وفكرة الموجود الكامل هذه، البديعة الغنية، تفوقنا إلى حد أنه لا يمكن أن تصدر عنا نحن الضعفاء المتناهين الناقصين، ولا يمكن أن تأتينا إلا من عند الله ، وإذن فهذا يقين ثان، وهذه فكرة واضحة ثانية لا ينالها الشك، موضوعها حقيقي بلا ريب: إن الله موجود لأني موجود، أنا الحاصل على فكرة الله.
الأمر بسيط جدا كما ترون، ومع ذلك فهو عسير للغاية؛ لأنه لكي نفهم هذا البرهان البسيط يجب علينا أولا أن نطهر العقل ونجعله كفؤا لإدراك المعاني العقلية، وما لم نصنع ذلك، وما دام ضوءنا الطبيعي محجوبا بأفكار مزعومة آتية من المحسوس، ومشحونا بمعان مجردة، ومتبعا منطق المتناهي، فليس يستطيع أن يفهم نفسه، وليس لديه فكرة واضحة عن الله، فلا بد له من اجتياز الشك، والشك رياضة روحية حقيقية - رياضة طويلة عسيرة يجب تكرارها كثيرا.
الآن فقط تحررنا من الشك تماما، الله موجود: هذه حقيقة أكيدة، والله هو الذي وهبنا الوجود وعنه صدرت أفكارنا، والموجود الكامل لا يمكن أن يخدعنا، وإذن فأفكارنا الواضحة البسيطة صادقة؛ أي إنها تصلح لأن تكون أساسا لأحكام وجودية، وتسمح لنا بالتأدي من الفكرة إلى الموضوع، إن أفكارنا الواضحة البسيطة تكشف لنا الوجود كما هو، كما خلقه الله، فنحن نستطيع الآن أن نفهم هذا التوافق بين الوجود والفكرة؛ إنه آت من الله، إن الله خالق الوجود والفكرة وهو الموفق بينهما، وهو ضامن حقيقتهما وضامن كل حقيقة، فالثقة بعقلنا قائمة عند ديكارت على ثقتنا بالله، والملحد لا يستطيع أن يحصل على مثل هذه الثقة، ولا يستطيع أن يستيقن من شيء، أما نحن وقد وثقنا بالله وبعقلنا، واستندنا إلى صدق الله، فنستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك، نستطيع أن نعيد تصنيف أفكارنا وتعيين ما لها من قيمة نسبية، حتى الأفكار غير الواضحة، حتى التي أتت من المحسوس فكانت غامضة بالمرة، نستطيع أن نفهم مهمتها وأن نضعها في مواضعها.
وجود الله ضامن لقيمة الأفكار الواضحة البسيطة، ضامن لفكرتي الامتداد والحركة اللتين بدأنا بهما، فأصبح العلم الطبيعي وطيدا، وكذلك الشعور بالذات. وكوني استطعت أن أفهم نفسي قبل أن أعلم شيئا من العالم الممتد يدلني على أني؛ أي على أن نفسي غير متعلقة بالعالم الممتد، لست ممتدا في ذاتي، أنا حاصل على جسم ولكني لست إياه، أنا شيء أعظم من الفضاء اللامتناهي الذي يدركه عقلي فإني حرية وروح، وليس الروح مادة، وليس بيني وبين المادة شبه ولا علاقة، وعالم الفضاء اللامتناهي لا يشعرنا بعد الآن أي خوف، بل بالعكس هو يكشف لديكارت قدرة الله غير المتناهية.
والآن ماذا يبقى من كل هذا، من المجهود الهائل الذي بذله هذا العبقري؟ يبقى كل شيء أو لا يبقى شيء كما تشاءون، لا يبقى شيء من عمل ديكارت، ويبقى كل شيء من روحه.
لا يبقى شيء يذكر من الميتافيزيقا، وقد لحقت أدلته على وجود الله أدلة أرسطو والقديس توما في عالم الأوهام، ومع ذلك فإن الاكتشاف الديكارتي الكبير - اكتشاف تقدم اللامتناهي عند العقل - باق، من الحق أن الفكر يتضمن اللامتناهي، وأن كل فكر متناه فهو لا يستطيع أن يدرك ذاته إلا بفضل فكرة لا متناهية، وأن الفكر حر ومستقل.
ولكن شيئا لم يبق من العلم الطبيعي، وقد استطاع بعضهم أن يكتب منذ عشرين سنة أن العلم لا يتبع الطريق الذي رسمه لنا ديكارت، كان هذا القول صحيحا منذ عشرين سنة، أما اليوم فهو أقل صحة بكثير، أجل إن العلم الطبيعي الحاضر كما نجده عند أمثال أينشتاين ودي برويل لا يردد بحال العلم الطبيعي الحاضر كما نجده في كتاب «مبادئ الفلسفة» لديكارت، كما أن ديكارت لم يكن ناقلا للعلم الطبيعي الذي نجده في كتاب «تيماوس» لأفلاطون، ومع ذلك فإن التاريخ يعتبر العلم الطبيعي الذي وضعه ديكارت ثأرا لأفلاطون، وكذلك العلم الطبيعي الذي وضعه أينشتاين فهو ثأر لديكارت، والواقع أن العلم الطبيعي الحاضر الذي يرد الوجود إلى الهندسة إنما يسعى إلى تحقيق ما كان لديكارت وأفلاطون من حلم قديم، بل يحققه إلى حد ما.
وإنما استطاع العلم أن يخرج من المأزق بفضل إجراء ديكارتي؛ أي بالرجوع على ذاته ونقد مبادئه وامتحانها بالشك من جديد، ليس علمنا الطبيعي علم ديكارت، ولكنه ديكارتي أكثر منه، إنه ديكارتي أكثر مما كان في أي وقت آخر .
أجل لم يستطع منهج ديكارت - منهج الأفكار الواضحة البسيطة - أن يوفر للإنسان طمأنينة اليقين التي كان ديكارت يرجو أن يمنحه إياها، ولم يستطع أن يعيد بناء الوجود كاملا، إن الوجود أغنى مما ظن ديكارت، ليس الوجود قاصرا على الامتداد والحركة، وليس منبسطا على سطح، هذا محقق؛ ولذلك كثيرا ما تؤخذ علينا نزعتنا الديكارتية، وكثيرا ما يقال لنا: إن طلبنا الوضوح والجلاء يؤدي بنا إلى الخطأ وإلى إنكار ما في الحياة من قوى مضطربة غامضة عميقة، ويقال لنا أيضا: إنا بشغفنا بالتحليل النقدي وإصرارنا على الشك في كل شيء نحرم الإنسان أعظم خيراته، نحرمه الطمأنينة واليقين.
هذا حق؛ إن منهج ديكارت منهج قلق وجهد، وإن طلب الوضوح أمر شاق، وهو أطول مما ظن ديكارت من حيث إنه لا يقف عند حد، هو يهدم التقاليد والمعتقدات الموروثة وأصنام فكرنا، ولكن هذا هو الثمن الذي نؤديه لإدراك الحق.
Bilinmeyen sayfa