وقيل: قدم المدينة فى ربيع الأول، وصلى إلى بيت المقدس تمام السنة، وصلى من سنة اثنتين سبعة عشر أو ستة عشر شهرا، ثم حولت الكعبة فى جمادى، وقيل يوم الثلاثاء نصف شعبان، وقيل، نصف رجب يوم الاثنين، وقيل فى صلاة العصر، وذلك قبل بدر بشهرين.
وقيل: من رجل ببنى سلمة فناداهم وهم ركوع فى صلاة الفجر نحو بيت المقدس، إلا أن القبلة قد حولت للكعبة فمالوا كلهم ركوعا إليها، وروى ذلك فى قباء فى صلاة الفجر نحو بيت المقدس، وأنه قال المار: ألا إن القبلة قد حولت الليلة، وقال السيوطى: حديث بنى سلمة تحريف، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن إماما فى تلك الصلاة، ولا هو الذى تحول فى الصلاة، فإن أبا سعيد بن المعلى روى
" أنه صلى الله عليه وسلم قرأ، قد نرى تقلب وجهك فى السماء... الآية، فنزل، فصلى الظهر أربعا، قلت: لعله نزل فى صلاة الفجر، وتحول، وأعاد قراءتها عند الظهر "
، فإن أبا سعيد لم يقل نزلت فى الظهر، بل قال، قرأت على المنبر، قال، فقلت لصاحبى، تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أو من صلى إليها، فصليناهما، فنزل صلى الله عليه وسلم، فصلى الظهر إليها { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } وهو الحرم ومن كان فيه، فشطره المسجد ومن عاينه، وكلف الجزم بمقابلته، ويكلف بمقابلة الكعبة جزما من عاينها.
وعن مالك، الكعبة قبلة لأهل المسجد، وهو لأهل مكة، وهى لأهل الحرم، وهو لأهل الدنيا، قلت ذلك، مقاربة، ولا يحل لأحد قصد غيرها فقط، بل يقصدها، وإنما يقصد الجهة لأجلها، وعمم الأمكنة لتعم بيت المقدس وغير المدينة، وما حضر فيه اليهود وما لم يحضروا فيه، فلا يتوهم خصوص المدينة، إذ نزلت فيها، ولا غير محضر اليهود إذ كان يصلى لبيت المقدس حين هاجر، استجلابا لهم، أمره الله سبحانه بالتولية خصوصا، تعظيما له، ولأنه الداعى لله بالتحويل، فخاطبه، بأنا قد استجبنا لك، وذكر دعاءه فى قوله { قد نرى تقلب وجهك... } الآية، فكأنه قيل: دعوتنا بالتحويل فاستجبنا لك، ثم عمم أمته بالخطاب، تأكيدا، أو حثا على المتابعة، وإلا فخاطبه كاف إلا إذا تبينت الخصوصية { وإن الذين أوتوا الكتب } اليهود والنصارى والصابئين { ليعلمون أنه } أى ما ذكر من التولية، أو أن التولى المطاوع للتولية، أو أن التوجيه أو التحويل، أو أن التحول أو التوجه { الحق من ربهم } وقد صح لهم فى التوراة والإنجيل أنه صلى الله عليه وسلم يصلى إلى القبلتين، بيت المقدس والكعبة { وما الله بغفل عما يعملون } وعيد لليهود والنصارى والصابئين على التكذيب وسائر المعاصى، ووعد للمؤمنين على التصديق وسائر الطاعات.
[2.145]
{ ولئن أتيت الذين أوتوا الكتب } التوراة والإنجيل { بكل ءاية } دليل منقول عن الله، أو حجة عقلية، تنبنى على دين الله، أو مجرد حجة عقلية على صدقك، فى أن الله هو الذى أمرك بالتحويل إلى استقبال الكعبة { ما تبعوا } كلهم، ولو يتبع بعضهم { قبلتك } الكعبة، لأن عنادهم لك فى أمر القبلة وغيره ليس لشبهة، فيتركوه لآية تزيلها، بل عناد وحسد { ومآ أنت بتابع قبلتهم } إخبار منه تعالى، بأنه لا يصدر منه متابعة قبلتهم، وهو مدح وتبشير، وقيل: إخبار بمعنى النهى، أى لا تتبع قبلتهم، أى دم على عدم ابتاعها، صخرة بيت المقدس لليهود، ومطلع الشمس للنصارى، لأن الله هو الذى أمرك بالتحول عن قبلة بيت المقدس، وأما مطلع الشمس فلا وجه لاستقباله، إذ ليس فى التوراة، وإنما الواجب على النصار قبل التحويل إلى الكعبة استقبال بيت المقدس لوجوب اتباع التوراة عليهم إلا ما نسخ الإنجيل منها، وإنما اتخذوه من اتخاذ مريم مكانا شرقيا، أو من بوليس اليهودى إذ غرهم، وقال: إن الشمس كل يوم تبلغ سلام عيسى إلى الله، وقد أمر عيسى بأن تستقبلوه فى الصلاة، وقد صح أن عيسى يستقبل بيت المقدس، ولذلك أفرد قبلتهم، لأن القبلة بيت المقدس لا المشرق وبه خوطبوا كاليهود، وهذا أنسب بما فى نفس الأمر، وزعم أشياخ النصارى أن المسيح فوض إليه الدين، فما أوجبوه أو حرموه أو أباحوه فهو كذلك، فجعلوا الصلاة للمشرق، لأن فيه أسرارا ليست فى غيره عندهم، ولذا كان مولده شرقا، أو أفردها مع أنها اثنتان، بيت المقدس ومطلع الشمس لا تحادهما فى البطلان بعد التحويل للكعبة، فأنهما إذ بطلتا قبلة واحدة، فقبلة حق، وهى الكعبة ، وقبلة باطل، وهى ماعداها، وهو أنسب لقوله { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } وكذا إن قلنا، أفردها لمشاكلة الأفراد فى قوله { ما تبعوا قبلتك } أو معنى { ما أنت بتابع قبلتهم } أن قبلتك لا تنسخ إلى قبلتهم، كما لا تنسخ إلى غيرها، وفيه قطع طمعهم عن أن يستقبل قبلتهم، كما أنه قطع طمعه فى أن يؤمنوا، ويستقبلوا الكعبة، بقوله، ما تبعوا قبلتك، وهذا أولى من أن يقال، المراد النهى، أى لا تتبع قبلتهم، لأن استعمال الجملة الاسمية فى الطلب ضعيف، وما تقدم أولى من أن يقال، المعنى ما ينبغى لك اتباع قبلتهم وما يحق، وقيل: إن الله لم يأمر اليهود باستقبال بيت المقدس فى التوراة، بل كانوا ينصبون التابوت، ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه من خلفه، ولما رفع صلوا إلى موضعه، وأبقاهم الله على ذلك وصحح بعضهم أنها فى التوراة التى غيروها، ونسخت على كل حال، والصابئون يصلون إلى الكعبة، ولعلهم اختاروهخا بعد نزول القرآن بها، وقبلة السامرية طورهم فى الشام، يعظمونه ويحجون إليه، وهى فى بلدة نابلس قبلة باطلة مبتدعة، والبعض الأول لليهود أو للنصارى، والثانى للآخرين، وفى ذلك بعض تسلية، إذ لم يختص عنادهم به، بل هو شأنهم حتى كان بينهم { ولئن اتبعت أهواءهم } ما يحبونه مما خالف الحق كالرجوع إلى قبلتهم، وهذا زيادة فى قطع طمعهم فى أن يتبعهم، وإلا فقد تحقق أنه صلى الله عليه وسلم، وتحقق من الله، أن الرسل لا تفعل ذلك، أو الخطاب للمؤمنين على البدلية لا له صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مع قوله تعالى { وما أنت بتابع قبلتهم } إلا على معنى، لا ينبغى لك ابتاعها، أولا تتبعها، أو الخطاب له صلى الله عليه وسلم على سبيل الفرض تعريضا بغيره، إذ كان يعاقب لو اتبع، فكيف غيره، وتهييجا على الثبات { من بعد ما جاءك من العلم } الوحى، أن القبلة الكعبة أبدا، أو العلم المعلوم { إنك إذا لمن الظالمين } لأنفسهم، ولدين الله، ولغيرهم بالبدعة، أكد الله عز وجل باللام، والقسم المقدر قبلها، وإن الفرضية، وإن اللام فى خبرها، والجملة الاسمية، وتعريف الظالمين، وإذا الجزائية فإنها لكونها جوابا وجزاء تفيد المبالغة وإيثار من الظالمين على أنك ظالم، أو الظالم لإفادة أنك معدود فيهم، وزيد من العلماء أبلغ من زيد عالم، وتسمية الاتباع هو بمعنى أنه لا يعضده دليل، والإجمال والتفصيل فى قوله { ما جاءك من العلم } إذ لو قال، ما جاءك العلم لكفى، وجعل الجائى نفس العلم، ووضع الظاهر موضع المضمر، إذ لم يقل لمنهم، أى اليهود والنصارى، إن أريد العهد.
[2.146]
{ الذين ءاتينهم الكتب } اليهود والنصارى، آتيناهم التوراة والإنجيل، مبتدأ خبره قوله تعالى { يعرفونه } أى محمدا صلى الله عليه وسلم لدلالة الكلام عليه، وعدم اللبس، وأما ذكر الرسول قبل مرتين فبعيد مع الفصل بأجنبى، أو التفات عن الخطاب فى اتبعت، والكافين إلى الغيبة، والأصل يعرفونك، أو يعرفون القرآن أو التحويل لاستحضار القلب لهما فى المقام للنباهة لهما، أو يعرفون العلم المذكور، أى المعلوم الحق ومنه كون الكعبة قبلة { كما يعرفون أبناءهم } هذا أنسب، بكون ا لهاء فى يعرفونه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد يعرفونه بصفاته فى التوراة وغيرها، ومن صفاته فيها أنه يصلى للقبلتين، واستمراره على الكعبة بعد نسخ الصلاة إلى صخرة بيت المقدس معرفة، كما لا يلتبس عليهم أبناؤهم قال عمر لعبد الله بن سلام: قال الله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } ما هذه المعرفة؟ فقال: يا عمر، لقد عرفته حين رأيته كما عرفت ابنى، ومعرفتى به أشد من معرفتى بابنى، فقال عمر: كيف ذلك؟ قال: أشهد أنه رسول الله حقا، وقد نعته الله فى كتابنا، ولا أدرى ما تصنع النساء، ولعل والده ابنى خانت، وفى رواية، لعل اليهودية خانت، وقبل عمر رأسه، وقال، وفقك الله يا عبدالله بن سلام فقد صدقت.
ولا يلزم من قول الله تعالى { كما يعرفون أبناءهم } أنهم لا يعرفونه أشد من معرفتهم بأبنائهم، لأن المراد فى الآية مجرد التنظير، ولم يقل كما يعرفون أنفسهم، مع أن معرفة الإنسان نفسه أشد من معرفته لولده، لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده، وخص البنين بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم ابن، والابن ألصق بالقلب من البنت وأشهر، وألزم لصحبة الأب { وإن فريقا منهم } من أهل الكتاب { ليكتمون الحق } نعته صلى الله عليه وسلم فى التوراة والإنجيل وغيرهما والقرآن { وهم يعلمون } أنك المنعوت، وأنك على الهدى فيما تقول وما تفعل، وأن كتمان الحق معصية، وأن عليه العقاب، وفريق آخر معترفون بالحق. كعبدالله بن سلام ومن معه، وذكر فريق الكتمان تنصيصا على قبح الكتمان مع الكفران.
Bilinmeyen sayfa