ونحن نعيش بإحساسنا أكثر مما نعيش بعقولنا، ونحتاج إلى تربية السنين حتى يستحيل أحدنا من المادة البشرية الخامة، والضمير الغشيم، إلى العقل المفكر والإنسانية العالية، وعندئذ يكون لوقع المجاعة في الصين، أو إلقاء القنابل على النائمين، ذلك الوقع الذي نجده عندما نرى غلاما يمزقه الترام أو يتضور جوعا.
ونستطيع أن ننتقل إلى معنى آخر ليس من هذه المعاني التي ذكرنا ولكنه ينساق معها، ذلك أننا نخجل إذا طلب إلينا دائننا قضاء دينه وعجزنا، ونخجل إذا قيل إننا نماطل في أداء ديوننا؛ لأن الإحساس هنا شخصي حسي، ولكن هناك آلافا لا يخجلون ألا يؤدوا ديونهم للحكومة؛ أي: الضرائب التي تفرض عليهم، ذلك أن الحكومة ليس لها كيان شخصي وإحساسنا نحوها ليس حسيا؛ إذ هي لا ترى بالعين ولا تحس بحاسة أخرى فضمائرنا نحوها غشيمة.
ولكن الضمير المهذب الذي يعتمد على العقل يعرف أن حق الحكومة عليه لا يختلف عن حق أي دائن شخصي آخر، وهو لذلك يؤدي الضريبة راضيا، بل يطلب زيادتها؛ لأن الضريبة هي في النهاية الثمن الذي ندفعه كي نحصل على التمدن؛ أي: الأمن والصحة والتعليم والرفاهية.
وهناك في إنجلترا شيء يسمى «فلوس الضمير» وهو يبلغ عشرين مليون جنيه كل عام في قسم الإيرادات من الميزانية، ذلك أن الجابي، الذي يحاسب الممول الإنجليزي يسهو عن أشياء كانت تستحق الجباية، فإذا انتهى من حسابه وحصل على حق الحكومة عاد الممول إلى المراجعة، فإذا وجد أن هذا الجابي قد أغفل شيئا عمد هو ونزعه من ماله وأرسله إلى الحكومة.
وهذا إحساس سام يجب أن يتصف به الرجل المهذب في الأمة الراقية، وعلى كل منا أن يذكره ويعمل به، إحساس العقل المهذب الذي يرتفع برؤية الدنيا من خلال العقل والفهم، وليس من خلال الحواس الخمس.
الفصل الثاني والتسعون
نحو المستقبل
أكتب هذه الكلمات وأمامي صورة لبقرة جيرزية من ذلك البقر الذي جلبته كلية أسيوط الأمريكية، وهذه البقرة وحدها تدر في اليوم الواحد 63 رطلا من اللبن؛ أي: أن هذه البقرة تستطيع أن تغذي اثنتين وثلاثين عائلة مصرية باللبن باعتبار أن كل عائلة تحتاج إلى رطلين فيهما غذاء للأطفال ودواء للصغار والكبار؛ لأن اللبن كما هو معروف يحتوي على جميع الفيتامينات التي لا يمكن لحي - إنسانا كان أم حيوانا - أن يعيش بدونها.
وقد استطاعت هذه الكلية أن تستحدث سلالات جديدة من البقر المهجن؛ أي: النتاج الذي ينشأ من عجول جيرزية وأبقار مصرية، وكان الإدرار عاليا لم ينقص بالتهجين، وتستطيع الحكومة، كي تزيد مقدار اللبن في مصر عشرة أضعاف المقدار الحاضر، وكي تخفض الثمن إلى النصف أو الثلث أيضا، أن تستورد ثلاثة أو أربعة آلاف بقرة ونحو مئتي عجل من هذه السلالة الجيرزية، تهجن به بقرنا، ولا يكلفنا كل هذا أكثر من مليون جنيه، ننفقه في هذا الخير الذي يعمم لنا الصحة والغذاء.
وهذه الكلمات التي أكتبها عن الأبقار الجيرزية في أسيوط تحرك في نفسي أشتاتا من العواطف، فاني آسف؛ لأننا لا ننشط إلى شرائها وتوزيعها بأثمانها أو بنصف أثمانها، ولكني أيضا أحس أن الخيال يستطيرني، فإن هذه البقرة الجيرزية لم تعد حيوانا، وإنما هي مصنع كيماوي لإحالة المادة النباتية إلى لبن وقشدة وزبد وجبن، لا بل أكثر من ذلك، فإن البقرة الحديثة قد أخذت بعادات عصرية لم تكن تعرفها أمها أو جدتها، ذلك أنها أصبحت تدر اللبن دون أن تحمل أو تلد، فإن حقنة من الإستروجين تغنيها عن تعب الحمل والولادة، فتتضخم الضرة وهي لا تزال عذراء، ثم تعطينا من اللبن كما لو كانت قد حملت وولدت .
Bilinmeyen sayfa