Lotus Etkisi
تأثير اللوتس: رواية عن جزيئات النانو في أبحاث الطب الحيوي
Türler
تحولت نظرته إلى ذاكرة اليو إس بي التي كانت تومض واشية بما تفعل. «أنت مدينة لي بإجابة.» «أنا لست مدينة لك بشيء بتاتا.» ردت عليه فاندا باختصار؛ ثم سألته: «لكن حقا لحساب من تعمل أنت؟» احمرت أذنا يوهانيس، وكأنها إشارات ضوئية حمراء.
قال منفعلا: «سنتحدث لاحقا.» ثم استدار وغادر الغرفة.
بعدما نسخت فاندا بيانات زابينة، قامت بمسح حسابها، وهذه المرة لم تنس ذاكرة اليو إس بي. «ما رأيك في يوهانيس؟» نقرت السؤال على الكمبيوتر بمجرد أن عادت إلى مكتبها. «من يكون يوهانيس؟» «زميل.» ثم واتتها فكرة أن تخبر هذا البرنامج متوسط الذكاء بكل أحداث الأسبوع، ثم بدأت في تزويده بالبيانات، وملاحظاتها مرتبة حسب توقيت حدوثها، عله يساعدها في إيجاد العلاقات فيما بينها. اجتهدت كي لا تنسى تفاصيل، بل وصورت حتى شكها في يوهانيس، غير أنها لم تكتب استنتاجاتها الخاصة. «أنت لا تثقين في يوهانيس.» جاء رد البرنامج أخيرا، ورغم أنها كانت تعرف هذا سلفا فإن هذه الجملة المكتوبة بالأبيض على خلفية الشاشة الغامقة جاءتها وكأنها تذكرة أن تأخذ مشاعرها على محمل الجد.
الفصل الثامن عشر
محاكاة بالكمبيوتر
أشرقت الشمس عصر يوم الجمعة، واخترقت أشعتها الواجهات الزجاجية الكبيرة لغرف المعامل ، وفي خلال دقائق معدودات تزايدت الأصوات ووقع الخطوات في الطرقات. فجأة شعر كل واحد أنه يريد الخروج بسرعة. ظل باب مكتب فاندا مفتوحا واستمتعت هي بخفوت صوت الضوضاء تدريجيا. كانت السترات وسحابات المعاطف تصدر صريرا وكأنها تعزف مقطوعة موسيقية تحمل في طياتها كل التوقعات بالسعادة المنتظرة في عطلة نهاية الأسبوع التي يتدافعون للخروج من أجل بدئها، وبعد ذلك خيم على المكان صمت تام. بدا الأسبوع وكأنه لفظ أنفاسه الأخيرة. وقفت فاندا وذهبت إلى المعمل عبر الردهة، لم يعد هناك أحد. أما الستائر المعدنية فكانت تلتمع في ضوء الشمس، وعلى منضدة المعمل تراصت الماصات في حاوياتها متلاصقة، والصناديق التي تحوي الحقن البلاستيكية الصغيرة كانت ممتلئة، وحاويات المواد الكيميائية مخزنة على الرف الزجاجي الطويل الممتد فوق أسطح العمل محكمة الغلق ومرتبة ترتيبا أبجديا. كان كل شيء مرتبا ونظيفا. كانت بيترا تجيد إدارة الأمور بالمعمل. هي في أوائل العشرينيات من العمر، ورغم ذلك لم يكن أي من الأطباء ليجرؤ على دخول منطقة نفوذها إن وجدوا وقتا للعمل على أبحاثهم في عطلة نهاية الأسبوع دون الاتفاق معها أولا، ثم يجدون كل ما يحتاجون إليه في انتظارهم: محاليل طازجة للتجارب، أو لفتة رقيقة في مكان سري لأشخاص بعينهم؛ لكن ويل لمن لا يخضع لنظامها، ناهيك عن أن يحدث فوضى أو يخلف وراءه مقلب قمامة.
دخلت فاندا إلى المطبخ الصغير المخصص للمشروبات المقام في «نيش» بالطرقة على الجانب الذي يقع فيه المكتب. أوقدت غلاية الماء، وتطلعت إلى مخلفات الموقعة الحربية المتروكة في الحوض: فناجين ملتصق بعضها ببعض، صحون مكومة، سكاكين عليها آثار الزبد والمربى، شوك وملاعق علقت بها حبوب القهوة ذات اللون البني الداكن. قرأت فاندا قائمة خدمات المطبخ التي بدت وكأنها راية مهلهلة منكسة مدلاة من مقبض درج أدوات المائدة. كان الدور هذا الأسبوع على أولريكه وإيفو. كانت أولريكه على قوة مؤتمر، أما إيفو فما كان ليكافح منفردا. هي صفة تكسبه تعاطفا تحت ظروف أخرى. وجدت فاندا فنجانها، وجه قرد ومقبض، تحت الأطباق المبعثرة في صحبة آخر على شكل الآنسة بيجي، وكوب بابا نويل الذي أهدى فيه العاملون الرئيس عصير ليمون ساخنا في عيد ميلاده. كان يتشاكى طوال اليوم من آلام بالحلق ووجد الهدية تمس شغاف القلب. في الواقع لم تكن فاندا تحب فنجانها؛ إذ كان يبدو جادا أكثر من اللازم بين كل اللطائف الأخرى التي يحويها المعمل للتسرية عنهم وقت الراحة من الروتين اليومي بالمعمل. أحضرته من رحلة إلى نيو مكسيكو. لكن القناع الأزرق المحيط بالعينين اللامعتين ذواتي البؤبؤ الأبيض كان يشبه وجه قرد الماندريل، وهو لا يستوطن أمريكا على أية حال، ما يجعلها حالة واضحة لتزوير فني في فصائل الحيوان. أما فمه المدبب المشكل ليعطي انطباعا وكأنه يصدر صوت «أووو» فقد أضفى عليه لمحة منذرة بالشر؛ ولهذا كانت تأمل فاندا أن يمنع كل ذلك غيرها من استعمال الفنجان. تشممت ومست أنفها. كانت الغلبة لرائحة القهوة، وعرفت فاندا من فورها أن فرانك - باحث الدكتوراه الذي تشرف عليه أستريد - هو من استعمل الفنجان بلا شك كان أقل من تحوم حوله شكوكها في أن يفسد بالبن رائحة الزنجبيل بالأناناس المنبعثة من الشاي الأخضر الذي كانت تحب شربه. ضغطت على الزجاجة البلاستيكية اللزجة لسائل تنظيف الأطباق مستخرجة آخر ما تحوي من صابون، وضعته في الفنجان وحكته بفرشاة التنظيف التي تحولت شعيراتها إلى اللون البني الداكن، لتحك الفنجان بقوة وكأنها أشواك قنفذ، ثم ألقت بالفرشاة فوق كومة الأطباق بأطراف أصابعها. شطفت الفنجان بالماء المغلي، وصبت لنفسها الشاي، ثم تأرجحت على غيمة من الرائحة الزكية حملتها إلى المكتب.
في مكان ما سمعت تكتكة لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبعدها صوت أزيز طباعة الليزر. ظلت فاندا واقفة في مكانها. كان الباب إلى حجرة مكتب توماس مواربا. طرقت الباب بحذر ودلفت من فرجة الباب. «فوبيا نور الشمس؟»
رد توماس ضاحكا: «ليس الحال بهذا السوء. لكن هذه اللوغاريتمات لا تترك لي فرصة للراحة.» كان لا يزال ينظر إلى الشاشة. تأملت فاندا وجهه من الجانب: أنفه المستقيم، جبينه العالي بتجعيداته حين يفكر، ثم شعر رأسه الكثيف المائل إلى الرمادي الذي أخذ في التساقط عند صدغيه. توماس بعمره الذي وصل إلى منتصف الثلاثينيات كان واحدا من أكبر الزملاء بالقسم سنا. كان شعر سوالفه ينتهي تماما فوق شحمة أذنه الملاصقة للرأس، كانت قد قرأت في مكان ما أن شحمات الأذن تلك لها السطوة في عمليات الانتخاب الوراثي، مثلها مثل الآذان المتباعدة عن بعضها، وإن كانت في حالة توماس تأوي إلى صدغيه في دعة مثالية. تعرفت فاندا على الخرزة الصغيرة الضامرة على صيوان أذنه، وكأنها أثر صغير يذكرنا بأصولنا الحيوانية بحسب نظرية داروين في التطور. كان داروين قد عرف هذه الخرزة كأثر باق من تحور الأذن في الحيوانات الثديية من الشكل المدبب إلى الشكل الدائري. شعرت برغبة عارمة تجتاحها أن تضع شفتيها على هذا المكان الرقيق وتبدأ في قضمه بحذر. ماذا يا ترى يكون مذاقه؟ أحكمت قبضة يدها اليمنى على أكرة الباب، بينما تابعت نظراتها حركات أصابعه على ذقنه غير المحلوقة، وهي بالنسبة لفاندا علامة ترجح أنه غير مرتبط، ثم أدار رأسه ونظر نحوها بجانبه. كانت حواجبه الكثيفة مرفوعة دهشة. ظهرت تجعيدة مائلة مثل ظل على جفن العين المتجهة صوبها. ضيق نظرته وحددها تجاه بؤبؤ عينيها وكأنه يبحث عن لحظة يضعف فيها دفاعها، لكنها تعجبت أن سمحت له بذلك، لوهلة قصيرة جدا، لكنها كانت كافية لإشعارها بالرهبة. «ربما أنت أيضا ليس لك أصدقاء.» قال توماس دون أن يخفي لمحة ساخرة في كلامه فظهرت على وجه فاندا أمارة عابسة. «محاضرة للرئيس يحتاجها يوم الاثنين.» «لا يبدو أمرا مثيرا.» «بحسب ما تنظر للأمر. فالموضوع ليس مملا تماما.»
عاد توماس لانشغاله بالكمبيوتر الخاص به. وشعرت كيف أن قلبها أخذ يخفق بنفاد صبر، تماما مثل نقرات أصابعه على لوحة المفاتيح. رأت فوق مكتبه إعلانا عن معرض لأعمال كاندينسكي، معلقا في برواز أنيق. كانت ألوان الطباعة تشع وكأنها أشعة شمس تخترق نافذة من الزجاج الملون. مساحات خاوية من الجدار لتعليق تفضيلاتك الشخصية، كانت ضربا من الرفاهية التي لا يتمتع بها بعد الرئيس والسيدة بونتي سوى توماس فحسب، وقد كان له وضع خاص بالقسم نظرا لتخصصه في مجال المعلومات. لكن الأمر بدا وكأنه سعى لاكتساب امتياز غرفة مفردة بسبب ماكينة التصوير؛ إذ كان طول غرفته أطول من عرضها، لكنها من الصغر بحيث يضحى رص نسخ المخطوطات وأعداد المجلات كأي عالم ضربا من لعب الأطفال، ليثبت به أن لا يوجد ثمة متسع لزميل يشاركه الغرفة. أما الطاولتان الإضافيتان فكانتا تستعملان في حالات نقص أماكن التخزين، فكان من اليسير رص الأوراق عليهما طبقة من فوق طبقة لتبني أبراجا مثل تلك التي في جزيرة مانهاتن، لولا الحجران الثقيلان اللذان يحفظان أبراج الورق من الانزلاق، ويفسدان التشبه بالأبراج الأصلية. أما الأرفف فقد اكتنزت عن آخرها بالكتب حتى على عتبة النافذة، لكنها لم تكن منتظمة كغيرها بسبب سلسلة المفاجآت وهدايا الحب التي تبعث إليه بها بعض الطالبات. رائحة عطر ما بعد الحلاقة وجلد مدبوغ لفتت أنف فاندا ناحية اليسار، تتبعت الرائحة، ووجدت على مبعدة ذراع منها معطفا جلديا معلقا على مشجب كقطعة من بشرة ذات لون بني غامق به ندبات وسحجات. كان يرتديه دائما، حتى في تلك المرات التي تراه فيها في خيالها تتصوره أملس ويضمها لأنها لم تمسه بعد. رشفت فاندا من كوب الشاي الخاص بها الذي غطت رائحته الزكية على افتتانها ومنعتها من أن تفلت يدها مقبض الباب بلا تفكير لتمد ذراعها نحو معطف توماس وتتلمسه. سقطت نظراتها على ورقة الشهر في التقويم ذي القطع الكبير. كانت الصورة تذكر بنظام أرفف من شركة أيكيا. كانت الخانات مربعة واقفة على إحدى الزوايا بميل. أضفت الزوايا الملونة باللون البرتقالي في مقابل المساحات المطلية بالأخضر طابعا متألقا على التصميم فقط من خلال اللون وحده. «ما هذا؟» سألت فاندا وتركت أكرة الباب لتشير بيدها إلى الصورة. استدار توماس. «أخ، هذا ... إنه تكبير لعنصر السيليكون، أما الألوان فكلها غير صحيحة، كل واحد من هذه المسام له قطر يصل إلى نحو عشرة ميكرومترات، ويتم استخدامها في صنع الميكروراي، أي المعامل المحمولة على الشرائح . أنت أيضا تعملين عليها.» عاد توماس واستدار ثانية نحو برنامجه. ذكرتها ملحوظته بأنه من الضروري أن تنهي أوراق الطلب الخاص بتمويل الأبحاث؛ فمشروعها الجديد كان ينتوي بحث تحليل الجينات، وأرادت أن تنفذه باستخدام معامل الدي إن إيه المحمولة. كان الكثيرون لا يزالون يرون أن هذه المعامل هي أهم إنجازات التحاليل الجينية، وكانوا يثمنونها غاليا وفقا لذلك التقييم. كانت هذه الطريقة تقدم أكبر تركيز على أصغر مساحة؛ حيث إن هذه الشرائح كانت توضع بلا عناء على طبق بحجم اليد. كانت فاندا دائما ما تفكر في بركة مليئة بسنارات الصيد حين تعمل بها. ربما كانت الصورة تبدو أوفق لو شبهتها بشبكة الصيد، وذلك نظرا للكثافة العالية، أكثر من أربعين ألف فرع مفرد من الدي إن إيه، ذات روابط نيوكليتيدية معروفة تنتظر فريستها هناك في ترقب. إنها بمثابة الطعم الذي سيتم بواسطته اصطياد أخواتها المتطابقة تماما، قطع الدي إن إيه المكملة، من الخلية المتجانسة. إنه أمر يشبه مسابقة صيد الأسماك لكن في عالم النانو. ولكل سمكة يتم اصطيادها بواسطة مستخرجات الاختبار المكونة من الخلايا والأنسجة يوجد الطعم المناسب. إن نقطة مضيئة على لوحة الاختبار لتعني أن هذا المكان تم قضمه، وبهذه الطريقة يمكن قراءة أي معلومة هي الأهم لدى الخلايا في ذلك التوقيت، وأي موضوع لم يتم الإخبار عنه إلا لماما. استندت فاندا إلى إطار الباب ورشفت رشفة من فنجان الشاي باستمتاع. «هل تسمح بأن أسألك سؤالا؟» رأت إيماءة بالإيجاب. «هل هناك أجهزة كمبيوتر أذكى من البشر؟»
Bilinmeyen sayfa