إن هارلود ابن الأمير غودون الذي كان يسعى جهده في التبوء على العرش الإنكليزي، ووليم صاحب إمارة نورماندي الذي كان ينازعه السعي، ويزاحمه في الإقدام وإن كانا قد عاشا على جهتين متقابلتين من البوغاز الإنكليزي - الواحد في فرنسا والآخر في إنكلترا - فقد كان لكل منهما معرفة شخصية بالآخر، وذلك ليس لأن وليم جاء مرة لإنكلترا فقط كما تقدم الكلام في الفصل السابق، بل هارلود نفسه قدم نورماندي في أحد الأيام، وكان لقدومه هذا اعتبارات لا تخلو من الغرابة والتأمل فيما يبعث الفكر على الحيرة والاندهاش، وذلك أنه في أيام أبيه غودون حدثت مخاصمة بين غودون والملك إدوارد ، وآلت إلى حشد كل منهما قواته وإصلاء حرب عوان هلك فيها من الجانبين عدد كثير، وأخيرا تبين أن جانب غودون عزيز ومعداته الحربية لا تقاوم، وشوكته القوية لا تقوى حكومة إدوارد على كسرها وإخضاعها، وبعد مواقع مخيفة ومعارك هائلة بلت قسما كبيرا من البلاد بويلات حرب أهلية عقد بينهما صلح، على شرط أن غودون يبقى حاكما على أقسام معينة كان متوليا سيادتها منذ وقت طويل على طريقة إدارية يعترف فيها بسيادة الملك إدوارد عليه، وكان عليه لقاء ذلك أن يفرق عساكره المتجمعة، ويعد بعدم إشهاره حربا على الملك فيما بعد، ويحقق وفاءه بما وعد بتقديم كفلاء.
أما الكفلاء المقدمون في مثل تلك الأحوال فكانوا من الأنسباء والأقرباء والأصدقاء الأعزاء، وكان الغرض من تقديمهم - فيما يرى - أنه إذا أخلف من يقدمهم وعده للمقدمين له؛ فهذا يسوقهم إلى السجن ويسومهم أشد العذاب، أو يوردهم موارد الحتف بطرق تتنوع في تلطيف عقابهم وتعظيمه بالنسبة للبواعث الداعية إلى أسرهم عنده، وحسب درجة الغيظ الذي حرك سكونه في قلبه ثأر حقيقي أو وهمي، على أن هذه الطرف الخشنة من المعاهدات قد انتسخت الآن وبطلت بالكلية، وإن كان جبين هذا التمدن الحديث لم يخل من لطخها السود في أول نشأته وعهد حداثته، والذين كانوا ينتخبون كفلاء في ذلك العصر كانوا دائما صغارا حديثي السن حتى تكون صعوبة فصلهم عن أهلهم وأصدقائهم مؤلمة موجعة، وكانوا يستودعون من هم ألد الأعداء والخصوم لهم فينقطعون بهم إلى الأماكن الموحشة المنفردة تحت حراسة الغرباء، وهناك يقيمون مستمرين على إيجاس خوف إخلاف وعد، وخرق عهدة تبعث على التنكيل بهم، والإساءة إليهم.
وهكذا كانت الفظائع والجرائم المرتكبة ضد أولئك الأبرياء غاية الهول، حتى إنه حدث في إحدى المعارك بين الملك أشلرد وكانيوت، أن كانيوت لما أكره على الفرار من وجه أشرلد واضطر إلى طلب الشواطئ البحرية ليركب السفن طلبا للنجاة؛ عمد إلى بعض الكفلاء الذين كانوا مرهونين عنده من قبل الملك أشرلد، فقطع أيديهم وأرجلهم وجندلهم على رمال الشاطئ مخضبين بدماء قساوته الوحشية، نازعين من شدة آلام جريمته البربرية.
أما الكفيلان اللذان ذكر المؤرخون أن غودون أعطاهما للملك إدوارد، فكانا ابنه وحفيده واسماهما: النوث وهو أخو هارلود، وهاكيون وهو ابن أخيه، وإذ أشفق إدوارد من احتيال غودون على استرجاعهما إليه إذا أبقاهما في إنكلترا رأى أن يبعث بها إلى نورماندي، ويتركهما هناك تحت حراسة وليم، فلما مات غودون طلب ابنه هارلود من الملك تسليمهما بدعوى أنهما أخذا ضمانة على أبيه، وأبوه الآن لم يعد حيا، فلم يقدر إدوارد أن يرفض تسليمهما رفضا مطلقا، لكنه رأى إبقاءهما تحت سلطانه واجبا بداعي ما نظره من هارلود من التأهب والاستعداد لجمع القوات التي تمكنه من أن يخلف أباه في كل شيء، على أنه لم يجد مناسبا أن يعلن له رفض تسليمهما على الإطلاق، بل تعلل له أنهما في نورماندي وسوف يسعى جهده في إعداد الوسائل التي تمكنه من إحضارهما على جناح الراحة والأمان.
فعول هارلود أن يذهب بنفسه ويجيء بهما، وعرض رأيه هذا على إدوارد الذي لم يعارضه فيه حسب الظاهر، بل شحن جهده في أن يثني عزمه بذكر المخاطر والأهوال التي تتهدده في الإقدام على هذا السفر، وذكر له منها أن وليم النورماندي رجل غاية في الدهاء والشجاعة، فليس من الحكمة أن يخاطر بنفسه بالذهاب إليه ويتعرض لمصاعب بطشه وسطوته - والمقابلة في هذا الشأن بين هارلود والملك إدوارد مرسومة في مطرز بأيو الذي مر عليه الكلام في الفصل الخامس - ولم يعرف بالتحقيق أي تأثير أحدثه إنذار إدوارد لهارلود في هذا الشأن، بل حدث بعده أن هارلود اجتاز البوغاز الإنكليزي إلى نورماندي.
وقد تضاربت الروايات وتلونت الأحاديث المنقولة عن كيفية سفره هذا، فقد روى بعضهم أنه بينما كان يجول على التخم الإنكليزي من البوغاز مع عصبة من أتباعه وحواشيه طلبا للتنزه إذ هبت عليهم عاصفة شديدة قذفتهم إلى شمالي فرنسا، ويرجح أن هذه الرواية مجرد ادعاء فقط؛ لأن هارلود عقد نيته على الذهاب، ولكنه لم يشأ أن يفعله ظاهرا تفاديا من تغلظ خاطر إدوارد عليه ، فادعى أن الرياح ساقته إلى نورماندي مرغوما ضد إرادته، وفي كل الأحوال حدوث تلك العاصفة كان صحيحا، سواء كان سوقه بقوتها إلى الشطوط الفرنسية حقيقة أو ادعاء، فإنها حملته خارجا عن طريقه، وساقته في عرض البوغاز إلى شرقي نورماندي، وأخيرا ألقت بقاربه إلى الشاطئ بالقرب من مصب نهر سوم فكسرته، على أنه نجا إلى البر هو وأتباعه، وثم وجدوا أنفسهم في حكم أمير يتولى تلك التخوم يدعى الأمير غوي، ولقبه الكونت دي بونتيي.
ومن شريعة تلك الأيام أن السفن المنكسرة تصبح ملك حاكم البلاد التي انكسرت على شواطئها، وليست السفن وبضائعها فقط، بل إن جميع من فيها يصيرون عرضة القبض والأسر حتى يقدموا فدية عن نفوسهم، فهارلود إذ كان عالما بهذا اجتهد في أن يخفي أمره ويسير حتى يبلغ نورماندي، وإذا بصياد رآه من لباسه وهيئة منظره والمعاملة الخصوصية التي كان أتباعه يعاملونه بها تحقق أنه رجل عظيم القدر والمكانة في وطنه، فذهب إلى الكونت مسرعا وقص عليه الخبر قائلا: «هبني جائزة فأدلك على رجل يساوي مائة ضعف» فانحدر الكونت بحاميته إلى الشطوط وألقى القبض على أولئك المنكودي الحظ، واستولى على كل ما سلم من الأمواج من أمتعتهم وأشيائهم، وجاء بهم إلى قلعته في أبفيل، وهناك أغلق عليهم إلى أن يقدموا له فدية عن نفوسهم.
فاحتج هارلود ضد هذه المعاملة من وجه أنه قادم إلى حاكم نورماندي بأمر ذي شأن من عند ملك إنكلترا، وليس في إمكانه أن يعاق عن إتمامه، فلم يسمع له الكونت كلاما بهذا الموضوع، بل ظل مصرا على حبسه أو يقدم الفدية، فأنفذ هارلود بلاغا إلى وليم، به يعرفه بنفسه ويطلب إليه إنقاذه، فأرسل وليم إلى الكونت يستدعي إطلاق الأسرى، وكل ذلك بعثه على أن يتمكن في عزم عدم عتقهم، وتعظيم قيمة الفدية التي يتوقعها لأجلهم، ولم يزل عاملا على ضبطهم وعدم تخلية سبيلهم حتى افتداهم وليم بمبلغ عظيم من الدراهم، وإضافة إقليم جديد إلى أملاك الأمير غوي، وإذ ذاك أطلق سراح هارلود ورجاله، وجيء بهم إلى مدينة روان بسلام، حيث استقبلهم وليم بمزيد التجلة والإكرام، وأنزلهم في قلعته ضيوفا مأهولا بهم ما شاء الله من الأيام، وأعد لهم المآدب والولائم، وجعل كل أيام نزولهم عليه أعيادا ومواسم وقال لهارلود: إن رجوعه إلى إنكلترا موقوف على إرادته، وأمر الكفيلين أخيه وابن أخيه اللذين جاء يطلبهما منوط بإشارته، على أن سأله أن لا يعجل في العود إلى بلاده، بل يلبث عنده مدة ريثما يتمكن بإتمامه من إكرام مراده، فأجابه هارلود عليه، وبالغ في الشكر له والثناء عليه.
ومما لا يغرب عن ذهن المطالع أن هذه المظاهر الاحتفائية والمجالي الإكرامية التي أقامها وليم لضيوفه بملء الفرح والسرور بنيت على أنه اتفق له أن يصادف في بلاده أكبر المناظرين له والمزاحمين في الاستيلاء على العرش الإنكليزي، وقد أتيح له بهذه الوسائل أن يكبر عليه أمره، وينزع منه أفكار المناظرة والمباراة، وبالتالي يجعله من أكبر مظاهريه ومناصريه؛ ولذلك أفرغ كنانة جهده في توفير ذرائع سروره وانشراحه في هذه الزيارة، وطفق يعرض عليه موارد غنى البلاد ومصادر خيراتها، وشرع يطوف به متنقلا من مكان إلى آخر، مستعرضا عليه المدن والقلاع والحصون والأديرة، وأخيرا هيأ موكبا عسكريا وطلب منه أن يركبه فيه برفقته لزيارة بلاد بريتاني، فسر هارلود مما صادفه من عظمة الاحتفال وبديع المناظر التي شاهدها، وهكذا أتباعه، فلم يكونوا أقل منه سرورا لا سيما وقد أنعم على كثيرين منهم بألقاب الشرف، وأكثر من منحهم الخيول المطهمة والرايات الفاخرة والأسلحة المتقنة وغيرها من الهبات والعطايا النفيسة، بحيث استمال قلوبهم إليه، وجعل أفكارهم بكليتها متجهة نحو شكره والثناء عليه، واستولى على إرادتهم حتى غادرهم من أغنى الرجال لديه.
وكانت بريتاني المقصودة على تخوم نورماندي الغربية، فاجتاز وليم إليها بضيوفه في عرض البلاد النورماندية على غاية الأبهة والجلال، وكان مع هارلود في غضون تلك المدة بكمال الصداقة والمودة، فكانا ينامان في خيمة واحدة، ويأكلان على مائدة واحدة، وكثيرا ما ظهر في أثناء ذلك من هارلود من آيات البراعة في الفروسة ومخايل الشجاعة في حوادث مختلفة عرضت لهم في بريتاني، وكل ذلك زاد وليم رغبة في استمالته إليه، واكتساب قوة الاستناد عليه، وإلا فعلى الأقل تجنب معاداته ومناظرته، وفي رجوعهما إلى نورماندي وجد أنه قد حان وقت شروعه في إخراج مقاصده من حيز القوة إلى دائرة الفعل، وعليه عول على مطارحة هارلود الكلام في شأن رغائبه، وطلب مساعدته في إنفاذها.
Bilinmeyen sayfa