التجربة: ذلك هو الداء الذي يصفه بيكون، وليس لكتابه «المنطق الجديد» من غرض سوى معارضة شك العقل المتروك لنفسه بيقين التجربة المنظمة.
وقد اعتقد بيكون أنه أصاب هدفه، وكتابه اللامع في «تقدم العلوم وكرامتها» إنما هو رد، حتى بالعنوان، على كتاب أجريبا اليائس المطمئن إلى اليأس.
وصادف الحل الذي جاء به نجاحا عظيما، على أن هذا النجاح كان أدبيا بحتا؛ لأن بيكون لم يضع ذلك العلم الجديد، العلم العملي، الذي أعلنت عنه كتبه، ولم يضعه أحد من بعده، والسبب بسيط: هو استحالة الأمر.
إن التجربة البحتة لا تؤدي بنا إلى شيء، لا تؤدي بنا حتى إلى التجربة، فإن كل تجربة إنما تستند إلى نظرية سابقة، التجربة سؤال نلقيه على الطبيعة، فهي تقتضي لغة نلقيه بها، فأخفق بيكون في إصلاحه لأنه لم يدرك هذه النقطة، ولأنه أراد «أن يتبع نظام الأشياء بدل أن يتبع نظام الأدلة» على حد تعبير ديكارت، وأفلح ديكارت في ثورته؛ لأنه أدرك تلك النقطة وسلك طريقا معارضا فحرر العقل بدل أن يعوق سيره.
أيها السادة!
لقد فرضت عليكم هذا الاستطراد التاريخي الطويل؛ لأنه بدا لي ضروريا كل الضرورة لتحديد مكان «المقال في المنهج» من التاريخ، والبيئة التي يجب وضعه فيها لكي نفهمه، فإني أعتقد أنا نسيء فهم «المقال» بل فهم ديكارت، إذا نحن لم نر ظل مونتاني القوي منتشرا عليهما.
إن لديكارت خصمين: أرسطو، والفلسفة المدرسة، على أنهما ليسا الخصمين الوحيدين، كما ردد البعض وكما سبق لي أن قلت، كان سلطانهما قد تزعزع فأراد ديكارت أن يحل محلهما، لا أن يحاربهما، إن له خصما آخر هو مونتاني، ولعله أقوى الخصوم، ومونتاني هو في نفس الوقت المعلم الحقيقي لديكارت.
إن ديكارت يتم مهمة مونتاني ويبلغ بها الغاية، تلك المهمة الهادمة المحررة، وأعني بها مهاجمة الخرافات والأوهام وما في الفلسفة المدرسية من ظاهر العقل، فإنه يحيل الشك منهجا ويسنده إلى يقين الحقيقة بعد استعادتها، فيجعل منه بين يديه محكا وآلة فعالة للنقد ووسيلة لتمييز الصواب من الخطأ، إن ديكارت يقتفي أثر مونتاني في الرجوع السقراطي إلى النفس، ويسبقه ويمضي بالتحليل إلى غايته.
هو يحارب شك مونتاني ويدفع به أيضا إلى غايته، وهذه هي عظمته، أي هذا التشدد الذي لا يلين ولا يخطئ، وهو فضيلة نادرة جدا تقتضي أكثر من صفات عقلية عادية بالغة ما بلغت، هو فضيلة تتطلب إقداما وشجاعة وعزيمة صادقة تأبى الوقوف في الطريق، وتمضي في سبيلها مهما يكلفها ذلك، مقتحمة العقبات غير مبالية بالتناقض الظاهر.
إنما استطاع ديكارت أن ينجو من تعاريج الخطأ والشك؛ لأنه مضى إلى النهاية في كل مسألة، واستطاع أن يكشف بها الحرية الروحية، وأن يستعيد يقين الحقيقة العقلية، وأن يجد الله، حيث لم يجد مونتاني سوى الفراغ، هذا هو الغرض الحقيقي الذي توخاه ديكارت من «المقال»؛ أي أن يستعيد نفسه، وأن يدل فيما وراء الشك الهادم «للرأي العقلي» إلى طريق الوضوح وإلى يقين «المعرفة العقلية»، إن ديكارت يرد ب «المقال» على «رسائل» مونتاني، ويعارض تاريخ مونتاني الروحي بتاريخه هو، إنه يعارض قصة هزيمة بقصة انتصار.
Bilinmeyen sayfa