فكان الإنسان يعيش بحسب الشرع والعدل في الدرجة التي قسمت له والآلهة يتنازعون ويتخاصمون وكان بجانبه حافظ له أمين عليه، يعرف بالفرافاشي، يسهر على وقايته ويدفع عنه كيد الشياطين مستعينا باليزتاس، وكان القوم يعتقدون أن هرمز إنما أوجد الإنسان في هذا العالم لكي ينازع أهرمان في أقسام الأرض القاحلة، ولذلك كان أول الواجبات عليه أن يحرث الأرض ويستغل القمح منها، وثانيا أن يحمي مخلوقات هرمز ويبيد مخلوقات أهرمان، وعندهم أن أفضل مخلوقات هرمز هو الكلب وأن من قتله وقع في الإثم، بل إن من أعطاه «عظاما لا يمكنه أن يأكل منها شيئا أو طعاما ساخنا يحرق فمه» ارتكب خطيئة فاحشة وأتى أمرا نكرا، وعندهم أن الرجل البار هو من كانت أفكاره حميدة، وأقواله حميدة، وأفعاله حميدة، فإذا خرج عن دائرة الكمال فلا يعود إليها مهما أكثر من تقديم القرابين والضحايا، إذ لا تغتفر الهفوة إلا لمن تاب وعمل صالحا. ومن مكفرات السيئات التي نصت عليها هذه الشريعة قتل الحيوانات المؤذية كالضفدع والثعبان والنمل وإحياء الأرض الموات، وتزويج العذراء الطاهرة التقية النقية بالرجل العادل الصالح.
وكانت احتفالات الديانة والعبادة بسيطة وقليلة العدد، فلم يكن لهرمز تماثيل وأنصاب ولا محاريب سرية ولا مذابح للقربان بل كان له بيوت نار
4
فوق المشارف يحافظ القوم فيها على بقاء النار المقدسة على تعاقب الزمان. وكان الموكلون بها جماعة من الكهنة وظيفتهم أن لا يدعوها تخمد مطلقا، وكانت الكهانة في بلاد ماداي، ثم في بلاد فارس منحصرة في طبقة لا يدخلها غير أهلها، وهي طبقة المجوس، وقد صار لها نفوذ كبير وجاه عظيم حتى تجاوزت حدود وظيفتها بالتعدي على حقوق غيرها في بعض الأحيان، وكانوا يلبسون قفاطين ضافية بيضاء اللون وعلى رءوسهم طرطور طويل، وفي أيديهم أغصان الطرفا (باريسما) إذ بدونها لا يكون أي عمل ديني مقبولا ولا صحيحا، وكانوا يصعدون على مذابح القربان بموكب حافل ويحضرون الضحية، ثم يصبون عليها الخمور ويرتلون عليها الأناشيد السرية التي تجعل فيها الخاصية اللازمة والفضيلة المطلوبة، وأهم ضحاياهم هو الفرس ولكنهم كانوا يقربون أيضا الثور والماعز والشاة، فكان الكاهن يبتدئ بإحضار الهوما (نوع من الخمر أخذه الإيرانيون عن القبائل الآرية الأصلية) ثم يوزعه على الحاضرين ، وبعد ذلك يذبح الضحية ويفصلها قطعا، يضعها أمام الأتون لا في داخله لأن ملاصقتها للنار المقدسة تدنسها وتنجسها، ثم ينتهي الاحتفال بوليمة رسمية يأكل الحاضرون فيها لحم الضحية. (4) الاحتفال بالجنائز
كان الفارسيون إذا مات الواحد منهم لا يجوز لهم إحراق جثته ولا دفنها ولا طرحها في نهر من الأنهار؛ لأن ذلك يدنس النار أو التراب أو الماء وكان لهم وسيلتان للتخلص من الجثة من غير أن يمسوا طهارة العناصر الأولى؛ وذلك أنهم يغطونها بطبقة من الشمع ثم يدفنونها؛ معتقدين أن هذا الطلاء يحول دون النجاسة التي تحصل من ملامسة الجثة للتراب مباشرة، والطريقة الثانية أنهم كانوا يتركونها للطيور الجارحة تفترسها وبنوا لهذا الغرض صروحا كبيرة مستديرة مفتوحة من أعلاها، واتخذوها مقابر لموتاهم. أما الروح فكانوا يزعمون أنها تبقى بجانب جسدها الفاني ثلاثة أيام، حتى إذا كان فجر اليوم الرابع فارقته وذهبت إلى محل الدينونة، وهناك توزن أعمالها من خير ومن شر لتبرئة ساحتها أو للحكم عليها بحسب ما تشهد به حياتها، وبعد خروجها من المحكمة تساق إلى قنطرة شنفال، وهي قنطرة مقامة فوق الجحيم ويتوصل المار عليها إلى النعيم، فإذا كانت من أهل الكفر والضلال لا يتيسر لها اجتيازها فتسقط إلى الدرك الأسفل، وإذا كانت من أهل الطهر والعفاف مرت عليها من غير عناء، ثم تمثل بين يدي هرمز فتجلس في مكان يعين لها وتبقى فيه إلى يوم تحشر الأجساد. (5) الفنون الفارسية
انتقل الفارسيون بغتة من الخمول، ومن حالة تقرب من الهمجية إلى ذروة المجد والفخار؛ فصار لهم ملك آسيا كلها في وقت قريب؛ ولذلك لم يمض عليهم الزمن الكافي لتوسيع نطاق تمدنهم، وعلومهم الأدبية، وفنونهم الخاصة بهم، فتخلقوا بأخلاق الأمم التي تغلبوا عليها من آشوريين، ومصريين، وهيلانيين (يونان)، وأخذوا عنهم كل ما لم يكن عندهم، فلبس ملوكهم الأرجوان الصوري، وأقمشة بابل المطرزة، وقباطي مصر المشهورة، وكتبوا كتاباتهم بحروف استعاروها من الأقلام المسمارية المستعملة عند الأمم المتوطنة على سواحل الفرات ودجلة. وقد استعملوا في بعض الأحيان نقاشين من اليونان في زخرفة قصورهم، ومن نظر إلى ما بقي لنا من عمائرهم رأى فيها في كل خطوة آثارا تذكره بفنون مصر وآشور. هذا، وإن بعض الأجزاء في قصر دارا بمدينة فرسبوليس
5 (شكل
22-2 ) توشك أن تكون أطلال أحد المعابد المصرية، فإن جميع الأبواب محلاة من أعلاها بأطناف
6
تشبه الأطناف المصرية، وعليها دلائل القوة والمتانة التي هي خاصية الآثار بوادي النيل، ومن نظر إلى مصارعة الملك مع أحد الأرواح الشريرة (وكثيرا ما يوجد رسمها في الأطلال) (شكل
Bilinmeyen sayfa