التي يُؤَدِّي الاستدلالُ بها إلى معرفةِ الأحكامِ. انْتَهَى.
ويُمْكِنُ رَفْعُ الخلافِ؛ فإنَّه كما يَتَوَقَّفُ الفِقْهُ على هذه الحقائقِ يَتَوَقَّفُ على العِلْمِ بها، فيَجُوزُ حينَئذٍ إطلاقُ أصولِ الفقهِ على الأدلَّةِ نفسِها، وعلى العلمِ بها، لكِنَّ إطلاقَه على نفسِ الأدلَّةِ أَوْلَى؛ لأنَّ الغرضَ ما يُسْتَنْبَطُ منه الأحكامُ، لا العلمُ بتلك الطرقِ، نَعَمْ يَنْبَغِي تخريجُ خلافٍ في أنَّ الفقهَ هل هو مدلولُ تلك الأدلَّةِ أو العلمُ بالمدلولِ من الخلافِ الكلاميِّ، فيما إذا أَقَمْنَا دليلًا على حدوثِ العالَمِ مثلًا، فهل المدلولُ حُدُوثُ العالَمِ أو العلمُ بحدوثِ العالَمِ؟ والصحيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّ حدوثَ الأكوانِ دالٌّ على حدوثِ الجواهِرِ، سواءٌ أَنَظَرَ الناظِرُ أم لا، والدليلُ مُرتبِطٌ بالمدلولِ؛ نَظَرَ الناظِرُ أم لا، وهذا الخِلافُ قيلَ: إنَّه لَفْظِيٌّ؛ إذ لا يَصِحُّ ثُبُوتُ العلمِ دونَ المعلومِ.
الثانيةُ: جَعْلُه (الإجماليَّةَ) قَيْدًا (للأَدِلَّةِ)، والأَشْبَهُ - كما قَرَّرَهُ والِدُه - أنَّه قَيْدٌ (للمعرفةِ)؛ فإنَّ أدلَّةَ الفِقْهِ لها جِهَتَانِ: إحداهما: أعيانُها، والثانيةُ: كُلِّيَّاتُها، فلَيْسَتِ الأدلَّةُ تَنْقَسِمُ إلى ما هو إجماليٍّ غيرِ تَفصيليٍّ، أو تفصيليٍّ غيرِ إجمالِيٍّ، بل كلُّها شيءٌ واحدٌ لها جهتانِ، فالأُصُولِيُّ يَعْلَمُه مِن إِحْدَى الجِهَتَيْنِ، والفقيهُ يَعْلَمُه مِن الجِهَةِ الأُخْرَى، نَعَمْ يَصِحُّ أيضًا جَعْلُها قَيْدًا (للأدلَّةِ) باعتبارِ أنَّ لها نِسْبَتَيْنِ، فهي باعتبارِ إحداهما، غيرُها باعتبارِ الأُخْرَى.
الثالثةُ: المرادُ بالأدلَّةِ الكتابُ والسنَّةُ والإجماعُ والقياسُ والاستدلالُ، وقالَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والغزاليُّ: ثلاثةٌ فقطْ، وأَسْقَطَا القياسَ والاستدلالَ، فالإمامُ بَنَاهُ على أنَّ الأدلَّةَ لا تَتَنَاوَلُ إلاَّ القَطْعِيَّ، فلَزِمَ إخراجُ القياسِ مِن أُصُولِ الفِقْهِ، ثمَّ اعْتَذَرَ عن إدخالِهِ فيه بِقِيَامِ القاطِعِ على العملِ به، والغزاليُّ خَصَّ الأدِلَّةَ بالمُثْمِرَةِ للأحكامِ،
1 / 126