التوضيح لشرح الجامع الصحيح
تصنيف
سراج الدين أبي حفص عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي
المعروف بابن المُلقّن (٧٢٣ - ٨٠٤ هـ)
تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث
بإشراف: خالد الرباط - جمعة فتحي
تقديم: فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم
أستاذ الحديث بجامعة الأزهر
إصدارات
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
إدارة الشؤون الإسلامية - دولة قطر
1 / 1
فريق العمل في تحقيق وإخراج كتاب التوضيح
في دار الفلاح - الفَيُّوم
بإشراف: خالد محمود الرباط
جمعه فتحى عبد الحليم
التحقيق والمقابلة والتعليق
وائل إمام عبد الفتاح
أحمد فوزي إبراهيم
حسام كمال توفيق
خالد مصطفى توفيق
عصام حمدي محمد
عبد الله أحمد فؤاد
ربيع محمد عوض الله
أحمد روبي عبد العظيم
أحمد عويس جنيد
هاني رمضان هاشم
محمد زكريا يوسف - سامح محمد عيد - سعيد عزت عيد
عادل أحمد محمود - طه مصطفى أمين - عماد مصطفى أمين
محمد عبد الفتاح علي - محمد أحمد عبد التواب - مصطفى عبد الحميد الإصلابي
1 / 5
تقدير وعرفان
إلي سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر
السيد فيصل بن عبد الله بن زايد آل محمود
وفضيلة الشيخ الدكتور
أحمد معبد عبد الكريم
أستاذ الحديث بجامعة الأزهر
على توجيهاته النافعة وما أولاه من اهتمام لهذا الكتاب
دار الفلاح
1 / 7
إهداء
* إلى روح والدي
الشيخ محمود علي الرباط
﵀
* وإلى فضيله الشيخ
عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم
حفظه الله
سائلا المولى أن يجزيهما عنا خير الجزاء
خالد محمود الرباط
1 / 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
سعادة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ﷾ ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونصلى ونسلم على صفوته من خلقه وخاتم رسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد:
فإن الأمم الواعيه هى التي تعرف قيمه تراث أسلافها وتدرك أن حاضرها لا يمكن أن ينهض إلا على أساس من مخزون ثقافتها وفكر أئمتها.
ومن أجل هذا تعمل وزاره الأوقاف والشؤون الإسلاميه جهدها على المشاركه في إحياء هذا التراث وتقديمه إلى العلماء وإتاحته للباحثين.
والحمد لله على توفيقه فقد وقع ما قدمته الوزاره من ذخائر وما أخرجته من أمهات المراجع والمصادر، وقع موقع الرضا والإكبار من أهل الشأن والإختصاص وذوى الرأى من كبار العلماء والمفتين. وهذا من فضل الله علينا وحسن توفيقه.
واليوم نقدم هذا الكتاب الجليل الكبير:
(التوضيح لشرح الجامع الصحيح) لسراج الدين بن الملقن.
وهو كتاب كبير بحجمه الذي بلغ ستهً وثلاثين مجلدًا وكبير بمؤلفه ومنزلته ومكانته وإمامته في فنه وكبير بموضوعه فهو شرح لصحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله.
ونحن تقدم هذا الكتاب نسأل الله سبحانه أن ينال من الرضا والقبول ما نالته أعمالنا السابقه وإليه -جلّ وعلا - نضرع أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم وأن يديم توفيقنا وأن يهبنا من حوله وقوته فإنه لا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
فيصل بن عبد الله آل محمود
وزير الأوقاف والشؤون الإسلاميه
رئيس مجلس إداره الهيئه القطريه للأوقاف
دوله قطر
1 / 11
لجنة إحياء التراث الإسلامي
إدارة الشؤون الإسلامية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كلمة لجنة إحياء التراث الإسلامي
الحمد لله وكفى وسلام على رسوله الذي اصطفى وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان
إلى يوم الدين
أما بعد:
فإن كتاب (التوضيح شرح الجامع الصحيح) لابن الملقن (ت ٨٠٤ هـ) جاء حافلًا بالفوائد والفرائد وبخاصة في النصف الأول منه.
والكتاب يطبع لأول مرة حيث تولي الوزارة اهتمامًا كبيرًا بالمخطوطات وتحقيقها سعيًا لاستكمال المكتبة الإسلامية ولا تخفى أهمية شروح الحديث النبوي الشريف في توضيح المعاني واستنباط الأحكام وإزالة للإشكال ورفع اللَّبس وقد قام خبراء الوزارة بفحص الكتاب والثناء على عمل المحققين وتوجيه النصح حيثما لزم.
وقد أشرف على تحقيقة الدكتور أحمد معبد عبد الكريم أستاذ الحديث بالأزهر فأجاد وأفاد فله الشكر منّا والأجر من الله تعالى.
وكلنا أمل أن يحظى الكتاب بما يستحق من عناية العلماء والباحثين وطلبة العلم وأن يرفدوا الوزارة بآرائهم واقتراحاتهم للمضيّ قُدمًا في مشروع إحياء التراث الإسلامي والله من وراء المقصد.
لجنة إحياء التراث الإسلامي
1 / 13
تقديم
بقلم أ. د/ أحمد معبد عبد الكريم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من يستعرض الشروح لكتب الحديث المسندة في مظانها من كتب التراجم، أو مصادر بيان المؤلفات الحديثية ومصادر فهرسة المخطوطات والمطبوعات فسيجد أن شروح صحيح البخاري تعد أكثر من شروح أي كتابٍ آخر من كتب الحديث المسندة، وقد قام أحد الباحثين المعاصرين وهو الشيخ محمد عصام عرار الحسيني بجمع ما تيسر له من الشروح والتعليقات على صحيح البخاري فبلغ ما ذكره (٣٧٥) مؤلفا، وذلك في كتاب له بعنوان "إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري" (طبع للمرة الأولى سنة ١٤٠٧ هـ ط دار اليمامة للطبع والنشر- لبنان- بيروت).
ومن يستعرض ما طُبع من هذِه الشروح والتعليقات فسيجد عددا غير
1 / 15
قليل، لكن سيجد أن ما طُبعَ محققا تحقيقا علميا موثقا يُعد نادِرًا، ولهذا فإنه عندما عرض عليَّ الأخ الأستاذ خالد الرباط نماذج من تحقيقه هو وزملائه لهذا الشرح، أرشدته إلى بعض الأمور التي ينبغي أن يُعتنى بها، ثم أتموا تحقيقه والتعليق عليه، فسررتُ بذلك؛ لأنه يُعد إضافة جديدة تدعم هذا العدد النادر من شروح هذا الجامع الصحيح المطبوعة بعد تحقيقها تحقيقًا علميا موثقًا. وأعني بالتحقيق العلمي الموثق باختصار: أنه الذي يعتمد فيه على أكبر قدر ممكن من النسخ الخطية الموثقة للكتاب، مع الإعتناء بتوثيق نصوصه بالعزو إلى المصادر الأصلية لتلك النصوص أو المصادر الوسيطة عند افتقاد الأصلية، ثم التعليق المفيد على ما يحتاج إلى توضيح أو تصويب.
كما يُعتنى فيه بالفهارس المتعددة التي ترشد القارئ إلى أكبر قدر ممكن من محتويات الكتاب.
وقد طلب مني الأخ خالد الرباط كتابة تقديم لهذا الشرح، مع ما يعرفه من ضيق وقتي وشواغلي، مما جعله يصبر عليَّ فترة ليست قصيرة، فيسَّر الله تعالى لي بعض الوقت لكتابة هذِه السطور المتواضعة، بعد أن نظرتُ في عدد من أجزاء الكتاب، واطلعتُ على عملهم فيه.
وقد كنتُ أعلم أن الكتاب وُزِّعَ تحقيقه على عدد من الرسائل الجامعية بقسم الكتاب والسُّنَّة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ونُشرت فعلا إحدى الرسائل في مجلد عام ١٤١٨ هـ، دراسة وتحقيق أحمد حاج محمد عثمان، طبع المكتبة المكية ومؤسسة الريان- بيروت- لبنان.
أما بقية الرسائل فلم تُطبع حتى الآن حسب علمي، والاطلاع عليها
1 / 16
محدود، وغير متيسر إلا بمكةَ، وفي مكتبة الدراسات العليا، كما هو معلوم.
وعندما راجعت القسم المطبوع المشار إليه، وقارنتُ بينه وبين الأجزاء التي قدمها لي الأخ خالد، لاحظتُ أنَّ العمل لا يقل عنه تحقيقا وتوثيقًا، وبالجملة فإنَّ عملَهم لا يقل عن مستوى الرسائل الجامعية، وأحب أن أشير أنني وجدتُ أن أحد النسخ الخطية للكتاب وهي نسخة حلب التي نُقلت حاليا إلى مكتبة الأسد بدمشق، لم يعتمد عليها الأخ أحمد حاج في القسم الذي حققه، كما صرَّح بذلك في مقدمة بحثه، في حين ذكر لي الأخ خالد الرباط أنه رغم صعوبة هذِه النسخة فإنهم اعتبروها الأصل لما لها من مميزات عن غيرها، واعتنوا بها في المواضع المشتركة مع باقي النسخ، لكنني مع ذلك أشرتُ عليه ببعض جوانب يسيرة في الأجزاء التي اطلعتُ عليها سواءً في تحرير النص، أو توثيقه بالتخريج.
أما بالنسبة للكتاب، فسبحان الله؛ فإن ما عده الحافظ ابن حجر مغمزًا في هذا الشرح في وقته، أصبحنا الآن في وقتنا نراه ميزةً مهمة، فقد ذكر ابن حجر ﵀ أن شيخه المؤلف اعتمد في هذا الشرح على شيخيه القطب الحلبي ومغلطاي، وزاد فيه قليلًا، وقال أيضًا: إنه جمع النصف الأول من عدة شروح، وأما النصف الثاني، فلم يتجاوز النقل من شرحي ابن بطال وابن التين، والمعنيون بفهارس المخطوطات في العالم حتى اليوم يعلمون أن شرحي قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي ومغلطاي بن قليج، لصحيح البخاري لا يوجد منهما في تلك الفهارس إلا بعض القطع اليسيرة، أما شرح ابن التين فلا يُعرف وجود شيء من نسخه كليةً.
وبالتالي يصبح ما حفظه الإمام ابن الملقن من نقول عن هذِه
1 / 17
الشروح الثلاثة ثروة علمية لا تُقدَّر، ويستحق عليها الثناء والترحم عليه.
ورحم الله الحافظ ابن حجر فقد كان توافر النُّسخ الخطيَّة لهذِه الشروح وغيرها في مكتبات مصر في أيامه، وعدم تصوره لما تعرضت له خزائن تلك المكتبات من التشتت والضياع والإحراق والنهب بعد ذلك، كل ذلك جعله ينتقد صنيع شيخه في كثرة تلك النقول، بل إنه سجل بنفسه في ترجمة شيخه المؤلف أنه كان له مكتبة خاصة ضخمة وأنه احترق جلها في أواخر حياته، فتغير عقله حزنًا عليها.
فلذلك يُعد ما حفظه هذا الشرح من نقول من هذِه الشروح أو من غيرها ميزةً له الآن لا مَغمزًا، بل إن ابن الملقن نفسه عدَّ نقوله هذِه مَفْخرة حرص على تقريرها كما سيأتي.
ومما ذكره من مصادره أو عز إليه أثناء الشرح ويُعد الآن مفقودًا جلُّه أو كله: "تاريخ نيسابور" للحاكم، و"سنن أبي علي بن السكن"، و"المختلف فيهم" لابن شاهين، و"الكنى" للنسائي، و"المراسيل" لابن بدر الموصلي، و"الصحابة" للعسكري، و"الأطراف" لأبي مسعود الدمشقي، و"أمالي ابن السمعاني"، و"الناسخ والمنسوخ" للأثرم، و"المبهمات" لابن بشكوال، وشرح كل من القزاز والمهلب بن أبي صفرة للبخاري، و"تاريخ حران" لأبي الثناء حماد، و"الإكليل" للحاكم، و"السيرة" لأحمد بن أبي عاصم النبيل، و"تفسير سُنيد"، و"تفسير ابن مردويه"، و"تفسير عبد بن حميد"، و"تهذيب الآثار" للطبري، و"صحيح الإسماعيلي"، و"مسند أحمد بن منيع"، وغير ذلك.
وقد أشار ابن الملقن بنفسه في خاتمة كتابه إلى اعتماده على تلك المصادر بما فيها شرح كل من شيخيه القطب الحلبي ومغلطاي،
1 / 18
واعتزازه بذلك حيث يقول:
(واعلم أيها الناظر في هذا الكتاب أنه نخبة عمر المتقدمين والمتأخرين إلى يومنا هذا، فإني نظرت عليه جل كتب هذا الفن من كل نوع، ولنذكر من كل نوع جملة منها، فنقول: ..) وساق قائمة طويلة، حتى قال: (ومن المتأخرين: شيخنا قطب الدين عبد الكريم في ستة عشر سفرا، وبعده علاء الدين مغلطاي في تسعة عشر سفرًا صغارا).
ثم ذكر أنه هذب كثيرًا من هذِه الكتب بزيادات واستدركات. كما سيأتي في نهايه الكتاب.
على أن في مجموع هذا الشرح كغيره ما لا يسلم منه جهد بشر من الخطأ والقصور، والكمال لله وحده.
ونسأل الله تعالى للأخ المحقق وزملائه كل توفيق وسداد، وأن يجعل عملهم هذا فاتحة خير تحفز الهمم منهم ومن غيرهم لمواصلة المسيرة في الإحياء الحقيقي لشروح هذا الجامع الصحيح وغيره من الشروح الحديثية للصحيحين والسنن الأربعة وغيرها مما طال انتظاره لجهود المخلصين وخبرة الباحثين.
والله الموفق.
وكتب
أ. د/ أحمد معبد عبد الكريم
أستاذ الحديث بجامعه الأزهر
1 / 19
مقدمه التحقيق
بقلم / خالد الرباط
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
1 / 20
وبعد:
فإن التفكير في إنجاز الأعمال العظيمة يصحبه شعور النفس باستعظامها، أو شعورها باستصغارها، ولكلا الحالين دواعيه وعواقبه، ولكن الشروع في الإنجاز نفسه ثم مواصلته يحتاج إلى حماسة لا تلهبها إلا حرارة الجُرْأة .. الجُرْأة التي تُخرج الآمال من ظلمات العدم إلى نور الوجود.
ولو كان عملنا هذا يدًا سريَّة أو صدقة مَخْفيَّة، لابتدرنا إلى كتمانها، حتى لا تعلم شمالنا ما أنفقتْ يمينُنا، ولكن أبى الله إلا أن يجْعله علانيةً تضيءُ أبصار المنصفين، وتُعْشي أعين الجاحِدين. وإنَّما نُلمح بكلماتٍ قليلة إلى تلك الجهود المبذولة والسنوات المَقْضيَّة التي استغرقها هذا العمل، ولسنا بذلك نعتفي إعجاب المطَّلعين، ولسنا بالعجب مُجاهِرين، ولكنَّا قصدنا من هذِه اللمحة إلى أمرين:
أولهما: بيان الإمكانات البحثية التي تمتاز بها مؤسستنا مع ما اعتراها من صعوبات وضغوط تفوق الطاقة، وقد بدأنا بهذا الكتاب منذ ستة أعوام، لم يَقْطعها- نادِرًا- إلا الإنشغال بأعمال أخرى نضطر إليها لتسيير أمور العمل، ثم ما يلبث العمل أن يستمر في طريقه متحديًّا الظروف التي ربما عوَّقت كبريات المؤسسات عن إتمام عملها، كما نرى ونسمع ذلك كثيرًا.
ورغم هذِه المثابرة الطويلة، ثم هذا النجاح، الذي كلَّل الله به جهودنا؛ فإننا كنَّا نطمحُ أن نزيد بهاءه بهاءً، وجلاله جلالا، فاعترضنا طريقان: أن نُعجِّلَ للباحثين منفَعته، وأن نؤخرها، فاخترنا تعجيل المنفعة على تأخيرها؛ فإن من الصعب حقًّا الوصول بهذِه
1 / 21
الكتب إلى الصدارة التي تُرضي أهل العلم، وعزاؤنا أنه من أفضل الشروح -التي خرجت- تحقيقًا حتى الآن، إن لم يَكُن أفضلها على الإطلاق.
وثانيهما: الإشارة بلمحة وفاء إلى هذِه الثُّلَّة من الباحثين الذين تربَّوا في أكنافِ دار الفلاح، وأُسنِدَ إليهم تحقيق الكتاب، والمتأمل في الأصل الذي عليه الكتاب يعرف حجم ما بذلوه لإخراجه، ليضعوه بين يدي أهل العلم في حُلة رائعة سهلة المنال عذبة المذاق، وقد يبذل الواحد منهم جُهدًا مضنيًا في التحقق من كلمة أو سطر ثم لا يظهر هذا الجهد في حاشية أو تعليق، ولا أدعي أنهم كلهم على درجة عالية من الكفاءة والعلم، بل هم متفاوتون في ذلك، ولكن عندهم من الجد والإخلاص ما يجعلني أستبشر لهم -بعد مزيد من الخبرة والعلم- بإذن الله بمستقبل مشرق في خدمة تراث أمتنا العظيم.
خالد الرباط
ت ٠١٠٦٦١٣٣٦٩/ ٠٠٢
Email: [email protected]
1 / 22
فصل في التحقيق والتراث والمحققين
قد أفردت للذين شاركوا في هذا الكتاب لوحة شرف، وهذا أقل ما يجب نحوهم، حتى وإن اعترى عملهم شيء من التقصير، ولسائل أن يقول: لِمَ هذا الزحام في كتابة أسماء المشاركين في التحقيق، ألا يكفي اثنان أو ثلاثة من المحققين البارزين؟
والحقيقة أني تعمدت ذلك لأسن سُنَّةً حسنة، وإنْ سبقني إليها غيري فأنا أُحييها، فإن المقتدين بها قلة، وأرى أن إظهار الذين قاموا بالعمل أفضل من عمل البعض من التنويه بهم في صفحات مخفية بُغية ألا يطلع عليهم أحد، وأرى أن فعلي هذا هو الذي تقتضيه الديانة والأمانة، والغريب أن غالب أهل الباطل يعزون العمل إلى فاعِلِيه كما في الأفلام والمسلسلات بل وفي الأغاني القصيرة! تجد عشرات؛ بل أحيانا مئات الأسماء لوصف طبيعة عملهم بدقة، أليس حريًّا بأهل العلم أن يكونوا مَثَلا يُحتذى به في الصدقِ والأمانة ونسبة العمل إلى أصحابه؟ ولا ندعو بذلك إلى تقليد الأفلام، ولكن كثيرًا من الأخلاق والمعاملات الإسلامية قد افتقدها المسلمون وأخذ بها طلاب الدنيا ففاقوا بها كثيرًا من المسلمين، ولستُ بحاجة أن أدلل على ذلك.
إن من طبائع النفس البشرية التطلع إلى حب الشهرة والظهور، وهذِه طبيعة تحتاج إلى توجيه وترشيد وتقويم، ولو أُطلق لها العنان ووجدت
1 / 23
لذلك أرضا خصبة لأفسدت في الأرض أيما إفساد، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾ [الشمس: ٧ - ١٠].
ولتعذرني أُخيَّ إن أطلتُ قليلا في هذا الموضوع، وأستعرضُ هنا حُجَج المخالفين، الذين يسوِّلون لأنفسهم الانفرادَ بنسبة أعمالٍ إليهم لم يقوموا بنصفها ولا رُبْعها بل ربما لم يروها إلا بعد الطباعة، ولستُ بذلك أقصد رجلًا بذاته؛ فإنَّ منهم من نَفَعَ الله به ما لم يبلغه نفع المئاتِ من غيره، ولكنِّي لا أستئني في حديثي هذا حتَّى لا يكون الاستثناءُ مَطيّةً، ويُعد كلُّ شخص نفسه داخلا في الاستثناء، ولكن دعونا نتعاون في صياغة قواعد إسلامية لهذا الباب، لا ننحرف عنها إذا اتفقنا عليها، فالخطأ في كلامي وارد.
* أما حجج المؤيدين والفاعلين لهذا السلوك فتتلخص في الآتي:
١ - أنه صاحب الفكرة.
٢ - أنه الممول لهذا العمل العلمي.
٣ - أن الذين عاونوه في العمل قاموا بأعمال ثانوية.
٤ - أن الذين عاونوه في العمل مستواهم العلمي دون المطلوب ولا يليق بأن يضعهم معه.
٥ - أن بعض الجهات الرسمية لن تدعم هذا العمل إذا وجدت عليه أسماء من جنسيات أخرى.
٦ - أنه عمل جماعي هو الذي قام بالإشراف والتوجيه والتمويل وجلب ما يلزم من مخطوطات وكتب وكوادر علمية وفنية (مثل أصحاب المكاتب).
1 / 24
٧ - أن بعض المشايخ الثقات قد أفتى بذلك.
وسوف نستعرض كل حُجة مفصلين لها ومدحضين إياها، نقول وبالله التوفيق:
١ - أنه صاحب الفكرة.
إن أفكار المشروعات العلمية وتحقيق الكتب متكررة وموجودة عند أعداد كبيرة من أهل العلم والباحثين، بل وعند بعضهم خطط هذِه الأعمال وربما نماذج منها، لكن العبرة بالإنجاز.
فإن قيل: إن صاحب الفكرة قام بتمويلها ومتابعتها حتى خرجت للنور؟
قلتُ: وهل تعجز كلمات اللغة العربية عن وصف عمله وعمل الآخرين، حتى يستأثر به لنفسه. ثم مسألة التمويل سيأتي ذكرها.
فإن قيل: إن الفكرة كالاختراع لها حقوق ينبغي احترامها ونسبتها إلى صاحبها؟
قلتُ: الأمر يختلف في الأبحاث والتحقيقات الشرعية، ألا يحدث كثيرًا أن يتقدم باحث بخطة لحصوله على الماجستير أو الدكتوراه لكلية ما، فتُرفض الخطة، فيأخذها غيره ويقدمها لكلية أو جامعة أخرى فتُجاز وينفذها .. لمن يُنسب العمل؟ ألصاحب الخطة الأولى، أم لمنفذها؟ الجواب معروف؛ لأن إشكالات الأعمال العلمية في التنفيذ لا الفكرة، ليس هذا تقليلا من شأن الفكرة؛ ولكن لأن الواقع هو توارد الأفكار في الحقل الإسلامي وتكرارها بصورة كبيرة.
كم شخصٍ وجهةٍ فكَّر وخطط لعمل "موسوعة حديثية"، وكثيرًا ما تكون بمنهج يكاد يكون متطابقًا، فهل يعني ذلك أن صاحب أول
1 / 25
تفكير هو الذي يحتكرها؟ وإذا قام غيره بتنفيذها نكتب اسم صاحب الفكرة الأولى على أنها من عمله. وانظر كذلك إلى فكرة "الموسوعة الفقهية"، خططت لها عشرات الجهات وأقدم على تنفيذها الكثير، وأيضًا موسوعات المصطلحات والأصول .. وغير ذلك كثير.
إن انسحاب براءة الإختراع على أفكار الأعمال العلمية الشرعية لا يتطابق بالضرورة، وإنما الذي يتطابق هو تنفيذ العمل نفسه، ولنضرب مثلا آخر: ماذا لو أعلنت خزانة من خزانات المخطوطات عن عثورها على نسخة من كتاب كبير ونفيس كان مفقودا، ثم أعلن شخص أنه سيبادر إلى إخراجه وتحقيقه، ثم أعلن غيره وغيره .. هل نقول: هذِه فكرة الأول ولا يصح التعدي عليها ومن ينفذها فينبغي أن ينسبها لأول مُعلِن عن الفكرة. وألفت النظر أن هذا يختلف عن التعاون والتنسيق بين المحققين.
٢ - أنه الممول لهذا العمل العلمي:
أقول: إن منفذي الأعمال في أنحاء العالم كله غالبا غير مموليها، ولنضرب مثلا قريبا من هذا الدكتور أحمد زويل الفائز بجائزة نوبل، كرر مرارا تقديره للجهات التي يعمل فيها ودعمت أبحاثه التي فاز بها، ولم يُنفق عليها من جيبه فلسا، أما الحقوق .. فإنها ترجع لاتفاق التمويل، وليس هذا هو محور حديثي، وإنما الحديث حول نسبة العمل لعامليه.
وكثير من الولاة ووجهاء المسلمين والحكومات قد مولوا أعمالا علمية أو صناعية ونُسبت إلى فاعليها، وماذا لو دعمت حكومات أو وزارات أو جهات أو تجار وأفراد لا علاقة لهم بالعلم بعض الأعمال، بل ربما يكون أحدهم أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة،
1 / 26
ولا يمنعه هذا الأجر إن شاء الله، هل نكتب مثلا:
"سؤالات الدارقطني" تحقيق الحاج حسن تاجر الملابس والخردوات، أو مقاول البناء والتشطيبات؟!
أو "معجم الشيوخ" تحقيق شركة الإسمنت ومواد البناء!
أو "الفقه الإسلامي" من تأليف شركة تسويق الخضار والفاكهة!
أو "الأعمال الكاملة" جمعتها مؤسسة النظافة والصيانة!
وليعذرني قارئي الكريم على هذِه الأمثلة، فقد استشرى الداء، ولم يعد بد من مناقشة هذا الأمر. ولو أخذنا بهذِه الحجة فلننسب أعمال البعثات العلمية التي تتحمل تكاليفها الحكومات إلى رئاسة الجمهورية أو الديوان الملكي أو وزير الخزانة!
٣ - أن الذين عاونوه في العمل قاموا بأعمال ثانوية:
أقول: هذِه الأعمال إما أنها قليلة جدًا فلا بأس بالإشارة فقط إلى فاعليها، أما إذا كانت الأعمال الثانوية مثلا: نسخ المخطوط، ومقابلة النسخ، واستخراج المصادر .. إلى آخره، ثم قام سعادته بالنظر إلى العمل الذي استغرق سنوات ثم تَصَفَّحهُ في ساعات وأبدى ملاحظاته وتوجيهاته، فلا بأس أن يكتب اسمه كإشراف أو اعتنا مع ضرورة كتابة العاملين الحقيقيين لهذا العمل.
٤ - أن الذين عاونوه في العمل مستواهم العلمي لا يليق بأن يضعهم معه، وأنه يصلح الكثير من أخطائهم:
إذا كان الوضع كذلك فلا يستعن بهؤلاء أصلًا أو ليَسْتَغْنِ عنهم بعد معرفة حالهم، أو أن عملهم كان قابلا للتعديل، فليكتب أنه قام بالتصحيح والمراجعة والتعديل. نعم في حالات يكون هناك طلبة علم
1 / 27
تحت التدريب ويعطيهم الشيخ بعض الأعمال ليتمرسوا فيها، ثم إنه قد يراجعها ويفيد منها، وهذِه صورة قليلة بعيدة عن محور كلامي.
٥ - أن بعض الجهات الرسمية لن تدعم هذا العمل إذا وجدت عليه أسماء من جنسيات أخرى.
أقول: وهل من الشرع التدليس على الجهات الرسمية؟ وإن لم يكن من الأمر بد فعلى الجهات الرسمية القيام بالسلوك الصحيح، ولو حاول الجميع في إيصال هذا المعنى لهم لوجدنا استجابة، وهل الجهات الرسمية إلا أنا وأنت أو ابن عمي وابن خالي، وجاري. وإلا فلنترك المجال لمستحقيه من الذين يعملون بأيديهم وتنطبق عليهم شروط هذِه الجهات.
٦ - أنه عمل جماعي هو الذي قام بالإشراف والتوجيه والتمويل وجلب ما يلزم من مخطوطات وكتب وكوادر علمية وفنية (مثل أصحاب المكاتب).
أقول: وما المانع أن يُنسب العمل إلى الجماعة، وقد سبق بيانه.
٧ - أن بعض المشايخ الثقات قد أفتى بذلك:
أقول: وماذا لو أفتى غيرهم بخلاف ذلك؟ ألا يحتاج منا ذلك أن نتبين الحكم الشرعي الراجح؟ أليس واردا أنه قد تم التلبيس على هؤلاء المشايخ؟ أليس واردا عدم إحاطتهم- مع احترامي لهم- بالملابسات الحاصلة، أو أخذهم الأمر وكأن أحد تلاميذهم يقابل معه مؤلَفَهُ المنسوخ من دروسه، أو يصوب له التجارب؟ وهذا أبسط حق للشيخ على تلميذه.
ثم ماذا لو كان الأمر مسألة أخرى متعلقة بحق مادي وأفتاه أحدهم
1 / 28