وبرنارد شو يدرس جسمه ويحاول أن يصوغه كما لو كان كتابا يؤلفه، وهو كثير التفكير في التعمير، وقد ألف درامة في هذا الموضوع يقول فيها: إن أعمارنا المألوفة قصيرة، وإننا نترك الدنيا أطفالا لما نتعلم، ولما نستمع، ولما نصل إلى الحكمة، وإننا على الأقل يجب أن نعيش ثلاث مئة سنة، نقضي المئة الأولى في التعلم، والمئة الثانية والثالثة في الاستمتاع والتفكير الناجع، كما أنه يرى أن الإنسان عندما يحقق هذه السن سوف يعمد إلى إصلاح هذه الدنيا وإحالتها إلى فردوس؛ لأن إقامته المديدة عليها ستضطره إلى ذلك حتى يهنأ بعيشه فيها ولا يسأمها.
وقد يكون في الخبز الأسمر؛ أي: الرغيف الكامل الذي لم ينخل شيء من دقيقه، بعض المميزات، كما أن التزام النباتات ينقص الأحماض التي تؤذي الجسم، كما قد يكون في النافذة المفتوحة وفرة من الأكسجين تجددنا وقت النوم، ويضاف إلى ذلك اللبن ومشتقاته، وقيمتها كبيرة.
ولكن هذا النظام وحده ليس كل شيء في حياة برنارد شو، فقد يتبعه آخر ثم لا يبلغ التسعين حتى يكون قد خرف لاختلال قواه العقلية، على الرغم من صحة الجسم، ولكن الميزة الأولى لبرنارد شو هي أنه لا يزال يعيش في عنفوان الحياة الذهنية، والسبب في ذلك أنه احترف الأدب والفهم والتفكير، وكلمات اللغة موفورة عنده، وهي تحمل المعاني التي يدأب الدماغ في استنباطها وتوليدها، ومن هنا حيوية ذهنه التي تسمو على حيوية جسمه.
وهذه الحياة الذهنية القوية التي يحياها هذه الأيام هي التي تجدد شبابه، وتحفزه على التفكير في المستقبل بدلا من الحنين إلى الذكريات القديمة، كما هو شأن المسنين العاديين، وهي التي تملؤه تفاؤلا على الرغم من الكوارث العالمية المحيطة.
فلتكن لكل شاب عبرة في حياة برنارد شو الذهنية وآماله الروحية كما في نظام معيشته المادية.
الفصل السابع والسبعون
يجب أن ننسى الماضي
هناك فرق أصيل بين الرجل الناجح والرجل الخائب، فإن الأول يفكر للمستقبل، ويتربص للفرص، ويجعل آماله برامج وبرامجه حقائق، وهو يحلم في يقظته ويرى رؤيا لشخصه، فما يزال يحاول تحقيقها حتى تتحقق، وهو يتخلص من ماضيه، فلا يذكر أن هذا الصديق قد أساء إليه، وأن هذا القريب قد غشه، وأنه كان يكون ثريا عظيما أو متعلما لو لم يخطئ أخوه أو أبوه أو نحو ذلك.
ومعنى هذا أن ميدان نشاطه هو المستقبل، وهو ينحي عنه الماضي، ويستمتع بحاضره، ويعمل لمستقبله في مرح وطرب وتفاؤل.
ولكن الرجل المخفق يذكر ماضيه، لا، بل هو يستذكره ويدرسه، كأنه قد فرض عليه أن يقف في محكمة للشهادة عن حوادثه، فهو يذكر لك قصصا عن أولئك الذين غدروا به، وعن حماته التي أفسدت حياته الزوجية، وعن ابنه الذي تجرأ عليه، وعن صديقه الذي اقترض منه ثم لم يرد القرض، وهو إنما يستذكر كل هذه الحوادث وأمثالها؛ لأنه يتمحل بها لإخفاقه ويبرر بها ركوده، وهو في كل هذه الذكريات متشائم، حزين، حالك في حزنه، كأن الدنيا مسئولة أمامه قد وقفت في القفص ليحاكمها.
Bilinmeyen sayfa