الباب الأول - في المصيبة وحقيقتها وما أعد الله لمسترجعها
قال الله تعالى: ﴿الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ .
قال عمر بن الخطاب ﵁: نعم العدلان ونعمت العلاوة.
﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة﴾ الآية.
ذكره البخاري تعليقًا.
وقال تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾ .
قال علقمة وجماعة من المفسرين: هي المصائب تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم والآيات في هذا الباب كثيرة.
قال أهل اللغة: يقال مصيبة ومصابة ومصوبة.
قالوا: وحقيقته الأمر المكروه يحل بالإنسان.
وقال القرطبي: المصيبة كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه.
يقال: أصابه إصابة ومصابة وصابة.
والمصيبة واحدة المصائب.
والمصوبة بضم الصاد مثل المصيبة.
وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو، وكأنهم شبهوا الأصل بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل، وعلى مصائب.
والمصاب: الإصابة.
قال الشاعر:
أسليم إن مصابكم رجلًا ... أهدى السلام تحيةً ظلم
وصاب السهم القرطاس يصيبه صيبًا: لغة في أصابه.
والمصيبة: النكبة ينكبها
1 / 9
الإنسان وإن صغرت، وتستعمل في الشر.
و«روى عكرمة مرسلًا: إن مصباح النبي ﷺ انطفأ ذات ليلة، فقال: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾، فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: نعم! كل ما آذى فهو مصيبة» .
وفي صحيح مسلم «من حديث أبي سعيد وأبي هريرة ﵄ أنهما سمعا رسول الله ﷺ يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه، إلا كفر الله به من سيئاته» .
والوصب: المرض - والنصب: التعب.
وفي الصحيحين «عن عروة، عن عائشة ﵂ قالت: قال رسول الله ﷺ: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله ﷿ بها عنه حتى الشوكة يشاكها» .
وقال الإمام أحمد: «ثنا يونس، ثنا ليث - يعني ابن سعد ـ، عن يزيد ابن عبد الله، عن عمرو، بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أم سلمة، قالت: أتاني أبو سلمة يومًا من عند رسول الله ﷺ، فقال: لقد سمعت من رسول الله ﷺ قولًا سررت به، قال: لا تصيب أحدًا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا فعل ذلك به.
قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت في مصيبتي وقلت: اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منه - وفي لفظ: خيرًا منها - ثم رجعت إلى نفسي وقلت: من أين خير لي من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي، استأذن علي رسول الله ﷺ، وأنا أدبغ إهابًا لي، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له، فوضعت له وسادة من أدم حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله، ما بي أن لا تكون بك الرغبة، ولكني امرأة في غيرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئًا يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله ﷿ عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل ما أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي، قالت: فقد سلمت لرسول الله ﷺ.
1 / 10
فتزوجها رسول الله»، فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرًا منه: رسول الله ﷺ.
وقد روي هذا الحديث بعدة طرق في الصحاح والمسانيد، وسيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ك
عن
فصل - في كلمة " إنا لله وإنا إليه راجعون "
فصل - في كلمة إنا لله وإنا إليه راجعون
وقد جعل الله كلمات الإسترجاع - وهي قول المصاب: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ ملجأً وملاذًا لذوي المصائب، وعظمةً للممتحنين من الشيطان، لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيج ما سكن، ويظهر ما كمن، فإذا لجأ إلى هذه الكلمات الجامعات لمعاني الخير والبركة، فإن قوله: ﴿إنا لله﴾ توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله ﴿وإنا إليه راجعون﴾ إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا، فهو إيمان بالبعث بعد الموت وهو إيمان أيضًا بأن له الحكم في الأولى وله المرجع في الأخرى، فهو من اليقين، إن الأمر كله لله فلا ملجأ منه إلا إليه.
وروى مسلم في صحيحه من «حديث أم سلمة ﵂ قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها» الحديث.
وروى مسلم أيضًا عن «أم سلمة، قالت: قال رسول الله ﷺ: إذا حضرتم المريض أو الميت، فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، قالت: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله، إن أبا سلمة قد مات.
قال: قولي اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبى حسنة» .
فقلت، فأعقبني الله من هو خير لي منه: محمدًا ﷺ.
هكذا روي بالشك: إذا حضرتم المريض أو الميت هذا لفظ مسلم.
وقد تقدم معنى هذا الحديث من طريق أخرى، «عن ابن سفينة مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة
1 / 11
فيقول: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾، اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها»، قالت: فلما توفي أبو سلمة، قلت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله ﷺ؟ قالت: ثم عزم لي فقلتها، فتزوجت رسول الله ﷺ.
وروى مسلم نحوه من حديث سعد بن سعيد الأنصاري، أخي يحيى ابن سعيد، عن عمر بن كثير عن ابن سفينة، فذكر نحوه.
والمقصود: أن هذا تنبيه على قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين﴾، إما بالخلف، كما أخلف الله تعالى لأم سلمة، بدل زوجها أبي سلمة، رسول الله ﷺ، حين تبعت السنة، وقالت ما أمرت به ممتثلة طائعة، إن البر - له - والخير فيما قاله الله ورسوله، وإن الضلال والشقاء في مخالفة الله ورسوله، فلما علمت ﵂ أن كل خير في الوجود، إما عام وإما خاص، فهو من جهة الله ورسوله، وأن كل شر في العالم، أو كل شر مختص بالعبد، فسببه مخالفة الله ورسوله، فلما قالت هذه الكلمات، حصل لها مرافقة الرسول في الدنيا والآخرة.
وقد يحصل العبد بكلمات الاسترجاع منزلة عالية وثوابًا جزيلًا، كما في «حديث أبي موسى، وسيأتي ذكره، وفيه: فيقول الله تعالى لملائكته: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تبارك: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد» .
وقد تقدم الاسترجاع في المصيبة وأن قائله، عليه الصلوات من ربه والرحمة، وهو من المهتدين.
وقول عمر: نعم العدلان ونعمت العلاوة، وأنه أراد بالعدلين الصلوات، والرحمة، وبالعلاوة الهداية، والله أعلم.
وقيل: المراد استحقاق الثواب، وتسهيل المصاب، وتخفيف الحزن، ﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم﴾، فالصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدمي التضرع والدعاء.
وقال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء.
وظاهر الآيه - والله أعلم - أن الصلاة من الله غير الرحمة، فإنه تعالى عطف الرحمة على الصلاة فعلم التغاير.
1 / 12
فصل - في تسلية أهل المصائب بالعلاج الإلهي والنبوي
فالإلهي: قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ وآيات الصبر كثيرة جدًا.
والنبوي، «قوله ﷺ: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾، اللهم اؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته وأخلف الله له خيرًا منها»، وقد تقدم.
وأمثال ذلك من الأحاديث.
وقد تضمنت هذه الكلمة: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ علاجًا من الله ورسوله لأهل المصائب.
فإنها من أبلغ علاج المصائب وأنفعه للعبد في عاجله وآجله، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما وتسلى عن مصيبته.
أحد الأصلين: أن يتحقق العبد أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله ﷿ حقيقةً، وقد جعله الله عند العبد عارية فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير، وأيضًا: فإنه محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضًا: فإنه ليس هو الذي أوجده من عدم، حتى يكون ملكه حقيقةً ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.
وأيضًا فإنه متصرف فيه بالأمر، تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه الى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فردًا، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات.
فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله، ونهايته وحاله فيه
1 / 13
فكيف يفرح العبد بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا؟ .
أم كيف يأسى على مفقود؟ ففكرة العبد في بدايته ونهايته من أعظم علاج المصائب، ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
قال تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير* لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور﴾، ومن تأمل هذه الآية الكريمة وجد فيها شفاء أو دواء المصائب.
وكل ما ذكرناه في هذا الفصل، فهو في هذه الآية، فتدبر ذلك.
فصل: في النظر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله
ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر المصاب في كتاب الله وسنة رسول الله، فيجد أن الله تعالى أعطى - لمن صبر ورضي - ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي.
ومن أنفع الأمور للمصاب: أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب، فمنهم من أصيب مرةً، ومنهم من أصيب مرارًا، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب، فيصاب، أسوة بأمثاله ممن تقدمه، فإنه إن نظر يمنةً فلا يرى إلا محنةً، وإن نظر يسرةً فلا يرى إلا حسرةً.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد، قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين، لما رجع من مشارق الأرض، ومغاربها، وبلغ أرض بابل، مرض مرضًا شديدًا، فلما أشفق أن يموت، كتب إلى أمه: يا أماه، اصنعي طعامًا، واجمعي من قدرت عليه، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدت لشيء قرارًا باقيًا، وخيالًا دائمًا؟ ! إني قد علمت يقينًا، أن
1 / 14
الذي أذهب إليه خير من مكاني، قال: فلما وصل كتابه، صنعت طعامًا، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة، فلم يأكلوا، فعلمت ما أراد، فقالت: من يبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت، فعليك السلام حيًا وميتًا.
فإذا علم المصاب أنه لو فتش العالم، لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، فسرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرةً إلا ملأتها عبرةً وما حصلت للشخص في يوم سرورًا، إلا خبأت له في يوم شرورًا.
قال عبد الله بن مسعود ﵁: لكل فرحة ترحة، وما ملىء بيت فرحًا إلا ملىء ترحًا.
وقال ابن سيرين: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء.
فليعلم العبد أن فوت ثواب الصبر والتسليم هو الصلاة والرحمة والهداية في قوله تعالى: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ .
وقد تقدم ذلك، فما ضمنه الله على الصبر والاسترجاع، أعظم من المصيبة في الحقيقة، والله أعلم.
فصل - في أن مرارة الدنيا هي حلاوة في الآخرة
ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر العبد بعين بصيرته، فيعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة في الآخرة، يقبلها الله تعالى، وحلاوة الدنيا هي بعينها مرارة في الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة، خير من عكس ذلك، فإن خفي عليك ذلك فانظر إلى قول الصادق المصدوق، وهو قوله ﷺ: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات»، وكذلك قوله في الصحيح:
1 / 15
«يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب»، الحديث.
وهذا المقام تتفاوت فيه عقول الناس، وتظهر حقائق الرجال، فأكثر أهل زماننا يؤثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يتحمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد ولا محنة ساعة لعافية الأبد، فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فتولد من ذلك إيثار العاجلة ورفض الآخرة، وهذا حال النظر، الواقع على ظواهر أكثر أهل زماننا في أوائل أمورهم ومبادئها، وما ذاك إلا لحبهم هذه الحياة الدنيا.
قال وهب بن منبه: كان عيسى ابن مريم ﵇ يقول: بحق أقول لكم، إن أشدكم حبًا للدنيا أشدكم جزعًا على المصيبة.
وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجل، ومحاورة العواقب والغايات، فله شأن آخر، فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية والفوز الأكبر وما أعد الله لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والخسران والعذاب الدائم، ثم اختر أي القسمين أليق بك، وكل يعمل على شاكلته، وكل أحد يذهب إلى ما يناسبه وما هو الأولى به، وهذا نصح أخيك فيما يحسن بك ويسليك.
فصل - في الاستعانة بالله والاتكال عليه والعزاء بعزائه
ومن تسلية أهل المصائب: أن يستعينوا بالله ويتكلوا عليه، ويتعزوا بعزاء الله تعالى، ويمتثلوا أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة، ويعلموا أن الله مع الصابرين، ويطلبوا استنجاز ما وعد الله به عباده على الصبر.
و«في حديث أنس بن مالك، قال: ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ كنا عند رسول الله ﷺ جلوسًا، فضحك، فقال: تدرون مما ضحكت؟
1 / 16
قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: عجبت للمؤمن، إن الله ﷿ لا يقضي له قضاء إلا كان خيرًا له» .
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده، قال: قال إبراهيم بن داود: قال بعض الحكماء: إن لله عبادًا يستقبلون المصائب بالبشر، قال: فقال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم، ثم قال: قال وهب بن منبه: وجدت في زبور داود: يقول الله تعالى: يا داود، هل تدري من أسرع الناس ممرًا على الصراط؟ الذين يرضون بحكمي وألسنتهم ربطة من ذكري.
فالمؤمن الموفق - نسأل الله تعالى حسن التوفيق - من يتلقى المصيبة بالقبول، ويعلم أنها من عند الله لا من عند أحد من خلقه، ويجتهد في كتمانها ما أمكن.
قال عبد العزيز بن أبي داود: ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المصيبة وكتمان المرض وكتمان الصدقة.
وقال بعض السلف: ثلاثة يمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال، والمصيبة والولاية.
وقال عبد الله بن محمد الهروي: من جواهر البر، كتمان المصيبة، حتى يظن أنك لم تصب قط.
وقال عون بن عبد الله: الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة.
فصل - ومن أعظم المصائب المصيبة في الدين
ومن أعظم المصائب: المصيبة في الدين، فهي من أعظم مصائب الدنيا والآخرة، وهي نهاية الخسران الذي لا ربح معه، والحرمان الذي لا طمع معه.
وقد حكى ابن أبي الدنيا عن شريح أنه قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات وأشكره، إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني الاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني.
ومن أعظم المصائب في الدين، موت النبي ﷺ، لأن المصيبة به أعظم من
1 / 17
كل مصيبة يصاب بها المسلم، لأن بموته ﷺ انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وانقطعة النبوات، وكان موته أول ظهور الشر والفساد، بارتداد العرب عن الدين، فهو أول انقطاع عرى الدين ونقصانه، وفيها غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد، وغير ذلك من الأمور التي لا أحصيها.
قال أنس بن مالك ﵁: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله ﷺ، حتى أنكرنا قلوبنا.
رواه ابن ماجه.
وإذا أردت أن تعلم أن المصيبة به ﷺ أعظم من كل مصيبة حدثت في الدين، فانظر إلى ما روي «عن عائشة ﵂: أن رسول الله ﷺ قال: أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزى بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي» .
وهذا من رواية موسى بن عبيده، وقد أضعفه غير واحد من الأئمة.
لكن روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده، «من حديث عطاء بن أبي رباح مرسلًا، أن رسول الله ﷺ قال: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب»، رواه الحافظ أبو نعيم من هذه الطريق أيضًا، ومن طريق أخرى، عن مكحول مرسلًا، نحوه.
ولقد أحسن أبو العتاهيه في نظمه موافقًا لهذا الحديث، حيث يقول:
اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد
أو ما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة ... هذا سبيل لست عنه بأوحد
فإذا ذكرت محمدًا ومصابه ... فاجعل مصابك بالنبي محمد
وفي رواية:
وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
وإذا أردت أن تعلم تغير الأحوال بموت النبي ﷺ، فاذكر قوله تعالى: ﴿وما
1 / 18
محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾ الآية، ﴿أفإن مات﴾ شرط ﴿أو قتل﴾ عطف عليه، والجواب: ﴿انقلبتم﴾ ودخل ألف الاستفهام على حرف الجر، لأن الشرط قد انعقد به، وصار جملة واحدة، وخبرًا واحدًا، والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل؟ يقال لمن عاد إلى ما كان عليه، انقلب على عقبيه، وقيل: المعنى فعلتم فعل المرتدين، ومنه انقلب على عقبيه، وقول أنس وقد تقدم.
وروى ابن ماجه، من حديث أم سلمة - زوج النبي ﷺ قالت: كان الناس، علىعهد رسول الله ﷺ، إذا قام المصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله ﷺ، وكان أبو بكر ﵁ فكان الناس، فإذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فتوفي أبو بكر وكان - عمر ﵁ فكان الناس، إذا قام أحدهم يصلي، لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان ﵁ فكانت الفتنة، فتلفت الناس في الصلاة يمينًا وشمالًا.
وإسناده مقارب.
والمقصود أن المصائب تتفاوت، فأعظمها المصيبة في الدين - نعوذ بالله من ذلك - هي أعظم من كل مصيبة يصاب بها الإنسان، يؤيد ذلك أنه قد جاء في بعض الآثار، أن النبي ﷺ قال: «المسلوب من سلب دينه، والمحروم من حرم الأجر» .
ثم بعد مصيبة الدين المصيبة في النفس، ثم في المال، أما المال فيخلفه الله تعالى وهو فداء الأنفس، والنفس فداء الدين، والدين لا فداء له.
قال تعالى: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير﴾ .
فصل - في البشارة لمن تذكر المصيبة فاسترجع
ومن أعظم البشارات لمن أصيب بمصيبة، فذكرها بعد مدة طويلة، فجدد لها
1 / 19
استرجاعًا وصبرًا، ماله عند الله من الأجر كلما ذكرها واسترجع.
قال الإمام أحمد في مسنده: «ثنا يزيد وعباد بن عباد، قالا: حدثنا هشام ابن أبي هشام، ثنا عباد ابن زياد، عن أمه، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين ابن علي ﵄، عن النبي ﷺ قال: ما من مسلم ولا مسلمة، يصاب بمصيبة، فيذكرها وإن طال عهدها - قال عباد: قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عنه ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها»، ورواه ابن ماجة من حديث «فاطمة بنت الحسين أيضًا ولفظه: إن رسول الله ﷺ قال: من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فليحدث استرجاعًا وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب» لكن في اسناده مقال.
قال سعيد بن جبير: ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة - يعني ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ - ولو أعطي أحد لأعطي نبي الله يعقوب ﵇، ألم تسمع إلى قوله في فقد يوسف: ﴿يا أسفى على يوسف﴾، أولئك - أصحاب هذه الصفة - ﴿عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾ .
فصل - في الفرق بين تمتع الدنيا الفاني والآخرة الباقي
ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر المصاب ويفرق بين أعظم اللذتين والتمتعين: تمتع الحياة الدنيا الفانية، وتمتع الدار الآخرة الباقية، وأدومهما لذة وتمتعًا بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له على قوله وفعله من استرجاع وصبر ونحوه، فإن ظهر له الرجحان، فآثر الراجح، فليحمد الله على توفيقه له، وإن آثر المرجوح من كل وجه، فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه، أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه.
وأي نسبة بين تمتعه بمحبوبه في هذه الدار التي قال الله تعالى في حقها من أولها إلى آخرها: ﴿قل متاع الدنيا قليل﴾، وأي شيء حصل له من القليل؟ فمن آثر جزءًا قليلًا من قليل ينفد، على جزء كثير من
1 / 20
كثير لا ينفد، فقد اغتيل عقله.
قال بعض الحكماء: يحسب الجاهل الشيء الذي هو لا شيء شيئًا، والشيء الذي هو الشيء لا شيء، ومن لا يترك الشيء الذي هو لا شيء، لا ينال الشيء الذي هو الشيء، ومن لا يعرف الشيء الذي هو الشيء، لا يترك الشيء الذي هو لا شيء، يريد الدنيا والآخرة، ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا.
فصل - في أن يوطن الإنسان نفسه على توقع المصائب وأنها بقضاء الله وقدره
ومما يسلي المصاب: أن يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه هي من عند الله وأنها بقضائه وقدره، وأنه ﷾ لم يقدرها عليه ليهلكه بها، ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه، وشكواه إ ليه وابتهاله ودعاءه، فإن وفق لذلك كان أمر الله قدرًا مقدورًا، وإن حرم ذلك كان ذلك خسرانًا مبينًا.
قال أبوالفرج بن الجوزي: علاج المصائب بسبعة أشياء:
الأول - أن يعلم بأن الدنيا دار ابتلاء، والكرب لا يرجى منه راحة.
قال الشاعر:
وما استغربت عيني فراقا ًرأيته ...
... ولا علمتني غيرما القلب عالمه
الثاني - أن يعلم أن المصيبة ثابتة.
الثالث - أن يقدر وجود ما هو أكثر من تلك المصيبة.
الرابع - النظر في حال من ابتلي بمثل هذا البلاء، فإن التأسي راحة عظيمة.
قالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
وهذا المعنى قد حرمه الله ﷿ أهل النار، فإن المخلدين فيها كل واحد
1 / 21
محبوس وحده، فهو يظن أنه لم يبق في النار سواه.
الخامس - النظر في حال من ابتلي أكثر من هذا البلاء فيهون عليه هذا.
السادس - رجاء الخلف، إن كان من مضى يصح عنه الخلف كالولد والزوجة.
قيل للقمان ﵇: ماتت زوجتك؟ قال: تجدد فراشي.
قال الشاعر:
هل وصل عزة إلا وصل غانية ...
... في وصل غانية من وصلها خلف
السابع - طلب الأجر بالصبر في فضائله وثواب الصابرين وسرورهم في صبرهم، فإن ترقى إلى مقام الرضى فهو الغاية.
انتهى كلامه، وقد تقدم معنى ذلك.
وما يلحق بعلاج هذه السبعة أشياء وأمور أخر:
الثامن - أن يعلم العبد كيف جرى القضاء فهو خير له.
التاسع - أن تعلم أن تشديد البلاء يخص الأخيار.
العاشر - أن يعلم أنه مملوك وليس للمملوك في نفسه شيء.
الحادي عشر - أن هذا الواقع وقع برضى المالك، فيجب على العبد أن يرضى بما رضي به السيد.
الثاني عشر - معاتبة النفس عند الجزع مما لابد منه، فما وجه الجزع مما لابد منه؟ !
الثالث عشر - إنما هي ساعة فكأن لم تكن.
وهذه المعاني وقد تقدم ما يشبهها ويناسبها، ويأتي ما هو أتم من ذلك، وبالله التوفيق.
فصل - في أن لا ننكر وقوع المصائب في الدنيا بجميع أنواعها
ينبغي للعبد، أن لا ينكر في هذه الدنيا وقوع هذه المصائب على اختلاف أنواعها، ومن استخبر العقل والنقل أخبراه بأن الدنيا مارستان المصائب، وليس
1 / 22
فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فكل ما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها وإن أحسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، ومن خاض الماء الغمر لم يخل من بلل، ومن دخل بين الصفين، لم يخل من وجل.
فالعجب كل العجب، ممن يده في سلة الأفاعي، كيف ينكر اللسع؟ ! وأعجب منه، من يطلب من المطبوع على الضر النفع.
قال بعض الأدباء:
طبعت على كدر وأنت تريدها ...
... صفوًا من الأقذاء والأكدار
قال أبو الفرج بن الجوزي: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقي من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ المؤمن منها.
وقد قال النبي ﷺ: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»، فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن، فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها.
فصل - في المصائب المختصة بذات الإنسان
ذكر أبو الفرج بن الجوزي: في المصائب المختصة بذات الإنسان.
قال: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارةً بالجزع والشكوى، وتارةً بالتداوي، إلى أن يشتد عليهم، فيشغلهم اشتداده عن الالتفات إلىالمصالح من وصية، أو فعل خير، أو تأهب للموت، فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها، أو عنده ودائع لا يردها، أو عليه دين أو زكاة، أو في
1 / 23
ذمته ظلامة لا يخطر له تداركها، وإنما حزنه على فراق الدنيا، إذ لا هم له سواه، وربما أفاق وأوصى بجور.
انتهى كلامه.
وسبب ذلك ضعف الإيمان كما قال تعالى: ﴿فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم﴾، وأحدهم لا هم له إلا الدنيا، ولا يتأسف إلا عليها، والعين المتطلعة إلى الآخرة ضعيفة جدًا، وقد عم هذا أكثر الخلق في زماننا، نعوذ بالله من الخذلان.
فينبغي للمتيقظ أن لا يتأسف على ما فات، وأن يتأهب في حال صحته قبل هجوم المرض، فربما ضاق الوقت عن عمل، واستدراك فارط، أو وصية، فإن لم تكن له وصية في صحته فليبادر في مرضه، وليحذر الجور في وصيته، فإنه من المحرمات، فإنه يمنع المستحق ويعطي من لا يستحق، فيحتاج أن يحارب نفسه وشيطانه، فقد «روى أبو داود أن النبي ﷺ كان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» ويعلم أنه مملوك لله وليس له في نفسه شيء.
قال الشاعر:
صرت لهم عبدًا وما ... للعبد أن يتعرضا
ويعلم أيضًا أن هذا الواقع من المصائب في نفسه وماله وولده، وقع برضى مالكه وخالقه، فيجب على العبد أن يرضى بما يرضي به السيد، ويعاقب نفسه إذا جزعت، ويقول لها: أما علمت أن هذا لابد منه؟ ! فما وجه الجزع؟ ! وإنما هي ساعة كأن لم يكن ما كان، ومن تلمح العواقب هان عليه مرارة الدواء، والله تعالى الموفق.
قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا
وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم؟!
قال الشاعر:
على ذا مضى الناس: اجتماع، وفرقة ...
وميت، ومولود، وبشر وأحزان
1 / 24
ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر، إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما ينكر الإفراط فيه والتكليف كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتًا، لكنه يدل على خور الجازع، ويوجب العقوبة والسلام.
فصل - في أن المصائب والمحن دواء للكبر والعجب
وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمن رحمة أرحم الراحمين، أن يتفقده في الأحيان، بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحة عبوديته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه.
كما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى، وإن عظمت ...
... ويبتلي الله بعض القوم بالنعم فلولا أنه ﷾ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمر ونهي، وصحة وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها، تمردت وسعت في الأرض فسادًا مع علمهم بما فعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟ ! ولكن الله ﷾، إذا أراد بعبده خيرًا، سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، ويستفرغ منه الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهي عبوديته، ورقاه أرفع ثواب الآخرة وهي رؤيته.
فصل - في اعتراض المصاب على الأقدار ودلالته بعبادته
قد يحصل للعابد الجاهل، مصيبة، من الجزع ما يسوء الناظر إليه، والسامع عنه، من الاعتراض على الأقدار، وما ذاك إلا لإدلاله بعبادته، فإنه قد شوهد أن خلقًا كثيرًا من أهل الدين والخير، عند موت أحبابهم، جرى منهم أمور ينكرها العقال من الناس، فمنهم من خرق ثيابه، ومنهم من لطم خده، ومنهم من
1 / 25
اعترض على القضاء والقدر!
قال ابن الجوزي: رأيت رجلًا كبيرًا أعرفه قد قارب الثمانين، وهو من أهل الدين المحافظين على الجماعة، فمات ولد لابنته، فقال: ما ينبغي لأحد أن يدعو فإنه ما يستجيب، ثم قال: إن عاندنا فما يترك لنا ولدًا، فعلمت أن صلاته وفعله للخيرعادة، لا أنه ينشأ عن معرفة إيمان، وهؤلاء الذين يعبدون الله علىحرف.
ثم قال ابن الجوزي: حدثني خالي لعمي محمد بن عثمان قال: كنت مشدًا بقرية التل، فسمعت عن شيخ قد جاوز الثمانين ولا يصلي، وقد كان قبل ذلك كثير الصلاة مع الجماعة وفعل الخير، ثم ترك ذلك، فدعوته وقلت: يا شيخ، لم لا تصلي؟ فقال: وكيف أصلي، وكان لي أولاد فماتوا، وكان لي غنم ففنيت؟ فأنا ما بقيت أصلي له ولا ركعة، فضربته، وطفت به البلد، فكان بعد ذلك يواظب على الجامع.
انتهى ما ذكره.
فلا شيء أنفع من العلم، لأن العالم، لو حصل له هلع شديد في مصيبته، يعلم أنها زلة منه، فيدري كيف يتنفس، والعابد الجاهل، كلما غاص إلى أسفل، يظن أنه صاعد إلى فوق.
فإذا امتحن الشخص، ينبغي له أن يتداوى بالأدوية الشرعية، فإنه يقال: عند الامتحان يكرم الشخص أو يهان، أما علم لابد من الفرقة؟ وقد روى داود، «عن الحسن بن جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: قال جبريل: يا محمد عش ما عشت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه»، فنعوذ بالله من عدم الصبر عند المحنة، ونسأله الثبات في الأمر، فإنه والعياذ بالله يخاف على الشخص من سوء الخاتمة إذا سخط الأقدار.
ونازع القضاء والقدر أهله، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
1 / 26
فصل - في أن الأفضل إبدال الشكوى والأنين بذكر الله تعالى
ينبغي للمصاب بنفسه، أو بولده، أو بغيرهما، أن يجعل في المرض مكان الأنين ذكره الله تعالى، والاستغفار والتعبد، فإن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يكرهون الشكوى إلى الخلق، وهي وإن كان فيها راحة، إلا أنها تدل على ضعف وخور، والصبر عنها دليل قوة وعز، وهي إشاعة سر الله تعالى عند العبد، وهي تأثر شماتة الأعداء ورحمة الأصدقاء.
قال الشاعر:
لا تشكون إلا صديق حالة ... تأتيك في السراء والضراء
فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وذكر ابن أبي الدنيا بإسناده إلى إسماعيل بن عمرو، قال: دخلنا على ورقاء بن عمر وهو في الموت، فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله ﷿، وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه، فيرد ﵈، فلما كثروا عليه، أقبل على ابنه فقال: يا بني، اكفني رد السلام على هؤلاء، لا يشغلوني عن ذكر ربي ﷿.
وعن أبي محمد الحريري، قال: حضرت عند الجنيد، قبل وفاته بساعتين، فلم يزل تاليًا وساجدًا، فقلت له: يا أبا القاسم، قد بلغ ما أرى من الجهد، فقال: يا أبا محمد، أحوج ما كنت إليه هذه الساعة، فلم يزل كذلك حتى فارق الدنيا.
وقد روي في حديث، أن إبليس لا يكون في حال أشد منه على ابن آدم عند الموت، يقول لأعوانه: دونكموه، فإنه إن فاتكم اليوم، لم تلحقوه.
واعلم - رحمك الله - أن الأعمال بخواتيمها، فإنه ربما أضله في اعتقاده، وربما حيل بينه وبين التوبة، وغير ذلك مما هو محتاج إليه، وربما وقع منه الاعتراض على القضاء والقدر، فينبغي للمصاب بنفسه أو بغيره، أن يعلم أو يعلم بغيره، أنها صبر ساعة، فيتجلد ويحارب العدو جهد طاقته، فبصدقه تحصل له عليه الإعانة من الله، ويعلم أيضًا، أن التشديد عليه أو على غيره في النزع، هو في الغالب من كرامة العبد على الله ﷿، فإن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل
1 / 27
والأمثل، وقوله ﷺ: «ما أشد مرارة الموت»، وقول أبي عبيدة: اخنق خنقك، فوعزتك إنك تعلم أن قلبي يحبك.
وقد روى الإمام أحمد، عن الوليد بن مسلم الأوزاعي، عن عمر بن عبد العزيز، أنه قال: ما أحب أن يهون علي سكرات الموت إنه آخر ما يكفر عن المرء المسلم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني معمر، حدثني شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يستحبون للمريض أن يجهد عند الموت.
وبإسناده، عن ابن عباس، قال: آخر شدة يلقاها المؤمن عند الموت.
كانت عائشة ﵂ تقول: مات فلان ولم يعالج.
قال الحافظ بن ناصر: يعني أنه لم يعالج: أنه لم يحصل له في مرضه وعند موته ما يكون كفارة لذنوبه.
و«عن ثابت، عن أنس بن مالك ﵃ أن النبي ﷺ دخل على شاب وهو في النزع، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله ﷺ: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرضى أو أمنه مما يخاف» .
فمن خاف الله وحفظه في صحته، حفظه في مرضه، ومن راقب الله في خطر، حرسه الله في حركاته وسكناته.
وفي «حديث ابن عباس ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف الى الله في الرخاء يعرفك في الشده» .
وفي قصة يونس ﵇ لما تقدم له عمل صالح.
قال: ﴿فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون﴾، ولما لم يكن لفرعون عمل خير قط، لم يجد وقت الشدة متعلقًا، فقيل له: ﴿آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾، فمن ضيع الله في صحته فإنه يضيع في مرضه، والله أعلم.
1 / 28