آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (١٣)
طريق الهجرتين وباب السعادتين
تأليف
الإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(٦٩١ - ٧٥١)
حققه: محمد أجمل الإصلاحي
خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري
إشراف
بكر بن عبد اللَّه أبو زيد
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
راجع هذا الجزء
سعود بن عبد العزيز العريفي
علي بن محمد العمران
المقدمة / 3
مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية
حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية
الطبعة الأولى ١٤٢٩ هـ
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
مكة المكرمة ص. ب ٢٩٢٨ هاتف ٥٥٠٥٣٠٥ فاكس ٥٥٤٢٣٠٩
الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
المقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد للَّه رب العالمين، القائل في كتابه الحكيم: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)﴾ [المائدة/ ١٥ - ١٦]. والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه في الأميين، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم؛ فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمة. ومضى إلى ربه محمودًا بعدما أقام الدين، وترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعد، فإن كتاب "طريق الهجرتين وباب السعادتين" للإمام ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى لكتاب نفيس نادر في بابه. فقد وضعه لبيان قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على الطريقة التي شرعها اللَّه ورسوله ﷺ. والمقصود بالهجرتين -كما فسَّر المؤلف في مقدمة هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى- هجرة العبد إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والتوكل والعبودية، وهجرته إلى رسول اللَّه ﷺ بمتابعته والتأسِّي به في كل شأن من شؤون حياته من عقائده وعباداته ومعاملاته. وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين لا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما.
ولا تخفى أهمية الهجرتين المذكورتين في باب الإحسان وتزكية النفس والسير إلى اللَّه. فإنّ الصوفية منذ أن جعلوه سرًّا مكتومًا، زاعمين أنه علم خصّ به النبي ﷺ بعض أصحابه، ثم حكَّموا فيه الذوق
المقدمة / 5
والوجدان والكشف والإلهام = فتحوا بابًا واسعًا للزيغ والانحراف والتأويل والتحريف. ثمّ تعدَّوا إلى تقسيم الدين إلى شريعة وطريقة، وعلم الظاهر وعلم الباطن، وقرّروا أن الأول حجاب دون الآخر، حتى صار التصوف في بعض صوره دينًا مناهضًا لدين رسول اللَّه ﷺ.
ومن ثم لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحبه الإمام ابن القيم رحمهما اللَّه ليصرفا النظر، في المهمة العظيمة التي قاما بها لإصلاح الأمة وتجديد معالم الدين، عن الردّ على مزاعم الصوفية، والكشف عن انحرافاتهم، وبيان هدي النبي ﷺ في التزكية والإحسان.
وقد أوتي الشيخان الربّانيّان قدرةً عجيبةً على الخوض في غوامض علوم العارفين ودقائق أحوالهم والكلام عليها. وذلك لما فتح اللَّه عليهما من علوم الكتاب والحكمة، ثم وفقهما للظهور على معارج العبودية والإشراف على مقامات الإحسان. ومن هنا أصبحت كتابات الشيخين في التصوف والسلوك، الجامعة بين خطر الموضوع، وسلفيّة المنهج في التمسّك بالكتاب والسنّة دون تحيّز لأحدٍ كائنًا من كان، وقدرةٍ على الخوض في الدقائق، وقوّة البيان ووضوح التعبير = أصبحت منظومةً نادرةً في المكتبة الإسلامية الزاخرة.
ومن أجلّ تلك الكتب كتابنا هذا. وقد افتتحه ابن القيّم ﵀ "بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلّا منه". ثم تكلم على قواعد نافعة منها قاعدة في الإنابة ودرجاتها، وقاعدة في الابتلاء، وقاعدة في ذكر طريق قريب موصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وقاعدة في أقسام العباد في سفرهم إلى الدار الآخرة. وختم الكتاب بباب جامع في مراتب
المقدمة / 6
المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها.
وقد تطرّق الكلام في أثناء البابين والقواعد إلى مباحث عظيمة ومسائل مشكلة اقتضت أهميتها إشباع القول فيها، كمبحث القضاء والقدر الذي استغرق أكثر من مائتي صفحة. ولكن أهمّ أقسام الكتاب وأنفسها -وهو من صميم الموضوع فلا يعدّ استطرادًا- هو القسم الذي تكلم فيه المؤلف ﵀ على علل مقامات السلوك. وقد اختار لبيان غلط المشايخ في هذا الباب كتاب محاسن المجالس لأبي العباس ابن العريف الصنهاجي من أكابر صوفية الأندلس. فتناوله فصلًا فصلًا بالنقد والنقض، وبيّن ما له وما عليه، فتكلم على ما قاله في منزلة الإرادة مثلًا، من اثني عشر وجهًا، وعلى التوكل من خمسة عشر وجهًا، وعلى الخوف من ثلاثة عشر وجهًا، وهكذا.
ومما يستغرب أن المستشرق الإسباني الذي نشر محاسن المجالس في باريس سنة ١٩٣٣ م لم يكن على علم بنقد ابن القيم إياه في طريق الهجرتين، مع كونه مطبوعًا قبل المحاسن بأكثر من ثلاثين سنة.
وقد صدرت أول طبعة من كتابنا عن المطبعة الميمنية سنة ١٣٢٠ هـ = ١٩٠٢ م، على حاشية كتاب آخر لابن القيم، وهو إغاثة اللهفان. ثم طبعته إدارة الطباعة المنيرية سنة ١٣٥٨ هـ، وتلتها طبعة المكتبة السلفية سنة ١٣٧٥ هـ. ولكن لم تتهيأ لهذه الطبعات نسخة موثقة عالية من الكتاب، فكثرت فيها الأسقاط والتصحيفات والتحريفات، إلا ما صحح منها باجتهاد المشرفين عليها، غير أن اجتهادهم قد أدّى في أحيان كثيرة إلى مزيد من الأخطاء.
وعن هذه الطبعات الثلاث -وبخاصة طبعة المكتبة السلفية-
المقدمة / 7
صدرت عشرات الطبعات، وصوّرت مرّات ومرّات. وزعمت طبعتان منها -وهما طبعة دار ابن كثير بتحقيق يوسف علي البديوي، وطبعة دار البيان بتحقيق بشير محمد عيون- أنهما اعتمدتا على نسخة الظاهرية، وأثبتت الأخيرة أرقام أوراقها أيضًا في الحواشي، ولكن مقارنة متن الطبعتين بالنسخة المذكورة لا تصدّق دعواهما العريضة. ولو اعتمدت إحداهما عليها لكانت خليقةً بأن تكون أصحّ الطبعات، غير أنهما لم تزيدا على مراجعتها في مواضع متفرقة تحلّةً للقسم!
وكان من فضل اللَّه سبحانه أن وفقني لإخراج هذه النشرة التي هي أول نشرة علمية للكتاب، وقد اعتمدت فيها على خمس نسخ خطيّة، أهمّها نسختان: إحداهما نسخة الظاهرية التي هي مسودة الكتاب بخط المصنف، والأخرى نسخة منقولة من نسخة المصنف حسب تصريح ناسخها.
وقد تبيّن لي أنّ المؤلف ﵀ قد ترك الكتاب مسوّدة مع إضافاته وإلحاقاته الكثيرة، فلا أمكنه تبييضه، ولا قرئ عليه، ومن ثم قد بقي فيه من السهو وسبق القلم شيء كثير. وقد ضاع بعض كلامه أيضًا لكونه في أطراف الأوراق التي أكل منها البلى. وكان في خطه كذلك من السرعة وإهمال النقط وتداخل الكلمات وغيره ما يؤدي إلى صعوبة واختلاف في القراءة. وقد اجتهدت في قراءة النص مستعينًا بالنسخة المنقولة من الأصل وغيرها، ومستأنسًا بأسلوب المؤلف وعباراته المألوفة، وأرجو أن أكون قد وفقت في خدمة الكتاب وأدائه أداءً مقاربًا لما وضعه المؤلف ﵀.
المقدمة / 8
وقد مهّدت للكتاب بدراسة اشتملت على الفصول الآتية:
١ - توثيق نسبة الكتاب.
٢ - عنوان الكتاب.
٣ - تاريخ تأليف الكتاب.
٤ - مقصد الكتاب.
٥ - ترتيب الكتاب وبعض مباحثه المهمة، وفيه إشارة إلى بعض طرائق التاليف اللطيفة عند المصنف.
٦ - أهمية الكتاب.
٧ - موارد الكتاب.
٨ - طبع الكتاب وتحقيقه واختصاره وترجمته.
٩ - مخطوطات الكتاب.
١٠ - منهج التحقيق، مع نماذج مصورة من النسخ المعتمدة.
وأشكر الأخ الشيخ زائد بن أحمد النشيري الذي تولّى تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب ما عدا أحاديث الصحيحين، فجزاه اللَّه خير الجزاء.
وقبل أن أضع القلم آمل من القراء، لا سيما العلماء والباحثون، إذا وقفوا على خلل أو زلل في خدمة الكتاب، أن لا يضنّوا عليّ بإفاداتهم وتنبيهاتهم. فالأمانة ثقيلة، والإنسان مهما اجتهد وبالغ فإنه إلى الضعف والنسيان ما هو! وخدمة هذا التراث العظيم لا تتم عندي إلا بتعاون
المقدمة / 9
المحقق الخبير والناقد البصير؛ وإني إذ لم أكن بذاك، أرجو أن لا أعدم ناقدًا بصيرًا يُهدي إليّ عيوبي.
أسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يغفر لمؤلفه، ويرفع درجاته، ويجزيه عنا خير ما يجزي العلماء الربانيين. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الرياض
محمد أجمل أيوب الإصلاحي
٢٢/ ١٢/ ١٤٢٧ هـ
المقدمة / 10
توثيق نسبة الكتاب
لم يكن هذا الكتاب بحاجة إلى توثيق نسبته إلى الإمام ابن القيم ﵀، فإننا لا نعرف أحدًا شكّ في ذلك، لولا ما وجد على ظهر نسخة منه، وهي محفوظة في مكتبة الدولة في برلين برقم ٨٧٩٥، وناقصة من أولها بقدر ستين ورقة تقريبًا، فكتب بعضهم في أعلى الورقة الأولى: "كتاب نهج العمل لابن حجر"، وفي ورقة أخرى قبلها كتب: "نهج العمل لابن حجر في السلوك". ولعل من كتب هذه العبارة قصد المغالاة في ثمن النسخة وإغراء من يعرضها عليه بالشراء. وذلك لأن النسخة كتبت سنة ٨١٦ هـ كما جاء في خاتمتها، فإذا كان مؤلفها الحافظ ابن حجر المتوفى سنة ٨٥٢ هـ، فهي على هذا قد نسخت في حياة المؤلف قبل وفاته بستة وثلاثين عامًا، فلا شكّ إذن في كونها نسخة ثمينة جدَّا! ولكن لا أدري من أين جاء هذا الكاتب بعنوان "نهج العمل"، إذ لم أره عنوانًا لكتاب مطلقًا في كشف الظنون وذيله، فضلًا عن أن يكون عنوانًا لكتاب من كتب الحافظ ابن حجر ﵀. والجدير بالذكر أن في بداية بعض الكراريس تصريحًا بكونه "حادي عشر من طريق الهجرتين" مثلًا.
وبعد، فإن الشواهد على نسبة الكتاب إلى ابن القيم كثيرة جدًّا ومتنوعة. ومن أبرزها:
(١) أن المخطوطة التي اعتمدنا عليها في هذه الطبعة مسودة الكتاب بخط المؤلف. وفي صفحة العنوان كتب اسمه واسم الكتاب مصرّحًا بأنه من تأليفه، كما سيأتي في وصف المخطوطة.
المقدمة / 11
(٢) أن المؤلف نفسه ذكره أربع مرّات في كتابه مدارج السالكين، والمباحث التي أحال فيها على كتابنا كلها موجودة فيه. فذكر في الموضع الأول (١/ ١٥٥) مذهب نفاة الحكمة والتعليل الذين لا فرق عندهم بين المأمور والمحظور في نفس الأمر، والمشيئة هي التي اقتضت أمره ونهيه عن هذا. ثم أشار إلى أنه بيّن فساد هذا الأصل من نحو ستين وجهًا في كتابه مفتاح دار السعادة، وأنه ذكره أيضًا في كتابه المسمى بسفر الهجرتين وطريق السعادتين. وهذا المبحث موجود في كتابنا في ص (٢٤٦).
وفي الموضع الثاني (١/ ٤٨٠) أورد فصلًا في مشاهد الخلق في المعصية وقال: "ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه إلّا ما ذكرناه في كتابنا المسمى سفر الهجرتين في طريق السعادتين". وهذا الفصل يوجد في كتابنا في ص (٣٥٠).
وفي الموضع الثالث (١/ ٥٦٧) عندما فسّر ابن القيم كلام صاحب منازل السائرين في رياضة خاصة الخاصة، وأن منها "قطع المعاوضات" نبّه على أن سؤال المحبّ الصادق أن يثيبه اللَّه سبحانه الجنة والقرب منه والتنعم بحبه ليس قادحًا في عبوديته، ثم قال: "وقد استوفينا ذكر هذا الموضع في كتاب سفر الهجرتين عند الكلام على علل المقامات". ولعل المؤلف يشير إلى المسألة الخامسة من المسائل الخمس في المحبة والشوق، التي تكلم عليها في كتابنا في ص (٧٢٩).
وأشار في الموضع الرابع (٢/ ٧٤) إلى مسألة في الشوق، هل يبقى عند لقاء المحبوب أو يزول، فقال: "ولقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة وتوابعها في كتابنا الكبير في المحبة، وفي كتاب سفر الهجرتين". وهذه
المقدمة / 12
المسألة هي المسألة الثالثة من المسائل الخمس المذكورة. انظر ص (٧٢٤).
(٣) ومنها أن ابن القيم أحال في هذا الكتاب على مؤلفات أخرى له نحو قوله في ص (٨٦): "وقد ذكرنا في كتاب الكلم الطيب والعمل الصالح من فوائد الذكر استجلاب ذكر اللَّه لعبده، وذكرنا قريبًا من مائة فائدة تتعلق بالذكر، وكل فائدة منها لا خطر لها، وهو كتاب عظيم النفع جدًّا". والكتاب المذكور معروف مطبوع، وقد صدرت منه نشرة جديدة ضمن هذا المشروع أيضًا بعنوان "الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب".
وكذلك أحال فيه على كتابه "التحفة المكية" مرتين (٤٢٥، ٤٥٤)، وهو من الكتب التي ذكرها الحافظ ابن رجب وغيره من مؤلفات ابن القيم. وقد أشار ابن القيم أيضَا إليه في عدة مواضع من كتابه بدائع الفوائد.
وأحال أيضًا على كتاب كبير له في المحبة قائلًا: "وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبة الذي سميناه "المورد الصافي والظل الضافي" في المحبة وأقسامها وأنواعها وأحكامها، وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه" (١٢٤). وهذا الكتاب هو الذي أشار إليه في مدارج السالكين (٢/ ٥٩٨) -وإن لم يسمّه- فقال: "وجميع طرق الأدلة عقلًا ونقلًا وفطرةً وقياسًا واعتبارًا وذوقًا ووجدًا تدلّ على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده، وقد كرنا من ذلك قريبًا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة". وهو غير كتاب "روضة المحبين" المطبوع.
وقد أشار أيضًا إلى تابين آخرين لم يسمّهما، فقال في موضع:
المقدمة / 13
"وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد" (٧٧٠). ولا يخفى أن المقصود كتاب فضل العلماء الذي ذكره ابن رجب في ترجمة ابن القيم (^١).
وفي موضع آخر تطرق الكلام إلى الأنفع والأفضل من النخيل والعنب وأنّ طائفة رجحت النخل وأخرى رجحت العنب، فقال: "وذكرت كل طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها في غير هذا الموضع" (٨٠٨). والظاهر أن المؤلف ﵀ يشير إلى كتابه مفتاح دار السعادة الذي تضمن هذا المبحث (٢/ ١١٧).
(٤) ومنها المباحث المشتركة بين هذا الكتاب والكتب الأخرى للمؤلف، ولا خلاف بينها إلا في الاختصار والتفصيل أو التقديم والتأخير. أما نفسه وبيانه ومنهجه في ذكر الأقوال والمذاهب والموازنة بينها، فهو هو، بل تجد اللفظ بعينه بعض الأحيان.
ومن أمثلتها مبحث طويل في مذاهب الناس في أطفال المشركين (٨٤٢ - ٨٧٧). وقد ورد المبحث نفسه في كتاب أحكام أهل الذمة (١٠٨٦ - ١١٣٠)، وفي حاشية المؤلف على سنن أبي داود (١٢/ ٣٢٠).
ومن ذلك أيضًا تفسير المؤلف لدعاء النبي ﷺ: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال" (٦٠٥). وقد فسره أيضًا في بدائع الفوائد (٧١٤) ومفتاح
_________
(^١) الذيل على طبقات الحنابلة (٥/ ١٧٥). وانظر: ابن قيم الجوزية للشيخ بكر بن عبد اللَّه أبو زيد (٢٨٢).
المقدمة / 14
دار السعادة (١/ ٣٧٥) والداء والدواء (١١٨).
ومن ذلك تفسيره لكلام صاحب منازل السائرين على الفقر والغنى والتجريد والشوق. وقد فسره في كتابنا هذا (١٩، ٦٣، ٦٧، ٧٢٩) ثم فسره في مدارج السالكين (٢/ ٤٩٧، ٥٠٣)، (٣/ ٢١، ٤٠٨). والمقارنة بينهما تكشف عن وجوه المشابهة والمفارقة، ولكن تؤكد في الوقت نفسه أن الكلامين لمؤلف واحد.
(٥) ومنها نقول المؤلف عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀. وبعضها من كتبه وبعضها رواية شفوية عنه. وسيأتي الحديث عنها عند الكلام على موارد المؤلف في هذا الكتاب.
(٦) وأخيرًا اتفاق كتب التراجم على نسبته إلى ابن القيم، وبعضها لتلامذته ومعاصريه، كما سيتبين من الفقرة الآتية.
المقدمة / 15
عنوان الكتاب
ذكر الكتاب في المصادر -ومنها بعض كتب المؤلف- بعدّة عناوين وصلت إلى ستة وجوه، وهي:
١ - سفر الهجرتين وطريق السعادتين.
بهذا العنوان سمّاه المؤلف في مدارج السالكين (١/ ١٥٦)، فقال: ". . . وذكرنا أيضًا في كتابنا المسمّى بـ (سفر الهجرتين وطريق السعادتين) ".
وهذا العنوان هو الذي ذكره الصفدي (٧٦٤ هـ) في الوافي (٢/ ٢٧١) وأعيان العصر (٤/ ٣٦٩)، وابن تغري بردي (٨٧٤ هـ) في المنهل الصافي (٣/ ٦٢).
٢ - سفر الهجرتين في طريق السعادتين.
هذا العنوان أيضًا ورد في كتاب مدارج السالكين (١/ ٤٨٠) قال: ". . . ذكرناه في كتابنا المسمّى (سفر الهجرتين في طريق السعادتين) ". وغريب أن يختلف العنوان في كتاب واحد في موضعين متقاربين.
٣ - سفر الهجرتين وباب السعادتين.
ذكره تلميذه الحافظ ابن رجب (٧٩٥ هـ) في ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة (٥/ ١٧٥). ومنه نقل ابن ناصر الدين (٨٤٢ هـ) في الرد الوافر (٦٨) والداودي (٩٤٥ هـ) في طبقات المفسرين (٢/ ٩٢) ومرعي بن يوسف الحنبلي (١٠٣٣ هـ) في الشهادة الزكية (٣٤) وابن العماد (١٠٨٩ هـ) في شذرات الذهب (٣/ ١٦٩).
المقدمة / 16
٤ - سفر الهجرتين.
بهذا سمّاه المؤلف في موضعين في مدارج السالكين (١/ ٥٦٧) و(٢/ ٤٧). وهو ليس عنوانًا جديدًا، وإنما هو اختصار صالح للعناوين الثلاثة السابقة. وكذا ذكره السيوطي في بغية الوعاة (١/ ٦٣).
٥ - طرق السعادتين.
وهذا أيضًا جاء على وجه الاختصار. ولكن الذي يلفت النظر أن "الطريق" صارت هنا "طرقًا"، وكذا سمّاه الحافظ ابن حجر (٨٥٢ هـ) في الدرر الكامنة (٣/ ٤٠٢). وكلمة "طرق" -فيما يظهر- ليست تحريفًا في مطبوعة الدرر، بل كذا ورد في الأصل الذي بخط السخاوي. ثم كذا نقله الشوكاني (١٢٥٠ هـ) منه في البدر الطالع (٢/ ١٤٤).
٦ - طريق الهجرتين وباب السعادتين.
هذا العنوان ورد بخط المصنف مرتين في الأصل الذي اعتمدنا عليه في تحقيق هذا الكتاب: أولًا في صفحة العنوان، وثانيًا في مقدمة الكتاب التي قال فيها: ". . . وسميناه (طريق الهجرتين وباب السعادتين)، وابتدأناه بباب الفقر والعبودية، إذ هو باب السعادة الأعظم وطريقها الأقوم. . . ".
ولعلّ الصيغ الثلاث الأولى التي ذكرها المؤلف ومعاصره الصفدي وتلميذه ابن رجب، كان المؤلف ﵀ يميّل رأيه بينها، ثم استقرّ على العنوان الأخير الذي أثبته في المقدمة وفي صفحة العنوان.
وهذا العنوان هو الوارد في سائر النسخ الخطيّة إلّا نسختين لا يعوّل عليهما. إحداهما نسخة الشيخ محمد بن إبراهيم الضويّان، وقد كتب
المقدمة / 17
العنوان في الورقة الأولى: "كتاب سفر الهجرتين وباب السعادتين" مع أن العنوان المعروف هو الثابت في مقدمة المؤلف (ق ٢/ ب)، فأخشى أن يكون ذلك من اجتهاد الناسخ. والنسخة الأخرى في مكتبة جامعة ليدن بخط حديث، وقد كتب اسم الكتاب في صفحة العنوان هكذا: "سفر الهجرتين وطريق السعادتين أو طريق الهجرتين وباب السعادتين".
المقدمة / 18
تاريخ تأليف الكتاب
لم أجد في مخطوطات الكتاب أو غيرها نصَّا على التاريخ الذي فرغ المؤلف فيه من تأليف هذا الكتاب، ولكن أذكر فيما يلي بعض الإشارات التي تعين على تقديره.
خرج الإمام ابن القيم ﵀ من السجن بعد وفاة شيخه فيه سنة ٧٢٨ هـ. "وكان في مدة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن وبالتدبر والتفكر، ففتح عليه من ذلك خير كثير، وحصل له جانب عظيم من الأذواق والمواجيد الصحيحة. وتسلّط بسبب ذلك على الكلام في علوم أهل المعارف والخوض في غوامضهم. وتصانيفه ممتلئة بذلك"، كما يقول تلميذه الحافظ ابن رجب في ترجمته (^١). وإذا استعرضنا مؤلفات ابن القيم لم نجد كتابًا تصدق عليه كلمة ابن رجب هذه صدقها على كتابنا طريق الهجرتين وكتاب مدارج السالكين. فكلاهما وضع في علم السلوك، وهما يشهدان حقًا بما أوتي المؤلف من "تسلّط" على الكلام في العلوم والحقائق التي تنقطع عندها العبارة، وتجفو عنها الإشارة، كما يقول أصحابها. فالظاهر أن الكتابين من الكتب التي ألّفت بعد خروج المؤلف من السجن سنة ٧٢٨ هـ. وقد تبيّن ممّا سبق أن طريق الهجرتين ألّف قبل مدارج السالكين لأن المؤلف قد أحال في المدارج أربع مرات على كتابنا هذا.
ثم في طريق الهجرتين مبحث طويل في القدر، جاء على سبيل الاستطراد ولكنه طال جدًّا لأهميته البالغة. وللمؤلف كتاب مستقلّ في
_________
(^١) الذيل على طبقات الحنابلة (٥/ ١٧٣).
المقدمة / 19
هذا الموضوع، وهو "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل". فلو كان ألفه قبل طريق الهجرتين لأحال عليه في هذا، ولم يسهب ذلك الإسهاب. وهذا ينبئ بأن شفاء العليل ألّف بعد طريق الهجرتين.
ويوجد في حاشية المؤلف على سنن أبي داود (١٢/ ٣١٥) بحث في القدر أيضًا، وهناك قال المؤلف: "وقد نظرت في أدلة إثبات القدر والردّ على القدرية والمجوسية، فإذا هي تقارب خمسمائة دليل. وإن قدر اللَّه تعالى أفردت لها مصنّفًا مستقلًا، وباللَّه ﷿ التوفيق". وهذا الكتاب الذي نوى المؤلف تأليفه هو "شفاء العليل" المذكور. ومن حسن الحظ قد عرفنا تاريخ تأليف حاشية السنن، إذ نصّ المؤلف في خاتمته للكتاب أنه فرغ من تأليفه في مكة في آخر شوّال سنة ٧٣٢ هـ. فلما جاء بحث القدر في طريق الهجرتين ولم يشر المؤلف إلى كتاب شفاء العليل ولا نيته لإفراد الموضوع بتأليف مستقلّ، وبدا له ذلك في أثناء تهذيب مختصر السنن والتعليق عليه الذي فرغ منه سنة ٧٣٢ هـ = علمنا أن طريق الهجرتين ألّف قبل سنة ٧٣٢ هـ. واللَّه أعلم.
المقدمة / 20
مقصد الكتاب
موضوع هذا الكتاب قواعد السلوك والسير إلى اللَّه على المنهج الشرعي الذي بينه النبي ﷺ. فالمؤمن يجب عليه أن يوحد اللَّه بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه، وأن يكون قدوته في ذلك هو النبي ﷺ، فيتبع هديه وشرعه ومنهاجه. وهذان الأمران: إفراد اللَّه بالعبادة، وإفراد الرسول بالمتابعة، هما المقصودان بالهجرتين في عنوان الكتاب. فيقول المؤلف ﵀ في مقدمته: "فله -يعني للمؤمن- في كل وقت هجرتان: هجرة إلى اللَّه بالطلب والمحبة والعبودية، والتوكل والإنابة، والتسليم والتفويض، والخوف والرجاء، والإقبال عليه، وصدق اللجأ والافتقار في كل نفَس إليه. وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب اللَّه ومرضاته، ولا يقبل اللَّه من أحد دينًا سواه. وكل عمل سواه، فعيش النفس وحظّها لا زاد المعاد".
وقد عني المؤلف في كتبه ببيان أهمية الهجرتين في حياة المسلمين عناية بالغة، فتكلم عليهما في مواطن عديدة؛ لأنهما مضمون الشهادتين ومقتضاهما، ولا يقوم الإيمان والإسلام إلّا بهما. فقال في مدارج السالكين (٢/ ٥٢٠): "وللَّه على كل قلب هجرتان، وهما فرض لازم له على [مدى] الأنفاس: هجرة إلى اللَّه سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية. وهجرة إلى رسوله ﷺ بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته، فيكون تقيده به أعظم من تقيد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق. فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على
المقدمة / 21