فلا يبقى إذا، أو لا يكاد يبقى شيء من تحصيله المدرسي، وهذا مفهوم، فإن العلوم جميعا إنما تستمد مبادئها من الفلسفة، والفلسفة في مقدمة المعارف اختلاطا وريبا، فلا يستبقي ديكارت سوى المعارف التي لا تمت إلى الفلسفة بصلة؛ أي الإيمان بالله وبالرياضيات.
فلنسجل ذلك، إن له أهميته، فإن فلسفة ديكارت ستحاول أن تربط بين هذين اليقينين وأن تسند أحدهما إلى الآخر.
هل وصل ديكارت إلى حالة الشك بنفسه؟ إن هذا جائز، هل تأثر بالكتب التي قرأها؟ إن هذا راجح، هل تأثر بتلك البيئة المثقفة التي اختلف إليها بعد مغادرة المدرسة؟ إن هذا محقق، والأمر يعد قليل الخطر.
إن العقلية التي يصفها ديكارت هي عقلية عصره، عقلية الرجل المثقف الذي قرأ بيير راموس، ومونتاني، بومبوناس، وكردان، أجريبا، وبيكون، والذي أرهقته «دقائق الفلسفة المدرسية» فازدرى ما كان لزمانه من «علم رسمي» وولاه ظهره، وسوف يحذو ديكارت حذوه، فهو يقول: «حالما أذنت لي السن بالخروج من سلطة أساتذتي تركت دراسة الآداب بالمرة، واعتزمت ألا أطلب من علم إلا ما قد أجده في نفسي أو في كتاب العالم الأكبر، (وفي هذا يشبه مونتاني تمام الشبه)، وقضيت بقية شبابي في الترحال والتردد على قصور الملوك والأمراء، والاتصال بالجيوش، ومعاشرة الناس على اختلاف أمزجتهم وطبقاتهم، والتزود من التجارب، وامتحان نفسي فيما كان الحظ يعرض علي من أحوال، والتفكير في كل مناسبة بحيث أخرج منها بفائدة، فقد كان بي دائما شوق بالغ لأن أتعلم التمييز بين الصواب والخطأ للتبصرة في أفعالي والمضي باطمئنان في هذه الحياة.»
لقد كانت أسفار ديكارت موضوع جدل غير قليل فيما سلف من الزمان. كانت رحلته الأولى إلى هولندا وهو في العشرين ليخدم في جيش أجنبي، غريبة جدا في نظر الفرنسي الملازم لبلده من أهل القرن الماضي، وفي نظر الأديب الذي لم يكن يتصور الحياة ممكنة في غير باريس؛ لذلك كانوا يتلمسون لهذه الأسفار أسبابا عميقة خفية، ولكنا نعلم اليوم أنهم كانوا مخطئين.
إن المثل القائل: «الأسفار تكون الشباب» يرجع إلى أبعد من أمس، وقد كان التنقل في أنحاء أوروبا جزءا من تربية «الرجل المثقف» في زمن ديكارت، والواقع أن اكتساب «التجربة والآداب الاجتماعية» التي تميز «المثقف الرجل» لا يتأتى بغير السفر، ومعاشرة الجند وأهل القصور، والتفرج على البلدان الأجنبية.
وليس من المستغرب كذلك أن يكون ديكارت قد قصد إلى هولندا، فقد كانت هذه الدولة حينذاك قوة بحرية عظيمة، وكانت حليفة لفرنسا، وكانت غاصة بالفرنسيين من أساتذة وطلاب وعسكر وشباب الأشراف يفدون إليها ليتعلموا فن الحرب في جيش موريس دي ناسو، أكبر قائد في عهده، وكان ديكارت أحد هؤلاء، أجل إنه كان من طبقة متواضعة بين الأشراف هي طبقة رجال القضاء، ولكنه كان شريفا على كل حال واتخذ له اسما شريفا «سيد دي بيرون» للتنويه بمكانته.
فالسفر أو على الأقل، سفرة ديكارت الأولى كانت تكملة طبيعية للمدرسة، كانت مدرسة الحياة، أفاد منها مثل غيره، زعزعت الأسفار ما تبقى من يقين؛ أي آراءه الموروثة، ولكنها عوضته منها شيئا من سعة الفكر، فإنه يقول: «كنت أتعلم ألا أغالي في تصديق ما أقنعتني به القدوة والعرف، وبذلك تخلصت شيئا فشيئا من أخطاء كثيرة تحجب ضوءنا الطبيعي وتدعنا عاجزين عن إدراك الحق.»
للآن كل ما صدقناه فهو طبيعي، وما ترجمة ديكارت إلا ترجمة أي فرد من الناس، وفي استطاعة كل واحد من قراء ديكارت، كل «رجل مثقف» من قراء «المقال» أن يصيح قائلا: إن هذه لترجمتي، وقد قلت لكم في المحاضرة الماضية: إن تاريخ ديكارت كما يقصه علينا يلخص عقلية عصره.
وللآن لم نبرح موقف مونتاني، ولكن ديكارت يعقد العزم ذات يوم على «أن يدرس في نفسه، وأن يستخدم قوة عقله لاختيار الطرق الواجب اتباعها» كما فعل مونتاني. وهنا يحدث الصدع.
Bilinmeyen sayfa