" لو اجتمعتما فى مشورة لم أخالفكما "
، رواه أحمد عن عبد الرحمن بن غنيم، وأخرج الطبرى عن قتادة؛ أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه فى الأمور، وهو يأتيه الوحى من السماء لأنه أطيب لنفوس القوم، وليكون سنة بعده، ولا يشاورهم فيا أوحى إليه إلا على بيان طريق إنفاذه، وروى ابن عدى والبهقى أنه قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية،
" أما إن الله ورسوله لغنيان عن الشورى، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتى "
، وفى البخارى قرأ ابن عباس، وشاورهم فى بعض الأمر، وليست الآية أن يشاورهم مطلقا أو كلهم، بل من يتأهل لها بالتدبير، روى الحاكم والبيهقى عن ابن عباس أنها نزلت فى أبى بكر وعمر، أى ويحكم لمثلهما بحكمها، وأل فى الأمر للحقيقة لا للاستغراق ولا للعهد { فإذا عزمت } ثبت على العزم، بأن كان الأمر دينيا لا يحتاج إلى تفكر يؤدى إلى إمضائه، أو جزم الله طريقه، أو دنيويا وعينه أو غير ذلك، وقد عزمت فيه بعد الشورى على رأيك أو رأيهم { فتوكل على الله } اعتقد أن النافع الضار هو الله، ولا تأثير لغيره من أحد أو رأى، والتوكل لا ينافى الكسب والمشاورة، فإن الإنسان يراعى الأسباب ولا يعول عليها، بل قضاء الله عز وجل، وليس التوكل إهمال النفس عن الأسباب فيما يحتاج إلى الأسباب، وذلك نص الآية، إذ جمعت بين المشاورة وهى استخراج الرأى كاستخراج العسل، وبين التوكل، وأقوى التوكل ألا تطلب لنفسك ناصرا غير الله، ولا لرزقك خازنا غيره، ولا لعملك مشاهدا غيره، وإذا لم يحتد أمر إلى كسب فالتوكل فيه مجرد عن الكسب، أو كان مما لا يضر فيه ترك الكسب جاز ترك الكسب فيه { إن الله يحب } منصر وينفع ويهدى { المتوكلين } عليه جل وعلا.
[3.160-161]
{ إن ينصركم الله } على عدوكم، كما ببدر وأول حرب أحد { فلا غالب لكم وإن يخذلكم } كما فى آخر أحد { فمن ذا الذى ينصركم من بعده } من بعد الله، أو من بعد الخذلان، وهذا تحريض على الطاعة المقتضية للنصر وتحذير من العصية المقتضية للخذلان، والاستفهام لنفى الناصر، وهو بصورة الاستفهام، إذ كان بصورة الحجة أبلغ من النفى الصريح { وعلى الله } لا على غيره يتوكل العاقل، إذ لا ناصر سواه، وعطف على هذا المقدر بالفاء فى قوله { فليتوكل المؤمنون } عليه، وعموما، أو المراد بالمؤمنين هؤلاء، ويدخل غيرهم، أو الفاء صلة، وعلى يتعلق بما بعد الفاء، ولما حث على الجهاد أتبعه بذكر ما يتعلق به، وهو الغلول الذى هو أخذ الشىء من الغنيمة خيانة، فقال: { وما كان لنبى أن يغل } أى لا يليق لنبى أن ينسبه أحد إلى الغلول، فمن نسبه إليه فقد جفاه وعصى الله، وحاصل ذلك نهى عن نسبته إليه، ومن معانى أفعل وجود شىء على وصف كذا، كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، أو أبخلته بمعنى وجدته بخيلا، أى لا يليق لنبى أن يوجد غالا، وهو لا يوجد غالا، إلا إن غل وهو لا يغل، فلا يوصف بوجوده غالا، فمن وصفه به فقد جفا، وعصى، فذلك براءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول بعض المنافقين فى قطيفة حمراء فقدت من الغنيمة فى بدر، لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ومن قول أهل المركز يوم أحد حين تركوا المركز نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيا فهو له، فلا يكون لنا شىء، فسمى الله عدم القسم لأهل المركز غلولا، فنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، لأنهم كالضاربين بالسيوف فى غير الركز، وهم فى قتال واحد، ورامون أيضا، وروى أنهم لماتركوا المركز قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ظننتم أن أنفل فلا أقسم، فنزلت الآية، وقيل: بعث طلائع جيش لينظروا أين العدو وما حاله، فغنموا بعد ذهاب الطلائع، فقسمها على من معه ولم يعط الطلائع، فنزلت الآية نهيا عن مثل ذلك، لأن الطلائع فى حكم الحاضرين، لأنهم فى شأن الجهاد، وسمى الله هذا القسم غلولا تغلظا، وهذه التسمية تغليظ بنى عليه تغليظ آخر، وهو، ما كان لنبى أن يغل، وقيل المعنى، ما كان لنبى أن يغله أحد، أى يسرق من غنيمته، ومثله فى ذلك غيره، سمى الأخذ من الغنيمة غلولا، لأنه يؤخذ منها خفية، وأصل الغلول الأخذ خفية، ولأن السرقة من شأنها أن يربط يد صاحبها بالغل وهو الجامعة من الحديد، ولأنه فى الخفاء، كغلل الماء فى خلال الشجر { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } بعينه وبإثمه، ففى البخارى ومسلم عن أبى هريرة قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال:
" لا ألقين، وروى لا ألفين بالفاء، وكذا فيما بعده، أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله، أغثنى، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، أى صوت طلب العلف دون الصهيل، فيقول: يا رسول الله أغثنى، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، أى صوت شاة، فيقول: يا رسول الله، أغثني ، فأقول له: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثنى، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع أى ثياب تخفق فيقول: يا رسول الله، أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألقين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت، أى ذهب وفضة، فيقول: يا رسول الله، أغثنى فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ويروى بعد البعير، أو بعد الفرس، مثل ذلك فى البقرة لها خوار، وأعم من ذلك، رواية من بعثناه على عمل فعل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه، فالإتيان بذلك على ظاهره، ويقرب إليه ما روى ابن مردوية والبيهقى عن بريدة، أنه يربط ما غل بحجر يزن سبع خلفات، ويلقى فى النار، ويكلف الغال أن يأتى به من النار، وقد هوى فيها سبعين خريفا، وقيل المراد فى الآية الإتيان بإثمه، وقيل يصور عمله فى الغلول بصورة جسم، والظاهر الأول، فقيل لأبى هريرة، كيف يأتى بمائتى بعير أو مائة بعير؟ فقال: يقدر، لأن ضرسه كأحد وفخذه كورقان، وساقه كبيضاء، ومجلسه ما بين الربدة والمدينة، وعنه صلى الله عليه وسلم: هدايا الولاة غلول { ثم توفى كل نفس ما كسبت } أى جزاء ما كسبت من خير أو شر، وغلول وغيره، أو سمى الجزاء باسم سببه، او باسم ملزومه، فهذا لعمومه كالبرهان لخصوص الغلول وتأكيد لشأنه، إذ كان الجزاء على أقل شىء، فكيف الغلول، وقيل المراد الغلول، وإن مابين بعثه ما غل وإدخاله النار مدة طويلة، ثم للتراخى فى الزمان ويجوز أن تكون للتراخى فى الرتبة، بمعنى أنه يبعث مفتضحا بما غل، تعذيبا له به بافتضاحه وعذابه فى النار أشد عليه من ذلك { وهم لا يظلمون } بنقص ثواب أو زيادة عقاب ".
[3.162]
{ أفمن اتبع رضوان الله } بطاعته وطاعة رسوله، وترك الغلول والفرار والكفر، وثبتت له الجنة، أو اتبع موجب رضوان الله، أى فأمن اتبع، أو اجعل الله له تمييزا بين الضال والمهتدى، فمن اتبع، والاستفهام للنفى، ومن موصولة أو موصوفة { كمن بآء بسخط } عقاب على معاصيه وغلوله وفراره وكفره { من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } هى والجملتان من الصلة، لا مستأنفتان عنها، والمصير اسم مكان ميمى، ولا داعى إلى جعله مصدرا ميميا، بمعنى بئس المصير صيرهم إلى جهنم، والأصل فى صار أن يكون فى غير ما كان فيه قبل، وفى رجع أن يكون فيما كان فيه قبل، وقد يتعاكسان، وقد يلاحظ فى الرجوع إلى الله معنى ما كانوا عليه قبل من كونهم لا خيار لهم ولا ملك.
[3.163]
Bilinmeyen sayfa