛ بل وعلى كثير من الإنتاج غير الأوروبي حتى اليوم. فهذان الشاعران الفرنسيان يفسران لنا قوانين الأسلوب التي تحكم بناء الشعر المعاصر، وقراءاتنا للشعراء المعاصرين تبين أنهما ما زالا معاصرين. هناك إذن وحدة في بناء الشعر الحديث، لن نذكرها أو نقدرها حق قدرها حتى نحرر أنفسنا من التقسيمات التقليدية التي تلجأ إليها كتب النقد وتاريخ الأدب، ونوسع من نظرتنا بحيث لا نقتصر على شاعر أو أسلوب بعينه، بل نجعلها تشمل الكل ولا تقف عند الأفراد والأجزاء. •••
وبناء الشعر الحديث عند أعلامة الثلاثة الكبار - بودلير ورامبو ومالارميه - ومن جاء بعدهم حتى اليوم بناء غريب شاذ. ولا بد من فهم هاتين الكلمتين بمعناهما الاستطيقي لا الأخلاقي. أما عناصر هذا البناء فهي وضعه الخيال في مكان الواقع، وتأكيده لحطام العالم لا لوحدته ومزجه بين عناصر متنافرة وناشزة، وتعمده الاضطراب والتشويه، وتأثيره السحري عن طريق الغموض والألغاز وسحر اللغة، وإغرابه لكل مألوف أو معتاد، وإيثاره للتفكير الرزين المحسوب الشبيه بالتفكير الرياضي، واستبعاده للعاطفية الساذجة أو ما سوف نسميه فيما بعد بالنزعة البشرية، وغياب ما يسمى بشعر الإلهام أو الشعر المباشر، وطغيان المخيلة الخلاقة التي يسيرها العقل والوعي، وتدمير نظام الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة، واستغلال الطاقات الموسيقية في اللغة إلى أقصى حد ممكن، والاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم، وإعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي، وإحساس الشاعر بانتمائه إلى عصر حضاري متأخر، وشعوره بالتوحد والتميز، وتزاوج التعبير الشعري مع التأمل المستمر في هذا التعبير، أي تلازم الشعر وفن الشعر ... إلى آخر هذه العناصر والمقولات التي سيأتي بيانها في الصفحات القادمة.
Bilinmeyen sayfa
تلك هي بعض عناصر البناء الذي سيرسي بودلير دعائمه في نظريته في الشعر وفي عدد من قصائده، وسيبدع رامبو ومالارميه وأتباعهما شعرهم على أساسه، وأحب أن أؤكد منذ البداية أنني لم أرسم هذه الصورة حبا في الغرابة أو ولعا بالشذوذ، ولست أريد أن أدعو إليها أو أحبذ تقليدها. وأنا لا أنفي هذا لسبب ذاتي فحسب؛ فالواقع أنني لا أميل إلى كثير من النماذج التي يقدمها هذا الكتاب، وقد أستريح بطبعي لقصيدة من شعر امرئ القيس أو المعري أو الأندلسيين أو البارودي وشوقي وناجي أكثر مما أستريح لقصيدة من السياب أو البياتي أو عبد الصبور أو خليل حاوي أو أدونيس. وقد أجد نفسي في أبيات لسافو أو بندار أو جوته أو هولدرلين أكثر مما أجدها في أبيات لرامبو أو إلوار أو كرولوف أو أنجارتي. ومع ذلك فإن الذوق الفردي لا ينبغي أن يحول بيننا وبين الشعر الحديث، وواجبنا في كل الأحوال أن نعرف هذا الشعر ونفهمه وندرسه ونتتبع أصوله ونضعه في سياق تراثه. أما أن نتأثر به أو لا نتأثر فشيء آخر؛ ذلك لأن لكل لغة طبيعتها وتاريخها وحياتها الخاصة.
والمهم أن «نعرف» هذا الشعر الغربي كما أكدت في مواضع أخرى من الكتاب بمثل ما نعرف غيره من فروع العلم والفن الحديث، حتى يمكننا أن نعاصر العالم الذي نعيش فيه ونعرف مكاننا منه ودورنا فيه. وطبيعي أننا لن نضيف إليه شيئا حتى نفهمه قبل ذلك ونعرفه ونعاصره.
هذه كلمة لا بد منها حتى لا يصيبني رذاذ ذلك الشعار الرخيص السخيف الذي يحلو لكثير من الناس ترديده في هذه الأيام عن «عقدة الخواجة» أو «الغزو الفكري» وما إلى ذلك من الصيغ البليدة التي تحاول تبرير الكسل والتخلف والجمود. •••
سيلاحظ القارئ أن الكتاب يرتكز في مجموعه على ثلاثة شعراء جرت العادة في كتب الأدب على وصفهم بأنهم أقطاب المدرسة الرمزية. وسيدهشه أن كلمة «الرمزية» لن تصادفه في الكتاب كله سوى مرات معدودة لن تزيد على أصابع اليد الواحدة. فقد آثر الكاتب أن يتجنب هذا الاصطلاح الشائع الغامض ويستعيض عنه بتحليل النصوص نفسها ودراسة الظواهر الفنية التي أدت إلى هذه التسمية. والواقع أن الكلام عن المدارس والحركات الأدبية، كما يقول الناقد الكبير س. م. بورا،
1
شيء محفوف بالمخاطر . فأنفاس الإلهام تهب عنيفة كالرياح وتستعصي على القياس، وشخصيات الشعراء أعمق وأعقد من أن تصنف في هذه الفئة أو تلك، ولغتهم أغنى من أن تتخذ مثالا لقاعدة أو مذهب بعينه. هذا شيء لا بد من قوله، بل الصياح به إن أمكن بصوت يصم الآذان لنقادنا المولعين بترتيب الأدباء والشعراء في برامج ومدارس وأدراج، وهم لا يدرون أنهم في الحقيقة إنما يضعون عليهم شواهد قبور ويحشرونهم في توابيت وأكفان.
غير أن هذا لا يمنع من القول بوجود خصائص مشتركة، تميز الشعراء الأوروبيين الذين كتبوا بعد سنة 1890م عن الجيل الذي سبقهم والجيل اللاحق لهم، بحيث نستطيع أن نسلم بأن هناك تغييرا قد تم، وأن الشعراء المحدثين يشتركون في صفات تجعلهم أشبه بأعضاء أسرة واحدة تشغلهم هموم واحدة أو متقاربة، وإن كان من الضروري أن نؤكد مرة أخرى أن هذه الصفات لم تأت عن قصد ولم تكن نتيجة برامج متفق عليها، وإنما هي أوصاف تطلقها عليها الأجيال اللاحقة عندما تلاحظ أنهم يمثلون خصائص عصر بعينه ويتحدون في نسيج بناء فني مشترك.
وإذا أردنا أن نتوخى التبسيط واستخدمنا كلمة «الرمزية» جريا على الاصطلاح المعروف فلا بد من التمييز فيها بين حركتين أو موجتين متتابعتين. بدأت الحركة الثانية بفريق من الشعراء بلغوا قمة نضجهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ثم استنفد الآن طاقته بعد موت أكبر ممثليه وأصبح جزءا من التاريخ، من هؤلاء الشعراء بول فاليري ورينيه ماريا رلكه وستيفان جورجه وألكسندر بلوك ووليم بتلرييتس ...
والواقع أن الكتاب لم يكتب عن هؤلاء، وإن كان يذكر بعضهم ذكرا عابرا ويثبت في المختارات قصائد من شعرهم، بل إنه لم يكتب في الحقيقة عن شعراء بعينهم وإنما أريد به أن يكون مدخلا لفهم الشعر الحديث بوجه عام وإلقاء الضوء على العوامل التي تتحكم في بنائه؛ ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يعنى بالحركة الأولى التي يعد الشعراء المذكورون امتدادا لها، ألا وهي حركة الشعراء الذين يسميهم تاريخ الأدب تارة بالشعراء «الرمزيين» وتارة أخرى بشعراء الانحلال أو الانحطاط أو الشعراء الملعونين (كما سماهم واحد منهم وهو بول فيرلين في معرض الدفاع عنهم). وكل هذه الأسماء والأوصاف كما قلت غامضة تستوجب الحذر في استخدامها، ولذلك ابتعدت عنها الصفحات التالية بقدر الإمكان وحاولت أن تتفرغ لفهم الشعر نفسه وتحليله، ابتداء من الإرهاصات التي آذنت بتكوينه في صورته الحديثة عند الرومانتيكيين، مارة ببودلير الذي كان أول من احتفل بالرموز ومهد الطريق لتقدير قيمتها الكبيرة في بنائه، إلى فيرلين الذي استخدمها بفطرته الغنائية البسيطة العذبة، وإن ظل أثره محدودا على أشكال الشعر الحديث ونظرياته ومثله، إلى رامبو الذي سار ببعض أفكار بودلير وإدجار ألن بو إلى غايتها الحاسمة وخاض بها بحار تجربة شعرية فريدة صاخبة، إلى مالارميه الذي يعتبر خاتمة هذه الحركة وتاجها وذروتها، بحيث لا تذكر «الرمزية» إلا ويذكر معها اسم مالارميه وجهوده في خلق «الشعر المحض» وإرسائه على أسس فلسفية أو ميتافيزيقية. وهؤلاء الشعراء يكادون يتفقون في نظرة واحدة إلى الحياة ونظرية موحدة في الشعر على الرغم من الاختلاف بين تجاربهم ومدى تأثيرهم في بلادهم أو خارجها وارتباط الأجيال اللاحقة بهذه النظريات أو خروجها عليها إلى نظريات مستقلة وتجارب متميزة.
ومع أن التعميم شيء خطير فقد نستطيع أن نجمل خصائص هذه «الحركة» في مجموعة من الملاحظات التمهيدية التي سيزيدها الكتاب توضيحا وتفصيلا: (1)
Bilinmeyen sayfa
تتميز هذه الحركة «الرمزية» في القرن التاسع عشر بطابع صوفي عام، يتجلى في الاحتجاج على النزعة العلمية والوضعية والنزعات التجارية وتيار الواقعية الأدبية التي بدأت تسيطر على روح العصر، كما تتميز بالبحث عن «الحقيقة» بعد أن تزعزع الإيمان التقليدي بالدين والتراث، والانطلاق من العالم «الصغير الضيق الممل» - كما وصفه «بودلير» - إلى عالم مثالي مجهول أشد واقعية في رأيهم وأكثر كمالا، بحيث لا نعدو الصواب إذا قلنا إنهم أقاموا نوعا من عبادة الجمال المثالي أخلصوا لها وأفنوا حياتهم من أجلها واقتنعوا بها بعمق وإيمان. (2)
تتجلى هذه النزعة الجمالية أو على الأصح «الاستطيقية» في إيمان بودلير بالجمال المثالي الذي كان يقابل باستمرار بينه وبين حياته الغارقة في الخطيئة والندم، فظل شعره يتمزق بين السماء والأرض، والملاك والشيطان، والقداسة والذنب ، وهذا الإيمان أيضا هو الذي جعل فيرلين يتحدث بلغة شعبية غنائية بسيطة عن روحه وجسده معا، ويبرر البحث عن سعادة خفية محرمة. أما مالارميه فقد كان هذا الجمال المثالي المطلق هو كل شيء عنده، وكان التقرب إليه بتنقية اللغة من شوائب المادة والظاهر، وصياغة عبارات مظلمة ملغزة، نافذة موحية مع ذلك وساحرة الإيقاع؛ هو شغله الشاغل وقربانه الذي لا يكف عن تقديمه كالكاهن الزاهد المتبتل إلى إلهه المعبود ...
2 (3)
أثبتت هذه الحركة أن هناك أوجه تشابه عديدة بين التجربة الاستطيقية والتجربة الدينية والصوفية. فقد حاول مالارميه أن يصور الجمال المثالي في أشعاره بنفس الحماس الذي حاول به دانتي أن يصور عالمه غير المرئي في صورة مرئية. ولذلك فقد كان على دانتي أن يلجأ إلى الرموز المستمدة من عالمه المسيحي، وكان على مالارميه أن يلجأ إلى الرموز والاستعارات لينقل بها تجربته المتعالية فوق الطبيعة في لغة الطبيعة والأشياء المنظورة. ولذلك أيضا لم تكن دلالة الرمز مقصودة لذاتها أو لغرضها المألوف بل بقدر ما توحي بحقيقة تقع وراء عالم الحواس والمحسوسات. والواقع أن هذا كله ليس جديدا على لغة الشعر فقد سبقه إليه وليم بليك مثلا، ولا هو جديد على اللغة بوجه عام، فتلك طريقة معروفة في كل أدب صوفي. ولكن الجديد فيها هو دلالة الرموز على تجربة جمالية لا تجربة دينية، وإن كان صاحبها يتحدث عن رؤاه بنفس الحماس واللهب الذي يتحدث به المتصوف عن رؤاه الإلهية. وإذا كان الدين أو التصوف يطلب من المؤمن والمريد أن يخلص لصلواته وخلواته وتأملاته، فالشعر أيضا يطلب نفس الإخلاص في الصنعة والتركيز والبعد عن شواغل الزمان والمكان والوجود والعدم والفرح والحزن. ومع ذلك فلا يصح أن ننسى أنه على الرغم من هذا التشابه بين التجربتين إلا أن هناك اختلافات أساسية بين الرموز الدينية المستمدة بأكملها من العقيدة التي يفهمها الجميع ويشاركون فيها، وبين رموز التجربة الفنية المتميزة بذاتيتها وتفردها بحيث يصعب على الكثيرين أن يفهموها ما لم يفهموا عالم كل شاعر على حدة ويدرسوه بتعمق وصبر.
وستحاول الصفحات القادمة أن تلقي شيئا من الضوء على غوامض هذه الرموز وتمهد الطريق للمشاركة في تجاربها، دون أن تعد القارئ مع ذلك بأكثر من المحاولة التي قد توفق وقد تخيب! (4)
أهم ما يميز هؤلاء الشعراء هو إخلاصهم لذلك المثل الأعلى. ولقد حماهم هذا من الوقوع في الخطابية المباشرة أو تملق الجماهير أو الدعوات الأخلاقية البالية أو الانشغال بشيء ما خلا الجميل والجمال (الذي اتسع مدلوله عندهم فصار يسع القبح والقبيح كما سنرى). صحيح أن عالمهم ضيق وموضوعاتهم قليلة، ولكنه مع هذا عالم غني، إذ إن الرؤية التي تتجاوز الظاهر والمحسوس لا تعرف الحدود، وهو كذلك عالم مثير وغريب، إذ يتطلب الإخلاص في البحث عن لغة جديدة تناسب الرؤى التي لا تدركها لغة التفاهم البالية. (5)
اهتم هؤلاء الشعراء بالعنصر الموسيقي في الشعر، وجعلوا واجبهم الأساسي - كما يقول فاليري - أن يستردوا من الموسيقى ما أضاعه منها الشعراء.
أرادوا أن يؤدوا بالكلمات ما كانت تؤديه موسيقى فاجنر بالأصوات. فلقد كانت موسيقى فاجنر أشبه بالكشف العظيم الذي فتن العصر كله، حتى وصفها مالارميه بأنها «قمة المطلق المخيفة»، كما امتدحها فيرلين في أكثر من قصيدة. لذلك كان احتفالهم بالموسيقى من أهم ما حققه الشعر الفرنسي الحديث وأثر به على الشعر في إنجلترا وألمانيا أكبر الأثر، ولذلك أيضا نستطيع أن نفهم ما يريده مالارميه من الشعر عندما يقول إنه لا يفيد بل يوحي، ولا يسمي الأشياء بل يخلق جوها ويبعث أثرها. قد لا يكون هذا القول جديدا. ولكن الجديد هو مثابرته (أي مالارميه) على تحقيقه بحيث أصبح الشعر عنده نوعا من الموسيقى ورجوعا به إلى الغناء، أي إلى صميم الشعر نفسه. وإذا كانت قصائده لا تزال تحير الشراح والمفسرين، فذلك لأنها تريد التعبير عن تجربة استطيقية مطلقة وراء الفكر أو خارجه، أي وراء الكلمات الدالة، ومن هنا فهي تجاور الصمت، أي تجاور السر. إنها تحاول الاقتراب من الكلمات الصامتة، «والموسيقى التي لا تسمعها أذن»، أي من مثل أعلى للشعر الخالص المطلق، بحيث يكون كل شعر كتب قبله - إذا جاز لنا أن نستخدم لغة أرسطو - كالهيولى بالنسبة للصورة أو كالمادة بالنسبة للشكل. كان الهدف الذي يرجوه مالارميه هو تنقية الشعر حتى يخلق تجربة خالصة شبيهة بتجربة الجذب عند المتصوفين، ويبعث فرحة مطلقة تتجاوز كل الحدود التي فرضتها الطبيعة على الكلمات، بحيث تبدو وكأنها تنتمي لعالم مثالي بالغ الشفافية والغنائية والصفاء. فهل نجح مالارميه في الوصول إلى هذا الهدف البعيد؟ ألم يؤد به إلى عزلة عن حياة الناس أشبه بعزلة الكهان والنساك؟ ألم تنته به إلى احتقار الجمهور «والقبيلة» والاقتصار على نخبة أرستقراطية مثقفة من القراء؟ ألم تفض كثرة التفكير في الفن ونظرياته إلى عجز الفنان عن تحقيقها أو عقمه ويأسه؟ - كل هذه أسئلة سيحاول الكتاب أن يجيب عليها.
قلت إن منهج هذا الكتاب يقوم على دراسة النص وتحليله واستقراء الظواهر الفنية والفكرية منه. وليس معنى هذا أنه يدرس كل نص على حدة أو يقتطعه من مجموع السياق العام، بل معناه أنه يدرسه كجزء من كل، ويضعه في إطار البناء الفني الشامل الذي يبحث طابعه العام وظواهره المتصلة في غيره من النصوص عند صاحبها وعند غيره من الشعراء، ودلالتها على روح العصر ونظام الفكر. ومعنى هذا مرة أخرى أن الكتاب يتعمد البعد عن منهج آخر لا يزال يتبع للأسف بكثرة؛ وأعني به المنهج «الرومانتيكي» الذي يرى في الشعر امتدادا لحياة الشعراء أو انعكاسا لتجاربهم المعذبة التي يلاقونها في حياتهم.
3
Bilinmeyen sayfa
وإذا كان من واجب دارس الشعر أن يقوم بوظيفة سقراط في «توليد» النص وبعثه من جديد في عقل القارئ وقلبه، فهناك واجب آخر لا يقل عنه أهمية، وهو أن يخفي نفسه حين يفعل هذا بقدر الإمكان. إن دراسة النصوص في هذا الكتاب تعنى بالوقوف عند الجزئيات المتعلقة ببناء العبارة واختيار الكلمة وظواهر الإيقاع والنغم والصوت ودلالتها جميعا على الخلفية العقلية والفلسفية للشاعر والعصر. وقد يسخط هذا بعض المتذوقين الذين يكرهون تفتيت القصيدة وتشريحها - وهي الكائن الحي - بمبضع الناقد القاسي. وقد يغضبهم أنه يحاول أن يقرأ النص قراءة قد لا يوافقونه عليها إيمانا منهم بأن لكل قصيدة من التفسيرات بقدر ما لها من القراء، وأن التحليل يفسد الإحساس العام الذي يخرج به. ولست في الحقيقة ضد هذه الآراء، فمن الواجب أن يبدأ الدارس بالمعنى الكلي والانطباع العام الذي يوحي به النص في مجموعه، ومن الواجب أيضا أن ينتهي إليه. ولكن هذا لا يمنع أن التحليل الدقيق ضروري في المرحلة المتوسطة، وبخاصة في نصوص بلغت من إحكام البناء وتعقيد العبارة وغموض الإشارات والرموز والخروج عن القواعد اللغوية والنحوية المألوفة ما تبلغه على سبيل المثال بعض قصائد مالارميه.
ليس الدارس أو الشارح سوى الدليل الذي يساعد صاعد الجبل ويمده بالحبال التي تعينه على اجتياز الصخور الوعرة، أما الطريق نفسه والاستمتاع بالرحلة كلها فشيء لا بد أن يعتمد فيه صاعد الجبل - أي القارئ - على ذاته. وغني عن الذكر أن التحليل والتفسير يضران أشد الضرر إذا لم نخرج منهما بحكم أو تذوق عام للعمل الفني ثم لصاحبه وعصره. وهذا كلام يصدق على القصيدة كما يصدق على اللوحة والتمثال والسيمفونية. وإذا كان التحليل شيئا هاما وضروريا، فإن المبالغة فيه قد تصبح أمرا لا يحتمل. والسبب في هذا بسيط. فما زلت أومن بأن في كل عمل فني عظيم شيئا يستعصي في نهاية الأمر على التفسير. ومن الخطأ أن ندعي العلمية في هذا المجال فنزعم أن ما يستعصي على التحليل لا أهمية أو لا وجود له. إن الخسارة في هذه الحالة لا تعوض، هذا شيء تدركه العقول والنفوس الحساسة. والمهم بعد كل شيء أن لا يفرض التفسير «الجاهز» من خارج النص، ولا يبالغ الدارس في عمله حتى لا يصبح التفسير مرضا أو جنونا يتسلط عليه، بحيث لا يترك شيئا إلا فسره، ولو كان واضحا كالشمس! إن كل ما يطمع فيه المفسر أو الناقد هو أن يعينك على تجربة القصيدة في مجموعها وفي أجزائها. فهو يعمد إلى التحليل ولكنه لا ينسى التركيب، أي لا ينسى المبدأ أو البناء العام الذي تقوم عليه. وهو لا يفرض تجربته عليك، بل يضع يدك على ما توصل إليه من أسرارها وخصائصها ثم يترك لك أن تجرب وتتذوق بنفسك. وماذا يكون التذوق وأي جدوى من التجربة إن لم نعرف قبل ذلك شيئا عن الاستعارات والرموز التي استخدمها الشاعر، والوزن الذي اختاره، والكلمات التي فضلها على غيرها، والتجديد الذي ذهب إليه في بنية العبارة أو معنى الكلمة أو الرؤية الكونية والإنسانية التي تستتر وراء عمله ... إلى آخر ما يكشف عنه اجتهاد الدارسين؟ •••
بقيت كلمة أخرى عن النماذج المختارة وأسلوب الترجمة. أما عن الاختيار فقد التزمت كما قلت من قبل بفترة زمنية محددة لا تخرج عن القرن العشرين، كما تقيدت بمجال معين لا يتجاوز الآداب الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية. وأنا أعلم أن هذا التحديد يظلم الشعر الحديث في كتاب يحمل مثل عنوانه الطموح، وأعلم أن القارئ سيفتقد أسماء كبيرة لمعت في سمائه بل سيفتقد بلادا بأكملها في الغرب والشرق وبين الشعوب الناهضة لم تذكر بكلمة واحدة.
والواقع أنه لا بد لأي كاتب أن يحدد نفسه حتى لا يضل في التيه. والكتاب الذي بين يديك لا يريد إلا أن يكون مدخلا لقراءة الشعر الحديث وتتبع أصوله بقدر الطاقة وفي فترة زمنية محددة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. إنه يهتم قبل كل شيء ببنائه ولا يفكر في تقديم لوحة شاملة - أو بانوراما - تضم كل أعلامه.
إن مثل هذه المحاولة تخرج بطبيعة الحال عن هدف الكتاب. ثم إنها تفوق قدرة إنسان واحد وحياته، ولا بد أن تتضافر فيها جهود عشرات وعشرات.
توخيت في النماذج المختارة كما قلت ألا تخرج عن القرن العشرين؛ ولذلك اكتفيت من الشعراء الثلاثة الكبار - بودلير ورامبو ومالارميه - بالنصوص الواردة في متن الدراسة وأحسب أنها تقدم صورة وافية لهم. ثم أضفت إليها في المختارات بعض قصائد من فيرلين حتى تتم صورة هؤلاء الأربعة الكبار، وقد كان المقصود بالمختارات أن تكون «تطبيقا» للمبادئ النظرية التي يعالجها الجزء الخاص بالدراسة، وأن تكشف عن البناء الجديد الذي يحاول أن يلقي الضوء عليه. ولذلك فقد كان من الواجب أن تتم في حدود أضيق بكثير مما هي عليه، وأن تستبعد شعراء كبارا لم يكن لهم تأثير حاسم على الشعر الحديث ولا مشاركة مباشرة في بنائه. ولكنني اقتنعت بعد القراءة والتفكير أن الأمور في الأدب عموما لا يمكن أن تؤخذ بهذا التحديد الرياضي الدقيق، وأن عددا من الشعراء الكبار قد أسهموا بغير شك في تكوين صورة الشعر الحديث إن لم يكن بقصائدهم نفسها فبآرائهم ومواقفهم في الفن والحياة. ولذلك يجد القارئ، مثلا نماذج مختلفة من شعر أونامونو وماتشادو في إسبانيا، وبول فيرلين وجول سوبرفيي في فرنسا، وشتيفان جورجه ورلكه وهسه وكاروسا وبنسولت وكستنر في ألمانيا ممن لا يمثلون الطابع الجديد للشعر الحديث بالمعنى الدقيق. ولقد فكرت أن أضم إليهم مختارات من شعراء «الموجة الثانية» التي سبق الحديث عنها من أمثال ألكسندر بلوك ووليم بتلر ييتس أو من الدائرين بشكل أو آخر في نفس فلكهم مثل كونستانتين كافافيس اليوناني أو آندره آدي المجري أو غيرهما من مشاهير الشعراء في العالم السلافي والأنجلوسكسوني والشرقي والإفريقي. وفكرت كذلك أن أضم إلى المختارات نماذج من شعراء التعبيرية وفي مقدمتهم جورج تراكل وجورج هايم ثم طرحت الفكرة جانبا، لا لأن معظم هؤلاء الشعراء ليس لهم دور حاسم في بناء الشعر الحديث كما يفهمه هذا الكتاب، بل كذلك لاقتناعي بأن الكثيرين منهم يحتاجون إلى دراسات مستقلة أرجو - إن بقي في العين نور وفي العمر بقية - أن أفرغ لها أو يلتفت إليها غيري في المستقبل، وإن الاهتمام العام بحركة الشعر الحديث في وطننا العربي أو خارج حدوده، والدراسات والترجمات التي تتوالى على نحو جدير بالحمد والثناء، لتجعلنا نطمع ألا يطول بنا الانتظار.
4
ولقد فكرت أيضا أن أضم إلى المختارات عددا من قصائد الشعراء في العالم الأنجلوسكسوني ممن لهم تأثير لا شك فيه على الشعر الحديث، مثل ييتس وياوند وأودن واديث سيتويل وديلان توماس وغيرهم. لكنني استبعدت الفكرة كذلك راجيا أن يقوم بها من هم أقدر مني وأوثق صلة بالشعر الإنجليزي والأمريكي . على أنني قد خرجت عن هذه القاعدة في استثناء واحد أود أن أستأذن القارئ بشأنه فقد أوردت بعض النصوص من ت. س. إليوت، لا لشهرته ولا لحبي القديم له فحسب، بل لأنني تحدثت عنه في الكتاب بشيء قليل من التفصيل، وأصبح من الضروري أن أورد نماذج تطبيقا لما قلته. وقد أعدت نشر قصيدة «الرجال الجوف» التي كنت قد ترجمتها ونشرتها سنة 1952م في مجلة الثقافة القاهرية، كما اهتديت في سائر القصائد بالترجمة القيمة التي قام بها الأستاذ ماهر شفيق فريد وأرجو أن تجد سبيلها إلى النور في وقت قريب.
وأما عن الأسس التي أقمت عليها اختياري للقصائد فأرجو ألا ينزعج القارئ إذا قلت إنها لم تقم على أساس معين! صحيح أنني راعيت فيها - باستثناء الشعراء الكبار الذين ذكرتهم والذين ينتمون إلى الكلاسيكية الجديدة أو الرومانتيكية المتأخرة كما قلت - أن تكون ممثلة لبناء الشعر الحديث كما يبينه الكتاب. ولكن لا بد من الاعتراف بأن كل اختيار يقوم على الذوق الخاص قبل أي اعتبار آخر، لأن كل اختيار إنما هو في الواقع اختيار للنفس. والحقيقة أنني لا أملك تفسيرا آخر للإكثار من نصوص بعض الشعراء دون بعضهم الآخر. صحيح أن مجموعات الشعر التي بين يدي لم تسعفني في بعض الحالات. ولكن لا بد من الاعتراف بأن ذوقي الشخصي هو الذي تحكم إلى حد كبير في اختيار النصوص كما تحكم أيضا في عددها. ولهذا فإني أرجو ألا يفاجأ القارئ إذا لاحظ السخاء الزائد مع بعض الشعراء دون بعضهم الآخر (مثل أنجارتي الإيطالي، وإلوار الفرنسي، ولوركا وألبرتي واليخاندر الإسبان، وبن وكرولوف الألمانيين). وهناك حالة واحدة لا بد من ذكرها وهي حالة الشاعر الإيطالي «أويجنيو مونتاله» الذي لم أستطع أن أورد له نصا واحدا على الرغم من اقتناعي بأهميته في الشعر الحديث. ولا يرجع السبب في هذا إلى قلة النصوص التي وجدتها عنه وعن الشعر الإيطالي الحديث بوجه عام فحسب، بل لأنني لم أستطع أن أتذوق شعره على الإطلاق! وقد كان حظي مع الشعر الإيطالي سيئا في مجموعه، وإني لأرجو أن أعرض هذا في مستقبل الأيام.
أما عن أسلوب الترجمة فقد كنت أطالع مع كل نص أترجمه شبح الحكمة الإيطالية المعروفة: «أيها المترجم، أيها الخائن»! وإذا كانت الترجمة تنطوي حقا على الخيانة فلا بد أن تكون ترجمة الشعر هي الخيانة العظمى. ولقد طالما سألت نفسي وأنا أعمل في هذه النصوص إلى متى أضيف إلى ذنوبي الكثيرة ذنب الترجمة؟ كنت كذلك أسألها كيف نترجم القصيدة - وهي كيان فني مكتف بذاته، ونظام لغوي مرتبط بلغته - بغير أن ننزع منها روحها ونفقدها أهم ما يميزها من نبر وإيقاع وإحساس؟ ثم أجدني أرد عليها بقولي: وكيف نعزل أنفسنا عن التجارب الشعرية عند الأمم المختلفة؟ وكيف نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث؟ وكيف نرضى أن تظل أسماء أعلامه بعيدة عن قرائنا؟ أليس من الواجب «توصيل» هذه التجارب إليهم بأي وسيلة مهما كان من عجز هذه الوسيلة؟
Bilinmeyen sayfa
غير أن هذه الأسباب لا ينبغي أن تخدعنا عن حقيقة لا مناص من التسليم بها، وهي أن ترجمة الشعر مشكلة من أعقد المشكلات، بل ينبغي أن تكون لدينا الشجاعة للاعتراف بأن الشعر لا يكاد يترجم، وأن هذه الصعوبة تصير استحالة كلما جربنا ترجمة الشعراء الذين اصطلح على تسميتهم خطأ أو صوابا بالرمزيين، وتبلغ هذه الاستحالة أقصاها في شعر مالارميه على وجه التخصيص.
وأحب أن أؤكد للقارئ أنني كنت على وعي بهذا كله، ولم أترك فرصة تفوتني بغير أن أشير عليه بالرجوع إلى الأصل كلما أمكن ذلك. ومع أنني التزمت دائما بالأمانة التامة في نقل النصوص، ولم أضف إليها شيئا من عندي إلا وضعته بين أقواس وأشرت إلى الضرورة التي ألجأتني إليه، فإنني أرجو القارئ أن ينظر إلى هذه الترجمات كلها كتجارب ومحاولات للاقتراب من روح الأصل (لا من جسده بالطبع فكل ترجمة هي حكم عليه بالإعدام)، ولا يمكن في نهاية الأمر أن تغني عن الأصل بحال من الأحوال.
إن الترجمة ضرورة نلجأ إليها اضطرارا، مجرد جسر نعبر عليه إلى الشاطئ الآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومن مده بعد أن نضع أقدامنا على بر الأمان! وإذا كنا نتفق على أن الخلق الأدبي عذاب ومعاناة، فالترجمة عذاب ومعاناة مضاعفة. إنها - على حد تعبير شوبنهور - نوع من تناسخ الأرواح فلا بد أن تتقمص روح المؤلف وفكره وإحساسه، ثم تنقلها في صبر وتعاطف وحب إلى جسد لغة أخرى. ولا بد أن تكون لديك القدرة على الفناء في النص الأصلي والقدرة على إفناء نفسك أمامه أي على القيام بفعل صوفي حقيقي فيه الخشوع والوجد ونكران الذات. وكلما تخليت عن نفسك وأنكرتها وجدتها وكسبتها كما يحدث في كل اتحاد صوفي، وكلما قضيت الأيام والأسابيع في البحث عن حقيقة نفسك ووجدتها في النهاية - كما يقول لوثر، وهو واحد من أعظم المترجمين في كل العصور - كانت الثمرة أحلى وأجل. فهل هناك أندر من المترجمين الصادقين في كل جيل؟ وهل هناك ضرورة أكثر إلحاحا من أن يتجه الأدباء وحدهم إلى ترجمة الأدباء، وأن يرفع التجار والمرتزقون أيديهم عنها؟!
هذا وقد رجعت إلى كل المجموعات الشعرية التي استطعت التوصل إليها، ولم أدخر وسعا في الالتزام بالأصل حتى في الحالات التي كنت أجهل فيها لغته، وذلك مثلا في النصوص الإسبانية التي كنت مع ذلك أستعين بمعلوماتي المتواضعة في اللغتين اللاتينية والإيطالية لأضاهيها بترجمتها في الإنجليزية أو الألمانية. أما النصوص الفرنسية فقد كنت أرجع فيها إلى الأصل بطبيعة الحال، وكان من حسن حظي أن وجدت الترجمة الألمانية الدقيقة لمعظم هذه الأصول. وأما الترجمات العربية السابقة لبعض النصوص فقد كنت أهتدي بها شاكرا جهود أصحابها ومشيرا إلى التعديلات التي رأيت إدخالها عليها. وسوف يجد القارئ بعض هذه المجموعات مثبتة في قائمة المصادر، وله أن يعود إليها إذا شاء.
وأخيرا فليغفر لي قارئ الكتاب عنوانه الطموح، وليكن شهادة وفاء للكنز المفقود، وتحية حب لقرائنا وشعرائنا الجدد، ورسالة أمل مفتوحة إلى كل أحباب الشعر والمؤمنين برسالته الخالدة في تنقية العالم، وتوحيد حطامه المبعثر، وإعادته إلى الكمال والخير والعدل والجمال، ودعوته الأزلية - بصوت الغناء - إلى تحرير الإنسان من ذنوبه التي اقترفها على مدار التاريخ في حق الطبيعة والحياة، وتذكيره على الدوام بعالم المثال وبأصله الإلهي النبيل.
5 (القاهرة) يوليو 1970م
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
مدخل إلى الشعر الحديث
(1) بين الثورة والحداثة
Bilinmeyen sayfa
ثورة الشعر الحديث هو العنوان الذي وضعته لهذا الكتاب. ولا شك أن كلمة «الحداثة» تحتاج إلى تحديد. أما الثورة فهي في بنائه وظواهره العامة التي أرجو أن يوضحها الكتاب بشيء من التفصيل.
ومهما يكن اختلافنا في تحديد معنى الحداثة فلا شك أننا سنتفق على أن هذا الكائن اللغوي الحي الذي نسميه بالقصيدة يدين لصاحبه بالوجود كما يدين للعصر الذي عاش فيه، وللجو الفكري والحضاري الذي تنفس هواءه.
فنحن عندما نتذوق القصيدة نرجع تجربتنا الجمالية إلى عبقرية الشاعر الفردية وإلى شيء آخر قد نسميه روح العصر، أو تجربته وجوه العام، شيء تأثر به هذا الشاعر كما تأثر به غيره من الشعراء المعاصرين له سواء أكان هذا التأثير سلبا أم إيجابا وسواء كان يسير في اتجاه العصر أو في عكس اتجاهه.
إن العصر الحديث بالمعنى الواسع لهذه الكلمة قد بدأ مع بداية الثورة الصناعية باكتشاف القوى البخارية والمائية، ومضى الإنسان الحديث في حربه المستمرة للانتصار على الطبيعة واستغلالها لمصلحته وتجريدها من كل أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمة القلق على حياته ومصيره مع اكتشاف الطاقة الذرية.
ولقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة والله كما تغيرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشري في خلال القرنين الأخيرين تغيرات كبيرة صاحبت ثوراته الصناعية والاجتماعية والدينية والعقلية أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعكست بالضرورة على وجدانه الفني وظهرت في تعبيره الشعري فيما يمكن أن نسميه بثورة الشعر الحديث أو ثوراته المتعددة.
فحين كان الناس من حوله مشغولين بالواقع الخارجي وبالسيطرة على الطبيعة، وبناء المصانع والمدن الحديثة واستغلال الأرض وإنتاج المزيد من البضائع، كان الشاعر يقف من ذلك موقف المؤيد حينا أو المعارض في معظم الأحيان، فيمجد التغيير السياسي والاجتماعي مرة أو ينصرف إلى تأمل ذاته واستكشاف عالمها الباطن المستتر في اللاشعور أو الرمز أو الأسطورة مرات. وكل من ينظر إلى تطور الفكر والحضارة في المائة والخمسين سنة الأخيرة لا بد أن يلاحظ مدى التغيير وعمق الاكتشافات التي تمت في هذين المجالين في وقت واحد.
في مجال المجتمع والطبيعة، وفي مجال النفس والواقع الداخلي.
وطبيعي أن هذا التطور في اكتشاف العالم الباطن قد سار في تيارات معقدة، وأنه كان يختلف في أوروبا وأمريكا من حيث العصر والمزاج والحركة الأدبية التي يرتبط بها هذا الشاعر أو ذاك، ولكن هذا التطور أو هذه الثورة كانت تسير في حلقات متتابعة ينبع أحدها من الآخر، فالرومانتيكية كانت كامنة في الكلاسيكية التي أرادت أن تبعث القديم وتطوره، والرمزية هي ذروة النضوج التي وصلت إليها الرومانتيكية المزدهرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والواقعية كانت رد فعل للرمزية على اختلاف أشكالها واتجاهاتها.
والشاعر، الذي خلع عن نفسه صفة الناظم إلى الأبد! يحاول في أثناء هذا كله أن يكتشف مجاهل نفسه وعالمه الباطن كما يكتشف لغته ويعيد بناءها لتكون قادرة على الإيحاء بعالمه الجديد، صحيح أن هذه التيارات والمدارس تختلف فيما بينها باختلاف البلاد والطبائع الفردية، كما أن لكل منها خصائصه المعقدة المتمايزة، وشعراءه المختلفين عن بعضهم البعض أشد الاختلاف، إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن حركة اكتشاف الواقع الخارجي التي كادت تصل إلى نهايتها - على الأقل من ناحية السطح والظاهر - لم تستطع في مجال الواقع الداخلي أن تنتهي من اكتشاف عالم اللاشعور أو «أفريقيا الباطنة» كما يسميه الكاتب الألماني «جان باول».
1
Bilinmeyen sayfa
ولعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل محاولات الاكتشاف الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادا وكثافة في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من اكتشاف أفريقيا من زمن طويل، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء. (2) نشاز وشذوذ
الصورة التي يقدمها لنا الشعر الحديث صورة جذابة بقدر ما هي محيرة؛ إنها تزخر بالألغاز والرموز والمفارقات ، ولكنها تحفل كذلك بشخصيات لا يمكن تجاهلها، ونماذج لا يمكن الشك في روعتها وأصالتها، وإنتاج مثير خصب يدل على أن الشعر الحديث والمعاصر لا يقل شأنا عن الفلسفة أو الرواية أو المسرح أو الفنون التشكيلية في قدرته على التعبير عن روح عصرنا ومشكلاته وأزماته. ولو تأملنا مثلا إنتاج الشعراء الألمان ابتداء من رلكه في مرحلته المتأخرة إلى شاعر التعبيرية تراكل، أو الشعراء الفرنسيين من أبوللينير إلى سان-جون بيرس ورينيه شار، أو الإسبان من جارثيا لوركا إلى جيان، أو الإيطاليين من بالاتسيسكي إلى أنجارتي، أو الإنجليز من ييتس إلى إليوت، لاقتنعنا بأهميته وخطورته، وسحره وغموضه، وتعقيده وطرافته في آن واحد. إن القارئ يدخل معهم في تجربة تضع يده - ربما عن غير قصد منه - على روح هذا الشعر وطابعه المميز؛ فهو يؤخذ بغموضه بقدر ما يحار في فهمه، وهو ينجذب نحوه بقدر ما يصدم فيه، والسحر الذي ينبعث من كلماته الحافلة بالأسرار يأسره ويفرض نفسه عليه، ولكنه يضله في متاهاته ويقطع عليه كل طريق للفهم أو المشاركة أو التذوق بمعناه القديم. وليأذن لنا القارئ منذ البداية أن نسمي هذا المزيج من الغموض والسحر تسمية نستعيرها من لغة الموسيقى فنصفه «بالنشاز» فإن سأل: وما معنى النشاز في هذا المقام! قلنا: لعله نوع من التوتر يميل إلى القلق والاضطراب أكثر مما يميل إلى الراحة والتجانس والاطمئنان، ولعله كذلك أن يكون طابع الفنون الحديثة وهدفها بوجه عام. ومن أوضح ما يدل عليه هذه العبارة التي يقولها الموسيقى الأشهر إيجور سترافتسكي في كتابه عن «فن الموسيقي (1948م)»: «ما من شيء يلزمنا بالتفتيش عن المتعة في الهدوء وحده، فالأمثلة تتراكم منذ أكثر من قرن من الزمان لتقديم أسلوب استقل فيه النشاز بنفسه تمام الاستقلال وأصبح شيئا في ذاته، وهكذا اتفق أنه لا يمهد لشيء ولا يعلن عن شيء؛ فليس النشاز دليلا على الاضطراب ولا التناغم ضمانا للنظام واليقين.»
هل تصدق عبارة سترافتسكي كذلك على الشعر الحديث؟ هذا ما سوف تحاول الصفحات القادمة الإجابة عليه. فغموض الشعر الحديث غموض متعمد مع سبق الإصرار. ولقد قال إمام هذا الشاعر ورائده بودلير: «إن في تعذر الفهم نوعا من المجد.» وشاعر آخر من أبرز ممثلي هذا الشعر مثل «جوتفريد بن» يقول: «إن الشعر هو الارتفاع بالأمور الحاسمة إلى لغة المستحيل على الفهم، والفناء الكلي في أشياء تستحق ألا يقتنع بها أحد.» ويخاطب سان-جون بيرس الشاعر فيقول بلغته الصوفية الفياضة بالوجد والحماس: «يا صاحب اللغة المزدوجة بين أشياء متطرفة في الازدواج، يا من تمثل الصراع بين كل ما يعيش في الصراع، وتتكلم بعديد المعاني كإنسان ضل في الكفاح بين الأجنحة والأشواك!» ويعود الشاعر الإيطالي مونتاله فيقول: «لو كانت مشكلة الشعر هي أن يكون صاحبه مفهوما لما كتب أحد بيتا واحدا من الشعر!»
لا مناص إذن من أن يعود القارئ عينيه على الظلام الذي يحيط بهذا الشعر. لا مفر من أن يدرك منذ البداية أنه شعر يبتعد بقدر ما يستطيع عن نقل المعنى الواضح والتعبير عن المضمون الذي لا خلاف حوله. إن القصيدة الجديدة تريد أن تكون شيئا مكتفيا بذاته، كيانا يشع دلالات عديدة، نسيجا من عناصر متوترة، ميدانا تتصارع فيه قوى مطلقة تؤثر بالإيحاء على طبقات من النفس لا صلة لها بالعقل - سابقة عليه أو متجاوزة له - وتمد أثرها على مناطق الأسرار المحيطة بالأفكار والكلمات فتشيع فيها الرعشة والرفيف.
ولا يقتصر هذا التوتر أو هذا النشاز في القصيدة الحديثة على هذا. إنه يتجلى كذلك من ناحية أخرى. فالقصيدة تجمع في الغالب بين عالمين متعارضين، وتبدو كالوجه الواحد الذي يضم ملامح متباينة، فهناك ملامح تنحدر من أصول صوفية أو طقوسية أو مرتبطة بعبادات الأسرار، تقابلها في الجانب الآخر ملامح النزعة العقلانية الحادة، والعبارة البالغة البساطة ذات المضمون المركب المعقد البالغ التعقيد، والدقة والتحديد مع العبثية والاستحالة، والبواعث والأغراض التافهة الضئيلة الشأن في أسلوب فوار بالحركة والعنف. وقد تكون هذه جميعا أنواعا من التوتر الشكلي، لا يقصد بها إلى أبعد من الشكل، ولكنها تترك أثرها على المعنى والمضمون وتظهر فيهما بصورة أو بأخرى .
والقصيدة الحديثة حين تلمس الواقع أو جوانب منه في البشر أو في الأشياء، لا تتناوله تناولا وصفيا ولا تقف منه موقفها من شيء مألوف في الرؤية أو الشعور، بل تنقله إلى صعيد المذهل غير المألوف، كما تشوهه وتغر به، إذا صحت هذه الكلمة التي شاعت في السنوات الأخيرة، ولذلك يستحيل أن تقاس بما نصفه عادة بأنه الواقع، بل هي لا تريد ذلك مهما وجدنا فيها من أجزاء الواقع أو بقاياه، لأنها لا تلجأ إليها إلا كوسيلة للانطلاق إلى آفاقها الحرة. إن الواقع في هذه القصيدة قد تخلص من نظامه المكاني والزمني والموضوعي والنفسي، كما تحرر من تلك التفرقة التي لا نستغني عنها في توجيه نظرتنا العادية إلى الأمور، وأعني بها التفرقة بين الجميل والقبيح، والقريب والبعيد، والنور والظل، والألم والفرح، والأرض والسماء.
كان المفهوم الذي حددته الرومانتيكية للشعر (وإن كان من الخطأ تعميم هذا المفهوم) هو أنه لغة الوجدان، والتعبير عن الذات الفردية. وكلمة الوجدان هنا تعني الرجوع إلى المألوف، والسكون إلى وطن النفس الذي يشترك فيه أكثر الناس انفرادا مع كل من يشعر ويحس، ولكن القصيدة الجديدة تحس بالغربة أعمق إحساس، وتنفر من اللجوء إلى هذا الوطن الساكن المطمئن. إنها تبتعد عن «الإنسانية» أو «البشرية» بمعناهما المصطلح عليه، وتصرف النظر عن التجربة والعاطفة، بل تذهب في كثير من الأحيان إلى البعد عن ذات الشاعر نفسه. لم يعد هذا الشاعر يشارك في قصيدته مشاركة الذات الفردية أو الشخصية، بل مشاركة عقل مبدع، وصانع لغة، وفنان يجرب خياله المتسلط أو نظرته غير الواقعية على مادة فقيرة من المعنى، عرضت له كيفما اتفق. ولا يعنى هذا بالضرورة أن قصيدة من هذا النوع لا توقظ سحر النفس المكنون أو لا تنبع منه، بل معناه أنها أصبحت شيئا آخر يختلف عما نسميه بالقصيدة الوجدانية، وأنها تستخدم لغة أخرى غير اللغة التي اصطلحنا على وصفها بلغة الوجدان. لقد أصبحت لحنا متعدد الأصوات والأنغام وصورة مطلقة من الذاتية المحضة الخالصة التي لا يمكن تجزئتها إلى قيم شعورية مفردة. يقول جوتفريد بن، وهو أحد السحرة الكبار في معبد الشعر الحديث: «الوجدان؟ إنني لا أملك شيئا منه.» وهو كغيره لا يكاد يجد أثرا لنعومة الوجدان أو رخاوة العاطفة حتى يقطعه بسكين العقل، ويمزقه بالكلمات القاسية الناشزة.
باستطاعتنا إذن أن نتحدث عن نزعة درامية عدوانية في الشعر الحديث. إنها تكمن في العلاقة بين الموضوعات أو البواعث (الموتيفات) التي تتقابل تقابل الأضداد بدلا من أن تتصل وتتلاقى بنظام واطراد. وهي تكمن كذلك في العلاقة القائمة بين هذه الموضوعات والبواعث وبين الأسلوب القلق الذي يفرق ما وسعته التفرقة بين الدلالات والمدلولات. ولكن هذه النزعة الدرامية العدوانية تحدد كذلك العلاقة بين القصيدة والقارئ. فكثيرا ما تصدم القصيدة قارئها فيشعر أنه يتلقى منها الإنذار بالخطر بدلا من أن ينعم بالأمان! صحيح أن لغة الشعر كانت وستظل على الدوام مختلفة عن لغة التفاهم العادية وأنها لم تكن ولن تكون مجرد وسيلة للنقل والتوصيل. لقد كان الفارق بين اللغتين - باستثناء حالات قليلة نجدها في شعر دانتي الإيطالي أو جونجورا الإسباني - يتسم بالتدرج والاعتدال بوجه عام. وفجأة اختل الميزان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فتأكد الفارق الحاسم بين لغة الشعر ولغة الكلام، واتضح التوتر الهائل بينهما، وجاءت المعاني والمضمونات الغامضة المظلمة فزادت الهوة اتساعا، وأثارت دوامة الحيرة والبلبلة التي ما زالت تتسع حتى اليوم.
أصبحت الكلمات المألوفة ترد بمعان غير مألوفة، والاصطلاحات العلمية الموغلة في التخصص تمتلئ بشحنة شاعرية، وتركيب العبارة يفقد ترتيبه العضوي أو ينكمش أحيانا إلى جمل أو كلمات اسمية توضع إلى جانب بعضها البعض.
والتشبيه والاستعارة، وهما من أقدم الوسائل التي لجأ إليها الشعر في كل البلاد والعصور، تتغير وظيفتهما فيستخدمهما الشاعر بطريقة جديدة تتحاشى عنصر التشبيه الطبيعي أو تفرض على الأشياء وحدة غير واقعية لا تتفق مع المنطق والطبيعة.
Bilinmeyen sayfa
أصبحت البنية اللغوية المتحركة والتتابع النغمي والإيقاعي المتحرر من المعنى أهدافا تقصد لذاتها كما حدث في فن الرسم الحديث والمعاصر عندما استقل اللون والشكل بنفسهما وأزاحا الموضوع والشيء أو استبعداهما كل الاستبعاد؛ ولذلك لم يعد من الممكن أن تفهم القصيدة من مضمون عباراتها، لأن مضمونها الحقيقي يكمن في «درامية» القوى الشكلية التي تتحكم فيها من الخارج أو من الداخل. مثل هذه القصيدة تجذب القارئ أو المستمع ولكنها تحيره وتصدمه. إنها تستخدم اللغة بطبيعة الحال ولكنها لغة لا توصل لقارئها موضوعا ولا تنقل إليه معنى.
لا غرابة إذن في أن يوصف الشعر الذي يحتوي على مثل هذه الظواهر بأنه نشاز. ولكنه يتصف كذلك بالشذوذ والخروج على المألوف. يشهد بهذا أن صفة المفاجأة أو الغرابة قد أصبحت من المفهومات الرئيسية التي تتردد في كتابات نقاده المعاصرين. والحق أن من يروم المفاجأة بالوسائل غير المألوفة يضطر للجوء إلى وسائل شاذة. والشذوذ كلمة خطيرة لا يرتاح إليها الإنسان في الشعر ولا في غير الشعر. فهو يوحي بوجود قيم ثابتة تعلو على الزمان والمكان، بينما الواقع يؤكد أن ما يصفه عصر بالشذوذ قد يتخذ منه عصر تال معيارا له، أي أن القيمة التي يستهجنها زمن قد يتقبلها زمن آخر. ولكن هذا الكلام لا يصدق على الشعر الذي نتحدث عنه، بل لا يصدق على رواده الفرنسيين الأوائل. فما زال شعر رامبو ومالارميه بعيدا عن تذوق الجانب الأكبر من جمهور القراء، على الرغم من كثرة ما كتب ويكتب عنهما، كما أن استحالة تمثل الشعر الحديث من أهم الصفات التي تنسحب أيضا على شعر المعاصرين.
ونحب أن نؤكد هنا أن استخدامنا لكلمة الشذوذ في الحكم على الشعر الحديث لا يعني أنه شعر مرضي أو منحل، ولا يعني أننا نصدر عليه حكما أخلاقيا، ولكننا نقصد منه الكشف عن ظواهره التي تميزه عن الشعر القديم. فإذا وصفنا مثلا إحدى قصائد جوته أو هوفمنستال بأنها سوية فإنما نقصد بذلك وصف الحالة النفسية أو الشعورية التي تقدر على فهم هذه القصيدة. صحيح أن بعض المتحمسين للشعر الحديث يحاولون أن يحموه من ضيق الأفق البرجوازي أو الذوق المدرسي والتقليدي ولكنهم بهذا يثبتون عدم نضجهم ويخطئون في إدراك الباعث الحقيقي على مثل هذا الشعر، بل ويؤكدون جهلهم بتطور الشعر الأوروبي على مدى ثلاثين قرنا. ليس الشعر الحديث ولا الفن الحديث في حاجة للوقوف منهما موقف الانبهار أو الإنكار. إنهما ظاهرتان راسختان من ظواهر العصر الحاضر ومن حقهما أن نعرفهما ونقدرهما عن وعي وتبصر. ومن حق القارئ أيضا أن يستمد مقاييسه وقيمه في الحكم والتذوق من الشعر القديم الذي تعود عليه، وليس لنا أن نلومه على ذلك. وإذا كنا نتحاشى تطبيق هذه القيم والمقاييس في حكمنا على الشعر الحديث، فإن هذا لا يمنعنا من الاستعانة بها في الوصف والمعرفة. والوصف والمعرفة ممكنان حتى في مثل هذا الشعر الذي لا ينتظر من القارئ أن يفهمه؛ لأنه، كما يقول إليوت، لا يحتوي على أي معنى يرضي عادة من عادات القارئ. ذلك لأن بعض الشعراء، كما يقول إليوت أيضا، يشعرون بالقلق والضيق إزاء هذا المعنى لأنه يبدو لهم شيئا سطحيا، وهم يرون أن إمكانيات العمق أو الحدة الشاعرية يمكن أن تأتي من انصراف الشاعر عن المعنى، والشعر الحديث قابل بغير شك أن يوصف ويعرف، مهما سمح لنفسه بأقصى درجات الحرية. صحيح أن الناقد أو القارئ لن يفهم منه كثيرا، بل إن قدرة الشاعر نفسه على فهم قصيدته محدودة إلى أقصى درجة، ولكن القارئ سيعرف على الأقل أنه شعر متحرر، وسيحاول أن يتبين مظاهر هذه الحرية التي بررت من قبل وصفه بالشذوذ أو النشاز، وسيقرر بعد قراءة العديد من نماذجه الصالحة أن صعوبة فهمه أو استحالته في أغلب الأحيان طابع مميز فيه وعلامة دالة على أسلوبه. وقد يستطيع كذلك أن يتبين بعض علاماته الأخرى المميزة، إذا حاول أن يضعه في سياق التطور التاريخي، ويستكشف أسرار صنعته ويدرك العوامل المشتركة بين مختلف الشعراء المحدثين والمعاصرين في اللغة والبناء والأداء، ولا بد أن كثرة المعاني التي تشع من القصيدة الواحدة ستربكه وتحيره، ولكنه سيعرف في النهاية أن تعدد المعاني في القصيدة وقابليتها لإمكانات التفسير المختلفة المفتوحة من أهم خصائص الشعر الحديث. (3) مقولات سلبية
لا بد لدارس الشعر الحديث أن يبحث عن المقولات التي يصفه بها، ولا مناص من القيام بهذه المهمة التي يؤكدها النقد كله، ولا مناص أيضا من القول بأن هذه المقولات في مجموعها مقولات سلبية. وينبغي أن نؤكد ما قررناه من قبل من أننا نستخدم هذه المقولات للفهم والتعريف، لا للتقييم وإصدار الأحكام. ووصفنا لها بالسلبية لا يعني بطبيعة الحال أننا ندين الشعر الحديث أو نوجه إليه الاتهام. فأقصى ما يطمح إليه الدارس هو أن يعرف طبيعة هذا الشعر ويضعه في موضعه التاريخي الصحيح. بل إن موقف التعريف لا التقييم هو نفسه جزء من العملية التاريخية الشاملة التي تحرر بها الشعر الحديث من القديم.
لقد أدى التغيير الذي طرأ على الشعر في القرن التاسع عشر إلى تغيير مماثل في مفهوم الآداب ونظريات النقد. كان الشعر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر وربما بعد ذلك بفترة غير قصيرة، يعيش بأكمله في إطار المجتمع أو في حماه. فالناس ينتظرون منه أن يكون تعبيرا أو تشكيلا مثاليا للمواقف والمشاعر العادية، وعزاء شافيا للآلام والجراح مهما تناول من موضوعات مخيفة أو قاسية. وكان الشعر نوعا من الأنواع الأدبية لا يفكر أحد في تقديمه عليها أو تفضيله عنها. ثم وجد الشعراء أنفسهم في مواجهة مجتمع مشغول بمطالبه الاقتصادية وتأمين حياته المادية، وتقدم علمي يجاهد في تجريد العالم من أسراره وألغازه. فكانت صرخات الاحتجاج التي أطلقها على المجتمع والجماهير التي فقدت الإحساس بروح الشعر. وكان أن أنشق على التراث، وأصبح شذوذ الشاعر تبريرا لأصالة الشعر، وصار الأدب لغة العذاب المتصل الذي يدور ويدور حول نفسه فلا يسعى إلى النجاة والخلاص بقدر ما يسعى إلى الكلمة المعبرة عن عذاب الوجدان. وأصبح الشعر هو أسمى مظاهر الأدب وأنقاها، بل لقد وقف من بقية الأنواع الأدبية موقف المعارضة، وأعطى لنفسه الحرية المطلقة في التعبير عن كل ما يوحي به الخيال القادر المتسلط، والتغلغل المستمر في الحياة الباطنة وأعماق اللاشعور، واللعب بفكرة الوجود الخالي من كل حقيقة متعالية. وانعكس هذا التحول على اللغة التي يستخدمها النقاد والشعراء أنفسهم في كلامهم عن الشعر.
كان نقاد الشعر القديم وشعراؤه يحكمون على القصيدة من مضمونها ويصفونها بما يمكن تسميته بالمقولات الإيجابية. ولو نظرنا في تعليقات جوته مثلا على بعض قصائده أو قصائد غيره من الشعراء لوجدنا مثل هذه الأحكام: متعة، فرح، توافق سعيد، وكل ما خاطر به الشاعر يخضع لمعيار محكم مقنن. الكارثة تستحيل إلى نعمة، العادي والدنيء يسمو ويرتفع. وفضيلة الأدب أنه يعلم الناس أن حالة الإنسان أو وجوده شيء محبب مرغوب فيه؛ فهو ينطوي على «مرح داخلي»، «ونظرة سعيدة وموفقة إلى الواقع» وهو يرتفع بالفردي إلى المستوى العام، أما الأوصاف الشكلية فنجد منها:
الدلالة الفنية للكلمة، اللغة المتزنة المتماسكة التي «تسير بحرص ودقة وتأن». «وتنتقي الكلمة الصحيحة وتتحاشى المعاني الجانبية.»
وأحكام شيلر لا تخرج كذلك عن هذا الإطار، فالقصيدة عنده تضفي النبل وتخلع على الانفعال ثوب الكبرياء، إنها «تكوين مثالي للموضوع الذي تتناوله، بغيره لا تستحق أن تسمى قصيدة.» وهي تتلافي «الإغراب» والشذوذ الذي ينافي «العام المثالي»، وكمالها مستمد من روح مرحة صافية، وشكلها الجميل من «اتصال السياق». وطبيعي أن مثل هذه الأوصاف الإيجابية تستدعي أضدادها من الأوصاف السلبية. ولكن الشعر القديم لم يكن يستخدم هذه الأوصاف السلبية إلا للاتهام أو الإزراء بما يخالف معاييره وأحكامه، كأن يقول مثلا إن القصيدة شذرة ناقصة، أو غامضة مضطربة، أو مجرد حشد للصور، أو ليل مظلم (بدلا من أن تكون نورا يضيء)، أو أحلام مختلطة مترنحة أو نسيج مهزوز (كما يقول الشاعر والناقد النمسوي جريلبارزر في بعض أحكامه).
وهناك نوع آخر من المقولات السلبية يستخدمه أصحابه استخداما ينصب على الشكل أكثر مما ينصب على المضمون. فالشاعر الكاتب الرومانتيكي الألماني الشهير نوفاليس (1772-1801م) يطبق هذا النوع في شذراته المشهورة التي احتوت على تأملات قيمة عن الشعر تطبيقا يميل إلى الوصف والإطراء ويبتعد عن اللوم والاتهام وإبراز العيوب. إن الشعر عنده يقوم على «الإنتاج العرضي المقصود»، ويصور ما يقوله في «تسلسل عرضي حر». وكلما كانت القصيدة شخصية وكلما زاد ارتباطها بالمكان والزمان، كلما اقتربت من مركز الشعر (ولنلاحظ هنا أن الزمانية والمكانية أو المحلية كانتا تعدان في النقد القديم من المآخذ التي تحد من آفاق الأدب عامة).
وإذا انتقلنا إلى شاعر مثل لوتريمو (1846-1870م) وجدنا المقولات السلبية تتراكم عنده بشكل ملحوظ. فقد تنبأ في سنة 1870م بالصورة التي سيكون عليها الأدب من بعده. صحيح أن هذه الصورة تبدو أشبه بالتحذير ودق نواقيس الخطر، وإن كان من المتعذر أن يستقر الإنسان على تفسير لما يقوله هذا الفوضوي العظيم الذي ظل يغير الأقنعة على الدوام. ولكن المدهش حقا أن هذا الشاعر الذي ساهم مساهمة كبيرة في التمهيد للشعر من بعده، قد عرف كيف يحدد خصائصه الأساسية تحديدا صادقا يدل على بعد النظر، ويجعلنا نشك فيما يقال من إنه أراد أن يوقف تطور الشعر على هذا النحو الذي صوره، أو يحملنا على الأقل على عدم الاكتراث. ولننظر الآن إلى بعض هذه الخصائص والملامح التي حددها. سنجد بينها مثل هذه التعبيرات: القلق، الاضطراب، إهدار القيم، السخرية المرة، غلبة الاستثناء والشذوذ، الغموض، الخيال الجامح، الكآبة والظلام، التمزق بين الأضداد المتطرفة، الميل إلى العدم. ثم تأتي هذه الكلمة بين غيرها من عديد الكلمات: النشر (بمعنى نشر الخشب!) ...
Bilinmeyen sayfa
ونحن نجد هذه الكلمة الأخيرة
scies
في مواضع أخرى كثيرة، في الشعر والفن التشكيلي على السواء. فالسطر الأول من قصيدة «لإلوار» بعنوان «الشر» (وتجدها بين مختارات هذا الكتاب)، يقول ضمن ما يقوله من صور الدمار والتحطيم:
هناك كان الباب كالمنشار ... إلخ.
وكثير من لوحات بيكاسو تصور المنشار أو تكتفي بتصوير أسنانه التي تخترق مساحات هندسية وحسب، دون أن تكون هناك ضرورة يفرضها الموضوع الذي يصوره، وبعضها الآخر يصور أوتار قيثارة في تكوينات أشبه بالمناشير. ولا يجوز أن نتكهن هنا بأي تأثر أو تأثير متبادل بين الشاعر والرسام. وكل ما نستطيع أن نقوله هو إن ظهور رمز المنشار هذا على فترات زمنية متباعدة إنما يدل على ما أشرنا إليه في الصفحات السابقة من وحدة البناء التي تغلب على الأدب والفن الحديث والشعر بوجه خاص ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ونستطيع أن نستطرد في ذكر بعض الاصطلاحات والأوصاف المميزة لطابع الشعر الحديث مما يكتب عنه في اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية. فمن هذه الاصطلاحات التي تستخدم كما قدمنا للوصف لا لإصدار الأحكام أو توجيه اللوم والاتهام نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الضياع. تبديد العادي والمألوف. النظام المفقود، التفكك. الاقتطاف. العكس. أسلوب الرص والتجاور (أي رص الكلمات والمعاني بجانب بعضها البعض دون ضرورة منطقية أو معنوية أو لغوية). الشعر المجرد من الشاعرية. التحطيم والتفتيت. الصور القاطعة. المفاجأة الضارية. الإزاحة. الإغراب. إحداث الصدمات ... إلخ. وأخيرا نورد هذه العبارة للناقد الإسباني داماسو ألونسو:
ليس هناك وسيلة لتسمية فننا إلا بالتصورات والمفهومات السالبة.
ولقد كتب ألونسو هذه العبارة في سنة 1932م، واستطاع هو وغيره أن يكرروها بعد ذلك في سنة 1954م دون حاجة إلى تغيير.
من الأمانة العلمية إذن أن نستخدم هذه المفهومات في حديثنا عن الشعر الحديث. ومع ذلك فالأمر لا يخلو من وجود مفهومات واصطلاحات أخرى.
فالشاعر فيرلين يصف أشعار رامبو بأنها «فرجيلية». ولكن أشعار راسين يصدق عليها هذا الوصف أيضا. ولعل هذا الوصف الإيجابي من جانب فيرلين لم يقصد به إلا أن يكون محاولة غامضة للتقريب بين الشاعرين، ولعله لا يريد أن يصف أشعار رامبو وصفا دقيقا بقدر ما يريد أن يلمح للنشاز الملحوظ في موضوعاته وقاموسه اللغوي. ومن النقاد الفرنسيين من يتحدث عن شعر إلوار فيذكر جماله المتميز. ولكن هذه القيمة الإيجابية تقف وحدها بين طائفة من القيم السلبية التي يضفيها الناقد عليه وتميز جمال هذا الشعر قبل غيرها من القيم. ولا يقتصر هذا على نقاد الأدب وحدهم؛ إذ نصادفه كثيرا عند عدد من نقاد الفن الحديث. فهم يصفون رقبة يرسمها بيكاسو بأنها «أنيقة». وقد يصدق عليها هذا الوصف. ولكنه لا يصدق على الطابع المميز الذي جعل لها هذه الأناقة وأعني به أنها تكوين غير واقعي صرف، ليس فيه أثر من الشكل البشري المألوف. ولكن لماذا لا يتشجع أحد من النقاد فيذكر لنا هذه القيمة أو المقولة السلبية في وصفه لأناقة تلك الرقبة التي لم يبق هناك شبه بينها وبين رقبة الإنسان؟
Bilinmeyen sayfa
إن السؤال يفرض نفسه أيضا في مجال الشعر. فلماذا تصف المقولات السلبية هذا الشعر بأدق مما تصفه المقولات الإيجابية؟
هل سبقنا كل هؤلاء الشعراء بمراحل بحيث لم يعد في مقدور أية فكرة أو تعريف إيجابي أن يلحق بهم؛ مما اضطرنا إلى استخدام الأفكار والتعريفات السلبية في الكلام عنهم؟ هل معنى هذا أن الشعر الحديث - وهو الغرض الذي أشرنا إليه من قبل - يستعصي على التمثل أو التذوق، وإن هذا هو أحد خصائصه المميزة؟ إن هذه الأسئلة تنصب على التحديد التاريخي لهذا الشعر، أي تتعلق بمستقبله، والسؤال عن المستقبل لا يدخل في نطاق العلم، وقد تصدق كل الأسئلة، ولكننا لن نستطيع أن نقطع فيها على وجه اليقين. والشيء الوحيد الذي يمكننا أن نؤكده هو شذوذ هذا الشعر، أي خروجه عن المألوف، ومن هذه الحقيقة نستخلص نتيجة ضرورية، وهي أننا ملزومون بمعرفة عناصر هذا الشذوذ معرفة دقيقة، لكي يحق لنا بعد ذلك أن نستخدم القصورات والمقولات السلبية التي قلنا إنها تفرض نفسها على قراء الشعر الحديث. (4) مقدمات نظرية في القرن الثامن عشر (4-1) روسو وديدرو
يلاحظ المتأمل للفكر الأوروبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بعض الظواهر التي يمكن اعتبارها مقدمات مهدت للشعر الحديث والمعاصر. وسنكتفي في الصفحات المقبلة بتوضيح هذه الظواهر عند روسو (1712-1778م)، وديدرو (1713-1784م) ...
ولا يعنينا في هذا المجال أن نتحدث عن روسو المشرع للدولة والمجتمع، ولا عن روسو الذي أسكرته الطبيعة النقية العذراء فأخذ يتغنى بفضائلها بعاطفة الأنبياء وإخلاص المصلحين. ولن نمس هذا الجانب الهام من تفكيره إلا بقدر ما يتصل بأحد طرفي التوتر والصراع الذي يسري في كل أعماله، وأقصد به الصراع بين حدة العقل وفورة الانفعال، بين التفكير المنطقي المحكم والخضوع لمثاليات العاطفة، وهو صراع يمكن أن نرى فيه مظهرا من مظاهر النشاز الذي يطبع التفكير والأدب والفن الحديث بطابعه.
ومع ذلك فهناك ملامح أخرى من تفكير روسو تبرز أهميته في هذا المقام. فالمعروف أنه وريث أكثر من تراث. ولكن يبدو أنها لا تلزمه ولا تخدم هدفه. فأعجب ما في روسو أنه يريد أن يقف وحيدا وحدة تامة في مواجهة نفسه ومواجهة الطبيعة. وهذه الإرادة هي الشيء الجديد الفريد فيه. إنه يقف في نقطة الصفر من التاريخ، كأنما يريد أن يبدأ من العدم. وهو بمشروعاته التي يضعها للدولة والمجتمع والحياة يجرد التاريخ من قيمته، بل يعتبر أن دخولها في الظروف التاريخية تزييف وإفساد لها، ولذلك كان موقفه الفردي المطلق تجسيدا لأول شكل حاسم من أشكال الخروج على التراث، كما كان في نفس الوقت خروجا على البيئة المحيطة به وانشقاقا عليها.
تعود الكتاب أن ينظروا إلى روسو نظرتهم إلى مريض نفسي، بل إن بعضهم يعتبره أنموذجا كلاسيكيا على جنون الاضطهاد! ولكننا نعلم أن هذه الأحكام النفسية لا تكفي دائما لتفسير الأعمال الفنية والأدبية، بل إنها في بعض الأحيان تفسدها وتجني عليها. فهي لا تفسر في حالتنا هذه سبب إعجاب الناس بشذوذ روسو ووحدته وتفرده إعجابا لم ينقطع إلى اليوم. صحيح أن هناك ظواهر مرضية لا يمكن إنكارها في شخصية روسو، وصحيح أنها ساعدت على توسيع الهوة التي فصلته عن مجتمعه وتراثه، وصورت لذاته المطلقة الوحيدة أنه العبقري الذي لا يفهمه أحد. ولكن هذه الظواهر أو التجارب النفسية قد التقت مع تجربة العصر كله، وهي تجربة ترتفع فوق الذوات والأشخاص. والمهم أننا نجد عند روسو نوعا من التفسير الذاتي الذي سنجده عند عدد غير قليل من شعراء القرن التالي له، وهو تفسير الشذوذ بأنه الضمان الأكيد لرسالة المفكر والأديب والاقتناع بالصراع الضروري والشقاق المحتوم بين الذات والعالم اقتناعا يجعل روسو وأتباعه يقولون: «أحب إلي أن أكون مكروها من الناس على أن أكون عاديا مثلهم، بل إنهم ليجعلون من هذا القول قاعدة لسلوكهم وحياتهم. إن الذات التي لا يريد أن يفهمها أحد تتعذب بالاحتقار الذي تسببه لنفسها من الناس والمجتمع، كما تتعذب بالانطواء في عالمها الباطن الوحيد، وترى في ذلك آية العزة والكبرياء. بل إنها لتجد في هذا الاحتقار دليلا على رفعتها. ولقد عبر الشاعر فيرلين عن هذا كله حين أطلق على نفسه وأصدقائه كلمته المشهورة «شعراء ملعونون».
استطاع روسو في أحد أعماله المتأخرة «أحلام متجول وحيد» أن يعبر عما يمكن أن نسميه حالة يقين وجودي سابقة على مرحلة العقل. ومضمون هذه الحالة أشبه بضباب الحلم الذي يتسرب من الزمن الميكانيكي إلى الزمن الباطن الذي لا يفرق بين الماضي والحاضر، والخيال والواقع، والفوضى والنظام. والحق أن اكتشاف الزمن الباطن (أو الديمومة النفسية التي طالما تحدث عنها برجسون) ليس شيئا جديدا، ولكن الجديد عند روسو هو هذا الحماس الشاعري الذي يصفه به ويصوره جزءا من الذات الوحيدة المعادية للبيئة والمجتمع. وهو شيء سيكون له أكبر الأثر على حركة الشعر فيما بعد، وسيزيد في قوة تأثيره عن كل التحليلات الفلسفية لفكرة الزمن عند لوك أو غيره. وها هو ذا الزمن الميكانيكي أو الساعة، تصبح عند المتأخرين رمزا كريها للحضارة الآلية (كما نرى عند بودلير وغيره من الشعراء المعاصرين مثل ماتشادو)، كما يصبح الزمن الباطن ملاذ الشعر الذي يجاهد في الهروب من سجن الواقع.
أشار روسو في مواضع أخرى من كتاباته إلى فكرة إلغاء الفوارق بين الخيال والواقع، فالخيال وحده - كما يقول في قصته الشهيرة «هيلوييز الجديدة» - هو الذي يهب السعادة، أما التحقق في الواقع فهو للسعادة موت وفناء، كما يقول أيضا إن «بلاد الوهم هي البلاد الوحيدة التي تستحق أن يسكنها الإنسان في هذه الدنيا» (6، 8).
ووجود الإنسان قد بلغ من العدم والزوال بحيث لا يكون جمال إلا فيما لا وجود له. أضف إلى ذلك فكرة الخيال الخلاق. فمن حقه أن يخلق بقوة الذات وسلطانها أمورا ليس لها وجود ويضعها في منزلة أعلى من كل ما هو موجود (الاعترافات 2، 9).
قد يكون من الخطأ أن نبالغ في قيمة هذه العبارات وأثرها على الشعر المتأخر. إنها تنبع من حرارة العاطفة عند روسو وتصطبغ بألوانها. ولكننا لو استبعدنا هذه العاطفة لوجدنا الخيال قد أصبح ملكة جسورة تعلم أنها خادعة، ولكنها تريد هذا الخداع لأن صاحبها مقتنع بأن العدم - وروسو يفهم من الناحية الأخلاقية - لا يسمح للعقل بغير الإبداع الخيالي، وهذا وحده هو الذي يشبع حاجة الوجدان إلى التفتح والخلق. بهذا يصبح الخيال أو تصبح المخيلة قوة مطلقة، ولا يجد العقل نفسه ملزما بأن يقيس إبداع الخيال بمقياس الواقع. وسوف نلتقي بهذا الخيال نفسه في القرن التاسع عشر، بل سنجد إنه قد زاد حدة بحيث نستطيع عندئذ أن نتحدث عن طغيان الخيال المتسلط أو المخيلة الطاغية التي تحررت نهائيا من الألوان العاطفية التي صبغها بها روسو.
Bilinmeyen sayfa
وإذا انتقلنا إلى ديدرو وجدناه يجعل من الخيال شيئا مستقلا بنفسه ويسمح له أن يقيس نفسه بنفسه وأفكار ديدرو تختلف عن أفكار روسو فهي مرتبطة بتفسيره لظاهرة العبقرية والعبقري كما عرضه في روايته «ابن أخ رامو».
2
وفي مقاله عن العبقرية في دائرة المعارف الشهيرة التي كان له فضل تأسيسها وإتمامها، يقول ديدرو في روايته إن الارتباط الذي نلمسه كثيرا بين العبقرية والنزعة اللاأخلاقية، وبين الإخفاق في الحياة الاجتماعية والنبوغ العقلي حقيقة ينبغي أن نقررها وإن كنا نعجز عن تفسيرها. والفكرة في حد ذاتها فكرة جريئة؛ فهي تلغي ما عرف منذ العصور القديمة من تسوية بين الملكات الجمالية والمعرفية والأخلاقية ووضعها في مرتبة واحدة. بذلك تصبح العبقرية الفنية نظاما مستقلا يخضع لقوانين مستقلة، كما يصبح العبقري استثناء يشذ عن كل قاعدة. ويكفي أن نقارن هذا الرأي بمحاولات «ليسنج» و«كانت» للربط بين شذوذ العبقرية وبين قيم الحق والخير.
ولا تقل مقالة ديدرو في دائرة المعارف عن ذلك جسارة. صحيح أنها تتصل بفكرة قديمة تقول إن العبقرية قوة فطرية تمكن صاحبها من القدرة على الاستشراف والتنبؤ وتجيز له أن يحطم كل القواعد المألوفة. ولكننا لن نجد عند كاتب قبل ديدرو أمثال هذه العبارات: إن من حق العبقري أن يكون ضاريا، ومن حقه أن يخطئ، بل إن أخطاءه الغريبة المذهلة هي التي تلهب وتضيء. إنها تنتثر في كتاباته كالشرارات المتقدة الخاطفة. وهو يحلق كالنسر المسحور بروعة أفكاره، ويبني بيوتا لا يستطيع عقل أن يسكنها. إن إبداعاته تأليفات حرة يفتن بها ويحبها، وملكته تنتج أكثر مما تكتشف. ولذلك «لم يعد الصدق والكذب من الخصائص المميزة للعبقرية.» أما الخيال أو المخيلة فهي القوة التي توجه العبقري، وما يصدق عليه يصدق بالمثل عليها، أعني أن تكون حركة ذاتية لملكات العقل وقواه، تقاس قيمتها بأبعاد الصور المبدعة، وتأثير الأفكار، والدينامية الخالصة التي تحررت من الارتباط بأي مضمون ولم تعد تعبأ التفرقة بين الخير والشر، والصدق والكذب، والصواب والخطأ. ألا يجعلنا هذا كله على بعد خطوة واحدة مما سميناه بطغيان الخيال أو المخيلة المتسلطة التي سيكون لها أكبر الأثر على الشعر فيما بعد؟
ثمة شيء آخر نجده عند ديدرو في كتابه «الصالونات» الذي كان يصدر فيه أحكامه النقدية على فن الرسم في عهده. فنحن نجد فيها لونا من التذوق الحساس لجو اللوحة، كما نجد آراء جديدة عن القوانين المستقلة للضوء والألوان، أعني المستقلة عن الذات المبدعة والذات المتلقية على السواء. وأهم من هذا كله أن تحليلات ديدرو عن الرسم تلتقى بتحليلاته الأدبية. ولا صلة لهذا بالنظرية القديمة التي ارتبطت بكلمة هوراس المعروفة (وهي كلمة أسيء فهمها كثيرا): «الشعر كالرسم
ut pictura
فالملاحظ عند ديدرو هو تقارب التفكير في الأدب من التفكير في الفنون التشكيلية، وهو شيء يعود إلى الظهور عند بودلير ويستمر ويزداد قوة في العصر الحاضر.
ونجد كذلك في «الصالونات» رأيا في طبيعة العمل الأدبي والخلق الشعري قد لا نعرف له نظيرا إلا في آراء الفيلسوف الإيطالي ج. ب. فيكو الذي لم يعلم ديدرو عنه شيئا. فديدرو يرى أن النغمة بالنسبة للبيت من الشعر كاللون بالنسبة للصورة. وهو يسمي العنصر المشترك بينهما «سحر الإيقاع»، ويقول إنه يؤثر على العين والأذن والخيال تأثيرا عميقا لا تقدر عليه الدقة الموضوعية. إن «الوضوح يضر!» ولذلك فهو يهتف بالأدباء: «أيها الأدباء، كونوا غامضين.» ويدعو الأدب إلى الاتجاه للموضوعات المظلمة، البعيدة ، المفزعة، الحافلة بالغموض والظلام والأسرار. والمهم بعد هذا كله أن الأدب في رأي ديدرو ليس تعبيرا عن الأشياء والموضوعات، بل هو حركة وجدانية «تتوسل بالخلق الحر للاستعارات» لتقذف بنفسها إلى أقصى الحدود والأطراف، كما تستعين كذلك بالألحان والأنغام الغريبة المتطرفة.
وديدرو يعلن بهذا كله حقائق جوهرية تتمثل فيها روح الشعر الحديث، وكأني به يتنبأ بما ستكون عليه حاله في المستقبل الذي نشهده اليوم!
فها هو ذا يقدم سحر اللغة على مضمونها، وحركة الصورة على معناها. وبينما كان عصر التنوير يشرف على نهايته كان ديدرو يكتشف ما أنكره أقطاب هذا العصر وتجاهلوه. فالأدب عنده سر، نسيج هيروغليفي، حديث بالرموز والألغاز، يتألف من طاقات نغمية أفعل في تأثيرها من الفكرة. بل إنه ليسير إلى أبعد مدى ممكن في التحرر من الموضوعية أو الشيئية، تشهد على ذلك هذه العبارة المدهشة: «إن الأبعاد الخالصة المجردة للمادة لا تخلو من قدرة معينة على التعبير.» وسنرى من هذه الدراسة أن بودلير سينطق بمثل هذه العبارة وسيزيدها حسما وتحديدا، وإنه سيضع بذلك حجر الأساس لأحد معالم الأدب الحديث، وهو الذي يمكن أن نسميه الشعر المجرد أو الشعر الخالص المحض.
Bilinmeyen sayfa
وقد وضع ديدرو نظرية في الفهم يمكن تلخيصها على النحو التالي: ليس الفهم في أفضل حالاته إلا فهما للنفس. ولما كانت اللغة عاجزة عن أن تعكس المعاني بصورة دقيقة فإن العلاقة بين الأدب وقارئه ليست علاقة فهم بل إيحاء سحري.
وأخيرا فإن لديدرو الفضل في توسيع مفهوم الجمال؛ فلقد وجد في نفسه الشجاعة للتنبيه - في حذر شديد - إلى أن الاضطراب والفوضى يمكن التعبير عنهما تعبيرا جماليا، كما أن الإدهاش أو الإذهال يمكن أيضا أن يحدثا أثرهما الفني.
كل هذه أفكار جديدة سطعت في عقل عظيم طالما ومض في سمائه إلهام الخواطر والأحاسيس، حتى لقد شبه صاحبه بالنار أو البركان أو بروميثيوس. صحيح أن ساعة هذه الأفكار لم تدق إلا بعد أن نسي صاحبها نسيانا يوشك أن يكون تاما. ولكنها كانت قد تقمصت غيره من نوابغ الأجيال المتأخرة، ومهدت الطريق للحركة الجديدة الطموح التي سميناها حركة الشعر الحديث أو بالأحرى ثورته. (4-2) نوفاليس ورأيه في مستقبل الشعر
هذه الأفكار الجديدة التي نقلناها عن روسو وديدرو عن وظيفة الخيال والأدب زادت قوتها مع الحركة الرومانتيكية في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا. ويضيق المجال عن تتبع الطريق الذي سارت فيه حتى وصلت إلى الأدباء في منتصف القرن التاسع عشر وأواخره. ولكننا سنقف وقفة قصيرة عند الرومانتيكية لكي نتأمل أهم ظواهرها التي أصبحت من أدل الظواهر على طابع الشعر الحديث.
ولا بد أن نبدأ بالشاعر والكاتب الرومانتيكي الألماني نوفاليس (1772-1801م) إذ لا يستطيع منصف أن يتجاهل تأملاته وخواطره عن الشعر، ونحن لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذه التأملات والخواطر التي دونها في شذراته المعروفة أو في بعض صفحات من روايته «هينريش فون أفتردنجن» التي لم يقدر له كذلك أن يتمها، أهم بكثير من أعماله الأدبية نفسها.
كان نوفاليس يريد في مبدأ الأمر أن يفسر طبيعة الشعر الرومانتيكي، فخرجت منه مجموعة من الأفكار التي تحدد ملامح الشعر كله في المستقبل. ولن نستطيع أن نقدر هذه الأفكار على حقيقتها حتى نقيسها بالإنتاج الشعري الذي بدأ من بودلير وما زال مستمرا حتى اليوم.
ويحسن بنا قبل مناقشة آراء نوفاليس أن نورد بعضها بنصه، حتى يتضح لنا مدى أهميتها وأثرها على كثير من الأفكار التي نرددها اليوم عن الشعر الحديث.
يتحدث نوفاليس في أحد فصول «الشذرات» عن «الأدباء وعالمهم» وإن كان يقصد في الحقيقة الشعراء والشعر الغنائي قبل كل شيء:
ملكة الخيال هي أعظم ما في الوجود.
طبيعة العبقري بوجه عام طبيعة شاعرية، وحيثما أثر العبقري كان تأثيره شاعريا. كل إنسان ذي خلق أصيل فهو أديب أو شاعر (فالكلمة الأصلية تدل على المعنيين معا).
Bilinmeyen sayfa
إذا كان الفيلسوف ينظم كل شيء ويضعه في موضعه، فإن الأديب يفك كل القيود. إن كلماته ليست علامات عامة، بل هي أنغام، رقى سحرية تحرك من حولها مجموعات جميلة. وكما تحتفظ ثياب القديسين بقوى عجيبة، فرب كلمة تباركها ذكرى رائعة، فتصبح بمفردها قصيدة. اللغة لا تجدب أبدا عند الأديب والشاعر، ولكنها تكون شديدة التعميم. كثيرا ما يحتاج إلى كلمات مكرورة بليت لطول الاستعمال. عالمه بسيط كأداته ، ولكنه مع ذلك عامر بالأنغام التي لا تنفد.
الشعر هو الواقع الأصيل المطلق، هذه هي نواة فلسفتي. كلما كان «التعبير» أشعر كان أصدق.
لا نستطيع أن نعرف ماهية الشعر على وجه التحديد. إنه مركب إلى حد هائل ومع ذلك فهو بسيط، جميل، رومانتيكي، منسجم؛ كل هذه تعبيرات جزئية عن الشعر.
الشعر يأمر وينهى بالألم والوخز، باللذة والعذاب، بالخطأ والصدق، بالصحة والمرض. إنه يمزج كل شيء لخدمة هدفه العظيم؛ هدف الأهداف، وهو الارتفاع بالإنسان فوق ذاته.
الساحر شاعر. والنبي بالقياس إلى الساحر، كالرجل الحساس بالنسبة للشاعر.
الشعر بالنسبة للإنسان كالجوقة (الكورس) بالنسبة للمسرحية الإغريقية. هو مسلك النفس الجميلة الموقعة، صوت مصاحب لذاتنا المكونة، مسيرة في بلد الجمال، أثر ناعم يشهد في كل مكان على إصبع الإنسانية، قاعدة حرة، انتصار على الطبيعة الفجة في كل كلمة، تعبير عن فاعلية حرة مستقلة، علو وارتفاع، بناء للنزعة الإنسانية، تنوير، إيقاع، فن.
الشعر تصوير (تعبير) للوجدان، لعالم الباطن بكليته. إن وسيلته، وهي الكلمات، تدل بنفسها على هذا؛ فهي كما نعلم المظهر الخارجي الذي يكشف عن تلك المملكة الباطنة؛ مملكة القوى والطاقات. إنه أشبه تماما بعلاقة فن النحت، بالعالم الخارجي المتشكل، وفن الموسيقى في علاقته بالأنغام. إن التأثير المغرب على عكس طبيعته تماما - من حيث هو مرن (بلاستيكي) - ومع ذلك فثمة شعر موسيقي، يهز الوجدان نفسه ويحركه حركات متنوعة.
يجب أن يكون تصوير الوجدان - كتصوير الطبيعة - مستقلا، عاما بشكل ملحوظ، عاملا على الترابط، خلاقا. لا كما هو عليه، بل كما يمكن أن يكون وكما ينبغي أن يكون.
من الواضح تماما لماذا يصبح كل شيء في النهاية شعرا. ألا يصير العالم في آخر المطاف وجدانا؟
أليس من الواجب ألا يخرج الشعر عن كونه رسما وموسيقي باطنة ... إلخ؟ معدلة بالطبع من خلال طبيعة الوجدان.
Bilinmeyen sayfa
يحاول الإنسان عن طريق الشعر - وليس إلا الأداة الميكانيكية لهذا الغرض - أن يبدع مشاعر باطنة ولوحات أو ألوانا من الحدس، وربما حاول أيضا أن يبدع رقصات عقلية ... إلخ.
الشعر يساوي فن إثارة الوجدان.
البداية الأصيلة هي شعر الفطرة. والنهاية هي البداية الثانية، وهي شعر الصنعة.
شعر الفطرة هو الموضوع الحقيقي لشعر الصنعة، والمظاهر الخارجية للعبارة الشعرية تبدو صيغا عجيبة لعلاقات مشابهة، وعلامات دالة على الطابع الشاعري للظواهر.
الاختيار الموفق ونقاء (الأسلوب).
أنسب تعبير وأصفاه.
الإيقاع والقافية. تناسق النغم.
فن الشعر. الشعر بمعناه الدقيق يوشك أن يكون هو الفن الوسط بين الفنون التشكيلية وفنون الألحان. موسيقى، شعر، الشعر الوصفي هل ينبغي أن يكون الإيقاع مطابقا للشكل، والنغمة مطابقة للون؟ الموسيقى الإيقاعية المتجانسة الألحان، النحت والرسم.
عناصر الشعر.
من لا يستطيع أن يبدع القصائد لا يمكنه أن يحكم عليها إلا حكما سلبيا. النقد الأصيل يرتبط بالقدرة على إبداع نفس الإنتاج الذي ينقده الذوق وحده لا يحكم إلا حكما سلبيا.
Bilinmeyen sayfa
فن الشعر الرومانتيكي هو فن الإغراب بطريقة لطيفة مقبولة، هو جعل الشيء غريبا وجعله مع ذلك مألوفا وجذابا.
هناك حس خاص بالشعر؛ جو شاعري كامن فينا. إن الشعر شيء شخصي تماما ومن ثم لا يمكن وصفه ولا تحديده. من لا يعرف الشعر ويتذوقه بطريقة مباشرة، لا يمكن أن يعطيه أحد فكرة عنه. الشعر شعر إنه بعيد عن فن الكلام (اللغة) بعد السماء عن الأرض.
أما عن روايته «هينريش فون أفتردنجن» فنكتفي بهذه المختارات التي تتكرر فيها معظم الأفكار التي وجدناها في الشذرات:
الحلم في رأيي سلاح يحمينا من اطراد الحياة وسيرها المعتاد راحة من الخيال المقيد، حيث تخلط كل صور الحياة بعضها ببعض، وتقطع الجدية المستديمة التي يحيا فيها البالغون عن طريق اللعب، الطفولي المرح. لولا الحلم لشيخنا قبل الأوان؛ ولذلك نستطيع أن نعده هبة إلهية، ورفيقا طيبا على طريق الحج إلى القبر المقدس.
الحق إننا لم نعن أبدا باستكناه أسرار الشعراء، وإن كنا نصغي لغنائهم بلذة واستمتاع ربما كان من الصواب القول بأن ظهور شاعر في هذا العالم يكون لحكمة يشاؤها القدر، لأن الأمر في الحقيقة مع هذا الفن أمر عجيب. كذلك فإن الفنون الأخرى تختلف عنه اختلافا شديدا، كما يمكن بالقياس إليه فهمها بسهولة. (وبعد أن يبين نوفاليس طبيعة الفنون المختلفة كالرسم والنحت والموسيقى والغناء يستطرد في كلامه عن الشعر فيقول): أما فن الشعر فلا نجد منه شيئا في الخارج، وهو كذلك لا يبدع شيئا بالأيدي والأدوات، ولا تستوعب العين والأذن منه شيئا لأن مجرد سماع الكلمات ليس هو التأثير الحقيقي لهذا الفن المغلف بالأسرار، إن كل شيء فيه يدور في عالم الباطن، وكما يملأ أولئك الفنانون الحواس الخارجية بالمشاعر اللطيفة يملأ الشاعر قدس أقداس الوجدان بأفكار جديدة عجيبة محببة. إنه يعرف كيف يثير فينا تلك القوى الخفية الكامنة فينا كما يشاء، ويمنحنا عالما مجهولا رائعا نستوعبه من خلال الكلمات. إن العصور القديمة والمقبلة، وجموع البشر التي لا حصر لها، والأماكن والجهات العجيبة، والمشاعر والإحساسات الغريبة، تتصاعد كلها في نفوسنا كأنها تخرج من كهوف عميقة، وتنتزعنا من براثن الواقع المألوف. إننا نسمع كلمات غريبة ولكننا نعرف مع ذلك ما تدل عليه. حكم الشاعر تؤثر علينا بقوة سحرية. كذلك تخرج الكلمات المألوفة في ثوب من الأنغام الخلابة فتسكر المستمعين المأخوذين بسحرها.
لا بد أن الطبيعة كلها كانت في الأزمنة القديمة أكثر حياة وأتم معنى منها اليوم، فالأحداث التي لا تكاد الحيوانات الآن تلاحظها ولا يكاد يحس بها ويتذوقها إلا الناس؛ كانت تحرك الجمادات في العهود الماضية. وهكذا أمكن لأصحاب الفن وحدهم أن يأتوا من الأمور ويخلقوا من الظواهر ما نحسبه اليوم من الخرافات أو الخوارق التي لا يصدقها العقل، من ذلك أنه عاش من أزمنة سحيقة في بلاد اليونان الحالية، كما يروي الرحالة الذين صادفوا هذه الحكايات الخرافية بين عامة الشعب هناك، شعراء استطاعوا عن طريق الأنغام الغريبة التي تصدر عن بعض الآلات العجيبة أن يوقظوا الحياة المستترة في الغابات، والأرواح الخفية في جذوع الأشجار، ويحيوا البذور في المناطق القاحلة المقفرة، ويخلقوا البساتين الرائعة، ويستأنسوا الحيوانات الضارية، ويهذبوا المتوحشين من الآدميين، ويثيروا فيهم نوازع الخير والسلام، ويجعلوا من الأنهار العاتية مياها هادئة بل ويوحوا إلى الأحجار الموات أن تأتي حركات منتظمة راقصة. ولا بد أن هؤلاء الشعراء كانوا في نفس الوقت عرافين وكهنة، ومشرعين وأطباء، هبطت الكائنات العليا نفسها بقوة سحرهم لكي تلقنهم أسرار المستقبل وميزان الأشياء ونظامها الطبيعي، فضلا عن فضائل الأعداد والنباتات وسائر المخلوقات وقدرتها على الشفاء. ولا بد أن الأنغام المتنوعة والعواطف والنظم العجيبة، كما تقول الخرافة، قد وجدت طريقها منذ ذلك الحين إلى الطبيعة بعد أن كان كل شيء فيها وحشيا مضطربا منذرا بالعدوان.
ما من شيء ألزم للشاعر من الاستبصار بطبيعة كل شيء، ومعرفة الوسائل الموصلة إلى كل هدف، وحضور البديهة الذي يمكنه على اختلاف الأوقات والظروف من اختيار أنسب هذه الوسائل وأوفقها. إن الحماس الخالي من العقل شيء عقيم وخطير، وإن الشاعر ليقصر عن إتيان المعجزات، إن سمح لنفسه أن يدهش بالمعجزات.
ينبغي للشاعر الشاب أن يكون على أكبر قدر كاف من الرزانة والتعقل.
الوجدان الأصيل كالنور، يشبهه في هدوئه وحساسيته ومرونته ونفاذه. وهو في قدرته على التأثير القوي غير الملحوظ أشبه بهذا العنصر البديع الذي ينتشر فوق جميع الأشياء بميزان دقيق، ويجلوها جميعا في مظهر متنوع أخاذ. إن الشاعر من الصلب الخالص، وهو في حساسيته أشبه بخيط من الزجاج الهش ولكنه كذلك قاس كالحصاة الجامدة.
يريد الشعر بالدرجة الأولى أن يكون فنا محكما.
Bilinmeyen sayfa
إن أفضل الشعر لقريب منا أشد القرب، ولا يندر أن يكون الشيء العادي من أحب الموضوعات إليه. والشعر بالنسبة للشاعر مقيد بأدوات محدودة، وبهذا وحده يصبح شعرا.
ليس هناك حد لما يمكن أن يتعلمه الشعراء من الموسيقيين والرسامين.
3
إن على هؤلاء أن يكونوا أكثر شاعرية، كما أن علينا أن نكون أكثر موسيقية.
من هذه المقتطفات نتبين أن ما يقوله نوفاليس عن الشعر يكاد ينصب بأكمله على الشعر الغنائي الذي يعده الشعر الحق. فجوهر هذا الشعر عنده هو إفلاته من كل تحديد، وبعده الشاسع عن بقية الأنواع الأدبية الأخرى. صحيح إنه يصفه أحيانا بأنه «التعبير عن الوجدان»، ولكن هناك عبارات أخرى تفسر الذات الشاعرة بأنها محايدة أو بأنها مجموع العالم الباطن الذي لا يحدده إحساس بعينه. إن التعقل الرزين هو رائد الفعل الشعري. فالشاعر مخلوق «من الصلب الخالص»، قاس كالحجر الجامد. والشعر يؤدي إلى المزج بين العناصر المتنافرة سواء جاءت مادتها من العقل أو من الأشياء، إنه يحمي الإنسان من الحياة العادية، والخيال فيه يتمتع بحرية تكفل له «تخليط الصور جميعا بعضها ببعض». إنه اعتراض منغم على عالم من العادات والتقاليد لا يستطيع الشعراء الحياة فيه لأنهم «أناس سحرة متنبئون».
الشعر إذا أشبه بالسحر. وهي علاقة ترجع إلى تراث قديم لدى شعوب عديدة نظرت إلى الشاعر نظرتها إلى الساحر والعراف والنبي. ولكن نوفاليس يلقي على هذه العلاقة ضوءا جديدا؛ إذ يربط بينها وبين ما يسميه «البناء» و«الجبر»، أي ذلك الملمح العقلي الذي يؤكده الشعر الحديث. هذا الشعر الساحر، أو هذا السحر الشعري يتصف بالدقة والإحكام. إنه توحيد بين الخيال والفكر، «عملية» تختلف في تأثيرها عن المتعة الخالصة التي لم يعد لها مكان في الشعر.
ونوفاليس يأخذ من السحر فكرة «التعزيم» أو التعويذ التي نعرفها لديهم. لكل كلمة عنده رقية وتعويذة، وكل كلمة تسحر الشيء الذي تسميه أو تبطل سحره، ومن ثم كان حديثه عن سحر ملكة الخيال، وقوله إن «الساحر شاعر» كما أن الشاعر ساحر. ففي مقدوره أن يجعل المأخوذين أو المسحورين بكلامه يتصورون الشيء ويعتقدون فيه ويحسون به كما يريد لهم أن يفعلوا. وكل هذا يشهد على خيال متسلط (دكتاتوري) أو خيال طاغ مبدع، سيتكرر حديثنا عنه فيما بعد، هذا الخيال هو أعظم ما في الوجود، وأعظم ما في العقل، وهو مستقل عن المنبهات والمؤثرات الخارجية؛ ولذلك كانت لغته «لغة ذاتية» ليس من هدفها الإفادة أو التوصيل. إن الأمر مع لغة الشعر كالأمر مع «الصيغ الرياضية التي تؤلف عالما مستقلا بنفسه، وتؤدي الأدوار مع نفسها وحسب.» وهذه اللغة معتمة غامضة إذ قد يحدث للشاعر في بعض الأحيان ألا يفهم نفسه، ويرجع هذا إلى اهتمامه «بالأحوال النفسية الموسيقية، وتتابع سلسلة الأنغام والتوترات التي تتعلق بمعاني الكلمات.» صحيح أن الشاعر يسعى إلى أن يفهمه الناس بعض الفهم ولكنه الفهم الذي لا يقدر عليه إلا العارفون. وهؤلاء العارفون لا ينتظرون من الأدب تلك الصفات التي تطلق عادة على أنواعه المنحطة؛ أي الصواب، والوضوح، والصفاء، والكمال، والنظام.» ذلك لأن هناك صفات أسمى كالتجانس والانسجام وتوافق الأنغام.
ثم ينتقل نوفاليس نقلة حاسمة عندما يقرر ما يشبه أن يكون قانونا للشعر الحديث؛ وأعني به الفصل بين اللغة والمضمون لصالح الأولى: «قصائد منسجمة النغم، ولكنها كذلك خالية من أي معنى أو ترابط، لا يفهم منها إلا بعض المقطوعات المفردة، كأنها مجرد شذرات من أشياء مختلفة.» سحر اللغة إذن من حقه - لكي يضفي الروح السحرية على العالم - أن يحطم هذا العالم إلى نتف وشذرات. ومن ثم يصبح الغموض والتفكك وعدم التماسك شروطا ينبغي توافرها في الإيحاء الشعري. «إن الشاعر يحتاج اللغة، كما يحتاج الموسيقي إلى أصابع البيان.» وهو ينتزع منها قوى وطاقات لا تعرف عنها لغة الكلام العادي شيئا (سنلاحظ فيما بعد أن مالارميه يتحدث عن «بيانو الكلمات»).
ثم يقول نوفاليس في معرض هجومه على الأدب القديم الذي كان «يضع ذخيرته في نظام يسهل إدراكه»: «أكاد أقول إن الاضطراب والاختلاط
chaos
Bilinmeyen sayfa
يجب أن يتخلل كل أنواع الأدب.» «فالأدب الجديد يؤدي إلى الإغراب الكامل.» لكي يتسنى له الارتفاع بنا إلى «الوطن الأعلى». وطبيعة عمله شبيهة بعمل المحلل بالمعنى الرياضي، وهي استنباط المجهول من المعلوم. أما من ناحية الموضوع فإن الخلق الأدبي يخضع للمصادفة كما يخضع من ناحية المنهج للتجريدات الجبرية التي تقترب من تجريدات الحكاية الخرافية، أعني من ناحية تحررها من قيود العالم المألوف الذي «يعاني من الوضوح الشديد.» عالم الباطن المحايد بدلا من الوجدان، الخيال مكان الواقع، حطام العالم لا وحدته، المزج بين العناصر المتنافرة، الاضطراب والاختلاط، التأثير السحري عن طريق الغموض وسحر اللغة، التفكير المتعقل الرزين الشبيه بالتفكير الرياضي، الإغراب لكل مألوف ومعتاد، تلك على التحديد هي عناصر البناء الذي سيؤكده بودلير في نظريته في الشعر، ويبدع رامبو ومالارميه والشعراء المعاصرون شعرهم على أساسه. وسوف يظل هذا البناء صحيحا في جملته وإن تغير فيه هذا العنصر أو ذاك، أو أضيفت إليه عناصر أخرى لم تكن فيه.
ونستطيع أن نختم هذا كله ونكمله بعبارات لناقد الحركة الرومانتيكية الألمانية الكبير «فريدريش شليجل» تدور حول فصل قيمة الجمال عن قيم الصدق والأخلاق (وهو شيء لم يكن ليرضاه الأدب الكلاسيكي القديم أبدا!) والضرورة الشاعرية التي تقضي بوجود الاضطراب والاختلاط، ثم حديثه عن التطرف والغرابة والوحشية بوصفها من شروط الأصالة الشعرية. والمهم أن الفرنسيين عنوا بقراءة نوفاليس وشليجل اللذين أثرا على الحركة الرومانتيكية الفرنسية وأوحيا إليها بعدد من أفكارها الرئيسية. وما دمنا قد ذكرنا هذه الحركة فلا بد من حديث قصير عنها يوضح مدى تأثيرها على بودلير، أول الشعراء العظام في العصر الحديث، وأول منظر للشعر الأوروبي والإحساس الفني منذ أكثر من قرن من الزمان. (5) الرومانتيكية الفرنسية
انطفأت شعلة الرومانتيكية الفرنسية «كمودة» أو بدعة أدبية في منتصف القرن الماضي، ولكنها ظلت قدرا يحدد مصير الأجيال المتأخرة، حتى تلك الأجيال التي عملت على القضاء عليها وإحلال مودات أخرى محلها. وسقطت عنها كل مظاهر التطرف والبهرجة والتظاهر والتفاهة الرخيصة. غير أن الوعي الذي بدأ يتغير من منتصف ذلك القرن ويتخلص شيئا فشيئا من الروح الرومانتيكية ظل يلجأ إليها كوسيلة للتعبير، كانت ظواهر الشذوذ والنشاز التي تحدثنا عنها في الفصل السابق كامنة في أنغامها المتجانسة كمون البذرة في الثمرة.
كتب بودلير في سنة 1859م يقول: «إن الرومانتيكية بركة من السماء أو من الشيطان، وقد تركت فينا جروحا لن تندمل أبدا.»
وهذه العبارة تؤيد ما قلناه من أن الأجيال التي جاءت بعد الرومانتيكية لم تسلم منها، فقد أبت وهي في ساعة الاحتضار إلا أن تترك عليهم آثارها الدامية. صحيح أنهم ثاروا عليها، ولكنهم فعلوا ذلك لشعورهم بأنهم واقعون في أسرها؛ لذلك لا نغالي إذا قلنا على سبيل المفارقة إن الأدب الحديث رومانتيكية تخلصت من الرومانتيكية أو أرادت أن تتخلص منها .
إن المرارة والقتامة ومذاق التراب والخراب كلها من التجارب الأساسية التي تفرض نفسها على الرومانتيكي كما ينميها هو في نفسه.
ولقد كان الفرح والسعادة بالنسبة للحضارة القديمة والحضارات التالية لها حتى القرن الثامن عشر يمثلان القيمة النفسية الرفيعة التي تدل على كمال حكمة الحكيم، وإيمان المؤمن، وبسالة الفارس، وحنكة السياسي، وثقافة المثقف. وكان الحزن والكآبة - اللهم إلا أن يكونا شيئا عارضا - يمثلان الفساد والانحراف، بل لقد كان رجال الدين يعدونهما خطيئة كبرى. ثم تغيرت الحال منذ بدأ الإحساس بالعذاب والألم يسود الوجدان الغربي في المرحلة السابقة على الرومانتيكية في القرن الثامن عشر. تراجعت السعادة والفرح من الأدب، وحلت مكانهما الكآبة والعذاب الكوني. وراحت هذه الكآبة وهذا الإحساس الأسيان بالعذاب يستمدان غذاءهما من نفسهما، وسرعان ما أصبحا من علامات السمو والنبل الروحي. إن شاتوبريان الرومانتيكي الأصيل يكتشف الكآبة التي لا سبب لها ولا تتعلق بموضوع خارجي، ويجعل من «علم القلق والأحزان» غاية الفنون، ويفسر التمزق النفسي بأنه نعمة من نعم المسيحية. وينتشر هذا الشعور بالانحلال والانهيار، ويصبح نبعا ينساب في قلوب هؤلاء المعذبين، ينهلون من مائه الدامي ويتلذذون بغرائبه ومفارقاته. ولا تلبث اللهفة أن تتعلق بكل ما يتسم بالشذوذ والتحطيم والأجرام.
ويصبح الشعر الغنائي في إحدى قصائد ألفريد دي فيني (بيت الراعي) شكوى من أخطار التقنية
4
التي تتهدد الروح. وتبدأ فكرة العدم في أداء دورها، فتنطلق لأول مرة على لسان ألفريد دي موسيه الذي راح يعبر عن عواطف جيل من الشباب تحمس فترة من الزمن لنابليون ثم وجد نفسه فجأة يصطدم بعالم من الوهم والعبث والخراب والصمت، عالم من العدم. ها هو ذا يكتب قائلا: «إنني أومن بالعدم كما أومن بنفسي.» وأخيرا تتحول الشكوى والكآبة إلى خوف غامض من المجهول الفظيع. ويكفي أن نستشهد ببيت ورد في إحدى قصائد جيراردي نيرفال التي تحمل عنوانا يشذ عن مضمونها (أبيات ذهبية، 1840م): «خف نظرة في الجدار الأعمى تتلصص عليك.»
Bilinmeyen sayfa
وسوف نرى كيف تستمر هذه المشاعر كلها في قصائد بودلير، وكيف تتغير وتتحول بالتدريج ...
ويتأثر الرومانتيكيون الفرنسيون بالنماذج الألمانية في تفسيرهم لطبيعة الشعر والشعراء. فالشاعر عندهم كاهن في معبد الفن المقدس، ونبي وعراف لا يفهمه أحد. والشعراء يؤلفون حزبا يعارض جماهير الطبقة الوسطى (البرجوازية) ثم يؤلفون فيما بينهم أحزابا يعارض بعضها البعض. وتفقد العبارة المشهورة التي صاغتها الناقدة التي اشتهرت برحلتها في ألمانيا وكتابتها عن الأدب الألماني، مدام دي ستايل، وهي أن الأدب هو التعبير عن المجتمع؛ تفقد هذه العبارة معناها.
ويتكرر في الأدب ما حدث في الثورة من احتجاج على المجتمع القائم، ويصبح أدب الرفض أو أدب «المستقبل»، وأخيرا يصبح أدب انعزال فخورا بوحدته وانفراده. وتتحقق فكرة روسو من أن الأصالة في الأدب تعتمد على الشذوذ والغرابة فتؤمن بها هذه الأجيال والأجيال اللاحقة.
ما من شك في أن تجارب العذاب والألم والكآبة والعدمية التي تغنى بها الشعراء كاذبين أو صادقين قد أطلقت كثيرا من طاقاتهم الكامنة، وأدت للشعر نفسه خدمات جليلة، فلقد ازدهر الشعر الفرنسي في ظل الحركة الرومانتيكية وبلغ قمة مجده الذي استمر قرابة ثلاثة قرون. والذي يقرأ هذا الشعر سيجد فيه أشياء رائعة لا يقلل من روعتها أنها لم تنتشر على صعيد القارة الأوروبية. لقد استفاد من تلك الفكرة التي ذاعت في كل مكان من أن الشعر هو اللغة الأولى أو اللغة الأم للبشرية، اللغة الشاملة للذات الشاملة التي لا تعرف حدودا فاصلة بين المواد والموضوعات، ولا تعرف كذلك الحدود الفاصلة بين الحماس الديني والحماس الشعري. وقد استطاع الشعر الرومانتيكي في فرنسا أن يعمق التجارب الباطنة ويلونها، ويتأثر تأثرا خلاقا بالأجواء الغريبة في بلاد الجنوب وبلاد الشرق، ويبدع أجمل الشعر وأرقه في الحب ووصف الطبيعة، ويثبت قدرته الفائقة على التمكن من الصنعة. سنحس بهذا الشعر الخطابي الخصب الذي يومض كاللهب عند فيكتور هيجو، وسنرى مع ذلك أنه قد يوفق، في أحيان كثيرة إلى التعبير عن لواعج الباطن، توفيقه في رسم صور نابضة بالحياة. وسنجد في شعر موسيه مزيجا من التهكم المرير والألم الدفين، وفي شعر لامارتين عذوبة النغم الصافي الذي وصفه بأنه ناعم الملمس كالقطيفة.
ولو أردنا أن نفتش هنا عن بدايات الشعر الحديث والمعاصر لوجدناها في الاهتمام باللغة، والبحث عن الطاقات الكامنة في الكلمة . إن فيكتور هيجو لم يكتف بتطبيق هذا على شعره بل حاول أيضا أن يبرره ويثبته مستعينا بعدد كبير من الشعراء السابقين عليه. اقرأ مثلا هذه العبارة من تأملاته
contemplations : «الكلمة كائن حي، وهي أقوى ممن يستخدمها؛ إنها وهي التي خرجت من الظلام تخلق المعنى الذي تشاؤه، إنها هي ما ينتظره منها الفكر والرؤية والعاطفة في الخارج وأكثر منه أيضا، هي اللون، والليل، والفرح، والحلم، والمرارة، والمحيط، واللانهاية، إنها كلمة الرب ...»
وسوف يكون علينا أن نذكر هذه العبارة كما نذكر عبارات أخرى جاءت على لسان ديدرو ونوفاليس إذا أردنا أن نفهم فكرة مالارميه عن قدرة اللغة على المبادرة والمبادأة، وإن كنا سنجد عند مالارميه من الضبط والإحكام ما لم نجده في عبارة هيجو المتوهجة بالحماس. (6) الشذرة والمسخرة
ربما بدا عنوان هذه الفقرة غريبا منفرا، ولكنه يدل على فكرتين من الأفكار الرئيسية في مفهوم الشعر الحديث. ونبدأ بنظرية المسخرة (أو الجروتيسك) التي شرحها فيكتور هيجو في المقدمة المشهورة التي كتبها لمسرحيته «كرومويل (1827م)». والنظرية جزء من نظريته في الدراما، وتعد في الحقيقة من أعظم ما أضافته الرومانتيكية الفرنسية. ولعل جذورها أن تكون ممتدة في أقوال فريدريش شليجل عن الدعابة والتهكم اللذين تتصل بهما معان أخرى تحدث عنها أيضا مثل الاختلاط (الكاوس)، والخفة الأبدية، والتهريج المتعالي (الترنسندنتالي) وطابع الجزئية أو الشذرة. ذلك شيء نرجحه ولا نقطع به، اعتمادا على ما قلناه من تأثر الرومانتيكيين الفرنسيين بجيرانهم الألمان، وبخاصة نوفاليس وشليجل.
مهما يكن من شيء فقد ومضت في مقدمة فيكتور هيجو (وكان عمره إذ ذاك خمسة وعشرين عاما) بعض الخواطر الأصيلة التي تنبئ بأحد المظاهر الرئيسية في الشعر الحديث وإن كان من الواجب مع ذلك ألا نقيسها بمقياس عقلي دقيق، ونقصد بذلك خواطره عن السخرية والمسخرة.
وقد كانت كلمة المسخرة في بداية الأمر تعبيرا يرد في لغة الرسامين للدلالة على الزخارف التي كانت ترسم على هامش اللوحات أو التهاويل التي تمثل ما يشبه الإطار المحيط بها وتصور في الغالب موضوعات خرافية. ثم اتسع مفهوم الكلمة منذ القرن السابع عشر وانتشر في مجالات الأدب والفن المختلفة فأصبحت تدل على كل غريب أو عجيب أو مضحك أو مشوه تشويها يبعث على السخرية.
Bilinmeyen sayfa