صريحٌ في اعتبارِ الاجتهادِ؛ لأنَّ العِلْمَ المكتسَبَ إنما يكونُ بالاستنباطِ، وذلك موافقٌ لقولِهِم: الفقيهُ: المُجْتَهِدُ ... إلى آخرِهِ، فلم يَشْتَرِطُوا في الفقيهِ ما ليسَ شرطًا في الفِقْهِ، ثمَّ قولُه: فما قالُوا: الفقيهُ: العالمُ بالأحكامِ. ممنوعٌ؛ فقد قالَ الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرَازِيُّ في كِتَابِهِ المسمَّى (بالحدودِ والحقائِقِ): الفقيهُ: مَن له الفِقْهُ، فكلُّ مَن له الفقهُ فهو فَقِيهٌ، ومَن لا فِقْهَ له فليسَ بفقيهٍ. وقيلَ: الفقيهُ هو: العالِمُ بأحكامِ أفعالِ المكلَّفِينَ التي يَسُوغُ فيها الاجتهادُ. هذا كلامُه، والأحسنُ طريقةً الشيخُ وابنُ بُرْهَانَ وغيرُهما: أنَّ أصولَ الفقهِ الأدلَّةُ، وكيفيَّةُ الاستدلالِ خاصَّةٌ؛ ضرورةَ أنَّ المُسْتَدِلَّ إذا كانَ غيرَ عالِمٍ بِمُقَدِّمَاتِ الدليلِ، أو بما يَتَرَتَّبُ عليه الدليلُ، لم يُتَصَوَّرْ أنْ يكونَ عالِمًا بالدليلِ، وأمَّا حالَ المستفيدِ فليسَ من مُسَمَّاهُ؛ ولهذا قالَ الشيخُ تَقِيُّ الدينِ: لو اقْتَصَرَ على الدلائلِ وكيفيَّةِ الاستفادةِ منها، لَكَفَى، ويكونُ حالُ المستفيدِ كالتابِعِ والتَّتِمَّةِ، لكِنْ جَرَتِ العادةُ بإدخالِهِ في أصولِ الفقهِ وَضْعًا، فأُدْخِلَ فيه حَدًّا.
قلتُ: ولو قيلَ: إنَّ المرادَ بمعرفةِ الدلائلِ مَعْرِفَتُها في نفسِها، ومعرفةُ أقسامِها، والعلمُ بأحوالِها التي لا بُدَّ مِنها في معرفةِ الأحكامِ الشرعيَّةِ - لكَفَى الاقتصارُ على الدلائلِ؛ كما فَعَلَ المصنِّفُ معَ التوفِيَةِ بطريقِ الجمهورِ. وقد أُورِدَ على المصنِّفِ أنَّه إذا كانَ الأُصُولُ عندَه الأدِلَّةَ، لَزِمَ أنْ يكونَ الأُصُولِيُّ العارِفَ بها، فحينَئذٍ فزيادةُ: (طُرُقِ اسْتفادتِها ومُسْتَفِيدِها) غيرُ محتاجٍ إليه، وأجابَ بأنَّ الأُصُولَ: نفسُ الأدلَّةِ، لا مَعْرِفَتُها، وأمَّا الأُصُولِيُّ: فهو المُتَلَبِّسُ بتلكَ الأدِلَّةِ؛ أي: العارِفُ بها، غيرَ أنَّ العِرْفَانَ لا يَتَهَيَّأُ إلاَّ لِمَن عَرَفَ طُرُقَ الاستفادةِ والمُسْتَفِيدِ؛ لأنَّ للمعرفةِ شُرُوطًا لا
1 / 129