تمثال شيخ البلد المحفوظ بمتحف الجيزة.
وكانت التماثيل المنعزلة أو المجتمعة حول بعضها مصورة بالألوان أيضا، فالجهات الممثلة للحم منها ملونة باللون الأحمر فيما يختص بالرجال، وبالأصفر الفاقع فيما يختص بالنساء، ولم يكن تصويرها بالغا نهاية ما يصوره الخيال من الكمال، بل كانت عبارة عن صور للنساء والرجال بالغة في الصحة والدقة، وكل شخص له من هيئته ووصفه إشارة إلى الحالة التي تليق بمقامه خاصة؛ فالسيد الجليل يكون واقفا وفي يده العصا، أو جالسا على مسطبة من الحجارة، وجسمه معتدل، ورأسه مرتفع، ونظره حاد، والكاتب يجثو أمامه بكل خضوع، وذراعاه مشتبكان فوق بعضهما، أو يقعد مربعا وعلى ركبتيه درج من البردي كأنه مستعد لتسطير ما يمليه عليه مولاه. وأما العبد والأمة فيهرسان الحبوب لعمل الخبز اللازم لكل يوم، ويعجنان الطحين، ويطليان القدور بالقار، ثم يذهبان ليملآها نبيذا، وليست هذه الصور تشابه ما عندنا في كونها تمثيلا من غير حياة لجسم من الأجسام، بل هي أجسام حية تمثل الشخص الذي هي تصوير له، حتى إنك لتظن أن الملك أو الإله أو الفرد من الأفراد الذي أمامك تمثاله أو صورته كأنه قد نفخ فيها شيئا من روحه ، وأفاض عليها جزءا من حياته بحيث إن ذلك يسمح لها عند الاقتضاء بالكشف عن المغيبات، وما يستقبل من الأمور، فأما التماثيل التي تشاهد في القبور فهي تقوم في الواقع، ونفس الأمر مقام الجثة المحنطة، وتكون سندا للروح، ولو تبددت تلك الجثة، وعبثت بها أيدي الزمان. ومن هذا تعلم السبب في كون الصانع مصورا أو نقاشا، كان يسعى جهده، ويبذل قصارى ما عنده في جعل صنعه أشبه شيء بالأصل الذي أخذ على نفسه تمثيله؛ أي لأجل أن تكون النفس قديرة على التصرف في جسمها الحجري بسهولة، وعلى الوجه الذي يوافقها وترتضيه؛ ولذلك كان من المحتم أن هذا الجسم يكون مثالا كاملا للجسد الذي قد حلت فيه الحياة، ويكونان سواء في حسن المنظر، وفي العاهات التي ألمت به، وما كان فيه من السماجة والتشويه.
وأحسن المصنوعات التي وصلت إلينا، وحفظت إلى يومنا هذا من آثار الدولة الأولى، والدولة الوسطى هي؛ الكاتب الجالس مربعا وهو (شكل
7-2 ) بمتحف اللوفر بباريس، والتمثال المعروف بشيخ البلد (شكل
7-3 )، وتمثال خفرن، وتمثال الملكة، وهذه التماثيل الثلاثة الأخيرة موجودة بمتحف الجيزة، وقد ظهر في أيام ارتقاء الدولة الطيبية، وفي عصر الدولة الصاوية بعض تماثيل تستلفت الأنظار، وتدعو إلى الإعجاب، ولكنها على طراز جاف خال من الحرية الكاملة، والتصرف التام كما كان الحال في العصر المنفي. (6) الفنون الصناعية
تقدمت الفنون الصناعية بوادي النيل من أول الأمر تقدما عجيبا فائقا، فكان المصريون يشتغلون بغاية الحذق والمهارة على الأخشاب والمعادن النفيسة، والثبهان (البرونز) (شكل
7-4 )، وعلى الأحجار الدقيقة اللطيفة، وكانوا من أيام العائلة الرابعة والخامسة يصطنعون الزجاج والزليج
1
المموه بالألوان والأصباغ، والمنسوجات الموشاة المطرزة، ويقدون الجلود، هذا وقد اطلعنا على عدد عظيم من هذه المصنوعات، فكان بذلك حكمنا على قيمتها أبلغ سدادا مما لم يساعدنا الزمان إلا على رؤية صورها ورسومها فقط.
فقد وجدت هذه المصنوعات في القبور، وفي أطلال المدائن، والفائدة المترتبة عليها المرتبطة بها عظيمة جدا؛ لكونها تحدثنا بتاريخ الصناعة في مصر، بل وبتاريخها على العموم، فإن أهل مصر كانوا يبعثون إلى الشام وكلديا وفينيقية، وإلى اليونان وإيطاليا، وإلى بلاد الغاليا وإسبانيا على بعدهما، ونزوحهما بعدد عظيم، ومقدار كبير من مصنوعاتهم في المجوهرات والمصوغات، والخزف والأقمشة، والعلب والغمدات التي من الخشب المشغول، وكثيرا ما اقتدى بهم وحاكاهم في بعض أعمالهم أمم البحر الأبيض المتوسط الذين كانوا بين الحضارة والهمجية، فإن الخناجر التي وجدت في ميسينة في قبور رؤساء أرجوس هي من نفس طراز الخناجر التي استكشفت في طيبة على مومياء والدة أموسيس، وجاء أول الصناع وأرباب الفنون عند اليونان، فقلدوا صور الآلهة عند المصريين، كما أن التماثيل الحجرية القديمة التي كشف عنها التراب من جهات كبيرة ببلاد الهلاد (اليونان) إنما هي تعظيم محفوف بالدقة، ولكنه خال من الرقة، أخذ عن التماثيل الصغيرة التي من البرونز، أو من الأحجار الدقيقة المصورة لبعض آلهة المصريين، فكانت هذه الأشياء الدقيقة وحدها سببا في تأثير نفوذ مصر على بلاد اليونان، وتأثير بلاد اليونان على الأمم الحديثة مدة قرون من الزمان.
Bilinmeyen sayfa