قالت مقطبة: لا أفهم شيئا!
فقال بإصرار: إن كنت نسيت فأنا لا يمكن أن أنسى. - أنت مجنون؟
قالتها بثبات زعزع ثقته فتساءل: أليست ...
ولكنها قاطعته وهي تمضي في سبيلها: لعبة قديمة وسخيفة.
واستدرك قائلا قبل أن توغل في الابتعاد: على أي حال تقبلي إعجابي.
واعتمد على الدرابزين حتى يتمالك أنفاسه. حتى تبرد بعض الشيء النار الحامية. وتملكته لحظة جنون، فتمنى لو يهلك جميع من في الفندق ليخلو لهما وحدهما. كما عصف به الجنون ليلة المطاردة التي اندفعت من ساحل الصيادين بالأنفوشي. وإذا بعلي سريقوس يهبط السلم وهو يدندن بموال صعيدي فجره إلى موقفه بإشارة، وقال بمكر: سمعت صوتا يناديك لعله صوت الست. - الست؟ - حرم عم خليل! - كلا، لعلها الحجرة 16، أنا قادم من عند الست وهي تدخل شقتها. - ربما، وستتأكد بنفسك، ولكن هل تقيم الست في شقة؟ - شقة عم خليل فوق السطح. - وأين كانت طوال الأيام الماضية؟
عند أمها، إنها تزورها أياما كل شهر.
ورمق ظهر عم خليل - وهو نازل - باحتقار ومقت، وكره فكرة العودة إلى مجلسه بالاستراحة فغادر الفندق. تمتع بشمس ترسل أشعتها من سماء صافية، في جو يتيه ببرودة لطيفة محببة، ورغب في المشي بنهم، فمشى بلا هدف وهو يأسف على أنه لا يجد فراغ البال لمشاهدة القاهرة. وتذكر أن مدة الإعلان ستنتهي بعد يوم؛ فمضى إلى جريدة أبو الهول. والحق أنه كان يرصد ميعاد الذهاب إلى الجريدة ليرى إلهام من جديد. وجد إحسان الطنطاوي مشغولا بزبون، فصافح إلهام، ثم جلس على الكرسي بين المكتبين. توقفت عن دق الآلة الكاتبة وسألته: لا جديد؟
أجاب وهو يفيق نهائيا من لفحة الجحيم: مكالمات ومقابلات غير مجدية. - الصبر طيب.
تابع أصابعها فوق أحرف الآلة بارتياح خفف عنه متاعبه. وبدا عنقها طويلا وهي خالعة جاكتتها وفي صفحته اليسرى لاح خال. ورغم سعادته برؤيتها فاجأه حزن طارئ لا تفسير له. وتبين أن إحسان الطنطاوي ينجز إعلان وفاة، فحاصرته ذكريات الليلة الأخيرة لأمه. ووضحت له تعاسة مركزه في الوجود؛ إذ يعتمد كلية على شبيه بالسراب. وحانت في تلك اللحظة التفاتة سريعة من إلهام إليه؛ فانشرح صدره وتجاهل همومه. وفرغ إحسان الطنطاوي من إعلان الوفاة، فحياه قائلا بشيء من الخبث: تجديد؟
Bilinmeyen sayfa