فلا نكران لفضل الفلسفة اليونانية على الفلسفة القديمة بمدارسها المختلفة، ولكن الادعاء الذي ينكره كل منصف أن اليونان قد امتازوا بفلسفتهم لأنهم أبناء القارة الأوروبية وأصحاب «الذهن» الإنساني المتفرد بين أذهان البشر بمزايا البحث الطليق وحب الاستطلاع لمحض العلم والاطلاع.
فاليونان لم ينفردوا بهذه الفلسفة في جميع عصورهم، ولم يزد عصر فلسفتهم الممتازة على ثلاثة قرون، منها مائة سنة على الأكثر تفرغت فيها فلسفتهم للبحوث الخالصة في حقائق الوجود وأصول الأشياء على قدر المستطاع من تفرغ الفكر الإنساني لهذه الأمور.
وسبب ذلك راجع إلى ظروف خاصة تتغير فيتبعها التغيير في نتائجها حيثما كانت وحيثما كان التغيير.
نشطت حركة الفلسفة اليونانية في العصر الذي شاعت فيه الكتابة على الورق، وتيسرت فيه المواصلات بين بلاد اليونان وما حولها من البلاد الآسيوية والأفريقية.
ولم تنشط - مع ذلك - إلا لأنها قد نشأت في بلاد لم تحكمها دولة عريقة، ولم تكن فيها - إلى جانب الدولة الحاكمة - دولة من دول الكهانة التي تتأصل في البلاد وتتوارث فيها أسرار المعرفة والبحث في أصول الخلق والحياة، أو في المسائل الإلهية التي يستأثر بها الكهان ورؤساء الدين.
فالبلاد التي تجري فيها الأنهار الكبيرة تقوم عليها الدول المتمكنة، وتقوم معها - إلى جانب الدولة الحاكمة - دولة دينية من الكهان ورؤساء الدين يسيطرون على شئون العقيدة ومباحث الفكر في أسرار الطبيعة وما وراءها من الغيب المجهولة. وعلى هذه السنة قامت كهانات الهند وما بين النهرين ووادي النيل؛ فانفرد الكهان بالمعرفة الغيبية ولم يأذنوا لغيرهم - خارج المعبد - في بحث هذه المعرفة ودراسة «الفلسفة» التي تقوم على تحقيق «الوجود» لذاته، وتحقيق صفات الموجودات العليا والموجودات المقدسة التي كانوا ينعتونها باسم الأرباب.
ولم تكن في اليونان دولة متمكنة ولا كهانة ذات سيطرة على دولتها الصغيرة؛ فاتسع أمامهم مجال البحث غير متحرجين فيه ولا محاسبين عليه، وعمدوا إلى العلوم التي استفادوها من الشرق فقالوا فيها ما يقوله كل باحث منطلق اللسان يتحدث بما يشاء كما يشاء.
على أنهم ما لبثوا جيلا أو جيلين حتى اصطدموا بسلطان الدين وسلطان الدولة؛ فقتل سقراط وتشرد أفلاطون وقضى أرسطو بقية حياته في عزلة وإهمال، وكان عدد الهاربين من فلاسفتهم أكثر من عدد المقيمين الآمنين.
وكذلك حدث في القارة الأوروبية بين صميم الأوروبيين بعد قيام السلطة الدينية بينهم وانفرادها بالتفكير في المسائل الإلهية، فإن القرون الوسطى لم يظهر فيها فيلسوف أوروبي واحد، ولم يظهر فيها من ظهر بعد ذلك من فلاسفتها غير تلاميذ الشراح من العرب الأندلسيين.
ونحن لا نعلم من آثار الشرقيين الأقدمين أنهم تركوا «فلسفة» تبحث في أصول الوجود بغير صبغتها الكهنوتية، ولكننا لا نستطيع من أجل ذلك أن نجزم بانقطاع تفكيرهم في هذه البحوث ولا بقصورهم عن إدراك مداها؛ لأنهم لم يتركوا لنا كذلك كتبا مفصلة عن علوم الفلك والرياضة والكيمياء التي لا شك في اشتغالهم بها، وتطبيقهم لها في بناء الهياكل ونقش الجدران وتحنيط الموتى ورصد الكواكب وسياسة الأنهار، وكل ما نستطيع أن نجزم به أنهم لا يعلنون ما عرفوه ولا يدل كتمانهم له على جهلهم إياه.
Bilinmeyen sayfa