إني أروي الآن مسائل مضت منذ نيف وثلاثين سنة على حسب ما أتذكر، ولست أدعي أني كنت على حق في كل ما فعلته، ولست أنكر أني كنت على جانب عظيم من الشدة في تقدير الرجال، وربما كان ذلك ناشئا من أني قرأت روايات غرامية كثيرة، كان فيها الرجال أبطال الخيانة والغدر بالنسبة للنساء فنظرت إليهم جميعا بتلك العين؛ ولهذا كنت أحاسبهم على أية كلمة تبدر من أفواههم في غير رحمة ولا شفقة، وقد مر بنا أني حاسبت المهندس على كلمة بدرت منه لا تدل على سوء نية أو شيء، ولكني كنت أود أن أعلم الرجال مخاطبة النساء بعد أن ظهرت النساء في ميدان العمل فجأة، وأمام رجال لم يعتادوا معاملتهن؛ لهذا قسوت على المهندس إذ قال إن يدي صغيرة، كما قسوت على المدير يوم استعمل نكتة قد يكون الغرض منها استعمال النكتة فحسب، وهو ما ينبغ فيه المصريون، وكما قسوت أيضا على ناظر المدرسة يوم عطف على المعلمة، وقد خلقت لي تلك الشدة في المعاملة أعداء أقوياء ، أولهما المدير، وثانيهما ناظر المدرسة الأميرية، وبيدهما كل الأمر في إدارة مدرسة البنات.
واشتهرت في مدينة الفيوم إذ ذلك بالشدة ولا فخر، وكان لسوء حظي أن زارني المرحوم حافظ بك إبراهيم، فقال لي: إنه لا يوافق على ظهور النساء في العمل سافرات. وكنت إذ ذاك أكشف وجهي، فقلت له: إن المرأة إذا عملت وجب أن تظهر بطبيعتها كما خلقها الله، وليس في ذلك شيء. قال: إن فيه إغراء. قلت: إنك متغال يا سيدي، فنحن المصريات ليس في خلقتنا الطبيعية إذا ظهرت كما هي ما يغري الرجال، وما دامت الفتاة منا تظهر أمام الرجال دون تبرج، أو تغيير في خلقتها الطبيعية فلا خوف من إغرائهم بها. قال: أوتظنين أنه ليس في وجهك الطبيعي ما يغري؟ إن فيه شيئا من علامات الجمال. أراد المرحوم بذلك أن يعلم مدى أفكاري، وأن يجرب في قول شوقي: «خدعوها بقولهم حسناء.» وقصد بما أراده علامة سوداء في وجهي، فقلت له في شدة: والله لولا مكانتك الأدبية لطردتك الآن. قال: ولم؟ هل أسأت أدبي في شيء؟ قلت: كلا! ولكنك في نظري أخطأت؛ لأنك دققت في وجهي حتى رأيت ما أسميه أنا تشويها، فادعيت أنه من محاسن الجمال. قال: هل في رؤيتي لوجهك خطأ؟ ألم تري أنت وجهي أيضا؟ قلت: نعم! رأيت رجلا لا أقل ولا أكثر، ولم أدقق في تقاطيع وجهك مثل ما دققت أنت. قال: إذن السلام عليك، وأشهد أنه يجوز لفتاة فقط في مصر أن تكشف وجهها، أما باقي الفتيات فلا. ثم تركني ومضى، ولم ير من المدرسة إلا وجهي مع أنه كان يقصد زيارتها.
ولم أعبأ بكل تلك الشهرة التي زادها المرحوم حافظ بك، بل كتبت إلى المجلس أطلب فصل تلك المعلمة من مدرسة البنات، فازداد حقد سعادة المدير والناظر علي، وعمدا إلى مضايقتي بشتى الطرق، وأخيرا ثبت لدي أني لا أستطيع العمل معهما، فأردت أن أستقيل بطريقة تحفظ لي كرامتي بعض الشيء، وقد كنت متعاقدة مع مجلس المديرية لمدة 3 سنوات، لم أعمل منها إلا سبعة شهور ونصف، وكان في العقد شرط ينص على أني إذا أردت ترك المدرسة، وجب علي أن أخطر المجلس في شهر مايو؛ أي قبل انتهاء الدراسة؛ ليستعد لتعيين ناظرة غيري عند ابتداء الدراسة، وأردت أن أعامل المجلس بالذمة والشرف، وأن أستقيل في الميعاد المحدد لاستقالتي، فكتبت أقول: إذا لم تفصل تلك المعلمة من العمل، فإني لا أستطيع البقاء في المدرسة؛ ولهذا أخطر المجلس باستقالتي، وإخلاء طرفي من المدرسة ابتداء من آخر سبتمبر المقبل، وقد أردت بذلك أن أنهي سنتي المدرسية، وأقوم بامتحانات النقل، وأسلم المجلس المدرسة في حالة مرضية في آخر سبتمبر، ولا شك أن شهور الإجازة من حق الناظرة التي عملت ابتداء من أول أكتوبر إلى آخر مايو، وكنا في ذلك الوقت في يوم 20 مايو.
وما كادت تلك الاستقالة تصل إلى سعادة المدير حتى حركه الحقد للانتقام مني، فعقد جلسة لمجلس المديرية بصفة مستعجلة عرض عليهم فيها استقالتي، ولما كان الأعضاء جميعهم يعلمون الإشاعات التي تدور حول تلك المعلمة، فقد صمموا على فصلها، وقرروا ذلك في جدول الأعمال قبل النظر في استقالتي، وبعد فصلها نظروا في استقالتي، وكان المنطق يقضي أن لا يكون هناك استقالة؛ لأني طلبت فصل المعلمة، وقلت إني إذا لم ينفذ هذا الشرط اعتبر مستقيلة، وما دامت المعلمة قد فصلت فقد أجبت إلى طلبي، ولا معنى إذن للاستقالة، ولكنها الضغائن تفعل في النفوس ما تشاء؛ ولهذا تشدد الأعضاء في فصل المعلمة، ونفذ أمرهم، ثم تشدد المدير بعد هذا في قبول استقالتي كما كان يسميها.
ولقد كانت الحالة طبيعية بعض الشيء حتى في قبول الاستقالة، لو لم يتوجها سعادة المدير بأعمال استبدادية بحتة؛ فقد حضر إلى المدرسة بنفسه في يوم تلك الجلسة الساعة الثالثة بعد الظهر، وأمر التلميذات بالخروج من المدرسة، وأنهى السنة الدراسية بدون امتحان، وسلمني بيده قبول الاستقالة فشق علي الأمر إذ إن المسألة أصبحت طردا فظيعا، فقد طردت التلميذات طردا تحمل كل منهن كتبها في حجر ميدعتها، وخرجن باكيات ، وكان على حسب أمر المدير أن أخرج في الحال، ومعنى هذا أني طردت طردا؛ ولهذا رفعت أمري إلى القضاء.
وكان أخذ ورد وإشاعات تتداولها الناس، ورأى المدير أنه أخطأ في هذا، وأن عمله هذا يعد فسخا للعقد لا قبولا للاستقالة، وأراد أن يصالحني، وكنت قد تركت المدرسة، ومكثت في منزل أخي بالفيوم، ومن غريب الأحلام أيضا أني حلمت أن سعادة المدير دخل علي يحاول أن يصلحني، وأن يعتذر إلي، وقمت أروي ذلك الحلم في الصباح لأخي، فقال: لعلك تريدين ذلك، ولكن كم كانت دهشته عظيمة ساعة تحقق هذا الحلم؛ إذ حضر إلينا في الساعة الرابعة بعد الظهر مأمور مركز سنورس، وطلب مقابلتي فقابلته مع أخي، فقال لي إنه يهتم بأمري كثيرا؛ لأني خدمت الفيوم بإخلاص، وعلمت بناته هو شخصيا، وأنه لذلك جاء من سنورس ليعرض على سعادة المدير الصلح على شرط أن يعطيني ثلاثمائة جنيه، وعلمت من ذلك طبعا أن المدير قد طلب منه تلك الوساطة، فقلت له: إني أعلم أن سعادة المدير شديد في عمله، فكيف تجرأت أن تترك مركز عملك في سنورس لتطلب منه هذا الطلب الذي لا يقبله؟ وماذا يكون حالك إذا هو لم يرفض طلبك فحسب، بل عاقبك وأنبك على تركك عملك؟ قال: ولكني واثق أنه لن يفعل ذلك، وأنه سيقبل عرضي. وكان مع المأمور عمدة سنورس أيضا فأخذ ينظر إلي مندهشا، وقال المأمور: أؤكد لك أنه سيقبل هذا العرض، وسيضمن حضرة العمدة قبوله هذا. قلت: أعوذ بالله إني أعرف من سعادة المدير ما لا تعرفان، وأؤكد لكما أنه لن يقبل هذا العرض. وقلق العمدة في جلسته، وقال محتدا: «يعني لازم نقول لك إنه هو بعثنا؟» قلت: نعم أريد ذلك، وأريد أن أقول لك إني لا أقبله. وهنا حيا الاثنان، وخرجا.
ويظهر أن سعادة المدير عرض الأمر على سعادة أحمد باشا لطفي السيد، وكان على ما أظن من معارفه، وكان لطفي باشا يعرفني؛ لأني كنت أول فتاة ذهبت إلى سعادته - وهو مدير للجريدة - تعرض عليه نشر مقالاتها، فقابلني بأدبه المعروف ، وأعجب بمقالاتي، ونشر لي كثيرا منها في جريدته، ومن ثم نشأت بيننا معرفة، وكنت أرى فيه رجلا لا كالرجال في أخلاقهم، بل رجلا كامل الآداب موفور الكمال، محترسا في كل لفظة يقولها أمام أية فتاة، فلم أستطع أن أطبق عليه ما قرأته في الروايات والكتب من آداب غيره من الرجال؛ ولهذا كنت أعتبره رجلا فذا لا مثيل له في الرجال، وكنت لهذا أحترمه احتراما عظيما.
عرض الأمر على سعادته، وطلب سعادة المدير منه المساعدة فاستلم المبلغ، وأمضى عليه، ثم حضر إلي، وقال لي: لقد ادعيت أني وكيلك الشرعي، فاستلمت لك هذا المبلغ، وتم بيني وبين المدير الصلح على أني وكيلك الذي لا مرد لكلامي، فإذا كذبتني في ذلك فعليك إذن رفع الدعوى علي لا على المدير. وكان رفعي الدعوى عليه من رابع المستحيلات، وهكذا انتهت المسألة.
تعييني ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة
تركت الفيوم بعد انتهاء مشكلتي، وبعد أن أصبحت أكره العمل الحر الذي ذقت ثمرته، وعلمت منه أن مجالس المديريات قسم من الأعمال الحكومية، لكنه قسم تعمه الفوضى أكثر من غيره؛ فالمدير فيه الحاكم بأمره يعمل ما يشاء، ويتبع أعضاء مجلس المديرية إشارته، فهو لا يأمر فيطاع، بل هو يوحي من بعيد فيطاع إيحاؤه، ويشير الإشارة المبهمة فتنفذ إشارته، والرجل الذي يأمر مسئول عن أمره قد يخشى الخروج فيه عن حد الصواب، أما الرجل الذي يوحي من بعيد، فهو في مأمن من عاقبة ما يوحي به، والمسئولية واقعة لا محالة على عاتق أعضاء مجلس المديرية، وهم الموحى إليهم الذين يتنافسون في تنفيذ هذا الإيحاء دون أن يفكروا في عواقبه؛ فالمدير في مجلس المديرية مستبد أو ديكتاتور، ولكنه مع ذلك غير مسئول عن أعماله كباقي الديكتاتوريين، فهو إذن أشد الديكتاتوريين تعسفا، ولا غرابة بعد هذا أن عمت أعماله، وساءت عواقبها؛ لهذا أصبحت أكره الأعمال الحكومية، وفي مقدمتها مجالس المديريات.
Bilinmeyen sayfa