في تاريخ الطب منذ وجوده إلى أيام العرب
ملحق
في تاريخ الطب منذ وجوده إلى أيام العرب
ملحق
تاريخ الطب عند الأمم القديمة والحديثة
تاريخ الطب عند الأمم القديمة والحديثة
تأليف
عيسى إسكندر المعلوف
ألقي في محاضرتين: ألقيت الأولى في المعهد الطبي بدمشق في 4 آذار سنة 1919م، والثانية في 18 آذار سنة 1919م.
في تاريخ الطب منذ وجوده إلى أيام العرب
يقسم تاريخ الطب إلى أدوار بحسب تاريخها عند الأمم القديمة، أفصلها بابا بابا بما يحتمله المقام، راجيا العفو عن الخطأ، فإن العصمة لله - سبحانه وتعالى - وهو حسبي وإليه أنيب ... (1) الطب عند المصريين
يعد المصريون من أقدم الأطباء؛ لأن اعتقادهم ببقاء الأجسام وإعادة الأرواح إليها حملهم على حفظ جثث الموتى، فأوجدوا «التحنيط» الذي فاقوا فيه سواهم من الأمم، وفي سفر التكوين إشارة إلى تحنيط جسد «يعقوب» بأمر ابنه يوسف وزير ملك مصر، فكان كهنتهم في هياكلهم أطباء، وفي الآثار القديمة صور أقدم جراحيهم من الكهنة يفصدون ويبضعون، ويكوون في نقرة القفا والصدغين والصدر استشفاء من بعض الأمراض، وقد كتبت أسرار صناعتهم على جدران هياكلهم بلغتهم الهيروغليفية (المقدسة)، وكلها تدل على مهارتهم في الطب والجراحة، وكان ثلث دخل البلاد مخصصا لكهنتهم الأطباء.
وهم يزعمون أن واضع علم الطب عندهم هو «ثوث» المعروف بهرمس، وقد ألف لهم 42 كتابا مقدسا منها الستة الأخيرة في هذا الفن، وقد ضمنها أبحاثا في تركيب الإنسان وأعضائه، ولا سيما العينين لكثرة الحاجة إلى تطبيبهما، لما يعرو آلات البصر في بلادهم من الأمراض العضالة والرمد للرطوبة والحر المتعاقبين، ووصف آلات جراحية تتخذ في أمراض النساء وتوليدهن، وذكر العوارض الناشئة عن هذه الأمراض.
وبرع المصريون في طب الأسنان، كما يظهر من المحنطات وهياكل عظام الفكين، التي ظهرت في أضرحتهم وفيها أسنان ذهبية، وكان كهنتهم يحلقون شعر بدنهم كل ثلاثة أيام وقاية من انتقال القمل والحشرات من المرضى إليهم، وكانوا يلبسون عند التطبيب جبة بيضاء، ويتقاضون أغرب أجرة عن عملهم، وهي أنهم يحلقون شعر المريض بعد شفائه، ويأخذون ثقله فضة.
واعتقد المصريون أن المعرقات والمقيآت والحقن من مقصيات الأمراض عنهم؛ فلذلك أكثروا من تناولها في مواعيد قريبة حتى كانت عبارة السلام عندهم، أن يقول أحدهم لصاحبه: «كيف عرقك؟» كما يقول أحدنا لمن يلتقي به: «كيف حالك؟» أو «كيف صحتك؟» وذلك لاعتقادهم أن أكثر العلل ناشئ عن الطعام وأخلاطه.
وذكر أرسطو أن شريعة المصريين كانت تحظر على الأطباء تحريك الأخلاط قبل اليوم الرابع، فإذا خالفوها ومات المريض عوقبوا بالموت قصاصا لهم.
وكانت تكثر عندهم أمراض الجلد وأدواء العينين، فعرفوا كثيرا من الفنون الطبية، ولكن اعتمادهم على أن الطب من علم العبادات وعلى السحر والكهانة والتنجيم والرقى أضعف التفنن في الطب عندهم، ولقد عالجوا ببعض العقاقير منها معالجة الجنون بالخريق، واتخذوا نبيذ الخل ولبن النساء علاجا، وركبوا دواء عرف عندهم باسم «دواء الغضب والغم»، وكانوا يعتمدون على الصلاة للآلهة عند التطبيب، والمريض يفعل ذلك عند تناول العلاج. وعرفوا فن الرياضة البدنية، حتى قال هيرودوتوس: إن المصريين كانوا بصحة المزاج ثاني الليبيين.
وأما طرق التحنيط عندهم فمع خفاء أسرارها اكتشفت بعضها بمباحث العلماء، وأشهر ما عرفوه منها عنهم كان يقوم بثلاثة أنواع:
أولها وأهمها: طريقة الأغنياء، وهي شق الخاصرة اليسرى تحت القصيري - أي: آخر الأضلاع السفلية - ونزع الرئتين والأحشاء من ذلك الشق، ما عدا القلب والكليتين؛ لأنهما من أسباب الحياة الأولية، وذلك الشق كان يجرى بصوانة أو ظرانة حادة تسمى «الحجر الإثيوبي» أي: الحبشي.
ثم نزع الدماغ من المنخرين بأداة عقفاء، وغسل المحال المذكورة بخمر البلح وحشوها بالراتينج والأقاقية والمواد الأخرى، ثم أن يخاط ذلك الشق وتنقع الجثة المحنطة سبعين يوما في النطرون (ملح البارود)، وتدرج بالكتان أي: تلف لفا محكما، ويوضع في ثنايا اللفائف حلي وجواهر وحجارة كريمة ونبذ من «كتاب الموتى» المشهور عندهم، ثم تسجى في تابوت وتلحد في المدافن المحاذية لتلال ليبية على عدوة النيل الغربية حيث تغرب الشمس.
وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن الأرواح تستقر هناك بعد مفارقة الحياة في المكان الذي يسمونه «أمنتي»، وكانت اللفائف من قماش القطن المدهون بدهان يسمونه «كومي» يستعملونه كغراء للتلصيق.
وهذه الطريقة كانت لتحنيط جثث الأغنياء والمشاهير، وكان ينفق على كل محنط فيها نحو مائتين وخمسين ليرة إنكليزية من نقودنا.
وثانيها: أن ينزع الدماغ من المنخرين بثغرة تفتح في مجرى الأنف، ويملأ بزيت الأرز أو بمذوب النطرون الذي تنقع الجثة فيه أيضا سبعين يوما، حتى تذوب الأحشاء والأجزاء الرخوة كلها، ولا يبقى منها إلا الجلد والعظم، وهذه اتخذت لتحنيط المتوسطين من الطبقة الثانية المالية؛ لأنها أقل نفقة من الأولى.
وثالثها: أن تغسل الجثة بالمر وتحقن بسائل يسمى «سرمايا»، والمر يسمى عند العامة بالصبر
1
ثم تملح سبعين يوما.
وهذه طريقة الطبقة الثالثة أي: الفقراء، وهي أبسط الطرق الثلاث وأقلها نفقة، وكانوا يحقنون العينين بمادة تحفظهما على حالتهما الطبيعية.
وتفنن المصريون بالتحنيط بطرق أخرى مختلفة مثل نزع الدماغ من وقب العينين، أو من فتحة في القذال أو في علاوة الهامة، ورد الأحشاء إلى مواضعها بعد تحنيطها أو استيداعها إناء خاصا، ووضعها في الضريح إلى جانب الجثة، وقد يفتحون الجثة لنزع الأحشاء بين الكتفين أو في صلب الظهر ويحشونها، ويدهنون الجسم بنوع من تراب الفخار، ولعله مادة «المومياء»، وهي كلمة حبشية (لا يونانية كما ذكر بعضهم)، معناها الطين الأسود، استخدموها لحشو بعض أجواف الجسم أو لدهنه بها، ويسميها اليونانيون «تاريخس» أي: قابض ومجفف، وعرفها العرب باسم «المومياء»، فذكرها كثير منهم مثل ياقوت في معجم البلدان، والهمذاني في البلدان أيضا، وداود البصير في تذكرته المشهورة، وقال فيها ابن التلميذ الطبيب النصراني العربي مصرحا باتخاذها لجبر العظام المكسورة:
جودة كالطبيب فيها يداوي
سوء أحوالنا بحسن الصنيع
فهو كالموميا إذا انكسر العظم
ومثل الترياق للملسوع
وكان يوضع في لفائف جثث الملوك حول العنق حجابان من خشب، (أحدهما) مطلي بالذهب وعلى أحد وجهيه صورة إزيس ونفتس وبينهما جعلان، و(الثاني) الذي يكون من ذهب نقي عليه نقوش ورسوم بلابل وحبوب، وصورة الملك ومعبوده، وأمام كل من الصورتين صورة اسم الملك، فعرفت من هذه الرموز جثة كل محنط مما ظهر للباحثين عند الحفر.
ولعلهم اتخذوا شجرة البلسم القديمة في مصر للتحنيط؛ لأنها عطرية تشفي الجروح وتمنع الفساد، وبقيت مكرمة عند المصريين إلى القرون المتأخرة، واشتهر المصريون بالكيميا لإعداد مواد التحنيط.
وكانوا يحتفلون للتحنيط احتفالات عظيمة، ويتولى ذلك الأطباء الذين هم من الكهنة القائمين بالخدمة الدينية، فأتقنوا ذلك كل الإتقان، حتى تفوقوا على غيرهم، وساعدهم على ذلك جفاف الهواء وانتظام الجو والاعتقاد الديني، فغصت المتاحف بمحنطاتهم المتقنة.
وكان المحنطون طائفة تتوارث الصناعة خلفا عن سلف، وطريقتهم فيها أنهم يقدمون إلى أهل الميت قائمة تبين طرق التحنيط المختلفة، ويسألونهم أن يختاروا إحداها، وبعد الاتفاق يأخذون الجثة إلى أناس خصصوهم لهذا العمل، فيتقدم أولا منهم الكاتب المسمى «غرامات» ويرقن على الخاصرة اليسرى محل الشق، ثم يتبعه الشارط المسمى «البراشيست»، فيشق المحل بحجر حبشي ويسرع هاربا؛ لأن الحاضرين يرمونه بالحجارة ويلعنونه لاقترافه هذه الجناية بتشويه الجثة، ثم يبادر المحنطون إلى الجثة ويدخل أحدهم كفه في البضع، وينزع الأحشاء المراد استخراجها، ويدفعها إلى آخر؛ ليغسلها بنبيذ الخل ونحوه من الأرواح العطرية والأدوية المطهرة ويعالجونها، إلى أن يتم تحنيطها فيردونها إلى أهلها محفوظة جيدا سليمة شعر الحاجبين، وأهداب العينين حافظة شيئا من منظرها الطبيعي.
أما شهيرات النساء فلا يسلمونهن للمحنطين على أثر موتهن، وكذلك الجميلات المنظر منهن كما يسلمونهم جثث الذكور، بل يبقونهن أربعة أيام في البيت ويسلمونهن للتحنيط، وذلك خوفا من ارتكاب الفحشاء بهن إذا جرى ذلك فتنبهوا إلى هذا.
ومن آثار براعتهم درج مصري في متحف برلين الألماني فيه رسالة «تشريح» من رسائل طبية كثيرة من تأليف أثوثيس بن مينا من ملوك الدولة الأولى المصرية، فهو إذن أقدم كتاب طبي عرف حتى الآن، ولا سيما أنه يدل على إتقان الملوك للطب والتشريح، فهو إذن أول كتاب جراحي في العالم، مع أن التشريح كان محظورا عندهم؛ لاحترامهم الأجساد احتراما دينيا يوجب حفظها سليمة.
وذكر ديوجنس أنهم كانوا يعتقدون أن الحيوانات مركبة من أربعة عناصر، وأن جسد الإنسان مركب من ستة وثلاثين عضوا، بقدر عدد القوات المستولية على الصحة والمرض .
وكتب هيرودتوس أن الطب كان يوزع على أطبائهم بحسب فروعه، فكان كل منهم اختصاصيا بفنه، وكان أكثر الأطباء رمديين لكثرة أمراض العيون كما مر، وكذلك أطباء الأسنان كثروا عندهم؛ لأنهم كانوا عرضة لنخر الأسنان من رطوبة المناخ.
وعرفوا الكيمياء لإعداد أدوية العلاجات وبحثهم عن الإكسير لتحويل المعادن، وكان أطباء الفراعنة ثلاثة أقسام: الطبيب العادي والراقي والمشعوذ الساحر، كما استدل من بردي قديم، ومما يدل على شهرتهم أن كلا من كورش وداريوس ملكي الفرس استقدما أطباء منهم لمعالجتهما بأمراضهما، وفي مراسلات بلين وتراجان الرومانيين تهنئة الأول لنفسه لنجاته على يد طبيب مصري يدعى «أبو قراط». (2) الطب عند العبرانيين
انحصر الطب عند العبرانيين في الكهنة والمشترعين والملوك كما كان في مصر؛ لأنهم اقتبسوا الصناعة من تلك البلاد أيام استعبدوا فيها للفراعنة، وأهم آثارهم الصحية في التوراة والتلمود، ومنهما يفهم أن موسى أتقن الطب المصري باختلافه إلى مصر لإخراج بني جنسه منها، وقيادته إياهم مدة أربعين سنة في برية سيناء، فكان هو قائدهم ومشترعهم وطبيبهم بلا مراء، وكان يفرض على كهنة العبرانيين حفظ صحة الشعب؛ فحرصوا على الحذق في الطب، وأتقنوا الختانة وهي نوع من الجراحة كان فيها الصوان من آلاتهم، وقد وضع قواعد بديعة لتمييز الحيوانات التي تؤكل لا يزال الناس يجرون عليها إلى يومنا، ومنع الزيجة بالأقارب تفاديا من توارث الأمراض المتأصلة في الأسرة، وقد نبه إلى اعتزال الأبرص عن الجماعة؛ لئلا تتفشى العدوى بينهم، وقد اختاروا لكل هيكل لهم طبيبا خاصا، وفي كل مقاطعة طبيبا وجراحا، واشتهر عندهم نباتيون عظماء منهم سليمان الحكيم، فإنه ذكر خواص كل من الحيوانات من دابة ومائية وزحافة وطير، ووصف النباتات من الزوفي حتى الأرز، وطرق الاستشفاء بها كما ذكر يوسيفوس المؤرخ، ومن النباتات المشهورة عندهم البلسم لمداواة الجروح، وعرفه المصريون أيضا وهو عطري الرائحة، وعلى الجملة فقد اشتهر بينهم أطباء وقوابل وجراحون مع اشمئزازهم من ملامسة الجيف، كما تحذرهم شريعتهم، وكثر أطباؤهم في عهد الملوك، وكذلك في عهد المسيح، وذكر التلمود عملية تقطيع الجنين في الرحم والاستشفاء بالخمر والتحنيط بالطيوب، والتوراة ذكرت فائدة المياه في شفاء الأمراض الجلدية.
وازدادوا براعة في الطب بالأجيال الوسطى، فكانوا أول من نقل قانون ابن سيناء إلى العبرانية فاللاتينية، واشتهر كثير من أطبائهم في الدول العربية شرقا وغربا كما سترى. (3) الطب عند البابليين والآشوريين والكلدانيين
ارتقت الصناعة الطبية في آشور قبل الميلاد بنحو ستة قرون، وفي آجر مكتبة آشور بانيبال (وهي نحو عشرين ألف آجرة مكتوبة) فاتح مصر وبابل الذي نقل رعاياه إلى السامرة مئات تبحث في المداواة والعلاجات وصنعة الأطباء، فوصفوا للسكيرين الامتناع عن كل شراب روحي وعن كل طعام، وعرفوا من العلاجات التخميز (التمسيد)، والدلك بالبصل للمصاب بالصفراء، والمصاب بالزحار أن يمشي حبوا (على يديه ورجليه)، ويصب على رأسه الماء البارد.
وكان معظم أدويتهم زيت الزيتون وزيت الخروع، وشراب التمر والعسل والملح ... إلخ. وعلى الجملة فإنهم أتقنوا الطب والجراحة، ولكن المصريين كانوا يتفوقون عليهم فيهما، وكان طبهم مبنيا على التجارب مدونا في الهياكل، وقد عرفوا التحنيط بالعسل والعلاج بالتعاويذ والرقى والطلاسم والأحجبة مما شاع عند المصريين.
وكانت لهم مدارس طبية في العراق وضواحيه كشفت آثار إحداها في القرن السابع قبل الميلاد، وفيها ألواح تتضمن وصايا طبية وعلاجات، ووصف أمراض ومركبات نباتية وغيرها للاستشفاء.
ولقد انتقلت بعض معارفهم بعد ذلك إلى النساطرة واليعاقبة، ولا سيما في زمن العرب، كما ذكر ذلك كثير من المؤرخين من إفرنج ومستشرقين، وممن أطال في وصف فنونهم الطبية المستشرق الفرنسي دو فال بكتابه «الآداب السريانية» المطبوع في باريس بمجلد في أكثر من أربعمائة صفحة. (4) الطب عند الفرس
تناول الفرس طبهم من جيرانهم الموصوفين، ونبغ منهم أطباء اشتهروا بالحذق والعناية بصناعتهم، وكان دخول الطب اليوناني إليهم بواسطة تزويج أولينوس قيصر لسابور ملك فارس ابنته، فبنى لها مدينة جنديسابور، وكان في خدمتها أطباء يونانيون نقلوا الطب البقراطي إلى الشرق، ولقد استقدم بعض ملوك فارس أطباء مصريين ليعالجوهم، وعن هؤلاء تناول صناعته الطبية الحارث بن كلدة طبيب العرب، وكانوا يحنطون جثث موتاهم بطلائها بالشمع لتحفظ سالمة ، ومن أقوال بزرجمهر حكيمهم: إن كان شيء فوق الحياة فالصحة، وإن كان شيء مثلها فالغنى، وإن كان شيء فوق الموت فالمرض، وإن كان شيء مثله فالفقر.
ومما انتبهت إليه في بعض مباحثي اللغوية أن مئات من الكلمات النباتية، والاصطلاحات الطبية ونحوها هي فارسية في لغتنا العربية، عربها الأطباء الذين اتصلوا بالعرب أو المعربين عندهم مثل مرض البرسام، وهو التهاب الحجاب بين الكبد والقلب يتركب من «بر» صدر و«سام» التهاب، ويقال: إن قولهم: سبخ عنه الحمى، أي: خففها مأخوذ من «سبك» وهو الخفيف، والسرسام ورم حجاب الدماغ من «سر» رأس، و«سام» التهاب أو ورم، وتقول العامة: السرساب، وهو نوع من الجنون أو الخوف ويشقون منه فعلا، فيقولون: فلان مسرسب، أي: خائف، والسل أصله فارسي من كلمة «سل» أي: الرئة؛ لأن المريض تصاب رئته، والسمادير ضعف البصر حتى يتراءى للناظر أشباح هي معرب «سمراد»، أي: الوهم والخيال، والبيمارستان من «بيمار» مريض، و«ستان» محل، ويقال: مارستان مخففة، والهاون ما يدق فيه الدواء، والبنج فارسيتها «بنك»، والبنفسج «بنفشه»، والجلوز حب الصنوبر الكبار وأصله «جالفوزه» ذكره ابن سيناء في القانون، والحسرودار محلل الرياح تحريف «خسرودار»، وهو منسوب إلى كسرى الملك لوجوده بأيامه، والزراوند نبات المنقرس، والزنجبيل تعريب شنكبيل، والبستان لأمراض الصدر من «سك بستان» أي: ثدي الكلب، والجوارش من الأدوية تعريب كوارش، أي: الهاضوم والهضام، والجلاب أو الجلاب العسل أو السكر المعقود من «كل» أي: ورد، و«لاب» ماء؛ لأنه كان يعقد بماء الورد، والجلنجبين معجون من الورد والعسل من «كل» أي: ورد، و«أنكبين» عسل، والزيرباج من «زيرا» وهو الكمون و«با» طبيخ وهو طعام يطبخ من لحم طير سمين وكمون وخل للاستسقاء، و«المزر» نبيذ الشعير المعروف «بالبيرة»، والسكر تعريب «شكر»، والشهترج نبات للجرب والحكة تعريب «شاه تره» أي: سلطان البقول، والشيطرج دواء للمفاصل، والبهق تعريب «شيتره»، ومعناه مسواك الراعي، والفوتنج من «بودنه» أي: الحبق، والنهري تسمى نعنع الماء والنعناع فارسية تعريب «ناناه»، والبرشت من البيض أصله «نيم » نصف و «برشت» مشوي، والزئبق معرب «زيوه» إلى كثير من هذه الألفاظ الطبية. (5) الطب عند الهنود
كان الطب القديم عندهم في طوره الأول خرافيا ممتزجا بالشعائر الدينية والأساطير التقليدية، فبني على الرقى والتعزيم والسحر، وأما الطور الثاني منه فكان بيد البراهمة فارتقى، وكان التشريح أساس طبهم؛ لأنه لم يكن محرما عندهم فتح الجثث، ولهم أعمال جراحية كثيرة لاستخراج الحصاة وبقر البطن والكي بالحديد المحمي، وبنوا طبهم على مبادئ الهواء والصفراء والبلغم، وتعرف عندهم بالأخلاط الأصلية، وأطباؤهم ثماني طبقات ولكل منهم فن خاص به يكون فيه اختصاصيا مثل الطب المصري، وكثيرا ما يعتقدون أن أسباب الأمراض تولد مع الجسم، وتنتج إما عن الخطايا أو عن فساد الأخلاط، ويعتمدون في تدبير الأمراض على النبض والبول والمبرزات، فيفحصونها ويستدلون منها على أنواعها، ولهم في القبالة (التوليد) براعة، وكانت عندهم شبه مستشفيات لها، وأجروا عملية تقطيع الجنين في الرحم، ويستدل أن الفرس نقلوا بعض طبهم وعقاقيرهم عنهم، فتناولها العرب ونبغ في عهد الخلفاء أطباء منهم مثل صالح بن بهلة الذي طب لهارون الرشيد، ونقلوا بعض كتبهم بالعربية حتى لا يزال بعض الأسماء الهندية دليلا على ذلك في الطب مثل «الجوزا هنج»، قال صاحب التاج: إنه دواء هندي فارسي معرب. (6) الطب عند الصينيين
إن الطب الصيني اليوم هو أشبه به منذ آلاف من السنين لحرص الصينيين على تقاليدهم، على أن الأطباء القدماء كانوا يشاركون بكل نوع من الطب، وأطباء اليوم اختصاصيون، ومن مبادئهم الاقتصار على فحص النبض فقط، ولهم فيه مؤلف قديم قبل الميلاد، ومن معتقداتهم أن أسباب الأمراض البرد والريح والرطوبة، وعندهم نباتات يستعملونها خارجا إما لتوقيف الاستطلاق (الإسهال) بالتضميد، أو للوقاية من السكر والخوف والتخويف، والحمل على العشق أو كرهه، واشتغل ملوكهم بالنبات حتى إن أحدهم ألف فيه كتابا في ستين مجلدا، ولكنهم لا يحرصون على النظافة فتتفشى بينهم الأمراض الوبيلة، كالحمى التيفوئيدية والزحير ونحوها، ويكثر التناسل عندهم مع كثرة موت الأطفال، وكانوا ينسبون حدوث الأمراض إلى الفصول، فيقولون: إن أمراض الصدر والرئتين هي من الشتاء، والحميات من الخريف، والصداع والعصبي من الربيع، والأمراض الجلدية من الصيف، ويكرهون الحقن والفصد ويعتمدون على الحمامات والحجامة، وأتقنوا الخصي كل الإتقان، ولكنهم جهلوا التشريح لتحريمهم فتح الجثث، وعرفوا بعض الآلات الجراحية البسيطة كالمبضع، وقالوا: إن الحامض لتغذية العضلات والحلو لتغذية غيرها والمالح لتغذية العروق الدموية، والمر لتقوية الجسم عموما والحريف لتغذية العظم، وعجزوا عن شفاء الساد (الماء الأزرق) في العينين (الكتركتا)، ومن غريب ما يطلب من أطبائهم أن يصرح كل منهم بعيادته الأولى للمريض أمام أهل البيت بالمرض وأسبابه ونهايته، وقد خصصت القبالة عندهم بالنساء فقط، ولهم فيها مزاعم وخرافات ومركبات الأدوية الصينية تربو على خمسمائة نوع من النباتات الطبية والتراكيب المختلفة، مثل قرن الوعل وذرور الأظافر وشوارب النمور، وكثير ما يفرط باستعمالها حتى تميت المرضى، وعرف العرب شيئا من الطب الصيني بدليل أن بعض اللغويين ذكر اسم «الكبابه» أنه دواء صيني فارسيته «كبابه» ويقال: «كبابيه» ومعربه «حب العروس»، وأحسنه الفلفل المذنب الذي يجلب من جزيرة شلاهاط الصينية، واسم الجدري عندهم «تشوهوا»، ولعل منها كلمة تشويه العربية، وعرفوا التلقيح قبل أن يكتشفه جنر مؤخرا. (7) الطب عند الأحباش
لا شك في أن طب الأحباش مأخوذ عن الطب المصري الذي شاع في إفريقية، وكانوا يمزجونه بأديانهم في زمن دولتهم القديمة الإثيوبية، وكانوا يحنطون بطلاء الجثة بالصمغ لكثرته عندهم، ويلفونها بإحكام بجلود من الماعز، وحنط بطريقتهم سكان جزائر كنارية المعروفون بالغواشنة أيضا، وكان أطباء العرب يستعملون الحجر الإثيوبي لشق الجثة عند التحنيط، وكلمة «الموميا» حبشية الأصل بمعنى «الطين»، ولا يزال بعض الأسماء النباتية عند المصريين والعرب حبشي الأصل. (8) الطب عند السكيثيين والتتر والترك
طب هؤلاء على طرائق الكلدان والآشوريين والبابليين والهنود من مجاوريهم، الذين اتصل قدماؤهم بهم فكانت علاجاتهم مثلهم ممزوجة بعقائدهم، ولما كانت لغتهم القديمة الفارسية كانت أهم أسماء العقاقير مثل ما هي عند الفرس، ومن أمثالهم الطبية «من يأكل وهو شبع يحفر قبره بأسنانه.» وكانوا يحنطون الجثث بخياطتها هرمسيا في كيس من جلد، واستخدموا أطباء النصارى وغيرهم ، ففي القرن السابع للهجرة كان من أطباء هولاكو وأولاده المشهورين فخر الدين الأخلاطي وتقي الدين الحشائشي المشهور بعمل الترياق، ونفيس الدين بن طليب الدمشقي وولده صفي الدين النصراني الملكي، والموفق النصيبي النصراني أيضا وغيرهم. (9) الطب عند اليونانيين
تمهيد
المشهور عند اليونانيين من القديم أسقليبوس (أسكولاب) إله الطب، وهو ابن أبولون، وفي أساطيرهم أنه عندما لم يسر بشفاء المرضى استعاض عنه بإقامة الموتى، فغضب عليه المشتري وصعقه بصلاة «بليطون»، وكانت تلك الصاعقة باعتقاد القدماء مركبة من ثلاثة أجزاء من البرد، وثلاثة من المطر وثلاثة من النار، وثلاثة من الريح، فكرس كل من الديك الذي هو رمز السهر، والحية التي هي رمز الفطنة حياته لأسقليبوس؛ فلذلك صوروه أحيانا بهيئة رجل جعد الشعر متكئ على جذع شجرة قائمة بجانبه.
وقال يحيى النحوي: «إن أول من أظهر الطب على ما تناهى إلينا في الكتب المكتوبة والأحاديث المشهورة من العلماء الثقات هو أسقليبوس الأول، وهو الذي استخرج الطب بالتجربة، ومنه إلى جالينوس خاتم الأطباء ثمانية أطباء، وقيل: إن اسمه اليوناني مشتق من اسم العلاجات. ا.ه.»
وروى آخرون أن أسقليبوس بعد أن هبط عليه الطب، وأودعه في أهله رفع إلى السماء،
2
فتواثق أعقابه من بعده أن يحفظوا سره في عشيرتهم فقط، فانحصر الطب في الكهنة من سلائله، وكانت المواضع التي يدرس فيها الطب عندهم ثلاثة: أحدها مدينة رودس، والثاني كوس، والثالث فيرس في تساليه، وكانوا يصورون في هذه المدينة على نقودهم الخربق، وهو نبات يشفي من الجنون رمز الطب، أو أنه يدل على المارستان، ولم يسمح أن يكون في هذه المدن الثلاث سوى أطباء من سلائل أسقليبوس الذي ألهوه على عادتهم.
وأظهر الدكتور رودلف هيكله في جزيرة كوس اليونانية المكرسة لسلائله كما سبق، وكشف كتابات طبية من العلاجات، وتلك المدينة كانت محل مولد أبقراط أبي الطب.
ووصف بعضهم تمثال أسقليبوس أبي الطب هذا، بل إلهه الذي كان يقام في هياكلهم، فقال: إنه بصورة رجل ملتح ذي جمة ذات ذوائب وهو قائم مشمر مجموع الثياب، وبيده عصا معوجة من نبات الخطمي قد التف عليها تنين أو حية ورأس الطبيب مكلل بالغار.
وفي تصويره هكذا رموز إلى صناعته الموحى إليه بها، فقيامه وتشميره رمز اجتهاد الأطباء، ووجوب استعدادهم لعملهم؛ لأن حفظ الحياة متوقف عليهم، وحمله العصا دليل التعمير وهو الغاية المقصودة من الطب، واعوجاج عصاه رمز التفنن في العلاج، وكونها من الخطمي دليل العقاقير التي يتداوى بها ومنها الخطمي،
3
والتفاف التنين أو الحية عليها دليل الحياة، ولا سيما أنهما يعمران كثيرا.
وكون التنين حيوانا حاد البصر كثير الأرق لا ينام هو تنبيه للطبيب أن يكون ساهرا على إتقان صناعته بصيرا بها؛ لأنه يعالج الداخل والخفي فيقتضيان حدة النظر، وأما الحية؛ فلأنها تمثل الحكمة بتيقظها ودهائها، أو لاتخاذ بعض علاجات السموم منها أو لتجدد الصحة بالعلاج كما يتجدد جلدها بقشر شرنقته عاما فعاما، وأما إكليل الغار على الرأس فرمز إلى أن الطبيب يجب أن يقصي الحزن عن المريض، كما كان يقصي الضرر المتأتي عن الحشرات والهوام بالغار؛ فلذلك كان هذا النبات رمز الفرح والانبساط وبالتالي الظفر.
وبقي أسقليبوس إلها للطب عصورا طويلة؛ فشيدت له الهياكل ونحتت له التماثيل في بلدان شاسعة حتى في بلادنا السورية، فإنني شاهدت رمزه في قرية دومة من أعمال البترون في لبنان فوق مدينة طرابلس الشام، حيث يوجد ناووس حجري عليه صورة الحية، وهو الآن ينبوع القرية تستقي منه الماشية، وفي أعلى القرية على رابية بديعة الموقع والمناخ هيكل كان لإله الطب، فحول إلى قلعة تسمى اليوم «قلعة الحصن»، وكذلك داجون إله الطب شاعت عبادته في سورية وفلسطين، وأقيمت له الهياكل ونصبت فيها التماثيل، وسميت قرى باسمه مثل «الدوق» في فلسطين، و«عين الدوق» من أحياء زحلة في شماليها الغربي.
واشتهر اليونانيون بترويض أجسادهم بالألعاب الأولمبية، وعقدوا لها الحفلات للمسابقات والتمرن وأعدوا لها الجوائز، فقويت أجسادهم وعقولهم وتوسع نطاق معارفهم، فاشتهروا في العالم بآدابهم، (للبحث صلة).
ولكي نستطيع استقراء الطب ومعرفة ارتقائه، وانحطاطه عند اليونانيين، نقسمه إلى أربعة أدوار بحسب اشتهاره وأزمانه، مستنتجين أن الأطباء عندهم كانوا ثلاث مراتب هي: الكهنة والفلاسفة والمتروضون؛ فالأولون طببوا بمبادئ أسقليبوس في هيكله، والفلاسفة وقفوا بين شرائع الطبيعة وأسرار الجسد، والمتروضون دبروا الصحة وعالجوا الخلع والكسر وأشباههما.
الدور الأول:
الطب في أيام هوميروس أبي الشعراء = من طالع إلياذة هوميروس - وهي ملحمته الطويلة التي وصف بها حرب تروادة الشهيرة - عرف أن الطب كان في ذلك العهد قسمين: (أحدهما) الطب الداخلي أو الباطني، و(الثاني) الجراحة، ورأى في أثناء كلامه وصف بعض ذرائع قانونية في العلاجات، ولا سيما في شفاء الجروح، مثل سبر الجرح بمسبار ليعرف غوره، وامتصاص الدم منه بالفم وذر البلاسم عليه للشفاء، وذكر أسماء أعضاء في الأجسام، فهي أشبه بما استعمله أبقراط بعد ذلك، ولكنه لم يشر إلى تسلط الدين على الطب كما كان في مصر والهند وفارس.
فذكر في الإلياذة أن الأخوين الطبيبين ماخاوون (أي: المحارب) وفود اليريوس ولدي أسقليبوس كانا رئيسي الأطباء، فاشتغل أحدهما بالجراحة، والثاني بمعالجة الأمراض الباطنة مصرحا بذلك في قوله من تعريب العلامة البستاني:
سبر الجرح والدم امتص جرا
وعليه شافي البلاسم ذرا
ذاك سر خيرون قبل أسرا
لأبيه فكان من ثم ذخرا
عم كل الأنام خيرا وفضلا
وأراد بذلك خيرون (الفرح) القنطوري من تساليه، وهو أول جراح يوناني عرف العقاقير المسكنة للجراح والرضات، وفاقه أسقليبوس الذي قيل: إنه تلميذ خيرون أو هو قبله، وكانت الهياكل عندهم مجامع الجراحة أو مستشفيات، وكانوا يوزعون الأطباء على الجيش لمداواة الجرحى، كما يستفاد من قول أريفيل لفطرقل من نشيد آخر:
هي أغثني واصحبني للخيم
وأخرج السهم يزل عني الألم
والجرح فاغسله بماء فاتر
واسكب عليه بلسم القناطر
4
سر حفظت عن أخيل وهو عن
أستاذه خيرون في ماضي الزمن
أما طبيبان «ففوذ الير»
ما بين دراع العدى محصور
و«ماخوون» ذاك بادي العطب
في حاجة أضحى إلى التطبب
فأظهر هنا أن «أخيل» تلميذ «خيرون» في الجراحة، ولقد ذكر ناظم الإلياذة أشياء كثيرة من التشريح بوصف أنواع جراح الأبطال وتمييز الأدمة والبشرة من الجسد، ووصف العظام والأعصاب والأربطة، وبعض الأمراض المتفشية في عهده كالطاعون.
وعلى الجملة فإن هوميروس وصف الأمراض الظاهرة، وقلما تعرض للأمراض الباطنة أو لمنافع الأعضاء (الفسيولوجية).
الدور الثاني:
الطب في عهد أبقراط أبي الطب = إن معنى «أبقراط» باليونانية «القابض على عنان جواده» بمعنى الفارس الماهر، وهو ابن إقليدوس (هيراكليذوس) بن أبقراط سابع أطباء اليونان من آل أسقليبوس مؤسسي الطب، وكان عندهم أربعة باسم «أبقراط» أشهرهم وأولهم هذا الفيلسوف الطبيب الذي ولد في جزيرة كوس سنة 460ق.م ومات في لاريسه (يكي شهر) بين سنتي 375 و351ق.م.
أبقراط.
وأول عمل قام به فصل الطب عن الدين، وبناء العلاج على قاعدة ثابتة، فجعل للأمراض مصدرين الهواء والغذاء، ووضع له أصولا للموافقة بين تغيرات الهواء وحالة المريض، وجزم أن الأجسام السقيمة تعود بالعلاجات الصحيحة إلى حالتها الصحية، ودرس هذا الفن للطلبة، فكان أول مؤسس لمدرسة طبية نظامية، وأول من قرر الوراثة المرضية بقوله: البلغمي مولود من بلغمي والصفراوي مولود من صفراوي ... إلخ.
ولقد وضع مؤلفات ونصائح ورسائل وحكما في الطب وقواعده بنى فيها آراءه على التجارب والتدقيق، ومراعاة الطبيعة حتى قيل: إن جالينوس أدبه الدرس وأبقراط أدبته الطبيعة، وقيل: إن أبقراط تعمق في الطبيعة حتى توغل إلى قعرها، وأخبر عما شاهده في أعماقها.
وكان يبدي من دقة النظر في مشاهداته الطبية، واستقراآته العلاجية ما دل على أنه نطاسي في الطب السريري (الكلينيك)؛ فلذا سمي «أبا الطب»؛ لأنه اعتمد على طريق المشاهدة الطبية السديدة، ورقي العلاج السريري مما انتبه إليه المتأخرون، ورأوا فائدته في الطب الحديث معتمدين على آرائه.
ولم يعرف أبقراط من التشريح إلا قليلا، وأهم ما قرره فيه بناء الهيكل العظمي وأحواله الطبيعية مع خطره في عهده، فوصف تركيب الجمجمة والأحشاء، ولكنه خلط بين الشرايين والأوردة والأعصاب، وسمى العضلات لحما بسيطا وشرح القردة لمشابهتها للإنسان.
وهو الذي قرر أن الأمزجة أربعة: دموية وبلغمية وصفراوية وسوداوية، وأن المرض إنما هو وقوع نقص أو زيادة في إحداها، وكان يفصد ويكوي ويحجم ويشخص المراض بمسمع، ويعطي المساهل النباتية والمعدنية ويستخدم الحقن، وبرع كل البراعة بتشخيص الأمراض وسبق الجميع بقسمتها إلى ثلاثة أدوار: دور الهجوم، ودور الحدة، ودور الفترة أي: الانتهاء، وعين للدور النهائي أي: الثالث أياما معدودة.
وكان يعتني بأغذية المريض أكثر من اعتنائه بتجريعه الأدوية، وقد وصف في كتبه 265 دواء، وقلل الفصد مع شيوعه في أيامه، ومن أقواله الطبية المتناقلة: بالغ في الدواء ما أحسست بمرض ودعه ما وثقت بالصحة، والحمية في أيام الصحة كالتخليط في أيام المرض، والصناعة طويلة والعمر قصير، وأخذ الدواء عند الاستغناء عنه كتركه عند الحاجة إليه، والتجربة خطر والقضاء عسر، ويداوى كل عليل بعقاقير أرضه؛ لأن الطبيعة تتطلع بهوائها وتنزع إلى غذائها، وقيل: إنه كتب على خاتمه: المريض الذي لا يشتهي خير من الصحيح بكثرة شهواته، ومن أهم وصاياه الطبية: درهم وقاية خير من قنطار علاج، وقد ينبغي لك أن لا تقتصر على توخي فعل ما ينبغي دون أن يكون ما يفعله المريض، ومن يحضره والأشياء التي من خارج كذلك، وفي هذه العبارة إشارة إلى رضى المريض، وحسن التمريض والمساعدات الخارجية.
ومما امتاز به في فن الجراحة طرق رد الخلوع وجبر الكسور، واستعمال الترقين
5
في بزل أغشية الدماغ واتخاذ الملاقط في التوليد، واستخراج الحصى الكلوية بالمشق، وثقب تجويف الأضلاع في تقيح الغشاء المستبطن للصدر (البيلورة)، واستسقاء التأمور (غشاء القلب الظاهر)، واستعمال البتر واستئصال ناسور العجان (ما بين الدبر والأنثيين)، وحظر على تلامذته إخراج الحصاة بعملية؛ لعدم ركونه إليهم؛ ولقصر معارفهم في مثل هذه العمليات الخطرة.
وعلى الجملة فله آراء صائبة في الجراحة تظهر من كتبه، وأفضلها كتاب «الكسور»، و«شجاج الرأس»، و«طبيعة العظام»، وله في فن القبالة، وأمراض النساء فوائد كثيرة ورسائل.
ويروى أن أبقراط سكن مدة بمدينة «فيروها» أي: حمص الشام، وكثيرا ما كان يختلف إلى مدينة دمشق، ويقيم في بستان له فيها للرياضة والتعلم والتعليم، وكان موضع تنزهه يسمى «بصفة بقراط» إلى زمن ابن القفطي في القرن السابع، وهو الذي روى ذلك في تاريخه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء). وقال ابن العبري في تاريخه: إن ذلك المكان يسمى «النيرب» أقول: وهو من متنزهات دمشق إلى غربي الصالحية تحت قبة السيارة، وقربه «دير سران» المعروف من المتنزهات أيضا، ويصادق شيوخ الصالحية الآن نقلا عن السلف على هذا الرأي، فإذا ثبت ذلك كانت دمشق قد تمتعت بزيارة أول طبيب في العالم، بل أبي الطب الذي علم فيها صناعته.
واعتمد أبقراط على مذهبه المشهور أن الأمزجة أربعة ناتجة من اختلاط أربعة عناصر ثانوية أو مركبة، وهي الدم والبلغم والصفراء والسوداء، وأن الدم مؤلف من الحار والرطب، والبلغم من البارد والرطب، والصفراء من الحار واليابس، والسوداء من البارد واليابس، وذلك بالنسبة إلى الأخلاط الأربعة (كراسس اليونانية)، وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، فالأمزجة ناتجة عن امتزاج اثنين أو ثلاثة من هذه الأخلاط، ولا يزال أطباء اليوم يعتمدون على الأمزجة الأربعة، وهي الدموي والبلغمي أو اللمفاوي والسوداوي أو العصبي والصفراوي.
ولقد وضع أبقراط كتبا كثيرة في الطب عربها العرب، واتصلت بالإفرنج، فكانت معتمدهم في مباحثهم الطبية، ومن أهمها كتاب «الفصول» الذي طبع، ومنه نسخ مخطوطة وفي مكتبتي واحدة منها، و«الأمراض الوافدة والأوبئة»، و«تقدمة المعرفة» ومنه نسخة نفيسة في دمشق، و«الأخلاط»، و«ماء الشعير»، و«قسطران»
6
أي: المدن، وكتاب «الماء والهواء»، و«طبيعة الإنسان»، و«العهد»، و«العلامات»، و«الغدد»، و«المفاصل»، و«تدبير الأمراض الحادة»، ومن أهم ما يستفاد من كتابه «تدبير الأمراض الحادة» قاعدتان: «قلة تغذية المريض»، و«مراعاة العادة». ومن كتابه «العلاقات» في أمراض الصدر: إن النفث الذي يكون كصدأ الحديد وممزوجا بقليل من الدم في ذات الرئة علاقة جيدة ويريح كثيرا في أول العلة، ولكن إذا حصل في اليوم السابع أو بعد ذلك، فليس يؤمن كثيرا. ومن أقواله: إن أفضل النفث ما سكن ألم الجنب.
وهكذا كانت مبادئه الأساسية معمولا بها إلى يومنا من كثير من الوجوه، ولا سيما أنه أطلق تعليمها لكل راغب من أنسبائه ومن غيرهم فأقبل الناس عليها؛ ولكي لا ينسخ ميثاق السلف من آل أسقليبوس الذي قرروه وحظروا مخالفته، وضع هو ميثاقا على كل من يتلقى الطب في زمنه، وفي ما بعده حفظا للسنة، وهذا ما كان يستحلف به متعاطي الطب، ويقول له: «برئت من قابض أنفس الحكماء، وفياض عقول العقلاء، ورافع أوج السماء، مزكي النفوس الكلية، وفاطر الحركات العلوية، إن خبأت نصحا، أو بذلت ضراء، أو كلفت بشرا أو تدلست بما يغم النفوس وقعه، أو قدمت ما يقل عمله إذا عرفت ما يعظم نفعه، وعليك بحسن الخلق بحيث تسع الناس، ولا تعظم مرضا عند صاحبه، ولا تسر إلى أحد عند مريض، ولا تجس نبضا وأنت معبس، ولا تخبر بمكروه، ولا تطالب بأجر، وقدم نفع الناس على نفعك، واستفرغ لمن ألقى إليك زمامه ما في وسعك، فإن ضيعته فأنت ضائع، وكل منكما مشتر وبائع، والله الشاهد علي وعليك في المحسوس والمعقول، والناظر إلي وإليك والسامع لما نقول، فمن نكث عهده فقد استهدف لقضائه، إلا أن يخرج عن أرضه وسمائه، وذلك من أمحل المحال، فليسلك المؤمن سنن الاعتدال.»
وقرر جالينوس كما ذكر بعض الشراح أن أبقراط زاد على هذا الميثاق قوله أيضا: «ويجب اختيار الطبيب حسن الهيئة كامل الخلقة صحيح البنية، نظيف الثياب طيب الرائحة، يسر من نظر إليه، وتقبل النفس على تناول الدواء من يديه، وأن يتقن بقلبه العلوم التي تتوقف الإصابة في العلاج عليها، وأن يكون متينا في دينه متمسكا بشريعته، دائرا معها حيث دارت، واقفا عند حدود الله تعالى، خلي القلب من الهوى، لا يقبل الارتشاء، ولا يفعل حيث يشاء؛ ليؤمن معه الخطا؛ وتستريح إليه النفوس من العنا.»
7
انتهى الميثاق.
وكان الفيلسوف ديموقراطس أستاذ أبقراط يذهب إلى الفلوات، ويشرح جثث الموتى من الآدميين لخوفه من العقاب، فلقبوه «بالمجنون»، ولما سئل عنه أبقراط قال: إنه لعاقل؟ واقتبس هو من أستاذه هذا شيئا من التشريح، ولكنه لم يبرع به كما مر براعته بالتشخيص والعلاج.
وكان أبقراط لامتناع تشريح الأجساد بعهده قليل الأبحاث، كثير الخلط في الأوردة والأعصاب والنسيج العضلي، ومن تدقيقاته تشريح العظام ولا سيما الجمجمة ووصف الأحشاء.
وعاصر أبقراط فيليمون وكان عالما في فن الفراسة، وهو من أنواع الطب عندهم أي: الاستدلال بتركيب الأعضاء على الأخلاق، وترجم بالسريانية كتابه في الفراسة، وعندي نسخة مخطوطة منه على الأرجح.
وبعد موت أبقراط أهمل الطب والجراحة؛ وذلك لضعف مملكة اليونان وخروج مكدونية من تحت سلطتها واشتغالها بالحروب الأهلية والمشاحنات القومية، وهما من آفات العلوم بل من أشدها فتكا بها، ومن أطباء هذه الفترة روفوس وله تصانيف، ورد عليه أرسطو وجالينوس لضعف آرائه.
ولم يظهر تحسين في الطب إلا بما وصل إليه أرسطو طاليس (ومعنى اسمه غاية صالحة جدا) الفيلسوف الشهير، فإنه اشتغل بالتشريح وعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجية)، وعني خاصة بالبحث عن الأعضاء الداخلية في كثير من الحيوانات، فكان أول من شرح الحيوانات الحية؛ لتحريمهم تشريح الآدميين في عهده، فكتب بعض تعاريف في التشريح اهتدى إليها بمقابلة الحيوانات بالإنسان، وانتقد أبقراط الذي كان يذهب إلى أن العروق الدموية تخرج من القلب لا من الرأس، وكان مراقبا للحيوانات عارفا بطبائعها، وقد وجدت بعض قطع من مباحثه مصورة، فاستعان بها العلماء المتأخرون على مباحثهم الحديثة، كما استعان بها أساتذة مدارس الإسكندرية بعد ذلك، وفي مكتبتي قطعة صالحة منها بعضها في «العلل» وهي طبية، والآخر في «الحيوانات»،
8
وكان والد أرسطو يطب لفيلبس المكدوني والد الإسكندر المشهور واسمه نيقوماخوس وهو فيثاغوري المذهب.
وكان لأرسطو ابن أخ اسمه «ثاوفريسطس» قرئت عليه كتب عمه أرسطو، وألف كتبا، منها كتاب «أسباب النبات» نقله إبراهيم بن بكوس إلى العربية، وفي مكتبتي مقالة في «التعليلات» له فيها فوائد طبية.
9
وأول من شرح الأجسام البشرية أرازستراتس وإيروفيل، فالأول هو أصغر أولاد الفيلسوف أرسطو، والثاني حكيم مدينة قرطاجنة، فقصد مدرسة الإسكندرية لتعاطي صناعة الطب واقتباس علم التشريح البشري في مدرستها البطولمية
10
الشهيرة، فصارا من أعظم أساتذتها في الطب والتشريح كما سيأتي.
وممن اشتهر في هذا العهد الطبيب ألكسندروس بطب العيون والكحالة، وله كتاب «علل العين وعلاجاتها» في ثلاث مقالات نقلت قديما إلى العربية.
ونبغ بعده أرستجانس (أي: أفضل جنسه)، قال ابن القفطي: إنه طب قبل جالينوس وله كتاب «طبيعة الإنسان» وهو الذي زيفه جالينوس واستنقصه لما وقف عليه.
الدور الثالث:
الطب في عهد الملك إسكندر المكدوني = معنى اسم إسكندر «معين البشر»، وهو الملقب «بذي القرنين»؛ لأن نقوده كانت تمثل صورة أبلون وله قرنان، فلقب بذلك على الأرجح؛ لا لأنه ملك قرني الشمس كما قيل، أسس الملك إسكندر مدرسة الإسكندرية الجامعة في عهد بطلميوس سوتر نحو سنة 300ق.م على أثر فتحه لمصر واختطاطه للإسكندرية، فاشتهر فيها الأطباء وذاع ذكرها في الطب والجراحة، وتفوقت على مدرسة أبقراط اليونانية التي استمدت منها معارفها الأولية، وأهم ما ارتقى فيها فن التشريح لولع المصريين بالتحنيط منذ القديم، ولما في بقايا محنطاتهم ورمم أجسادهم المتقنة من إمالة الأفكار إلى العناية بهذا الفن، ومن مشاهير جراحيها هيروفيلوس الخلكيدوني وأرازستراتس
11
الكاوسي، فوضعا أساس التشريح واستقصيا الأعصاب إلى الدماغ، ولكنهما خلطا بينها وبين الأوتار كما أشرنا إليهما آنفا.
فهيروفيلوس استأذن بفتح الجثث البشرية، فأذن له بشق أجسام المجرمين وهم أحياء، فعاين باطنها وبرع في استقراء الجراحة والتشريح بوصف الدماغ وصفا دقيقا لم يدرك شأوه فيه أحد، وعرف الغشاء العنكبوتي والبطينات الدماغية ذاهبا إلى أنها وهي مقر النفس، وكشف مجتمع الجيوب التي تصب فيها أوردة الدماغ فنسب إليه، وكشف أيضا العروق اللبنية، ولكنه جهل فائدتها وأثبت أن القسم الأول من القناة المعوية لا يتجاوز طوله اثنتي عشرة إصبعا، فسمي بالمعى الاثني عشري إلى يومنا، وعلى الجملة فإن هذا الجراح النطاسي كان ثاني أبقراط في منزلته، ولقد أجمع على وصف براعته وحسن طبابته أربعة أطباء من المشاهير وأطرأه جالينوس كثيرا.
وأما زميله أرازستراتس فترأس القسم الطبي، واستعمل الأدوية رأسا للدرنات والخراجات التي تصيب الجسم والكبد، ولم يهمل مع ذلك الجراحة فإنه عرف عملية استئصال الطحال وأجراها بنفسه، واخترع القاثاتير
12 (أي: الأنبوب) في مرض الأسر أي: حصر البول.
فكانت مدرسة الإسكندرية شعلة أضرمت المعارف الطبية في خارج بلاد اليونان، ولا سيما صناعة التشريح، وأخرجت تلامذة نابغين تخرجوا على الجراحين المذكورين، فاخترع بعضهم عصائب خاصة مختلفة الأشكال لتضميد الجروح على اختلاف أنواعها، واستعملوا المضغط لرد خلع الفخذ، واخترع أحدهم المسمى أمونيوس آلة لتفتيت الحصى، وهي التي انتبه إليها سيفيال الجراح الفرنسي أخيرا، واقتصر فيها على تدريس 16 كتابا لجالينوس.
ونبغ من هؤلاء التلامذة في القرن الثالث قبل الميلاد فيلينوس واضع قاعدة «المثلث الطبي»، وهي التي بقيت مدة طويلة دستورا للعمل حتى قيل عنها: إن درس الطب والتضلع منه لا يتم إلا لمن عرفها وهي: «المشاهدة والتاريخ والاستنتاج»، ولكنه أهمل التشريح لاعتقاده عدم فائدته.
واشتهر في زمن الملك إسكندر المذكور الطبيب أندروماخوس رئيس الأطباء في الأردن (فلسطين)، وهو الذي وقف على معجون «المثروزيطوس»، وزاد عليه لحوم الأفاعي فصار يشفي من لسعها أيضا، وهذا المعجون منسوب إلى طبيب كان يجرب السموم في شرار الناس المحكوم عليهم بالإعدام، فوجد أن بعضها يفيد في لدغة الرتيلاء أو العقرب أو لسع الحية أو خانق الذئب أو الأرنب البحري وأمثالها، فخلطها جميعا وركب منها دواء عاما يستشفى بتناوله من السموم الزعافة (القاتلة لوقتها).
وفي زمن البطالسة اشتهر النباتي ديسقوريدوس من أهل مدينة عين زربة، وهو الذي قال فيه يحيى النحوي الإسكندري في تاريخه: صاحب النفس الزكية النافع للناس المنفعة الجليلة، المنعوت المنصوب السائح في البلاد، المقتبس العلوم والأدوية المفردة من البراري والجزائر والبحار والمصور لها. وقال فيه جالينوس: تصفحت أربعة عشر مصحفا في الأدوية المفردة لأقوام شتى، فما رأيت فيها أتم من كتاب ديسقوريدوس.
الدور الرابع:
الطب في عهد جالينوس - إن معنى اسم جالينوس
13
باليونانية «الهادئ»، وقد نبغ في الطب نبوغا مذكورا؛ لأنه لما شاهد انحطاطه في بلاده بعد أبقراط جرد له ماضي العزيمة موجها مباحثه الدقيقة إلى حكمة الخالق في كل شيء نافع، وإلى كيفية تركيب أعضاء الجسم؛ ليعلم منها سير الأمراض فتعمق في علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجية) على طريقة أبقراط، وأقر بتوزيع النفس في أجزاء الجسم، وفرض أن المؤثرات فيها أربعة عوامل هي البرد والحر والرطوبة والجفاف، وبنى اختلاف الأمراض على اختلاف هذه العوامل، ومع كل أبحاثه وتقصيه فيها غلبت عليه الفلسفة إلى أن عرب مؤلفاته الطبية في صدر الدولة العباسية، فاعتمد عليها الطب الحديث إلى الأيام الأخيرة، وقال ابن القفطي: «إنه لم يسبق أحد جالينوس في علم التشريح وصنف فيه سبع عشرة مقالة.» وذلك لأنه أنشأ مدرسة مارس فيها فن التشريح حتى اشتهر أنه أعظم المشرحين من القدماء، وانتقد مذهب أرازستراتس مثبتا أن الشرايين تبقى مدة الحياة مملوءة من الدم، ولكنه أخطأ في أشياء كثيرة شأن كل فن في بدء تأسيسه، وفي طور نموه، فإنه يترقى بتداول الأيدي إياه وتمحيص الآراء مباحثه.
ومن أغرب ما ذكره ابن القفطي في ترجمته - وهو يدل على معرفة القدماء لمبدأ التطبيب «بدفع الداء بالداء» كالتلقيح بالجدري والمصل ونحوهما مما هو دستور الطب الحديث - وذلك يظهر من هذه القصة التي رواها عنه، فقال: «ادعى جالينوس الطبيب أن إليانوس الروماني الشيخ اليوناني هو شيخه، وقال: لم يكن له تطبب في العلم، وحكي عنه أنه قال، (أي إليانوس): إنه أصاب الأنطاكيين وباء شديد عم مدينتهم وفتك فتكا ذريعا، فأشار بعض أهل العلم (أي: علم الطب) بعلاج درياقي والكف عن الأدوية، فشربه الناس عن آخرهم، فمن شربه بعد حصول المرض في أجسامهم تخلص بعضهم منه وهلك الآخرون، والذين شربوه قبل حلول المرض بهم تخلصوا جميعهم منه، وذكر ذلك ابن العبري أيضا.» انتهى قول ابن القفطي.
وهو المبدأ الذي كشف سره الدكتور جنر الإنكليزي منذ مائة سنة.
وأما ترجمته فاسمه كلوديوس جالينوس ولد في برغاموس من ميسية سنة 131م، ومات في صقلية نحو سنة 200، وتلقن فن الطب في السابعة عشرة من عمره، واشتغل في الإسكندرية، ورحل وهو ابن عشرين في إتمام معارفه وتوسيع تجاربه شأن أطباء اليوم، فوقف على مؤلفات من تقدمه وجمع بعضها وطالعها، ونقل عنها وهذبها، فكانت له الآراء الصائبة في الطب، ولا سيما التشريح فإنه تتبعه معتمدا على تبضيع الجثث الحيوانية، وسافر إلى رومية وأيد آراء أبقراط ومن ذهب مذهبه، ورحل في جمع العقاقير الطبية، وجرب وقاس أمزجتها وطبائعها، ووضع كثيرا من المؤلفات المفيدة بقيت مرجع الأطباء أكثر من عشرة قرون، وأشهرها الكتب الستة التي شرحها الإسكندريون، ولم يبق منها إلا ثلاث وثمانون رسالة وخمسة عشر شرحا على تأليف أبقراط، وجمعت تآليفه الباقية في عشرين مجلدا، وطبعت في ليبسيك من سنة 1821-1833م، ومما عربه العرب منها قديما «الأغذية»، و«مساءلة الطبيب للعليل»، وهذه نشرت في مجلة الطبيب البيروتية، وهي 54 مسألة و«اختصار أيام البحران» و«النبض» و«وجع المفاصل والنقرس» و«الجنين المولود لسبعة أشهر» و«البياض الظاهر في البدن» و«سيف العلل وغاية الأمل»، وجدت نسخته المخطوطة في دمشق ولم يذكره مترجموه، ويظهر من مقدمته أنه في المداواة السريعة، وهو في ثلاثة أبواب: (الأول) في الأركان والأخلاط، و(الثاني) في أحكام الأغذية والأدوية المفردة والمركبة، و(الثالث) في حفظ الصحة، وفيه فوائد كثيرة.
وقال في المقالة الأولى من «كتاب التشريح»: إنه صنفه في مبدأ ملك أنطونياس في أول مرة صعد إلى رومية.
واعتمد العرب على مؤلفاته وسموه «خاتم الأطباء والمعلمين»، ووصفه أبو العلاء المعري هو وأبقراط بقوله:
سقيا ورعيا لجالينوس من رجل
ورهط بقراط غاضوا بعد أو زادوا
فكل ما أصلوه غير منتقض
به استغاث أولو سقم وعواد
كتب لطاف عليهم خف محملها
لكنها في شفاء الداء أطواد
ووصفه أبو الطيب المتنبي بقوله:
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
يموت راعي الضأن في جهله
ميتة جالينوس في طبه
ونقل العرب كثيرا من أقواله الحكمية والصحية والطبية مثل قوله: الإنسان إلى تجنب ما يضره أحوج مما هو إلى تناول ما ينفعه. ويتروح العليل بنسيم أرضه كما تثوب الجنة ببل القطر. والعافية تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. ونأكل لنحيا ولسنا نحيا لنأكل. ولا يجب أن يرفض الشفاء الذي يحصل عليه المرضى بدخولهم هيكل أسقليبيذس. وكان نقش خاتمه «من كتم داؤه أعياه شفاؤه»، وذلك القول أن جالينوس اهتم بالطب أكثر منه بالجراحة ومع ذلك فكلامه عن الفتق وانخلاع الفخذ إلى الوراء واستعمال الترقين للقص في تقيح «البليورة » هو ذو شأن كبير في الجراحة. وفوق ذلك كان هو أول من قرر أن الشرايين في الحيوان الحي تشتمل على دم لا على هواء فقط كما زعم أرازستراتس. وفاته ذكر الدورة الدموية في عروقها مما قرره هرفي بعد ذلك بقرون طويلة، وذلك أن الأطباء كانوا يزعمون في القديم أن الدم يدور في الأوردة والشرايين من الداخل إلى الخارج على نمط واحد.
وقال: إن بعض دم البطين الأيمن في القلب ينفذ إلى الأيسر من مسام في الحاجز بينهما، وحكم بوجود الدم في الشرايين والأوردة وكلا البطينين خلافا لما كان يذهب إليه أرازستراتس من أن الشرايين إنما تحمل الهواء لتبرد الدم؛ لأنه وجدها فارغة بعد الموت، وبعد أن كشف أرازستراتس المذكور صمامات القلب.
واشتهر في عصر جالينوس الطبيب المسمى الإسكندر الإفروديسي، وهو الذي ناظره ولقبه «رأس البغل» لقوة رأس جالينوس بالمناظرة.
وللإفروديسي هذا مقالات طبية منها في مخطوطي الطبي الآنف ذكره (المقالات المائة والإحدى والسبعين)، وكلها تعليلات عن الأمراض ذات فوائد كثيرة، وله شروح على كتب أرسطوطاليس المنطقية والحكمية.
ونبغ أطباء عند اليونان بعد ذلك بين المسيحيين والعرب ممن سيرد ذكرهم في ما يأتي. (10) الطب عند الرومانيين
قال ابن القفطي: إن أبلون الرومي كان حكيما طبائعيا ويقال: إنه أول حكيم تكلم في الطب ببلاد الروم، وكان في الزمن القديم، وهو أول مستنبط لحروف اللغة الإغريقية وأجراه الرومان مجرى أسقليبوس عند اليونان، وكان بعد زمن موسى النبي.
وقال المؤرخ بلينيوس: إن الرومان عاشوا نحو ستة قرون بدون أطباء، وإنما أراد بذلك تقهقر الطب عندهم، مع أنهم تناولوه عن اليونانيين؛ ولذلك كان أول طبيب نبغ عندهم يوناني الأصل، وهو أرشاغاثوس الذي وجد سنة 218ق.م.
ولما استولى الرومان على بلاد اليونان هاجر كثير من أطباء اليونان إلى رومية، وأشهرهم فيها أسقليبياذس صديق الخطيب شيشرون، وذلك قبل الميلاد بقرن، وأشهر طبيب منهم ظهر في القرن الثاني للميلاد، وهو سورانوس ومن أشهر مصنفاته كتاب «طب النساء»، ولقد شرح طريقة استعمال المنظار
Speculum
فجاء كلامه موافقا لطريقته في العصر الحاضر.
ثم ظهر أريتيوس وهو أول من استعمل ضمادات الذراريح (المعروفة عندنا بالحرقات)، وهي منفطات من الذباب الهندي، ثم نبغ الطبيبان هليودورس ورفوس الإفسي بين القرنين الأول والثاني للميلاد، ثم عقبهما أنتيلوس، وهؤلاء الثلاثة زادوا الجراحة آراء جديدة في علاج آفات الرأس، وقالوا: بشق الشرايين بعد أن كانت تشق العروق في الالتهابات الفجائية، وبالشق الشعبي في بعض الأمراض الصدرية الحادة، وعالجوا القيلة
14
أو الأدرة المائية (وهي انصباب الماء في قميص الخصية) بالبزل، ودققوا في أمراض الكلية والمثانة.
وأفضل ما كتب بيد لاتينية مؤلفات كرنيليوس سلسوس، الذي كان يطب لأهله وأصدقائه فقط في أوائل المسيحية جامعا بين آراء اليونانيين والرومانيين، فجاءت كتبه في الطبقة الثانية بعد مؤلفات أبقراط وجالينوس التي هي في الطبقة الأولى، وكتب أيضا في الجراحة واصفا آفات الرأس والماء النازل، واستخراج الحصى وجبر الكسر ورد الخلع والبتر وربط الشرايين المجروحة والفتق.
ومن أشهر الأعمال الجراحية في هذا العهد أن غاييوس يوليوس ملك رومة لقب «بقيصر» ومعناه السليل؛ لأن أمه ماتت وهي تلده فشقوا أحشاءها وسلوه منها، وصار علما لملوك رومية، والعرب تسمي من ولد بشق البطن «خشعة»، فتصح تسمية العملية الجراحية المعروفة بالقيصرية بالعملية الخشعية أو السللية.
ونبغ في القرن الرابع للميلاد أوريباسيوس، ولقبه ابن القفطي بالقوابلي؛ لإفادته القوابل عن معالجات الأمراض النسائية وجهل زمن نشأته.
وذكر له من المصنفات «تشريح الأعضاء» و«الأدوية المستعملة» مما عربه أسطفان بن باسيل، ثم «كتاب السبعين مقالة» تعريب حنين بن إسحق وعيسى بن يحيى السرياني.
ثم نبغ أشهر جراح في القرون الوسطى وهو إيثيوس المتوفى سنة 550م، وله كتب طبية ذات شأن، ولا سيما في الجراحة بحث فيها عن أسباب الفتق ومعالجته بحذق، وفي الخراجات المتكيسة وآفات الأعصاب والأربطة، وأمراض العين وشرط الأطراف في استسقاء النسيج الخلوي بعد القرمزية، وحاول تفتيت الحصى البولية بأدوية داخلية.
ونبغ من معاصريه إسكندر الترالي الجراح الشهير واضع كثير من المؤلفات المفيدة في أمراض العيون، وجبر الكسور، ولكنها فقدت فضاعت فوائدها.
وفي القران السابع الميلادي نبغ بولس الإيجيني من مشاهير الجراحين، وله ستة كتب في صناعة الجراحة، وهي أحسن مجموعة فيها وجدت قبل النهضة الطبية الأخيرة.
ومن آرائه أنه أشار بالفصد الموضعي، بل الفصد العام لتخفيف الالتهابات الموضعية، وباستفراغ الدم الكثير من العروق؛ لتسهيل مرور الحصى المؤلم في الحالبين (مراق البطن في أسفله عن الجانبين وكل منهما حالب)، وفتح الدمامل الداخلية بالكاويات، وهو أول من اخترع عملية تقطيع الجنين في البطن وكان يشق الحنجرة والرغامى، أما الرغامى فكان يشقها؛ لكي لا ينقطع نفس العليل في أثناء انسداد الحنجرة، وتكلم عن انخلاع الركبة وخالف سلسوس الآنف الذكر بالشق المتوسط لاستخراج الحصى عن طريق العجان (ما بين السبيلين)، وقال بصوابية الشق الجانبي، ومؤلفاته في الجراحة عربها حنين بن إسحق في صدر الإسلام، وسماه ابن القفطي فوليس الأجاينطي القوابلي، وقال: إن مقامه في الإسكندرية وزمنه بعد جالينوس وبعد زمن يحيى النحوي، وكأنه في أول الملة الإسلامية، واشتهر بطب النساء وألف في ذلك كتابا سماه «علل النساء». (11) الطب في عهد المسيحيين
عرف عندهم الطب والجراحة على طريقتهما القديمة، ولكن الجراحة كانت منحطة، وذلك لمنع تشريح الجثث على طريقة الأثينيين، وكان لوقا تلميذ المسيح طبيبا في مدينة أنطاكية، وكذلك بعض التلاميذ السبعين طببوا ونبغ أطباء من الرومانيين واليونانيين والعرب المتنصرين، وكان حريق مكتبة الإسكندرية في صدر الإسلامية من أهم الدواعي لإهمال الطب والجراحة، إذ ضاعت المؤلفات فيهما، ولما مات الملك قسطنطين زوج هيلانة حنط جسده، ووضع في صندوق ذهبي، ونقل إلى القسطنطينية ووضع في هيكل الرسل، ونبغ بعده الحكيم نقولاوس اللاذقي، وله كتاب «النبات» والشيخ السني البعلبكي النصراني معاصر ابن أبي أصيبعة وغيره ممن سيأتي ذكرهم في الطب العربي.
وكان النساطرة من بين جميع المسيحيين أعرق الناس في طلب الطب والبراعة فيه حتى عمت هذه الحرفة بينهم، فأسسوا مدرسة جنديسابور الطبية المشهورة في بلاد العجم، وشيدوا المستشفيات والمصحات (النقاهتخانات)، واشتهر منهم آل بختيشوع الذين طبوا للعباسيين، وترجموا وألفوا كثيرا من الكتب المفيدة، وجاراهم العباديون وأبناء ماسويه وغيرهم ممن سيرد ذكرهم في المحاضرة الثانية في تاريخ الطب عند العرب، واشتغل اليعاقبة بالطب ونبغ منهم نفر.
فكل هؤلاء المسيحيين وغيرهم من الإسرائيليين كانوا عونا للدولة العربية في نشر الطب بمصنفاتهم، وترجماتهم عن اليونانية والفارسية والسريانية والهندية واللاتينية وغيرها، وأشهرهم قسطا بن لوقا البعلبكي اليوناني المسيحي المتوفى سنة 908م، ومن مؤلفاته ومعرباته: الأغذية على طريق القوانين الكلية، والنبض، والحميات، وضروب البحرانات، والكبد وأمراضها، ومراتب قراءة الكتب الطبية ودفع ضرر السموم وأشباهها. واشتهر بضبط النقل، ومؤلفاته ومعرباته أكثر من مائة، وهكذا غيره من كبار الأطباء والمترجمين. (12) أمثلة من الطب اليوناني
لقد أحرزت مجاميع طبية مختلفة مخطوطة ومعظمها لم يطبع، ووقفت على كثير من هذا القبيل في خزائن مختلفة، فرأيت نقل شيء من أمثلتها فراجعت تعاليقي، وأنا بعيد عن مكتبتي فوجدت أمثلة من كتاب قديم في المجاميع الطبية عندي يحتوي على المقالات المائة والإحدى والسبعين للإسكندر الأفروديسي، وثمار المسائل الطبية لابن أخ أرسطوطاليس، وثمار المسائل المعروفة «بمابال» لأرسطو في الأزمان والأهوية، وفي الجلوس وشكله، وفي المشاركة في الألم (وهي من مباحث العدوى في الطب)، وفي النافض والبرد والقشعريرة، وفي الآثار الكائنة في الوجه وجميع البدن، وفي خواص الحيوانات وفي الصوت، وفي مسائل الطيب وفي الروائح المتغيرة وفي الأمزجة والعلة، ثم تليها مقالة بعنوان ثمرة من كلام جالينوس ويحيى في الترياق، وفيها أبحاث عن الحيات وسمومها، ومقالات أخرى عديدة منها شروط إلقاء الأدوية البسيطة في المركبة، واليرقان، وتعاليق الأغذية، ومسائل طبية، وأبحاث في الشعر، وفي الروح والنفس وفي العطش، وفي الحقن لجالينوس، ثم قوانين حسنة في الأدوية والأغذية، ثم مقالة بعنوان ثمار مقالة أرسطوطاليس في تدبير المنزل وأخرى في الموسيقى لابن الطيب إلى غير ذلك، وهذه النسخة قديمة الخط بدون تنقيط، ثم نقطها بعضهم، فأخطأ في كثير من الكلمات وهي مجلدة بخشب قديم، وعلى اللوح الأيمن أبيات سقيمة من الشعر، وقد كتبها أبو السرور بن الحكيم وهبه صاحب الكتاب، وهي بعد أن أصلحتها ما أمكن:
زهدت بعلم الطب من أجل أنني
أروم بقا شخصي وقد نفد العمر
ويخطر للجهال أني جاهل
وكيف يرد الأمر من لا له أمر
وما الطب إلا حده حفظ صحة
بحفظ قوانين بها يحصل البر
15
وإن جاء أمر الله لا ينجح الدوا
كأن الدوا والداء بينهما ستر
ولو كان علم الطب للموت مانعا
لما مات بقراط ولا زيد أو عمرو
فأقتطف الآن من هذه المباحث بعض فقرات من كل فصل لإيقافكم على الطب اليوناني القديم، وكلها منقولة بالحرف من أربعمائة صفحة مخرومة الأول والآخر.
فمن تعليلات الإسكندر الأفروديسي قوله: «العلة» في أن الذين بهم وجه الرئة ترى وجنتهم حمراء للبخارات الحارة المرتفعة من الرئة، وإنما يتبين في الوجنتين؛ لأن جلدتهما رقيقة، «العلة» في أن الذين يدنون من أصحاب السل والجرب والأرماد تعدي هذه الأمراض إليهم، والذين يدنون إلى أصحاب السكتة والحمى لا تلحقهم ذلك؛ لأن الإعداء يتم بلطافة تبرز من المعدي وانطباع ما يقبل من القابل، فالعين للطافتها والجلدة لسهولة قبولها والصدر؛ لأنه يرسل هواء لطيفا ما يقع الإعداء من الأمراض المعدوة، فأما الاستسقاء والسكتة والحمى فهي في أعضاء باطنة وموادها غلاظ، فليس يكاد يعدي ...
ومن مسائل أرسطو المعروفة «بمابال» قوله: «والعلة» في أن الأزمان التي يعدم فيها المطر تكثر الأمراض التي من الامتلاء؛ لأن الأخلاط تنحصر داخل البدن وتجف وتمتد وتؤذي بكميتها وكيفيتها، و«العلة» في أن الأمراض القتالة تعدي من صاحبها إلى من قرب منه؛ لأنها تكون من وباء الهواء، والهواء مشترك بين الإنسان والقرب منه، فإن كانت أخلاطه ردية متهيئة، فقد وجدت مادة موافقة أولا وإن كان تدبيره صحيحا، فإنه بالهواء العفن الذي يستنشقه من نفس العليل ويصل إلى قلبه، وهو أشرف عضو في البدن، تفسد به وأخلاطه (أي: وبأخلاطه)، «والعلة» في أن الشمس إذا رقت بخارات كثيرة من الأرض تكون تلك السنة ممرضة؛ لأن الهواء يرطب كثيرا وتكثر الأمطار وتمتلئ الأبدان رطوبات، فإذا عفنت بحرارة الصيف ولدت الأمراض العفنية؛ ولهذا السبب سار ظهور الضفادع الصغار يدل على مرض تلك السنة؛ لأن الضفادع تدل على ندرات السنة، «والعلة» في أن الذين يشربون إذا شربوا بين الدور والدور خمرا أخرى حلوة الطعم، وأكلوا شيئا حلوا كالأخبصة وتحشوا حساء يكون سكرهم ضعيفا؛ لأن هذه الأشياء لغلظها تمنع الخمرة من الاستحالة إلى البخارات والصعود إلى الدماغ بسرعة.
ومن مقالات الشعر وهي مجهولة المؤلف قوله: «العلة» في الشيب غلبة البلغم على البدن، فالبخار المتولد يكون لونه مناسبا للون المادة التي تتولد منها؛ ولهذا يكون شعر الصبيان يميل إلى الشقرة؛ لغلبة الدم عليهم والشباب إلى السواد لغلبة الاحتراق عليهم، والشيوخ إلى الاصفرار لغلبة البلغم عليهم. (انتهى ما أنقله الآن تفكهة للمطالعين).
قلت: وهذه العلة الأخيرة تذكرني بقول الشاعر العربي:
سألت من الأطبا ذات يوم
طبيبا عن مشيبي قال: بلغم
فقلت له على غير احتشام
لقد أخطأت في ما قلت: بل غم
ملحق
كلمة في الطب وتسميته وتعريفه
إن اسم الطب عند اليونانيين «إياتريكي»
1
واسم الطبيب عندهم «إياتروس» واسم الطب عند اللاتينيين «ميديكو» أي: دواء، واسم الطبيب «دكتور»، إما من «دوتشبو» اللاتينية بمعنى أعلم، وإما من اليونانية «ذي دكتور» بمعنى المنتسب إلى التعليم أي: المعلم والعالم، وكلها من معاني المعرفة، ومما تتفق فيه اللغات في التسمية، ومن هذه اشتقت الأسماء الإفرنجية.
واسمه عند العرب «الطب» بتثليث الطاء، وهو بمعنى الحذق والمهارة، فيقولون: فلان «طب بالأمور» أي: يسوسها بتلطف ورفق على حد قول الشاعر:
وإذا تغير من تميم أمرها
كنت الطبيب لها برأي حاذق
وكأني بتثليث طائه إشارة إلى التفنن المطلوب في العلاج؛ لأن الطبيب يتقلب مع المرض، ويعالجه بجميع أحواله، وفي هذا محاكاة (أرموني) لا تخفى على اللبيب.
ومن الأسماء العربية للطبيب: «الطب» و«الآسي»، و«العراف»، وعند العامة «الحكيم»، ولقد قلت فيه:
الطب أشرف خدمة لبني الورى
ولكم بها أضحى السقيم سليما
ليس العلاج سوى مظاهر حكمة
فلذاك قد دعي الطبيب «حكيما»
ومن هذا إشارة إلى أن الأطباء كانوا حكماء (فلاسفة) في القديم.
وفي أسماء الطبيب «المتطبب»، وكثر استعمالها بمعنى المتكلف صناعة الطب، ومثلها «الدجال» بمعنى الكذاب.
و«النطاسي والنطس» بمعنى الطبيب الحاذق يونانيتها غنوسطس بمعنى العارف والحاذق.
ومن الاصطلاحات الطبية «استطب لوجعه» إذا استوصف له، و«الطبابة» الصناعة، و«الصفة» هي تدوين طريقة تركيب الدواء وتجرعه، وتسميها العامة «الروشتة»، وهي كلمة إيطالية
Ricetta ، وتلفظ ريشتا وسماها ابن سيناء «النسخة» أيضا.
و«الصيدلية» محل تركيب الأدوية وبيعها، وصاحبها «صيدلي وصيدلاني»، وهي فارسية منسوبة إلى «الصندل» وهو شجر هندي طيب الرائحة اسمه بالسنسكريتية «تشندان»، فنقله الفرس «جندال» وعربه العرب «صندل» وهو من الأدوية، والعامة تسميها «فرمشية»، وهي يونانية بمعنى بيت العقاقير، وهي ما يتداوى به من النباتات أو أصولها، (جمع عقار). «والأقرابازين» أي: علم تركيب الأدوية يونانيتها «أكروبيذينون» منحوتة من «أكرو» أي: أطراف و«بيذينون» أرضي، والمعنى المنفرشة على الأرض أي: النبات أو العقار؛ لأن الأدوية كانت في أول عهدها نباتية، والتشريح هو معرب كلمة «أبتوميا» اليونانية بمعنى التقطيع، و«التمريض» معرب «ترابيا» اليونانية، وهي الاعتناء بالمريض من خدمة ومعالجة، ومنها خدمة المرضى في أسرتهم ويونانيتها «كلينيك» أي: التمريض السريري، و«الطب الباطني» معرب «بثولوجية» اليونانية، ومعناها الكلام عن الأمراض.
و«البيمارستان» فارسية من «بيمار» مريض، و«ستان» محل، فالمعنى محل المرضى، وعرب الآن بالمستشفى، وسماه الأتراك «خسته خانه»، وغلب «البيمارستان» اليوم على محل تمريض المجانين، ولعل كلمة «مجنة»
2
تعريبه؛ لأن وزن مفعلة لما يكثر فيه الشيء كالمدرسة والمكتبة، وأما ما يسمى عند الإفرنج باسم «السناتوريوم»، وعند الأتراك «نقاهتخانة» فعربيته «مصحة»؛ لأنها للاستشفاء الصحي، ووضع لها بعضهم المصح.
و«المستوصف» المحل لمشاهدة المرضى وكتابة «الصفات» لهم لعلاجهم ... إلى أمثال هذه الاصطلاحات.
أما حد الطب اصطلاحا فهو: صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة تحفظ بها الصحة، وهو تعريف الفارابي إياه فهو أحسن حدوده لولا نقصان علته الغائية، ومن أدق حدوده ما أورده الشيخ داود البصير الأنطاكي في تذكرته «العجب العجاب»، وهو: علم بأحوال بدن الإنسان وجسمه يحفظ به حاصل صحته ويسترد زائلها.
و«موضوعه» بدن الإنسان في الخصوص، والجسم في الإطلاق؛ لأنه باحث عن أحوالهما الصحية والمرضية، و«مبادئه» تقسيم الأجسام والأسباب الكلية والجزئية، و«مسائله» العلاج وأحكامه ، «وغايته» جلب الصحة وحفظها حالا والثواب في دار الآخرة مآلا .
هذا ما ذهب إليه خاتمة الأطباء النطاسيين الشيخ داود الآنف الذكر، وهو لا يكاد يخرج عن مصطلحات العصر الحاضر. وفي الحديث الشريف «العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان.» ومن أساليبهم «اعمل هذا عمل من طب لمن حب» ... إلخ. (1) الطب وأقسامه
يقسم علم الطب إلى فرعين، هما: «الطب الإنساني»، و«الطب الحيواني»، والطب الإنساني يقسم إلى تشريح وتشخيص وعلاج، والتشريح يدخل تحته التحنيط والجراحة. والتشخيص قسمان: الباطني والظاهري، والعلاج يقوم بصفة الدواء وتركيبه في الصيدلية وتجريعه للمريض إلى أشباه ذلك من الفحص المجهري والفني وغيرهما.
والطب الحيواني يقسم إلى تشريح وبيطرة، وهذه تحتاج إلى انتخاب البيطار وآلاته، وتأصيل الحيوانات ومعالجة أمراضها.
فالتشريح: هو علم طبيعي غايته معرفة جميع الأجزاء التي تركب منها الجسم الحيواني باعتبار بنائه ووضعه، ونسبته إلى الأجزاء المجاورة له من حيث المشابهة والمخالفة، وهو أنواع: «تشريح المقابلة» و«التشريح البشري»، «فتشريح المقابلة» يتعلق بالحيوانات ومقابلة أعضائها بما يشبهها أو يخالفها في الجسد البشري.
و«التشريح البشري» يقتصر فيه على وصف الأعضاء، التي يتركب منها الجسد الإنساني، وإظهار علاقاتها ببعض العلوم الطبية.
وهذا التشريح بقسميه يتفرع إلى التشريح الوصفي، والتشريح الجراحي والتشريح العام، والتشريح المجهري (المكرسكوبي) ويمكن حصره بالتشريح الإجمالي، والتشريح التفصيلي.
والتشخيص هو معرفة المرض وأسبابه والاهتداء إلى علاجه، والعلاج هو السعي بإزالة المرض، و«التحنيط» هو معالجة استبقاء الأجسام بعد موتها بطرق تحفظ فيها شكلها الطبيعي ما أمكن، و«الجراحة» هي إجراء العمليات من بقر بطن وشق عضو وبتر آخر، وجبر العظام المتكسرة ومعالجة الجراح ونحوها.
ولما كانت الجراحة قائمة بمعرفة الكسر والخلع والقروح، والجروح كانت متقدمة على الطب الباطني لعسره في أول الانتباه إلى التطبيب؛ لأن الجراحة صناعة والطب علم والصناعة متقدمة على العلم في التطور.
والقيام على المريض سمي «التمريض»، وهو فن ذو شأن اليوم، وكذلك علم حفظ الصحة والترويض البدني.
ولقد قسم الشيخ داود البصير الآنف الذكر العلوم البدنية إلى: الطب والتشريح والصياغات والسباحة ، وتركيب الآلات والكحل والجراحة والجبر والفراسة، والنبض والبحارين والأقاليم والتأثيرات الهوائية والملاعب والسياسة، وفصل مجمل كل منها.
ولما كان القدماء يميلون إلى المصارعة والقتال اتخذوا الرياضة البدنية من جملة أقسام الطب، وكتبوا فيها كما كتبوا فيه وفي فروعه الكثيرة، ولا تزال إلى اليوم الألعاب الأولمبية من فروع علم الصحة، التي تدرس في المدارس ولا سيما عند اليونانيين. (2) إلام يحتاج الطبيب؟
قال الإمام الشافعي: علمان شريفان وضعهما ضعة متعاطيهما، وهما الطب والنجوم. وقال الإمام الرازي (من كبار الأطباء): إذا كان الطبيب حاذقا والمريض موافقا، والصيدلي صادقا فما أقل لبث العلة.
والطبيب يحتاج إلى آداب نفسية وآداب درسية، كما يحتاج إلى علوم وأدوات وتمرن وتجربة.
فمن آدابه النفسية التقوى والبشاشة ورقة الأخلاق، ولطف الحديث والمشاركة للمريض في آلامه؛ ليثق بعلاجه والاهتمام في إراحته والإجابة على أسئلته بما لا يزيده حدة ولا خوفا، ولا سيما في الأمراض العصبية على حد قول بعضهم في طبيب جامع لأحسن الأخلاق ومحاسن البراعة:
لو غضبت روح على جسمها
أصلح بين الروح والجسم
كأنه من لطف أفكاره
يجول بين اللحم والعظم
وأن يكون ذا هيبة ووقار مع لطف وأنس على حد قول سويد بن رقيقة:
قالوا خليق بالطبيب بأن يرى
بالطبع يعدم رونقا وجمالا
صدقوا ولكن لا إلى حد به
يؤذي المريض ويفزع الأطفالا
ومن صفات الجراح أن يكون قوي القلب كثير الذكاء، وافر التدقيق شديد الانتباه، رشيق اليد سريع العمل مطلعا على أسرار الطب الحديث معتنيا بالنظافة الواجبة؛ لأن كلا من التطهير والتعقيم والتجريد لقتل الجراثيم ضروري، بل بمكان عظيم من الصناعة، فضلا عما يجب أن يقتني من الآلات الحديثة والأدوات المختلفة لإجراء العمليات على اختلاف أنواعها إلى كثير من الآداب.
ومن «آدابه الدرسية» أن يكثر من المطالعة ويقف على ما استحدث من المعالجات، وطرقها الفنية والتروي عند تدوين الصفة (الروشتة) للعلاج، واتخاذ أبسط العلاجات إذا لم يكن لمركباتها وأخلاطها شأن أهم، وأن يتمرن على ذلك بالمشاهدة والعمل.
وأن يوفق بين الإقليم والمزاج والعلة، وذلك باختبار البلاد وأمزجة سكانها ومعالجة أمراضهم على اختلافها بحسب الإقليم، فيستفرغ الدم حين الحاجة إلى استفراغه وإن لم تسمح له الكتب الحديثة بذلك؛ لأن لكل بلاد طبها ولكل داء دواءه، وهكذا الحال في المعالجات الأخرى، وضروب التفنن فيها في كثير من الأمراض العصبية والشئون الغريبة.
وإلى هذا ألفت أنظاركم أيها الأطباء الكرام والطلبة الأدباء، أن توفقوا بين علم الطب وطبيعة البلاد وأمزجة السكان؛ لأن الطب المبني على شئون البلاد الباردة هو غيره في الحارة، وهكذا الحال في البلدان المعتدلة والأقاليم المتلونة، فكان المتعلم للطب الإنكليزي أو الإفرنسي أو الأميركي مثلا يجد كل فن موافقا لأمزجة السكان، وحالة الأقاليم وتجارب الأطباء، ولكنه قد يخالف ما عند غيره من الأمم الأخرى سكان البلدان المختلفة.
وإذا تقصينا في البحث قليلا نجد أن الطب العربي يوافقنا من أكثر الوجوه؛ لأنه مبني على طبائع أمزجتنا وأقاليمنا، مفيد لنا في دفع الأمراض عنا، فيا ليت المجامع العلمية تعقد جلسات خاصة للأطباء؛ ليطالعوا قديم المؤلفات عندنا وكثير ما هي، ويستخرجوا من دفائنها ودقيق تجاربها ما يوافقنا مطبقا على العلاج العصري والآراء الحديثة.
وعلى الجملة فإن الأطباء تتفاوت درجات معارفهم في أقسام الطب وفروعه التي يزاولونها، فمنهم من ينبغ في طب العيون، فيكون فيه أحذق من العلاج الباطني، والآخر يكون اختصاصيا في الجراحة ومتفوقا في إجراء عملياتها، ولا بد له في معالجة الأمراض، فالاختصاص في هذه الصناعة جم المذهب كبير الفائدة، وأفضل ما يأخذ الطبيب به نفسه ألا يغرر في تعاطي ما لا براعة له فيه مقتصرا على الفرع الذي أتقنه، فلا يجني ضررا على أحد ولا يفقد ثقة الناس به؛ لأن الطبيب هو المؤتمن على نفس المريض، فعليه أن يبذل ما في وسعه لشفائه ليقول له مع العتابي الشاعر:
ما زلت في غمرات الموت منطرحا
يضيق عني وسيع الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي
حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
وأما العلوم التي يحتاج إليها الطبيب، فأهمها علم الطبيعيات والفلك والكيمياء والرياضيات، ولا سيما الجبر والهندسة وعلم النبات والحيوان، وعلم منافع الأعضاء وعلم النفس والتشريح والصيدلة والوقوف على أسرار العلم الحديثة، كالفحص المجهري والمعالجة بالمصل والتلقيح والتصوير بأشعة روتنجن، وأن يتقن لغته مع لغة أخرى عصرية على الأقل ... إلخ.
وزبدة مخيض القول: أن أهم واجبات الطبيب تنحصر في قولنا: «يجب أن يكون عالما عاملا»، فإذا لم يتقن علمه ويجتهد في ترقيته، وإذا لم يزاول العمل ويشهد الاختبارات والعلاجات، فلا يسوغ له أن يسمى بالطبيب، ومن أفضل ما يزيده براعة شهود العمليات الجراحية في المستشفيات والتجارب الطبية في المختبرات الصحية، فهو يحتاج إلى رحلة في البلدان الراقية، كما كان يفعل قدماء الأطباء، وكما يجري عليه اليوم كبار أطباء العصر.
أما الصيدلي فآدابه أن يكون مدققا في عمله صادقا في مبادئه بارعا بالتحليل والتركيب الكيماويين، مطلعا على مركبات الأدوية ومقادير أجزائها ضابطا للموازين الدقيقة ووزناتها، كثير الانتباه إلى الصفة (الروشتة) التي تسلم إليه فإذا وجد فيها خطأ راجع الطبيب لإصلاحه، أو أصلحه هو بذاته إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، وكثيرا ما يخسر الطبيب الحاذق مهارته بتشويش تركيب الدواء؛ فلهذا كان مشاهير الأطباء القدماء هم المعالجون والصيادلة والممرضون.
والممرض يجب أن يكون مترويا حاذقا صبورا مدققا في أعماله كثير الحرص على النظافة، رقيق العواطف نحو مريضه ... إلخ. (3) ما الداعي إلى معرفة التشريح والطب؟
إن حرص الإنسان منذ القديم على استبقاء حياته، وطمعه في دنياه وزخارفها وتماديه في كسب لذاتها حدا به إلى مكافحة الأدواء التي تلم بجسمه، ورفع الآلام التي تقلق راحته وإقصاء عوادي الزمان التي تتخونه تمتعا بطول العمر، وتوغلا في اجتناء اللذات، كل ذلك كان الداعي إلى إيجاد «الطب».
ثم بعد أن يموت الإنسان يشتد حرص ذويه ومريديه على حفظ جثته بينهم سالمة؛ ليمتعوا أبصارهم بها ولو كانت هامدة جامدة، ولا سيما إذا كان عزيز قومه وموضع آمالهم، فعالجوا استبقاءها على حالتها الطبيعية، فعرفوا بذلك فن «التشريح»، ومنه تطرقوا إلى «التحنيط»، فأتقنوا لذلك «الجراحة» وعرفوا مضادات الفساد.
فهكذا وجد الطب وما يتعلق به مع الإنسان الأول، وما زال يرافقه فيزيده إتقانا بمباحثه وكشوفه واختراعاته، متطورا بحسب أهوائه ومعتقداته، مرتقيا بالتجربة والاستقراء والاختبار، مكملا بالعمل.
واتخذ الأدوية من المواليد الثلاثة الحيوانية والنباتية والجمادية، وبرع بالكيمياء تحليلا وتركيبا ومزجا واستقطارا، فتولد من ذلك علم تركيب الأدوية (الأقراباذين)، ثم الاستشفاء بالتمريض واختيار الأماكن الجيدة الهواء. (4) أصول الطب القديم
لما كان الإنسان في بداوته ساذجا كانت أعماله أيضا بسيطة، فكان الطب القديم مبنيا على الطبائع الأربع في عرفهم، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والعناصر الأربعة في زعمهم أي: النار والماء والهواء والتراب
3
والأمزجة الأربعة أي: الصفراوي والبلغمي والسوداوي والدموي.
ولقد تولى كهنة الهياكل الدينية العلاجات، فبنوا الطب على أوهامهم وأهوائهم وخرافاتهم؛ فلذلك جعلوا العلاقة بين الإنسان والأجرام الفلكية والظواهر الجوية أساس طبهم؛ لتأثرهم بها، فشبهوا الإنسان بالفلك زاعمين أن مخارجه كالبروج تبلغ اثني عشر عدا، والحمل والعقرب للعينين، والثور والميزان للأذنين، والجوزاء والسنبلة للمنخرين، والسرطان للفم، والأسد للسرة، والقوس والحوت للثديين، والجدي والدلو للسبيلين.
وجعلوا حواسه الخمسة للمتحيرة الخمسة كقسمة البروج، ونفسه كالشمس بجامع عدم التغير، وعقله كالقمر في النقصان والزيادة والكمال، وعروقه كالدرج ومفاصله كالدقائق، وحالاته كالجهات.
وثبت في اعتقادهم أن البلغم كطعام لم ينضج، والدم كمعتدل النضج والصفراء، كمجاوز الاستواء ولم يحترق، والسوداء كمحترق.
وقال بعضهم في أخلاط الإنسان: الصفراء كالطفل يغضب من كل شيء ويرضى من لا شيء، والدم كالعبد وربما قتل العبد مولاه، والبلغم كالملك الجائر إذا غضب لا يرضى إلا بقتل عضو شريف، والسوداء كاللص الحاذق إذا دخل البيت لا يرضى إلا بسرقة أجل شيء وهو العقل.
وعرفوا أن الدواء يكون إما بالإسهال وله زمن الربيع والخريف، أو باستفراغ الدم وله الربيع فقط، أو بالأشربة ولها الصيف، أو بالمعاجين ولها الشتاء؛ ولذلك كانوا يتحينون للعلاج الأوقات المناسبة المبنية على سعد الطالع للمعالجة، خاصين كل نوع من المرض بحالة تناسبه، وراصدين الكواكب وواضعين التقاويم، يتطيرون ويتفاءلون، وهم أسرى الطبيعة والظواهر الجوية، يؤثر فيهم أقل تغيير، ويخيفهم أدنى طارئ مثل اقتران وكسوف وخسوف ومذنب ونيزك وطالع.
ومن أنواع المعالجات في الطب القديم الكي والفصد والحجامة والإسهال، والمعرقات والمخدرات والمنبهات والمهيجات، والمسكنات من الزرائع البسيطة والتدابير البيتية والوسائط الطبية.
وكثيرا ما كانت أدوية القدماء العوذ والأحجبة والتمائم، والرقي من أنواع السحر والطلاسم التي لا نزال نرى بعضها شائعا إلى اليوم.
فللمصريين والآشوريين واليونان رقى وخرافات هي غريبة في بابها، واتصل كثير منها بالعرب،
4
وكانت عوذة الرومان ضربا من الفطر يعلقونه على صغارهم وقاية لهم، ولقد قال الشاعر فيرجيل الروماني يصف نحول قطيع لبعض رعاة عصره أصيب بالعين: «إن عينا شريرة رمت خرافي بسهامها، فأصابتها وغادرتها قضافا لم يبق منها غير جلد على عظم.»
وكان مشاهير أطبائهم الكاهن والمعزم والعراف والساحر والراقي والمنجم؛ فلذلك ترك العليل أحقابا لرحمة الطبيعة، ولطالع الحظ يتقلب على فراش الآلام، وليس له من منقذ إلا الأوهام، فكثيرا ما مات الناس من الإهمال والإمهال. (5) تاريخ الطب في جميع أدواره
إن للطب أدوارا مثل بقية الأشياء في الكون وهي: دور النشأة، ودور البلوغ ودور الهدم، فكان الطب في دوره الأول مبنيا على الخرافات وممتزجا بالعقائد الدينية لشيوعها، فجمعت التجارب الطبية أولا في الذاكرة وبقيت أحقابا تروى، ثم دونت بالصحائف على اختلاف أنواعها، وعلقت في الهياكل ثم سجلت في كتب وتداولتها الأيدي تمحيصا وتحقيقا من أقدم عصورها إلى يومنا، فارتقت ارتقاء مذكورا مع بقاء كثير من المجربات الصحيحة دستورا للعمل وحجرا للزاوية.
ولما كان الإنسان في أول أدواره يغتذي بالنبات كانت صحته قوية وغذاؤه طبه، فلم تطرقه الأمراض بكثرة ولا احتاج إلى التطبب حتى إذا أكثر من تناول اللحوم طعاما، وتأنق في إعداد ألوان الموائد والتوابل والبقول واكتظت معدته بأخلاطها، تناوبته الأمراض ولازمته العلل، فأودت بحياته وتسلسلت الأسقام موروثة، وأصبحت البنية عرضة لتأثيراتها حتى انقرضت بعض الأسر والقبائل؛ لتفشي الأمراض الوبيلة والأدواء العضالة في بينها، متوارثة من السلف إلى الخلف.
وكانت طريقة معالجتهم القديمة إلقاء العليل في قارعة الطريق، وحفظ ما يعالجه به الخبيريون أو كتابة ما يوصف له من الأدوية على الألواح، والإشارة إلى الأمراض، فتعلق الألواح في الهياكل وتشيع منافعها، وهذا الدور هو الذي يسمى «بطب الهياكل».
ثم كثرت عناية الناس بالطب والعلاج، واخترعت بعض الآلات وكشفت بعض الأدوية، فانتبه الإنسان إلى أشياء جديدة غفل عنها من تقدمه، فعرفت الزرائع الحديثة في الطب، واهتدي إلى الطرق المفيدة إلى أن وصلت إلى مبادئ التلقيح والاختمار والاستنقاع، والحقن بالمصل والتطهير والتعقيم والتجريد ... إلخ.
كل ذلك كان من دواعي ارتقاء الطب والجراحة والتشريح وما يتعلق بها.
ولكثرة من تداول الطب في القديم من الأمم لم يجزم بموجده، ولكنه ليس إلا نتيجة تجارب الأمم على اختلاف عصورهم، وأماكنهم وطرقهم وأسرار ميلهم إلى البقاء، والحاجة أم الاختراع.
فلهذا ندون الآن ملخص تاريخ الطب عند الأمم المترامية في القدم عصرا فعصرا وأمة فأمة، مشيرين إلى ما انتاب هذه الصناعة من التقدم والتقهقر والنهضة والانحطاط.
فنسرد تباعا ما عرفه المصريون والعبرانيون والبابليون والآشوريون والكلدانيون والفرس والهنود والصينيون والأحباش والسكيتيون والتتر والترك واليونانيون والرومانيون والمسيحيون والعرب والأوروبيون إلى عصرنا الحاضر، كاشفين القناع عن حقائق غامضة، وأسرار مكتومة أظهرتها الأحافير وأيدتها الآثار، فدعمت التاريخ بدعامة منيعة، وأزالت ما اعترض المؤلفين من غريب المشاكل وعويص الألغاز، وعلى الله الاتكال.
الخلاصة
يلخص من هذا المقال أن الطب انتقل تدريجيا من «طب الهياكل» أو «الطور الخرافي» أو «طور التجارب» المبني على الحدس والأوهام والنحوس، والسعود والتنجيم إلى «الطب العملي»، وهو الذي وضعه أبقراط الملقب بأبي الطب القائل في مقدمة كتابه الفصول: «العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والتجربة خطر، والقضاء عسير.» فجمع هذا النابغة من الألواح المعلقة في الهياكل ومن أفواه المجربين، ومن اختباراته وتحقيقاته ما دونه في الصحف، وأنشأ مدرسة لتلقينه فجرده من الخرافات الدينية والأوهام الفلكية، وبناه على التحقيق.
ثم لما أهمل أمره قيض الله له جالينوس الذي صنف نحو مائتي كتاب في العلوم ومعظمها في الطب، فأنعشه بفضل علاجاته الصحيحة وآرائه الصائبة وأبحاثه المفيدة.
فكان عصره الذهبي عند اليونان بعهد هذين الطبيبين الشهيرين، ثم انتقل من بلاد اليونان إلى البطالسة (أو البطالمة) في مدرسة الإسكندرية الشهيرة، التي كانت إذ ذاك أشبه بأكبر جامعة طبية في أوروبة وأميركة في هذا العصر.
ومن الإسكندرية انتقل إلى العجم بواسطة أطباء اليونان، وخدمة نصارى النساطرة الذين شيدوا له مدرسة جنديسابور، وأقاموا المستشفيات والملتجآت والمارستانات والمستوصفات والمصحات.
ثم انتقل من العجم إلى بغداد بفضل الدولة العباسية، فكان بهذا بدء تطوره العربي الذي سنتكلم عنه مطولا بتفصيل كاف في المقال الثاني - إن شاء الله.
Bilinmeyen sayfa