Taysir Usul al-Fiqh lil-Mubtadi'een
تيسير أصول الفقه للمبتدئين
Türler
تيسير أصول الفقه للمبتدئين - الحكم الشرعي
يسمى خطاب الشرع للمكلفين: الحكم الشرعي، وهو ينقسم إلى: تكليفي، ووضعي، وينقسم التكليفي إلى أقسام: منها الواجب، وهو طلب الفعل على وجه اللزوم، وله سبعة مباحث هي: الفرض الكفائي والعيني، والتخيير والترتيب، والتضييق والتوسيع، والقضاء، وقد خالف الأحناف الجمهور في الفرق بين الفرض والواجب بحسب الدليل إن كان ظنيًا أو قطعيًا، وهو خلاف لفظي في الفقه حقيقي في العقائد.
1 / 1
تعريف الحكم الشرعي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: الأصل لغة: ما يبنى عليه غيره.
واصطلاحًا: ما يبنى عليه الأحكام الشرعية.
ويطلق الأصل على معان متعددة، كالدليل، تقول: الأصل بأن الجدة ترث السدس الإجماع، أي: أن الدليل على توريث الجدة السدس: الإجماع.
ومن معانيه: الراجح، كأن تقول: الأصل في الكلام أن يكون على الحقيقة لا على المجاز، مثل قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح:١٠]، فاليد هنا يد حقيقة، فلله يد وأصابع وأنامل على ما يليق به جل وعلا.
والحكم الشرعي هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
قوله: (خطاب): (الخطاب) مبتدأ مضاف و(الشارع) مضاف إليه.
وقوله: (الشارع): هو الله جل وعلا، لأنه لا حكم إلا لله، فكل تشريع من غير الله باطل.
وقد اختلف أهل الأصول: هل رسول الله ﷺ مشرع أم ناقل للشرع؟ وهذه المسألة تتفرع على أصل وهو: هل النبي ﷺ يجتهد أو لا؟ فبعضهم يقول: إن النبي ﷺ مشرع؛ لأنه يفتى في مسائل فيبت فيها، وبعضهم يقول: هو ليس بمشرع، ولكنه ناقل للشرع، وهذا هو الصحيح؛ لأن الله جل وعلا يقول: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣ - ٤].
1 / 2
حجية السنة النبوية
خطاب الشارع: هو كلام الله جل وعلا، ويقصد به القرآن، وأيضًا تدخل معه السنة، وإذا قلنا: (خطاب الشارع) فالمراد به: المتواتر وغير المتواتر، فالقرآن تكلم الله به وسمعه منه جبريل، ونزل به إلى محمد ﷺ، وكذلك الأحاديث القدسية الله جل وعلا تكلم بها، والنبي ﷺ ينسبه إلى الله جل وعلا، أي: أن النبي ﷺ لا ينفرد به، والراوي عن الرسول ﷺ يقول: قال رسول الله: قال الله تعالى.
إذًا: الحديث القدسي يختلف عن السنة؛ لأن النبي ﷺ ينسبه إلى الله، وكذلك يختلف الحديث القدسي عن القرآن، إذ القرآن لفظًا ومعنى من الله جل وعلا، وأما الحديث القدسي فلفظه من الرسول ﷺ، لكن معناه من الله جل وعلا، إذ ينزل جبريل بالمعنى والنبي ﷺ يأتي باللفظ، والسنة تنسب إلى رسول الله، لكننا نقول أيضًا: السنة وحي من الله، والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر:٧]، فهذا إلزام وليس بدليل، فأنا ألزمه بما أتى به النبي ﷺ، لكني أريد دليلًا على أن السنة وحي من الله جل وعلا، وإذا أثبتنا أن السنة وحي من الله، سنرد على القرآنيين الذين ينكرون السنة.
والدليل أن السنة وحي: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٤]، ووجه الدلالة علميًا: (إن) هنا بمعنى: ما نافية، فهي نفي إثبات يفيد الحصر، (إن) و(إلا) وأصلها: ما هو إلا وحي يوحى، ولفظة: (وحي) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فكل ما يتكلم به النبي ﷺ فهو وحي يوحى.
وأوضح من ذلك تصريحًا: قول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب:٣٤]، فآيات الله: القرآن، والحكمة: السنة؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، أقول: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله) وأقف، وأقول: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من الحكمة) فالحكمة غير الآية، فالآية هي: القرآن، والحكمة هي: السنة، يقول الشافعي: بالاتفاق آيات الله هي: القرآن، والحكمة هي: السنة.
ويوضح ذلك جليًا ما صح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا ألفين -أي: لا أجدن- أحدكم على أريكته شبعان يأتيه الأمر من أمري فيقول: اعرضه على كتاب الله فما وافق كتاب الله أخذنا به وما لم يوافق لم نأخذ به، ألا وإني قد أوتيت القرآن ومثله معه) والمثلية هنا تدل على المساواة، وإن كان هناك تفاوت في القدسية، فالسنة أيضًا وحي يوحى من عند الله جل وعلا.
إذًا: فخطاب الشارع -أي: الوحي الذي نزل به جبريل على النبي ﷺ هو: قرآن وسنة، والإجماع أيضًا يدخل معه؛ لأن الإجماع لا يمكن أن يكون إلا بدليل؛ لأن الله أبى أن تجتمع هذه الأمة إلا على حق، والحق إما من كتاب الله أو من سنة النبي ﷺ.
1 / 3
شرح تعريف الحكم الشرعي
قوله: (المتعلق بأفعال المكلفين): خرج به: اعتقادات المكلفين، مثل: الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان، أو صفات الله، أو عذاب القبر ونعيمه، أو أفعال الله جل وعلا، والقرآن فيه آيات تثبت أفعال الله وأسمائه وصفاته، فهذا لا يبحث فيه الأصوليون.
وقوله: (الاقتضاء): معناه: الإلزام بالفعل أو بالكف.
والإلزام بالفعل يعني: الوجوب، وينسحب معه الاستحباب، والمستحب لابد من أمر شرعي فيه يأمر الله به.
والإلزام بالكف معناه: التحريم، وينسحب معه المكروه.
وقوله: (أو بالوضع)، والوضع هو: جعل شيء سببًا لشيء آخر.
مثاله: أن يجعل الله جل وعلا الشمس سببًا لدخول وقت صلاة الظهر، ورؤية الهلال سببًا لحلول شهر رمضان لفرضية الصوم، فهذا شيء جاء سببًا لشيء.
وأيضًا يجعل شيئًا مانعًا لشيء آخر.
مثال ذلك: القتل يعتبر مانعًا للإرث، أي: أن الولد يرث أباه، لكنه لو قتله لا يرثه؛ لأن القتل من موانع الإرث.
أيضًا الصحة والفساد، فيقال: هذا العقد صحيح أو فاسد، وهذا -إن شاء الله- سوف نتكلم عنه بالتفصيل في الأحكام الوضعية.
1 / 4
أقسام الحكم الشرعي
الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي، وحكم وضعي.
فالحكم التكليفي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير فقط، وهو -بنفس التفصيل السابق- فيدخل فيه الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمندوب.
والحكم الوضعي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالوضع فقط، فيدخل فيه السبب والشرط والمانع والصحة والبطلان.
فأقول مثلًا لأفرق بينهما: الحكم التكليفي له أوقات وعلامات وأسباب، وأما الحكم الوضعي فليس له ذلك.
مثال ذلك: الزكاة في مال الصبي: الصبي لا يؤمر بالصلاة ولا بالحج ولا بالجهاد، لكن يؤمر بإخراج الزكاة، فلو أن هناك صبيًا عنده مال بلغ النصاب وحال عليه الحول، فلا بد أن يزكى هذا المال؛ وهذا من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف.
أيضًا: لو أن الصبي سار في الشارع فكسر أو أتلف شيئًا لبائع، فإن الولي يأخذ من مال هذا الطفل ليضمن هذا المتلف، وهذا من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف أيضًا.
1 / 5
أقسام الحكم التكليفي
خطاب التكليف له خمسة أحكام: الواجب، المندوب، المباح، المحرم، المكروه.
1 / 6
تعريف الواجب
الواجب في اللغة: الساقط، وهذا نستدل به فقهيًا على من يقول: بأن غسل الجمعة واجب، ويستدل بقول النبي ﷺ: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، فأنا أقول له: غسل الجمعة ساقط عن كل محتلم.
قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ [الحج:٣٦]، أي: أن الجمال تنحر وهي واقفة، فتسقط على الجنب، ثم لك أن تذبح بعد ذلك وتأكل وتعطي القانع والمعتر.
في الاصطلاح: طلب الفعل على وجه اللزوم.
قوله: (طلب الفعل) أي: أن الله جل وعلا يحث العباد، فإذا أمر بأمر فنهتم به، كقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة:٤٣]، فهذا أمر من الله جل وعلا يطلب به حتمًا الفعل، فإذا طلب حتمًا الفعل يذم من ترك هذا الفعل.
وقوله: (على وجه اللزوم): أي: على وجه الإلزام، فهو ليس مخيرًا، وإنما لا بد وجوبًا أن يعمله.
1 / 7
أحوال الطلب
الطلب له ثلاثة أحوال: أن يكون من الأعلى للأدنى، أو من الأدنى للأعلى، أو من المساوي.
فإن كان من الأعلى للأدنى فهو على وجه اللزوم، أي: من الرب الشارع المشرع ﷾، فإذا طلب من العبد شيئًا فعلى العبد أن يقول: استسلمت، وقد مدح الله إبراهيم بذلك فقال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:١٣١]، أي: استسلمت، ورؤيا الأنبياء وحي، وهي أمر من الله، فلما رأى أنه يذبح ابنه ما راجع هذه الرؤية؛ بل أخذ ابنه ليذبحه بأمر الله جل وعلا.
وإذا كان الطلب من الأدنى للأعلى فهو رجاء أو تمني أو دعاء، كقولك وأنت ترفع يديك: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة:٢٨٦]، ربنا اغفر لنا وارحمنا، فكل هذا أمر، لكنه من الأدنى (العبد) للأعلى (الرب)، ومعناه: الطلب والترجي.
وأما إن كان من المساوي فهو طلب واستسماح والتماس، فإذا قلت لقرين مثلك: ائتني بكذا، فأنت تطلب منه أن يأتيك بما طلبت منه، أو تقول له: ائتني بكتاب الأصول، أي: ترجوه أن يأتيك بكتاب الأصول، أو تطلب منه أن يأتيك بكتاب الأصول.
1 / 8
حكم الواجب
كثير من الأصوليين يعرف الواجب بحكمه لا بحده، وعند الفلاسفة أو المناطقة أو البلاغيين أنه لا بد أن يعرف الشيء بالحد ثم بالحكم.
فحكم الواجب: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فتارك الصلاة يعاقب عند الله جل وعلا، وفاعل الصلاة يثاب عند الله جل وعلا، والمزكي يثاب عند الله بالزكاة، وتارك الزكاة معاقب.
إذًا: يثاب فاعل الأمر، ويعاقب -أو (يستحق) عند بعض الأصوليين- فاعل المعصية وتارك الأمر، وهو تحت مشيئة الرحمن.
1 / 9
أثر الخلاف بين الأحناف والجمهور في الفرض والواجب
الواجب له أمور تتعلق به منها: أولًا: أن الواجب يطلق عليه أيضًا الفرض، لكن اختلف العلماء في الواجب والفرض، فجمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة على أن الواجب هو الفرض، ولا فرق بينهما.
وأما الأحناف فغايروا بين الواجب والفرض، وقالوا: الفرض ما ثبت بدليل قطعي، وأما الواجب فهو ما ثبت بدليل ظني.
والدليل القطعي: المتواتر، مثل: القرآن، فهو فرض عندهم، كقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:٤٣]، فهذا فرض وليس بواجب.
أيضًا أمر الله تعالى بالزكاة، فهذا فرض وليس بواجب؛ لأنه ثبت بدليل قطعي.
وأما الذي يثبت عندهم بدليل ظني فهو واجب، مثل: الوتر، فهو عندهم واجب وليس بفرض؛ لأنه ثبت في السنة بقول النبي ﷺ: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا)، وهذا فعل أمر، والقاعدة: أن ظاهر الأمر يقتضي الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه من الوجوب إلى الاستحباب، لكنه هنا واجب وليس بفرض؛ لأنه ثبت بدليل ظني وهو: حديث الآحاد وليس بمتواتر.
وإذا دققت النظر رأيت أن الأحناف يتفقون مع جمهور أهل العلم في أن الذي ثبت بالدليل الظني يجب العمل به، أي: يجب أن تعمل بهذا الأمر الذي ائتمرت به، سواء كان الدليل قطعيًا أو ظنيًا، فلو جاءك مثلًا قول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فلا بد أن تصلي.
وإذا جاءك قول النبي ﷺ: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا) فعند الأحناف يجب، ويسن عند الجمهور أن تجعل آخر الصلاة وترًا، فهم يتفقون على لزوم العمل بما ثبت ظنيًا أو قطعيًا، فأصبح الخلاف خلافًا لفظيًا وليس له أثر إلا من ناحية الاعتقاد، أي: أن أثر الخلاف بين الأحناف والجمهور بالدليل القطعي والدليل الظني ليس له محل في الفقه، لكن أثره في الاعتقاد فقط.
ونبين ذلك بالآتي: منكر القرآن حكمه كافر، والجميع يتفق على هذا، أما الذي ينكر حديثًا في صحيح البخاري فإن كان متواترًا فيكفر بذلك، وإن كان آحادًا فاختلف العلماء فيه، والراجح ما قاله الجمهور: أنه لا يكفر، فالخلاف هنا ليس خلافًا فقهيًا بين الأحناف والجمهور، وليس له ثمة أثر في المسائل الفقهية.
1 / 10
الفرق بين الواجب الكفائي والعيني
1 / 11
أقسام الواجب
الواجب ينقسم إلى سبعة أقسام: واجب كفائي، وواجب عيني، وواجب على التخيير، وواجب على الترتيب، وواجب موسع، وواجب مضيق، وقضاء، أي: قضاء الواجب.
1 / 12
الواجب الكفائي والعيني
الفرض الكفائي هو: طلب الشارع إيجاد الفعل نفسه دون النظر إلى عين المكلف.
أما ضابط الفرض العيني فهو: طلب الشارع الفعل من عين المكلف، فالشارع ينظر فيه إلى الفاعل.
فالفرض الكفائي ينظر فيه الشارع للفعل نفسه لا للمكلف الذي يفعل، أي: أن الله جل وعلا يريد أن يقام هذا الأمر ولا يريد من الكل أن يقوموا به، بل واحد فقط يقوم به ويسقط عن الآخرين، وتأثم كل الأمة إن لم تقم به.
مثال ذلك: طلب العلم والفقه في الدين، نحن لا نريد أن الأمة كلها تكون علماء، ولا نريد أن الكل يطلب العلم، بل طائفة تطلب العلم فيسقط هذا الفرض عن باقي الأمة، قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١٢٢]، فوجود طائفة واحدة فرض كفائي.
كذلك: علم المواريث فرض كفائي، علم البيوع فرض كفائي، علم اللغة والنحو فرض كفائي، صلاة الجنازة فرض كفاية، فإذا صلى خمسة من الناس أو ثلاثة أو واحد على جنازة سقط هذا عن الأمة، لكن لو لم يصل أحد على مسلم مات فتأثم الأمة كلها على ذلك، كذلك إن لم ينبر واحد من الأمة وتفرغ لطلب المواريث وأتقنه فالأمة كلها تأثم، وإذا قام واحد فتعلم علم المواريث وعلم من تحته فالأمة لا تأثم بذلك، ويسقط عنها الإثم.
ولا بد أن ننوه على أمر تحتاجه الأمة، ألا وهو الجهاد، وقد اختلف العلماء في حكم الجهاد هل هو فرض عين أو فرض كفاية؟ والصحيح الراجح: أن الأصل في الجهاد أنه فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين، إلا أن يكون هناك ثمة نازلة بالأمة أو حاجة الأمة لرجال ليجاهدوا، فيكون هنا فرض عين، وكل باستطاعته، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:١٦].
وأما فرض العين فهو: الذي يطلب من كل مكلف أن يقوم به، كإقامة الصلاة، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، وزكاة المال بشرطين وهما: أن يمتلك الرجل النصاب، ويحول عليه الحول.
وصوم رمضان فرض عين على كل مكلف، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فرض عين، ولا يسقط عن الآخرين، لأنه لا يدخل أحد الإسلام إلا بالشهادتين.
ودفن الميت فرض كفاية، والصدقات مستحبة وليست فرض كفاية، وستر الرجل عورته من السرة إلى الساق فرض عين.
والفرق بين فرض العين وفرض الكفاية: أن فرض العين كل مكلف مطالب أن يفعل هذا الفعل الذي أمره الله به، وفرض الكفاية المطلوب إيجاد الفعل فقط، بدون النظر إلى الفاعل.
1 / 13
الواجب المخير والمرتب
الواجب على التخيير: هو أن الله جل وعلا يأمر بأمر حتمي لا بد أن يفعل، أو: طلب الفعل على وجه اللزوم، لكنه خير العبد -مثلًا- بين فعل الثلاثة أو الخمسة أو الستة، فيختار منها ما يشاء، ويلزمه واحدًا من هذه المخير بينها، فإن لم يفعل واحدًا منها فهو آثم، فإن فعل واحدًا سقط عنه الباقي.
مثال ذلك: كفارة اليمين، قال الله جل وعلا: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة:٨٩]، (أو) هنا للتخيير، فهنا يجب على المرء أن يكفر عن يمينه، لكنه مخير بين ثلاث: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
وأيضًا فدية الأذى في الحج: فلو أن رجلًا حصل له أذى في رأسه، فإن الله جل وعلا يقول: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة:١٩٦]، وكعب بن عجرة جاء إلى النبي ﷺ والقمل ينزل على وجهه، فقال له النبي ﷺ: (ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما بلغ، اذبح شاة، فقال: ما عندي، فقال: أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام) وقد اختلف العلماء -وهذه مسألة فقهية بعيدة- هل هي على الترتيب، أم على التخيير؟ والصحيح والراجح: أنها على التخيير؛ لأن النبي ﷺ ذكر ذبح الشاة أولًا.
وقال مالك: هي على الترتيب ثم التخيير، أي: يرتب أصالة بالذبح، ثم يخير بين الصيام أو إطعام ستة مساكين، لكن نحن نقول: الآية واضحة كالشمس: قال الله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة:١٩٦]، فهو مخير بين الثلاث، ولا بد أن يفعل واحدة من ذلك.
ونضرب مثلًا ونطبقه: رجل في الحج أتعبه شعره، وزاد القمل في رأسه، فأراد أن يحلقه، فقال: الله خيرني، فحلق شعره ولم يفعل شيئًا من الثلاثة، فيعاقب ويأثم، لأنه ترك واجبًا وخالف أمر النبي ﷺ.
مثال آخر: رجل سمع المؤذن يقيم الصلاة، فقال الرجل: إمام هذا المسجد يستعجل في الصلاة، فذهب وتوضأ وأتى بالواجبات فقط: فغسل يديه، ثم غسل رجله، ثم مسح رأسه، ثم ذهب ليصلي، فهنا وضوءه ليس صحيحًا؛ لأن الترتيب في الوضوء واجب وهو لم يرتب، والترتيب الذي رتبه الله جل وعلا: غسل الوجه، ثم اليدين، ثم مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، فإن كان عالمًا يأثم بمخالفته للواجب، وصلاته غير صحيحة، فهذا التطبيق دقة النظر في الفقه وأصول الفقه، حتى نتعلم منها كيف نطبق.
إذًا: إذا كان على التخيير فلا بد أن يفعل واحدة، وإن كان على الترتيب لزمه أن يفعل نفس الترتيب الذي أمر به، فكفارة اليمين على التخيير: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وكفارة القتل الخطأ على الترتيب، قال تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [النساء:٩٢]، فالصيام جاء على الترتيب، فأصبح واجبًا على الترتيب، وليس على التخيير.
1 / 14
الواجب المضيق والموسع
الواجب الموسع هو: الذي يتسع وقته، والمرء فيه غير ملزم في أول الوقت أن يأتي بهذا الواجب.
وضابطه الفقهي: أنه يسع لمثل جنسه في وقته.
مثال ذلك: الصلوات، فهي واجبة واجبًا موسعًا؛ لأنها تسع لجنس مثلها، فيمكن للإنسان أن يصلي قبل الظهر أربعًا، وهي كجنس صلاة الظهر، وكذلك يصح أن الإنسان يصلي قبل العصر أربعًا، قال رسول الله ﷺ: (من صلى أربعًا قبل الظهر وأربعًا بعد الظهر حرم الله لحمه على النار)، وقال النبي ﷺ: (اثنتا عشر ركعة من صلاها في يوم وليلة بنى الله له قصرًا في الجنة: اثنتين قبل الغداة وأربعًا قبل الظهر)، وقال النبي ﷺ: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، لمن شاء)، وقال: (وبين كل أذانين صلاة)، فهذه دلالة على أن هذه صلاة من جنس الصلاة، فتصلى في وقت الصلاة المفروضة، لكن واجبًا موسعًا.
كذلك الزكاة: إذا حال عليك الحول ومعك النصاب، وأخرجت الزكاة (٢.
٥%) وأخرجت فوق ذلك عشرة جنيهات، فيجوز لك ذلك، لأنه واجب موسع من جنسه.
وأما المضيق فهو: الذي لا يسع وقته لمثله.
مثال ذلك: صوم رمضان، فلا يصح للإنسان أن يصوم يوم الإثنين من رمضان على أنه هو اليوم الذي ولد فيه النبي ﷺ، واليوم الذي ترفع فيه الأعمال، فصومه ينعقد فرضًا.
مثال آخر: حج البيت، فلا يمكن للإنسان أن يحج مرتين في مرة واحدة، والذين يعتمرون أكثر من عمرة في رمضان هذه بدعة، والذي يفعلها آثم غير مأجور، يذهب ويعتمر لجدته وجده وأمه وأبيه، وهذا لا يصح بأي حال من الأحوال، لأنه واجب مضيق وليس موسعًا.
1 / 15
القضاء
أما القضاء فلا بد له أصوليًا من أمر جديد مثله مثل الأداء، أي: من ترك صلاة الظهر عمدًا متعمدًا مفرطًا فليس عليه القضاء، وإذا أذن المؤذن للعصر فلا يقضي هذه الصلاة، وإن قضاها فهي ليست محسوبة له، لأن القضاء لا بد له من دليل كما أن الأداء لا بد له من دليل.
ودليل ذلك: أن الله أمر بأوامر يجب على المرء أن يؤديها، ولم يأمر بقضائها، ويجلي لنا ذلك قول عائشة ﵂ وأرضاها عندما سألتها المرأة -كما في الصحيحين- فقالت: (أنقضي الصلاة؟! فقالت: أحرورية أنت، كنا نفعل ذلك على عهد النبي ﷺ أي: كنا لا نصوم ولا نصلي إذا حاضت المرأة، فنقضي الصوم ولا نقضي الصلاة، والصوم جاء بأمر جديد من النبي ﷺ، وهو الذي أمرهم بذلك، ولذلك قالت عائشة: (كنا نؤمر) وهذا أمر جديد، أي: أمرنا مجددًا بقضاء الصيام، ولم نؤمر مجددًا بقضاء الصلاة.
ولذلك قعد علماء الفقه قاعدة فقهية تقول: دليل الأداء ليس دليلًا للقضاء.
والدليل على ذلك أيضًا: قول النبي ﷺ: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها)، فالنوم والنسيان عذر، ولذلك كل الأحاديث: (إلا من عذر) لكن المفرط ليس له دليل، فجاءنا الدليل على النائم والناسي، ولم يأتنا الدليل على المتعمد، فالمتعمد لا قضاء عليه، لكن ينصح بكثرة النوافل؛ لقول النبي ﷺ كما في سنن أبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: (أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة؛ فإن كانت ناقصة قال الله للملائكة: يا ملائكتي! انظروا إلى عبدي أله من النوافل؟! فإن كانت أتم بها صلاته) فالذي يترك فرضًا عمدًا يكثر من النوافل.
وهذا الحكم ينطبق أيضًا على السنن الرواتب، فلو أن رجلًا ليس عنده شيء، وكان جالسًا يمزح مع أخيه أو يتسامر معه، ولم يصل سنة الظهر حتى أقام الإمام صلاة الظهر، فهذا ليس عليه قضاء، ولا يقضي سنة الظهر، لأنه ليس لديه دليل على أنه يقضي هذه السنة.
1 / 16
تيسير أصول الفقه للمبتدئين - الأمر
الأمر من مهمات الأصول التي لابد للأصولي أن يدرسها، وللأمر صيغ كثيرة مبسوطة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وفي كلام العرب، والأصل في الأمر عدم التكرار، إلا أن تأتي قرينة تدل على التكرار، والأمر الدال على الوجوب يفيد الفورية على القول الراجح، والأصل في الأمر الوجوب، لكن هناك قرائن تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب أو الإباحة أو التهديد أو الإرشاد أو التعجيز أو الإهانة والتهكم أو الإكرام، وقد اختلف العلماء في الأمر الذي يأتي بعد الحظر، واقتران الأمر بالواجبات لا يدل على الوجوب على القول الراجح.
2 / 1
تعريف الأمر لغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الأمر لغة: يجمع على أوامر، ويأتي على معان في اللغة، فيأتي بمعنى: الشأن، وبمعنى: القضاء، وبمعنى: طلب الشيء، يقال: أمره كذا، أي: شأنه كذا، وحاله كذا.
وفي الاصطلاح: هو طلب الفاعل -أي: الله جل وعلا- من العبد أن يفعل ما أمر به على وجه اللزوم، أي: إلزامًا ليس مخيرًا أن يفعل أو لا يفعل، فالتخيير كقول الله تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة:١٨٤]، أي: إما أن تفدي وإما أن تصوم، فهذا تخيير، وأما بالنسبة للأمر مكفولة: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:١٨٥] فهذا على اللزوم لا على التخيير.
2 / 2
أنواع الأمر
الأمر على ثلاثة أنواع: الأمر من الأعلى للأدنى، والأمر من الأدنى للأعلى، والأمر من المقارن، أي: الذي يعتبر قرينًا.
فالأمر من الأعلى للأدنى هو أمر من الرب للعبد، وهذا على وجه اللزوم، ويجب فعله دون توان كما سنبين، والأمر من الأدنى للأعلى معناه: الدعاء، فتقول: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم فإنك أنت الأعز والأكرم، فقولك: (اغفر) أمر يراد به الرجاء والدعاء والتذلل والاستكانة، ومثله قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء:١١٢]، فهذا أيضًا دعاء، أما من القرين الذي هو أصلًا في نفس الطبقة فمعناه: التماس، وسواء قلنا: إنه رجاء نتنزل به، فهو التماس واستسماح.
2 / 3
صيغ الأمر
للأمر صيغ كثيرة، منها: أولًا: فعل الأمر، وهو أصل صيغ الأمر، تقول: قم واتل ما عليك، وأقول لك: كل ما أمامك، كما قال النبي ﷺ في الصحيح: (كل بيمينك وكل مما يليك) فهذا أمر، أيضًا قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود:١١٤]، (أقم الصلاة: فعل أمر، أي: يجب عليك إقامة الصلاة، وقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة:٤٣]، وقول الله جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ﴾ [المزمل:١ - ٢] فعل أمر، ثم يقولون: إنه كان واجب على النبي ﷺ قيام الليل، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:٢ - ٤].
ومن صيغ الأمر أيضًا: اسم فعل الأمر، كقول الله تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة:١٠٥] أي: الزموا أنفسكم، فلن تضروا طالما أنتم اعتنيتم بأنفسكم، فهذا عند ربكم، ولا حساب عليكم من ضل إذا اهتديتم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذه الآية لها فقه، فقد يظن قارئها أن فيها تقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والغرض المقصود: أن (عليكم) اسم فعل، أمر يدل على الوجوب.
أيضًا قول المؤذن: حي على الصلاة حي على الفلاح، اسم فعل أمر، وقول النبي ﷺ لما كان في غزوة أحد واجتمع له عشرة من أصحابة من الأنصار، وكان معه طلحة بن عبيد الله، فقال النبي ﷺ: (من يدفع عنا هؤلاء وهو معي في الجنة، فيقوم طلحة فيقول: اقعد أو اجلس، فيقوم الأنصاري فيقاتل فيقتل، ويقوم الآخر فيقاتل فيقتل، فقال: ما أنصفنا إخواننا)، على التأويلين: التأويل الأول: (ما أنصفنا إخواننا)، أي: أهل مكة هم إخوان لنا، ما أنصفونا ونحن ندعوهم إلى الإسلام.
التأويل الثاني: (ما أنصفنا إخواننا)، أي: الأنصار، ما استطاعوا رد هؤلاء، فقام طلحة يقاتل وينافح عن رسول الله، حتى إن السيف انكسر في يده، فصد السيوف بيده عن رسول الله ﷺ، ثم طرح أرضًا وشلت يده، فما كان من أبي بكر وعمر إلا أن أسرعا إلى النبي ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعل، (فدونكم) أيضًا من نفس هذه الصيغ.
ومن صيغ الأمر أيضًا: الفعل المضارع المقترن بلام الأمر، قال تعالى: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج:٢٩]، وقال الله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [الفتح:٩]، (فاللام) هنا لام الأمر، أي: آمنوا بالله ورسوله، واطوفوا بالبيت العتيق، وأوفوا بنذوركم.
ومن صيغ الأمر أيضًا: المصدر النائب عن فعل الأمر، كقول الله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد:٤].
(فضرب): مصدر نائب عن فعل أمر، أي: اضربوا الرقاب، وقوله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ [محمد:٤]، فهذه أيضًا من صيغ الأمر التي تدل على الوجوب كما سنبين.
أيضًا هناك ألفاظ وصيغ تدل على الأمر منها: كتب، وفرض، أو الجمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة:٢٧٨]، وكقول ابن عمر في الحديث: (فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر من رمضان كذا وكذا وكذا)، ففرض أيضًا من صيغ الأمر، وكتب من صيغ الأمر، كقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة:١٨٣]، وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء:٥٨] فهذه جمل، وأيضًا قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة:٢١٦].
أيضًا: إذا كانت الجملة لابتداء وخبر فهي تدل على الوجوب، وإن كانت ليست كثيرة، كقول الله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ [المائدة:٨٩]، أي: كفروا عن أيمانكم بإطعام عشرة مساكين، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة﴾ [النساء:٩٢]، مصدر نائب عنها، وأيضًا قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران:٩٧].
2 / 4