{ وإذ أخذنا ميثقكم } أى اذكروا وقت أخذ العهد على آبائكم { لا تسفكون دماءكم } أى لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أمثالكم. وجاءت العبارة بذلك، لأنهم كنفس واحدة، نسبا ودينا، فمن قتل غيره كأنه قتل نفسه، وأيضا هو كمثل قتل نفسه بالقصاص لأنه تعرض لأن يقتص منه، وكذا فيما أشبه هذا { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } لا يخرج بعضكم أنفس بعض، أو من أخرج أخاه كمن أخرج نفسه، لأنهم إخوة دينا ونسبا، أو لا تفعلون ما يوجب سفك دمائكم، وإخوانكم من دياركم، أو لا تهلكون أنفسكم بالمعاصى، كمن قتل نفسه، بحيث لا يلتذ، كميت، إذ كان لا ينال لذات الجنة، ولا تصرفونها عن دياركم فى الجنة { ثم أقررتم } اعتزمتم بأن ذلك الميثاق حق، فقبلتموه، ومن لازم ما يقربه أنه حق أن يقبل، وثم لترتيب الأخبار باتصال، أو فى الرتبة بالتراخى لأن رتبة الإقرار أقوى { وأنتم تشهدون } على أنفسكم، تأكيد لأقررتم فى المعنى، أو أقررتم قبلتم وأنتم تشهدون على القبول، أو أنتم معشر المعاصرين له صلى الله عليه وسمل تشهدون على إقرار أسلافكم لتوسط الأنبياء والرواة إليكم بينكم وبينهم، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد الإجلاء والقتل منهم مع أن أخذ العهد والميثاق كان من أسلافهم.
[2.85]
{ ثم أنتم } يا معاصرى محمد صلى الله عليه وسلم { هؤلاء } أخص هؤلاء، أو يا هؤلاء، أو أنتم المشار إليهم المعهودون، كأنه قيل بماذا فأجيب، بما بعد، وأجاز الكوفيون، أن هؤلاء بمعنى الذين، فتكون صلته هى قوله { تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديرهم } وذلك الإخراج بالاستعانة عليهم، كما قال { تظهرون } تتعاونون { عليهم بالإثم } فعل ما يستحق به الذم، أو نفس هذا الذى يستحق به الندم، أو ما ينفر عنه { والعدوان } الظلم الشديد { وإن يأتوكم } ذلك الفريق الذين تخرجونهم من ديارهم وقت الحرب { أسرى تفدوهم } بالمال أو بغيره، كالرجال العرب فى المدينة وأعمالها. الأوس والخزرج واليهود قريظة والنضير، وبنو قينقاع، وكان بين الأوس والخزرج حروب، فكانت اقريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج، ولم يكن بين اليهود محالفة ولا قتال، وإنما يقاتلون لحفائهم، فإذا أسرت الأوس والخزرج يهوديا فداه النضير وقريظة جميعا. وفى الحرب يقتل القريظى النضيرى والنضيرى القريظى، ويخرب بعضهم دار بعض، ويخرجه منها معاونه لحفائهم، يقال لهم، ما هذا؟ فيقولون، القتل والإخراج لأجل حلفائنا، لانستذلهم، وهو مخالف لما عهد فى التوراة، ولذلك نفاديهم، لأنا أمرنا بالفداء، فأحلوا بعضا وحرموا بعضا، فكأنهم حرموا جميعا، وأما بنو قينقاع فلم يقتلوا ولم يخرجوا أحدا من داره، ولم يظاهروا، وضرب الجزية عليهم لأنهم لم يؤمنوا وبقوا فى ديارهم { وهو } أى الشأن { محرم } خير مقدم { عليكم إخراجهم } مبتدأ، أى الشأن أن إخراجهم من ديارهم محرم عليكم، كما عاتبهم بقوله، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، حرم الله عليهم إخراج إخوانهم وقتلهم فى التوراة، وفيها بعد ذلك، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه بكل ما وجدتم واعتقوه { أفتؤمنون } أتتعدون الحدود فتؤمنون { ببعض الكتب } التوراة، وبعضها هو نداء من وجدوه منهم أسيرا عند الأوس والخزرج { وتكفرون ببعض } ببعض الكتاب، وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة، وهم لم يتركوا القتل، إذ يقتلون بعضهم بعضا فى الحرب، معاونة لحفائهم، ولم يتركوا الإخراج ولا المظاهرة، وفى الآية تنزيل ترك العمل بالكتابة منزلة الكفر، أى الشرك فإنهم آمنوا بالتوراة كلها، لكن نافقوا، ومن لازم لإيمان بالشىء العمل بمقتضاه بذلك ويحتمل أن ذلك فى دينهم شرك، وفيه أن الشرك لا تختلف الشرائع فيه، قيل: أو سمى ذلك شركا مبالغة، أو المراد بالكفر كفر الجارحة وهى الفسق، وقيل عن ابن عباس رضى الله عنهما، عادة قريظة القتل، وعادة النضير الإخراج، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير وقتل قريظة، وأسر نساءهم وأطفالهم، جازى كلا بما كان يفعل { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي } ذل { في الحيوة الدنيا } بقتل سبعمائة من قريظة فى السنة الثالثة عقب الأحزاب، وأسر نسائهم وأطفالهم وضرب الجزية على باقيهم، وضرب الجزية على بنى النضير، ثم إجلائهم إلى الشام، ولا جزية عليهم بعد الإجلاء، لأن الشام فتح بعده صلى الله عليه وسلم، ولو كان قد تصرف فى بعضه بالتمليك { ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب } هو أشد مما لقوا فى الدنيا، وفى القبر، فلا يرد أن المنكر لله، وعبدة الأصنام أشد منهم عذابا، إلا من كان منافقا، بإضمار نوع من الشرك أو بإسرار إلى بعض، فإن عذابه فى الدرك الأسفل.
والمراد التصيير إلى عذاب أشد، لا إلى عذاب كانوا فيه، ولا شك أن عذاب النار أشد من عذاب القبر وعذاب الدنيا، وزاد أيضا بالدوام ولا يتصور أن عذاب النار لله دون عذاب اليهود والنصارى والفاسق، بل أعظم { وما الله بغفل عما تعملون } فهو لعلمه بما عملوا يجازيهم على كل صغيرة وكبيرة، وصغائر المشرك كلها كبائر.
[2.86]
{ أولئك الذين اشتروا الحيوة الدنيا } لذتها ومتاعها { بالآخرة } فباعوا ما لهم فيها من الخير بالدنيا، بأن ضيعوا دينهم لأجل تحصيل الدنيا { فلا يخفف عنهم العذاب } فى الآخرة أو فيها وفى الدنيا { ولا هم ينصرون } يمنعون منه ألبنة، أو لا ينصرون بترك الجزية.
[2.87]
{ ولقد ءاتينا موسى الكتب } المعهود التوراة، أو الجنس، فيشمل الصحف المنزلة عليها قبلها { وقفينا من بعده بالرسل } التشديد للمبالغة، والباء للتعدية، والمفعول محذوف، أى فقرناه، بتخفيف الفاء، بالرسل، أى تبعناه بالرسل أى اتبعناه الرسل، وهذا أولى من جعل التشديد للتعدية إلى آخر، والباء صلة، أى قفيناه الرسل، لأن كثرة مجيئه فى القرآن تبعد هذا، والرسل يوشع وشمويل وشمعون، وداود وسليمان، وشعيا، وأرميا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، واليسع، يرنس وزكريا، ويحيى، وغيرهم، ويقال: عدد الأنبياء بين موسى وعيسى عليهم السلام سبعون ألفا، وقيل أربعة آلاف، وكلهم على شريعة موسى عليه السلام، وبينهما ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وعشرون سنة، ولا حجة لهذه الأعداد، والعلم عند الله، ومعنى اتباع الرسل من بعده الإتيان بعده برسول وبآخر بعده، وباثنين فى زمان وبثلاثة فى آخر، وما أشبه ذلك من انفراد رسول بزمان، ومن تعدده فى زمان، كما مر أنهم قتلوا سبعين نبيا فى يوم واحد، وروى أنه لم يطق موسى أن يحمل التوراة فأعانه الله على حملها بملائكة عدد حروفها، فلم يقدروا، فخففها الله بالنقص فحملها، ويبعد ما قيل: إن المراد بإيتاء التواره إفهامه معانيها له { وءاتينا عيسى ابن مريم } لفظ عيسى سريانى أو عبرانى، قولان، كما هو مراد القاموس بأو على عادته، وليس ترديدا، أو هو معرب من إيسوع بهمزة بين بين، أو مكسورة، ومعناه، المبارك أو السيد، وقيل أليشون بالشين المعجمة، أبدلت سينا، ومريم بالسريانة الخادم، سميت لأنها أريد بجنين هوهى أن يكون خادما لبيت المقدس لو كان ذكرا، أو معنى مريم العابدة، والعبادة خدمة لله عز وجل، وفى لغة العرب: مريم المرأة تحب التكلم مع الرجال وخالطتهم، وعليه فمعنى مريم المرأة أو عليه فمعنى مريم المرأة التى تحب ذلك، كقولهم للأسود: كافورا، وقيل تتحدث معهم ولا تفجر، وقيل: من شأن من تخدمها الرجال والنساء أن تتحدث معهم، فسميت بذلك { البينت } المعجزات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالغيوب، وليس المراد الإنجيل كما قيل، لأن اليهود كفروا به، قائما يقمعون بتلك المعجزات، والآية فى قمعهم وذكر عيوبهم، إذ لم يستقيموا مع المعجزات، لا بالإنجيل لأنه ليس معجزا، وخص عيسى مع أنه من الرسل بعد موسى لأنه جاء بالإنجيل ناسخا لبعض التوراة، فلم يكن كن قبله من أتباع موسى { وأيدنه } قويناه { بروح القدس } جبريل، يسير معه حيث سار، مقارنا له من حين ولد إلى أن رفعه الله إلى السماء، ابن ثلاث وثلاثين سنة، وسمى جبريل روحا تشبيها بروح الإنسان مثلا فى أن كلا جسم لطيف نورانى، وأن كلا مادة للحياة، فما يجيء به جبريل من الوحى لحياة القلوب، كالروح لحياة الأبدان، وأضيف للطهر لطهارة عن مخالفة الله عز وجل، قيل خص، أى عيسى، بذلك اللفظ لأنه من ولادته كحاله بعد الرسالة وقيل من بطن أمه، ولا تقل، ذلك من إضافة المنعوت إلى النعت، وأن الأصل الروح المقدسة، أو ذات القدس، من إضافة الشىء إلى حال من أحواله ليخص به، أو ليعرف، أو يمدح، أو لنحو ذلك، أو روح القدس روح من ملك الله، أو روح عيسى أضيفت للقدس لعظم شأنه، أو لأنه منزه عن مس الشيطان، فتنزيهه لروحه، أو أضيفت إليه لكرامته على الله، أو لأنه لم يكن فى رحم حيض، وقيل حاضت حيضتين، وحملته ذات عشر سنين، أو ثلاثة عشرة أو روح القدس الإنجيل، كما قال الله فى شأن القرآن
أوحينا إليك روحا من أمرنا
[الشورى: 52] أو اسم الله الأعظم، كما أن القدوس اسمه، وقيل: القدس اسمه. والاسم الأعظم غيره، وقيل: إنه اسمه الأعظم الذى كان يحيى به الموتى، وقيل لأنه قصده سبعون ألف يهودى لقتله، فطيره الله عنهم { أفكلما جاءكم رسول } أفعلتم ما فعلتم، أو أكفرتم ، فكلما جاءكم رسول { بما لا تهوى } تحب { أنفسكم } من الحق { استكبرتم } أى تكبرتم كل وقت مجىء رسول بما لا يوافق هواكم عن اتباعه { ففريقا } منهم { كذبتم } كعيسى، وقدم التكذيب لأنه عام منهم لمن لم يقتلوه ولمن قتلوه، ولأنه سبب للقتل { وفريقا } منهم { تقتلون } تحقيقا كيحيى وزكريا، وفى قتل زكريا خلاف، أو حكما كما قصدوا قتل عيسى فخابوا، والمراد قتلتم، ولكن المضارع تنزيل لما مضى من القتل منزلة الحاضر المشاهد، أو الموجودين الآن منزلة من مضى وحضر، لأن مشاهدة الشىء أقوى، وخوطبوا بالقتل والتكذيب لرضاهم عن آبائهم الفاعلين لذلك، ولأنهم يحاولون قتل النبى صلى الله عليه وسلم بإلقاء الصخرة، وبسم الشاة، قال صلى الله عليه وسلم:
Bilinmeyen sayfa