فهي مرحلة الفناء الكامل بوصول النفس إلى مرتبة شهود الحق بالحق، وانكشاف العوالم الخفية والأسرار الربانية وتوالي الأنوار واللذة الروحانية.
وتلك المرحلة هي مرحلة الخطر، ومن أجلها نشبت المعارك، وأن يتذوق التصوف ثم يدرس أخلاقيات الغزالي فيتذوق نبل رسالته الأخلاقية وجلال شأنها.
وإن كان رجال التربية وأساتذة الفكر المثاليين يفكرون اليوم في إيجاد طبقة من الإنسانية ممتازة كاملة الرجولة قوية الحيوية سامية الخلق والفكر متلائمة التناسق ممن أطلقوا عليها اسم «سوبر مان»، أي الرجل الكامل أو الخلق الكامل، فقد وضع الغزالي منذ قرون الصورة الحقيقية التامة لهذا النوع الممتاز من البشرية السعيدة الطاهرة.
فإن المبادئ الأخلاقية النبيلة التي وضعها الغزالي وشرطها للمؤمن لجديرة بإيجاد مجتمع إنساني ملائكي فاضل سليم من الضغن والتنازع، بعيد عن الفحش والرذيلة.
وإن النظم التي سنها الغزالي ووضعها للمجتمعات وطرق اتصالها وتعاملها وعوامل اتحادها ومحبتها، لخليقة بإنشاء دولة أو عصبة من الأمم عالمية متحابة متعاونة متفانية في فضيلة واحدة، تهدف نحو وجهة عليا يرفرف عليها علم المحبة ويوحدها قانون الأخوة ويسعدها السلام الدائم للروح والقلب والأحاسيس.
ورسالة الغزالي الأخلاقية هي تطهير الجوارح تطهيرا كاملا عما يلوثها بين الفقهاء والصوفية، ومنها نشأ التيه لكثير من الصوفية؛ لأن من تزل قدمه هنا ضاع إلى الأبد.
وتلك المرحلة لا تكتب ولا توصف، لأنها خارجة عن نطاق التصور العقلي، والغزالي وهو علم الصوفية وكاتبها الأكبر لم يتعرض لها ولم يشغل قلمه بها، وإن كان لم ينكرها، بل تركها لأصحابها وأربابها.
ولكنه جال وأفصح في المراحل الثلاث السابقة ونثرها في كتبه نثرا أشبه بالنور والعطر، واستمد منها روعة أسلوبه وروعة تهذيباته وروعة مبادئه التي جعلت من الحياة محرابا أعظم لعبادة الله ودعوة عباده إلى الهدى والرشاد.
وقد تخصص الغزالي لآداب التصوف تخصصا جعله نسيج وحده بين رجال الفكر الإسلامي؛ فقد مزج الشريعة بالتصوف، كما مزج العبادات بروح من التصوف أطلق فيها النور والروح إطلاقا يبعث في القلب نشوة الإيمان ورعشة الخوف وفرحة الحس المطمئن إلى واجبه المقدس.
ودارس الأخلاق عند الغزالي، لا بد أن يدرس التصوف.
Bilinmeyen sayfa