فقال أرجنتوس: نعم، كلنا نسعى إلى هذه الغاية الشريفة، ولكن بيننا من اختص بالقسط الأكبر من هذا المسعى الحميد.
فقالت جوكوندا لصديقها: اسمع، اسمع، يقول هذا اللعين: «بالسعي الحميد»! وهل يعرف هؤلاء الأشرار شيئا حميدا؟!
فقال سلفاستروس: طبعا، وهل شيء أحمد من الوصول إلى الغاية المنشودة، أما كان سعي يسوع إلى الصليب حميدا؟ فلماذا لا يكون سعي اليهود إلى صلبه حميدا أيضا؟ إن الحميد شيء نسبي يا عزيزتي، وقد شرح أينشتاين النسبية لكي نفهم كيف يكون سعي الأبالسة إلى الحرب حميدا. - من أينشتاين هذا؟ - هو أعظم إبليس من أبالسة العلم والفلسفة، كاد يستكنه سر الوجود المادي، ويظفر بالمبدأ الأول الذي يتوارى الخالق عز وجل وراءه عن أبصارنا. - لله دره، إن الذي يعلن قدرة الله يجازى في السماء بأفضل منزل. - من قال لك أن الله يرضى أن يعلن عنه مخلوق، إن إعلان ذاتية الله لأعجوبة أعظم من عجائبك مليون مليون مرة. - إذن أيريد الله أن تبقى ذاتيته مجهولة؟ لا بد من مخلوق يختاره الله ليظهرها. - لقد اختار الله لإظهارها نبيا، ومع ذلك لم يستطع ذلك النبي أن يظهرها إلا بالإشارة. - من هو؟ - داود النبي القائل:السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. فهل لإعلان ذاتية الله أبلغ وأفصح من هذا الشعر البديع الفلسفي؟!
الفصل الرابع
وكانت فينوموس عقيلة بعلزبول تتلوى وتتغنج إلى جنبه، وتضحك صاهلة كالفرس البطراء حين أشار أرجنتوس إليها قائلا: هذه الملكة العظيمة هي ذات القسط الأعظم من السعي الحميد إلى حدوث الحرب، بل هي وحدها التي سببت الحرب، فنود أن نسمع تقريرها أولا.
فالتفت بعلزبول إليها باسما وقال: يا للتواضع الكلي! يا للوداعة! يا لإنكار الذات! أتقومين بأعظم مهمة في الحرب، ولا يدري بما فعلت أحد غير أرجنتوس يا عزيزتي؟!
فقال أرجنتوس: لقد دريت مصادفة يا مولاي؛ لأنها كانت تحتاج إلى المال في بعض الأحوال فأخلقه لخدمة غرضها. - مرحى، مرحى، يا ذات الدهاء، قصي علينا كيف أثرت الحرب، فإن حديثك سيكون أندر حديث وأفكه خبر في هذه الحفلة، إن صوتك العذب ترنيم مطرب، قصي فنترنم.
فوقفت فينوموس وهي تتمايل بغنج ودلال، فتمثل فتنة النساء للرجال، وعيناها تغامزان الأبطال، كأن نظراتها ومضات كهرباء تهز الأعصاب، وتحرك الأكف للتصفيق، ثم رفعت يديها كأنها تبارك، فخشع الجمع، وكفت الأكف عن التصفيق، ثم طفقت تتكلم بصوت معدني رنان: كيف يغزو البحر اليابسة فيفتت الصخور؟ بتلاطم الأمواج. وكيف تتلاطم الأمواج؟ بهياج البحار. وماذا يهيج البحار؟ عصف الرياح. وبماذا تعصف الرياح؟ بتغلغل الحرارة فيها، الحرارة شهوة في الهواء. فالشهوة علة العواصف التي تثير الأمواج؛ لذلك قبضت على عنان الشهوات، وجعلت أبذرها في القلوب، فإذا بأقوى القلوب أكثر نموا وخصبا، وإذا بالذكور أحر شهوة وأشواقا للإناث، وإذا بالإناث أوفر جمالا وأعطف على الرجال، وإذا بالجمال فتنة للرجال وبالبطولة فتنة للنساء.
الشهوات هاجت الرجال لاقتناء الجمال، والشهوات حمست النساء لابتداع الجمال، فالمرأة مصنع الجمال، والرجل مصنع المال، تلك تبيع وهذا يشتري، والشهوات تبتلع ولا تشبع، وعواصف الجمال تثير لجج المال، والفريقان يتصادمان بلا ملال.
في إبان ذلك الصدام العنيف وقعت القلوب الشديدة تحت سنابك خيل الفلوس، والقلوب الضعيفة تحت أقدام فنون الحسن، وأصبح الرجال عبيد الحسن، والنساء أسيرات الذهب.
Bilinmeyen sayfa