المقدمة
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله. أما بعد:
فبين يديك أيها الموفق رسالة محررة من يد أحد فحول العلماء وأكابرهم العالم الشهير الفقيه الكبير عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، ردا على شبهات أثارها: داود بن جرجيس، تتعلق بقضايا في توحيد الألوهية.
هذه الشبهات مازال لها أهلون، يثيرونها كلما درست، ويحيونها كلما خبت، ليضلوا عباد الله، ويصرفونهم عن عبادته وحده لا شريك له، وعن تعظيمه ﷻ اللائق به دون من سواه إلى عبادة غيره من المخلوقات!!
عجبا لأولئك الذين يرمون أهل التوحيد والسنة بأنهم ينتقصون الأولياء بل الأنبياء، إذ لم يجوزوا دعاءهم من دون الله!؟ أليس هم قد تنقصوا الله ﷻ إذ جوزوا أن تصرف العبادة لغيره وهو القائل: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ بلى والله: هم تنقصوا الله ﷻ، وتنقصوا أيضا الأنبياء والأولياء، لأن أنبياء الله ورسله وأولياء الله تعالى براء مما يعملون. بل أرسلوا ليجاهدوا إخوان هؤلاء من كفار بني إسرائيل وكفار قريش بالحجة والبرهان وبالسيف والسنان.
قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ . [سورة سبأ: ٤٠-٤٢]
فهذه براءة الملائكة ﵈ من عبادة المشركين لهم، إذ زعموا أنهم ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا
1 / 5
الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٧، ١٨] .
وبراءة أخرى لنبي الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة:١١٦، ١١٧] .
كل ذلك وما جاء في معناه في القرآن العزيز والسنة المطهرة ليؤكد أن الواقعين في دعاء الأنبياء والأولياء والملائكة فضلا عن غيرهم من الجن والشياطين؛ هم المذمومون المتنقصون حقا لجناب الأنبياء والصالحين، إذ خالفوا أوامرهم، بل نقضوا أصل دعوتهم: لا معبود بحق إلا الله وحده، ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ .
إن هؤلاء الذين يضلون الأمة ويربونها على تنقيص جانب الربوبية، ويزيدون على ذلك: رمي أهل الحق والتوحيد بأعظم الفرى وأقبح الشائعات ليصدوا الناس عن سبيل الله تعالى، لينتقم الله تعالى منهم، ومن انتقام الله تعالى منهم وغيرته تعالى وتقدس على حدوده ومحارمه؛ بعث من يتصدى لهم: يبطل ما بنوه، ويفرق ما جمعوه، ويكشف ما ستروه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ . [الحج ٦٢] . وأن يضرب مثل في ذلك؛ فمثل عزيز: أمة في رجل. إنه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى العالم الإمام شيخ الإسلام. رجل واحد حمل لواء الدعوة إلى التوحيد، وتبديد ما أرساه القبوريون بثقل علماء السوء وولاة السوء، فجعل بفضل الله وحده ذلك كله قاعا صفصفا، وبنى للتوحيد وأهله بناء مشيدا وحصنا عظيما، صمد إلى الآن أمام كل
1 / 6
التحديات، بل تثلمت معاول الهدم التي هرع إليها حفدة القبوريون ووراثهم، وذلك دليل صدق على عون الله تعالى للشيخ محمد، وتأييده له، وأنه صادق مخلص محب لصلاح الأمة مشفق عليها.
لقد ترامت دعوته المباركة في جميع الأقطار، واستجاب لها أهل الفطر والأبصار، فلا بلد بحمد الله تعالى إلا وأثر دعوة الشيخ فيه واضحة وآثاره مرفوعة ظاهرة. ١
وخلفه في هذا المنصب الكبير أبناؤه وأحفاده وتلامذة الجميع رحمهم الله تعالى رحمة
واسعة.
والشيخ العالم الفقيه: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، أحد ثمار غرس الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقد تتلمذ على يد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، وغيرهم من تلاميذه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حتى كان من أوعية العلم وفحول العلماء: درس وقضى، وأفتى، ووعظ، وألف.
وكان مما جلس فيه للقضاء من الأمصار: القصيم، حيث بعثه الإمام تركي بن عبد الله عام ١٢٤٨هـ إلى ذلك. ثم رجع إلى شقراء للتدريس والإفتاء بعد مقتل الإمام تركي سنة ١٢٤٩ هـ. وفي سنة ١٢٥١ هـ بعثه الإمام فيصل ابن تركي إلى القصيم لتولي القضاء، فذهب واستوطن عنيزة حتى سنة ١٢٧٠هـ.
وقد جاء إلى عنيزة وقت قضاء الشيخ بها رجل عراقي يقال له: داود بن جرجيس، في طريقه إلى الحج، فقرأ على الشيخ طرفا من تفسير
_________
١ زعم بعضهم: أن الشيخ محمدا "قام مع من شاء الله من إخوانه من علماء نجد بالدعوة إلى التوحيد" وهذا قول جاهل بمبادئ تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إذ قد أجمع الناس كلهم على أن القائم بالدعوة إلى التوحيد هو الشيخ محمد وحده، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا راد لفضل الله تعالى.
1 / 7
البيضاوي، وبعضا من فقه الحنابلة، ثم طلب من الشيخ أن يجيزه في فقه الحنابلة، فأجازه، وأذن له بالتدريس.
ثم إنه وقعت منه مخالفات عقدية، فأحضره الشيخ عبد الله، وكشف شبهته فيها، وكتب رسالة في ذلك سماها بعض طلبته: "الانتصار﴾ . ١
فأظهر داود الرجوع عما وقع فيه من الخطأ، ثم إن داود حج ورجع إلى بلده، وأخذ ينصر تلك الشبهة، ويتطلب أشياء من كلام العلماء ليؤيد بها شبهته، فأخذ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أشياء ظنها له، وهي عليه.
وبعد أربع سنوات حج داود مرة أخرى، ونزل أيضا في بلد عنيزة، وصرح بأنه مازال على تأييد شبهته، وأن رجوعه السابق قد رجع عنه.
فأحضره الشيخ عبد الله، وسأله عن نقضه لرجوعه السابق، فأبرز داود عبارات لشيخ الإسلام ابن تيمية. فطلب الشيخ عبد الله إحضار الكتب التي نقل منها تلك العبارات، فوجدت إيرادات يوردها ابن تيمية للرد عليها وإبطالها، فسكت داود وأسر في نفسه العداوة للشيخ وعامة علماء نجد.
فلما رجع إلى بلاده في العراق؛ أرسل رسالة إلى أحد أصدقائه في بلد عنيزة ضمنها أدلة لما رد به على الشيخ عبد الله، فأطلع الشيخ عليها، فوجدها نفس الشبهة الأولى إلا أنه زاد عليها: أنه لا فرق بين الأحياء والأموات، وأن السؤال من الميت كالسؤال من
الحي. فانتدب لها الشيخ وردها بكتاب سماه: "تأسيس التقديس".
هذه قصة كتابنا هذا كما حكاها الشيخ المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر رحمه الله تعالى في "عنوان المجد في تاريخ نجد". ٢
_________
١ طبعت عدة طبعات. آخرها طبعة بتحقيق الشيخ الفاضل الدكتور الوليد بن عبد الرحمن الفريان.
٢ من مخطوطة للكتاب عند الشيخ الفاضل عبد الله بن عبد الرحمن البسام، نقله عنها في كتابه الفريد المحرر: ﴿علماء نجد خلال ثمانية قرون﴾ ﴿٤/٢٣٠﴾ .
1 / 8
عملي في الكتاب
* اعتمدت في ضبط نص الكتاب على ثلاث نسخ:
الأولى: الطبعة الأولى في مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه سنة ١٢٤٤ هـ في رمضان
منها.
جاء على صفحة العنوان منها:
طبع بإذن الشيخ عبد الله بن حسن خطيب الحرم المكي.
الثانية: نسخة خطية في ملك الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله تعالى وهي محفوظة في المكتبة السعودية بالرياض. ورمزها "ب".
الثالثة: نسخة خطية نسخت عام ١٣٠٦ هـ، وهي مصورة عندي. ورمزها "أ".
* عزوت الأحاديث إلى مخرجيها.
* وضعت فهرسا للموضوعات.
1 / 9
ترجمة موجزة للمؤلف
* العالم العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الرحمن أبا بطين. يرجع نسبه إلى عائذ من عبيدة من قحطان.
* ولد في: روضة سدير ٢٠ / ١٢ / ١١٩٤ هـ.
* قرأ على قاضي روضة سدير الفقيه الشيخ محمد بن طراد الدوسري ولازمه ملازمة
تامة.
* ارتحل إلى شقراء، وقرأ على قاضيها الشيخ عبد العزيز الحصين.
* ثم رحل إلى الدرعية فقرأ على علمائها: الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب.
والشيخ حمد بن ناصر بن معمر. وقرأ فيها على الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد العفالقي الأحسائي، وأجازه.
* ولاه الإمام عبد الله بن سعود قضاء عمان.
وولاه الإمام تركي بن عبد الله قضاء الوشم، ثم كلفه بقضاء سدير معها، فكان يقيم في كل مقاطعة شهرين.
ثم نقله الإمام تركي إلى قضاء القصيم.
ثم ولاه الإمام فيصل بن تركي قضاء القصيم مرة أخرى.
* له مؤلفات منها:
١. حاشية نفيسة على شرح المنتهى.
٢. مختصر بدائع الفوائد لابن قيم.
٣. مختصر إغاثة اللهفان.
٤. تأسيس التقديس في كشف شبه داود بن جرجيس.
٥. الانتصار في الرد على داود أيضا -.
٦. رسالة في تجويد القرآن الكريم.
٧. التفصيل والبيان في تنزيه الرحمن.
1 / 17
١. وله فتاوى ورسائل محررة. طبع بعضها في "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية"، وجمع أخيرا الأخ الشيخ إبراهيم بن محمد الحازمي – الشريف -.
* توفي في شقراء في ٧ / ٥ / ١٢٨٢ هـ.
1 / 18
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله، نحمده ونس تعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد، فإنه قد قدم علينا في أثناء عشر ستين بعد المائتين والألف ١ رجل اسمه داود بن سليمان البغدادي ومعه شيء من كتب المذهب، وجلس عندنا مدة وطلب مني إجازة في الفتيا في المذهب، وكتبت له، ثم بعد ذلك بنحو أربعين سنين قدم حاجا، وذكر لي أن معه ورقة فيها عبارات من كلام الشيخ تقي الدين يشبه بها على الناس، يضع كلام الشيخ على غير موضعه فأحضرته وباحثته فإذا حقيقفة أمر دعواه: استحالة وقوع الشرك في الأمة المحمدية، ويزعم أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك، ويقول: إن الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل نداء، ويقول: الشرك هو السجود لغير الله فقط، وسألته عن معنى لا اله الله وما معنى الإله فارتبك وتحير، فقلت أخبرني عن حقيقة الشرك الذي حرمه الله وأخبر أنه لا يغفره؟ فقال: هو السجود لغير الله.
فقلت: نهى الله عن السجود لغيره، لكن ما دليلك على أنه شرك؟ فلم يكن عنده جواب، فلما أوردت بعض الأدلة على بطلان دعواه ودحضت حجته أظهر الموافقة قصدا لقطع الكلام لا للموافقة باطنا فيما أظن، وكتبت على ورقته التي معه نحو ثلاثين ورقة سماها بعض الطلبة "الانتصار".
_________
١ في "أ"في اثنين عشر ستين سنة " والمثبت من هامش "ب" مع حذف كلمة "السنة" بعد جملة المثبتة.
1 / 19
تأسيس التقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس
...
وبعد ذلك طلب مني بعض الإخوان بيان معنى بعض أبيات في البردة وتشطيرها للرجل المذكور، فكتبت عليها قدر ورقتين فأشمأز بعض المخالفين لزيغ في قلبه، واعترض على ما كتبته بكتابة ورقة متضمنة شركا عظيما، فكتبت على كلامه قدر ثلاثة كراريس وهم قد رفعوا جوابي الأول والثاني إلى كبيرهم داود المذكور، مستنصرين به، فقام وقعد، وجد واجتهد في البحث عن الأوراق التي اعترض فيها أعداء الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمة الله عليه – فيما دعا إليه من التوحيد، فحصل فيما بلغني جملة منها فاستمد منها وزاد من عنده فضائح وضعها في تسويده هذا الذي عثرنا عليه، فيه ترويج على الجهال.
فرأيت أنه يتعين على مثلي بيان تلبيسه وتمويهه لعل الله أن يحشرنا في زمرة الذين ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ذكر المعترض في أول تسويده بأنا نكّفر من كانت البردة عنده ومن قرأها ومن سمعها، وأننا نبيح قتله، وهذا من أول كذبه وافترائه.
وزعم أن ما كتبناه متضمن لتنقص الرسول ﷺ، وسلفه في ذلك عباد المسيح، لما نهى النبي ﷺ عن عبادته قالوا تنقص المسيح ﵇، ونحن إنما نهينا عن الغلو فيه ﷺ الذي حذر منه بقوله:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم". ١ قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله". ٢
وقوله: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد"، ٣ وقوله للذي
_________
١ أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها ٠٠٠٠ " حديث رقم ٣٤٤٥.
٢ المصدر السابق نفسه.
٣ أخرجه ابن ماجه، كتاب الكفارات، باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت، حديث رقم ٣١١٨، وأحمد في المسند "٥ / ٤٤٨ "، والطحاوي في مشكل الآثار رقم ٢٣٧، وانظر: السلسلة الصحيحية ١٣٧.
1 / 20
قال ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا". ١
وأما ما ذكره هذا من مدحه نفسه وتزكيتها بدعوى العلم، وذمه المخالف وتجهيله فالعاقل مايغتر بذلك بل يقوم لله وينظر لنفسه ويتأمل ما يورده من الحجج ولا يقلد فإن التقليد لا يجوز ٢ في هذا الأصل العظيم.
قال وقد روى هذه القصيدة مع الهمزية جماعة من العلماء وشرحها بعضهم ولم يفهموا منها محذورا.
فنقول كما قال الأئمة الأعلام: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، وأيضا لا يلزم أن كل من روى كتابا أو قصيدة أن يكون مستصوبا لكل ما روى.
وذكر ممن روى البردة أبو حيان، والبيضاوي، والمحلي، وابن حجر العسقلاني، وكذا القسطلاني.
فيقال له: تفسير الثلاثة للقرآن موجود، وكذا شرح البخاري، هل تجد في شيء منها ما يمكن تشبيهك به على الناس بما يوافق دعواكم الباطلة من أن علم اللوح والقلم من علوم النبي ﷺ وأنه لا يخفى عليه شيء من أدواء القلوب كما في بيت الهمزية من قوله: وليس يخفى عليك في القلب داء، وأن الدنيا والآخرة من جوده ﷺ وأنه يطلب منه اليوم الإنقاذ من عذاب الله والألم، وأن ما جاز طلبه منه في حياته جاز طلبه منه بعد موته، وأن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بطلب حاجاتهم من الأموات والغائبين
_________
١ أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم ٨٠٤، وأحمد في المسند "١/ ٢٦٦"، والطحاوي في مشكل الآثار رقم ٢٣٥، وأبو نعيم في الحلية "٤ / ٩٩ "، وانظر: السلسلة الصحيحية رقم ١٣٩.
٢ في "ط" "لما يجوز".
1 / 21
وغير ذلك من دعاويكم الباطلة، ولن تجد في كتب المذكورين وغيرهم من العلماء المحققين إلا ما يبطل حجتك، بل يوجد في كلام كثير ممن ليس من أهل العلم المعروفين به شيء كثير تصديقا لقول النبي ﷺ: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". ١
قال المعترض: وعصر الناظم متقدم على عصر ابن تيمية ولم ينقل عن ابن تيمية الإنكار عليه.
قلنا: إن كان نظمه هذا قد بلغ الشيخ فهو ممن عنى بقوله: "والاستغاثة به ﷺ بعد موته موجودة في كلام بعض الناس مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان وأمثالهما. قال: وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم بل جروا على عادة كمن يستغيث بشيخه عند الشدائد ويدعوه"، وقد يكون البوصري وغيره ممن أراد بقوله وأمثالهما.
وقد صنف شيح الإسلام ﵀ كتابا في الرد على من جوز الإستغاثة بالنبي ﷺ وقرر أن ذلك من الشرك قال ﵀ "وقد طاف هذا بجوابه -يعني الذي أجاز فيه الاستغاثة به ﷺ على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه مع أن قوما كان لهم غرض وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط عصبيتهم وكثرة جمعهم وقوة سلطانهم ومكايد شيطانهم". انتهى.
فهؤلاء علماء مصر في ذلك الزمان لم يخالفوا ما كتبه الشيخ فعدم مخالفتهم دليل الموافقة لا سيما وحال أكثر أهل ذلك الزمان مع الشيخ ومخالفتهم له في أشياء غير ذلك معلومة، فلو رأوا لمخالفته في هذه المسألة
_________
١ أخرجه البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" حديث رقم ٧٣٢٠، ومسلم، كتاب العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى حديث رقم ٦٧٢٣.
1 / 22
مساغا لبادروا وأظهروا ذلك.
قال البغدادي معترضا على ما كتبناه على قول الناظم: فإن من جودك الدنيا وضرتها. قال: وهو قال لك إن الدنيا والآخرة لغير الله أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها أو منها، أو ليس كل الوجود لله وقد ملكه لعباده، فما هذا الاعتراض الفاسد.
قال: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله، وورد في البخاري أنه أكرم من الريح المرسلة، فماذا يضر لو كرم بما لربه ١ وهو حبيبه الأعظم. انتهى.
فنقول: هل يشك أحد في جوده ﷺ، فهو أجود الناس، وأجود من الريح المرسلة صلوات الله وسلامه عليه، والمعترض حرف قول الصحابي وهو ابن عباس في قوله ﵁: "فلرسول الله ﷺ حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ". ٢ فحرفه المعترض وقال إنه أكرم من الريح المرسلة. وقوله: أفلا يجوز أن الله يعطي الدنيا لأحد وهو يجود بها أو منها.
يعني أنه يجوز أن الله يعطي الدنيا كلها لإنسان، وذلك الإنسان يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وهذا لا يليق به سبحانه أن يجعل رزق العباد عند غيره بحيث يصير ذلك الغير هو مقصودهم الذي يرغبون إليه ويسألونه قضاء حوائجهم، ومقتضى قو ل الناظم فإن من جودك الدنيا وضرتها أنه ﷺ هو الذي جاد بهما لأن الله أعطاه ذلك ليجود به على عباده، بل مقتضى كلامه وإن لم يرده أن النبي ﷺ هو الذي جاد على أهل الدنيا بإعطائهم ما يحبون ويجود على أهل الجنة بها.
وقوله: أوليس كل الوجود له وقد ملكه لعباده.
_________
١ في "أ " و"ب " " بمال ربه ".
٢ أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: ٥ حديث رقم ٦. ومسلم، كتاب الفضائل، باب: كان النبي ﷺ أجود الناس بالخير من الريح المرسلة ٠٠ حديث رقم ٥٩٦٤.
1 / 23
فهذا كلام باطل؛ لأن الوجود يتناول كل موجود من ذلك الجنة والنار والسماء والأرض والعرش والكرسي والحجب وغير ذلك من العالم العلوي والسفلي مما لا يعلمه إلا الله، ولم يملكه لأحد من عباده، بل لم يملك من الوجود إلا النزر القليل.
قوله: وقد ورد أن الدنيا والآخرة خلقتا لأجله ١ ﷺ.
فهذا حديث لا يصح، والله سبحانه قد أعلمنا بالحكمة في خلق هذه المخلوقات كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي﴾ [الذاريات: ٥٦] . وقال تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧] . وقال تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك:٢] . وقال تعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢] .وقال تعالى ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:٩٧] . فأخبر الله سبحانه بالحكمة في خلق هذه الأشياء، وأنه إنما خلقها لحكم التي ذكرها لا لأجل أحد من عباده، مع أن هذا الحديث لو صح لم يكن فيه حجة ولا شبهة يستأنس بها لما ادعاه، مع أنه أكرم الخلق على ربه وأقربهم إليه وسيلة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، لكنه نهى عن الغلو فيه فقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" ٢.
_________
١ يشير إلى ما أخرجه الديلمي وابن عساكر بلفظ "لولاك ما خلقت الجنة ولولاك ما خلقت النار". وفي رواية ابن عساكر: "لولاك ما خلقت الدنيا". وهو حديث موضوع كما قال السيوطي في اللآلىء "١ / ٢٧٢﴾ والعلامة الألباني في السلسلة الضعيفة"١ / ٤٥١ ".
٢ تقدم تخريجه ص ٢٠.
1 / 24
وقول المعترض: فماذا يضره لو كرم بما لربه.
مقتضى هذه العبارة أنه يتصرف في خزائن الرب سبحانه، لأن التصرف والتكرم بما في يده ليس مختصا به ﷺ، لأن كل أحد يتصرف فيما أعطاه الله وملكه، والنبي ﷺ إنما يتصرف فيما في يده يضعه حيث أمره ربه. قال ﷺ: "إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع كما أمرت" ١
وقال: في حكم الزكاة: "إن الله لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء ". ٢
وقول الناظم: إن من جودك الدنيا وضرتها: أي من عطائك وإنعامك وإفضالك الدنيا والآخرة، وهذا كلام لا يحتمل تأويله بغير ذلك، ووازن بين قول الناظم من جودك الدنيا وضرتها وبين قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا﴾ [الجن:٢١] . وقوله: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ [الأنعام: ٥٠] .
قال ابن كثير ٣ "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله أي خزائن رزقه فأعطيكم ما تريدون "ولا أعلم الغيب" فأخبركم بما غاب ممامضى وما سيكون "ولا أقول لكم إني ملك"؛ لأن الملك يقدر على ما لا يقدر عليه الآدمي ويشاهد ما لا يشاهده الآدمي.
وقوله تعالى ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٨] .
_________
١ أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب: قول الله تعالى: "فأن لله خمسه وللرسول" حديث رقم ٣١١٧ عن أبي هريرة ﵁.
٢ أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب من يعطي من الصدقة، وحد الغنى حديث رقم ١٦٣٠،وضعفه العلامة الألباني كما في الإرواء رقم ٨٥٩.
٣ كذا في جميع النسخ والصحيح أن هذا كلام البغوي – رحمه الله تعالى – إلى قوله "الآدمي"، ينظر: "البغوي وابن كثير " "٣ / ٣١٢ – ٣١٣".
1 / 25
قال ابن كثير: أمرا لله نبيه أن يخبر بتفويض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل إلا ما أطلعه الله عليه كما قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦،٢٧] . فإنه يطلعه على من يشاء من غيبه. قال: والأحسن في قوله: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ﴾ [الأعراق:١٨٨] . ما رواه الضحاك عن ابن عباس "لا ستكثرت من الخير " أي من المال، وفي رواية لعلمت إذا اشتريت رخيصا ما أربح فيه فلا أبيع شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر. وقال ابن جرير – رحمه الله تعالى -: وقال آخرون معنى ذلك ولوكنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من السنة المخصبة ولوقت الغلاء من الرخيص. وقال ابن زيد-﵀: ﴿وما مسني السوء﴾ لا اجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ١. وقال تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران:١٢٨] .
قال المعترض على ما كتبناه على قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم. فقال: قد قال الشراح: المراد باللوح ما يكتب فيه الناس، وبالقلم ما يكتبون به. قال: ويحتمل أن يكون المراد باللوح اللوح المحفوظ ولا يلزم على هذا الاعتراض الذي قاله هذا الرجل لأن مراده علم اللوح غير الفواتح الخمس. قال على أن قوله علم اللوح، الإضافة فيه جنسية أي بعض علم ما في اللوح، والجنس يصدق على بعض الأفراد -إلى أن قال-: بل ولو لم نقل هذا لم يلزم هذا الاعتراض؛ لأن فواتح الغيب الخمس لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ، بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح -إلى أن قال-: فتبين من هذا أن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ بل هي أصل اللوح. انتهى.
قوله: إن الشراح قالوا المراد باللوح ما يكتب فيه الناس وبالقلم مايكتبون به.
_________
١ انتهى كلام ابن كثير ﵀.
1 / 26
فيقال: هذا بعيد من مراد الناظم ومن مقتضى لفظه لأن أل في اللوح والقلم للعهد الذهني، لا يقع في ذهن السامع غير اللوح المحفوظ والقلم الذي جرى بالمقادير وكونه بعيدا من مراد الناظم في هذه الحال لأنه بالغ في مدح النبي ﷺ وإطرائه، فلما وصفه بكون الدنيا والآخرة من جوده فتعدى في وصفه بالجود ناسب أن يصفه بسعة العلم، ولو أراد أقلام الناس لم يخص الألواح بل يأتي بلفظ يعم ما يكتبون فيه من لوح وقرطاس وغيره. وأيضا فالناس يكتبون بأقلامهم الحق والباطل، ويكتبون الكفر والسحر والشعر وجميع العلوم الباطلة مما ينزه الرسول ﷺ عن إضافته إليه، ويكتبون بعد موته ﷺ الرسائل والمداينات وغير ذلك مما يقع في غد وذلك من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقد قالت عائشة أم المؤمنين ﵂: "من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ . ١
وقوله: ويحتمل أن المراد اللوح المحفوظ، ولا يلزم على هذا اعتراض المعترض لأن المراد علم اللوح غير الفواتح الخمس. إلى قوله: وهذه الفواتح لا يلزم أنها في اللوح المحفوظ بل هي في أم الكتاب وهي غير اللوح. إلى قوله: فتبين بهذا أن أم الكتاب غير اللوح بل هي أصل اللوح.
لم يذكر ما يبين ذلك وإنما هو مجرد دعوى كاذبة. وذكر ما ذكره البغوي عن عكرمة عن ابن عباس، قال: هما كتابان سوى أم الكتاب. وهذا حجة عليه لأنه ذكر كتابين غير أم الكتاب بل كلامه يدل على أن اللوح الذي ذكر صفته هو أم الكتاب لأنه لما ذكره قرأ ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩] . فالظاهر أن هذا إشارة إلى أن هذا اللوح الذي وصفه هو أم الكتاب، لم يقل إن اللوح المحفوظ غير أم الكتاب. وما ذكره عن عطاء عن ابن عباس لم يقل
_________
١ أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب معنى قول الله ﷿: ﴿ولقد رآه نزلة أخرى﴾ حديث رقم ٤٣٨.
1 / 27
فيه إن اللوح المحفوظ غير أم الكتاب. والمعترض يرى أن البغوي قد جزم عند قوله سبحانه: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ بأن أم الكتاب هي اللوح المحفوظ. وقال البغوي أيضا في قوله سبحانه: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج:٢١،٢٢] قال هو الذي يعرف باللوح المحفوظ وهو أم الكتاب ومنه تنسخ الكتب، محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وقال أيضا في قوله ﷾ ﴿وَإِنَّهُ﴾ يعني القرآن ﴿في أُمُّ الْكِتَابِ﴾ في اللوح المحفوظ. قال قتادة -رحمه الله تعالى-: أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله. قوله
﴿لدينا﴾ أي القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج:٢١،٢٢] . وقال البغوي أيضا في قوله سبحانه: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس:١٢] . هو اللوح المحفوظ. وقال الواحدي ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ [الزخرف:٤] .أي في اللوح المحفوظ. قال الزجاج: أم الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شيء أمه. قال: والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢١،٢٢] وقال الواحدي على قوله:
﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ عند الله وهو أم الكتاب منه نسخ القرآن والكتب وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان.
وقال ابن كثير ﵀: ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي القرآن ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ أي اللوح المحفوظ قاله ابن عباس ومجاهد ﴿لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ وقال في قوله –سبحانه-: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ أي وجميع الكائنات مكتوب مسطور في لوح محفوظ. والإمام المبين هنا هو أم الكتاب قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. انتهى.
وقال البيضاوي ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه. وقال في قوله سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ
1 / 28
فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ في اللوح المحفوظ فإنه أصل لكل الكتب السماوية ﴿لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ .
وقال النسفي: أم الكتاب أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب
فيه. انتهى.
والمراد بذكرنا كلام المفسرين -رحمهم الله تعالى- وبيان إجماعهم على أن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب وهو نص حديث عمران بن حصين الآتي قال: " وكتب في اللوح المحفوظ كل شيء " ١ تبين كذب هذا وجراءته في جزمه بأن أم الكتاب غير اللوح المحفوظ مع أن هذا لا ينفعه لو سلم له لأن الكل جرى به القلم فيدخل في قول الناظم: ومن علومك علم اللوح والقلم.
وقوله: إن الإضافة في قوله علم اللوح والقلم جنسية أي بعض علم ما في اللوح والجنس يصدق على بعض أفراده.
فيقال علم بعض ما في اللوح لا يختص به ﷺ بل يشاركه في ذلك غيره من الأنبياء وغيرهم من آحاد الناس من كل من علم شيئا مما جرى به القلم، مع أنه لا يصح حمل كلام الناظم على ذلك ولا يحتمله، لأنه قال ومن علومك علم اللوح والقلم. " فمن " في كلام الناظم للتبعيض فمقتضى اللفظ أن علم اللوح والقلم بعض علومك، وزعم بعض المنازعين أن من في قول الناظم من جودك ومن علومك إلخ، أنها لبيان الجنس، وبينا غلطه في جوابنا السابق، ولو سلم أنها لبيان الجنس مع أنها لا تصلح لذلك فالمعنى على ذلك أن علومك هي عين علم اللوح والقلم لا تقصر عنها لأن هذا هو معنى من البيانية. وكلام الناظم خطأ على كلا التقديرين، ومما يبين أن مراد الناظم إحاطة النبي ﷺ بعلم الغيب قوله في الهمزية في حق النبي ﷺ: وليس يخفى عليك في القلب داء. فوصفه ﷺ بالعلم بجميع أدواء القلوب
_________
١ أخرجه الإمام أحمد في المسند "٤ / ٥٧٨ "
1 / 29
وعللها لأن قوله داء نكرة في سياق النفي فتعم جميع ما احتوت عليه القلوب، وهذا مما اختص به الرب سبحانه قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه:٧] وقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] . وقال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [التغابن: ٤] . والآيات في هذا كثيرة معلومة وقد قال ﷾ في آخر ما نزل من القرآن: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة:١٠١] .
وقال: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال:٦٠] .
وقال النبي ﷺ: " إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ". ١
قال القاضي عياض في الشفا على هذا الحديث: وتجرى أحكامه ﵇ على الظاهر، ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته -إلى أن قال-: وكل ذلك من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فيعلمه منه ما شاء ويستأثر بما شاء، ولا يقدح هذا في نبوته، ولا يفصم عروة من عصمته ٢، وخفي عليه ﷺ حال أهل الإفك حتى جاءه الخبر من الله، ويخفى عليه ﷺ أمور كثيرة يطول عدها، حتى يأتيه الوحي بخبرها.
وقال ﷺ: " إنه سيجاء برجال من أمتي يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " ٣
_________
١ أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب: من أقام البينة بعد اليمين حديث رقم ٢٦٨٠، ومسلم، كتاب الأقضية، الحكم بالظاهر واللحن والحجة حديث رقم ٤٤٤٨.
٢ سقطت "ولا يفصم عروة من عصمته " من "ب ".
٣ أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، سورة الأنبياء، باب "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا " حديث رقم ٤٧٤٠.
1 / 30
ثم قال المعترض: وهو -أي الناظم- أثبت للنبي ﷺ علم اللوح والقلم، ومراده بتعليم الله له.
ثم قال بعد ذلك: ما المانع أن يكون من علوم النبي ﷺ علم اللوح والقلم.
فالعجب من تناقض هذا المبطل، ادعى أولا أن المراد باللوح والقلم ألواح الناس وأقلامهم، ثم ادعى أن الإضافة جنسية، ثم اعترف بأن الناظم أثبت للنبي ﷺ علم اللوح والقلم، ثم قال: فماالمانع أن يكون من علوم النبي ﷺ علم اللوح والقلم.
قال: وهذا الذي قررناه بناء على أن الله تعالى يطلع نبينا وغيره على الخمس.
قال: فهناك نقول من أطلعنا على كلامه.
وذكر أشياء ليس فيها ما يستأنس له به فضلا عن أن يكون حجة، وإنما أكثر من النقول للتمويه والترويج على الجهال، ومنها ما هو حجة عليه كنقله عن شرح المشكاة لعلي القاري على قوله ﷺ: "مفاتح الغيب خمس" ١ أي لا يعلم تفصيله إلا هو ولا يعلم مجمله بحسب خرق العادة إلا من قبله.
وقال في شرح قوله: ﴿في خمس لا يعلمهن إلا الله﴾ فإن قلت قد أخبر الأنبياء بكثير من ذلك فكيف الحصر، قلت الحصر، باعتبار كلياتها دون جزئياتها، قال تعالى ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: ٢٦،٢٧] . انتهى.
وهذا حجة عليه لأننا لا ننكر أن الله يطلع الأنبياء على أشياء من الغيب معجزة لهم ويكشف لبعض أتباعهم شيئا من ذلك كرامة لهم، وإنما ننكر القول بأن محمدا ﷺ يعلم جميع ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ.
ومن ذلك مفاتح الغيب الخمس، وأنه ﷺ يعلم جميع ما احتوت عليه القلوب بقوله: وليس يخفى عليك في القلب داء.
_________
١ أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب: لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، حديث رقم ١٠٣٩.
1 / 31