الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ثورة في جهنم
ثورة في جهنم
تأليف
نقولا حداد
الفصل الأول
انتقلت إلى رحمة الله تعالى الراهبة التقية النقية القلب الورعة الأخت جوكوندا، وهي في منتصف العمر، فانبرى في الحال ملاكان من جند الله، وحملا روحها الطاهرة على جناحيهما، ومضيا بها إلى العلى.
وكانت أفكار الراهبة البارة تسبح معها في الفضاء، ونفسها تتوق إلى دار البقاء، وكانت ترى ألوف الملائكة ناشطين في الطواف بين الأرض والسماء، وبعضهم يحملون أرواح الأبرار المنتقلين من الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، وهي مبتهجة بهذه الرحلة الطيرانية.
وبعد برهة انتهرها أحد الملاكين وقال لها: فكري أيتها البارة بالسماويات؛ لأن تفكيرك بالأرضيات المادية يجعلك ثقيلة على جناحينا، فلا نستطيع الارتفاع بك، بل نخشى أن ننوء بك ونهبط إلى أسفل.
فقالت: إني أفكر بمجد الله وبرحمته وأسبحه. - واظبي على التسبيح والتمجيد أيتها الأخت البارة.
هذا الحديث الموجز بينها وبين الملاكين تكرر مرارا، وكانت أحيانا كثيرة ترى ملائكة يمرون بها حاملين أبرارا مثلها، فتناجي أولئك الأبرار تارة وتشترك معهم بالتسبيح أخرى.
ورأت الراهبة البارة المرحلة طويلة فملتها وتململت قائلة: متى نصل إلى السماء أيها الملاكان المحبوبان؟ - نصل متى كففت عن التفكير بالأرضيات.
فتعود إلى التسبيح والتمجيد والترنيم الروحاني إلى أن «هون الله»، ورأت بوابة السماء على مرمى بصرها فتهللت ومجدت الله، وانقذف بها الملاكان إلى الحديقة البهيجة التي لدى البوابة وألقياها فيها.
وتقدمت فرأت قديسا يتمشى أمام البوابة البديعة الزخرف التي تأخذ بالألباب؛ لأنها مبنية من حجارة كريمة متنوعة متعددة الألوان من ألماس وياقوت وزمرد ويشب ولازورد ... إلخ. فكانت مدهوشة ذاهلة من تلك البدائع.
تقدمت إلى القديس وقالت: السلام عليك يا سيدي القديس الكلي الطوبي. - وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أيتها البارة.
ودخل معها إلى مدخل الجنة السماوية حيث رأت بوابة أخرى أبدع وأجمل من الأولى، وهي مفتوحة على مصراعيها، وكانت ترى القديسين يتمشون أفواجا في داخل جنة الله البهيجة، بعضهم يتحدثون بمجد الله، وبعضهم يسبحون جلاله مترنمين، وكانت مبهوتة مما تسمع وترى، والقديس ينظر إليها باسما لدهشتها، ولا يفوه ببنت شفة إلى أن ملكت وجدانها وقالت: تعلم يا سيدي الجليل أني جاهلة كل شيء إلا رحمة الله وقداسته، ولكن لي صديقا هنا، أؤمل أنه يستقبلني ويرشدني إلى المنزل الذي أعده الله الغفور لعبدته التائبة، فهل تتكرم بأن تستدعيه؟
فقال: من هو صديقك الذي تعنين؟ - هو الأب المحترم الراهب سلفاستروس.
فاشمأز القديس وعطس وقال: لله من هذه الرائحة الخانقة. أهي من بقايا غازات الحرب الأرضية الأخيرة؟
فقالت مستغربة: أية رائحة هذه التي تشمئز منها يا سيدي؟ - رائحة الاسم سلفاستروس، ألا تعلمين أنه اسم لاتيني ومعناه النجم الكبريتي، أفما وجدت صديقا باسم أطيب عنصرا؟ أوما وجد هو اسما أزكى رائحة من هذا؟ - هذا ما قدر فكان يا سيدي، فأرجو أن تتكرم باستدعائه. - ليس عندنا هذا البار الذي تزعمين يا بنيتي. - لعله غير اسمه. - ولئن غير اسمه نعرفه؛ لأننا لا نعرف الأبرار هنا بأسمائهم، بل بأرواحهم وبرهم، فثقي أنه لم يأت إلى هنا. - عجبا! لقد اشتهر بتقواه وورعه ووعظه وإرشاده ودعوته الناس إلى التوبة والتقوى وعبادة الباري، وفي السنة الماضية كان في ديرنا رياضة روحية، انقطعنا بها عن كل ماديات العالم إلى العبادة والصلاة، وكان هو يعظنا كل يوم إلى أن انتهى زمن الرياضة، فكيف لا يأتي إلى هنا. - لعله لم يتم واجباته الدينية قبل انتقاله من الدنيا، فذهب إلى المطهر لكي يتممها هناك، ويكفر عن بقية الذنوب التي يعرفها والذنوب التي كان يجهلها.
فوجمت الأخت جوكوندا، ثم قالت: لعله لم يكن لديه متسع من الوقت لإتمامها، فقد مات منتحرا، ولكنه مع ذلك كان يدري أنه سيموت، فلا بد أن يكون قد تناول القربان. - مات منتحرا؟ كذا قولي : أما كان يعلم أن الانتحار خطيئة؟ فهذه الخطيئة وحدها كافية الآن لقطع السبيل بينه وبين السماء. - الانتحار خطيئة؟ لا أدري أنه خطيئة يا سيدي، أليس الإنسان حرا أن ينتحر، وهو بانتحاره لا يؤذي أحدا ولا يأثم لأحد؟ ألم يخلقنا الله أحرارا؟ أما قال الكتاب المقدس: أنتم أحرار؟! - أجل، إن الله تعالى قال إننا أحرار، والإنسان حر أن ينتحر، ولكن شريعتكم التي استنبطتموها تقول إن الانتحار خطيئة، فالديان يدينكم أحيانا حسب شريعتكم. - شريعتنا! ألنا شريعة غير شريعة الله؟ - نعم، شريعتكم غير شريعة الله، لقد ملأت شريعتكم المجلدات، وجعلتم لها أصولا وفروعا وشروحا وهوامش، وأما شريعة الله فغير مكتوبة، شريعة مختصرة جدا.
فبهتت الراهبة وقالت: ما هي شريعة الله غير المكتوبة يا سيدي؟ إني أجهل أن لنا شريعة غير مكتوبة. - شريعة الله هي الضمير يا بنيتي، والضمير النقي وحده كاف لإرشاد الإنسان إلى الصلاح وتجنب الخطيئة، فلو حفظتم هذه الشريعة المختصرة وأطعتموها لكانت وحدها كافية لأن تجعل الأرض في جوار السماء. الضمير الصالح الذي يقيم فيه الله لا يضل، ولكنكم طمستم شريعة الضمير، وجعلتم تتفلسفون في التشريع كأنكم نواب الله في دينونته، فملأتم كتبكم شرائع وقوانين، ولكنكم لم تستطيعوا أن تحفظوها، ولا أن تعملوا بمقتضاها، والديان يدينكم بحسب شرائعكم، فهل ظلمكم؟ - لا، حقا. لا، إن الضمير الصالح يغني عن كل شريعة، الله محبة والمحبة هي الناموس، والأنبياء كما قال سيدنا يسوع له المجد: في المحبة كل شريعة الله. - إذن، لا تستغربي يا بنيتي أن صديقك سلفاستروس لم يأت إلى هنا، وإن كان قد ذهب إلى المطهر فيكون الديان قد رحمه، وأخشى أن يكون غير مستحق المطهر.
فوجمت الأخت جوكوندا وتجهمت ثم قالت: أيحتمل أن يكون قد حرم المطهر أيضا، إني أتأسف جدا إن كان ظني فيه خائبا. - يلوح لي يا بنيتي أن صداقتكما كانت عظيمة جدا، حتى أنك تأسفين هذا الأسف الشديد. - نعم يا سيدي القديس الجليل، كانت صداقتنا متينة، ولها تاريخ طويل لا أخفيه عنك، أعترف لك به عسى أن تتشفع بصديقي عند الله الديان الرحيم الرحمن. - إني مصغ لروايتك يا بنيتي، والله غفور رحيم، قولي. - لقد أنعم الله الجواد علي بنعمة الجمال يا سيدي كما ترى.
فضحك القديس وقال: أجل، جمال القداسة أعظم نعمة يا بنيتي. - نعم، كنت جميلة جدا في أول صباي، وكانت أبصار الأنام تطوقني أينما ظهرت، إلى أن كان معرض للجمال، فقدمتني عشيرتي إليه، وثمة اصطفتني لجنة من المحكمين ملكة الجمال في كل العالم، وكان ابتهاجي عظيما بهذا اللقب الذي تفردت به.
فقال القديس باسما: بالطبع تبتهجين بهذا الحكم العادل، وربما كنت ترتابين بعدالة أي حكم غير هذا، ولا ريب أنك أيقنت أنك ملكة الجمال، هاه؟ - نعم، إذا كان الذين انتخبوني من بين ثلاثمائة فتاة جميلات لهذا الملك هم من خيار الناس وأصدقهم نظرا، وألطفهم ذوقا وأخبرهم فنا، أفلا أوقن أني ملكة الجمال.
فقال: طبعا، طبعا، يكفي اختيارهم إياك ملكة للجمال برهانا لك على أنهم من خيار الناس الصادقي النظر، اللطاف الذوق، الخبراء بالفن، ولكن لو أن لجنة أخرى من أناس آخرين اختارت سواك ملكة لأيقنت أن أولئك الآخرين بلا ذوق. ترى ماذا كان مقياس الجمال عند مختاريك الصادقي النظر؟ - مقياس الجمال؟ كان المقياس دقيقا جدا يا سيدي - بالمليمتر. قاسوا حدقتي وأجفاني وخدي وشفتي وأذني وعنقي وكتفي وصدري وقامتي وهيفها وضيق قدمي، قاسوا كل هذه بالمليمتر، فوجدوا كل شيء تماما.
فقهقه القديس وقال: تماما؟! لله درهم من محكمين مدققين، بالطبع وجدوا فيك عينين لا عينا واحدة، وأذنين فقط لا أربع آذان، ولسانا واحدا لا لسانين ...
فارتبكت جوكوندا، وقالت: هل يمكنهم أن يجدوا في خلق الله نقصا أو شذوذا؟! - طبعا لا، ولكن أما وجدوا عينا أحدق من الأخرى، وأذنا أطول وأعرض من الأخرى مثلا؟! - لا، بل وجدوا كل شيء تماما. - وإذن لم يجدوا في غيرك كل شيء تماما. - بل وجدوا في غيري كل شيء تماما، ولكن لم يكن كل شيء طبق قاعدة الجمال. - قاعدة الجمال! ما قاعدة الجمال هذه؟ - عندهم قاعدة للجمال. - من وضعها لهم ومن كتبها؟ - ليست مكتوبة، بل هي في أفكارهم. - ليست أفكارهم إلا شهواتهم، فشهواتهم كانت مقياس جمالك يا ملكة الجمال. ومن كانت رعيتك؟ - أوه، لا تسل يا سيدي، تألب حولي ألوف من الشبان الظرفاء الوجهاء الأغنياء ينظمون الأشعار في وصف جمالي، ويتبارون في تبجيلي، ويتفانون في استرضائي. - إذن، ما كان أسعدك في مملكتك! - آه، إلا السعادة يا سيدي، كنت أطمح إليها فلا أجدها إلا سرابا خلابا. - عجبا! أجمال بلا سعادة! إذن، لماذا الجمال؟ - لم يكن الجمال إلا مشقيا لي، كنت أحسد وردة الربيع؛ لأنها كانت تجد شابا أنيقا يضعها على صدره، وأما أنا فلم أجد ذلك الشاب الأنيق الذي يستحق أن يضع ملكة ورود الجمال على صدره، فمضت بضع سنين والطلاب يتوسلون وأنا الملكة أتمنع، والخطاب يتضرعون وأنا أتدلل، إلى أن تقدم لي نبيل سري غني وجيه ذو نفوذ، فألح على أهلي أن أقبله زوجا قبل أن تذهب نضرة شبابي سدى، فأذعنت وتزوجت ذلك النبيل واثقة أني سأكون سعيدة معه، وما لبثت أن وجدت نفسي في بيئة لا ينقصني فيها شيء من الرخاء والرفاه والعز والمجد، وإنما كان ينقصني شيء واحد ... - ما هو؟ - ملكي، شعرت أني فقدت ملكي، لم أعد أشعر أني ملكة، شعرت أني أصبحت أسيرة الزواج، شق علي الأمر جدا؛ لأني لم أستطع أن أكون ملكة ذات سلطان على زوجي، ذهب ملكي هباء، أدركت أن السعادة ليست بالجاه ولا بالمال ولا بالترف. - إلى الآن لم أفهم ما الذي كان ينقصك. - الحب، شعرت أن هناك شيئا آخر يكفل السعادة وهو الحب، ولكني لم أكن أحب زوجي كل الحب. - لماذا؟ - لم أجده مثلي الأعلى، لم أجده يقدر جمالي حق قدره، لم أجده يذعن لسلطان دولتي، لم أعد أشعر أني ملكة حتى ولا في بيتي، فصرت أتوق إلى الحرية التي تمتعني بالحب التام. وقع النفور بيني وبين زوجي وصرت أتمنى فراقه، ولكن بحسب شريعتنا لا فراق إلا بالموت، فما نجوت من أسري الزواجي إلا بموته، كأن الله أشفق على نفسي فعتقني منه، وصرت حرة، بحثت عن الشخص الذي كنت أشعر بحب له منذ حداثتي، وما حرمني إياه إلا تاج الجمال، بحثت عنه فقيل لي أنه انتظم في سلك الرهبنة؛ فيئست ولم أجد مفرا عن يأس إلا أن أترهب أنا الأخرى أيضا، فأويت الدير وعكفت على العبادة والتوبة.
فضحك القديس وقال: أظن أن حبيبك هذا كان الأب الجليل سلفاستروس بعينه، وقد ترهب لما علم أنك تزوجت ذلك النبيل، فحذوت حذوه. - هو كذلك يا سيدي. - كيف عرفت أنه ترهب لهذا السبب؟ - لما كان يرشدنا في الرياضة الروحية باح لي بذلك حين كنت لديه في كرسي الاعتراف، وأخبرني أنه لأجلي ترهب لكيلا يدنس قلبه بحب امرأة أخرى، وبقي يحبني حتى بعد الرهبنة.
فقال القديس مستغربا: حتى بعد الرهبنة؟! - نعم، قال لي حينئذ بصراحة: «لا أزال أحبك.» فقلت له: «حرام يا أبانا؟» فقال: «ليس حراما؛ أما قال يسوع: «أحبوا بعضكم بعضا.» إني أحبك حبا طاهرا كما قال يسوع.» ثم قبلني، فاقشعر بدني وقلت: «حرام يا أبتي.» فقال: هي قبلة مقدسة يا ابنتي؛ أما قال بولس الرسول: «قبلوا بعضكم بعضا قبلات مقدسة؟» ثم مضيت عن كرسي الاعتراف، وأنا أفكر بالقبلات المقدسة، وبقيت القبلات المقدسة تلوح في مخيلتي إلى أن سمعت بانتحار أبينا الراهب سلفاستروس، فحزنت عليه حزنا عميقا، وبقي لي رجاء أن أجتمع به في السماء ولكن خاب أملي. - كفى، كفى يا بنيتي، إذا كان الديان قد رحمه، فهو في المطهر الآن يكفر عن قبلته المقدسة. - إذن، هل تسمح أن تستدعي بولس الرسول الموعز بالقبلات المقدسة، عسى أن يرشدني إلى منزلي في السماء. - أتأسف أن أقول لك يا بنيتي إنه لم يعد لك منزل هنا. - عجبا! لماذا؟ لقد أتممت واجباتي الدينية، حتى إني ساعة احتضاري سمعت الأخوات والأب الذي مشحني يقولون: «إنها ذاهبة إلى السماء قديسة.» وقد أبلغني بعض الأبرار الذين صادفتهم في الطريق أني تعينت قديسة منذ فراقي الدنيا، وظهرت عجائب باسمي، ولي في الدير مقام قديسة يزوره الناس بنذور حيث يتوقعون عجائبي فيهم.
فقال القديس مدهوشا: عجائبك! مرحى مرحى، إذن تشاركين الباري في قدرته. - كذا أخبرني الأبرار الذين صادفتهم في الطريق لاحقين بي بعدي. - عجبا أن يكون لك عجائب، ولا تدرين بها إلا بالخبر عن ألسنة الأبرار الذين تبعوك بعدك. فماذا كان من عجائبك؟ - قيل لي: إن امرأة كانت مريضة، وقد يئس من شفائها نطس الأطباء، فلما نذرت لي شفيت. - مسكينات المريضات الأخريات اللواتي يئس من شفائهن نطس الأطباء، ولم ينذرن لك. لا ريب أنهن قضين نحبهن مأسوفا على شبابهن. ثم ماذا؟ - نذرت لي امرأة أخرى حلية ذهبية إذا كان زوجها يتوفق إلى وظيفة يرتزق منها، فتوفق بعد عطلة عام.
فقال القديس باسما: لقد أحسنت زوجته في نذرها، وإلا لبقي زوجها بلا وظيفة كل عمره. ترى لأية القديسات الأخريات نذرت زوجات الأزواج الآخرين الذين توفقوا إلى وظائفهم؟ ثم ماذا؟ - ونذر آخر أنه يقدم لمقامي عشرة جنيهات إذا تزوج من يحبها وتحبه، فتزوجها.
فقهقه وقال: لقد انفرجت أزمة الزواج إذن. ما على العشاق إلا يسخوا بالنذور لك يا موحدة قلب الأحباب. ثم ماذا؟ - ونذرت امرأة حلية من حلاها المسروقة إذا ردت إليها، فعثر البوليس على السارق، واسترد لها حلاها. - مرحى مرحى، ما على البوليس إلا أن يعلق أيقونتك في دائرة الشرطة فتسهل عليه مهمته، ولكن إذا سرق لص بعض تلك النذور النفيسة من مقامك، فلمن ينذر أهل ذلك المقام بغية العثور على السارق يا ترى؟!
فترددت الأخت جوكوندا، ولم تحر جوابا، فسأل: وماذا كان من أعجب عجائبك أيتها القديسة؟ - حدث قيظ وتأخر المطر طويلا في فصل الشتاء، فنذر الفلاحون عدل الغلال لمقامي إذا نزل المطر، فأمطرت السماء. - لله درها من أعجوبة، لولاها لانقضى الشتاء بلا مطر. ثم ماذا؟ - روى لي الراوون كثيرا من عجائبي، لم أعد أتذكرها كلها. - إن أعجب عجائبك يا بنيتي أنك تفعلين العجائب، ولا تدرين بها إلا من الرواة الذين يأتون بعدك، وماذا كان مصير تلك النذور؟ - قيل لي إن سارقا سرقها. - سرقها سارق؛ عجبا! أما خاف غضب أيقونتك؟! - إذا كان لا يخاف غضب يسوع، فهل يخاف غضب أيقونتي؟! - لا يسوع ولا سائر الرسل والأنبياء فعلوا من العجائب ما فعلت يا بنيتي. - ويلك يا سيدي، لا تجدف، لقد فعل الرسل والأنبياء ويسوع عجائب لا يفعلها الخطاة مثلي. - لا، لا لم يفعلوا مثل هذه العجائب البتة. أعظم أعجوبة فعلها يسوع هي قوله:
أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى من أساء إليكم.
وأعظم أعجوبة فعلها محمد هي: نداء للعالم بوحدانية الله، وأعظم أعجوبة فعلها موسى أنه استطاع أن يقضي 40 سنة يقود بني إسرائيل لعبور برية سيناء إلى أرض الميعاد، على حين أن القافلة لا تطيق عبورها في أكثر من ستة أيام، والطيارة في سويعات والراديو في لحظة، فأين هذه العجائب من تلك التي رواها لك الرواة؟!
فبقيت جوكوندا مفكرة برهة، ثم قالت: إذن لم يعد لي منزل في السماء؟ هل القديسات اللواتي أعددتم لهن منازل فعلن عجائب أعظم من عجائبي؟ - كلا، لم يفعلن عجائب قط، ولا تعين قديسات على الأرض كما تعينت حتى، ولا عرف أحد أنهن قديسات. - إذن لماذا أحرم منزلا في السماء. - لا تحرمين منزلا، وإنما على الذين عينوك قديسة أن يعدوا لك منزلا في ملكوتهم. - ويحي! إذن لست قديسة من قديسات السماء، هل خدعني الذين قالوا إني قديسة؟ - بل أنت قديسة ساذجة القلب. - إذن لماذا لا تقبلونني في السماء؟ - لأنك تعتقدين أنك ملكة، والسماء لا تسع ملكين، بل يكفيها ملك واحد. - إذن لماذا جاء بي الملاكان إلى هنا؟ - لكي تسمعي حكم الديان عليك. - ماذا حكمه يا سيدي؟ - حكمه أن تذهبي إلى المطهر؛ حيث تخلعين عنك تاجك، وحيث تنتهين من عجائبك، ثم تعودين إلى هنا. - ويحي! لقد كنت مغرورة مخدوعة. أتوب عن تاج ملكي وعن عجائبي يا سيدي. - ليس هنا مكان التوبة يا بنيتي. - إذن أعود إلى الأرض. - لقد انتهى أجلك على الأرض، فتعودين إلى المطهر الذي أعده الديانون الأرضيون لأمثالك؛ فاذهبي إلى حيث حكم عليك ديانوك.
وفي الحال تقدم لها ملاكان وحملاها، وهبطا بها إلى المطهر، وألقياها عند بابه.
الفصل الثاني
وجدت الأخت جوكوندا نفسها لدى باب قاتم بلا مصراعين، في سور شامخ مبني من حجارة قاتمة، فتقدمت إلى الباب، وأجالت نظرها وهي هالعة القلب، وإذا الأب سلفاستروس مقبل، فما وقعت العين على العين حتى أسرع إليها مرحبا: أهلا وسهلا أيتها الصديقة البارة، لقد أنبئت بقدومك فتعالي.
فقالت باكية: ويحي من عذاب المطهر يا أبي. - لا تفزعي، لا عذاب هنا إلا الملل والضجر. - الملل والضجر فقط! - نعم، وهو عذاب كاف، عذاب ألوف السنين. - ويحي! إن الراهبات في الدير يصلين لأجلي لكي تقصر سنو مطهري. - ويحهم! إنهم بصلاتهم يزيدون سني مطهرك، أما زعموا أنك قديسة عجائب، وأنك منتقلة إلى السماء؟ فلماذا الصلاة لأجلك إذا كنت في السماء؟ وهل أحكام الديان خاضعة لصلاتهم؟ - لقد انخدعت يا صديقي سلفاستروس، انخدعت. - وهنا عقاب الانخداع، فتعالي نصل ونتوسل إلى الله.
فطاف بها الأب سلفاستروس على جماعات المتطهرين، وهم يصلون ويتضرعون، واشتركا مع جماعة منهم. •••
انقضى زمان حتى ملت الجموع الصلاة، وتفرقت هنا وهناك أزواجا وفرادى، وسلفاستروس يقود صديقته جوكوندا بين الجموع إلى أن قال لها: ستعقد في جهنم غدا حفلة نادرة، فلنذهب ونشاهدها. - ويحك! كيف نذهب إلى جهنم حيث النار المتقدة والعذاب الذي لا يطاق؟!
فقهقه سلفاستروس وقال: لا تخافي ليس عذاب جهنم النار، بل عذابها الشر الأبدي. - لا، لا، بربك دعني في مطهري، دعني بعيدة عن شر جهنم. - نحن لا نشترك مع أهل جنهم بشرهم، بل نمكث في شرفة نطل بها على أهل جهنم ونشاهد الحفلة. - لا لا، لا أذهب، لا أذهب إلى هناك. - لا تخافي ليس في المشاهدة أذى، كثيرون يذهبون كل يوم من هنا إلى هناك للمشاهدة، حتى أهل السماء يزورون شرفات جهنم؛ لكي يروا الفرق بين شقاء جهنم وسعادة السماء، ألا تذكرين حكاية الغني الذي شاهد اليعازر في حضن إبراهيم، واستغاث بإبراهيم عسى أن يرسل اليعازر ليبل بطرف أصبعه لسانه بالماء، إن هذه المشاهدة تجعلنا نعجل بالتوبة لكي نصعد إلى السماء. تعالي لا تخافي.
وما زال يقنعها إلى أن اقتنعت، فتمشيا إلى بوابة أخرى للمطهر، حيث رأت جوكوندا رهطا من الجن يحفون حول منطاد عظيم جدا.
فقالت مذعورة: ما هذا يا سلفاستروس؟ - هذا هو أحد المناطيد التي تنقل أهل المطهر إلى جهنم، وهؤلاء الجن هم الذين يتولون أمر المنطاد. - عجبا! هل اخترع الجن مناطيد. - بل تعلموا صنعها من أهل الأرض، هلمي قبل أن يمتلئ المنطاد ولا يبقى لنا محل، فنضطر أن ننتظر منطادا آخر، وقد يفوتنا مشهد الحفلة.
ودخلا إلى المنطاد، وجلسا على مقعد واحد، فقالت له: ما هو شأن هذه الحفلة الجهنمية؟ - يقال إنها حفلة انتصار الشياطين في إثارة الحرب العظمى على الأرض وفوزهم فيها. - يا للعجب! إذن كان الحلفاء شياطين لأنهم انتصروا.
فقهقه سلفاستروس وقال: لم ينتصر الحلفاء، ولا ألمانيا وحلفاؤها انتصروا، بل جميعهم خسروا الحرب، والمنتصرون هم الأبالسة فقط. - لا أفهم ماذا تعني؟ - أعني أن الحرب انتصرت على السلم، والشياطين أعداء السلم وأنصار الحرب، أليست الحرب كارثة للجنس البشري وويلا للغالب وللمغلوب جميعا؟ - بلى. - إذن، نجح بها الأبالسة.
ثم نهض المنطاد وانساب في الفضاء، وما هي إلا فترة حتى جعل يهبط إلى أن استقر عند شفا هاوية، وخرج الركاب إلى أرض صخرية كالحة سوداء، فتمشى سلفاستروس وجوكوندا إلى أن بلغا إلى صف طويل من الشرفات المطلة على الهاوية فمكثا فيها، وأطلت جوكوندا وقالت مبهوتة: ما هذا! إني أرى مدينة عظيمة وأبنية شامخة وشوارع؟ - هذه مدينة الأبالسة، عاصمة بعلزبول زعيم الشياطين. - يا للعجب! هل يحذق الشياطين فن البناء أيضا. - تعلموه من ضيوفهم الأشرار الأرضيين. - أرى سيارات وترامات وأسلاكا ... - نعم، ترين كما في جهنم كذلك على الأرض، لقد اقتبس الخطاة الأرضيون كل ما عرفوه على الأرض، فصنعوا مثله في جهنم، وكلما جاء فوج جديد من الأرض اصطنع في جنهم ما جد على الأرض من الاختراعات. - إذن هم يتمتعون بجميع محاسن الأرض، فكيف يتعذبون؟! - يتعذبون بشرورهم، واختراعاتهم تزيدهم عذابا، وهو عذاب أبدي. أليس أهل الأرض أيضا يزدادون بؤسا وشقاء بازدياد معارفهم واختراعاتهم؟ - إذن، رأيك أن العلم والمعرفة سبب الشقاء. - لا، بل رأيي أن سوء استعمال الناس العلم والمعرفة هو السبب؛ فالأفراد الذين يستخدمون العلم لاستثمار أتعاب الأفراد، والأمم القوية التي تستخدم العلم لاستعمار الأمم الضعيفة، هؤلاء هم الذين يسببون الشقاء والبؤس، وكما فعل هؤلاء على الأرض جاءوا يفعلون هنا، وجاءوا يستعمرون جهنم ويبتزون أهل جهنم.
ما اكترثت جوكوندا كثيرا بهذا الشرح كأنها لم تفهمه؛ ولذلك اقتضبته قائلة: ولكن أين الحفلة؟ - الحفلة ستعقد هنا تحت في هذا الميدان العظيم الذي نشرف عليه، ألا ترين هناك ديوان بعلزبول منصوبا؟ وسيمثل أمامه كبار الرجماء الذين قاموا بمهمة الحرب، والجموع تحف حول ذلك الديوان لتشاهد الحفلة.
الفصل الثالث
وكانت طلائع الموكب جوقة موسيقية يتقدمها سرب من الراقصات، فلما بلغ الموكب إلى أول الميدان اختلجت جوكوندا وقالت: الموسيقى أيضا وعهدي بالموسيقى أنها وجدت لتسبيح الباري تعالى وتمجيده.
فقال سلفاستروس: ولكن البشر جعلوها من جملة أسلحة الحرب، والشياطين اقتبسوها من البشر. - إن فؤادي يخفق لهذا اللحن، وأشعر برعشة في بدني، كما كنت أشعر حين تعزف الموسيقى في الكنيسة. - إنه لحن حماسي، هو لحن النصر في الحرب، ولعله مقتبس من ألحان الكنيسة. - تبا لهم وألف تب، يدنسون لحن الكنيسة الطاهر، أكره البقاء هنا يا عزيزي، هلم نرجع. - لماذا لا نحول نحن هذا اللحن إلى تسبيح الباري وتمجيده؟ «وكل يغني على ليلاه». - هذا الرقص يشبه الرقص الروماني الذي كنا نرقصه في المدرسة، كما رقصه داود النبي - عليه السلام - أمام تابوت العهد، فهل هؤلاء الراقصات كن راهبات فأثمن؟ - بل هن فنانات التاريخ اللواتي جعلن الرقص عبادة في هياكل الجمال البشري، معابد الشهوات البهيمية، فحرم لأجلهن الرقص في المساجد الدينية. - يتراءى لي أن تلك الراقصة الأولى تشبه القديسة تيودورة الملكة زوجة الملك جستين. - بل هي هي بعينها. - لا أصدق، لا يمكن أن تنزل قديسة إلى جهنم لكي ترقص فيها. - بالطبع لا، ولكن تيودورة هي التي أمرت بأن تعين قديسة، فنفذوا أمرها بعد موتها، وهي قديسة جهنمية. - هل تعرف تلك الراقصة الأخرى؟ - أظنها كليوبترا، وأظن الثالثة ... - تبا لهن جميعا، كان يجب أن يكن راقصات في السماء أمام العرش الإلهي للتمجيد والتسبيح. - أظن عرش بعلزبول أكثر احتياجا للرقص يا عزيزتي، وأما عرش الله فالكون كله تسبيح وتمجيد له. •••
ثم تلا جوق الموسيقى والرقص صفوف من جنود الزبانية، فدخلوا إلى الساحة، واصطفوا في جوانبها، ودخل الموكب البعلزبولي، فقالت جوكوندا: ويحهم! ما هذا الهودج العظيم على أكتاف هؤلاء المردة؟ - هو عرش بلعزبول ملك الشياطين، والذين يمشون وراءه هم الرجماء، كقولك وزراء الدولة والحكام والموظفون الكبار. - ويل لهؤلاء الملاعين؛ ملك ووزراء ودولة! كأنهم ذوو نظام. - طبعا نظام شيطاني تعلموه من أهل الأرض. - ويحهم من أشرار! أما كان أحرى بهم أن يكونوا رجال دولة السماء يسبحون الله؟ - وهل تريدين أن تكون جهنم بلا سكان. - نعم، نعم، كان يجب أن يكون جميع الخلائق في السماء يسبحون. - يظهر أن السماء لم تعد للجميع، فتعين منذ الأزل فريق للسماء وفريق لجنهم. - إذن لم يكن الناس أحرارا في اختيار إحداهما. - صه، صه، لا تدخلي في هذا البحث لئلا تكفري بنعمة الله. احمدي الله أنك ستكونين من الفريق الأول. •••
ووضع عرش بعلزبول في إيوانه المرتفع، وامتثل أمامه كبار الرجماء، ووقف وراءهم بعض مشاهير الأرضيين، وكان سلفاستروس يسمي بعضهم لجوكوندا؛ انظري ذاك نيرون، وذاك إسكندر الكبير، وذاك نبوخذ نصر، وذاك نابوليون، وهذاك رسبوتين، وذاك جزار عكاء، وسنرى من هم الآخرون. - كيف عرفت من ذكرت أسماءهم؟ - من أزيائهم ومن رسومهم التي شاهدتها. •••
وتكلم بعلزبول قائلا: النصر النصر، ما ألذ النصر! بعد جهاد ألفي سنة، ألفا سنة قضيناها في الاستعداد لهذه الحرب العالمية التي زعزعت أركان السلام، السلام الذي قال به رب السلام على الأرض، وكان نصرنا عن أيدي المنتمين إليه، فهل هناك نصر أعظم من هذا؟!
وكانت إلى جنب بعلزبول عقيلته المتوجسة، فقالت: إنه لنصر عظيم ولكنه ناقص ...
فسألت جوكوندا صديقها سلفاستروس: من هذه المتكلمة إلى جنب الملك الجهنمي بعلزبول؟
فأجاب سلفاستروس: هي فينوموس زوجة بعلزبول الداهية، التي تزيت بزي أفعى، وأغوت جدتنا حواء، ألا تذكرين الحكاية؟ - وي، وي، لعنة الله عليها، هي سبب الشر كله، لا أطيق أن أراها، تتراءى لي أنها تتلوى كالأفعى الآن. - هو الغنج الذي اكتسبته بنات حواء من هذه الملعونة.
وكان جواب بعلزبول على قول زوجته: نعم، إنه نصر ناقص ولكنه سيتم بحرب أخرى لا تبقي ولا تذر، فصبرا يا عزيزتي، نعم تزلزلت أركان السلام، ولكن صرح السلام لم يتهدم بعد، يجب أن يتهدم وأن تتبعثر أنقاضه، ولي أمل عظيم بهمة فيرومارس وزير الحرب، وانفنتوروس وزير الاختراع، وجستوروس وزير القضاء، وأرجنتوس وزير المال، وسائر الوزراء النشيطين؛ أننا سنهدم مملكة السلام على الأرض، ونبني على أنقاضها مستعمرة جهنمية عظيمة، تناظر مملكة السماء، ونقيم إمبراطورية هائلة تغزو إمبراطورية السماء.
فصاحت جوكوندا: ويحك يا سلفاستروس! سيغزون ملكوت السماء، فإلى أين نهرب؟ - نبقى في المطهر، فلماذا أنت خائفة؟ - وأهل السماء إلى أين يهربون؟ - يرتفعون إلى سماء أخرى أعلى وأمجد؛ لأن أبانا الذي في السموات عنده سماوات كثيرة لأبراره.
فتنفست جوكوندا الصعداء، وقالت: لقد طمأنتني، وإنما ستصبح الشقة بين المطهر والسماء العليا أبعد. - وماذا يهمك إذا كانت الملائكة تحملك ولا تتعبين؟ على أني أطمئنك بأن أهل جهنم لا يقدرون أن يغزوا السماء حتى ولا الأرض، بل أهل الأرض يغزون جهنم، إن بعلزبول «يفشر ويمعر» لكي يستفز جنوده ليس إلا.
وكان بعلزبول لا يزال يتكلم ويقول: وما بغيتنا الرئيسية من هذا الاحتفال إلا أن نسمع تقارير رجالنا العظام، الذين جاهدوا في هذه الحرب الشعواء، ونترنم بأعمالهم البطلية المجيدة، ولكي نكافئهم على جهادهم الشريف المقدس.
فوكزت جوكوندا سلفاستروس، وقالت: ويحك! اسمع ما يقول هذا البعلزبول الملعون، جهاد شريف مقدس! كبرت كلمة خرجت من فمه النجس الرجس الدنس.
فضحك سلفاستروس وقال: أما سمعت مثل هذا الكلام من أهل الأرض كثيرا، أما سمعته ممن صاروا ضيوف جهنم، أما سمعت ساسة الأرض وحكامهم يستنفرون العامة الجهلة الساذجين إلى القتال وسفك الدماء وترميل النساء وتيتيم الأطفال بأغاني الجهاد الشريف المقدس؟ أما كان أحد الملوك يحمل أيقونة في مركبة، ويطوف بها في الشوارع لكي يستثير شعبه للحرب؟ أوما كان رجال الدين يرافقون الجنود إلى ساحة الحرب لكي يصلوا لهم ويدعوا لهم بالنصر، كأن الحرب عمل شريف مقدس. فبعلزبول لم يخترع الشرف والقداسة من عنده، إنما هو يقتبس لغة شياطين الأرض.
وتابع بعلزبول كلامه قائلا: وبعد ذلك نبحث في المشروع الأعظم الذي نقضي به على مملكة السلام الأرضية القضاء الأخير، ولا بد أن يكون وزرائي قد استفادوا في هذه الحرب اختبارات كثيرة، وعلموا من السياسيين والحربيين والعلماء الأرضيين فنونا جديدة، يمكننا استخدامها في الحرب القادمة، فلنسمع أولا تقرير عزيزي وزير الحرب فيرومارس، وكيف كانت براعته في التنكيل والتدمير.
فاعترض أرجنتوس وزير المال قائلا: أظن حسن الترتيب يقتضي يا سيدي الزعيم أن نسمع أولا تقرير مسبب الحرب.
فتلفت بعلزبول هنا وهناك وتلفت الجميع من حوله لكي يعلموا إلى من يشير أرجنتوس، إلى أن قال: من هو مسبب الحرب؟ لا أدري أن هنا رجيما خاصا لهذه المهمة، كلنا سعى إلى الحرب وهيأ أسبابها.
فقال أرجنتوس: نعم، كلنا نسعى إلى هذه الغاية الشريفة، ولكن بيننا من اختص بالقسط الأكبر من هذا المسعى الحميد.
فقالت جوكوندا لصديقها: اسمع، اسمع، يقول هذا اللعين: «بالسعي الحميد»! وهل يعرف هؤلاء الأشرار شيئا حميدا؟!
فقال سلفاستروس: طبعا، وهل شيء أحمد من الوصول إلى الغاية المنشودة، أما كان سعي يسوع إلى الصليب حميدا؟ فلماذا لا يكون سعي اليهود إلى صلبه حميدا أيضا؟ إن الحميد شيء نسبي يا عزيزتي، وقد شرح أينشتاين النسبية لكي نفهم كيف يكون سعي الأبالسة إلى الحرب حميدا. - من أينشتاين هذا؟ - هو أعظم إبليس من أبالسة العلم والفلسفة، كاد يستكنه سر الوجود المادي، ويظفر بالمبدأ الأول الذي يتوارى الخالق عز وجل وراءه عن أبصارنا. - لله دره، إن الذي يعلن قدرة الله يجازى في السماء بأفضل منزل. - من قال لك أن الله يرضى أن يعلن عنه مخلوق، إن إعلان ذاتية الله لأعجوبة أعظم من عجائبك مليون مليون مرة. - إذن أيريد الله أن تبقى ذاتيته مجهولة؟ لا بد من مخلوق يختاره الله ليظهرها. - لقد اختار الله لإظهارها نبيا، ومع ذلك لم يستطع ذلك النبي أن يظهرها إلا بالإشارة. - من هو؟ - داود النبي القائل:السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. فهل لإعلان ذاتية الله أبلغ وأفصح من هذا الشعر البديع الفلسفي؟!
الفصل الرابع
وكانت فينوموس عقيلة بعلزبول تتلوى وتتغنج إلى جنبه، وتضحك صاهلة كالفرس البطراء حين أشار أرجنتوس إليها قائلا: هذه الملكة العظيمة هي ذات القسط الأعظم من السعي الحميد إلى حدوث الحرب، بل هي وحدها التي سببت الحرب، فنود أن نسمع تقريرها أولا.
فالتفت بعلزبول إليها باسما وقال: يا للتواضع الكلي! يا للوداعة! يا لإنكار الذات! أتقومين بأعظم مهمة في الحرب، ولا يدري بما فعلت أحد غير أرجنتوس يا عزيزتي؟!
فقال أرجنتوس: لقد دريت مصادفة يا مولاي؛ لأنها كانت تحتاج إلى المال في بعض الأحوال فأخلقه لخدمة غرضها. - مرحى، مرحى، يا ذات الدهاء، قصي علينا كيف أثرت الحرب، فإن حديثك سيكون أندر حديث وأفكه خبر في هذه الحفلة، إن صوتك العذب ترنيم مطرب، قصي فنترنم.
فوقفت فينوموس وهي تتمايل بغنج ودلال، فتمثل فتنة النساء للرجال، وعيناها تغامزان الأبطال، كأن نظراتها ومضات كهرباء تهز الأعصاب، وتحرك الأكف للتصفيق، ثم رفعت يديها كأنها تبارك، فخشع الجمع، وكفت الأكف عن التصفيق، ثم طفقت تتكلم بصوت معدني رنان: كيف يغزو البحر اليابسة فيفتت الصخور؟ بتلاطم الأمواج. وكيف تتلاطم الأمواج؟ بهياج البحار. وماذا يهيج البحار؟ عصف الرياح. وبماذا تعصف الرياح؟ بتغلغل الحرارة فيها، الحرارة شهوة في الهواء. فالشهوة علة العواصف التي تثير الأمواج؛ لذلك قبضت على عنان الشهوات، وجعلت أبذرها في القلوب، فإذا بأقوى القلوب أكثر نموا وخصبا، وإذا بالذكور أحر شهوة وأشواقا للإناث، وإذا بالإناث أوفر جمالا وأعطف على الرجال، وإذا بالجمال فتنة للرجال وبالبطولة فتنة للنساء.
الشهوات هاجت الرجال لاقتناء الجمال، والشهوات حمست النساء لابتداع الجمال، فالمرأة مصنع الجمال، والرجل مصنع المال، تلك تبيع وهذا يشتري، والشهوات تبتلع ولا تشبع، وعواصف الجمال تثير لجج المال، والفريقان يتصادمان بلا ملال.
في إبان ذلك الصدام العنيف وقعت القلوب الشديدة تحت سنابك خيل الفلوس، والقلوب الضعيفة تحت أقدام فنون الحسن، وأصبح الرجال عبيد الحسن، والنساء أسيرات الذهب.
الرجال يقتتلون لأجل الثراء آسر النساء، والنساء يتنافسن في فنون الجمال فاتن الرجال.
هكذا نشأت الحروب بفعل فاعلين: المال والجمال. ومصدر الفاعلين واحد، وهو الشهوة.
عنان الشهوة في يدي.
فصاح بعلزبول: مرحى، مرحى يا ذات الدهاء ملهمة النساء!
عند ذاك دوى المكان بالهتاف: فلتحي فارسة الشهوات القابضة على عنان اللذات.
ثم ارتفع صوت من الجمع قائلا: الشهوة عاصفة ريح فكيف لربة الدهاء أن تقبض على الريح؟
فسرحت فينوموس بصرها في الجموع باسمة بسمة مكر ودهاء، ثم قالت: من أغوى أم البشر أن تقطف ثمرة من شجرة الخير والشر؟ ومن زين لها اللذة المودعة في تلك الثمرة؟ ومن أغوى أبا البشر أن يحمل رفيقته على عاتقه لكي تصل إلى الثمرة وتقتطفها؟ ومن زين له الفتنة المودعة في تلك الرفيقة؟ إن القوة والفتنة قد تعاونتا على اقتطاف اللذة، ذاقتها حواء ثم أذاقت آدم، فاستطاباها ثم تناهباها. من ذلك الحين أصبحت تلك الثمرة المشتهاة التي لا تجنى إلا بالقوة والفتنة معا، متنازع البشر، تلك الشهوة المزدوجة الفعل مالا وجمالا، أثارت سلسلة الحروب التي لا تنتهي، هكذا أثرت الحروب منذ مقتل قايين إلى مقتل الجندي المجهول.
وانبرى جستوس الفيلسوف وزير القضاء وقال: عفوا يا ذات السناء والذكاء، أما كان في طوقك أن تغري زميلتك أم البشر بثمرة غير التفاحة؟
فبدر القول على لسان فينوموس: وما عيب التفاحة؟ - بالتفاحة دخل الخير مع الشر إلى الإنسانية، أفما وجدت ثمرة ذات شر بلا خير كالجوز المقيء
Nux Vomica
ذي السم الزعاف المسمى ستركنين أو كثمرة الأفيون مثلا؟
فتبسمت فينوموس ابتسامة استهزاء وقالت: لا بدع أن يغرب عن بال فيلسوفنا جستوس ما غرب عن بال الفيلسوف أرخميدس، حين طلب إلى العمار أن يبني كنا لكلبه وهرته المؤتلفين، فلما أنجز العمار بناء الكن انتقده أرخميدس بقوله: هذا كن بباب واحد فقط لدخول الكلب، فأين الباب لدخول الهرة؟ ... فأجاب العمار مستغربا: ألا تستطيع الهرة يا سيدي الفيلسوف أن تدخل من حيث يدخل الكلب؟ فضحك الفيلسوف من غفلة نفسه، فهل غفل فيلسوفنا جستوس عن أن ثمرة الجوز المقيء مرة المذاق دميمة النظر ومثلها ثمرة الأفيون، فكيف يمكن إغراء زميلتي أم البشر أن تأكل الجوز المقيء أو جوزة الأفيون؟! وهل غفل فيلسوفنا أيضا عن أن هاتين الثمرتين لا تخلوان من الخير؟! فتلك تقوي الفؤاد وهذه تسكن ثورة الأعصاب الأليمة، فلا أفضل من التفاحة للإغراء؛ لأنها جميلة للنظر شهية للنفس.
فقال جستوس مداعبا: ولكن للتفاحة تاريخا غلب فيه الخير على الشر؛ فالتفاحة فتقت ذهن نيوتن لاكتشاف ناموس الجاذبية، ذلك الناموس الذي وسع دائرة المعرفة وجعل قطرها ألف ضعف، فانبثق منه ألوف صنوف المعارف والاختراعات التي أغدقت الخير على الجنس البشري، فكأنك بإغرائك أم البشر بالتفاحة قد أتيت لنا بالخير خصما عنيدا وعدوا لدودا للشر.
فقهقهت فينوموس بالرغم من رزانتها وقالت: إني أحيل نظريتك هذه إلى الوزيرين فيرومارس وزير الحرب، وأرجنتوس وزير المال؛ فهما يفندانها لك، ويريانك كيف أن المعرفة التي يتبجح بها خلفاء نيوتن كانت خادمة الشر، وكيف أن مستحدثات العلم والاختراعات التي يفخر بها بنو الإنسان تحولت إلى أدوات قتال ودمار.
فقال جستوس: بالرغم مما تعنين فإن إله الخير شرع يطارد إله الشر منذ أكل أبو البشر التفاحة الأولى؛ لأنهما حالما تفتحت عيناهما وعرفا الخير والشر جعلا يخيطان من ورق التين مئزرا لهما؛ لكي يسترا عورتيهما احتشاما. فليتهما لم يأكلا التفاحة ولا احتشما؛ لأن احتشامهما كان أول طلائع الخير، ومنذ ذلك الحين أصبحنا منهمكين بمقاتلة الخير.
فقال فينوموس بقليل من الحدة: زه، زه، ما هذا المنطق المحذلق يا معلم، عذرا، أتريد أن يبقى آدم وحواء ساذجين يسرحان ويمرحان في الفردوس إلى الأبد؟! كيف تستطيع إذن أن تحارب ملكوت الإنسان وهو في الفردوس، وباب الفردوس يحرسه ملاكان مسلحان بسلاح لا يتقى، فإذا لم يخرجا من الفردوس فكيف نحاربهما، أليس من خداع الحرب أن تستدرج الخصم ليخرج من حصته، ثم تجاربه في ساحة الوغى! من طرد آدم وحواء من الفردوس؟ - خالقهما لأنهما عصيا وصيته. - لا، بل أنا طردتهما منه حيث سولت لهما هذه المعصية. - وما فرية طردهما وقد خرجا مؤتزرين مستتري العورة، وهل ستر العورة إلا حشمة، وهل الحشمة إلا فضيلة؟ وهل الفضيلة إلا ضرب من الخير؟ فكأنهما خرجا وفي قلبيهما حصن للخير لا يستطيع سلاح الشر فتحه. - بخ، بخ ... كيف تفسر ستر عورتهما بالحشمة يا معلم؟ - إذا لم تكن هي الحشمة فماذا تكون؟! - لم يكن مئزرهما إلا مولدا للفن، فمنذ طفق الإنسان يكتسي ولد الفن وجعل يترعرع، وهل أناقة الأزياء والحلي والحلل والرياش إلا شعاب من الفن؟ وهل الغزل الشعري والغناء والرقص إلا فروع من الفن؟ وهل التمثيل والتصوير والنقش والنحت إلا غصون من دوحة الفن؟ - إنها لكذلك.
وهل الفن إلا ثمرة الحكمة، وهل الحكمة إلا فضيلة؟ وهل خير أعظم من خير الفضيلة؛ إذن الفن خير أعظم الخير.
فقهقهت فينوموس، ثم قالت: وهل عري الترائب في الرقص ولف السواعد على الخصور، وإطباق النهود على الصدور حشمة ففضيلة فخير؟ وهل نحت تمثال فينوس عاريا حشمة؟ وهل التغزل بأعضاء البدن حشمة؟ أو هل ... إلى آخر ما تعلم من بدائع الفنون؛ هل في كل ذلك قصد الحشمة أم قصد إثارة الشهوة؟! فما في ضروب الفن إلا التفنن في إثارة الشهوات، فلله در التينة التي انبثق من خياطة أوراقها الفن، ولله در التفاحة التي انبثقت منها الحكمة، ورقة التين أم الفن وثمرة التفاح أم الحكمة، غذتا الفن، وكلتاهما تجندتا تحت راية الشهوة. فالحشمة التي حسبتها خيرا يا معلم ليست إلا ذئب الشر في جلد خروف الخير، كذلك كلما تقدم الفن خطوة نشطت الشهوات خطوات في ميدان الخلاعة والتهتك، أليس الإنسان أشد غلمة وشبقا من جده الحيوان ألف مرة وكرة؟! فكيف تريد أن تشب الحروب في ملكوت الإنسان إذا لم يكن في قلبه الخصمان الخير والشر؟!
أيد واحدة تصفق؟! أبشطر واحد من الكهرباء يحدث تيار؟! إذا كان أحد غيري يستطيع أن يبتدع شرا بلا خير فليتفضل، وأنا أتنازل له عن عرشي. - عفوا ومعذرة يا مولاتي، لا تستائي من اعتراضي، فما هو إلا قبس ضئيل من بارع دهائك وبالغ حكمتك. - أجل لا يمكن أن يبتدع شر محض لا يمازجه خير، ولقد ابتدعت الشر، فعليكم أن تتجندوا له لكي تقاتلوا الخير. تفضلوا أنبئونا ماذا فعلتم في حروب الشر والخير؟!
عند ذلك دوى المكان بالهتاف لملكة الدهاء.
الفصل الخامس
وكان بعلزبول يترنح طربا من حديث عقيلته الفتانة فينوموس، فلما استوت على عرشها مزهوة تيها وافتخارا، قال بعلزبول: نسمع الآن تقرير صاحب الصولة فيرومارس وزير الحرب، لا بد أن يكون حديثا يشرح الصدر.
فوقفت فينوموس وقالت: أظن أن الترتيب الأنسب يقضي بأن نسمع صاحب الحنكة ميديوموس وزير الخارجية والمواصلات؛ لأني أعتقد أن مساعيه الحميدة بين الجحيم والأرض كانت من أهم العوامل في إثارة الحروب البشرية.
فوقف ميديوموس وطفق يتكلم: أرى لزاما علي أن أستهل خطابي بالثناء على سيدتنا المجيدة ذات الدهاء؛ لأن أعمالها الحكيمة فتحت لنا الطريق العريض للسعي والعمل، فقد قبضت على الشهوات وما زالت تبذرها في قلوب بني آدم وبنات حواء حتى خالطت منهم اللحم والدم، فأخرجت شظأها في صدور النساء وأزهرت زهور فتنة وإغراء أخاذ في ملامحهن وسائر تصرفاتهن، ونبتت في قلوب الرجال، فأمرعت وأينعت ثمار طمع وشره في ظاهرات نشاطهم، أما الفتنة فكانت ازورار الزور في كحل عيونهن، وخطوط المين في تزجيج حواجبهن، وتلون الغايات في تفاح خدودهن وعندم شفاههن، وحلاوة الخلاعة والتهتك في رمان نهودهن، ووقيد الشهوة في ميس قدودهن ونواحل خصورهن وارتجاج أردافهن، وإيماآت الإغراء في أزياء ملابسهن، وبواعث الغواية في حليهن، وعاصفات الأشواق في غمزاتهن وتمايل أعطافهن.
وأما نشاط الطمع والشره في الرجال فكان باديا في صلابة عضلاتهم، ومفتول سواعدهم، وحوافز الطموح في شوامخ أنوفهم، ومغاور النهم فيما لا حد له من أطماعهم، وقواضم الافتراس في جوارحهم، ومناسج الكيد في نزوات رءوسهم، ومعامل سلاح التنازع في خلايا أدمغتهم.
وصفوة القول أن فنون فتنتهن كانت عواصف تثير لجج نشاط الرجال اغتناما للمال بأي الوسائل؛ لكي يقايض الآدميون بذهبهم الرنان جمال الحواءات الفتان، وبهذه المقايضة تتغذى شهوات الفريقين ولكن بلا شبع .
إن شهوة الفريقين إذن هي المحرك لطلب المال والحرص عليه، إن هذه الشهوة التي زعزعت ملكوت الإنسان كانت من بذار سيدتنا المبجلة ذات الدهاء فينوموس. (وهنا دوى المكان بالتصفيق والهتاف لذات الدهاء)، هذا المحرك القدير للطمع بالمال مهد لنا الطريق للعمل، فشكرا لسيدتنا الموقرة (هتاف لها)، فمنذ خرج أبو الإنسان من الفردوس شرع الطمع يفعل فعله العجيب، شرع الراجم يستغل تعب المرجوم بألف أسلوب وأسلوب، ولا متسع لتعداد الأساليب، ومعظمها يرجع إلى استخدام النعرة الدينية للاستغلال. باستخدام حمير المطامع ابتدأ عملي.
فقال بعلزبول مقاطعا: هل تعني أنك جعلت المطامع حميرا يمتطيها الطامعون. - لا يا مولاي، بل بالعكس، جعلت الناس حميرا تمتطيها المطامع، فكل مطمع يستكد حماره بالموكز في حلبة السباق لكي ينال القسط الأوفر من الغنيمة؛ لذلك تجري حمر السباق، تتزاحم وتتصادم ويثب بعضها على بعض، ويدوس قويها ضعيفها، وينهش لاحقها سابقها؛ لكي تملأ بطون مطامعها من غنائمها.
فاعترض الفيلسوف جسنوف وزير القضاء قائلا: هذا يكون في حالة الفوضى، ولكن حميرك مارسوا النظام حتى صار خلة لهم، فكيف كنت تفسد نظامهم؟!
فأجاب ميديوموس: لم أفسد نظامهم، بل بالعكس كنت أزين لهم حسن النظام والانتظام في جماعات، لكي يتصادموا جماعات لا أفرادا؛ لأني لم أقنع بالربح القليل من «القطاعي»، بل بالكسب الوافر من «الجملة»، وهكذا جعلت النظام بين الأفراد والفوضى بين الجماعات لهذه الغاية.
فقالت فينوموس: لله درك من سياسي محنك، تستنبط الفوضى الكبرى من الأنظمة الصغرى، إنك لصانع معجزة هي أغرب من لغز أبي الهول، فكيف حللت هذا اللغز؟! - ضربة واحدة على المقتل يا سيدتي حلت اللغز، وهل ثمة مقتل أضعف من الدماغ، مهما تكن الضربة هناك ضعيفة فهي تصرع. وماذا في الرأس غير العقيدة؟! لقد ضربت العقيدة ضربة واحدة فتفتت إلى عقائد، وبتفتتها انقسمت الأسرة الإنسانية إلى أقوام تزعم كلا منها زعيم، وكل زعيم يزعم أن عقيدته محض الحق والصواب، بل هي الشرط المستقيم المؤدي إلى النعيم الأبدي، وبهذه الدعوى أخذ كل زعيم يستفز قومه للجهاد في سبيل العقيدة التي يدينون بها، ومن هنا كان منشأ النزاع.
لقد كان لبني آدم إله واحد، ولكنهم بهذا الانقسام أصبحوا ولهم آلهة عديدة حجبت عنهم ذلك الإله القوي الجبار، كما تحجب السحب الشمس، الشمس تملأ رحاب الكون نورا ولكن الذين تحت السحب لا يرونها، بيد أنهم كانوا يغالطون أنفسهم ظانين أنهم يرونها وما هم راءون إلا أوهامهم وغيهم الذي فيه يعمهون.
وكان الملكوت السماوي ميراثا للنوع البشري كله، فلما تفتت الأسرة البشرية بتفتت عقيدتها صار كل زعيم يدعي الملكوت لقومه وحدهم، فراحت الأقوام وهي على الأرض تتنازع مملكة السماء، ويقاتل بعضها بعضا لامتلاكها، حتى إذا غلبت أمة أمة أخرى احتلت الملكوت، ونصبت رايتها فيه، وطردت الأمة المغلوبة منه.
فالجنة التي أعدها الله في السماء، وجعل الأنهار تجري من تحتها، واصطفى لها الأبرار من عباده، أنزلها العباد إلى الأرض، وجعلوها ساحات للوغى تجري فوقها الدماء.
والملكوت السماوي الذي ملأه الله منازل لقديسيه اغتصبه وكلاؤه الأرضيون المزعومون، وعرضوه للمساومة في سوق البيع والشراء.
فقالت فينوموس ضاحكة: أما قيل كما في السماء كذلك على الأرض؟ وكان الأصوب أن يقال كما على الأرض كذلك في السماء. - لكلا القولين مفاد واحد يا سيدتي؛ لأن تقسيم ملكوت السموات حصصا للعباد ألهى حمير العامة عن تقاسم الخاصة الملكوت الأرضي، ففيما كان وكلاء الله من كهان وحكام يتناهبون أمتار الأرض، كان حميرهم منهمكين بتقاسم أشبار السماء، والمحبة التي أقامها الله ناموسا للإنسانية أطلقها عباده على البهيمة، فإذا بها تصبح ثوبا قشيبا للرثاء، وإذا بحبل المحبة الذي يربط القلوب يصبح في أيدي الأسياد قيدا لإرهاب العبيد وسوطا لتعذيبهم، وإذا بالتسامح يصبح تمثالا والمغفرة جمرة حقد.
ولكن مهما طال الشتاء فالصيف وراءه يطارده، والسحب لا تستطيع الثبات تحت حر الشمس، فانقض الشتاء وانقشعت سحب الغباوة، وامتدت شمس المعرفة تجلو الحقائق ...
فانبرى صاحب الصولة فيرومارس قائلا: ويحك! حديثك ينذرنا بالفشل؛ لأن المعرفة خير يمحق الشر الذي نحن جنوده.
فأجاب صاحب الحنكة ميديوموس: مهلا مهلا يا صاح، لقد سبق حديث سيدتنا ربة الدهاء أن الخير والشر توءمان منذ الأزل، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فإذا لم يكن ثمة خير ونحن جنود الشر فمن نحارب؟! - إذن، ماذا نفعل حين تمحق حرارة شمس المعرفة سحب الغباوة فتنجلي الحقائق؟! - إن زفرة واحدة من أنفاسي ملأت الفضاء قتاما، جعل أشعة الشمس الذهبية حمراء كالدماء. - لله درك، أما كان في وسعك أن تجعل ذلك القتام كثيفا يصد أشعة الشمس صدا ويعيد الظلمة إلى سطح الأرض، فتغيب المعرفة وتبقى الغباوة. - متى ظهرت المعرفة وانجلت الحقائق، عندئذ لا تستطيع قوة أن تقصيها عن فضاء العقول، فليس لي إذن إلا أن أستخدم المعرفة نفسها سلاحا لي لا سلاحا علي.
احمرت صفحة الشمس غضبا لمكر الذين عاثوا في الملكوت فسادا، وإذا أولئك الحمير العميان قد انفتحت أعينهم، وجعلوا يتبينون الملكوت في الكون، فإذا هم لا يرون ملكوتا لا في السماء ولا في الأرض.
رصدوا الأكوان كلها، وإذا الملكوت الذي مناهم به أسيادهم وقادتهم في الجهاد، إن هو إلا ظلهم يهرب أمامهم كلما أسرعوا وراءه.
رصدوا جنة السماء، فإذا هي قصية عنهم لا يبلغ إليها نور الشمس إلا بعد ألوف ملايين السنين، وإذا جنة الأرض جرداء ليس فيها غرس للهناء، وإذا هم لا يملكون إلا مساحة متر مربع سبقهم الدود إليه.
وهنا حدث رد الفعل، فقد صار الاحترام احتقارا، والعبادة تجديفا، والغيرة على الدين إلحادا، والطاعة تمردا، والجهاد ثورة.
فقال الفيلسوف جستوس: لله منها نفخة نفختها يا أستاذ فأغضبت الشمس، إن ذلك القتام الذي نفخته لسر عجيب. - ما هو سر يا عزيزي الفيلسوف، إن هو إلا دخان القلوب التي أحرقتها الشهوات النابتة من بذار سيدتنا ربة الدهاء في الصدور، إن هذه الشهوات لهي المعدن العجيب الذي نصنع منه أسلحتنا كلها.
فقال صاحب الصولة فيرومارس: وكان المنتظر أن تقوض تلك الثورة ملكوت الإنسان على الأرض؛ لكي نشيد على أنقاضه ملكوتنا، ولكن خاب الرجاء.
فقال ذو الحنكة ميديوموس: لم تكن تلك الثورة لتقويض الملكوت الأرضي بل لتقويض المثل الأعلى الذي شيد في قلب الإنسان - الملكوت السماوي - ولذلك وجهت الضربة إلى العروش والكراسي التي كانت أنصابا لهذا المثل الأعلى، فدكتها الثورة دكا، ولكن النوع البشري لا يكف عن طلاب مثل أعلى يوجه أبصاره إليه، فلكيلا يعود فاشلا، ينحت تماثيل أخرى لمثله الأعلى - الملكوت السماوي - جعلت أوري زناد القرائح بالشهوات لكي تقدح شرر مثل أعلى آخر يقوم مقام ذاك.
فقال جستوس: طبعا لم يعد مهماز التحريض يستكد غيرة الدين للجهاد، فكيف يثير الأسياد عبيدهم للقتال في سبيل المغانم؟ - لما زهدت الأقوام في الملكوت السماوي صارت تطمع بالملكوت الأرضي، ولما جابت شهوة النفوس ثارت شهوة البطون، فقام الفتح والاستعمار مقام الغزو والسلب، وانتهز الزعماء اضمحلال المثل الأعلى، ونصبوا بدلا منه مثلا أعلى آخر، أقاموا تمثال الوطن مقام تمثال الدين، أصبح الوطن دين الناس الجديد، وصار شعارهم «حب الوطن من الإيمان». حل الوطن محل الإله، وتحول الجهاد في سبيل الدين إلى جهاد في سبيل الوطن.
ارتفعت راية الوطن وانخفضت رايات العقائد الدينية، وصار ترنيم مختلفي العقائد «الدين لله والوطن للجميع»، فتأبط الله تعالى دينه وتوارى غاضبا، واحتضن الوطن قومه لكي يتغذى بضحاياهم من غير شبع.
خمدت حروب الأديان، واحتدمت حروب الأوطان، وصارت أناشيد الوطن «تنازع البقاء»، وترانيمه «البقاء للأفضل»، وأغانيه الحربية «السيادة للسوبرمان».
تقيأ الجنس البشري «الملكوت السماوي»، وهو يغص الآن بالملكوت الأرضي، ولم يبق لنا إلا ركلة واحدة لكي ندحرجه من ملكوت سعادته إلى جحيم شقائه الأبدي. (هتاف وتصفيق حادان).
ثم انبرى صاحب الصولة فيرومارس وقال: لا تتسرعوا يا إخوان، لم نزل في أول الجهاد، لم يزل النصر للمستقبل.
فقال ميديوموس: لم أعن أن جهادنا قد انتهى هنا، ولا أن مهمتي قد انتهت؛ لأن عملية الاستعمار لو نجحت لباء وزراؤكم بالفشل، ولكن يستحيل أن تنجح ما دام نجاحها لقوم لا يكون إلا على حساب هلاك قوم آخرين؛ ولذلك كاد حمير المطامع يفطنون إلى أن الوطن المعبود إن هو إلا آلة في أيدي القادة، كما كان الدين المفسود آلة في أيديهم؛ لأن إله الوطن ولد إلها جديدا أقوى من كل إله؛ إله المال، والفضل في ولادته لدهاء زميلنا صاحب الأبهة أرجنتوس وزير المال، وهو يشرح لكم لاهوته.
فوقف أرجنتوس وقال: أشكر لصديقي صاحب الحنكة ميديوموس تنويهه هذا، فهو قد استمر بتمهيد الطريق الذي شقته لنا سيدتنا ذات الدهاء، وأرجو أن لا تظنوا أن عمله قد انتهى هنا.
فقالت فينوموس: إني عالمة أن صاحب الحنكة ميديوموس لم يشرح لنا تفاصيل عمله، وإنما أجمل نقطه الأساسية، فأرجو منه أن يتم شرحه.
فقال ميديوموس: كنت أعتمد في عملي دائما على سلاح الشهوات، ولم يبق من نقطه الأساسية شيء غير مشروح سوى نقطة واحدة، وهي أني كنت أقيم من أمكر أهل الأرض سفراء لنا ينفذون دسائسنا؛ ولذلك أنشأت نظام الجاسوسية، ووكلت أمره لهؤلاء السفراء الذين خدموا جهادنا جليل الخدم، ولا متسع لذكر أبطالهم وخدمهم، وإنما أذكر واحدا منهم كان أدهى الدهاة، وقد استشهد في سبيل خدمه، وجاء إلينا يستقيل من منصبه بالرغم منه، فأقدمه لكم عسى أن تكافئوه جزاء عمله وتشجيعا لغيره، هو الأخ رسبوتين الراهب الروسي الداهية العظيم.
وأومأ ميديوموس إلى رسبوتين، فتقدم هذا، وقدمه إلى الرئيس بعلزبول قائلا: بارك يا سيدي عبدك الأمين.
فبسط بعلزبول يده قائلا: مرحى مرحى يا عزيزي رسبوتين، باسم دولة جهنم أشكرك وأمنحك الجنسية الجهنمية وأرقيك إلى رتبة رجيم، وأقلدك حسام الرجامة، فأنت منذ الآن في مصف الرجماء، ولك جميع حقوق الرجامة الجهنمية.
فقبل رسبوتين يدي بعلزبول وغمغم بكلمة شكر، ورمق فينوموس بنظرة حادة، فبسطت له يدها فقبلها قبلة حارة.
عند ذلك قال بعلزبول: نسمع الآن تقرير عزيزنا صاحب البهاء أرجنتوس وزير المال.
الفصل السادس
انبرى صاحب الصولة فيرومارس وقال ساخطا: أنا صاحب الحول والطول، أنا الذي أقام قيامة الحرب العظمى، وأنا الذي تحاولون أن تغمطوا فضله وتحقروا فعله.
فقال بعلزبول: ما الداعي لهذا التشكي يا فيرومارس. - كلما جاءت نوبتي في الكلام انتدبتم غيري، فما معنى هذا إلا التحقير لجهادي. - أنت مخطئ، نحن نتتبع أنواع الجهاد بحسب تسلسلها، ومساعي ميديوموس كانت تمهيدا لمساعي أرجنتوس.
فانبرى انفنتورس وزير الاختراع وقال: ومساعي أرجنتوس تمهيدا لمساعي التي هي تمهيد لمساعي فيرومارس.
فقال فيرومارس متمرمرا: أرأيت يا سيدي الملك كيف يجعل العامل الفعال آخرا؟ هذا ما لا أطيقه، أحتج وأنسحب وأتنازل عن المكافأة.
فقال فينوموس: معاذ الله أن نقبل انسحابك يا صاحب الصولة، بإذن جلالة الرئيس تكلم.
فهدأت حدة فيرومارس وطفق يتكلم: ما دامت بزور الشهوات تنبت فنبتها يزهر وزهورها تثمر وثمارها العداء والخصام، فالنزاع طبيعة في الإنسان، والقتال حتم عليه سواء كان لأجل الأديان أو في سبيل الأوطان، والعبرة في أساليب القتال التي تسقي الأرض دماء، ولا تشبع منها الأرض مهما أمطرت منها السماء إلى أن ينضب معين الملكوت الأعلى، ويتخم بطن الملكوت الأسفل.
تعددت الأسباب والحرب واحدة، فإذا لم يقتتل البشر لأجل الدين اقتتلوا لأجل المال، اقتتلوا لأجل الحب، وإن لم يقتتلوا لأجل الحب اقتتلوا لأجل البغض، فهم يقتتلون على كل حال، والعبرة في درجة احتدام القتال وفي اندفاع الجماهير إلى ساحة النزال، وفي حصد الرءوس «بالجملة» لا «بالقطاعي»، وهذا ما فعله خادمكم المطيع.
جندت الذكور شبانا وكهولا، وشغلت النساء والأطفال والشيوخ في مصانع السلاح، فجميع النساء استخدمت في الحرب.
حولت معامل السلع إلى معامل سلاح وذخائر.
حولت الاختراعات إلى أدوات الهلاك: الحديد للمدافع والدبابات والقطرات المصفحة والغواصات والبوارج والنسافات والأسلاك الشائكة والقنابل، وحولت الكيمياء التي يفاخر بها العلماء إلى مفرقعات وقذائف وغازات سامة ومكروبات فتاكة، والكهرباء إلى صوارع،
1
وغذيت الطيارات في بدء طفولتها فترعرعت عاجلا؛ لكي تصب الهلاك من فوق، كما تقذفه النيرات من تحت.
مددت خطوط القتال ألوف الأميال لكي تتقابل فيها ملايين الرجال، والردى بينها يتهادى ذات اليمين وذات الشمال، والأشلاء تتساقط كالنيازك في بطون الخنادق.
فانبرى انفنتورس بلا استئذان وصاح مقاطعا: ها، ها، صه، مه، حتى ما هذا الافتئات يا فيرومارس! تدعي لنفسك كل عامل من عوامل الحرب، وأنت لم تضرب إلا بسلاح غيرك، ولم تهجم إلا بساعد سواك. إذا كانت الاختراعات الحديثة أفتك آلات الحروب، فلأني أنا الذي كنت أوسوس لوزراء الحرب أن يحولوا كل اختراع جديد إلى أداة دمار وهلاك، فلولا وسوستي هذه لكان كل اختراع جديد لفائدة الجنس البشري وهنائه لا لتدميره وإفنائه.
فأجاب فيرومارس محتدا: ولو لم أوسوس لرجال الحرب أن القتال رياضة الرجال، وأن النصر فخر، وأن أكاليل الغار تنتظر القواد الكبار، لما تواثب الأبطال للنزال.
فقال انفنتورس: وهل تحارب الجنود بلا سلاح وبلا بنود؟
فقال فيرومارس: وهل تحارب الجيوش إذا لم تستفزها للحرب! فهل اختراعاتك استفزتها؟ - وهل تحارب الجنود لتتصارع كتصارع الثيران يا شيطان؟ - نعم، يكفي أن تتصارع ولا لزوم لاختراعاتك. - خسئت.
وكادا يشتبكان في صراع عنيف لو لم ينتهرهما بعلزبول زاجرا: صمتا وكفا عن الخصام أيها الغبيان، أفي موقف تناظر وتناحر نحن يا أحمقان؟! ماذا تركتم للبشر من صنوف العداء والخصام! نحن نعترف لكل من الرجماء الفخام بقيمة جهاده. الحرب لم تتم بعمل واحد لكي يحتكر هذا الواحد الفضل فيها لنفسه، بل كان جهاد كل واحد لازما.
عند ذلك نبهت المؤتمر ضجة من بعيد فوجهوا أنظارهم إليها، وإذا جمع لا يحصى عدده قادم، فقال بعلزبول: ما هذا؟ ما هذا؟
فقال انفنتوروس: أظنها مظاهرة.
بعلزبول: مظاهرة! حفاوة بأبطالنا؟ هتاف لهم؟
انفنتوروس: أظنها مظاهرة تذمر وشكايات، يا ذا الجبروت. - تذمر وشكايات! لماذا؟! - لا أدري تمام الدراية بالحقيقة، وإنما سمعت لغطا بأن الحرب الكبرى كانت فشلا.
فقال فيرومارس: إذن كانت اختراعاتك يا انفنتوروس نكبة لنا لا لأهل الملكوت.
فقال انفنتوروس: ألا تخبرنا ماذا كانت قيادتك لبني البشر في الحرب.
فصاح بعلزبول: صمتا يا خبيثان، أخلافكما أعالج الآن أم هذه المظاهرة المقلقة؟ هل لك يا ميديوموس أن تقابل هؤلاء المتظاهرين وتصدهم بالتي هي أحسن؟
فقال ميديوموس: من يستطيع يا مولاي أن يقف في سبيل السيل العرم؟ - لعل أوجستوس يستطيع أن يصرف هذا السيل في أقنية يمينا وشمالا حتى لا يصل إلينا إلا نزيز منه.
فقال أرجنتوس: لا يمكن حفر الأقنية في حالة الفيضان يا مولاي، إني أرى فيضانا متدفقا.
فالتفت بعلزبول إلى يمينه مكفهر الوجه كأنه يسترشد بدهاء عقيلته فينوموس، فنظرت فيه باسمة : لا تخف يا عزيزي دع السيل يتدفق في مجراه ولا تعترضه، لقد اصطنعت سفينة نركب فيها متن هذا الطوفان، إني أحسب حساب هوج الشعب في حالة هياجه، فمهما كان الفرد متعقلا فالجمهور أرعن، مهما تلاطمت الأمواج، فلا تتحطم السفينة إذا كانت بعيدة عن صخور الشواطئ، هلم نقابل الشعب قبل أن يصل إلى هنا. - ويحك! أتريدين أن نوقد ثورة جنونية بتهجمنا عليه. - لا نتهجم عليه بل نشترك معه بالمظاهرة. - سياسة هوجاء لا أفهمها. - لم يبق وقت للجدال، هلموا اتبعوني في الحال؛ فإني لكم قائدة في هذه المباغتة، هلموا.
ونزلت فينوموس عن عرشها ومشت نحو الجمع القادم، فلم يسع بعلزبول إلا أن يسير إلى جنبها، ولم يسع الرجماء إلا أن يتبعوهما.
وفي بضع دقائق لم يبق بين الجمع المتظاهر والجماعة المستقبلة إلا مسافة سمع الهتافات، فإذا جميع المتظاهرين يهتف: لتسقط الوزارة، لتسقط دولة الرجماء، لتحي الديموقراطية، لتحي الجمهورية، لتسقط الدكتاتورية.
فغمغم بعلزبول قائلا: هذا ما اكتسبه شعبي من أشقياء الأرض الملاعين.
وصاحت فينوموس: ليحي الشعب، ليحي الاتحاد، لتحي راية الأمة الجهنمية، لتحي حكومة الشعب.
وكان الرجماء من ورائها يرددون هذه الهتافات.
وما أصبح المجال بين الفريقين على قاب قوسين حتى توقفت المظاهرة، ورفع قادة الجمع أكفهم يعنون إسكات الجمع وتهدئة ثائره؛ لكي يفهموا ماذا يهتف الرجماء.
عند ذلك تقدمت فينوموس إلى مقدمة المظاهرة وأمسكت بطرف العلم الأول، وقبلته قبلات عديدة وهي تصيح: «(ليخفق) علم الشعب متعاليا»، فردد الجمهور هتافها، وقابله قادة المتظاهرين بالهتاف: لتحي ذات الدهاء فينوموس، ليحي ذو الجبروت بعلزبول.
ثم زجت فينوموس نفسها بين القادة وهي تقول: الدولة تشكر للشعب مظاهرته الابتهاجية في حفلة النصر، وتمتن لما أبداه من العواطف نحو الوزارة التي بسطت اليوم تقارير أعمالها المجيدة في حرب الملكوت البشري.
فتصدى لها كبير القادة وقال: ليست هذه مظاهرة ابتهاج يا سيدتي الموقرة، بل هي مظاهرة شكوى وتذمر. - أتذمر من جهاد عظيم لم يسبق له نظير؟ أشكوى من نصر باهر لم نكن نحلم به؟ - بل هي شكوى من أماني موعودة لم تحقق، وتذمر من تبجح بنصر وهمي. لقد سئم الشعب الانتظار عدة أدهار على أمل الانتصار، وضجر من آمال كالآل (السراب)، ولم يعد يطيق صبرا على هذه الحال، بل يبتغي تقرير المآل. - حسن ما يبتغيه الشعب، فليتفضل بانتخاب لجنة عنه تشترك مع جماعة الرجماء في تقرير المصير، فالحكومة تستند إلى الشعب، والوزارة لا تستغني عن مشورة الأمة، هلموا أيها الزعماء الأبطال معنا إلى دار الدولة لكي نتشاور في الأمر، اجمع زملاءك واتبعونا وفدا من قبل الشعب.
وارتدت فينوموس إلى جماعة الرجماء وقالت: لقد سكنت العاصفة، ولم يبق إلا النسيم يهب بتؤدة، فلنعد إلى الدار حيث نتنسم نسيم أخبار هذه الثورة، ولكل مقام مقال.
فقال بعلزبول: لا عدمتك داهية يا حبيبة القلب، هل أنت واثقة من أن النسيم الباقي ليس ريح سموم؟ - لكل سم ترياق يا عزيزي، فتشجع. - سمعت الهتاف للجمهورية، فهل الدولة دائلة؟ - وماذا يضيرك أن تسمى الدولة جمهورية، وأن يسمى ملك الدولة رئيسا للجمهورية؟ فالدولة تبقى دولتك، ولا يتغير إلا الأسماء.
فسري عن بعلزبول وتنهد الصعداء.
الفصل السابع
وعاد ملك الجحيم وملكته إلى إيوانهما، وتبوءا عرشيهما، والرجماء استووا في كراسيهم، ووفد إلى دار الدولة وفد المتظاهرين يرأسه مأجوج وهو رجيم عتي صلب العود، وتقدم مأجوج وزملاؤه عن يمينه وعن يساره وقال: الشعب يطلب حكومة ديموقراطية يا سادة.
فوجف بعلزبول وقال: هل خانت الحكومة الشعب حتى يبتغي الشعب حكومة أخرى؟ - لم تخن، ولكنها قصرت، هي حسنة القصد ولكنها كانت سيئة التدبير، والشعب يريد أن يكون الحكم شورى؛ لأن في الشورى الرأي الأسد.
فقالت فينوموس: لتكن إرادة الشعب، وليكن للشعب مجلس نواب يشور على الحكومة فيما تفعل.
فقال مأجوج: ويجب أن تسقط الوزارة وتؤلف وزارة أخرى ينتخبها مجلس النواب.
فقال جستوس: الوزارة لا تسقط إسقاطا. - تستعفي. - الإكراه على الاستعفاء مرادف للإسقاط القهري، كلاهما بمعنى واحد. - فسر ما شئت، الشعب غير راض عن الوزارة. - إذن الشعب يتهم الوزارة، وعليه أن يحاكمها، وعلى الوزارة أن تدافع عن نفسها حتى إذا ثبتت براءتها تستعفي من تلقاء نفسها بريئة شريفة. - هذا حق، ولمجلس النواب المنتخب أن يصرح بهذا الحق ويقره، وإليه تحتكم الوزارة.
فقالت فينوموس: الحكومة تقبل الوفد نائبا عن الشعب، والوزارة تحتكم إليه الآن.
فهمس بعلزبول في أذنها: ويحك! أليس المطل أقتل للثورة؟ فلنرجئ المحاكمة إلى ما بعد انتخاب النواب؛ إذ تكون حمى الثورة قد بردت. - لا، لا، إني أحس بدسيسة خبيثة، وأشعر بنار تحت الرماد، فيجب أن نطفئ النار قبل أن يزداد السعير، فالآن يجب أن يقضى الأمر، دع الوفد يناقش الوزراء، والوزراء مستعدون للدفاع، والوفد غير مستعد للتجريم. غر الوفد بسلطة لا يحسن استعمالها.
وفي خلال ذلك كان جستوس يقول: رأي سديد، وثقتنا بعدالة الوفد قوية، فليتفضل الوفد ببسط شكواه، هل يقبل الوفد الرجيم مأجوج متكلما بالنيابة عنه؟
فقال مأجوج: إني مفوض من قبل الوفد بالنيابة عنه. - تفضل تكلم.
فطفق مأجوج يتكلم: مرت أدهار ودولة الرجماء وعلى رأسها صاحب الجبروت الرئيس بعلزبول تمني الشعب الجهنمي باحتلال الأرض، أو امتلاك الملكوت البشري، واستعباد بني الإنسان بحيث يكون لكل شيطان عبد من الناس يأتمر بأمره ويخدم مشيئته، وإلى الآن لم يتحقق شيء من هذه الأمنية، وكان أنه كلما شبت ثورة أو حرب قلتم إن النصر لنا صار قريبا، وإننا صرنا على أبواب الملكوت البشري، فكانت تنتهي الحرب، وإذا أبواب ذلك الملكوت مقفلة في وجوهنا، فلا نستطيع أن ندخل ملكوت الإنسان فاتحين، ثم أبرقت البروق، وأرعدت الرعود إنذارا بشبوب حرب عظمى لا تبقي ولا تذر، وقلتم هذه آخرة الحروب التي تسقط فيها دولة الإنسان، وتتدمر مملكته، فندخلها ونبني مملكتنا على أنقاضها، ولكن انتهت هذه الحرب الشعواء، ومملكة الإنسان لا تزال قائمة، والإنسان يشتغل في تنظيمها من جديد لتغدو أرسخ بناء وأكمل سعادة له، فهذه الحرب العظمى التي منيتمونا بالنصر فيها كانت منتهى الفشل لنا، لا يزال باب الملكوت البشري موصدا في وجوهنا.
فقال بعلزبول: لا أنكر أننا حتى الآن لم نفتح الملكوت البشري فتحا مبينا بحيث نستطيع أن ندخله طغمات، ولكن هل تنكر يا جناب الرجيم مأجوج أن ألوفا وربوات من الشياطين تسربوا أفرادا إلى هذا الملكوت، وتغلغلوا بين أفراده وأسراته وفئاته وطبقاته؛ لكي يفسدوا ويعيثوا وينقبوا في أسس ذلك الملكوت؟ - هذا التغلغل حادث منذ القديم، ولكنه لم يدك ذلك الملكوت، فما هو إلا مهاجرة بطيئة من جهنم إلى الأرض، والمهاجرون لا يزالون غرباء يخزيهم الناس ويطردونهم مهانين، فنحن لا نرضى بفتح باب المهاجرة، بل نريد فتحا مبينا ونصرا كاملا وامتلاكا تاما للملكوت. - إن ذلك الملكوت مؤيد بقوة عظمى، فلا يسهل فتحه ما لم تصبح جميع قلوب بني الإنسان محتلة بالشياطين، ونحن لا نألو جهدا في الوصول إلى هذه الغاية. - مرت أحقاب وأنتم تدعون هذه الدعوى، فأي جهد بذلتم في هذا السبيل؟! - لو حضرتم مؤتمرنا منذ بدء انعقاده، وسمعتم مجمل تقارير رجال الدولة لعلمتم أننا فعلنا أكثر مما يلوح في بالكم. - لقد حضرت المؤتمر من أوله، وسمعت تقارير البعض فما توسمت منها إلا تقرير أعمال تمهيدية، فكأننا في أول المهمة، وقد تنقضي أدهار ونبقى حيث نحن. إلى الآن لم تفعلوا الفعل الحاسم؛ لذلك نريد إنشاء حكومة جديدة تنتقل من دور التمهيد إلى دور البت.
عند ذلك انبرى ذو البهاء أرجنتوس وقال: استأذن سيدتنا ذات الدهاء وسيدنا ذا الجبروت وزملائي أن أجاوب الأخ مأجوج، وأشرح له الأعمال المجيدة التي عملناها، وأبرهن له أننا تجاوزنا دور التمهيد من زمان، وأننا في دور العمل الناجز، وأن حرب البشر العظمى لم تنته بفشلنا كما يتوهم، بل انتهت بفاتحة دور النصر لنا. إن جهادنا الماضي أفضى إلى تلك الحرب الشعواء التي زعزعت ملكوت الإنسان، وأصبحنا الآن في دور تهديم جدران ذلك الملكوت جدارا جدارا ونقض أحجاره حجرا حجرا؛ لكي يسهل بعد ذلك كشف الأساس الذي نبني عليه دولتنا، لقد فعلنا كثيرا يا سيدي مأجوج، بل فتحنا ذلك الملكوت، ونحن على أهبة أن نبني ملكوتنا فيه، حتى متى تم بناؤه دخلنا إليه باحتفال عظيم، جيوش الحرب تفتح أولا والأمة تدخل بعد الفتح آمنة.
فقال مأجوج: ويحك! هل تحسب إنشاء جمعية الأمم التي ستكون أساسا لاتحاد الشعب هدما لملكوت الإنسان؟! هل تحسب تنبه طبقات الشعوب لحقوقها من حيث الحرية والمساواة زعزعة لأركان ذلك الملكوت؟! هل تحسب نهضة العوام لتنظيم الأمور الاقتصادية على قاعدة الاشتراكية تهديما لجدران ذلك الملكوت؟! - مهلا، مهلا، وتؤدة يا عزيزي مأجوج، دعني أشرح لك مقدمات النصر واحدة واحدة إلى أن نبلغ إلى هذه الظاهرات الاجتماعية، وحينئذ ترى ظاهرات هدم ذلك الملكوت. - ماذا عساك أن تشرح لنا أعظم من شرح ذات الدهاء وشروح ذوي الحنكة وذوي الصولة وذوي الفن، مما لم نر فيه إلا دعوى التمهيد للجهاد في سبيل الفتح، حتى صرنا نرى النصر أبعد عنا من الفرج عن اليائس ومن الحقيقة عن الحالم. - بل سأريك نصرنا قاب قوسين أو أدنى. - كيف تريني النصر وأنتم إلى الآن لم ترونا الجهاد الذي لا بد منه مقدمة للنصر؟! - أما أنا فقد جعلت النصر مقدمة للجهاد. - وي وي، لماذا الجهاد إذا كان النصر قد تم؟! - لم أقل أنه قد تم، بل جعلته هدفا للجهاد، فهو في حكم الواقع حتما، فقل معي: «النصر تم». - أراك تهيئ الإسطبل قبل أن يولد الحصان. - أي نعم، لو لم أبن الإسطبل لما ولد الحصان المطهم.
فقهقه مأجوج في إبان حماسته ونزقه وقال: أرنا الإسطبل لنرى المطهم الذي فيه. - بل أريك المطهم وقد ابتلع الإسطبل. - زه، زه، أنى كان لك صنع المعجزات يا ذا البهاء أرجنتوس؟ حتى ما تتباطأ عن قيادتنا في موكب النصر إذا كان في وسعك أن تأتي بهذا العجب العجاب، إن من يستطيع فعل المستحيلات يستطيع أن يغزو لا الأرض فقط، بل السموات أيضا. - وهو ما فعلت يا عزيزي مأجوج.
فحملق فيه مأجوج مشدوها ثم قال: أراك ثورا يكسر قرنيه نطاحا للصخرة وهو يحسب الصخرة تتكسر، أرى كأنك الزمان يجري في الفضاء، وهو يتوهم أنه يطوي في أذياله رحاب الفضاء، أو كأنك البيضة تظن أنها خلفت فرخا، وهي لا تدري أنها نتجت من فرخة. - بل أنا الشيطان الذي يخلق آلهة لبني الإنسان. - ويحك لا تزد . نكاد نخشى أن تزلزل الأرضين والسموات، وتدكها دكا فوق رءوسنا، فتردم بأنقاضها جهنم «حاسب». - لا تخف، إني عملت عمل الحارث الذي يقلب الأرض بطنا على ظهر، إني لرافع جهنم من تحت الأرض إلى فوقها. - حتى ما «الفشار» قل ماذا فعلت إن كنت لم تجن بعد. - أبدلت إلها بإله للبشر، خلقت لهم إلها براقا يأخذ بالألباب والأبصار، فما إن لمع لعيونهم حتى صرفوا قلوبهم وألبابهم عن خالقهم، وسجدوا لهذا الإله الجديد، وطفقوا يتفانون في عبادته. - أمن العدم خلقته؟ - بل من طين الأرض استخلصته وصنعته تمثالا بديعا. - أظنك نفخت فيه نسمة الحياة. - بل نفثت فيه سما زعافا، فظاهره بهاء وجمال، وباطنه شقاء ثم اضمحلال. - وهل له يسبحون ويمجدون؟ - وهل لغير المال يسبح أهل الأرض الآن؟
فصاح بعلزبول: مرحى مرحى يا أرجنتوس. إن إله المال رب الأجيال وسيد الآجال والقابض على أزمة الآمال.
فقال مأجوج: لبئس إلها خلقت يا أرجنتوس، إله يسعد الناس على الأرض ولا يحرمهم سعادة السماء، فأنت هدام دولة الزبانية وباني مملكة البشر. - بل هو يحرمهم سعادة الدارين معا، فعبادتهم له اقتتال في تنازع ذراته. - أما أفنوه بتنازع ذراته حتى الآن؟ - يفنون هم ويبقى هو. - مهما كان براقا جذابا فما هو إلا مادة ترابية، ولا قوة للتراب؛ إذن لا سلطة له عليهم.
فهز أرجنتوس رأسه مصرا وقال: بل هو إله قدير على كل شيء يا عزيزي مأجوج وحاضر في كل مكان، فحيثما ظهر كان صاحب السؤدد الذي تخضع لسلطانه الجبابرة، وتخر لصولته الجموع. - كفى إطنابا بصولة إلهك هذا الذي اخترعت، فقد رأيناه في أشد الأزمات أضعف من خنفسة، يوم حبس جمال باشا السفاح القمح عن لبنان كان الرغيف أعظم قيمة وأسمى شأنا من مثل وزنه ذهبا. - لأن جمالا جرد صفة المال من الذهب وجعله صفة للقمح، صار القمح مالا يتضرع إليه الجياع. - إذن، مالك هذا الذي تؤلهه ليس إلا صنما أصم أبكم لا عقل له ولا إرادة، فلا تأثير له على حرية البشر، بل هم يجردونه من صفات الألوهية متى أرادوا، وينسبون هذه الصفات لغيره متى شاءوا.
فعاد أرجنتوس يهز رأسه اعتدادا واعتزازا وقال: بل هو الإرادة المطلقة التي تسير الأنام، وما كان جمال السفاح إلا أداة في يد هذا الإله ينفذ إرادته.
عندئذ انبرى آدمي إلى رحبة المناقشة وصاح بملء فيه: أنا جمال السفاح! أقر وأعترف أني كما قال ذو البهاء البعل أرجنتوس: أداة بيد المال الذي خلقه، وكنت بقوته أفعل وبإرادته أتحرك، ولولا المال الذي وضعت نفسي وجيشي تحت أمره لما استطعت أن أميت لبنان المتمرد جوعا، فالمجد والتسبيح لإله المال.
فقال أرجنتوس: شكرا لشهادتك الناصعة في حينها يا جمال يا بطل الأبطال.
فانبرى هأجوج زميل مأجوج وقال: كفى سفسطة يا هؤلاء! تعزون للمال عقلا وإرادة وسلطانا، وما هو إلا نتيجة عمل الإنسان، فإذا الإنسان متسلط على ماله يتصرف به كما يشاء.
فقال أرجنتوس: مهلا أرك! إن مال الإنسان متسلط على الإنسان. لما صار المال ينوب عن نتيجة العمل أو يمثل العمل، رأى الإنسان أنه في وسعه أن يقتني بماله ما يشتهي؛ فأحب المال وعشقه، شغف به وألهه، وصار يتفانى في سبيل جمعه وادخاره، شعر أن في يده قوة تخضع له من لم يكن ذا مال.
فقاطعه يأجوج قائلا: إذن جعلت المال حصانك المطهم يمتطيه فارسه الإنسان. - بل جعلت الإنسان حصانا يمتطيه المال ويكزه في خاصرتيه حتى يدميهما؛ فهناك عابد للمال طامع به، يتفانى في سبيل جمعه بكل وسيلة، يضحي لأجله براحته وقوته وذمته وشرفه، ثم يضن به على الرحمة والصدقة، ويقتر على نفسه حرصا عليه، ولا يكف عن الحرص والجهد والتقتير والبخل إلى أن يموت ويفنى، والمال هو الحي الباقي. وهناك كافر بالمال سفيه يبدد ما جمعه منه غيره إنفاقا على شهواته وملذاته الجسدية التي تتلف جسده ونفسه معا، إلى أن يهجره إلهه هذا نقمة عليه، حتى متى عضه ناب الفقر هرع إلى هيكل المال متضرعا مستغيثا تائبا، ولكن هذا الإله حقود قاس لا يقبل توبة التائبين، وهناك مسترزق لم يكن يعلم صولة المال، ولكنه في يوم عصيب احتاج إلى غوثه، فلجأ إلى هيكله متوسلا إلى كاهنه الذي يمجده أن يقرضه رأس مال يستعين به على إدارة عمله، يقترض بربا، ولا يلبث هذا الغبي أن يرزح تحت عبء الدين، فيشقى في الجهاد لتسديد رأس المال والربا معا، وعبثا يسعى ويجاهد؛ لأن ذلك الكاهن المتعبد للمال يتسلط عليه بقوة المال، ويمتص دمه ويرتوي بعرق جبينه.
فقاطعه مأجوج قائلا: تعني أن الناس في دولة المال فريقان: فريق يشقى، وفريق ينعم على حساب شقاء ذاك؟
فقال أرجنتوس: بل الفريقان يشقيان معا؛ ذاك قلق على ماله، وهذا يبذل عرق جبينه في إناء ذاك حيث يتبلور مالا، وكلا المالين يقدمان في هيكل المصرف محرقة للإله. - ولكن إلى الآن لم نفهم كيف جاهد حصانك المطهم في حرب الفتح؛ فتح ملكوت الإنسان؟! - إن هذا الحصان يا عزيزي مأجوج مجاهد في حرب دائمة بلا انقطاع منذ عهد آدم إلى اليوم، وسيبقى مجاهدا حتى يهلك هو وفارسه معا، وقد اخترعت المصارف لتكون من جملة الهياكل التي يعبد فيها المال، وفيها يقدم العاملون والمتحايلون على استقطار عرق العاملين، قرابين جهادهم العنيف في جمع المال، وهناك يركعون ويسجدون لتماثيل المال ويصلون لإله المال؛ لكي تنمو ثرواتهم وتكثر متوالدة وتملأ الأرض! - تتوالد؟! - نعم، جعلت المال يولد ويلد مالا وينمو ويتكاثر، أليست المرابحة والمراباة مولودي رأس المال؟! ثم لا يلبث الربح أن يشب ويترعرع ويصير رأس مال كأبيه يلد أرباحا، وهكذا دواليك! - ولكنك قلت إن المال نتيجة العمل، هو عرق الجبين المتبلور مالا، فكيف يولد المال بلا عمل؟! - فأجاب: المال المولود من العمل يتغذى من دم العامل، وأما المال المولود من رأس المال فأغذيه من الهواء! - ويحك! إذن جعلت الهواء قوة مال في أيدي البشر، فأنت تقوي البشر! - نعم، لو كان الهواء قوة، ولكن ليس إلا هواء أو هوسا، وأهل المال يبنون فيه قصور ثرواتهم الشامخة الباذخة! وأي بناء يثبت في الهواء؟! - إذن؟ - إذن الإله الذي يتغذى هواء لا يكون أقنومه إلا الريح، فذوو المال يقبضون الريح. - لم أفهم: كيف يتغذى إله المال بالهواء؟!
حلما يا عزيزي وتعطفا بالإصغاء! استنبطت هياكل تقدم إليها قرابين الأموال، ومذابح تقدم لها ضحايا الجهل والعمل حيث تطبخ لتغذية إله المال.
فقال مأجوج ضاحكا هازئا: إني أشم رائحة زكية شهية في مطابخك يا أرجنتوس. - إنها لشهية جدا يا عزيزي! فأول مذبح هو مذبح الشركات المالية، تضحى فيها رءوس الأموال الكبيرة، وتطبخ طبخا ينضج في عمل كبير يشتغل فيه ألوف العاملين، هؤلاء يكدون ويكدحون ورءوس المال تجني عرق جبينهم أرباحا، والمساهمون كالعاملين يشقون في تغذية إله المال، وهذا الإله يضخم وينتفخ في هيكل الشركة، ولكن ما هو؟ هو إله هوائي أثيري، ليس إلا قيودا في دفاتر المصارف والأسهم والسندات، وأما نتاج العمل فالنزر اليسير منه يستهلكه هؤلاء بتقشف، وأولئك ببذخ وتهتك، والوافر منه مخزون لكي يستهلكه السوس والصدأ وعفونة البلى. - حقا ويقينا أني أشتم رائحة العفونة الكريهة من هذا المطبخ، وأرى السوس والدود والجراثيم تكثر وتملأ الأرض على حساب العمل ورأس المال. فعسى أن تكون رائحة المطبخ الآخر نكهة يا أرجنتوس! - أما المذبح الآخر الذي أغذي بقرابينه إله المال فهو يا عزيزي أعظم من ذاك وأفخم! والقدور فيه أشد غليانا، ومطبخه سوق الأوراق المالية. - الأوراق المالية! وماذا جرى بالتمثال الذهبي البديع الجميل الذي ابتدعته أولا للعابدين؟! - لما عظم هذا التمثال الذهبي واستنفد كل ذهب الأرض نصبته في قدس أقداس الخزائن الحديدية؛ حيث لا يصل إليه إلا كهنة المال، ويبقى محجوبا عن عباده؛ لأن حجبه عن الأعين يزيده قيمة ومهابة وسموا، ويذكي نار الشوق إليه، واصطنعت بدله من الورق أيقونات وصورا رامزة له، فعباد المال يسجدون الآن للورق بدل الذهب!
فقال مأجوج: تعني أنهم يسجدون للصور بدل التماثيل! ولكن موسى قال: لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء أو على الأرض، فأنت لم تكسر إلا حرفا واحدا من الناموس. - كسرت الحرف الآخر؛ إذ جعلت الصكوك وقيود الحسابات في الدفاتر تنوب عن عملة الورق، فأصبح البشر حافظي شريعة موسى حرفيا، لا يعبدون التمثال ولا الصورة؛ صورة البنكنوت، بل يعبدون حبرا على ورق الدفاتر فقط!
فقال هأجوج مقهقها: لا يستبعد أنك ترينا يا أرجنتوس عباد الإله الجديد يسجدون للتراب والهواء والماء. - والنار أيضا يا عزيزي! ستراهم كالفراش يحوم حول لهيب المصباح إلى أن يحترق فيه، سترى إلههم الجديد لهيبا يلتهمهم! - مرحبا بهم! عندنا لهيب لا يطفأ! - إنهم لفي غنى عن لهيبنا يا صاح! إني لجاعلهم هشيما ملتهبا، يأكل بعضه بعضا.
فقال مأجوج: حقا إني أحس بحرارة مطبخ آخر شديد اللسع، فما هو المطبخ الآخر؟ - هو سوق الأوراق المالية كما قلت آنفا، مطبخ تشتعل فيه تلك الأوراق بلا انقطاع، وتختنق بلهباتها ودخانها الأنفاس، صارت أسهم الشركات وسنداتها سلعا تباع وتشرى كأنها الخبز والإدام والكساء، وعباد إله المال يتهافتون على البيع والشراء، والأسعار كلجج البحر الخضم تعلو وتسفل، والعباد يتخبطون فيها فيعتلي بعضهم ظهور بعض، بينا هم يغرقون في تلك اللجج الصاخبة. ليت عينك ترى سوق الأوراق في «وول ستريت
Wall Street » (في نيويورك)، وتشاهد أولئك العباد في حب إلههم هذا الذي يلقبونه «ذي أول ميطي دللر
The Almighty dollar » هناك ترى ألوفا محتشدين في هيكل المضاربات، وقد دفع كل منهم مائتي ألف ريال أجرة كرسي له في السنة، وهم لا يقعدون على ذلك الكرسي؛ لأن حرارة الأسعار هنيهة وبرودتها أخرى تقيمهم وتقعدهم، وصلاتهم في ذلك الهيكل ضجيج ولغط وجلبة وبلبلة ألسن، لم تسمع مثلها يوم برج بابل، لم يبق في الإمكان ابتلاء بني آدم نكبة أفدح من ذلك الجنون، هناك طردوا إله البرايا والأكوان، فولى ظهره عنهم تاركا إياهم لرحمة ربهم الثاني الذي لا رحمة له ولا عدل عنده، ألقاهم هذا الرب في مرجل من الأسعار يغلي، ويرتفعون فيه وسيغلون تبعا لارتفاع الأسعار وهبوطها، فبين ثانية وأخرى ترتفع ثروات إلى الأوج، وتهبط ثروات أخرى إلى الدرك الأسفل؛ لأنها ثروات قائمة في الهواء، هي أحلام في اليقظة، ينقضي النهار ويفرنقع أولئك العباد عن هيكلهم؛ بعضهم إلى البذخ والترف والتهتك والخلاعة والفجور، وبعضهم إلى البؤس واليأس فالانتحار، هذا مطبخ يغذي رأس المال غذاء هوائيا ويسمنه. - إي وربك! إني أره متورما جدا من شدة سمنته. - أجل هو كالمنطاد المنتفخ وجوفه مملوء غازا، فلا يلبث أن يتمزق من شدة الانتفاخ فيسقط ويكون سقوطه عظيما. - ولكن هذا المطبخ لا يغذي إلا فئة الرأسماليين، أو هو هيكل لا يحتوي إلا المتمولين، كأن إله المال حرم العامة من الغذاء. - لا، لا، لقد بنيت للعامة هياكل تأويهم جميعا، وهم يتزاحمون فيها كأولئك لتقديم القرابين والأضاحي على مذابحها.
فمنها هياكل التأمين (السيكورتاه) ضد الحريق، يقدم المتمولون كبارا وصغارا عشور عقارهم وسلعهم قرابين لشركات التأمين في هيكل العوام هذا، فالمحتال منهم يحرق عقاره أو متجره خلسة، ويأخذ قيمته من مجموع أعشار المغفلين الآخرين الذين لا يعرفون أساليب الاحتيال، وتبقى لرأس المال بقية وافرة تسمن بها الشركة، ومنها هياكل التأمين على الحياة تغري العوام المجاهدين في تحصيل الرزق بوفر كبير من المال لقاء أقساط صغيرة يدفعونها، حتى إذا عجز المؤمن عن تسديد الأقساط التهمت الشركة القسم الأكبر مما دفعه، وهكذا تنمو الشركة وتعظم وتتضخم على حساب العامة المغفلين. وهناك شركات لفنون التأمين العديدة، وكلها أداة نصب يحتال بها لقنص نتاج العامة المغفلين. - تعني أن المحتالين يتنعمون على حساب المغفلين؟ - لا يتنعم أحد؛ لأن المحتالين يحتال بعضهم على بعض أيضا في هيكل المضاربات حيث لا يطمئن لهم بال، فهم كالذئاب يتربصون بعضهم لبعض. ثم استنبطت هيكلا آخر جذابا، لا يضل عنه الفقير المعدم، يطمع بالربح منه كل معلل نفسه بالآمال حتى من الهواء، يؤمل أن تهبط الثروة عليه من الفضاء الخالي! - لقد فقت في اصطناع المعجزات موسى الذي استخرج من الصخرة ماء؛ لأنك تستخرج ثروة من الهواء، كأنك تجعل الهواء يتبلور ذهبا! - نعم، على مذبح «اليانصيب» (اللوترية) يتبلور الهواء ذهبا، بل ماسا! استنبطت مشروع اليانصيب ليغوى به الهائمون وراء الثروة، ينشدونها بقوة البخت، فيتمادون في شراء أوراقه، وكلما خابوا أملا مرة تجدد أملهم بالربح من «نصيب» آخر فيشترون، فهم يقترون على أنفسهم لكي يقدموا جهادهم ضحايا على مذبح الإله. وقد تفننت «بالنصيب» فنونا ، وجعلته ضروبا مغرية للجمهور، حتى إني جعلت هذا الاختراع الشيطاني أداة للمشروعات الخيرية، يمتص به دم الفقير بدعوى الإحسان إلى الفقير، بل سخرت به القصد الخيري لغرض «النصب»، وابتدعت إلى جنبه فنون المراهنات والقمار المختلفة كوسائل لاستنزاف دماء الناس؛ لكي تحرق على مذبح إله المال!
فقال مأجوج: نعما هذا الإله الذي خلقت يا أرجنتوس! ولكنه إله يسعد فريقا على حساب فريق آخر، فما زالت السعادة ترفرف على الأرض، وقد تدفقت على فئة، وإن كانت قد نضبت عن أخرى! - بل جعلتها سعادة ضئيلة مضطربة، لا يكاد نورها يلمع لقوم حتى ينطفي وينسدل عليهم ظلام الشقاء الدامس، فتكون منفعتهم أعظم من لذتهم، فيهبون لمقاتلة بعضهم بعضا «تنازعا لها»، فهم منذ خلقت لهم هذا الإله الفتان منشغلون في حرب دائمة عن خالقهم، حتى صار في عالم نسيانهم، وفيما هم لاهون في آمالهم ينغمسون في شقائهم، وفيما أن خيرات ربهم الأرضية تغمرهم غمرا يكدحون أي كدح في جمعها؛ لكي يحرقوها على مذبح الإله الذي خلقت، حتى إذا فاضت عليهم أتلفوها في حروبهم. لقد بلغ الشقاء منهم منتهاه حتى كفروا بخالقهم وهم يجدفون عليه، أليسوا لأجل المال يقتتلون؟ إذن لقد ابتدعت المال فتنة لبني آدم وجعلته أداة للآثام والمعاصي، لولاه لما عصي البشر وصايا موسى العشر، بل لولاه لما وجدت تلك الوصايا! أليس لأجل المال يسرق ابن آدم ويقتل ويكذب ويشهد زورا ... إلخ؟ أزل المال فلا يبقى لزوم للوصايا العشر التي نحتها موسى في اللوحين الحجريين، فهل نصر أعظم من هذا يا سادة؟!
فدوى المكان بالتصفيق ثم بالهتاف: مرحى مرحى، أرجنتوس خالق إله المال الشيطاني!
وبقي مأجوج مبهوتا برهة إلى أن قال: ولكن بين البشر حكماء كلما أدركوا أن إله المال شيطاني، وأن الوطن إله إبليسي، قاموا يدعون الناس إلى الاشتراكية التي تكسر تماثيل المال، كما كسر موسى تمثال أخيه هارون الذهبي، وإلى «الأممية» (إنترناسيوناليسم)؛ أي تآخي الأمم الذي يحطم أسلحة الحرب، فإذا نجح هؤلاء الحكماء عاد البشر إلى خالقهم، وأسبغ عليهم سعادة لا تنقضي ، سعادة الألف سنة الأبدية. - هذه مهمتنا منذ اليوم، وهي أن نحبط مساعي هؤلاء الحكماء، ولنا الأمل الكبير بإحباطها ما دامت الشهوة التي زرعتها سيدتنا ذات الدهاء يانعة في القلوب!
لهذا نريد أن تكون لنا حكومة ديموقراطية تستمد قوتها من مشورة الشعب؛ لكي تنجح في إحباط مساعي الحكماء.
فقالت فينوموس: إني أحبذ هذا الاقتراح، فلينتخب الشعب برلمانه منذ الغد، والحكومة تنزل على إرادة الشعب.
فهتف الجمهور لذات الدهاء فينوموس.
الفصل الثامن
وكانت الأخت جوكوندا تسمع تلك المناقشات ذاهلة مدهوشة، وصديقها الراهب سلفستروس يهزها كل برهة قائلا: «هلمي نعد. لقد حان ميعاد صلاة العصر.» وهي تجاوبه: «لا بأس من تأجيل فرض الصلاة ريثما ينتهي هذا الاجتماع لنرى ماذا يكون من أمره.» وأخيرا استأذنها سلفستروس لكي ينفرد بعيدا للصلاة، وبعد ذلك انفض الاجتماع، وامتزج الأبالسة بعضهم ببعض.
وكانت جوكوندا معجبة بدهاء أرجنتوس وفصاحته وبلاغته في الدفاع، فندر أن حولت نظرها عنه، فلفت نظره انتباهها الدائم له، فلما انحل عقد الاجتماع رآها تومئ إليه أن يقترب، فتقدم إلى تحت الشرفة التي كانت جالسة فيها وقال: هنيئا لحضرة الحسناء الموموقة، لقد رأيتك يا سيدتي منتبهة جد الانتباه لمناقشاتنا، لعل مؤتمرنا كان تفكهة لك. - بل أثار نفسي وجعلها مضطربة إشفاقا عليكم ومنكم؛ لأنكم عبثا تجاهدون لأجل فتح ملكوت الإنسان واحتلاله بالوسائل الشريرة.
فقال: بماذا نفتحه إذن؟ أبالصلاة والصوم؟ ذلك الملكوت الأرضي هو جنة لنا، وقد طردنا من الجنة طردا، فاضطررنا أن نحارب أهل ذلك الملكوت لكي نفتحه ونحتله، ولا سلاح لنا إلا الشر.
فقالت: ألا تعلمون أن الله حارس ذلك الملكوت؟! فكيف تؤملون أن تفتحوه وتحتلوه؟! - يلوح لي يا حسناء أن دائرة علمك مرسومة في بقعة محدودة من الأرض، ولا تعلمين أن الله المقيم في أعلى السماوات مشرف على الكون العظيم، لا يكاد يفطن لوجود الأرض، وهي ليست أكثر من ذرة في الكون المشتمل على ربوات الأجرام التي أصغر جرم منها يمكن أن يبتلع الأرض ويقول لم أبتلع شيئا. يمكن الحوت أن يحس بوجود ميكروب في بطنه أكثر مما يحس أي نجم بالأرض إذا دخلت في جوفه، فلا تبقى الأرض في بال الله وهو يرعى ربوات الأجرام في أفلاكها.
فقالت متجهمة: لا أفهم هذا الهذيان أيها الرجيم أرجنتوس! إن الأرض أهم جرم في الكون؛ لأنها تحتوي على الإنسان الذي هو أهم مخلوقات الله. - عفوا ومعذرة يا سيدتي، لا أدري ما هي الفلسفة النسائية التي تلقنتها لكي أتجنب القول الذي يبدو لك هذيانا. - كنت راهبة في الدير، وقد تعلمت اللاهوت وعلمت كل شيء عن قدرة الله وعلمه وقداسته. - مرحى مرحى! لا ريب أنك فيلسوفة بارعة، وفلسفتك الباهرة جعلت الكون كله متقلصا حتى شملته الكرة الأرضية التي هي ملكوت الإنسان.
فقاطعته قائلة: والسماء ملكوت الله، وجهنم ملكوت الشيطان. - أي نعم، وأما ملايين النجوم فليست إلا مسامير ذهبية، ترصع قبة السماء اللازوردية. - بل هي مصابيح أنوار الله تستنير بها الأرض. - لله ما أسعد حظ الأرض التي خصها الله بمصابيح أنواره! - إن الله جعل كل ما في الكون لمسرة الإنسان حتى الملائكة، جعلهم خداما للناس الصالحين. - لله ما أسعد الإنسان وأعظمه حتى جعل الله كل همه مسرة الإنسان! - طبعا؛ لأن الإنسان يمجد الله. - طبعا، طبعا، ولا يظهر مجد الله إلا إذا مجده الإنسان. - طبعا؛ لأن الإنسان وحده يفهم قدرة الله وقداسته. - صدقت، ما كان أسخف عقل داود صاحب المزامير حين قال: السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. لأن السموات والأفلاك لا عقل لها لتفهم قدرة الله وقداسته، فكيف تمجد الله؟! لقد أخطأ داود بهذا القول خطيئة لا يعد قتله لأوريا لكي يحتظي امرأته شيئا بإزاء هذه الخطيئة المميتة. - داود عنى أن الإنسان حين يتأمل عظمة الخليقة يمجد الله الذي جعل كل ما في الكون لمسرته. - إذن، الله والإنسان يتبادلان المسرة بالتمجيد، وإذن فضل الإنسان على الله أكبر من فضل الله على الإنسان.
فقالت جوكوندا محتدة: صمتا! ما هذا التجديف الخبيث. - أين التجديف يا سيدتي؟ من كلامك أستنتج مقالي. - لم أقل أن للإنسان فضلا على الله، أستغفر الله. - أليس التمجيد أعظم من المسرة يا سيدتي؟ أوليس الإنسان فاعل التمجيد والله فاعل المسرة؟! - الإنسان لا يستطيع أن يفعل شيئا إلا بقوة الله، فلا فضل له بتمجيده الله، بل التمجيد والتسبيح واجبان عليه، والله يثيبه عليهما مسرة في الدنيا وسعادة في الآخرة. - لله درك لاهوتية؛ فيلسوفة قديرة في الجدال، فاسمحي لي أن أستفيد من علمك العظيم، كيف يمجد الناس الله ويسبحونه؟ - يمجدونه ويسبحونه في الكنائس والمعابد بالصلاة والترتيل. - كم من الناس يدخلون المعابد والكنائس؟ - ألوف وألوف. - الناس يعدون بالملايين لا بالألوف؛ إذن الذين لا يدخلونها ملايين وملايين، وهل تعتقدين أن أولئك الألوف المصلين المرتلين المسبحين الممجدين لم يكونوا في أثناء صلاتهم وترتيلهم مفكرين باختراع الدسائس والمكائد بعضهم لبعض، حتى إذا انصرفوا من معابدهم يشرع بعضهم بإيذاء البعض؟! - الله فاحص القلوب، يجازي كلا حسب عمله، فينقل الصادقين إلى السماء، ويرذل المنافقين إلى جهنم النار.
فضحك أرجنتوس ملء شدقيه وقال: هل رأيت في السماء قديسين كثيرين؟! - السماء مكتظة بهم. - وما ظنك بنسبة مساحة السماء إلى مساحة جهنم؟! - ما الغرض من هذا السؤال السمج؟! - قصدي أن تعلمي منه أن السماء كقمة الهرم وجهنم كقاعدته، وكلتاهما مكتظتان بأهلهما. - وهب الأمر كما تقول، فماذا فيه؟ - قصدي أن أسأل: أما كان في وسع الله أن يجعل كل الناس صادقين، فينقلهم إلى سماء أوسع وأرحب من قاعدة الهرم، فتصبح جهنم أضيق من قمة الهرم؟! - إن الله خلق الإنسان حرا في سلوكه يختار مصيره لنفسه لكي يستحق السماء أو جهنم. - إذن لم أخطئ حين قلت: إن الله بعد أن خلق الإنسان على الأرض وزوده بالحرية ليختار مصيره تركه في عهدة حريته، ولم يعد يبالي بالأرض الحقيرة، ولعله نسيها؛ لأنه منشغل بإدارة الأكوان العظيمة. - لا تؤاخذني، لا أستغرب هذيانك هذا؛ لأنك تجهل أن الله لا يهتم بالأكوان عشر معشار اهتمامه بالأرض التي خلق فيها أعز مخلوقاته عنده - أعني الإنسان - لكي يمجده، فما نسيها كما تقول، وإلا لما كان يرسل لها كل حين بعد آخر الرسل والأنبياء لكي يعلنوا مشيئته للناس ، ويدعوهم للتوبة ولعبادته وتمجيده. - كيف يمجدونه؟ وأين؟ وبماذا؟ أفي المواخير والحانات والمراقص والمقاصف وأندية القمار ودور المضاربات؟ أم في فظائع الحروب والاستبداد والاستعباد؟
فقاطعته: كل هؤلاء الذين تشير إليهم ليسوا من عباد الله الصديقين. - من بقي من الناس غير هؤلاء؟ هل تعرفين أحدا غيرهم؟ - أعرف كثيرين من الكهنة والرهبان والراهبات والأتقياء.
فتبسم أرجنتوس وتلمظ لعابه ثم قال: تعنين بالأتقياء أمثالك؟ - نعم، وهم كثيرون. - وعندنا منهم كثيرون أيضا دعينا منهم، واسمحي لي بسؤال: أما كانت تلوح في بالك أفكار شريرة حين كنت تصلين؟
فترددت جوكندا في الجواب ثم قالت: لا أنكر هذا. - أوما كان يخطر ببالك أن تبحثي عن سبب تلك الأفكار؟ - طبعا، سببها الشيطان، وكنت أخزيه برسم إشارة الصليب على صدري. - أوليس لهذا يكثر الأتقياء رسم إشارة الصليب لكي يطردوا الأفكار الشريرة؟ - طبعا. - يا ترى لو رسموها ألف مرة كل دقيقة هل كانت تكفي لخزي الشياطين، إذا كانت كل إشارة واحدة كافية لطرد فكر شيطاني واحد. - إشارة واحدة تطرد مليون شيطان. - كيف يستطيع الشيطان أن يصل إلى قلب النقي حين يكون مصليا؟ - الشيطان ملعون لا يكل عن مصادرة قلوب الناس. - والله يا سيدتي الشيطان ليس زائرا متطفلا، فلا يأتي إلى قلب إنسان إذا لم يستدعه ذلك الإنسان إليه، ولو كان أولئك المتعبدون يبتغون دائما أن يخزوا الشيطان برسم إشارة الصليب لكانوا مضطرين أن يرسموها كل هنيهة مدى الحياة، ولو كانت إشارة الصليب تطرد الشياطين لفرغت جهنم منهم؛ لأن فيها الآن من ذوي الصلبان كثيرين، ولا تزال الصلبان معلقة على صدورهم.
فسخطت جوكوندا: هذا الكلام كله كذب، الصديق لا يدعو الشيطان إلى قلبه أبدا، بل هو يتوسل إلى الروح القدس أن يحتل نفسه، ولكن الشيطان اللعين يحاول أن ينجس نفسه ويفسدها. - أنا معك، أسلم بهذا، وإذن فالشيطان أنجح من الروح القدس في احتلال القلوب، وإلا لما كانت جهنم مكتظة بالخطاة.
فتململت جوكوندا وقالت محتدة: إن أولئك الذين رذلوا إلى جهنم طبيعتهم شريرة، فلم يطلبوا الروح القدس لكي يطهرها من الشر ...
فأتم أرجنتوس الكلام: ... فطلبوا الشياطين، فلبت طلبهم واحتلت قلوبهم.
واسترسلت قائلة: وأما الأبرار الصديقون فلا تستطيع الشياطين أن تحتل قلوبهم. - أين الروح القدس؟ لماذا لا يحتل جميع القلوب ويطهرها من الشرور؟ - الروح القدس لا يدنو إلى إنسان جعل قلبه منزلا للشياطين. - إذن أتعتبين على الشيطان إذا وجد قلبا خاليا فتمكن فيه. - تبا للشياطين الملاعين، لا أفهم ماذا يريدون من تدنيس قلوب الناس. - عجبا! كيف لا تفهمين يا حسناء! أما فهمت بعد أنهم يغزون ملكوت الإنسان لكي يفتحوه ويحتلوه! - لا يستطيعون أبدا؛ لأن الله ساهر على شعبه، يجدد قلوبهم كلما دنستها الآثام. - ونحن ساهرون في نضالنا، فنظل نفسد أهل الأرض، إلى أن يمل الله سهره عليهم، ويتخلى عنهم وعن ملكوتهم، وعنده كون عظيم أجدر منهم بعنايته. - لا يمل الله العناية بشعبه؛ لأنه وعد أن يجعل الأرض دار السلام وهناء ألف سنة، وسنة السلام ملايين الأحقاب، فلا يكف عن بث الفضيلة في الناس إلى أن يصلحوا لذلك الدور السعيد. - ونحن نظل نفسد الأرض لكي نبعد ذلك الدور السعيد، وندخل الأرض فاتحين، فإما أن ننعم بذلك الدور السعيد مع البشر، أو أن يتخلى الله عنهم، ويترك ملكوت البشر، فنحتله نحن ونستعبد البشر. - وكيف تنتظرون أن تبقى الأرض جنة لكم إذا تخلى الله عنها؟ - تبقى أهنأ لنا من جهنم!
فتململت جوكوندا وبقيت صامتة هنيهة مفكرة ثم قالت: سمعا يا سيد أرجنتوس! - وطاعة يا ذات البهاء. - خطر لي اقتراح بديع. - حبذا بداعته! فما هو؟ - أنتم تريدون فتح ملكوت الأرض واحتلاله! - نعم. - فلماذا لا تتوبون عن شركم، وتمجدون الله تعالى وتسبحونه، فيقبلكم الله في الملكوت الأرضي مع أبناء الإنسان، وحينئذ يزول من الأرض الشر الذي تبثونه فيها، ويدنو دهر الألف سنة سلام، وتعيشون مع الناس بسلام ووئام وصلاح، والله يفتح ملكوت السماء للجميع؟! - والله إنه لاقتراح بديع جدا يا ذات الطهر، ولكن الله طردنا من فردوسه طردا مؤبدا، فكيف يمكن أن يقبل توبتنا ويعدل عن حكمه الجازم؟ - إن الله رحوم شفوق غفور، يقبل توبة التائبين. - أجل، يقبل توبة التائبين الذين أمهلهم، وحدد أجلا لتوبتهم، وأما نحن فلم يمهلنا الله ولا حدد لنا أجلا للتوبة، بل أصدر حكمه علينا على الفور، وأنهى أمرنا ولا مرد لحكمه. أفلا ترين أن الله ظلمنا بعدم إمهاله لنا، ورحم أبناء آدم بإمهالهم؟ مع أننا كنا ملائكة أشرف طينة من طينة البشر، أفلا ترين أن الله لم يعدل بيننا وبين الإنسان؟ إنه لظالم.
فصاحت جوكوندا مذعورة: استغفر الله، استغفر الله، الله عادل ورحيم أيضا، عدل معكم ورحم الإنسان، عدل معكم ولم يرحمكم كما رحم الإنسان؛ لأن إثمكم أعظم جدا من إثم الإنسان، أنتم تكبرتم على الله، وحدثتكم نفسكم أن تشاركوا الله في ملكه، وهذه «خيانة عظمى» تستحق القصاص بالهلاك الأبدي، فما رحمكم ولا ظلمكم، بل عدل بكم. وأما الإنسان فماذا أثم؟ أثم بسيط جدا، قال الله له: لا تأكل من هذه الشجرة. فعصى نهيه وأكل، فطرده من الفردوس إلى الأرض عسى أن يتوب فيقبل توبته، ومنذ ذلك الحين شرعتم تفسدون الإنسان لكي تردوه عن التوبة، وتحولوا دون مغفرة الله له، وبذلك تضيفون إلى إثمكم إثما آخر، فكيف تنتظرون أن الله يرحمكم؟ - والله يا سيدتي لا نحن أثمنا ولا الإنسان أثم، وإنما الله أناني يريد أن يحتكر المعرفة لنفسه، وغيور فلا يطيق أن يكون أحد غيره ذا معرفة، وإلا لما كان يعاقب الإنسان ولا ذنب له إلا أنه أكل من شجرة المعرفة كأن ابتغاء المعرفة جريمة، وإذا كان الطمع بالمعرفة رذيلة فما هي الفضيلة إذن، وهو حكم علينا ذلك الحكم الجائر؛ لأنه اعتبر معرفتنا جريمة. إنه حاكم مستبد وإلا لكان يمهلنا حتى نتوب كما أمهل الإنسان، لقد ندم على أنه خلقنا عالمين مثله الخير والشر؛ ولذلك خلق الإنسان جاهلا لكيلا يغلط بالخليقة غلطة أخرى، وكذلك ندم على أنه تسرع بحكمه علينا، فأمهل الإنسان لكيلا يغلط غلطة التسرع مرة أخرى، لذلك أقول: إنه ظلمنا ورحم الإنسان، فما هو عادل، بل هو ظالم متحيز.
فصاحت جوكوندا به: صه، كفى تجديفا على الله خالق السموات والأرض وما فيها، إنه كريم؛ لأنه خلقكم ذوي علم، ولكنكم اغتررتم بعلمكم، فطمعتم في أن تساووا الله في مجده فرذلكم بعدل، وخلق الإنسان جاهلا لكي يمنحه العلم رويدا ولا يرتكب إثما كإثمكم، ولذلك أوصاه أن لا يأكل من شجرة المعرفة بنفسه، بل هو يطعمه إياها ثمرة ثمرة، فعصى الإنسان أمره وأكلها، فما عاقبه لأنه أكلها، بل لأنه عصى أمره؛ لذلك أمهله لكي يتوب فيغفر له. ومع أن الإنسان عصى أمره تعالى ما زال يعظمه ويقدسه ويمجده ويستغفره؛ ولذلك يرحمه الله بأن يقبل توبته، وأنتم لو كنتم تتوبون عن وقاحتكم في مقاومة خيره وإفساد شعبه، لكان يغفر لكم ويرحمكم. - والله يا سيدتي هذا حد علمي أن الله يقبل توبتنا، فإن كنت مستوثقة منه أن يقبلها نتب. - إني واثقة أنه يقبلها، فتوبوا. - كيف تستوثقين وحكمه علينا قد نفذ فينا؟! - أتشفع بكم عنده. - تتشفعين بنا عنده! - نعم، وهو يقبل شفاعتي. - من تكونين حتى يقبل شفاعتك بمنبوذين منه إلى الأبد؟ - إني قديسة وكثيرا ما عملت عجائب. - قديسة! تعملين عجائب! - نعم، بقوة الله أعمل العجائب، ولي أمل وطيد أنه يقبل شفاعتي بكم ويرحمكم ويقبل توبتكم. - إذا كان الأمر كذلك، فإني أؤكد لك أننا نجعل جهنم أقل شرا من الأرض وأطهر عبادة لله، وأحر صلاة له تعالى، فهل تتنازلين وتأتين لمقابلة سيدتنا ذات الذكاء فينوموس وتفاوضيها بهذا الموضوع؟ وهي بلا شك ترحب بك، وتسعى لتنفيذ اقتراحك الذي تضمنين نجاحه، ولا ريب أن الله تعالى جعلك رسولا لدعوة أهل الجحيم إلى التوبة، هل تتفضلين وتنزلين؟ هاتي يدك انزلي على عاتقي.
وفيما كانت الأخت جوكوندا تنزل على عاتق أرجنتوس، كان الراهب سلفستروس مسرعا إليها وهو يصرخ: ويحك! إلى أين، أإلى سقر وبئس المستقر؟!
فالتفتت إليه وقد أصبحت على عاتق أرجنتوس وقالت: نعم يا عزيزي سلفستروس، إلى سقر بمهمة عظيمة جدا، بإلهام الله تعالى. - ويحك! ماذا تقولين؟ - أقول: إن الله تعالى انتدبني رسولا إلى جهنم لدعوة أهلها إلى التوبة، فانتظرني في المطهر إلى أن أعود ظافرة بتوبة أهل الجحيم، ثم أذهب لكي أقدمها إلى الله. - إنك لساذجة يا أختي، لا تعلمين أن سعيك عقيم، بل هو سعي معكوس، الله لا يقبل توبة الأبالسة، وهم لا يتوبون. - سترى، سترى، إنهم يتوبون، وإنه تعالى يقبل شفاعتي بهم، ويقبل مسعاي الحميد كفارة عن ذنوبي المطهرية، ويكون رضاؤه علي عظيما جدا، وسأعود من جهنم إلى السماء مباشرة، وأصطحبك معي إن شاء الله، والله لا يرفض حينئذ شفاعتي بك.
وكانت جوكوندا قد نزلت عن عاتق أرجنتوس إلى أرض جهنم، وسلفستروس يكفكف دموعه أسفا عليها.
الفصل التاسع
أرجنتوس يقدم جوكوندا للملكة فينوموس. - أقدم لسيدتنا ذات الذكاء الرائع قدس الراهبة القديسة العجائبية القادمة إلينا بالدعوة إلى التوبة!
فرحبت فينوموس بها بكل رحابة قائلة: مرحبا بالقداسة العجيبة! إن تنازلك لمملكتنا شرف عظيم لها! عسى أن يكون بشيرا بانقلاب جديد في نظام الأكوان الروحانية!
فقالت جوكوندا: معاذ الله! أستغفر الله! وقانا الله من شر الانقلاب الذي يجعل الأعالي أسافل!
فقال أرجنتوس: أجل، إن الانقلاب من حظ الذين ظلموا، وإنما تعني سيدتنا ذات الذكاء: البشارة بتعديل القضاء الأزلي.
فقالت جوكوندا: بحسب لاهوت القديس توما الأكويني، القضاء الأزلي أبدي لا يحتمل تعديلا، فالأبد القادم كالأزل المنصرم. - ولكن الله تعالى مشرف على الماضي والمستقبل جميعا، فيستطيع أن يجعل الماضي مستقبلا ويجدد فيه أحكامه، وإلا فكيف يجعل الرحمة فوق العدل كما تؤملين يا سيدتي.
فقالت جوكوندا: نعم! نعم! إني واثقة من رحمة الله بكم إذا كنتم تقبلون دعوتي للتوبة إليه تعالى.
فقال أرجنتوس موجها الخطاب إلى فينوموس: تؤكد لي حضرة القديسة أننا بالتوبة ندخل إلى ملكوت الإنسان بلا نزاع.
فقالت فينوموس: أجوكوندا تدعين يا سيدتي! أنه اسم جميل، ولكنه أقل من أن يرمز عن هذا الجمال البارع! لقد كان جديرا بأبويك أن يسمياك فنيس!
فابتسمت جوكوندا إعجابا بنفسها وقالت: هذا ما لقبني به الذين انتخبوني ملكة الجمال في العالم كله.
فحملقت فينوموس قائلة بتعجب: ألدى جلالة ملكة أنا؟
ثم انحنت إلى الأرض قائلة: طوبى للعرش الذي حملك، وللمملكة التي لمع فيها تاجك! ما أعظم حظك من نعم الله الذي وهبك ملك الجمال! كيف طقت خنوع الرهبنة في الدير الضيق، وأنت جديرة بالتمتع بسؤدد السلطة المطلقة في دولة الحسن العظيمة ومملكة الجمال الواسعة؟!
فتنهدت جوكوندا وقالت: آه! لم أجد غبطة في تلك المملكة الواسعة، فعكفت في الدير أبتغي فيه غبطة لنفسي. - عجبا عجبا! يزعم الفلاسفة أن الجمال مصدر الحب، والحب ينبوع الغبطة؛ وأنت تتبوئين عرش الجمال، فكيف لم تجدي الغبطة؟ ألم يكن في يدك صولجان الحب؟ - لا! كنت ملكة على عرش بلا صولجان. - غريب! هل تجردت القلوب على جمالك فاغتصبت منه صولجانه؟ - لا! بل جمالي تجبر مزدريا تلك القلوب، ففزعت منه وتحولت عنه، إلى أن أصبحت ملكة بلا رعية، فاشتريت بصولجاني قلبا، فإذا به صنم. - لعلك رمت أن تقايضي بجمالك حبا فخابت المقايضة؛ لأن الجمال لا يصلح ثمنا للحب بل هو غذاء له، لا تصلح المقايضة إلا قلبا بقلب، فأنت أعطيت جمالا بلا حب فأخذت صنما بلا قلب! - صدقت! لقد كان جمالي في ناحية وقلبي في ناحية أخرى. - كيف يمكن ذلك؟ - كان جمالي مقيدا بقلب غير القلب الذي كان قلبي مقيدا به. - عفوا يا مولاتي! من ابتلاك بذلك القيد الجائر؟ - دولة الجمال يا عزيزتي! آه منها دولة متعبة مشقية، دولة البذخ والبطر تحتاج إلى مملكة وافرة الذهب. - وتركت قلبك كبشا على محرقة تلك الدولة يتألم ويستغيث ولا تغيثينه لئلا تفقدي تاج الملك وصولجانه!
فقالت جوكوندا متنهدة: لم يكن إنقاذه ممكنا ما دامت كتائب أبهة تلك المملكة تحاصر عرش الدولة.
فابتسمت فينوموس وقالت: ما دام ذلك القلب يرقص على مجامر بخور العرش وشجوه، لا يسمع شيئا في ضجيج موكب تلك الكتائب. فكيف تشكين من حرمان الغبطة ورائحة دخان قلبك الملوع أذكى من البخور؟! - قسمتي. - وهل صولة الدولة وحول الملك وطوله تعين القسمة مقلوبة رأسا على عقب. - قسمة مقلوبة! - نعم، لقد خلق الجمال غذاء للحب الذي ينعم به القلب، وأما أنت فقد جعلت القلب غذاء للجمال. كان يجب أن يتبع جمالك قلبك أينما اتجه. - آه! لو فعلت لكنت ناكثة عهدا مقدسا، ونكثه إثم عظيم. - أي عهد أقدس من العهد الذي يعقده القلب؟ - عقد الزواج. - أزواج جمالك أم زواج قلبك. - عقد الزواج الذي يربطني بزوجي الشرعي. - الزواج الذي استوهب جمالك بدل قلبه الصنمي المذهب؟! - آه، نعم. - والزوج الذي بادلك قلبا بقلب ماذا فعلت به؟ - لم يكن ذاك لي زوجا. - عفوا ومعذرة، لقد أسأت التعبير يا سيدتي القديسة، كان أقرب إليك من زوج، كان شطرك الآخر. - ولكن لم يكن بيني وبينه عقد زواج.
فقالت فينوموس متهكمة: صحيح، فلقتا اللوزة لا تقويان على حجر المكسر؛ لأنه ليس بينهما عقد زواج، وشطرتا الترمسة لا تثبتان بين سبابتي الآكل؛ لأنه ليس بينهما قران، كذا القلبان المتعاشقان لا يصمدان في غلاف واحد؛ لأنه ليس بينهما عقد زواج. - عقد الزواج شيء مقدس. - وما رأيك باتحاد القلبين بالحب، أعقد منجس هو؟ - عقد الزواج مقدس بحكم الشريعة. - الشريعة القائلة: «حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك»؟ - نعم. - حسن، وهل في منطق هذه الشريعة أن الزوج الغني البغيض كنز أثمن من المحب الحبيب. - ولكن حدث ارتباط الزوجية من غير استشارة القلب، وبحكم الشريعة لم يعد ممكنا فكه. - رفضت مشورة القلب ثم لذت بالشريعة لكي تبرري هذا الرفض، فماذا بقي لك من مستشار فيما بعد؟! - لقد ندمت لإهمالي مشورة القلب أي ندم، ولات ساعة مندم. - لماذا بعد الندم لم تستشيري الشريعة التي تعتصمين بها؟ - ليس في شريعة الكنيسة حل. - آ ... لقد خفي علي أن عندكم شريعة أسمى من شريعة الله وأقدس هي شريعة الكنيسة. - لا، لا، أستغفر الله، إن شريعة الكنيسة مستمدة من كلام الله القدوس. - أمستمدة شريعة الكنيسة من كلمة الله حقيقة؟! و«الله محبة»، والمحبة كلمته، والمحبة شريعته، فهل تعدين عاصية شريعة الله إذا كنت تنقضين عهد جمالك لبعلك إذا كنت تبرين بعهد قلبك لحبيبك؟! - الكنيسة تحرم الطلاق. - تعصين شريعة المحبة الإلهية لكي تخضعي لشريعة الكنيسة البشرية!
فقالت جوكوندا متململة: ويحك! أأعصي أمر الكنيسة؟ هذه أعظم الخطايا المميتة.
فضحكت فينوموس ثم قالت: عفوا يا سيدتي لا تعصي شريعة الكنيسة، بل أعصي شريعة الله، فعصيانها خطية عرضية. - شريعة الله كشريعة الكنيسة. - شريعة الله المحبة، والمحبة هي عقد الزواج الشرعي، فحيث لا حب فلا زواج. - ولكن شريعة الكنيسة مستمدة من كلام الله القائل: «ما جمعه الله لا يفرقه إنسان.»
فقالت فينوموس متمادية في التفلسف: وأنت أيتها الإنسانة فرقت ما جمعه الله! أليس قلبك وقلب حبيبك مجتمعين بقوة المحبة التي هي الله؟ فكيف تفرقين بينهما بزواج جمالك وقلب رجل آخر غير حبيبك؟ ثم تصرين على هذا التمرد على شريعة المحبة خوفا من تحريم الكنيسة؟ - تعنين أنه كان يجب علي أن أطلق زوجي لكي أتزوج من بادلته قلبي بقلبه؟ هذا إثم عظيم. - أوليس إثما أعظم أن تنكثي عهدا مقدسا بحرصك على عهد مصطنع؟!
فتبرمت جوكوندا ثم قالت: ولكن قد يعقد الزواج شرعا وحبا، ثم يطرأ ما ينقض الحب أو يقتله ... فيبقى عقد الزواج الشرعي رابطا. - حينئذ يجب أن ينقض عقد الزواج الشرعي حالا؛ إذ لا فائدة منه بعد أن ينقض قيد الحب، ينقض لأن رابطه - أي الحب - انفصم وإلا صار تمردا على شريعة المحبة الإلهية، وإن لم ينحل عقد الزواج إنهار بناؤه؛ لأن أساسه قد انهار من تحته، وينهار معه صرح السعادة، إن زواجا خلوا من الحب لهو تجديف وكفر بالله. - يلوح لي أنك تبررين شريعة الطلاق! - لا! لا وجود البتة لشيء يدعى طلاقا في مقابل شيء يدعى زواجا أو ضده، لا يوجد في حكم الطبيعة إلا زواج ولا زواج، فالزوجان زوجان طالما هما يتبادلان الحب حتى إذا انتفى حبهما بطل أن يكونا زوجين. - غريب أمرك! هذا يعني أن لا زواج على الإطلاق، بل حيث يتحاب اثنان يقترنان بلا عقد زواج، فإذا تنافرا افترقا! - أجل! إن حبهما هو عقد الزواج الحقيقي بعينه، فإذا انتفى الحب انحل العقد من طبعه. - تعنين أني اليوم أكون قرينة فلان لأني أحبه وغدا أكون قرينة آخر لأني أصبحت أحبه دون ذاك، أهذا يدعى زواجا؟! - وهل يمكن أن يكون الزواج غير هذا؟! - إذن ما الفرق بيننا وبين الحيوانات؟! - بينكم وبين الحيوانات فروق كثيرة، وبينكم وبينها تشابهات كثيرة ومنها القران، لماذا يجب أن تفترقوا عن الحيوانات في سنة طبيعية هي أساس الحياة، وأعني بها سنة القران؟ لماذا تكون لكم شريعة للقران غير شريعة الحب، وهي شريعة الطبيعة في الأحياء، لماذا تميزون أنفسكم عن الحيوانات بنقض هذه الشريعة، في حين أن هناك فروقا عديدة بينكم وبين الحيوانات تميزكم عنها إذا شئتم هذا التمييز؟
وانحصرت جوكوندا في هذه الزاوية من الحوار، ولم تحر جوابا إلى أن قالت: يجب أن نمتاز عن الحيوانات بشريعة اجتماعية؛ لأننا اجتماعيون والحيوانات غير اجتماعية. - ألغرامكم بشيء يسمى الاجتماع الإنساني تقيدون أنفسكم بشريعة بشرية أحط من شريعة الحب الإلهية، لكي توهموا أنفسكم أن هذه الشريعة تميزكم عن الحيوانات؟! - لماذا تعتبرين شريعة الزواج أحط من شريعة الحب؟! - لأن الغرض من أي شريعة ضمان السعادة وتلافي التنازع بين الأفراد، وشريعة الزواج التي لا تجيز طلاقا بلا قيد حتى بالرغم من انتفاء الحب، تنافي ذلك الغرض؛ ما فائدة المجتمع من تعاسة زوجين غير متحابين، وأي ضرر للمجتمع يتلافى بإكراه زوجين متنافرين على البقاء تحت سقف واحد؟ وماذا يضر المجتمع أن تكوني اليوم قرينة فلان السعيدة معه، وغدا قرينة فلان الآخر السعيدة معه أيضا لأنك أصبحت تحبين هذا دون ذاك؟ أليس تقيد القران بالحب فقط أنفى للدعارة التي ملأت أرضكم، وأنجى من الخيانة الزوجية التي تعدونها في رأس قائمة الآثام؟ - ولكنك نسيت يا سيدة مشكلة الأولاد التي تنشأ من مسألة إباحة الطلاق متى انتفى الحب؟ - أولاد من؟ - أولاد الزوجين. - ليسوا أولاد الزوجين، هم أولاد الطبيعة أولا، ثم أولاد المجتمع ثانيا، وعلى المجتمع تربيتهم، وإلا فما هي وظيفة المجتمع إذا لم يكن أول واجباته العناية بالأولاد. - أليس في تولي المجتمع تربية الأولاد قتل لعواطف الأبوين الوالدية؟ - لماذا تقتل العواطف؟ بالعكس هي تقوى؛ إذ لا تبقى مهام عائلية تحول دون بثها.
وبقيت جوكوندا مبهوتة برهة بعد هذا الحديث إلى أن قالت: تالله أين أنا! أفي جهنم أم على الأرض؟! - أنت في جهنم يا سيدتي. - ولكني أسمع فلسفة أهل الأرض، فأنى لك هذه الفلسفة الاجتماعية يا سيدة؟
فابتسمت فينوموس وقالت: ألا تدرين يا سيدتي أن فلسفة الأرض مستمدة من حكمة جهنم؟ - عجبا! أفي جهنم حكمة تفتقر لها الأرض؟ - أنسيت التفاحة التي أكلتها جدتك حواء ثم قدمتها لجدك آدم؟ - أوه ... لا أنسى أنك أنت أرشدتها إليها. - ألم تفتح تلك التفاحة أعين جديكما لمعرفة الحكمة: الخير والشر؟ - حقيقي أن تلك التفاحة جلبت المعرفة للبشر، ولكنها جلبت معها الآثام والعقوبات؛ لأنه لو بقي الإنسان جاهلا غبيا لما كان يحاسب. - ولبقي حيوانا غير جدير بملكوته الأرضي ولا بطموحه إلى الملكوت السماوي.
ففكرت جوكوندا هنيهة ثم قالت: بالله هل عندكم هنا حب؟ وهل تحبون؟ - بالطبع نحب! - بالطبع! لماذا بالطبع؟
لأن الحب سنة كل شكل من أشكال الوجود، فالأجرام السماوية تحوم بعضها حول بعض بقوة عاطفة المحب التي سموها الجاذبية، والعناصر تنتظم في مركبات مختلفة بقوة الألفة التي سموها الألفة الكيميائية، والعناصر الأرضية تتألف في أجسام نباتات وحيوانات بقوة التعاشق. وفي جهنم كما على الأرض نظام كوني مبني على تلك القواعد، فبالطبع نحب. - إذا كنتم تحبون لا تكونون محرومين من السعادة. - كلا، نحن نتمتع بسعادة الحب. - إذن ما الفرق بيننا وبينكم؟ - الفرق أننا نحن أسعد منكم جدا. - عجبا! إذن كيف يكون عذاب جهنم. - أخف جدا من عذاب الأرض.
فتحيرت جوكوندا، ثم قالت: أخاف أنك تغررين بي لكي تحببي جهنم إلي. - كلا البتة، لست مغررة بك؛ لأنك قديسة وقد نجوت من عذاب جهنم وعذاب الأرض جميعا، فأغبطك لأنك ستصعدين إلى السماء. - بالله تخبرينني كيف يكون عذاب أهل الأرض أشد من عذاب أهل جهنم؟ - إن مطمح أهل الأرض أشد جدا من مطمح أهل جهنم وأعز منالا. - ما هو مطمحكم وما هو مطمحنا؟ - أنتم تطمحون إلى الملكوت السماوي ونحن نطمح إلى الملكوت الأرضي. - ولماذا طموحنا إلى السماء أشق من طموحكم إلى الأرض؟ - أنتم تطمحون إلى السماء ولا تريدون أن تتخلوا عن الأرض، وتودون أن تأخذوا الأرض معكم إلى السماء، حتى إذا عز عليكم أخذها معكم ووددتم أن تستنزلوا السماء إليها، تحاولون أن تملكوا الملكوتين معا، تتشبث يسراكم بالسماء وتبقى يمناكم قابضة على حطام الأرض. - أراك يا هذه تزعمين مزاعم باطلة لا حجة لك فيها، ليست حياتنا في الملكوت الأرضي الزمني إلا استعدادا لبلوغ الملكوت السماوي الخالد. - أي نعم، تبتغون أن يبتدئ الخلود على الأرض، فبنيتم الأهرام، وحنطتم الأجسام، ونصبتم الأنصاب، وأعليتم الأبراج، محاولين أن تصلوا الدنيا بالآخرة، أن تصلوا إلى هذه من غير أن تجتازوا عتبة الموت. - هذا بهتان، ولا مؤاخذة، بين الدنيا والآخرة حجاب لا ينفذ إلا من باب واحد، الموت هو الباب الذي تنتهي عنده الحياة الدنيا وتبتدئ بعده الحياة الأخرى الأبدية، فلا بد من اجتياز هذا الباب. - لقد نسفت قدرتكم الحجاب والباب معا، وأصبح الاتصال بين الدارين حرا طليقا. - هذا إفك وليس للإنسان قدرة على زعزعة حجر واحد من ذلك الحجاب.
فقالت فينوموس ضاحكة: لا تستطيعين يا ذات الجلالة أن تصمي أذنيك عن المفرقعات التي تحطم الصخور وتفتح الأنفاق في الجبال، أفلا تستطيع أن تدرك ذلك الحجاب؟
فقالت جوكوندا بسخط: هذا هذيان شرير. - عفوا وحلما يا ذات الجلالة، إذن لماذا تحاولون أن تحصلوا على سعادة الآخرة من غير أن تتركوا ملذات الدنيا وتقمعوا شهواتكم؟ - دعوى باطلة بلا دليل. - عجبا يا ذات الجلالة! لا أظنك تجهلين أنكم تتنافسون في ادخار حطام الدنيا، وكثيرون منكم قد ادخروا منها ما لا تفنيه دهور الخلود، كأنهم يجهلون أنهم سيموتون عاجلا، تتهالكون في سبيل الادخار بغية أن تتزودوا من ملذات الدنيا للآخرة، كأنكم تخافون أن تجوعوا في السماء. - أستغفر الله، في السماء من النعيم ما لا يبقي في النفس من حاجة إلى ملذات الدنيا الدنيئة. - ولكنكم لا تشبعون من ملذات الدنيا فتبتغون أن تنقلوها معكم. - هذا كلام فارغ، لا يستطيع الإنسان أن ينقل معه ذرة من حطام الدنيا إلى الآخرة. - يستحيل يا سيدتي أن تكون هذه عقيدة الإنسان وهو يتصرف بعكسها، لو كان يعتقد أن بين الدنيا والآخرة بابا هو الموت، وأنه لا يستطيع أن يجتاز هذا الباب وهو مثقل بحطام الدنيا لما كان يقاتل أخاه الإنسان من أجل هذه الحطام، ألا تقتتلون في سبيل ادخارها؟ - لا أنكر أن بيننا دنيويين يتنازعون الثراء اقتتالا، وأما الأتقياء الصالحون فيزدرون تلك الحطام ويتطلعون إلى النعيم السماوي.
فقالت فينوموس ضاحكة: ليتك يا ذات الجلالة تزورين معبد القديسة جوكوندا العجائبية؛ لكي تري ماذا فيه من كنوز، أحطام دنيوية هي أم نعم سماوية؟! وهو أقل المعابد والصوامع والمناسك كنوزا، ليتك تشاهدين كنوز الإكليروس من تيجان وصلبان وطيلسان في مدينة يسوع ومدينة خلفائه، وليتك تطلعين على دفاتر الأملاك من متاع وعقار ومال؛ لكي تعلمي كم هو نصيب طغمات الصالحين منها، وقد انتقلوا إلى الآخرة ومعهم صكوك امتلاكها إلى اليوم وغدا، فهم في السماء كما كانوا على الأرض من ذوي الأملاك في السماء وفي الأرض. - تبا هذا تجديف لا أطيق سماعه. - عذرا يا مولاتي، أكف عما لا تطيقين سماعه، وإنما أرجو أن تسمحي لي باستفهام واحد. - استفهمي بلا تجديف. - قلت إن الحياة الزمنية إنما هي استعداد للحياة الأبدية، فكيف يكون هذا الاستعداد؟ - بالتعبد لله. - السموات تحدث بمجد الله والأفلاك تسبحه، فبماذا يمتاز تعبدكم؟ - ليس التعبد بالتسبيح والتمجيد فقط، بل بالصلاة والصوم أيضا. - حسن، ليتك يا ذات القداسة تفحصين قلوب المصلين الصائمين؟ - لماذا؟ - لكي تري أن أنجح برامج من برامج الكيد والدس والختل والخداع هو الذي يفكر به المتعبدون في أثناء الصلاة والصوم. - لا يقبل الله صلاة وصياما إذا كانا ستارين للخداع. - إذن لم يبق شيء من التعبد لله غير تسبيح السموات وتمجيد الأفلاك. - وطاعة الإنسان وصايا الله أيضا. - تعنين وصايا الله العشر التي لولاها لما وجدت الخطيئة على الأرض؟
فوجفت جوكوندا فرقا، وقالت: ما هذا التجديف يا هذه؟ لو لم يخطئ الإنسان لما وضع الله له وصاياه العشر لكي يردعه بها عن المعصية. - سلي فيلسوف اللاهوت بولس الرسول ينبئك أنه لولا الوصية لما وجدت الخطيئة. - مستحيل، القديس بولس عني بقوله ذاك أن الله عالم أن الإنسان سيخطئ، فحذره من الخطأ بوصاياه العشر التي إذا لم يطعها جلب على نفسه الشقاء في الدارين معا. - أشكر لك تفسيرك كلام الرسول، فلنر هل فهم الناس تلك الوصايا كما عني بها الله؟ وهل أطاعوها كما نص عليها؟ أولها: «أنا الرب إلهك لا يكن لك إله غيري.»
فقالت جوكوندا: لا إله غيره تعالى.
فقالت فينوموس على الفور: لا إله غيره في كل مكان إلا ...
فقاطعتها جوكوندا قائلة: إلا في جهنم طبعا. - لا لا، لا إله غيره حتى في جهنم، وإنما لا إله غيره إلا على الأرض؛ حيث توجد آلهة أخرى سواه. - ويحك! الأرض ملأى معابد لله لا لسواه. - بل إلى جانبها معابد لإله آخر أضخم وأفخم منها، فهجر الناس تلك إلى هذه.
فقالت جوكوندا متذكرة تقرير أرجنتوس: فهمت، تعنين معابد المال التي بناها الداهية أرجنتوس على الأرض، ولكن عباد هذه هم الأشرار الدهاة الذين لا حظ لهم في السماء. - وعباد معابد الله أشد دهاء من هؤلاء؛ لأنهم يخدعون الله والناس. - ويلكم! إن ينبوع الخداع في جهنمكم؛ ولذلك يشدد الله العذاب لكم. - كلا يا سيدتي، لا لزوم عندنا للخداع حتى ولا لمعصية وصية من وصايا الله البتة. - عجبا! من هو إلهكم؟! - لا إله إلا الله وحده خالق الكون هيولى وأرواحا. - ألا تحلفون؟ - لسنا مضطرين إلى الكذب لكي نؤيد كذبنا بالقسم بالله، كلامنا النعم نعم، واللا لا. - غريب، ألا تسرقون؟ - ليس عندنا مال يسرق، وليس لأحد منا حاجة بمتاع لكي يسرقه، كل شيء عندنا مشاع للجميع. - عجيب! ألا تقتلون؟ - ليست لنا مطامع نتنازعها لكي نقتتل لأجلها. - ألا تزنون؟ - لا! ما هو الزنى؟ - عجبا! ألا تعرفين ما هي رذيلة الزنى؟ - ماذا تعنون بها؟ - نعني بها أن يقترن الرجل بامرأة ليست زوجة له أو زوجة رجل آخر، وأن تحب المرأة غير رجلها أو بعل امرأة أخرى. - إذا كان هذا ما تعنونه فهو فضيلة. - ويحك يا هذه! الزنى فضيلة! - لا! لست أعني أن الزنى فضيلة، بل إن هذا الذي تعنونه ليس زنى! - لله من هذا البهتان! إذن ما هو الزنى؟! - إن استئثار الرجل بامرأة لا تحبه بل تحب سواه لهو الزنى، واستئثار المرأة برجل لا يحبها بل يحب سواها لهو الزنى أيضا! لذلك لا زنى عندنا؛ لأنه لا رجل يستأثر بامرأة لا تحبه، ولا امرأة تستأثر برجل لا يحبها! - ويلك! تسوغين الحب المشاع! - لا، بل أكرر لك القول السابق أن الحب قاعدة الزواج، فنحن لا أنتم طائعون وصايا الله! لا شيء البتة عندنا من الآثام والمعاصي التي عندكم! - يا لله! إنك تصورين لي جهنم كالسماء.
فقالت فينوموس باسمة: أي نعم! هي نسخة من السماء، ولكنها مقلوبة كما لو كنت ترين السماء من كوة عدسة التصوير الشمسي!
وبقيت جوكوندا مبهوتة برهة إلى أن قالت: إذا كان أمركم كذلك، فأبشرك أن رحمة الله بكم أقرب إليكم من قاب قوسين. - أستغرب أن تكون رحمة الله على مقربة منا هكذا ولا نقتنصها، في حين أيدينا طويلة تمتد إلى قلوب البشر على الأرض، فأين هي؟ - لم تروها؛ لأن شركم كغبار الحرب يحجبها عن أبصاركم. - نعقد هدنة ساعة لكي يصفو الجو فهل نرى رحمة الله، أم نراها سرابا، كلما تقدمنا إليه ابتعد عنا! - لا تكفي الهدنة، بل يجب أن تكون توبة أبدية عن كل شر، فترون حينئذ رحمة الله في منال يدكم مهما كانت يدكم قصيرة. - لا نستطيع أن نفرط بتوبة كهذه بلا ضمانة؛ لئلا نخسر المعركة بيننا وبين البشر، ولا نحصل على الرحمة!
فقالت جوكوندا متحرية: ضمانة! ماذا تعنين بالضمانة؟ - أعني ضمانة الرحمة لقاء التوبة؛ هل تبيعين سلعة إذا كنت غير واثقة من قبض الثمن؟ - طبعا لا! - ونحن لا نبيع توبة ما لم نقبض رحمة حالا. - العادة أن يستلم الشاري البضاعة، ثم يدفع الثمن ولو بعد حين. - وإذا كان البائع قليل الثقة طلب ضمانة، فنحن نطلب ضمانة أننا ننال رحمة الله حتما بعد تقديم التوبة إليه.
فقالت جوكوندا: أنا أضمن!
فقالت فينوموس الداهية: أأنت تضمنين الله تعالى خالقك يا ذات الجلالة العليا؟ قبلنا الضمانة.
وخرت فينوموس إلى الأرض ساجدة وقالت: عزمنا على إجراء عملية التوبة منذ الآن.
فارتعدت جوكوندا وقالت: ويحك يا فاجرة! لقد هورتني بدهائك، واستدرجتني إلى تجديف بالله تعالى لا يغتفر؛ ربي غفرانك! أثمت عن غير قصد مني لقصر نظري. - أي تجديف هذا؟ - استدرجتني إلى أن أضمن الله، والله ضامن الصديقين، وهل يخلف الله وعده حتى تطلبي ضمانة له؟
وسجدت جوكوندا إلى الأرض مستغفرة، ورسمت إشارة الصليب على صدرها مرارا ثم قالت: تبا لك! أيساوم الله على رحمته؟! معاذ الله.
فقالت فينوموس جادة: نعم يا ذات الجلالة! ألم تكن مساحات السماء في زمن من الأزمنة معروضة للمساومة؟ أما كانت تباع بأثمان وتسجل بصكوك وحجج كضمانة لحصول الشارين لها عليها؟ فلماذا تستنكرين علينا طلب ضمانة أو صك على الأقل؟ اتفقنا أن نتوب إليه تعالى! فما هي الضمانة لنا أو الحجة بامتلاك حق الرحمة؟
فوجفت جوكوندا تغيظا من هذا التلميح إلى عهد صكوك الغفران وقالت: قلت لك إن الله لا يساوم على رحمته؛ توبتكم هي حجتكم وضمانة لكم؛ لأنه تعالى وعد التائبين بالمغفرة رحمة بهم. - ولكنه لم يعد الملائكة الساقطين بمغفرة لقاء توبة، وإلا لتبنا من زمان، وكنا خدام جلالته. - لا تخافي أن تذهب توبتكم سدى، إن رحمة الله تعالى أوسع من الأرض وجهنم وسائر الأكوان، فإذا تبتم أتشفع لديه تعالى بكم فيشملكم برحمته، وسبحانه يقبل شفاعة القديسين.
فسجدت فينوموس إلى الأرض وقالت: حمدا لله وشكرا لشفاعتك أيتها القديسة، إني أول من يزمع التوبة، فعليك بإقناع سائر الرجماء الزعماء، ومتى اقتنعوا يتبعهم الأبالسة والشياطين، ثم نعقد حفلة التوبة تأهبا لدخول الملكوت الأرضي سالمين.
فقالت جوكوندا متهللة: وحينئذ تنقطع وسوستكم، وينتفي الشر عن الأرض بتاتا. - وأظن أنه يسمح لنا حينئذ أن ننتقل مع البشر الصالحين. - وهل عندك شك بذلك؟ ويكون فرح عظيم في السماء؛ لأن جميع الأرواح التي خلقها الله تابت إليه، واشتركت جميعا بتسبيحه، لله منه يوما حين يدوي فيه «خوروس» (جوقة موسيقية) الأبرار بترنيمة انتصار الفضيلة على الرذيلة، ومحو القداسة لدرن كل دنس. - لا ريب أنه سيكون يوما سعيدا لا نهاية له، بمجرد تصوره أشعر بغبطة فائقة ما شعرت بمثلها قط! - فكيف بك حين تتمتعين بالسعادة الحقيقية إذن؟ - وا شوقاه! متى يكون ذلك؟ - حين نخرج من جهنم بموكب عظيم مرنمين مسبحين ممجدين الله.
فقالت فينوموس وهي تتلوى دلالا: ولكن لا تنسي يا ذات الجلالة. - ماذا؟ - الصف الأول من ذلك الموكب العظيم. - كيف يكون؟ - صف الرجماء. - طبعا. - وهل تعلمين أني ملكة جهنم؟ - لم أجهل هذا. - إذن. - ماذا؟ - أين أكون في الموكب؟ - طبعا قدام الصف الأول، هذا مفهوم. - وأنت؟ - أنا؟ - نعم، أين تكونين جلالتك في الموكب. - هذا ما لم أفكر به قط. - أظن هذه نقطة جوهرية في الرسميات يا ذات الجلالة، يجب أن نقررها منذ الآن؛ لئلا يقع خلاف حينئذ، فيضطرب الموكب، وتزدحم البوابة، فيقفلها الملائكة في وجوهنا. - لا بأس أن أكون وراء الموكب.
فقالت فينوموس بدلال وغنج: هذا لا يليق بملكة الجمال. - رأيك إذن؟ - رأيي أن تكوني في مقدمة صف قومك الأرضيين الذين كانوا من نصيب جهنم. - فكرة حسنة. - بقيت نقطة أخرى جوهرية. - أراك تفتقين قطبة بعد قطبة. - الشرط نور يا عزيزتي، وإلا أفسد الخلاف المشروع. - «طيب» ماذا؟ - أي صف يكون في المقدمة؟ أصف الرجماء ووراءه الأبالسة، ثم صفكم أنتم الأرضيين، أم العكس؟ - هذه مسألة بسيطة، إذا كنت تفضلين أن تكونوا أنتم في الصف الأول فلا أعارض، ولكن أيحسن أن يواجه الشياطين الله أولا؟ - ماذا يمنع؟ إن الله في رأيكم صديق الخطاة، وهو يقبل التائبين بترحاب، وإلا فهو حقود. - بل هو رحيم يسر بتوبة العصاة، فتقدموا أنتم في الصف الأول. - اتفقنا، تفضلي بثي دعوتك بين الرجماء وعلي بالرئيس بعلزبول.
الفصل العاشر
ما فارقت جوكوندا فينوموس حتى التقت برسبوتين بزيه الكهنوتي، فرحب بها قائلا: كنت أبحث عنك لكي أسلم عليك؛ إذ بلغني أن جلالة ملكة الجمال القديسة العجائبية في زيارة قصيرة إلى جهنم، فرأيت من الواجب أن أضع نفسي تحت أمرك لخدمتك يا سيدتي. - شكرا لك أيها الأب الموقر، ولكني استغربت أن تكون من نصيب جهنم، وأنت راهب ناذر العفة والطاعة والفقر لتكون مرشدا الأنام إلى الصلاح وقدوة لهم بحياتك التقوية. - آه، لقد كنت يا سيدتي أكثر من ذلك. - عجبا! ماذا أكثر من ذلك ومجموع تلك النذور الثلاثة هو التقوى؟! - كنت أدعو إلى الاتحاد الروحي،
1
وأرشد الأتقياء إلى ممارسته، ولكن هؤلاء أساءوا الممارسة. - كيف كانت الممارسة؟ وكيف أساءوها؟ - كانت بإيحاء الأنفاس رمزا إلى إيحاء الأرواح. - لا أفهم كيف يكون ذلك. - يعني تتنفسين في وجهي، وأتنفس في وجهك، فأتنشق نفسك وتتنشقين نفسي، وتضمينني وأضمك، وذلك رمز لاتحاد روحينا. - وما الغرض من هذا الاتحاد الروحي؟ - ليس الاتحاد سببا لغرض، بل هو الغرض بعينه بمقتضى المحبة الإلهية التي هي سببه. - فكرة حسنة، وفضيلة مبرورة، فما الذي قذف بك إلى هنا إذن؟
فقال رسبوتين بتذلل وتألم: مظلوم يا سيدتي، عوقبت بجريرة غيري. - مستحيل! إن الله لعادل وعالم ولا يخطئ حكما. - إنه لكذلك تقدس اسمه، وإنما الأشخاص الذين اعتنقوا مذهبي أساءوا استعماله، فعوقبت أنا لأن المذهب مذهبي، وقد أفضى إلي الإثم. - كيف استعملوه؟ - لم يقتصروا على الاتحاد الروحي، بل تمادوا إلى الاتحاد الجسدي، فأفسدوا غاية المحبة الإلهية. - فاستحقوا العقاب طبعا، وأما أنت فما ذنبك؟ - ذنبي أنهم شياطين بأثواب أتقياء، فوسوسوا لي وهوروني معهم، وانقلب اتحادنا الروحي إلى اتحاد جسدي، أف، تبا لهم، لقد دنسوا طهارتي، نجسوا قداستي، لطخوا نفسي بأدران الشهوات. - أوه لو تبت لغفر الله لك! - لم يمهلني البرنس ديمتري لكي أتوب، بل غدر بي واغتالني قبل التوبة. - تبا له! لماذا غدر بك؟ - اتهموني زورا بأني خنت القيصر والقيصرة والدولة بالتجسس لمصلحة الألمان. - لماذا لم تدفع التهمة عنك إذا كنت بريئا؟ - قلت لك غدروا بي من غير أن يحاكموني. - حقا إنك مظلوم يا أبانا المحترم، سأتشفع بك.
فانقض رسبوتين على يدي جوكوندا يقبلهما قائلا: ألف شكر لعطفك يا ذات الجلالة، ما أطيب قلبك النقي الطاهر، أجل لقد أبلغني الرجيم أرجنتوس عطفك العظيم على أهل جهنم، وأنك جئت لكي تدعيهم إلى التوبة على أمل أن يقبل الله شفاعتك بهم، ولا ريب أنه تعالى سيتقبلها، ما أمجد مسعاك هذا، سيكافئك الله عليه بأن يمنحك لقب ملكة الجمال في السماء كما على الأرض وفي جهنم أيضا، وإن بهاءك هذا لهو السبيل القويم إلى المحبة الإلهية بواسطة الاتحاد الروحي. دعيني أتوسل به إلى محبة الله ورضاه.
ثم طوقها بذراعية الحديديتين، وضغطها على صدره، ولثم فمها، وتنشق أنفاسها، فانتفضت بين يديه ونفرت قائلة: ما هذا أيها الأب المحترم؟ كدت تسحقني سحقا بضغط ذراعيك.
فقال: لا بد من هذا الضغط لكي تتحد الروحان، أما شعرت بروحك تتحد بروحي! - بل شعرت بهيكل عظامي يتزلزل، وبأوتار أعصابي تنسل من جسدي، وبدماغي يترنح في جمجمتي. آه، وهت قواي، انحلت مفاصلي. وكادت تقع إلى الأرض فتلقاها رسبوتين قائلا: هذه كلها مفاعيل الاتحاد الروحي يا سيدتي، فلا تجزعي، سري وافرحي أن روحك لقيت أليفتها فاضطربت حين الاتحاد بها.
ثم قبلها قبلة أخرى فردتها عنه مرتجفة قائلة: دع هذا الاتحاد الروحي الآن، يتراءى لي أنه مزعج في جهنم، ودعني أمضي بمهمتي عسى أن أنجح. - تنجحين بلا شك، وقد بحثنا المشروع أرجنتوس وأنا جيدا وتأكدنا نجاحه؛ لذلك تبرعنا بمساعدتك فيه. - ألف شكر يا أبت رسبوتين، من تظنه يكون عقبة في السبيل. - لا أحد اللهم الرئيس بعلزبول. - تعهدت الملكة فينوموس بإقناعه. - لا أدري إن كانت تستطيع إقناعه. - لماذا؟ - لأن الزعامة عقبة في السبيل، فلا يتنازلان عنها بسهولة. - فلتبق لهما زعامتهما. - أتقبلين أن يدخلا الملكوت الأرضي ملكين متوجين. - ماذا يضرني؟ - عجبا! إذا كان الله قد جعلك ملكة على الأرض وفي السماء، أتكفلين رضاه تعالى إذا سمحت أن يدخلا الملكوت الأرضي متوجين، هذا لا يكون.
ففكرت جوكوندا ثم قالت: ولكني وعدت فينوموس بأن يتقدما الموكب كملكين. - ويحك! تدعين رجيمين، وهما أشر الرجماء، أول من يواجه الله! هل خلا القوم الأرضيون من أناس يتصدرون الموكب لمواجهة الله؟ هذا إذا فرضنا أنك ارتكبت هذه الغلطة، وتنكبت أنت عن تصدر الموكب؛ لأنك أنت أحق وأوجه من يتصدرونه. - إذن رأيك؟ - بالطبع رأيي أن تتصدري الموكب كله أنت ملكة له، الله منحك هذه النعمة، فهل تزدرين نعمته؟ - أتهيب هذا الموقف العظيم الجليل يا رسبوتين. - إذا أذنت أكون إلى جنبك مشجعا لك وناطقا بإرادتك حين يقتضي الأمر الكلام. - لا بأس بهذا! ولكن ماذا يبرر وجودك إلى جنبي دون غيرك من الأرضيين الأقل إثما؟ - المسألة بسيطة جدا، إذا شئت نعقد زواجنا. - ويحك! كلانا راهبان ناذرا العفة! فكيف نعقد زواجا. - هذا النذر انتهى على الأرض يا قديسة وانقضى بالموت، وهنا نستطيع أن نتزوج بشكل الاتحاد الروحي. - ولكن يسوع قال: هناك لا يتزوجون! - يسوع عنى بقوله: «هناك» السماء، فنحن نخرج من جهنم زوجين، وينحل زواجنا على الأرض قبل الصعود إلى السماء.
ففكرت جوكوندا برهة ثم قالت: لا يدخل هذا التدبير دائرة عقلي أيها الأب رسبوتين! لا أقدر أن أتصور أننا زوجان في حين أننا رحلنا إلى الآخرة من صميم الدير عفيفين. - وحين نعود إلى الدنيا من الآخرة نمثل دور زوجين، ماذا يمنع؟
فضحكت جوكوندا وقالت: إني أستهجن فكرة التمثيل في الزواج كل الاستهجان. - لأنك تجهلين أن الزواج ليس إلا دور تمثيل يمثله الزوجان. - غريب. - أجل! معظم الأزواج أزواج بالاسم. - كيف يكونون أزواجا بالفعل إذن؟ - يكونون كذلك متى كانوا غير أزواج، لذلك يجب أن نكون زوجين ولو بالاسم؛ لأنه لا بد من الزواج لأجل قانونية الموكب، لا يجوز قط أن يتصدر الموكب بلعزبول وفينوموس، وأنت القديسة العظيمة والملكة البهية تكونين فيه بالتبعية؛ لئلا تثيري غضب الله! يجب أن تتصدري الموكب وإلى جنبك راهب يسر الله بتوبته، لا شيطان ينفر الله من شيطنته!
ففكرت جوكوندا هنيهة، ثم قالت: حل لا بأس به، ولكن كيف نستطيع أن نقنع فينوموس وبلعزبول بالتسليم لنا برياسة الموكب؟ - أوه! هذه مسألة أسهل من السهولة، في إمكاني أن أدع الرجماء يقنعوهما. - إذا كان هذا في إمكانك، فقد توفقت كل التوفيق. - يد العهد!
تصافحا وافترقا على موعد لقاء آخر. •••
ومضى رسبوتين بين الجماهير إلى أن عثر على أرجنتوس، وانفرد به وقال له: تعال إلى هنا، المشروع ناجح إن شاء الله.
فقال أرجنتوس متهللا: كذا أرى، فما خاطبت به رجيما من الرجماء الذين يودونني إلا استحسنه مسرورا وحكم بنجاحه، وإنما لا يجسر أحد أن يتقرب به إلى بعلزبول. - فينوموس تعهدت بإقناعه بمشروع التوبة. - لا أثق كثيرا بوعد فينوموس، كلاهما يحرصان على الزعامة الجبارة، ويخافان أن تضيع زعامتهما متى انتقلنا إلى الأرض، إذا لم تضع في ثنايا المشروع قبل أن نرحل من هنا. - لا يهمنا رضاهما، يجب أن تسقط زعامتهما. - ويحك! إنهما جباران. - أجل، ليس لبعلزبول المزايا ولا الجدارة التي لك في نظر الشعب، يسقط جبروتهما لدى دهائك الفائق، الشعب معجب بك.
فحملق أرجنتوس قائلا: تعني؟ - أعني أنت أجدر منه بالزعامة. - ويحك! ماذا تقول؟! - أقول أنت الزعيم، أنت ملك مملكة جهنم، الشعب الجهنمي كله أصبح مدركا مقدرتك العجيبة، أية ساعة تنادي بنفسك ملكا تهتف لك الأبالسة «فليحي أرجنتوس الملك» ويبايعك الشعب. - ويحك! إذا لم تحسب حسابا لبعلزبول، فلا بد من أن نحسب لفينوموس حسابا. - فينوموس تبقى الملكة، أما شعرت أنت أنها معجبة بك، تكاد تبجلك إعجابا بدهائك، تكاد تعيدك حبا.
وكان أرجنتوس متعمقا في التفكير إلى أن قال: تكاد تزين لي مكيدة سأقع فيها. - لا تهب، لا تخف، أنا كفيل بإقناع الرجماء جميعا، وحينئذ يسقط بعلزبول، وتبقى فينوموس على العرش، فتجلس أنت إلى جنبها. - علام تستند بهذه الكفالة؟ - لقد جسست نبض بعض الرجماء «وترسملت» منهم. - ومن فيرومارس وزير الحرب أيضا؟ - لم يبق إلا هذا لم أكلمه بعد. - طبعا لا تجرؤ أن تكلمه؛ لأنه معروف بولائه لبعلزبول. - لا، بل هو موال لفينوموس يحبها. - هي تقربه إليها لكي تعتمد عليه حين الدفاع عن العرش. - وهو مغتر بجبروته الحربي، فهو يحب جبروته وأبهته ومجده؛ ولذلك لي أسلوب خاص بمفاوضته بالموضوع. - أي موضوع؟! - موضوع تعديل الحكم. - أتعني أن تزين له العرش! - لا، بل أزين له الدكتاتورية المستقبلة. - أرى تناقضات ومضادات في برنامجك يا رسبوتين، كيف أكون ملكا ويكون فيرومارس دكتاتورا؟! - لا تكون ملكا في أول الأمر بالاسم والفعل والحرف. - ماذا إذن؟ - تكون رئيس الجمهورية أولا، ثم تحول كرسي الرئاسة إلى عرش تدريجيا. - في ظل ديكتاتورية فيرومارس؟ - فيرومارس لن يكون دكتاتورا، وإنما يوعد بها وعدا، أو يوهم بها إيهاما، والدكتاتورية الحقيقية تكون لك. - بأي ضمانة. - بضمانة دهاء مثلث. - كيف يثلث الدهاء؟ - دهاؤك ينضم إليه دهاء فينوموس ودهاء «محسوبك». - تعني نكون «تريومفير» روحاني! - بالفعل نكون كذا، وأما بالاسم فتعرف أنت الحاكم الأعلى. الشعب يحبك، وأنت ساحره، فلا تقف صولة فيرومارس ولا ألاعيب فينوموس أمام دهائك في جمع كلمة الشعب حولك. - ففكر أرجنتوس ثم قال: الأفضل أن لا تكلم فيرومارس؛ لئلا يفشي السر لبعلزبول. - لن أمس سلطة بعلزبول بحديثي البتة، وإنما أزين لغيرومارس الدكتاتورية تحت سيادة بعلزبول، دع التدبير لي. - بقي أمر لم تحسب حسابه يا رسبوتين. - ماذا؟ - لم تفرض فشل المكيدة ووقوعنا في الحفرة التي نحفر. - هذا محسوب حسابه في رأس القائمة، وتداركه في رأس برنامج التدبير. - كيف تتداركه؟
يثور الشعب في طلب الدستور الديموقراطي البحت، فإذا استطاع بعلزبول قمع الثورة تظاهرنا بالنقمة على الشعب المتطرف في طلباته، نحن لا نظهر في الميدان إلا إذا رأينا الثورة ناجحة فنقبض على الناصية. - إلى هنا التدبير حسن، ولكن كيف يثار الشعب. - أصبح الشعب متشبعا بروح الديموقراطية التي ما فتئنا نحن الدهاة الأرضيين نبثها منذ جئنا لاستعمار جهنم، والمظاهرة التي حدثت اليوم هي طلائع الثورة، فالثورة مضمونة على الأبواب، وعندي رهط من الدهاة جنود الثورة الدعاة لها، ونجاحها أرجح جدا من فشلها؛ لهذا وددت أن نغنم فرصة الانتقال إلى الأرض لكي نغير نوع الحكم، وما دام الحكم بيد بعلزبول، فلا رجاء بنجاح مشروع التوبة الذي ينيلنا الملكوت الأرضي؛ لأن هذا الشخص رجعي متصلب الرأي، ولا يفهم شيئا من تطور الأكوان والعوالم، فبقاؤه في الحكم عثرة في سبيل الارتحال من هنا إلى نعيم الأرض، كما كان عبد الحميد الرجعي عقبة في سبيل تقدم تركيا. ثق أننا إذا دخلنا الملكوت الأرضي بزعامتك استطعنا أن نجعل الأرض أجمل وأسعد من جنة عدن قبل السقوط.
2
وكان أرجنتوس يسمع مفكرا إلى أن قال: من هم جنود الثورة الذين تعتمد عليهم؟ - كثيرون مثل: نيرون، وأتيلا، وكليوبترا، وتيودورا، ومازرين، ونابوليون ... إلخ. - حسن، إذن أترقب نجاح الثورة، فأظهر حينئذ في صف القيادة. - اتفقنا. •••
وافترق رسبوتين عن أرجنتوس، وما عتم أن التقى بفيرومارس، فحياه باشا وهو يقول: السلام على دكتاتور جهنم العظيم.
فتعجرف فيرومارس معرضا صدره مصعرا خده وقال: لماذا الدكتاتورية؟! - لأن مظاهرة اليوم تنذر بثورة تتمخض عن دكتاتورية. - لكن رشاشا من دهاء فينوموس أطفأها قبل اندلاع لهيبها. - لا تصدق أن نفسية الشعب المتقدة يطفئها دهاء، الشعب متنور وسيدنا رجعي، الشعب يطلب حكما ديموقراطيا وسيدنا يراوغ، الشعب يثور وأنت تقمع الثورة، لا بالسلاح بل بالحكم بين العرش والشعب، وإذا بك ترى نفسك ديكتاتورا.
فضحك فيرومارس وقال: أنبي أنت؟! - نعم، ونبوءتي صادقة، غدا تستل سيف الحكم أيها الدكتاتور العظيم، وإذا احتجت إلى مشورتي تجدني إلى جنبك، ولكن القوم يتحدثون الآن بحفلة توبة لأن الله سيقبلها بشفاعة القديسة جوكوندا. عندي الخبر اليقين، والحفلة بدء الثورة؛ لأن قبول التوبة مستحيل ما دام سيدنا ... وبقية الكلام عندك، السلام عليكم.
وما ولي رسبوتين ظهره حتى أمسك فيرومارس بثوبه قائلا: ويحك! ما هي بقية الكلام؟ - تأهب للقبض على الزمام غدا، اسمح لي، علي مقابلة هامة الآن للقديسة جوكوندا؛ لأجل ترتيب برنامج حفلة التوبة، إلى اللقاء.
الفصل الحادي عشر
لم تمهل العاصفة السفينة إلى أن تصل إلى الشاطئ، وكذا لم تمهل الثورة حفلة التوبة إلى أن تنعقد.
في اليوم التالي زحف موكب الشعب بقضه وقضيضه، وراياته تخفق فوقه وقد كتب عليها على أساليب مختلفة الكلمات الفخمة: الدستور، الديموقراطية، البرلمان، الجمهورية، الحكم الذاتي، اللامركزية، الحرية، المساواة، الإخاء، الاتحاد، إلى غير ذلك مما اخترعه قادة الأمم على الأرض لإثارة الغوغاء أو الرجماء.
وكانت الهتافات المتوالية تناسب هذه الكلمات، وازدحمت الجموع في الميادين والشوارع وفي ميدان قصر البعلزبولي، فاضطرب بعلزبول وفينوموس، ولا سيما إذ لم يجدا حولهما من الرجماء كبار الدولة إلا النزر اليسير يأتون بأخبار متناقضة وآراء متضاربة، ويعودون بحجة السعي إلى إخماد الهياج حتى كادا يقنطان من تفريج الأزمة.
في إبان قلقهما جاء عبد الحميد آل عثمان وهمس في أذن بعلزبول: مؤامرة! فاحذرها ! - ويحك! ما هي معلوماتك؟ - دسيسة سرية. - ويحك! من يدسها؟ - رجالك! - أصادق أنت؟ - كاذب إلا اليوم تقطع رأسي إن كنت كاذبا. - ماذا يريدون؟ - خلعك بحجة مماطلتك بالدستور. - أعلنه في الحال!
أعلنته قبلك فمهدت السبيل لخلعي! فحاذر ... - إذن! ماذا يرضيهم؟ - لا شيء. - ما العمل إذن؟ - فرق تسد. - كيف؟ - استدع كل واحد من قادة الثورة على حدة، وعده وعدا كاذبا بأن تستوزره أو ترقيه إلى منصب أعلى من منصبه، حتى متى خمدت الثورة تقبض عليه وتزجه في السجن، ثم في بحيرة الرصاص المصهور.
وكان بعلزبول يسأل ويسمع مضطربا فقال: من تعرف من زعماء الثورة؟ - ربما كان مدير حركتهم في الخفاء أقرب الأبالسة إليك. - ويحك! من تعني. - اسحق رأس الحية، لا أقدر أن أقول أكثر من ذلك.
فازداد اضطراب بعلزبول وقال: تبا لك! أي حية أقرب إلي من فينوموس؟ أأسحق رأسك؟ - لك أن تسحقه لكي تخسر من يصدقك أخبار الأسرار. - ويحك! أي أسرار؟! - كيف تنتظر أخباري وعنقي تحت سيف تهديدك المصلت. - عليك الأمان، ماذا عندك من الأسرار. - أمثل الأمان الذي كان عندي في يلدز؟ - خسئت، بعلزبول لا ينكث عهده، ما هي أسرارك؟ - ليس عندي أكثر مما أفصحت. - ويحك يا إنسان! أيمكن أن تخونني فينوموس؟ - مهلا إلى أن تخمد الثورة وتشرع بالتحقيق. - عم ينجلي التحقيق يا خبيث؟ - عن تنازع الحكم في ساحة الغرام. - سحقا لك، إلام تكلمني بألغاز؟ أفصح. - لا أفصح إلا بعد أن أجمع البينات، وثمت تكون شهادتي صادقة. فأمهلني إذا كنت تعتمد على مشورتي. - ماذا يطمنني في الاعتماد على مشورتك؟ - إن تراجع التاريخ تعلم أنك وقعت على خبير. - كيف أثق أنك تمنحني خبرتك الصادقة؟ - لست أمنحك منحا، وإنما أبيعك بثمن. - حسنا، الثمن مكافأتك بمنصب عظيم إن أصدقتني الخبرة النافعة، أو قطع عنقك إن كذبتني الخبر الصحيح. - اتفقنا، دعني أسع سعاياتي ريثما تتدارك التهاب الهشيم. •••
وتوارى عبد الحميد، وجال بعلزبول يبحث عن فينوموس، فما عتم أن رآها عن بعد تماشي فيرومارس وبينهما حديث تنم إشاراته عن اهتمام، فتركها ليرى ماذا يكون من أمرهما، وإذا رسبوتين يبدو لديه ويبادره وبصوت خافت: حاذر من دكتاتورية فيرومارس.
فازداد اضطراب بعلزبول وقال: كيف يمكن أن يكون دكتاتورا؟ - يكون دكتاتورا إذا وليته قمع الثورة. - كيف عرفت أن فيرومارس ينويها؟ - نزف من سوائل مؤامرة. - ويحك! ماذا تعرف عن المؤامرة؟ - لا شيء سوى النزف. - تقيأه حالا وإلا فأنت تعلم عقاب النم والوشاية. - غريب أمرك يا سيدي الملك، أليس بصرك أنم من كلامي. - ويحك ماذا أبصر؟ - أتريد تلسكوبا أم ميكورسكوبا أم كليهما، لكي ترى نزيف المؤامرة؟! - تبا لك! أتلفت نظري إلى مسايرة فينوموس لفيرومارس؟ - لا، بل مسايرة فيرومارس لها. - ماذا فيها؟ - مساومة. - علام؟ - ستنجلي لك إن قمع فيرومارس الثورة. - ويحك! أتحرضني على الشك بفينوموس؟ - لست أحرضك بل أحذرك. - ومم؟ - من تولية فيرومارس قمع الثورة لئلا يقمعها لحسابه.
فاشتد قلق بعلزبول وقال: تبا لك! من أولى منه بقمعها وهو وزير الحربية؟ ومن أجدر وهو قائد الجيش؟ - أرجنتوس أولى؛ لأنه أدهى، والدهاء أفعل إذا كانت الثورة في الجيش نفسه. - ما الضمانة على صدق نصيحتك؟ - صدق أخباري التي أبلغتها إليك. - لم تخبرني سوى نية فيرومارس الطمع بالدكتاتورية، فكيف أتحقق صدق هذا الخبر؟ - ستتحققه من فينوموس نفسها وتتحقق معه أمورا كثيرة. - ماذا غير ذلك يا هذا؟ - ستتحقق أن الغرام ينقب تحت العرش. - سحقا لك! أي غرام هذا؟ - سأشرحه لك متى توفرت عندي أدلته. - كيف أثق بصدق أدلتك. - بالوعد أو بالوعيد. - تعني ... - الوعد بالمكافأة على الصدق، والوعيد بالقصاص على الكذب. - حسنا، متى تعود بالأخبار اليقينية؟ - قبل اندلاع اللهيب، اسمح الآن. - امض، أنتظرك. •••
والتفت بعلزبول، وإذا فينوموس مقبلة وفي وجهها أمائر التفكير العميق، فلما التقيا قال متجهما: ماذا ترين؟ - أرى أن نتأهب لمقاومة المظاهرة بالقوة المسلحة؛ لأن دلائل المتمرد أصبحت واضحة. - من يتولى قيادة القوة المسلحة؟ - من غير فيرومارس وهو ابن بجدتها؟ - أرتاب به. - لماذا؟ - لأنه إلى الآن لم يبد منه اهتمام. - لأنه يشترط أن يقلد السلطة المطلقة.
فقال بعلزبول مضطربا: وماذا قلت له؟ - فلتكن له. - ويحك! تتواطئين معه على دكتاتورية؟
فتجهمت فينوموس وقالت: ماذا تقول؟ - أقول إني علمت بمؤامرة. - لا علم لي بمؤامرة، فأنبئني ماذا علمت؟
فقال يجاهر بغضبه: أتتجاهلين؟ - ويحك! أبلغ منك سوء الظن أن تستخونني! ما هي المؤامرة التي اكتشفت أني أعلم بها وأكتمها عنك. - ليس الآن وقت الحساب. - طبعا ليس الآن وقته والثورة على الأبواب، يجب أن نطلق يد فيرومارس عاجلا وإلا سادت الفوضى. - لن يقود فيرومارس الجيش. - من يقوده إذن؟ - أرجنتوس! - بئس الرأي.
فازداد تغيظ بعلزبول وقال: لقد صدقت الأخبار!
فقالت ساخطة: أية أخبار؟ - أخبار المؤامرة التي تعرفينها. - تكاد تخرجني عن دائرة صبري، وتدفعني إلى خصومة مدبرة! أفصح ماذا تعلم من مؤامرة؟ - ليس الآن وقت الإفصاح، ندعه إلى أن نقمع الثورة، يجب أن يتولى أرجنتوس قمعها. - مستحيل! •••
عند ذلك بدا جستوس بينهما مضطربا: أتختصمان ولهيب الثورة يكاد يندلع!
فقال بعلزبول: إني أحس بمؤامرة، فما وراءك؟ - نعم! الثورة بنت مؤامرة هائلة. - أجل! وفينوموس تكتمها عني. - معاذ الله! لا علم لها بها في ظني. - إذن ماذا تعلم عنها أنت؟ - ليس وقت التحقيق الآن، بل وقت المبادرة إلى العمل. - هذا ما أبتغيه، ولذلك قررت أن أولي أرجنتوس قمع الثورة. - كلا! بل تقبض على أرجنتوس الآن.
فقالت فينوموس: أما قلت لك إنه ليس غير فيرومارس جديرا بقمع الثورة!
فقال جستوس: واقبض على فيرومارس أيضا. - واعجباه! لقد صدق عبد الحميد ورسبوتين. - وعليهما اقبض أيضا فهما نواة الثورة.
فدهش بعلزبول وقال: وعلى من أيضا؟ - على كبار الدهاة الأرضيين جميعا، اقبض على الجميع في الحال. - ومن يتولى قيادة الجيش؟ - أنت. أبرز حالا إلى الميدان وأصدر الأوامر، وإلا أضعت الملك والدولة، وأصبحت المملكة الجهنمية ملك دولة بشرية، هاك قائمة بأسماء من يجب أن تقبض عليهم، فمتى اعتقلوا تخمد الثورة من تلقاء نفسها.
فقال بعلزبول وهو في شديد الاضطراب: ومن يتولى عملية القبض؟ - أي من تأمره من الشرطة يتولاها. - لا أدري من هو المخلص منهم. - المخلص لك من يهابك ويخاف بطشك؛ فأصدر أمرك بحزم وشدة يطعك كل مأمور مخلصا برغم أنفه. - وإن خان؟ - مره بتهديد فلا يجسر أحد أن يخون، مره بشدة ؛ ألست الملك أنت؟ استعمل حق حولك وطولك، أسرع؛ ابطش ولا تخف!
الفصل الثاني عشر
في ساعات معدودة كان جميع المشتبه بهم معتقلين، وكان قواد فرق الجيش قد قبضوا على ناصية الحال، وجعلت كتل الشعب تتبدد إلى أن انطفأت الثورة تماما واستتب النظام.
ثم انعقد مجلس الملك من بعلزبول وفينوموس وجستوس وانفنتورس وبعض كبار الرجماء لدرس الحالة، وقدم جستوس تقريره الموجز وهذا نصه:
مولاي! خلاصة ما تحققته: أن جمال الحسناء المدعوة القديسة جوكوندا التي تدلت إلى جهنم على عاتق الرجيم أرجنتوس لبث الدعوة إلى التوبة؛ ذلك الجمال الرائع أحدث فتنة أفضت إلى الثورة ...
فقاطعة الرئيس بعلزبول: أعلى منكب أرجنتوس المكار تدلت؟ - نعم يا مولاي! وكان ذلك الجمال مخدرا لدماغ أرجنتوس فصعقه. - عجبا! كيف يمكن أن يصعقه؟ - الجمال البشري المقدس سحر يا مولاي! وأنت تعلم أنه متى سطا على دماغ خبله. - ولكن السحر من اختراعنا - نحن الشياطين - فكيف يخبل شيطانا رجيما؟ - إن سحر الجمال البشري يا سيدي أقوى من السحر الشيطاني جدا - وقاك الله منه - لذلك خبل جمال الحسناء القديسة عقل أرجنتوس حتى أنساه كل شيء. - ماذا أنساه؟ - أنساه أن في جهنم ملكا رئيسا. - ويحك ما الذي دلك على نسيانه هذا؟ - زينت له نفسه المفتونة بذلك الجمال أن تلك الحسناء الملقبة بملكة الجمال هي ملكة جهنم، وأنه هو الذي تلقاها من العلى إلى الدرك الأسفل فجدير بأن يكون إلى جنبها.
فصاح بعلزبول: ماذا؟ - ملكا. - ويحه! ادعه إلى هنا حالا لكي يقطع رأسه. - حلمك يا مولاي! تظلمه لأنه لم يدع تلك الجدارة إلا لأنه تحت تأثير ذلك السحر، فهو معذور ومستحق عفوك، وإلا فليس لنا أرجنتوس آخر يقوم مقامه.
فقال بعلزبول متجهما تغيظا: آتوني بتلك الساحرة التي فتنت جهنم لكي أقطع شأفة فتنتها.
فاضطربت فينوموس وقالت: حاذر يا سيدي أن تستحضرها إلى هنا؛ إني أشفق من سحر فتنتها عليك أن يخبلك، الأفضل أن تطردها.
فقال بعلزبول ساخطا: ليس لسحر علي تأثير، يجب أن يؤتى بها إلي الآن.
فقالت فينوموس: إن للسحر الأرضي البشري تأثيرا هائلا، لا يعد السحر الجهنمي إلى جانبه إلا خزعبلة. - وا عجباه! تزيدونني رغبة بمشاهدتها، أود أن أراها ولو لمحة.
فقالت له بصوت خافت: هذا يستحيل، إذا كنت تجازف بعرشك فأنا لا أجازف به، إن رؤيتها تفقدك شخصيتك في الحال، فاسمح لي أن أطردها في الحال طردا لبقا. - بل يجب أن أقطع عنقها. - ويك أن هذا الوعيد فاتحة الخبل يا عزيزي، كأن مجرد ذكرها أثر بعقلك. - أبدا كيف؟! - أنسيت أنها إنسانة قديسة يحرسها ملائكة الله، فإذا قطعت عنقها أنبت الله لها ألف وجه جميل، وكل وجه منها يحدث فتنة في جهنم لا نستطيع إخمادها، فأذن لي أن أصرفها بسلام لئلا يشدد الله علينا نكير العذاب.
فغمغم بعلزبول كأنه يكلم نفسه: كيف ترحل من غير أن أتمتع برؤية ذلك الجمال البارع الذي يقولون أنه فاتن.
ثم وجه الخطاب إلى الحضار قائلا: دعوها الآن فنقرر أمر مصيرها بعد تقرير أمرنا، أتوافقون على رأي جستوس بأن نسامح أرجنتوس لأنه مغرور؟
فوافقوا. - إذن أتم تلاوة تقريرك يا جستوس، تقولون: إن تلك القديسة جاءت لكي تدعو الأبالسة إلى التوبة، فيصفح الله عنا، وندخل إلى الأرض مسالمين بموكب بهيج، فكيف أحدث وجودها فتنة أفضت إلى ثورة؟ - تلك الفتنة نفسها خبلت عقل فيرومارس ... - عندي علم أنه كان ينوي أن يقمع الثورة بقوة الجيش لكي يبقى بعد القمع ديكتاتورا، فيجب أن يقطع رأسه في الحال. - عفوا يا مولاي، تظلمه؛ لأنك تقاصه قبل أن ترتكب الجريمة. - أما كانت هذه نيته؟! - من يدري وهو لم يفعل؟ وإن كانت هذه نيته فهو معذور لأنه كان مخبولا تحت تأثير الفتنة. - إذن لا بد من قطع رأس الفاتنة. - لا بل الفاتن يا سيدي. - من هو؟ - رسبوتين الذي رقيناه إلى رتبة رجيم، فهو الذي بدهائه الساحر خبل عقلي فيرومارس وأرجنتوس.
فبهت عزرائيل ثم قال: يكاد عقلي يتضعضع من هذا الكلام! لا أستطيع أن أفهم كيف أن عقل الداهيتين أرجنتوس وفيرومارس ينصرع تحت تأثير سحر رجيم دخيل مثل رسبوتين! فأين سحر دهائهما؟ ويلكم نحن ابتدعنا السحر!
فقال جستوس: إن سحر دهاء الأبالسة يتبدد أمام سحر دهاء البشر، كما تبدد سحر سحرة المصريين أمام سحر موسى. - إذن آتوني برسبوتين هذا لكي أتمتع بضرب عنقه. - حاذر يا مولاي! الثورة لم تخمد بعد، إذا ضربت عنقه اشرأبت ألوف الأعناق البشرية بدهاء يطبق سقف جهنم على دركها الأسفل. - إذن لم يكن رسبوتين وحده ال ... - لا بل جميع الذين قبضنا عليهم هم زعماء الدهاء الذين حرضوا على الثورة! - ويحهم! ماذا يريد هؤلاء الأنجاس. - يريدون أن يغتصب البشر الجهنميون الحكم من الأبالسة، فتصبح الدولة الجهنمية بشرية والأبالسة عبدا للبشر.
فهاج بعلزبول وماج وقال: أونصبر حتى الآن على هؤلاء الطغام؟! يجب أن أسحقهم سحقا في الحال. - حلمك يا سيدي، عد العشرة إلى أن يهدأ غضبك، ثم نبحث في أمرهم.
فصمت بعلزبول برهة وهو يفكر منفعلا إلى أن قال: «طيب» ما رأيكم في معاقبة هؤلاء البشريين الذين جاءوا إلى جهنم لكي يزيدوا شقاءنا فيها؟
فقال جستوس: إذا شئت ثبوت أساس الملك يا سيدي فاسمع الحكم من دار العدل بلسان جستوس وزيرها. - ماذا؟ - لا أصوب من نفي هؤلاء البشر الدهاة الفاتنين. - إلى أين؟ الأرض لم تعد تقبلهم، والسماء نبذتهم منذ الأزل. - على الزميل أنفنتورس وزير الاختراع أن يعد سفينة أثيرية تقلهم إلى الفضاء المجهول؛ حيث يطرحون في أوقيانوس الأثير، ويبقون فيه تائهين إلى الأبد. - رأي صائب، ادعهم إلى هنا لكي أسمعهم نص الحكم عليهم. •••
في هنيهات كان رسبوتين وزملاؤه من عظماء أشرار التاريخ إلى اليوم مصطفين لدى مجلس الرجماء، وأمائر المكر والدهاء تتلاعب في وجوههم، فرفع بعلزبول نظره فيهم وقال: أيها الماكرون الملاعين! لقد رحبنا بكم إذ نبذتكم الأرض إلينا، وأكرمنا وفادتكم وأنزلناكم منا منزلة الإخوان الأصفياء لكي تكونوا أعوانا لنا في جهادنا لغزو الملكوت الأرضي، فإذا بكم تسعون المساعي الخبيثة لكي تغتصبوا الملكوت الجهنمي، تبا لكم لقد أفسدتم قلوب الأبالسة وعثتم في جهنم فسادا، وعكرتم الصفاء بين رعاياي وقلقلتم السلام في مملكتي.
عني أيها الملاعين الخبثاء إلى الأوقيانوس اللامتناهي، لعل شعبي يطمئن بعد نفيكم ويهدأ ثائره، هذا حكمي على كل بشري يبدو منه مكر في جهنم، فعلى مدير قلم المطبوعات إذاعة هذا الحكم، وعلى الزعيم أنفنتورس تنفيذه!
والتفت عزرائيل إلى جنبه فلم ير فينوموس فراح يبحث عنها، فما عتم أن رآها وعلى كاهلها جوكوندا القديسة الحسناء، والقديس سلفستروس في الشرفة يأخذ بيد جوكوندا لكي يصعدها وهو يقول: لقد بقي ذنب الكلب في القالب عشرين سنة يا عزيزتي ومع ذلك بقي أعوج، أفي يوم تريدين أن تقومي اعوجاج أهل جهنم؟ تعالي إلى مطهرنا حيث نهتم بتطهير أنفسنا، إن خلاص كل امرئ بيده.
وعند ذلك رأت جوكوندا بعلزبول واقفا ينظر إلى جوكوندا ذاهلا ثم قال باسما: مع السلامة يا ملكة الجمال؟ لقد أنقذت برحيلك فينوموس من داء الغيرة.
وأومأت فينوموس إلى جوكوندا بيدها إيماءة الوداع قائلة: أنبئي زملاءك أن عجائبك لا تنجح إلا على الأرض.
وأومأ سلفستروس إليهما قائلا: لا تتعبوا أنفسكم في محاولة إفساد الأرض لأنكم لا تستطيعون أن تزيدوها فسادا، وإن كنتم تصرون على غزوها فجندوا ضيوفكم الأرضيين من أشرارها، فهم أقدر منكم.
فهز بعلزبول رأسه قائلا: نعم، وأقدر منهم من يستطيع أن ينجو من غوايتهم.
وتبودلت تحيات الوداع من بعيد.
Bilinmeyen sayfa