وعثرت عيناه على حقيبة بيضاء كبيرة فوق الشلتة التي كانت تجلس عليها سمارة. وخيل إليه أن للحقيبة شخصية، وأنها تؤثر فيه بمكر وسحر. واجتاحته رغبة عنيفة في ارتكاب فعل شاذ. مد يده إلى الحقيبة ففتحها، رأى أشياء متوقعة، ولكنها بدت صارخة الغرابة. وفغمته رائحة زكية. منديل وقارورة صغيرة كحلية اللون ومشط ذو مقبض فضي وكيس نقود ومذكرة في حجم الكف. وفتح الكيس فوجد بضع أوراق مالية، فخطر له أن يأخذ نصف جنيه ليعطيه للفتاة التي سيجيء بها عم عبده. وسر لذلك جدا، وآمن بأنه يبتكر فكرة فريدة ذات طاقة غير عادية على بعث المسرات. تناول المذكرة ودسها في جيبه. أغلق الحقيبة وهي يغرق في الضحك. سوف يستأنف تجربة التشريح التي فشل فيها قديما، ويشق قلبا مغلقا، ويجدد شبابه ليستعيد أيام العبث. سوف تقول الفتاة كل شيء مما يخطر على البال ومما لا يخطر، وسوف تتساءل هل قصد بالمادة الطحلبية ذات الخلية الواحدة أن تتضمن جميع هذه الأعاجيب؟ وسوف تسألني: متى كنت بركانا قبل أن تتخلف راسبا من الرواسب الميتة؟ وأنا لا أعرف الجواب، ولكن لعلك تعرفه أنت يا من يشيد التاريخ بذكراك. جلس أمامي كتمثال فقلت: أنت تحتمس الثالث حقا؟
أجاب بصوت ذكرني بصوت مصطفى راشد: نعم. - ماذا تفعل؟ - أتقاسم العرش مع أختي حتشبسوت.
قلت باهتمام: يسأل كثيرون عن سر خمولك في ظلها؟ - إنها الملكة. - ولكنك الملك أيضا. - إنها قوية وتحب أن تستأثر بكل شيء. - ولكنك أكبر قواد مصر وأعظم حكامها. - لم أخض حربا، ولم أمارس الحكم بعد. - إني أحدثك عما ستصير إليه، ألا تفهم؟ - وكيف عرفت ذلك؟ - من التاريخ، كل الناس يعرفونه.
وضحك وهو ينظر إلي كمن ينظر إلى معتوه، فقلت بإصرار: إنه التاريخ، صدقني. - لكنك تتكلم عن مستقبل مجهول.
فقلت كمن يتكلم في كابوس من شدة الحيرة: إنه التاريخ، صدقني.
10 (1) مشروع مسرحية
فكرتها تدور عن الجدية في مواجهة العبث. والعبث هو فقدان المعنى؛ معنى أي شيء. انهيار الإيمان، الإيمان بأي شيء. والسير في الحياة بدافع من الضرورة وحدها، ودون اقتناع، وبلا أمل حقيقي. وينعكس ذلك على الشخصية في صورة انحلال وسلبية، وتمسي البطولة خرافة وسخرية، ويستوي الخير والشر، ويقدم أحدهما - إذا قدم - بدافع من الأنانية أو الجبن أو الانتهازية. وتموت القيم جميعا وتنتهي الحضارة. ومما يجب دراسته في هذه المرحلة مشكلة المتدينين العابثين؛ فإنهم لا ينقصهم الإيمان، ولكنهم يسلكون في الحياة العملية مسلك العبث، فكيف تفسر ذلك؟ أهو سوء فهم للدين؟ أم إنه إيمان غير حقيقي، روتيني، بلا جذور، تمارس تحت ستاره أخسأ أنواع الانتهازية والاستغلال؟ يجب دراسة هذه النقطة، وهل يمكن الانتفاع بها في المسرحية، أو تؤجل لموضوع مستقل؟
أما الجدية فتعني الإيمان، ولكن الإيمان بماذا؟ ولا يكفي أن نعرف ما يجب أن نؤمن به، ولكن من الضروري أن يكون لإيماننا صدق الإيمان الديني الحق، وقدرته المذهلة على خلق البطولات ، وإلا كان نوعا جادا من العبث. وحتم أن يعبر عن ذلك كله من خلال الموقف والحدث، سواء أكان الإيمان بالإنسان أم بالعلم أم بالاثنين معا. ولكي أبسط المسألة أقول إن الإنسان واجه قديما العبث وخرج منه بالدين، وهو يواجهه اليوم فكيف يخرج منه؟ ولا فائدة ترجى من مخاطبة إنسان بغير اللغة التي يتعامل بها، وقد اكتسبنا لغة جديدة هي العلم، ولا سبيل إلى توكيد الحقائق الصغرى والكبرى معا إلا بها، وهي حقائق بلورها الدين بلغة الإنسان القديمة، والمطلوب أن تؤكد بنفس القوة ولكن بلغته الجديدة.
وليكن لنا في العلماء أسوة ومنهج. يبدو أنهم لا يقعون في العبث أبدا، لماذا؟ ربما لأنهم لا وقت لديهم لذلك، وربما لأنهم على صلة دائمة بالحقيقة، معتمدين على منهج موفق قد أثبت جدارته، فلا يتأتى لهم الشك فيها أو اليأس منها. وقد ينفق أحدهم عشرين عاما لحل معادلة، وستجد المعادلة عناية متجددة، وتلتهم أعمارا جديدة، ثم تفضي إلى خطوات راسخة في سبيل الحقيقة؛ فهم يعيشون في مناخ يعبق بالتقدم والنصر، ولا يعن لهم مثل هذا السؤال: «من أين، وإلى أين، وما معنى حياتنا؟» أي مغزى؟ ولا يوحي بأي عبث. والعلم الحقيقي يفرض أخلاقيات في عصر تدهور الأخلاق، فهو مثال في حب الحقيقة والنزاهة في الحكم، والرهبانية في العمل، والتعاون في البحث والاستعداد التلقائي للنظرة الإنسانية الشاملة. وعلى المستوى المحلي هل يمكن أن يحل التفوق العلمي محل الانتهازية في قلوب الجيل الجديد؟
على أي حال يستحسن ألا أشغل رأسي بفكرة المسرحية أكثر من ذلك الآن، وسأعود إلى ذلك بعد جمع مزيد من العناصر الضرورية للعمل.
Bilinmeyen sayfa