مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
ثارات العرب
ثارات العرب
أدبية تاريخية غرامية تشخيصية
تأليف
نجيب الحداد
مقدمة
أسماء الأشخاص:
أبو قابوس المنذر:
ملك العرب.
سلمان:
أخوه.
ليلى:
خطيبة حماد.
حسان:
عاشق ليلى.
شمطاء:
عجوز.
فقير:
الملك متنكر.
عامر، حماد، سالم، قراد، قيس، ناقد، زياد:
أمراء.
هلال، زيدان، فاضل، عمران، فاتك:
أسرى.
جنود وحرس وأسرى وضباط.
المكان:
الواقعة حدثت في بلاد العرب.
الفصل الأول
الجزء الأول
شمطاء :
هنا أمراء القصر في اللهو والطرب
وهذي أسارى القوم في الشغل والتعب
هنا رنة الألحان والأنس والصفا
وهذا رنين القيد والظلم والغضب
هنا الجد يأوي بابنه وكلاهما
يعدان ما قد أسلفاه من الحقب
يكران طرف الذكر في نوب مضت
وهيهات يغني الذكر والعمر قد ذهب
أميران قد عزا على كل مالك
وعبد فكانا الرأس والعالم الذنب
بحصن سما عن كل حصن ومعقل
فكاد يفوت النسر أو يلحق الشهب
ومن حوله أبطال حرب أعزة
يرون عذاب الموت أحلى من الضرب
رجال لهم في كل جسم صحيفة
يخطون فيها بالرماح وبالقضب
ويحمون هذا الحصن من كل طارق
عدو فلم يدخل إليه سوى الطرب
دخلت إلى هذا المكان ذليلة
عجوزا تولتني المصائب والنوب
أجر قيود الذل فيه وطالما
جررت ذيول العز زينها الذهب
ولكن رويدا ساكني القصر إنني
رسول البلايا والنوائب والعطب
الجزء الثاني (هلال - زيدان - فاضل - عمران - فاتك - ثم جندي)
هلال :
هذه ساعة الراحة والحمد لله ... حقا لقد تعبت.
زيدان :
لقد كنت حرا غنيا، أما الآن ...
فاضل :
وا أسفاه.
زيدان :
أريد أن أعرف ماذا تصنع هذه العجوز هنا.
فاضل :
جل ما أعلمه من أمرها أنهم أخذوها مسبية في الشهر الماضي مع بعض التجار، وجاءوا بها إلى هذا الحصن.
عمران :
لماذا يقيدوننا نحن، ويتركونها حرة تذهب حيث تشاء.
فاضل :
ذلك لأنها شفت حفيد الأمير الكبير من حمى قتالة، وقد شفت أيضا أحد الأمراء من لدغة أفعى.
زيدان :
أظن أن هذه العجوز سحارة، فإنها لم تشف هذين الأميرين فقط بل شفت الثلاثة البرص؛ الذين كانوا هنا فأصبحوا لها من أطوع الخدم، وظني أنها امرأة خبيثة ذات مقاصد هائلة، فهي لا تأوي إلا الكهوف أو المقابر، وتوقد فيها النار وتصنع عليها أدوية وعقاقير لا أعلم كيفية تركيبها. وقد رأيتها مرة ماشية مع رجالها الثلاثة في جانب الحصن، وإذا بها قد اختفت معهم فجأة كأنها شقت الجدار ودخلت فيه.
فاتك :
يا ليتها بدلا من أن تشفي حمادا الخبيث وغيره شفت ليلى خطيبة حماد وابنة أخت الشيخ سلمان جده.
زيدان :
حقا؛ إن هذه الفتاة ملك في صورة إنسان.
فاتك :
ولكنها ناحلة ذابلة تخطو كل يوم خطوة في سبيل القبر، ولا شك أن خطبتها لهذا الوحش الضاري حماد هي السبب الأكبر في سقمها وانتحالها.
فاضل :
هذه العجوز قد عادت حقا، إن منظرها يرعبني، فلعنة الله على هذا الحصن كم فيه من أهوال.
زيدان :
اسكت ولا ترفع صوتك لئلا يسمعنا أحد.
فاضل :
لا تخف، فإن أمراءنا في وليمتهم، وهم بعيدون عنا.
زيدان :
ولكن الاثنين هنا.
فاضل :
وأي اثنين.
زيدان :
الشيخ الأكبر سلمان وابنه، فإن هذا الباب لا يدخله غيرهما وغير ليلى والفتى الضابط حسان الذي قدم إلى هذا الحصن في العام الماضي، وخدم بين رجاله ونال محبة سلمان الجد الأكبر بشبابه ومحاسن أخلاقه، أما الجد فيقضي غالب أوقاته في هذه الحجرة العميقة، وإلى جانبه ابنه الأكبر عامر يحمل رمحه، ويقضيان معا ساعات طويلة لا ينطقان فيها بحرف. ويقال: إن هذا الشيخ العاجز يندب ذنوبا له سلفت، وقد ثقلت جرائمها عليه، ويبكي ولدا له صغيرا خطف منه منذ عشرين عاما، ولا يدري من كان خاطفه ويبلغني أن أولاده الأدنياء من أشد مصائب الدهر عليه، وأظنه لم يلقب بالشريد عن عبث.
فاضل :
وهل تعرف شيئا عن أمر هذا الحصن.
زيدان :
جل ما أعرفه من أمره أنه قد جرت فيه جريمة هائلة، ثم أخلاه صاحبه من بعدها وهجره عشرين سنة لا يأوي إليه، ثم عاد إليه بعد ذلك، وهو على ما تراه من الحزن والهم.
فاتك :
وهل لاحظت في هذه الغرفة فوق مجرى النهر شباكا من حديد مكسورا.
زيدان :
نعم، وهذا الذي يسمونه المظلم، ويقال: إنه مكان تسكنه الجن، وإن دم الجريمة قد جرى على جدرانه قديما، وأصبح اليوم لا يدخله إنسان غير الذين ذكرتهم لك، وذلك من عشرين سنة تقريبا إلى حين قتل الملك الكبير أبو قابوس النعمان بن ماء السماء في حرب العجم.
عمران :
أما أنا فالذي أعلمه أن هذا الملك لم يمت، وقيل لي: إنه لا يزال حيا وأن منجما أخبر الناس بأن هذا الملك سيشيع خبر وفاته، ثم يعود فيظهر مرة أخرى.
فاضل :
هذه خرافة لا أصدقها، فقد حضرت الحرب التي قتل فيها ورأيت النهر يحمله بجواده، وقد حالت بيننا وبين إنقاذه كثرة الأعداء.
عمران :
صدقت، ولكن ذلك لا يمنع من نجاته، وأن يعود إلى بلاد العرب، فيصلح أمورها بعد هذا الدمار العظيم، فإنهم قد بحثوا عن جثته كثيرا فلم يجدوا لها أثرا.
زيدان :
ألا تسمعون لي هذه الحكاية.
عمران :
تكلم.
زيدان :
أذكر من نحو ثلاثين سنة أنني وجدت رجلا في بعض أحياء العرب يدعى سليمان، يزعم أنه كان خادما عند الأمير غسان والد الملك أبي قابوس المنذر، وقد حكى لنا أن الأمير لما ولد له هذا الولد خاف عليه من كثرة الأحزاب حوله، فأرسله إلى ولد له آخر كان يسكن في حصن حصين على هذه الجبال، وسأله أن يربيه ويعتني بأمره وأنه أخوه فليحرص عليه ما استطاع، فأقام هذا الولد الذي صار ملك العرب إلى أن بلغ العشرين من عمره في ذلك الحصن، فوجدوا الفتى وخادمه جريحين وهما على شفا الموت، فأخذوهما واجتهدوا في علاجهما حتى شفيا فعاد الخادم، وهو الذي حدثني بهذه الحكاية إلى مولاه، ومعه ابنه الذي صار ملكا بعد ذلك وظني أن أخاه قد مات، ولم يعرف أن أخاه القتيل قد صار ملكا، ويقال: إنه هو الذي قتله؛ لأنهما كانا يعشقان امرأة واحدة، وأنه بعد أن قتله مع خادمه وطرحهما من نافذة الحصن عمد إلى معشوقته، فقيدها وباعها رقيقة لبعض التجار، ولم يعلم أحد كيف كان مصيرها بعد ذلك.
عمران :
وماذا تستنتجه من هذه القصة؟
زيدان :
أستنتج منها أن ما شاع من عودة أبي قابوس المنذر صحيح، وأن هذا الرجل لم يمت بعد، وإن خفي أمره على الناس، ويقال أيضا: إنه كان يدعى زيادا عندما قتله أخوه، وأن أخاه كان يدعى غصوبا، وأن تلك المعشوقة كانت عبسية. أما القاتل فقد خرج من الحصن بعد هذه الجريمة كما قلت لك، وأما الفتاة فقد بحث عنها الملك المنذر كثيرا فلم يجدها، وأعرف من ثقة أنه بحث عنها في جميع هذه الحصون وقدم بجيشه، وقد كنت معه فحاصر هذا الحصن حصارا شديدا، وأقام يقاتل حوله قتال الأبطال إلى أن التقى بصاحبه في المعركة، وكان في يد خصمه حديدة محماة، فكوى بها الملك في زنده ومرق من الجيش بسرعة جواده، ولم يقدر أحد على معرفته؛ لأن وجهه كان مقنعا بالحديد، والله أعلم إذا كان الملك لا يزال حيا كما يقولون، أم أحاديثهم عنه خرافات وأساطير.
جندي (يدخل) :
انهضوا أيها العبيد إلى أشغالكم، فقد جاء وقت العمل، وإن مولاي حمادا وضيوفه سيزورون هذا المكان، فلا يحسن أن يروكم هنا.
الجزء الثالث (حسان - ليلى - هند)
حسان :
تعالي استندي علي وسيري برفق ... اجلسي على هذا الكرسي قليلا ... كيف حالك اليوم؟
ليلى :
على أسوأ حال، فإن البرد يقرصني وأعضائي ترتجف ضعفا، إن هذه الوليمة قد أزعجتني كثيرا ... (لهند)
انظري ألا يأتينا أحد.
حسان :
لا تخافي، فإن أصحابنا يشربون إلى الصباح، ولكن لماذا ذهبت إلى تلك الوليمة لتؤثر على جسمك الضعيف تلك الأغاني والكئوس.
ليلى :
إن حمادا قد حكم علي.
حسان :
حمادا ...؟
ليلى :
اخفض صوتك، فإنه لا يبعد أن يسمعنا ألا تدري أنني خطيبته، وله علي الأمر والنهي.
حسان :
نعم، ولكن كان ينبغي أن تشكي أمرك إلى الشيخ الكبير مولانا، فإن حمادا يخاف منه.
ليلى :
وما الفائدة من ذلك، وأنا سائرة في طريق القبر؟
حسان :
ليلى، بالله ما هذا الكلام.
ليلى :
حزن وهم يليه الموت عن عجل
هذي حياة النسا في العالم الفاني
حسان :
أما ترين بهاء الشمس غاربة ... ... ... ... ... ... ...
ليلى : ... ... ... ... ... ... ...
نعم وقد مر عنها شهر نيسان
وصارت الأرض في فصل الخريف، وقد
رمت بأوراقها من فوق أغصان
وأصبح البر قفرا لا أنيس به
كأنه مقلة من غير إنسان
حسان :
لكن سترجع أوراق الغصون كما
كانت وتكسو الروابي حسن ألوان
ليلى :
نعم وهذي جماعات الطيور غدت
تسير عنا إلى أهل وأوطان
حيث الحرارة تحييها وتنعشها
فتأنس الأرض تغريدا بألحان
حسان :
نعم ولكنها لا بد راجعة
إلى هنا شأنها قبلا إلى الآن
ليلى :
نعم، ولكن أنا هيهات أبصرها
أو أبصر الزهر يزهو بين أفنان
فإن عمري قصير لا انتظار به
لعودها وعذاب البين أفناني
حسان :
حبيبة القلب ما هذا الكلام فقد
أجرى الدموع وأذكاني بنيران
ليلى :
ضعني قريبا من الشباك خذ بيدي
وارمي لهذي الأسارى كل همياني
ما أجمل الشمس ما أبهى أشعتها
كأنها وجه صب بائس عاني
تلقي أشعتها حمرا فنحسبها
قد كللت هامة الدنيا بتيجان
ويلمع النهر من أنوارها فيرى
كأنه أدمع في خد ولهان
ما أحسن الأرض في عيني وأجملها
كل الحياة بها والكل ينساني
يتيمة لا أب يحنو على سقمي
يوما ولا أم تسليني وترعاني
وحيدة لست ألقى في الورى سندا
لذاك أصبح صرف الموت يلقاني
حسان :
لا تكفري لا تقولي أنت واحدة
وها أنا في الورى من بعدك الثاني
إني أحبك يا روحي ويا أملي ... ... ... ... ... ... ...
ليلى : ... ... ... ... ... ... ...
هيهات لم تك يا حسان تهواني
هذا رسول مماتي قد دنا وأنا
أمضي فتسلو غرامي بعد أزمان
حسان :
إن مت مت بلا شك وأقسم بال
حب الصحيح وهذا جل إيماني
أتزعمين بأني لا أحبك قد
فطرت قلبي، وقد هيجت أحزاني
دخلت ذا الحصن من عام فكنت به
من أهله مؤمنا ما بين أوثان
أرى الجميع لصوصا لا ذمام لهم
الدين في عرفهم والكفر سيان
كانوا ظلاما على عيني يخالفهم
طبعي وينفر منهم طيب وجداني
حتى بدت شمس حسن منك مشرقة
شعاعها من جمال فيك فتان
وأصبح القلب رهنا في يديك ولا
تؤاخذيني، فإن الحب ألجاني
إذ قد عشقت فتاة في إمارتها
خطيبة لأمير باذخ الشان
مع أنني رجل لا أصل يرفعني
وليس لي والد في المجد رباني
ولست أعرف من نفسي سوى همم
تسمو بنفسي إلى أطباق كيوان
وإن لي صارما يغني عن النسب ال
قاصي وأنشئ منه مجدي الداني
فقد يكون أبي لا أصل ينسبه
وقد يكون مليكا رب سلطان
لكنني كيف كانت رتبتي فأنا
رهين حبك يا روحي وريحاني
إن كان في القصر من أهوى فأنت به
قبلا وبعدك ذاك العاجز الفاني
هذا المسن الذي يقضي لياليه
هنا ويبكي عليها بالدم القاني
وكل أبنائه عار ومنقصة
بل كلهم ثعلب في زي ثعبان
وليس غيرك يسليه فأنت له
كبارد الماء يروي غل ظمآن
أما أنا الجندي التائه المجهول، فإني أشعر أن نفسي صارت كبيرة بقرب ذلك الشيخ الجليل، وصارت نقية طاهرة بقربك، ولكنني مع ذلك غيور تلذعني الغيرة في صميم فؤادي، فأبكي وأسكت، ولقد رأيت خطيبك من ساعة ينظر إليك نظر العاشق المغرم، فكدت أجن من الغيرة، بل كدت أهجم عليه فأحطمه تحطيما، ولكنني راعيت الظروف مكرها وصبرت، أتزعمين بعد ذلك أنني لا أحبك:
أنت روحي أنت النعيم لقلبي
أنت شمس وأنت بدر سمائي
لك قلبي لك الحشا لك ما تر
جوه نفسي من غبطة وهناء
ولكن عفوا إذا كلمتك عن نفسي في حين ينبغي أن لا أذكر لك سواك.
ليلى :
إن حظي مثل حظك أيها الحبيب كله تعاسة وشقاء، فإنني قد عشت يتيمة وأنت قد عشت كذلك وكنا كلانا على السواء، ولقد كان الدهر يقدر أن يجمع بين شقائي وشقائك، فيكون لنا منهما تمام الهناء، ولكن ...
حسان :
ولكن أنا أهواك يا طلعة البدر
وحق الذي في جفن عينيك من سحر
ولكن أنا المضنى أنا العاشق الشجي
أنا المغرم الموصول عمرك في عمري
ولكن أنا أقتل خطيبك إذا أساء إليك، وأنا وحدي أقوم لك مقام أبويك، أما أبوك فأنوب عنه بسيفي وزندي، وأما أمك فأنوب عنها بحنوي ووجدي.
ليلى :
شكرا لك أيها الحبيب فقد أظهرت لي خفايا فؤادك، فعلمت أنك أشد بأسا من الجبابرة، وأرق فؤادا من النساء، تلك هي صفاتك الحسنة التي أحببتك لأجلها، ولكن هيهات أن تقدر في سبيلي على شيء.
حسان :
نعم أقدر.
ليلى :
لا، لا تقدر على شيء، فإن الأمر لا يتعلق بإنقاذي من خطيبي، بل إن لي خطيبا آخر سيأخذني بلا دفاع ولا امتناع لا تقدر عليه أنت بعزمك، ولا يرق فؤاده لجمالك وغرامك؛ لأن هذا الخطيب قوي قادر، وهو الموت. والآن إذ قد دنت أيامي من الفناء، فأنا أقسم قلبي قسمين قسما أقدمه لك وقسما أبسطه تحت عرش الله:
فأموت راضية عليك، وقد رضي
عني إلهي فارض عني واعذر
فليأخذ الله العلي نفسي وخذ
مني فؤادي، فهو جود المقصر
هند :
إني أسمع وقع أقدام.
ليلى :
إذن فهلمي بنا.
أأموت في سن الشبيبة والصبا
ويلاه ما أقسى الممات وأرهبا
أأموت عاشقة وأفقد كل ما
أهوى ولست أنال منه مأربا
إن الممات يخيفني فأشفق على
قلبي فلم يك في غرامك مذنبا
أحبيب قلبي خلص القلب الذي
تهوى وكن بخلاص نفسي لي أبا
أتراك تقدر أن تخلصني ... ... ... ... ... ... ... ...
حسان : ... ... ... ... ... ... نعم
لا بد أن تحيي فعودي للخبا
أتموتين هكذا في صباك
حلوة يفتن الجماد بهاك
وأنا واقف أراك ولا أس
عى بشيء إذن أخون هواك
لا تموتين، إن كل دمائي
فدية دون نقطة من دماك
سوف تحيين لي وأقسم بالله ... ... ... ... ... ... ...
الجزء الرابع (حسان - شمطاء)
حسان : ... ... ... ... ... ... ... ...
لقد جئت في أوان لقاك
أنا في حاجة إلى حسن مسعا
ك، وفي حاجة إلى أن أراك
شمطاء :
ابعد عني وسر في طريقك.
حسان :
اسمعي لي كلمتين.
شمطاء :
أتريد أن تسألني أيضا عن بلادك وعن قومك؟ إنني لا أعرف شيئا، وأن تسألني لماذا ربيتك وحيدا، وإني وجدتك طفلا لقيطا وربيتك عندي؟ إنني لا أعرف أيضا، ولماذا أتيت بك إلى هذا الحصن، وقلت لك: تظاهر بأنك لا تعرفني؟ إنني لا أعرف أيضا، ولماذا أنا مقيدة أسيرة ولماذا أبقيت القيد في رجلي؟ إنني لا أعرف أيضا. أتريد أن تسألني ما هو اسمي، ومن هم قومي، وما هي عشيرتي، وأين بلادي؟ إنني لا أعرف أيضا، فاكشف أمري إذا شئت، وسلمني لهؤلاء الظالمين، ولكن لا تسألني عن شيء، ولا تؤمل أن أجيبك بشيء.
حسان :
قفي لا أسألك عن شيء من ذلك، وليس الأمر متعلقا بنفسي، فأنا أسألك عن ليلى.
شمطاء :
إنها ستموت قريبا.
حسان :
أتقدرين أن تشفيها.
شمطاء :
وماذا يهمني من شفائها؟ نعم إن في هذا الصدر لعلما عظيما وحكمة واسعة، فلقد قضيت أكثر أيامي في الهند والصين، وتعلمت الطب وتركيب الأدوية وصنع السموم، وجميع العلاج حتى صرت أقدر بدواء واحد أن أجعل المائت حيا وبدواء واحد أن أجعل على وجه الحي هيئة الأموات.
حسان :
أتقدرين أن تشفيها؟ تكلمي بالله.
شمطاء :
نعم أقدر.
حسان :
إذن استحلفك بالله العلي القادر، وأركع على قدميك ملتمسا ضارعا أن تخلصيها وتشفيها.
شمطاء :
افرض أنك بينما كنت هنا الآن تغازل ليلى التي تهواها دخل عليك حماد خطيبها، وهو هائج من الغيرة والغضب وطعنها بخنجر في صدرها ورماها في هذا النهر الكبير، ثم أخذك بيدك وباعك في السوق بيع العبيد ليرموك بالخسف والعذاب، ثم تعذبت كثيرا وعدت إلى هذا المكان ماذا يبقى في قلبك، وأي شيء يجول في فؤادك؟
حسان :
الانتقام والقتل وأخذ الثار.
شمطاء :
إذن، فأعلم أنني أنا الانتقام والقتل وأخذ الثار، أنا الظامئة إلى شرب الدماء وأخذ نفوس الغادرين، أتطلب مني الآن أن أكون شفيقة، وأن أكون فاضلة، وأن أشفي الأحياء؟ هيهات، إن ذلك أمر قد فات ... أتقول: إنك محتاج إلي؟ أتقول: إنك تريد إسعافي؟ وإذا أنا أرجفت فؤادك رعبا، وقلت لك: إنني أيضا محتاجة إليك، وإنني أريد إسعافك، وإنني قد ربيتك لأنتقم على يدك، فماذا تقول وماذا تصنع ...؟ اذهب أيها الصبي، وابعد عني، فإنني كلي غضب وانتقام، إن الذي حكيته لك الآن هو تاريخي بعينه، ولكن الذي قتلوه هو العاشق، والتي باعوها جارية هي المعشوقة، وهي أنا والقاتل لا يزال حيا يرزق ولا منتقم منه سواك، أنت الذي تأخذ ثأري وتنتقم لي مما لاقيته من عذاب شديد كل هذه السنين الطوال.
حسان :
ويلاه، ما هذا الخبر الفظيع.
شمطاء :
إنني تعذبت كثيرا وخدمت ستين عاما، وزرت مصر والهند والعراق، ودرست الطبيعة والعوالم والأكوان، وتقلبت علي ألوان العذاب والذل والهوان، أما الآن فقد انتهى كل شيء ولم يبق في صدري قلب إنسان، بل أنا أضع يدي هنا، فلا أشعر بحركة ولا خفقان؛ ذلك لأنني أصبحت صخرا قاسيا لا يحن ولا يلين.
حسان :
لله، ما أتعس حظك.
شمطاء :
ولقد أتيت إلى هذا الحصن من الشهر الماضي، والانتقام يلتهب في قلبي التهابا، حتى وصلت إلى عدوي، وجعلته في قبضة يدي وجعلت حياته موقوفة على لفظة من ألفاظي إذا لفظتها سقط قتيلا، وأنت أنت وحدك تقدر أن تنيلني الانتقام كما أريد، ولكني مع ذلك أخاف من هذه الجريمة، ومع كل قساوتي وشراستي أشفق عليك، وأخاف على حياتك في مثل هذا الانتقام الشديد. اذهب بالله عني؛ ولا تجربني لأنك إذا طلبت مني شيئا فيه حياة حبيبتك، فأنا سأطلب منك شيئا فيه هلاك عدوي، ولكن إذا بقيت على عزمك أفتجرد خنجرك من غمده؟ أترضى أن تكون قاتلا؟ أتريد أن تكون سيافا؟ أراك ترتجف منذ الآن، إذن فاذهب عني يا قلبا ضعيفا ويدا ساقطة، اذهب ولا تكلمني ودعني في شأني.
حسان :
وأي شيء تطلبين مني إذا شفيت من أحب؟
شمطاء :
لا تدنس يدك بالجريمة، واذهب عني.
حسان :
اعلمي أني أسفك دمي في سبيل خلاصها، فاطلبي وتكلمي.
شمطاء :
اذهب عني.
حسان :
أرتكب جريمة إذا شئت أرضيت الآن ...؟
شمطاء :
ويلاه، لا يزال يجربني، إذن سأقضي مرامي ... أتعلم أنك ستصبح ملك يدي، وأنك لا يفيدك تضرع ولا التماس، وأن كل ذلك يضيع في أعماق قلبي المظلم، وإنني تمثال أصم لا رحمة عندي ولا شفقة إلا إذا رأيت حبيبي المقتول قد عاد حيا أمامي، وهو الأمير زياد الذي كنت أهواه؟ والآن فاسمع ما أقول لك، فإني أنبهك إلى عاقبة أمرك قبل أن تبدأ بالعمل الذي أريد، إنني أريد منك أن تقتل رجلا هنا كما يقتل الجلاد الرجل المجرم كائنا من كان ذلك الشقي في أية ساعة أردت بلا رحمة ولا شفقة، أسمعت؟
حسان :
نعم، ثم ماذا؟
شمطاء :
اعلم أن كل دقيقة تمر علينا تسوق حبيبتك إلى القبر، وأنا وحدي أشفيها ولا يقدر أحد على إنقاذها غيري، انظر هذه الزجاجة تشرب منها نقطة في كل ساعة، وأنا أضمن لك أنها تعيش.
حسان :
يا ربي أحق ما تقولين، أعطيني هذه الزجاجة بالله.
شمطاء :
اسمع قبلا، إذا رأيت حبيبتك غدا سليمة متعافية، وقد زال عنها كل ألم وعاد لها رونق الشباب بفضل هذا الشراب، فأنت تصبح ملك يدي أتصرف بك كما قلت لك.
حسان :
نعم.
شمطاء :
اقسم لي.
حسان :
أقسم بالله العلي العظيم.
شمطاء :
ومع ذلك، فإن حبيبتك ليلى ستكون رهنا في يدي عنك، وهي التي يقضى عليها إذا أخلفت وعدك لي وأنت تعلم أنه لا يصعب علي شيء، وأنني أعرف كل هذا الحصن بجميع خفاياه، وأدخل منه في كل مكان وفي كل آن.
حسان :
أتقولين أنها تشفى؟
شمطاء :
نعم، ولكن اذكر أنك حلفت.
حسان :
أتنقذينها من الموت؟
شمطاء :
نعم، ولكن اعلم أنني عندما أعطيك هذه الزجاجة آخذ منك قلبك، وتكون رهن يدي.
حسان :
إذن فهاتي وخذي.
شمطاء : (تعطيه الزجاجة)
إلى الغد (تخرج) .
حسان :
إلى الغد:
هذي حياتك يا حياتي في يدي
وكذاك بين يديك كل حياتي
فخذي حياتك من يدي لكنما
لا ترجفي قلبي ففيه مماتي
إني اشتريت لك الشفاء، ولم أكن
متندما والجود من عاداتي
هذا الدواء لنا كلانا بالسوا
فإذا شفيت شفيت من علاتي
وإذا الحبيب شفي بشرب دوائه
فأنا سأشرب بالشفا كاساتي
الفصل الثاني
الجزء الأول (أبو قابوس - اثنان من أتباعه)
أبو قابوس :
قد وصلنا هنا مكان الجريمه
وهنا تظهر الذنوب العظيمه
وهنا تغفر الذنوب ولا يغ
فر ذنبا إلا النفوس الكريمه
صنت نفسي بالنسك عشرين عاما
وتركت البلاد مني يتيمه
وقضيت الأعوام يحسبني النا
س قتيلا بين العظام الرميمه
غير أني سمعت صوت بلادي
تشتكي الذل والرزايا الأليمه
فتركت النفار عنها وأقبل
ت إليها بنية مستقيمه
وبعزمي إنقاذها من بلايا
ها وأحكام قومها المذمومه
فإذا ما حييت تحيا، وإن مت
فموت الذليل أشهى غنيمه
فاكتموا ما نويت، فالمرء لا
ينجيه إلا أعماله المكتومه
لا تقولوا: إني مليك وقولوا
رب فقر في غربة مستديمه
فعساني أرى أخي وأنجي
وطني والعقبى تكون سليمه
رام قتلي فيما مضى وأنا اليو
م سأعفو عنه وأمحو الجريمه
الأول :
مولاي، أتكون الملك العظيم أبا قابوس سيد العرب، وتعود إلى ملكك بمثل هذه الملابس، وعلى هذا الحال.
أبو قابوس :
هكذا تقتضي الحكمة، فإما أن أنقذ بلادي وأنا على هذه الصفة، وإما أن أموت فقيرا كما أنا الآن، فلا يعرفني سواكم أحد.
الثاني :
ولكن يا مولاي، أين كنت كل هذه المدة؟ وما الذي تقصده من هذا المكان؟
أبو قابوس :
لقد عشت في القفار والجبال عشرين عاما حسبني فيها الناس مائتا، واستبد الحكام في الأمور والأحكام وأنا أحسب أنني أكفر عن ذنوبي، وأمحو ما لعله فرط من الآثام. أما الآن فقد رأيت بلادي في ربقة الظلم والضيق، ولا ينقذها سواي وعلمت أن أخي الذي ظن أنه قتلني لا يزال حيا، وهو من أقوى الأمراء، فأتيت لكي أراه فأغفر له ذنبه في قتلي وأبشره بأنني لا أزال حيا، ثم أستعين به وبقومه على إنقاذ البلاد.
الثاني :
وكيف قتلك أخوك يا مولاي.
أبو قابوس :
كنت عنده في قصره هذا أيام شبابي، فعشقت فتاة جميلة وعشقها معي ثم رآنا كلينا في خلوة غرام، فغار غيرة شديدة، وضربني بخنجره وألقاني من النافذة إلى النهر، فألتقطني بعض الرعاة وأنقذوني من الموت، وهو يحسب أنني في عداد الأموات.
الأول :
ولما صرت ملك العرب، ألم يعرف ذلك؟
أبو قابوس :
لقد كنت عنده أدعى زيادا حينما ضربني وألقاني في النهر، ولما ملكت العرب ببأسي وقوتي لقبوني أبا قابوس، فأخفى هذا اللقب الجديد ذلك الاسم القديم، ولم يعرف أخي أن أخاه القتيل لا يزال حيا.
الثاني :
ولما صرت ملكا، ألم تسع في طلبه ؟
أبو قابوس :
لقد جئت بجندي فحصرت حصنه هذا، وحاربني وهو لا يعرفني فلم أقدر على أخذه، بل كواني في زندي بحديدة محماة وجمح بي جوادي، فألقاني في النهر، وانكسر العسكر بعدي، وهم يحسبون أنني قتلت، أما أنا فكنت قد نجوت بنفسي من النهر، وذهبت فتنسكت في القفار، واعتزلت الملك والحروب حتى ظنوني ميتا، وهذه هي أسرار أخي بي إلى الآن.
الأول :
وهل تريد أن تخبر أخاك الآن أنك أخوه؟
أبو قابوس :
سأرى كيف تكون ظروف الأحوال، أما قصدي الأول فهو إنقاذ البلاد من دمارها كما قلت لكما، وهو الأمر المهم الذي أتيت لأجله.
الأول :
والآن، فماذا يأمر مولاي الملك أن نفعل؟
أبو قابوس :
أريد أن تبقيا هنا في انتظاري، وأنا ذاهب إلى الحصن وحدي، وسأفعل هناك أفعالا عجيبة يرويها التاريخ عني، فإذا نجحت في قصدي دعوت بكما إلي، وإذا لم أنجح وقتلوني فارجعا عن هذه البلاد، ولا تخبرا أحدا بأمري:
اذهبا الآن واخفيا عن عيون ال
ناس طرا من كاشح وصديق
واكتما عنهم جميع حديثي
وادعوا لي بالفتح والتوفيق
الجزء الثاني (سالم - قراد - قيس - حماد - ناقد - عامر - زياد - حسان - سلمان - ثم ضابط)
سالم :
انظر أيها الأمير، إن باب الحصن وطريقه يظهران من هنا.
قراد :
ما هذا المكان الواسع المظلم؟
قيس :
إن من يرى هذا الباب المظلم يقول: إنه مكان تسكنه الجن.
حماد :
هنا يجلس جدي الكبير.
قيس :
وحده.
حماد :
لا، بل مع أبي.
قراد :
لله درك، كيف قدرت أن تخلص من هذين الشيخين.
حماد :
لقد ذهبت أيامهما واختل عقلهما كثيرا، وها قد مضى على جدي الآن أكثر من شهرين لا يتكلم، فانظر مفاعيل الشيب والهرم، فإن عمره يبلغ نحو المائة سنة، أما أنا فقد أخذت مكانهما بعد أن تخليا عنه.
ضابط (يدخل) :
مولاي.
حماد :
ماذا تريد؟
ضابط :
إن الأسير الهندي لم يدفع الفدية بعد.
حماد :
اشنقوه.
ضابط :
إن عرب الحدود قد جاءوا طائعين، وهم يطلبون الأمان.
حماد :
انهبوا أموالهم فقد أخذنا أموالهم بسيوفنا.
ضابط :
وماذا نصنع بجيرانهم.
حماد :
انهبوهم أيضا (يخرج الضابط) .
ناقد :
إن شرابك جيد أيها الأمير.
حماد :
هذا لا شك فيه، فإن لي ضريبة من الخمر كل سنة على قبيلة غسان.
قيس :
وعلم الله أن خطيبتك ليلى لجميلة.
حماد :
نعم، لا بأس بها فهي نسيبتنا من جهة الأم.
قيس :
وكذا يظهر أنها مريضة.
حماد :
ليس ذلك شيئا يذكر.
الضابط (يدخل) :
علمت أن بعض التجار سيمرون من هنا غدا.
حماد :
استعدوا لقطع الطريق عليهم، لقد كان آباؤنا يقاتلون، أما نحن فنلهو الآن ونطرب، وقد كانوا يستعملون القوة، أما نحن فنستعمل الحيلة والخداع، وما أنكر أن الناس تشتمني، والتجار تلعن اسمي، والعرب تتعوذ من بأسي، ولكن كل ذلك لا يهمني ما دمت أضحك وأشرب، وما دام حصني منيعا يرد عني غارة الأعداء، وما دامت خطيبتي جميلة تسر الناظرين، وعلى ذكر الخطيبة هل تزوجت بنت أمير اليمن؟
قيس :
لا.
حماد :
ولكنك وعدت أباها، وأخذت منه مالا.
قيس :
نعم، وعدت وأخذت، ولكني أترك البنت لأبيها وأترك المال عندي.
حماد :
ولكن ماذا يقول أبوها عنك؟
قيس :
ليقل ما شاء أن يقول.
حماد :
وما تصنع بالوعد الذي وعدت؟
قيس :
ذلك شأن لا يهم.
عامر :
عهدت الكريم إذا ما وعد
وفي أو يخون قواه الجلد
وكنا إذا ما عقدنا العهود
تراها علينا كدرع الزرد
يراه الكريم لدى بابه
ويلقاه في حلمه إن رقد
وتنفد أعمار أصحابه
وأكثر أوعادهم ما نفد
تبارك ربي إلى أي حال
غدونا وأي زمان فسد
فضاعت مواعيد أبنائنا
وضاع الذمام وضاع الرشد
وأضحى البغاة مكان النسور
وقام الكلاب مقام الأسد
حماد :
احذر يا أبي فأنت تهيننا، واذكر أن الملك أبا قابوس عاقب عمه مرة على إهانة أصغر من هذه، فلا تتركني أتبع هذا المثال.
عامر :
يظهر لي أني سمعت اسم أبي قابوس، فإياكم أن يلفظ أحدكم هذا الاسم أمامي بعد.
قيس :
وبماذا ساءك هذا الملك أيها الشيخ؟
عامر :
أتقول بماذا ساءني، انزل في هذه الهوة، وانظر كم فيها من قصور مهدمة بيد هذا الملك العاتي، انظر كم أذل من أبطالنا، وكم أسر من رجالنا، وكم سبى من نسائنا، وكم سفك من دمائنا على أيدي جنوده الغادرين، أتقول بماذا ساءني؟ لقد استعبدنا ثلاثين عاما يقتل أبناءنا، ويحرق منازلنا ويستعبد رؤساءنا، ويسجن أبطالنا، ويسومنا الذل والخسف ويضع في أيدينا قيود الحديد، ولا يلبث أمامه أحد، وأنا أذكر أنه نازلنا في إحدى المعارك، واقتحم وحده جيشا كاملا من جيوشنا، فلم يقدر أن يقف في سبيله واحد منا إلا أبي هذا، فإنه صادمه في طريقه وكوى زنده برمح من حديد، أما الآن فقد ذهب كل ذلك هباء منثورا، وبادت رجال الحرب جميعا، ولم يبق من تلك الغابة العظيمة إلا شجرة واحدة؛ وهذه الشجرة هي أنت أيها الولد الكريم. أتقولون: أبو قابوس، ويل لمن يذكر هذا الاسم الكريه، وويل لي إذا لم أنتقم منه إذا كان لا يزال حيا أو من أولاده إذا كان قد مات، وأنا أسأل الله قبل موتي أن يسهل لي هذا السبيل، ولو بأن اضرب هذا الملك ضربة واحدة في حياتي، ثم أموت بعدها مسرورا، بل أكاد أقول: إنني لو كنت ميتا في ترابي وتمثل لي أبو قابوس على قبري لنهضت إليه مسرعا، ونفضت غبار الموت عني وطعنته طعنة واحدة بهذا الخنجر ... ويلاه ماذا أقول أنا الشيخ العاجز الفاني.
حماد :
يظهر أن أبي قد خرف.
زياد :
غدا يصير أبي مثل أبيه وجده، وآخذ أنا مكانه.
حماد :
إن كل جنودنا خاضعون لهذا الشيخ، فما هذا المصاب؟!
زياد :
تعال يا أبي، وانظر إلى هذا الشيخ.
قراد :
إنه يصعد بهدو، وتلوح عليه علائم التعب.
ناقد :
حتما إنه في تعب شديد.
سالم :
نعم، ويظن أنه فقير، فإن عباءته ممزقة تنسفها الرياح.
زياد :
أظن أنه يطلب الضيافة في القصر.
قيس :
إنه فقير لا شك فيه.
قراد :
بل أظنه جاسوسا.
سالم :
إذن فاطردوه من هنا.
حماد :
اطردوا هذا الكلب في الحال، وارجموه بالأحجار.
زياد :
اذهب من هنا يا كلب.
عامر :
أعوذ بالله، أي عصر صرنا إليه وأي رجال أهل هذا الزمان؟ أيطردون الشيخ البائس المسكين برجم الأحجار، لقد كنا أيام الصبى والشباب مثلكم نسكر ونطرب كما تفعلون، ولكن إذا مر بنا شيخ عاجز فقير، ونحن في السكر والطرب كنا ننهض في الحال، فنملأ كفه ذهبا ونقربه قربا حسنا، ونرد سلامه ردا جميلا، ثم نعود إلى ما كنا عليه من اللهو والسرور، تلك كانت أحوالنا من قبل فقيسوا عليها أحوالكم الآن.
سلمان :
اسكت أيها الشاب تلك كانت أحوالكم، أفتعرف كيف كانت أحوالنا؟ كنا نجلس على طعامنا وشرابنا وأمامنا بعير بأسره في قصعة واحدة نأكل منه ونشرب عليه، وإذا مر بنا الشيخ الفقير المسكين، أفتعرف ماذا كنا نصنع له؟ كنا نرسل طليعة من الجند لاستقباله، ثم نضرب الطبول عند دخوله ثم ننهض كلنا إلى ملاقاته، ولو كان في مجلسنا أبناء الملوك، ويتقدم الكبير منا إلى ذلك الفقير، ويمد إليه يده وهو يقول: يا مرحبا بالضيف ... اذهب وقل للفقير ليأت.
حماد :
ولكن يا مولاي ...
سلمان :
اسكت.
قيس :
مولاي إنه ...
سلمان :
لقد قلت: اسكتوا فمن يتجاسر أن يتكلم.
حسان :
أحسنت يا شيخ العشيرة في الذي
قد قلته وكذا يكون أبو الكرم
يا أيها الأسد الذي من حوله
خبث الذئاب يلوح في خوف الغنم
ارفع زئيرك غاضبا كي يسكتوا
إن الشباب يخاف من صوت الهرم
زياد :
لقد أتى يا مولاي.
سلمان :
قفوا جميعا واصطفوا هنا حولي كما تفعلون في استقبال الملوك.
الجزء الثالث (المذكورون - الفقير)
الجميع :
أهلا بضيف زارنا
في دار مولانا السعيد
نحن الضيوف وأنت رب
الدار فافعل ما تريد
سلمان :
كن من تشاء فأنت ضي
في أيها الشيخ الطريد
وانزل على الربع الرحي
ب لديك والعيش الرغيد
والآن فاسمع هل سمع
ت بسيد بطل فريد
شاد المفاخر كلها
في حصنه العالي المشيد
وعدا على ريب الزما
ن بذلك البأس الشديد
لم يرهب الأهوال في
ه ولم يخف منه الوعيد
سقطت جميع رجاله
من دونه مثل الحصيد
وأقام ثابت دولة
في ذروة المجد الوطيد
بليت جميع رجاله
وزمانه غض جديد
أعرفته من وصفه
أم أنت ترغب أن أزيد
يدعى بسلمان الشري
د ، وكان يدعى بالعنيد
طال الزمان به كما
من قبل طال على لبيد
أنا ذلك الرجل المشا
ر إليه في هذا القصيد
فابشر فإنك نازل
في دار سلمان الشريد
وجميع حصني رهن أم
رك فاقض فيه بما تريد
الفقير :
يا أيها الأمرا جمي
عا والعساكر والعبيد
اصغوا لما ألقي، فإن
كلامي النصح المفيد
لا تحقروا الضيف الفقي
ر إذا أتاكم من بعيد
وتصدقوا بالخير إن
الخير مفتاح المزيد
وثقوا بأن الموت يأ
تي سابقا خيل البريد
يعدو على الشيخ الكبي
ر ولا يعف عن الوليد
فليذكر الشبان منكم
في مشيبهم العتيد
وليندم الأشياخ إن ال
موت منهم بالوصيد
وحسابهم أدنى إلى ال
أرواح من حبل الوريد
وأعطوا الفقير، فإنما
هذا هو الفخر الأكيد
وبه يدوم نعيمكم
ويزيده من يستزيد
ومصيرنا طرا لمن
في الحشر يفعل ما يريد
الجميع :
يا أيها الضيف الكريم
قد فزت بالخير العميم
فاهنأ بذا الود السليم
والأمن من شر اللئيم
فالخير من طبع الكرام
والعرب ترعى للذمام
والشكر يسري في الأنام
يبقى على طول الدوام
الفصل الثالث
الجزء الأول
الملك :
آن الأوان لأن أخاطر بالدم
من لم يخاطر بالدما لم يسلم
أجزيرة العرب التي أحببتها
كم من أكف قد رمتك بأسهم
قد عدت نحوك بعد طول تغربي
فوجدت مجدك صار كالمتهدم
لعبت أكف ذويك فيك فغادروا
في كل نهر فيك نهرا من دم
قتلوا رجالك واستذلوا من بقي
فسقطت صاغرة سقوط المجرم
وتفرقت أحياء أهلك في الورى
أيدي سبا وبقيت كالمتيتم
وتقسمت أبناك مظلوما يرى
فيك العذاب وظالما لم يرحم
وغدا نفوذك للقوي وقد غدا
فيك الضعيف يموت إن لم يظلم
باعوك بيع العبد في سوق الريا
فسقطت جرحى لليدين وللفم
سلبوا بلادك من يديك غنيمة
حتى رأيتك غنم من لم يغنم
والفرس حولك يزأرون بجمعهم
فيضيع عندهم زئير الضيغم
ضاعت حقوق العرب في أطلالهم
ورمت بها ظلما أكف الديلم
وغدا العراق مع الحجاز غنيمة
وبلاد نجد سبية المتقسم
هذا مصابك، وهو كل مصائبي
أبكي عليه بحسرة المتندم
فليرسل الله العلي جنوده
ولينقذ العرب التي لم تأثم
الجزء الثاني (حسان - ثم ليلى)
حسان :
طاب الفؤاد وطابت البشرى به
وشفي الحبيب من الضنى بشرابه
أبرأتها وأنا السقيم فليتها
تشفي ضنى قلبي بنيل طلابه
أهلا وسهلا بالتي قد عوفيت
فشفت فؤادي من أليم عذابه
ليلى :
حسان إني قد نجوت من الردى
فليحي من صنع الدوا وأتى به
وغدوت سالمة من الداء الذي
لزم الفؤاد وزاد في أوصابه
واليوم أقدر أن أحبك مثلما
يهوى فؤادي في ربيع شبابه
والآن فاسمح لي بأن أمضي إلى ال
جد الكبير إجابة لخطابه
فلقد دعاني نحوه من مدة
مع حاجب قد جاء من حجابه
حسان :
لكن قفي كي نشكر الله الذي
أحيى فؤادينا بفضل ثوابه
الجزء الثالث (حسان - شمطاء)
شمطاء :
كيف حالك الآن هل أنت مسرور؟
حسان :
هذا أنت.
شمطاء :
أرأيت أنني قد وفيت بوعدي.
حسان :
وأنا سأقوم بعهدي.
شمطاء :
بلا رحمة.
حسان :
ولا خوف ... وبعدها أقتل نفسي.
شمطاء :
أنا في انتظارك هذا المساء عند منتصف الليل.
حسان :
في أي مكان.
شمطاء :
أمام السجن المظلم.
حسان :
ذلك مكان مخيف لا يمر فيه إنسان، ويقال: إن على الصخر هناك لطخة سوداء.
شمطاء :
نعم، وهي أثر الدماء التي سالت على ذلك الجدار.
حسان :
أثر دماء ... أرأيت كيف يدنس الدم ويحرق؟
شمطاء :
بل قل إن الدم يغسل ويطهر.
حسان :
حسن فمري بما تشائين ... ومن أجد في ذلك المكان.
شمطاء :
تجد رجلا مقنعا ينتظر وحده.
حسان :
وبعد ذلك.
شمطاء :
وبعد ذلك تتبعه إلى حيث يسير بك.
حسان :
لقد قضي الأمر.
شمطاء :
يا سماء اشهدي ويا كائنات ال
أرض طرا، وأنت يا جو فاشهد
واشهدي لي يا شمس، واشهد أيا بد
ر وقل للنجوم في الأفق تشهد
واشهدي لي أيا حياتي التي مر
رت ويا عيشي الشقي المنكد
واشهدي يا قبور واشهد أيا حص
نا حصينا على الفساد تشيد
اشهدي أنني أبيح دم القا
تل عدلا بذا السلاح المحدد
وبأني أبحت قتل غصوب
وغصوب عدو نفسي المؤكد
حسان :
من هذا غصوب.
شمطاء :
هو الذي يجب أن يموت من يدك هذا المساء، اذكر ولا تنس وعدك (تخرج) .
حسان :
ويلاه من جرم يكاد يميتني
من قبل أن أقضي وفاء وعودي
إني وعدت بقتل نفس حية
طمعا بعيش للحبيب رغيد
والآن قد نال الحبيب شفاءه
ودنت منية ذلك المنكود
الجزء الرابع (حسان - سلمان - ليلى - شمطاء (مختفية))
ليلى :
نعم لقد شفيت وصرت أقدر أن أجري ... انظر يا مولاي ها قد أتينا.
حسان :
هذا أنت يا مولاي.
سلمان :
لقد شعرت اليوم أن حزني قد ازداد، وأن النصيحة التي أبداها لنا الفقير قد أثرت في كثيرا ثم فكرت في أمرك، وإنك كنت على شفا الموت، وأن أمك المسكينة قد أوصتني بك قبل موتها، كنت افتكر في كل ذلك، وإذا بها دخلت علي فرحة مسرورة والحياة تجول في عينها حتى كدت أبكي من السرور، وأحسب أنني في حلم لا في يقظة، وقد دنت مني وقالت لي: تعال واشكر حسانا، فهو الذي شفاني فقلت لها: هيا بنا.
ليلى :
وها نحن بين يديك.
سلمان :
ولكن أخبرني بأية أعجوبة شفيتها تكلم ولا تكتم عني شيئا.
حسان :
شفيتها بعلاج أعطتني إياه أسيرة من أسارى القصر.
سلمان :
إن هذه الأسيرة حرة لوجه الله، وأنا أنعم عليها بألف ناقة، وأعفو عن المحكوم عليهم، وأعفي ألف فلاح من الضريبة، وذلك سرورا بهذا الشفاء، افرحا معي فإن قلبي مملوء فرحا، ويكفيني سعدا أن أراكما:
نعم أنا منكود طريد مشرد
أرى الناس من حولي كأني مفرد
أقيم بأقصى الحصن أندب ما مضى
وأذكر أيامي وربي يشهد
أرى العرب من حولي تمزق شملهم
وكل ولاة الأمر أشأم أنكد
يسوقون هذي الأرض نحو دمارها
فلا مهجة ترثي ولا يد تنجد
ولا بد أن نهوي مع الظالمين أو
تمد من الله العلي لها يد
فيرسل من يرثي لها في مصابها
فينجدها إن كان ينفع منجد
مصاب بلادي لي مصاب وفوقه
مصيبة أولادي الذين تمردوا
لئام أرى عيشي بهم وهو أسود
كما أن قلبي من ذنوبي أسود
وما لي سلوى غير هذا الفتى وذي ال
فتاة فكل منهما لي مسعد
فهذي الفتاة كالغزالة بهجة
وهذا فتى من صفحة السيف أجود
إذا وقفا حولي تقول ملائك
تحن إلى الشيطان أو تتودد
حسان :
مولاي ماذا تقول؟
ليلى :
سيدي ما هذا الكلام؟
سلمان :
تقدما إلي كلاكما، اقتربا مني لأعانقكما، فيا لله ما أجمل هذه الطلعة الباهرة، حقا، إنك شريف كريم ممن يفون بالوعد إذا وعدوا، كل ما يعد به هذا الفتى، فإنه يقوم بوفائه ... أليس كذلك؟
ليلى :
لا تسألني يا سيدي، فإن حياتي من عنده.
سلمان :
لقد كنت مثله طاهرا شريفا قبل أن أسقط في ذنوبي وآثامي، انظري يا ليلى إلى هذا الوجه الجميل إنه يذكرني بولد لي يدعى سنانا كان آخر أولادي رزقني الله إياه من عشرين عاما، وأنا في شيخوختي فابتهجت به كما يبتهج الأعمى إذا نظر النور، وكما تزدهي الشجرة الذابلة بسقوط ندى الصباح، ولكن وا أسفاه، فإنه لم يكن يبلغ اثنتين من عمره حتى خطفوه مني، وهو يلعب على الطريق، ولا أدري من خطفه وقيل لي: إن خاطفيه قد قتلوه انتقاما مني، فإياك إذا صرت أما أن تتركي أولادك يلعبون على الطريق بعيدا عنك، فإن أعداء الإنسان كثيرون. ويلاه إني لا أزال أذكره، وأبكي كأنه خطف بالأمس، لو بقي حيا كان الآن في سنك ولكان جميلا جريئا مثلك. تعال إلى صدري فأنت مكانه عندي، وقد جعلتك ولدي فاجعلني بمثابة أبيك، تعال وكن ولدي أنت يا من كنت سلوتي وعزائي في هذا الحزن الذي أنا فيه، ويلاه من يقدر أن يراكما كليكما جميلين زاهرين متحابين، ولا يلين فؤاده فرحا وسرورا لهذا الحب بينكما، أبشرا أيها العاشقان فأنا سأجمع بينكما بعقد القران.
ليلى :
يا رباه!
حسان :
مولاي، ماذا تقول؟
سلمان :
لقد ماتت أمك أختي، وهي توصيني بك وأنا أقسم لها بحفظ وصايتها، وما أنكر أن ولدي سنانا قد خطف مني بعد ذلك، وإن امرأتي قد توفيت على أثره، وإن المصائب قد انهالت على رأسي من كل جانب، ولكني لم أنس ما قلته لأمك عند وفاتها فلقد قلت لها: اذهبي بسلام، فأنا أقوم لابنتك مقام الوالد وأدافع عنك إلى آخر نقطة من دمائي.
ليلى :
شكرا لك يا سيدي الحبيب.
سلمان :
لا تشكريني، فإني قد أقسمت على ذلك ... وأنت أيها الفتى الباسل اذهب وحارب وانتصر، وافعل كما فعلت أنا في شبابي، ولكن ما عدا الجريمة. واعلم أنني من يوم رأيتك قد عزمت على أن أزف ليلى إليك، وأن أجعلها سعيدة بقربك، ولكن اكتم هذا الأمر الآن، فإني أخاف عليك من حماد فهو شرس الأخلاق غدار لا شيء أهون عليه من قتل البريء، فأبشر أيها الفتى فإني أحبك وسأسعى لزواجك.
حسان :
ولكن يا مولاي ...
سلمان :
أترفض هذا الزواج؟
حسان :
حاشا يا مولاي، كيف أرفض وأنت تعرض علي نعيم الجنان.
سلمان :
إذن فاصنع كما قلت لك، وإياك أن تبوح بكلمة مما جرى بيننا الآن، وأنا في هذا المساء أسهل لكما سبل الفرار، وأمنع حمادا من أن يتعقبكما فتذهبان من هنا خفية وتقترنان في مكان بعيد.
شمطاء (مختفية) :
آه يا خائن.
سلمان :
ذلك ما أريد أن أصنعه قبل وفاتي عساني أن أخفف بهذا القران بينكما بعض ما بي من العذاب والحزن الشديد، إن الغرفة التي أقيم فيها لها باب خفي إلى خارج الحصن هو الباب الذي تخرجان منه الليلة سرا، ويذهب معكما قائد حراسي ليدافع عنكما إذا أوجب الأمر، فانتظراني هنا قليلا لأذهب وأحضر لكما مفتاح هذا الباب، يا رب سهل أعمالي وخفف بعض مصابي لسعادة سواي.
حسان :
يا رب ما هذا أحلم ما أرى
أهي الحقيقة أم حديث يفترى
أأفر مع ليلى وأحظى بالذي
أهواه أم حلم على عيني طرا
إن كنت في حلم فخليني به
ودعي فؤادي منه في سنة الكرى
لكنما لا فالحقيقة عينها
تبدو وها أنا في النعيم بلا مرا
إني أراك لدي فالحلم انجلى
عني ولاح لي الجمال مصورا
قد صرت لي يا من أنا لك فابشري
فلقد غدا نيل الفرار ميسرا
ليلى :
ماذا تقول ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
حسان :
أقول: لا تخشي فقد
تم الفرار لنا كما قد قدرا
لكن يميني قد حلفت وإنما
ماذا يهم إذا هربت منكرا
يا رب فاحكم بيننا أتريد أن
أبقى وأرتكب الخطأ إلا كبرا
أم أن أفر من الجريمة هاربا
وأطيع أمرك مثلما قد سطرا
هيا لنهرب لم يعد من دوننا
أحد ... ... ... ... ... ...
الجزء الخامس (حماد - حسان - ليلى - عامر - قيس - قراد - سلمان - الملك متنكرا - جنود)
حماد : ... ... ... ... ... ... ... ... كذبت فإن دونك عسكرا
ليلى :
يا رب ... حماد ...
حماد :
اقبضوا على هذا الرجل وهذه الفتاة.
حسان :
أيها الأمير حماد أنا أعلم أنك نذل جبان غادر خائن مخلوع الفؤاد، وها أنا أريد الآن أن أظهر لهؤلاء الأمراء حولك أنك جبان سافل لا تقوى على مصادمة الرجال، فأعلم أنني أقوم في هذا الموقف مقام الأميرة ليلى، وأدافع عنها دفاع الأبطال؛ لأنها لا تريدك بعلا لها، وهي تهواني أنا، فأنا أدعوك الآن للبراز أيها الأمير حماد بالسيف أو بالرمح أو بالخنجر أو بأي سلاح شئت، ونجعل ميداننا ضفة النهر حيث ينفسح مجال القتال، وهناك نرمي بالقتيل منا في تيار المياه فاخرج معي لتقتل أو أقتل، قفوا مكانكم جميعا فإني أخاطب الأمراء، واسمعوا أيها الأمراء إني أدعو الأمير حمادا من بينكم للبراز.
حماد :
أفرغت الآن من كلامك؟ علم الله لقد تركته يتكلم كثيرا أيها الأمراء، والآن فاسمع ما أقول لك أيها الغلام: إني أسألك من أنت بين الأبطال، هل أنت ابن ملك؟ هل أنت ابن أمير؟ هل أنت ابن شيخ قبيلة على الأقل؛ لكي تقف موقف البراز مع الأمير حماد؟ قل لي ما هو اسمك فقط؛ إن كنت تعرف اسمك ألا تدري إنك ولد لقيط لا أصل لك ولا نسب؟ أخبرني من هو أبوك، ومن أية قبيلة أنت؛ إن كنت ذا أصل وشرف؟ تأملوا أيها الأمراء لم يعد ينقصنا إلا مبارزة العبيد، فإذا كان فيكم من يأخذ بناصره ويدافع عنه، فأنا أمامكم كلكم فارس لفارس أو عشرة لفارس، ولكن عبدا لقيطا مثلك لا ينازله أمير مثلي، فاذهب وبارز الرعاة والغلمان.
حسان :
آه يا نذل الرجال.
الملك :
أيها الأمير إن لي من العمر تسعين عاما أو تزيد، ولكني أبارزك الآن، أعطوني سيفا.
حماد :
حقا لقد كان ينقصنا مضحك في هذه الوليمة وها قد حضر، من أين جاءنا هذا الشحاذ، وكيف انتقلت من العبد إلى الفقير؟ أنا أبارزك أيها الفقير فلا بأس، ولكن ألا تخبرني قبل ذلك من أنت؟
الملك :
أنا الملك أبو قابوس بن ماء السماء.
عامر :
أنت أبو قابوس؟
الملك :
هذا خاتم الدولة فانظروه، نعم أنا أبو قابوس المنذر ملك العرب، وحامل سيف العدل، قضيت عشرين عاما من حياتي بين المقابر والكهوف آكل من نبات الأرض، وأشرب من مطر السماء، وأندب ما سلف من أيامي وأسأل الله حسن الختام، وقد حسبني الناس ميتا، وما أنا بميت ولكني كنت وحيدا منقطعا في زي الأموات حتى سمعت صوت بلادي يئن من الظلم والجور، وتدعوني إلى وقايتها وإسعافها، فخرجت من مكمني الذي كنت فيه، وها أنا واقف بين أيديكم. أعرفتموني الآن؟
عامر :
أرني زندك يا ملك العرب.
الملك :
أتريد أن ترى أثر الضربة التي ضربني إياها واحد منكم؟ خذ وانظر ...
عامر :
نعم، هو بعينه وأنا أقول هنا على رءوس الأشهاد: إن هذا هو أبو قابوس المنذر ملك العرب.
الملك :
قد كنتم تسمعون صوتي أيها الفتيان أيام كانت حمائل سيفي ترف على جنبي، أما الآن فقد عرفتموني حق عرفاني، وعرفتم السيد العظيم الذي حكم عليكم زمانا طويلا، وقد جاء يحاكمكم اليوم، هذا هو الملك الكبير الذي دانت له الممالك، وخضعت له بلاد العجم واقفا يكلمكم الآن، هذا هو الشيطان الأكبر الذي حارب رجالكم، وأخذ بلادكم وهدم معالم ظلمكم وعصيانكم، قد شفق على مصائب بلاده، وجاء يحاسبكم على ما جئتم من المنكرات، فقد حان أوان عذابكم وسأريكم كيف يكون العقاب، إني أقول لكم ذلك على مسمع من جنودكم، فإن هذه الجنود عساكري، وأنا أعتمد عليها، وهي لي قبل أن تكون لكم؛ لأنها كانت للمجد قبل أن تكون للعار، وكانت تحارب تحت أمري بعزة وازدهاء قبل أن تحارب حولكم بخيانة وذل ... آه يا عصاة ويا قاطعي السبيل لقد حييتم بموتي فموتوا الآن بحياتي فها قد عدت إليكم حيا، فلا تحسبوا أنني ضيفكم بل أنا الملك الذي ينتقم منكم، لقد كانت آباؤكم جبابرة أبطالا ينازلون أعداءهم نزال الأسود في ميدان القتال بلا خيانة ولا خداع، فما بالكم جئتم على أعقابكم كلابا نابحة وعقبانا خاطفة، وقاطعي طريق ورجال لصوصية وفساد؟ أف لكم أتقطعون السبيل على العابر المسكين، وتغدرون المارة غدرا وضربا من وراء الظهور، وتحسبون أن هذا هو المجد العربي، وهذا هو الفخر الصحيح؟ أترون بلادكم ساقطة بلا رئيس ولا عضد ثم تظلمونها وتجورون من كل مكان ...؟ إنكم مجرمون تستحقون العقاب الشديد على أعمالكم، فتقدموا أيها الجنود وضعوا في أرجلهم الأغلال والقيود.
عامر :
هذا هو بعينه قد عاد حيا ... ضاعفوا الحرس ... أغلقوا الأبواب ... أوقفوا الجنود في مراكزها ... سلحوا الرجال ... أرسلوا العساكر إلى الغابة تقطع لها حطبا كثيرا، وأشعلوا نارا عظيمة لإحراق هذا الملك العظيم، لقد سلم نفسه بيده، وقد أخذناه في فخه:
لقد عدت لكن أين عسكرك المجر
وأين العلا والعز والمجد والفخر
وأين طبول كنت تقرعها هنا
فيهتز من أصواتها السهل والوعر
وأين صناديد حواليك جمة
لها الطوع فيما تشتهي ولك الأمر
وأين الخيول الدهم تجلبها لنا
فترجع عنا، وهي من دمنا حمر
عرفتك أنت السيد الملك الذي
أطاعك فيما قد مضى الفتح والنصر
وأنت الذي دست البلاد عوامرا
وأقلعت عنها، وهي موحشة قفر
وأنت الذي دانت لك الأسد في الوغى
وأنت خطيب المجد والبطل الحر
عرفنا أبا قابوس قدما، وإنما
أتعرفنا من نحن أم فاتك الذكر
لقد سمعتك تخاطب هؤلاء الجند، وتقول: إنهم جنودك قبل أن يكونوا جنود العار، ولكن هل رأيت أحدا منهم تحرك من مكانه وجاء إليك، إذن فأعلم أنهم جنود أبي لا جنودك، وأنهم للأمير سلمان قبل أن يكونوا لآبائهم، إن الضيف محرم علينا أيها الملك، وأنت قد قلت الآن: إنك لم تعد ضيفا فأنت إذن عدو، انظر إلى هذا الشيخ الكبير إنه أبي الأمير سلمان، وهو الذي كوى زندك في المعركة، وجعل لك تلك العلامة التي عرفناك بها أكثر مما نعرفك بتاج الملك، وأنت تعلم أن الحقد بينكما شديد قديم، وأنك قد وضعت لرأسه ثمنا، وقد وضع لرأسك ثمنا كذلك، وها قد وقعت الآن في أيدينا وحيدا شريدا تحيطك أمراء أبطال وجنود بواسل، فماذا تصنع بنفسك أيها التعس الشقي.
حماد :
أرجع لنا بلادنا أيها الملك، فقد أخذتها منا اغتصابا.
قيس :
رد إلينا دماء رجالنا فقد سفكتها عدوانا وظلما.
قراد :
أرجع لنا أصحابنا الأبطال، فقد قتلتهم جورا وجبرا.
عامر :
لقد خرجت اليوم من قبرك أيها الملك، وإني لأرجعك إليه في الحال حتى لا يقال أبو قابوس حي، فيجاوبها الصدى قد مات، فمت أيها الأحمق جزاء ما جنت يداك.
سلمان :
أبيت اللعن يا مولاي إن ابني عامرا قد صدق في قوله: إنك عدوي الألد، وأنا الذي تجاسرت ورفعت يدي على جلالتك فيما مضى من الزمان؛ لأني أكرهك وأريد قتلك، ولكني مع ذلك أريد أن تكون بلاد العرب سالمة من الدمار، وأن أرى بلادي ناهضة من سقطتها وخمولها الطويل، وأنت وحدك قادر على إنقاذها وإصلاحها، فخلص بلادك. أما أنا فأركع الآن طائعا على قدميك، وأشكر الله الذي رد إلي سيدي ومليكي ... اركعوا كلكم معي، وارموا سيوفكم إلى الأرض، أبيت اللعن إن وجودك واجب لقبائل العرب الساقطة، وأنت وحدك تجمعها ولا أحد سواك يقدر على إنقاذها، وإنه لا يزال في بلاد العرب اثنان بحمد الله، أنا وأنت، وأنا وأنت نكفي فاحكم علينا يا مولاي، أما هؤلاء فقد تمادوا في كلامهم معك، ولكنهم لا يزالون صغارا فاعف عنهم بحلمك، لقد حاربناك يا مولاي كثيرا ونوينا لك الشر والقتل، وحاربتنا أنت كذلك، ولكنا كنا مخطئين وأنت وحدك المصيب العاقل، أطلقوا سراح الأسرى والآن تقدموا وضعوا القيود في أرجل الأمراء، مدوا أيديكم للقيود، فهكذا يريد الملك، ضعوا القيد في رجلي أولا:
قد غدونا كما تشاء أسارى
أيها السيد الرفيع البناء
وغدا في القيود عندك سلما
ن الشريد الشهير في الأحياء
لست أرجو منك انفكاكا لقيدي
فبحق قيدت مع هؤلاء
غير أني أهوى المسير وإيا
ك لنغدو معا على الأعداء
خلنا في القيود ثمت خذنا
لقتال العدى وسفك الدماء
وأقمنا في أول الصف كي نل
قى المنايا في الغارة الشعواء
وعسى أن نريك منا جنودا
قلبها مثل سيفها في المضاء
ثم نبقى أسرى لديك ونغدو
بقتال العدى من الأمراء
ضابط :
أمر مولاي، أمر مولاي ... ... ... ... ... ... ... ...
الملك : ... ... ... ... ... للسج
ن جميعا خذهم بلا إبطاء
أغصوب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
سلمان :
ويلاه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
الملك : ... رح وانتظرني
حيث تمضي للندب كل مساء
الفصل الرابع
الجزء الأول
سلمان :
كيف المليك أتى، وماذا قالا
أرأيت شخصا أم رأيت خيالا؟
قد حار فكري فيه حتى ما درى
أتبعت حقا أم اتبعت ضلالا
ويلاه قد كثرت علي مصائبي
وتجمعت فغدت علي ثقالا
نوب تمر، وهي جديدة
مع إن عهد حدوثها قد طالا
لم يبق مما مر بي شيء سوى
أني أسير أحمل الأغلالا
أضحى أبو قابوس حاكم منزلي
وغدوت مغلول اليدين مذالا
لكنما ماذا يهم، فإنني
أنقذت فيه الأهل والأطلالا
أحييت أوطاني بتسليمي له
فغدا عليها قائلا فعالا
هذا أبو قابوس، وهو ألد أع
دائي، وأكثرهم علي وبالا
خصمان معتركان يقتل عسكري
حينا، وأقتل عنده الأبطالا
فني الزمان، وليس فيه غيرنا
باق، وكل خليطنا قد زالا
قرب السقوط لواحد منا وها
هو قائم يرمي لأسقط حالا
غلبتني الأقدار لكن بعد ما
عانت علي معاركا وقتالا
فقل: السلام على انتصاري إنه
ولى ومجدي إنه قد حالا
وعلى حروبي والمعارك والعلا
والعز أدركه الزمان فمالا
ضربت بي المثل الأعارب في الوغى
وغدت بذلي تضرب الأمثالا
ويقال: قد سقط العزيز من الذرى
وغدا على غدر الزمان مثالا
ماذا أسلمان الشريد يذل هل
مثلي يصادف في الورى إذلالا
كلا لتخزى كبرياؤك أنت يا
من كنت قبلا مجرما قتالا
فاخفض جبينك إن تزد قبر ال
ذي فاجأته وقتلته محتالا
في ذا المكان قتلته في ليلة
وهنا جرى دمه الزكي وسالا
ويلاه من جرم تقادم عهده
فغدا يجدد في الحشا الأوجالا
جرم فظيع قد ندمت عليه لو
تغني الندامة فاتكا قتالا
سبعون عاما أو تزيد قضيتها
أبكي وأضرع للإله تعالى
أرجو السماح عن الذنوب ندامة
فأزيدها بندامتي أثقالا
وكفاك تبكيت الضمير فقد غدا
طي الفؤاد عقاربا وصلالا
والناس تحسبني شريفا ماجدا
مثل العطاش تظن ماء آلا
أزياد مع حسناء عفوا عن أخي
جرم بكى الأيام والأحوالا
كثرت مصائبه وأثقلها الأسى
فغدت على عدد الرمال جبالا
سقطت حصوني واغتدى ابني عاجزا
وبنوه زادوني جوى ونكالا
وابني الصغير فقدته ومصائب ال
أطفال فينا لم تكن أطفالا
وبحثت عن ليلى وحسان فلم
أبصرهما ومصائبي تتوالى
فالموت أولى فلأمت من خنجري
فلقد غدا موتي لدي حلالا
أزياد عفوا عن غصوب فقد بدا
حد السلاح بصدره يتلالا
فأنا غصوب ولست سلمانا فدع
للعفو عن ذنب الغصوب مجالا
الجزء الثاني (سلمان - شمطاء)
شمطاء :
قابيل.
سلمان :
يخيل لي أني سمعت صوتا، وأظن أن ذلك رجع الصدى بل صوت سكان القبور، فإن هذه الحجرة العميقة لا يدخلها أحد غيري، وقد مات من كان يعلم سرها من سنين، فأصبح لا يعلم بها أحد سواي، يا زياد الشهيد البريء مرحمة وعفوا عن غصوب.
شمطاء :
قابيل.
سلمان :
لم يعد ريب فيما سمعته فقد سمعت صوتا يتكلم، فأنت أيها الخيال المتكلم كائنا من كنت اضرب وخلصني من حياتي، فقد سئمت الحياة، اضرب فإنه خير لي أن أموت من أن أسمع هذا الصدى الهائل الذي يردد كل كلمة من كلامي فيزيد آلامي.
شمطاء :
قابيل. قابيل. قابيل ...
سلمان :
ويلاه، لم أعد أقدر أن أقف، أفي يقظة أنا أم في منام، وهل ما أسمعه حقيقة أم أضغاث أحلام؟ يا رب إن أحزاني قد استحالت إلى جنون، ولا شك أن ما أسمعه هو حلم هائل، نعم هو حلم يتبعني كيف سرت، ويزيدني اضطرابا ورعبا في هذا المكان المخيف. أنت أيها الصوت المرهب الخارج من القبور، ها أنا أمامك، قل ماذا تريد أن تعلم مني؟ واسألني؟ فإني أجيبك عن كل ما تريد.
شمطاء (تدخل) :
أريد أن أقول لك ما قاله الله لقابين قاتل قابيل، ماذا فعلت بأخيك؟
سلمان :
من هذه المرأة ...؟
شمطاء :
هي فوق الأرض أسيرة، وهنا ملكها، أنت تعلم أيها الأمير أن هذا الحصن كثير المداخل والكهوف، وأن تحت قاعاته الواسعة غرفا كثيرة مظلمة، والآن فاعلم أن كل ما تنيره الشمس هو لك وفي سلطتك، وكل ما يخفيه الظلام هو ملكي وتحت سلطاني، وها أنا قد قبضت عليك ولم يعد لك من خلاص.
سلمان :
من أنت أيتها المرأة؟
شمطاء :
اسمع قبل ذلك لأقص عليك حكاية هائلة جرت منذ سبعين عاما: انظر إلى هذه الغرفة، وإلى أشعة القمر الساطعة فيها، في مثل هذه الليلة، وفي هذا المكان نفسه كان اثنان عاشقان يشكوان سر الهوى على نور القمر، وإذا برجل قاتل خرج عليهما والسيف في يده.
سلمان :
رحماك، كفى بالله ...
شمطاء :
أتعرف هذه الحكاية؟ إذن فاعلم أن المكان الذي سقط فيه زياد طعينا هو هذا، واليد التي طعنته هي هذه.
سلمان :
اطعنيني أنت أيضا، ولكن اسكتي.
شمطاء :
وبعد أن سقط زياد قتيلا أخذوه ورموه من هذه النافذة بعد أن كسروا حديدها بيد شديدة، واليد التي كسرت الحديد هي هذه أيها الأمير.
سلمان :
بالله عفوا أو سماحا.
شمطاء :
لقد كانت العاشقة الحزينة الثكلى تطلب منك العفو والسماح أيضا في ذلك الحين، وهي أنا، ولكنك سخرت بي هازئا وأخذتني فربطتني هنا، ثم أخذت القيد بنفسك ووضعته في هذه الرجل بلا رحمة ولا شفقة.
سلمان :
حسناء.
شمطاء :
نعم لقد كنت في ذلك الحين حسناء، وأما الآن فقد غيرتني السنون والأيام، وصارت تلك الفتاة الجميلة تدعى اليوم شمطاء ... إنك ستموت أيها الأمير.
سلمان :
يا رب شكرا فهذا الذي أريد.
شمطاء :
ولكن اصبر قبل أن تشكر الله، واعلم أن ابنك الذي خطفوه منك لا يزال حيا.
سلمان :
ماذا تقولين ...؟
شمطاء :
وأنا الذي خطفته منك.
سلمان :
أين هو بالله؟
شمطاء :
وكان هذا العقد في عنقه.
سلمان :
رحمة وعفوا إني أقبل قدميك فدعيني أنظر إليه نظرة واحدة.
شمطاء :
إنك تنظره قريبا، فهو الذي سيقتلك في هذا المكان.
سلمان :
ويحك ماذا فعلت بابني هل جعله حقدك وانتقامك وحشا كاسرا يتجاسر على قتل أبيه؟
شمطاء :
إن ابنك هو الفارس حسان.
سلمان :
تبارك الله، كذلك كنت أرجو أن يكون، إنه شريف نبيل لا دناءة في أخلاقه فباطلا تعتمدين عليه في قتلي، وإن آمالك ستذهب أدراج الرياح.
شمطاء :
اسمع أيها الأمير لقد كنت تمشي في النور وأنا أدب وأسعى في الظلام، حتى وصلت إليك على مهل وسكون من غير أن تشعر مني بشيء، فاستيقظ الآن من غفلتك يا غصوب فقد وقعت في الشرك الذي نصبته لك، واعلم أنك بينما كنت واقفا مع الملك والأمراء ذهبت أنا إلى مخدع ليلى سرا، وسقيتها شرابا شديدا جعل على وجهها هيئة الأموات، التفت الآن وانظر (تريه تابوتا).
سلمان :
ويلاه تابوت، يا رب ليلى ... لقد قتلتها يا كافرة.
شمطاء :
إنها لم تمت بعد، وأنا معتادة مثل هذه الأمور، فهي مائتة لدى كل من يراها، ولكنها نائمة عندي، وإن شئت فعلت بها ما أريد.
سلمان :
وماذا تطلبين لكي توقظيها؟
شمطاء :
اطلب موتك، وقد أخبرت حسانا بالأمر، وهو الذي يختار بين حياتها أو مماتها، فليختر بين الأمرين، إذا شئت أن تهرب فاهرب، فأنا لا أمسكك، ولكن حسانا وليلى يموتان، وهما في قبضة يدي.
سلمان :
ويلاه، ويلاه ...
شمطاء :
اترك حسانا يقتلك، مت وليلى تحيا.
سلمان :
اسمعي، إني ألتمس منك التماسا، إن الموت هين علي فخذي حياتي كما تشائين، ولكن لا تدعي ولدي البريء الطاهر يرتكب هذه الجريمة الشنعاء، رحمة بالله فإنني قد بكيت كثيرا وبكتني ضميري تبكيتا شديدا وذلك جزاء القاتلين، فاقتليني أنا وحدي وارتضي بقتيل واحد، فإني أستحق أشد العقاب، ولكن اعفي عن ولدي بالله أتريدين أن يدخل إلى هنا بريئا شريفا، ويخرج بالخزي والعار بعد قتل أبيه، قد كفاك أنك أخذته مني وحملتني من فقده الحزن والعذاب كل هذه الأيام، فلا تزيدي علي هذا الهوان، إنه قد صار ولدك مثل ما هو ولدي، فاشفقي علي من هذا الجرم الشديد فقد كفاني شدة وعذابا، عاقبيني على ذنبي لك، ولكن لا تتجاوزي مقدار ذنبي في هذا العقاب، لا تكوني أقسى مني إذا كان لك قلب يرحم.
شمطاء :
إنني لم يعد لي قلب فقد نزعته مني يا قاتل.
سلمان :
إذن أموت هنا كما تشائين، ولكن ليس من يده.
شمطاء :
إن الأخ هنا قتل أخاه، فهنا الولد يقتل أباه.
سلمان :
ارحميني واشفقي علي، اقتليني أنت استحلفك بالله.
شمطاء :
آه يا ظالم، لقد كنت ألتمس منك أكثر من هذا الالتماس عندما قتلت حبيبي، لقد كنت راكعة على قدميك أقرع صدري بيدي، وأسألك الرحمة والعفو عنه، وأقول لك: ارحم شبابه وشبابي، ولكنك صممت أذنك عن كلامي وقتلت زيادا حبيبي ورميته من هذه النافذة غير مشفق ولا راحم ورفستني برجلك، وقلت لي: خذي ثأرك إذا كنت تقدرين، وها أنا الآن آخذ ثاري.
سلمان :
إن ابني لم يسئ إليك بشيء فارحميه وارحميني، اعذريني بالله فقد كنت أهواك، وكنت غيورا عليك.
شمطاء :
اسكت يا خائن، اسمعي أيتها السماء إنه لا يزال يتجاسر على ذكر الغرام هذا الأثيم القاتل، ولقد كنت أحب أنا أيضا أيها الغادر فرد لي حبيبي إذا كنت تقدر، رد لي حبيبي يا قاتل أخيك.
سلمان :
أيعرف حسان أنه سيقتل أباه.
شمطاء :
لا، بل هو سيقتلك من غير أن يعرفك؛ لكي يخلص ليلى من الموت.
سلمان :
حسان ولدي ... ما هذه الليلة الهائلة ...
شمطاء :
إنه سيدخل عليك الآن كما يدخل الجلاد لقطع رأس المجرم، وهذا جل ما يعرفه عنك، فخذ هذا القناع وضعه عليك ومت مقنعا ساكتا، ولا تنطق بحرف فقد رضيت بذلك، إني أسمع وقع أقدام وها هو قادم فأنا سأتركك وأدخل، ولكن اعلم أنني سأسمع كل شيء وأن ليلى لا تزال في قبضة يدي (تدخل) .
سلمان :
اللهم لطفك ...
الجزء الثالث (سلمان - حسان)
حسان :
إلى أين جئت بي؟ ما هذا المكان الهائل؟ ويلاه قد ذهب وبقيت وحدي، يا رب أين أنا؟ أهنا مكان القتل؟ لقد بدأت أرجف وأضطرب، ما هذا الخيال الذي أراه؟ يا رب من هذا؟ ويلاه ما أصعب الجريمة والقتل! أهنا تسفك الدماء؟ أهذا هو القتيل ؟ يا غصوب التعيس المذنب، هل هذا أنت؟ أجبني، إنه لا ينطق بحرف فهذا هو بعينه. أنت أيها الشخص الراكع أمامي كائنا من كنت تكلم، أجبني، عفوا وسماحا إذا قتلتك، فإن حبيبتي ليلى نائمة نومة الموت في هذا المكان ولا تفيق من نومها إلا بقتلك، فاعذرني واشفق علي أيها الشيخ المسكين الشقي، كلمني وقل: إنك تغفر لي جرمي وذنبي، كلمة عفو واحدة أيها الشيخ، وشفق على قلبي الذائب.
سلمان :
حسان ولدي تعال إلي.
حسان :
مولاي سلمان ...
سلمان :
لا، لم أعد أقدر أن أسكت وقد كفاني عذابا، لا أقدر أن أموت قبل أن أعانقه، تعال إلى صدري، دعني أقبلك وأنظر إليك، فإنني لا أصدق إنني أراك، وهذه أول مرة رأيتك فيها مع أني أبصرك كل يوم، دعني أقبل جبينك وأناملك كما أريد، لقد كنت تتكلم الآن يا بني، وأنا ساكت، ولكن كلامك كان شديدا مؤثرا حتى لم أقدر أن أسمعه وأسكت، انظر يا بني إنك تجد سيفي وآلة جلادي معلقة في حجرتي، فخذها كلها فقد وهبتك إياها، وكن بطلا عظيما فأنا أباركك وأدعو لك، اللهم باركه برحمتك، واجعل أيامه طويلة مثل أيامي، ولكن بغير جرائم ولا ذنوب.
حسان :
مولاي ...
سلمان :
اللهم إني أبارك هذا الشاب في كل ما فعل، وفي كل ما يفعل الآن فاسمع لي يا بني، إنني قد فقدت كل شيء وذهب ملكي ضياعا، وأصبح أبنائي أسرى، وذلك لكي أخلص بلادي من الذل والاستعباد، فلم يبق إلا أن أقتل نفسي وأستريح، ولكن يدي ضعيفة ترتجف ولا تقدر فساعدني على قتلي فمن يدك أنتظر هذه الخدمة الكبرى.
حسان :
أمن يدي أنا؟ ولكن ألا تعلم أني أبحث هنا عن رجل؟
سلمان :
إنك تبحث عن غصوب وهو أنا.
حسان :
ويلاه ماذا أرى وماذا أسمع؟ أنت يا مولاي، أنت الشيخ الجليل الذي أعتبرك وأحبك، ويلاه، هو بعينه يا رب رحمتك ولطفك، إنه سلمان الكبير سيدي ومولاي، أبدا لا أرفع يدي عليك أيها الأمير الجليل وحاشا لله أن أقتلك.
سلمان :
اسمع يا حسان، إن قبري قد انفتح وأنا مجرم مذنب، وهذه حبيبتك ميتة لا محالة إذا أنت لم تقتلني فاضرب وخلصها. اقتل الشيطان العاتي وخلص الملك الجميل، خلص حبيبتك من الموت، أنقذها يا بني وأسرع.
حسان :
أتموت أنت لكي أخلصها ...؟
سلمان :
ويحك وهل تتردد ...؟ أترى من جهة شيخا عاجزا بيضت شعره السنون، كما سودت وجهه الذنوب والآثام، وترى من جهة فتاة بريئة طاهرة جميلة تدعوك وتصرخ إليك، ثم تتوقف بينهما وترتاب، ألا تزال تتردد، أتحار بين قتل المجرم وحياة البريء، إن مماتي خلاص لي وخلاص لها، فاضرب وخلصنا كلينا، فإنك بضربة واحدة تخلص نفسين، اضرب ولا تتوقف.
حسان :
ويلاه ...
سلمان :
اضرب يا بني وأسرع فإنك تنقذني من حياتي، خذ وعجل وخلصني من الذنوب وتبكيت الضمير.
حسان :
هات الخنجر ...
سلمان :
ما بالك تتوقف؟
حسان :
لقد خطر لي فكر هائل، لقد قلت لي اليوم: إنه كان لك ولد ثم خطفوه منك وهو صغير، وأنا قد خطفت من أهلي صغيرا وربتني امرأة غريبة، أفلا يمكن أن أكون أنا ذلك الولد؟ ألا يمكن أن تكون أبي؟
سلمان :
ويلاه، إن الخوف قد أضاع صوابي يا حسان، فأنت لست بابني.
حسان :
لكنك كنت أحيانا تقول لي: يا ولدي.
سلمان :
ذلك لأني أحبك كثيرا؛ ولأن هذه الكلمة معروفة يقولها الجميع.
حسان :
إنني أشعر بشيء في قلبي.
سلمان :
لا تصدق ...
حسان :
مولاي ... مولاي، أشفق علي، ألا يمكن أن أكون ابنك؟
سلمان :
بالله لا تذهب بك الظنون إلى هذا الحد، فإن ابني الذي خطف مني قد قتل ولا أمل لحياته، وقد أخبرتك بذلك اليوم.
حسان :
لا ...
سلمان :
تذكر فقد قلت لك: إنهم قتلوه انتقاما مني فأنت لست بولدي، ولو لم أكن على ثقة من أنهم قتلوه، وأنهم أحضروا إلي جثته في حينها لكنت أشك مثلك وأظن إنك ولدي، ولكن ذلك مستحيل، فإن ابني قد مات؛ إذن فكن على ثقة مما أقوله لك يا ولدي، انظر إنني لا أزال أقول لك: يا ولدي؛ لأنها كلمة قد تعودتها، وهي التي يقولها الشيوخ للفتيان في كل حين ، كن على ثقة واضربني فإني لست أباك ويا حبذا لو كان لي ولد مثلك، تقدم يا حسان واضرب، وكن آمنا مما تفعل فإنك لست ولدي ولا أنا بأبيك. (لقد أصبحت ليلى على شفا الموت، ولا يمكن أن تنتظر أكثر من ربع ساعة.)
حسان :
ليلى ...
سلمان :
ويحك، أتريد أن تقتلها؟
حسان :
يا رب، ماذا أصنع؟ ويلاه قد ضاع رشادي في هذا المكان المخيف.
سلمان :
اضرب وكفى تردد.
حسان :
بالله لا تدفعني لهذا العمل، اصبر وأشفق علي، فإني لا أكاد أمسك نفسي وأحسب أنني سأرتكب جرما فظيعا هائلا فتمهل ولا تشدد علي.
سلمان :
إذن فاضرب، فأنت تعاقب مذنبا وتخلص بريئا طاهرا.
حسان :
ألا تدري أنني أكاد أرتكب القتل؟ وأن صوابي قد ضاع مني، فأنا الآن بلا عقل.
سلمان :
لقد حان لي أن أموت يا حسان، إن أخي قد سألني الرحمة كثيرا في هذا المكان فقتلته، ولم أعف عنه، فكن أنت مثلي الآن، كن آلة العدل المنتقمة، كما كنت أنا آلة الجريمة والظلم، انظر أي وحش ضار أمامك واعلم أنني قتلت هنا رجلا بريئا، وأنني طعنته بيدي غير شفيق ولا رحيم، إن القتيل البريء هو أخي.
الجزء الرابع (سلمان - حسان - الملك - ثم شمطاء وليلى)
الملك :
هو أنا.
سلمان :
هو أنت ...؟
حسان :
الملك ...؟
الملك :
نعم، فأنا الذي أرسلني أبي إليك ثم ضربتني بخنجرك، وألقتني من هذه النافذة، وأنت تقول لي: اذهب غير مأسوف عليك، ولكن الله خلصني فلم أمت (تدخل شمطاء) ، وكانت نجاتي على أيدي جماعة من الرعاة أخذوني وأنقذوني من الهلاك، ثم سعيت بشجاعتي وإقدامي فصرت ملكا، ولقبوني بأبي قابوس؛ ولذلك خفي عنك أمري، ولم تعلم أن أخاك لا يزال في قيد الحياة وأنقذوني.
سلمان :
ها أنا راكع بين يديك فعاقبني وخذ بثأرك.
الملك :
انهض يا أخي وعانقني، فأنا أسامحك وأعفو عنك.
شمطاء :
لقد زال الحق ومات الانتقام، وقد عاد حبيبي زياد حيا، فلم يعد لي ثار ولا طلب خذوا كل ما أخذته منكم في أيام كرهي وغضبي، فخذ أنت حسان ابنك، وخذ أنت يا حسان ليلى عروسك.
حسان :
ليلى ... أبي ...
ليلى :
حبيبي ... مولاي ...
سلمان :
يا رب حمدا وشكرا.
شمطاء :
أما أنا فقد حان مماتي ... يا قبر خذني إليك.
الملك :
ماذا تصنعين ...؟
شمطاء :
قد أقسمت أن لا أخرج هذا التابوت فارغا، فدعني بالله.
الملك :
ولماذا تموتين ...؟
شمطاء :
تأمل بي يا زياد إنني أموت مسرورة بلقياك، فأنا حبيبتك حسناء.
الملك :
حسناء ... أنت هنا ... أنت؟!
شمطاء :
نعم، لا أزال حية، وقد كنت آخذ ثارك.
الملك :
إذن فاعفي عن نفسك الآن، كما عفوت أنا عن عدوي إذا كانت أيام الحب قد زالت فقد عاد الحبيب، ولم يعد على الدنيا عتب أو ملام، فلنعد كما كنا سعداء ولنقض باقي أيامنا في سلام، أما أنت يا سلمان فعد إلى إمارتك، وأنا عائد لتدبير أحوال البلاد:
قد تم ما أبغي فعودوا كما
كنتم وسيروا سيرة تصفو
أردت قبل الموت أن أمنع ال
ظلم، وأن ينقطع العسف
وأن أرى وجه شقيقي، وأن
أعفو كما يقضي به العرف
وقد بلغت الآن ما أشتهي
ونال قلبي ما له يهفو
طوبى لمن بارك أعداءه ... ... ... ... ... ...
سلمان : ... ... ... ... ... ... ...
طوبى لمن يقدر أن يعفو
Bilinmeyen sayfa