وهذه الموانع المخيفة والمنذرة بالشر كانت لا تخلو من فائدة عظيمة لم يدركها وليم حينئذ، من وجه أنها قادت هارلود في إنكلترا للظن في رجوع وليم عن عزم الحمل عليه، وهكذا عدل عن التحرز والتيقظ، ولم يكن - كما سبق القول - في تلك الأيام وسائل قياسية لتبادل الأخبار بحيث يسهل شيوع الأنباء عن الحوادث الخطيرة والإجراءات المهمة كما في أيامنا هذه، وعليه كانت كل حكومة تعتمد على الجواسيس في الوقوف على حركات الأعداء، وكان قد شاع في إنكلترا في شهر آب خبر عزم وليم على الحملة، فاستعد هارلود لملاقاته وصده، لكنه إذ رآه أبطأ في الحضور، ومضى شهر أيلول أسبوعا بعد أسبوع، ولم تبن أدنى علامة للعدو، ولا ظهرت له أسباب هذا التأخر، استنتج إغفال ذلك العزم أو إرجاءه إلى الربيع، وإذ كان الشتاء قريبا رأى من الموافق أن يستعد في إرسال عساكره إلى مشاتيها، فصرف عنه بعضها، والبعض الآخر وزعه في كثير من القلاع والمدن الحصينة، حيث يصرفون فصل الشتاء، ويكفون مشقات الأمطار والزمهرير، وفي الوقت نفسه يكونون على أهبة الاندفاع عند حدوث أقل سبب مفاجئ، على أنه ما لبث أن دعاهم لدفاع كما سيأتي معنا.
ومع أن هذه التنظيمات التي أجراها هارلود كانت في نظره أضمن لسلامة رجاله وراحتهم، لم يكف في أثنائها عن التجسس والمراقبة والاستطلاع ساعيا جهده في الاستعلام عن عدوه، وتنسم أخبار حركاته، فأقام الأرصاد ونشر العيون على تخمه الجنوبي، وشدد الأوامر في تدقيق الملاحظة وضبط السهر على كل شيء يجد لديهم، أو يبدو لهم الإسراع في إبلاغه.
ومعلوم أن وليم كان يبذل كل ما في وسعه لأجل قطع موارد الأخبار، وقد ساعدته التقادير على ذلك، فإن تلك الأنواء التي حدثت جعلت السفر في البوغاز متعذرا على سفن التجارة وقوارب الصيد؛ ولذلك لم يستفد الرقباء على تخم إنكلترا الجنوبي من استطلاع الحوادث إلا النزر القليل.
أخيرا فرغت جعبة الصبر عند هارلود، وتعذر عليه البقاء على تلك الحالة المبهمة، فعقد النية على إرسال نفر من رجاله إلى نورماندي توصلا لاستجلاء الحقائق ودفع الشبهات، وليس بخاف أن المرسلين بطريقة سرية أو إلى بلاد العدو إلى معسكره يعتبرون بحكم القوانين الحربية جواسيس، ويعاقبون إذا قبض عليهم بالموت؛ ولذلك كانت إرسالية كهذه غاية في الهول والخطر، وإذا كان الموت المحكوم به على من يوجد بهذه الصفة مهينا للغاية؛ إذ الجواسيس كانوا يشنقون بلا شفقة علنا، ولا يقتلون بإطلاق الرصاص، فأكثر الناس يأبون التعرض لهذا الخطر المخيف، ومع ذلك كله فصفات البأس كانت لكثيرين من رجال الحرب الذين يقدمون على الأهوال، ويركبون المخاطر موعودين بالمكافأة الحسنى والجزاء النادر، فبدا لجواسيس هارلود أن يقطعوا البوغاز مجتازين إلى رأس بعيد في شرقي نورماندي، حيث المدخل ضيق، فأتوا الشاطئ وساروا في البر متخفين بزي الفلاحين حتى جاءوا سنت فالري حيث كانت عمارة وليم، وهناك جلسوا متفقدين مستطلعين مستكشفين بكل ضبط واحتيال، لكنه رغما عن ملء التحفظ والتحرز عرفت دخيلة أمرهم، وهتك حجاب سرهم، وظهر أنهم جواسيس فألقي عليهم القبض، وسيقوا إلى وليم لينالوا عقابهم.
أما وليم فعوضا عن الحكم عليهم بالموت الذي توقعوا أنه سيكون نصيبهم المحتوم، وجزاءهم الذي لا مفر منه، عفا عنهم، وأمر بإطلاقهم قائلا لهم: «ارجعوا إلى الملك هارلود وأخبروه أنه كان في غنى عن تحمل النفقات في إرسال الجواسيس إلى نورماندي؛ ليقف على الاستعداد الذي أقوم به للخروج عليه، إذ إنه لا يلبث أن يبلغه بوسائط أخرى - أسرع مما يمكنه أن يتصور - فاذهبوا وقولوا له عني: أن يجعل ذاته إذا شاء في آمن مكان يستطيع أن يجده في كل بلاده، وإن لم يجد عليه قبل نهاية هذه السنة، فلا تعود له حاجة للخوف مني ما دام حيا».
ولم تكن هذه الثقة التي عبر عنها وليم في نجاحه مجرد ادعاء ومحض افتخار باطل؛ لأنه علم قواته وقوات هارلود، ولم تكن حملته هذه مدفوعة بقوة الرعونة والطياشة، بل محمولة على مزيد التروي والتأمل، وقد تراءت بمظهر الخوف والشك لعيون الذين قاسوها على ظواهر الحال، فحمقوا مشورة دوق كوليم يحكم على مقاطعة صغيرة كنورماندي، ويثير حربا هائلة على ملك إنكلترا القابض على زمام أعظم وأقوى مملكة في العالم.
أما وليم فبالعكس كان يعتقد وجوب القيام بذلك تحصيلا لحقه الإرثي من يد مغتصبه، وقد تحقق لديه نوال الميل والانضمام حتى من شعب إنكلترا حالما يتمكن من أن يريهم استطاعته على حفظ حقوقه، وأنه قادر على إيضاح ذلك لهم ببرهان ناصع البيان، ودليل حسي منظور؛ أعني به تلك العمارة الكبيرة الغاصة بها الميناء، وتلك الخيام الكثيرة المملوءة بالعساكر المغشي بها وجه الشاطئ، واتفق أن بعض قواده أوضحوا أمامه رعبهم من قوات هارلود، وإيجاسهم خوف عدم استطاعتهم الثبات ضدها، فأجابهم أنه بقدر ما تكون قوات هارلود مخيفة ينبغي أن يعظم فرحهم وسرورهم بالمجد العظيم الذي ينالونه بالغلبة عليه، ثم زاد عليه قوله: «لا بأس من تأتي في قلوبكم على سبيل التسلية أفكار قوته واقتداره حالة كوني أعجب كل العجب من عدم افتكاركم بعظم قواتنا نحن، فلست في حاجة إلى أقل اهتمام؛ لئلا يدرك هارلود على بعده عنا بواسطه جواسيسه شيئا عن القوة التي أسير بها إليه حينما أنتم القريبين مني يظهر أنكم لا تعرفون عنها إلا شيئا يسيرا، فلا تهتموا على الإطلاق، فاتكلوا على عدالة دعواكم، وثقوا بما أتوقعه أنا وكونوا رجالا، فتجدوا أن النتيجة التي أشعر بتحققها وترجونها أنتم ستنال بكل تأكيد وإثبات».
وأخيرا انقضت العواصف وسكنت الأنواء، وتأهبت العمارة للمبارحة الأخيرة، وفي معظم هذه الحركة النهائية حدث في أحد الأصباح ما استدعى انتباه جميع الذين كانوا في المراكب وعلى الشاطئ، وذلك بأن رأوا سفينة جميلة قادمة على الميناء عرفت أنها قطعة كبيرة متقنة كانت الدوقة متيلدا قد بنتها على نفقتها وجيء بها تقدمة منها وداعية لزوجها، وكانت هي ذاتها راكبة فيها مع قوادها وحرسها لأجل مشاهدة سفر وليم ووداعه، وقد كان ولا ريب لحضورها في حالة كهذه وقع عظيم بعث الجميع على الحمية والنشاط، فتصاعدت من السفن في الميناء ومن جماهير الوقوف على الشاطئ ضجات الفرح والاستحسان احتفاء بقدومها البهج.
وبالواقع كانت سفينة متيلدا مبنية بمزيد الدقة ومنتهى الزخرفة والزينة، فالشرع كانت مدبجة بألوان مختلفة أكسبتها منظرا بهيا، وقد رسم عليها في أماكن متعددة صورة الثلاثة أسود التي كانت تمثل شارة النورماند، وعلى جانبيها من لدن المقدم رسم صورة رأس تمثل ابن وليم ومتيلدا الثاني يرمي بالنبال؛ لأن وليم كان يسر على الخصوص برؤيته ابنه يفعل ذلك، وكان السهم مسحوبا في الرسم إلى المقدم مشيرا إلى شدة وقوة الساعدين على رميه، ومخيلا للناظر أنه على أهبة النشب، وكان اسم تلك السفينة ميرا، فجعلها وليم في مقدم العمارة، ورفع عليها تلك الراية البديعة الإتقان التي أرسلت إليه من رومية، ثم اجتاز إليها محفوفا بالقواد والحرس بمظاهر التجلة والاحتفاء، واستعدت العمارة للإقلاع، فنشرت الشرع وأخذت السفن تسير الهوينا مقلعة عن الميناء.
وإن صدقت رواية مؤرخي ذلك العهد يكون عدد السفن الكبيرة في تلك العمارة أربعمائة، ومعها أكثر من ألف قارب، وكانت كلها مشحونة بالرجال، وأعالي سواريها تخفق بالرايات والشاطئ على رحبه ضيقا بالمتفرجين، والبحر هادئا، والهواء لطيفا، والشرع التي كست وجه المياه ثوبا أبيض تسير سيرا لينا على بساطها المتجعد، وتشخص لعين الناظر فقط منظرا جميلا بديعا، وأما لعين المتأمل بالنتائج الصادرة عن نجاح هذه الحملة فمشهدا ساميا رفيعا.
Bilinmeyen sayfa