تمهيد
الجزء الأول: العصور القديمة وجذور الجنون
1 - رب وأرباب
2 - مرض الروح
3 - التراث الأبقراطي
4 - طالما اعتنينا بالمجانين
الجزء الثاني: ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
1 - الوضع الراهن للتفكير النظري
2 - وضع المجنون في المجتمع إبانالعصور الوسطى
3 - نماذج من الجنون وصور لإعادة تجسيده
4 - جنون ودين
الجزء الثالث: احتجاز المختلين عقليا
1 - الإنجيل من منظور فوكو
2 - المشفى العام
3 - دور الاحتجاز الجبري تتسلم الراية
4 - مرحلة مستودعات التسول
5 - فكر الإصلاح
الجزء الرابع: اختراع الطب النفسي
1 - إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر
2 - مداواة الجنون
3 - عودة سريعة إلى فوكو
4 - «بينيل» اسم صار علامة
5 - إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض العقلية
الجزء الخامس: العصر الذهبي للطب العقلي
1 - قانون 1838 الخاص بالمرضى عقليا
2 - ازدهار المصحات في فرنسا
3 - جدران المصحة
4 - «جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب
5 - البوتقة النظرية في عصر اليقين
الجزء السادس: عصر الشك
1 - المصحات العقلية لا تؤدي إلى الشفاء
2 - القرن الجديد
3 - ثورة الطرق العلاجية البيولوجية
4 - مناهضة الطب النفسي
5 - تجزؤ الطب النفسي
الخاتمة
مصادر مخطوطة
مصادر مطبوعة
الهوامش
تمهيد
الجزء الأول: العصور القديمة وجذور الجنون
1 - رب وأرباب
2 - مرض الروح
3 - التراث الأبقراطي
4 - طالما اعتنينا بالمجانين
الجزء الثاني: ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
1 - الوضع الراهن للتفكير النظري
2 - وضع المجنون في المجتمع إبانالعصور الوسطى
3 - نماذج من الجنون وصور لإعادة تجسيده
4 - جنون ودين
الجزء الثالث: احتجاز المختلين عقليا
1 - الإنجيل من منظور فوكو
2 - المشفى العام
3 - دور الاحتجاز الجبري تتسلم الراية
4 - مرحلة مستودعات التسول
5 - فكر الإصلاح
الجزء الرابع: اختراع الطب النفسي
1 - إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر
2 - مداواة الجنون
3 - عودة سريعة إلى فوكو
4 - «بينيل» اسم صار علامة
5 - إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض العقلية
الجزء الخامس: العصر الذهبي للطب العقلي
1 - قانون 1838 الخاص بالمرضى عقليا
2 - ازدهار المصحات في فرنسا
3 - جدران المصحة
4 - «جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب
5 - البوتقة النظرية في عصر اليقين
الجزء السادس: عصر الشك
1 - المصحات العقلية لا تؤدي إلى الشفاء
2 - القرن الجديد
3 - ثورة الطرق العلاجية البيولوجية
4 - مناهضة الطب النفسي
5 - تجزؤ الطب النفسي
الخاتمة
مصادر مخطوطة
مصادر مطبوعة
الهوامش
تاريخ الجنون
تاريخ الجنون
من العصور القديمة وحتى يومنا
هذا
تأليف
كلود كيتيل
ترجمة
سارة رجائي يوسف
كريستينا سمير فكري
مراجعة
داليا محمد السيد الطوخي
كل تقديري وامتناني إلى بريجيت
التي لولاها ما كتبت سطور هذا الكتاب
أبدا.
تمهيد
لماذا بحق السماء هذا الاهتمام بتاريخ الجنون؟ لأننا جميعا مصابون بالجنون. ربما تكون هذه إجابة الحكماء على ما يتردد من قول مأثور يرجع تاريخه إلى القرن السابع عشر: «إذا أردت أن ترى مجنونا، فما عليك إلا النظر إلى نفسك في المرآة.» والحقيقة، ليس هذا هو الجنون - الشائع بين الجميع - الذي نعنى هنا بدراسته، وإنما ما يعنينا هو دراسة تاريخ الجنون المرضي، ودراسة ما توصلت إليه مجتمعاتنا الغربية من إجابات حول هذا الموضوع، على المدى الطويل. لكن لماذا نتطرق إلى الحديث عن النوع الآخر من الجنون من المنظور الأخلاقي والفلسفي؟ لأنه، وعلى مدى قرون - أكثر من ألفي عام في الواقع، وحتى ظهور طب الأمراض العقلية والنفسية في مطلع القرن التاسع عشر - ظل هناك تضارب في تعريف كلمة «الجنون»؛ حيث كان في الغالب متأرجحا بين اتجاهين يحمل كل منهما معنى مختلفا، فيميل أحدهما إلى الاتجاه الأخلاقي (بمعناه الفلسفي)، والآخر إلى الاتجاه الطبي؛ مما نتج عنه التباس وغموض حول مفهوم هذه الكلمة. وقد شارك الأصل اللغوي للكلمة في تعزيز هذا الغموض؛ لأن كلمة مجنون
fou
مشتقة من الأصل اللاتيني
follis (ومنه اشتقت كلمة مجنون
fol
في العصور الوسطى) والتي تعني كيسا أو بالونا منفوخا بالهواء تتقاذفه الرياح هنا وهناك.
وتشهد المعاجم الفلسفية الحالية على غموض هذه الكلمة، فنجد بها تأرجحا (كما لو كان هناك تردد حيال وجوب ورود الكلمة أساسا في القاموس) في تعريف الجنون؛ ما بين اعتباره «مصطلحا مبهما وعاما» يقصد به «فقدان العقل»، والإشارة إليه بوصفه حالة متباينة الأبعاد من الاضطراب العقلي تندرج في مجال الأمراض النفسية. ومن هنا برزت أسماء أوائل المؤسسين للطب النفسي (أمثال بينيل وإسكيرول وغيرهما)، الذين توارت أسماؤهم بعد ظهور ميشيل فوكو الذي قلب موازين هذا العلم وأعاد وضع أسسه. وفي الواقع، سلط الضوء الإعلامي على غموض كلمة «جنون» مع صدور كتاب فوكو، في عام 1961 بعنوان: «الجنون والحماقة: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، الذي سرعان ما ترك بصمة في هذا المجال. فكيف لا ننطلق من هذه الأطروحة الشهيرة التي تعد اليوم راسخة رسوخا قويا وتفترض أن العصر الكلاسيكي «فرض التزام الصمت إزاء موضوع الجنون، باتخاذ إجراءات عنيفة وغريبة»؟ وربما تغيرت طبيعة احتجاز المجانين، مع إنشاء مستشفى باريس العام في عام 1656، ومع إرساء نوع جديد من الخطاب - وفقا لما ذكره فوكو - عن مكافحة البطالة. وسنتطرق في الصفحات القادمة لنظريات فوكو، ولكن يكفي الآن الإشارة إلى أن هذا الفيلسوف، في أثناء قيامه بتأريخ الجنون، تسبب في مشكلة من الناحية التاريخية. ولكننا نعترف بفضله في إدراج هذا الموضوع ضمن نطاق العلوم الإنسانية التي لم تكن حتى ذلك الوقت توليه اهتماما كبيرا، مكتفية فقط بعرض بعض المحطات المرتبطة بتاريخ الطب النفسي والسير الذاتية لرواده على التوالي، وعلى رأسهم بينيل.
وتكمن صعوبة دراسة موضوع الجنون في كون كتابة تاريخه - نظرا لما يحمله من معنيين بينهما اشتراك وعلاقة ازدواج - أمرا منوطا بكل من المؤرخ والطبيب والفيلسوف والطبيب النفسي والمحلل النفسي وعالم الاجتماع، ولكل منهم نظرته الشخصية لهذا الموضوع. هناك العديد من القراءات التي تطرقت إلى موضوع الجنون. ومن قبيل المفارقة أن المؤرخين، رغم أن الأمر يتعلق بالتاريخ، هم الأقل اهتماما بدراسة هذا الموضوع. وعلى النقيض، كانت أصوات الفلاسفة ومن بعدهم علماء الاجتماع والطب النفسي، دون أن نغفل بالطبع المحللين النفسيين، هي الأعلى - (أما عن الأطباء النفسيين، فطالما أبدوا اهتماما بتاريخ فنهم) ولا سيما بعد صدور كتاب ميشيل فوكو - وسط موجة عاتية مناهضة للطب النفسي هزت الغرب في الستينيات والسبعينيات.
على الرغم من هذا القيد الأيديولوجي (وعلى نحو ما كرد فعل إزاءه)، كان لزاما على المؤرخ أن يطرح أسئلة المؤرخين: هل يمكن اعتبار عام 1656 هو بداية تأسيس تاريخ الجنون؟ وهل السلطات كانت تسعى دوما للتهرب من مشكلة احتجاز المجانين بدلا من العمل بالأحرى على إيجاد حل لها؟ وهل المجانين - وليس الجهلاء أو الخطأة أمام الله، بل مرضى الجنون والمعروفون بإصابتهم بأمراض عقلية - موجودون منذ الأزل، ووجودهم قديم قدم البشرية نفسها؟ هل كانت السلطات تسعى في الأساس، ومنذ البداية، لعلاج المجانين؟ كل هذا يجعلنا نتساءل منذ متى وعلى أي نحو كان يتم تمييز الجنون بوصفه مرضا عقليا عن الجنون بوصفه نقيضا للعقل والحكمة.
لا بد من استئناف البحث، ولكن كيف؟ من منظور المؤرخ ... يجب، دون «جداول تحليلية» أو تحيز أيديولوجي، تتبع الجنون والمجنون واقتفاء أثر هذا الأخير منذ ظهوره في تاريخ البشرية، وتضييق نطاق البحث على نحو تدريجي للوصول إلى النتائج المتعلقة بقارة أوروبا ثم بفرنسا؛ وذلك باتباع نهج يعتمد على التسلسل الزمني لمتابعة كل ما طرأ على هذا الموضوع من مستجدات حتى يومنا هذا. فبعد أن شغل المؤرخون لفترة من الزمن بالمذهب التصوري الذي كان قد اجتاح العلوم الإنسانية، عادوا اليوم على استحياء إلى ما كانوا قد رفضوا الاعتراف به حتى لا يتهموا بانتمائهم إلى مذهب «الوضعية المحدثة» وهو: التسلسل الزمني والأحداث والتاريخ الكمي ... فالأحداث دائما ما تكون عنيدة!
إنه بحث طويل يمتد على مدار أكثر من ألفي عام لملاحقة الجنون ... بحث ميداني، كيف كان المجانين في الواقع المعاصر، ومتى ظهروا، وأين؟ ما حجم المشاكل التي تسبب بها الجنون منذ قيام الحضارات الأولى؟ وما الاستجابات النظرية والعلاجية وردود الفعل الاجتماعية والقانونية التي قدمتها المجتمعات إزاء هذا المرض؟
فضلا عن ذلك، ألا ينبغي أن يكون عنوان هذا الكتاب «تاريخ الطب النفسي» بما أنه يبحث في الجنون باعتباره مرضا؟ كلا، وذلك لعدة أسباب: أولها أن «الطب النفسي» تعبيرا واصطلاحا لم يظهر إلا في مطلع القرن التاسع عشر (في عام 1808 على يد رايل في ألمانيا، ثم مر وقت طويل - عام 1842 - حتى تم إدراج هذا المصطلح في قاموس الأكاديمية الفرنسية). ولكن لأن الحديث عن الطب النفسي وتاريخه (أو عن الأمراض العقلية) بالنسبة إلى الفترات السابقة على وجه الخصوص، ربما كان سيعد خطأ في المعنى أسوأ من ملاءمة التسمية؛ وذلك لأن «اختراع الطب النفسي» جاء كمرحلة فاصلة في تاريخ الجنون الذي كان قد بدأ بالفعل قبل ذلك بكثير.
وفضلا عن ذلك، فعنوان الكتاب «تاريخ الطب النفسي» يشير إلى المجال الطبي وحده، وهو المجال المركزي بالطبع، ولكننا نود كذلك إحكام الصلة بين هذا المجال وبين سياقه التاريخي والثقافي. وبقدر ما نرغب في رصد تاريخ المرض نفسه وتطور توصيفه يهمنا استعراض تاريخ الاستجابات العلاجية وردود الفعل الاجتماعية إزاء هذا المرض. ذلك أن الجنون ليس كأي مرض آخر. إن إدراك البعد الأنثروبولوجي للجنون يعد أمرا أساسيا لفهم تاريخه: «إننا لا نصبح مجانين برغبتنا، فقد تنبأت الثقافة بكل شيء. ففي داخل عملية الاضطراب العصبي، والتي نسعى إلى الهروب منها من خلال الاضطراب العقلي، تأتي الثقافة لتحدد لنا شكل الشخصية البديلة التي يتعين علينا تقمصها» (فرانسوا لابلانتين).
مما سبق، تتضح المكانة التي يشغلها تاريخ الطب النفسي. سنرى أنه خلافا لتاريخ معظم الأمراض، عند دراسة التاريخ الطبي للجنون، فإنه لا يعنينا الحديث عن إنجازاته والتقدم الذي أحرزه بقدر ما يهمنا تتبع أخطائه وتضحياته والنكسات التي تعرض لها، سواء في مجال النظريات الطبية، والاستجابات العلاجية أو فيما يتعلق بردود الفعل الاجتماعية. إذا أردنا البحث في هذا التاريخ الطويل، الذي يضاهي موضوعه غرابة وجنونا، عن سياسة قوة أو قمع من جانب السلطات، فإن جل ما نلحظه الغياب الواضح لأساليب المعالجة الحكيمة لهذا الموضوع، سواء على المدى الطويل أو على المدى المتوسط. فقد ظهرت - في ذلك الوقت - كلمات مثل التجريبية، والبراجماتية، وقلة الإمكانيات، واللامبالاة، بدت كأنها كلمات مفتاحية في هذا المجال.
إضافة إلى أن الجنون يعد حالة مرضية بالمعنى الطبي الدقيق، فهو يمثل مشكلة من وجهة نظر الفلسفة وعلم الاجتماع (وهو ما يفسر شرعية اهتمام هذه العلوم به)؛ وذلك لأنه يعبر عن سلبية كل من «العقل» والقوانين المنطقية التي تحكمه في زمان ومكان محددين، فكل مجتمع لديه أنماطه الخاصة من الانحراف ودرجات التحمل أو التساهل التي تتماشى معها. إن إجراء مقارنة بين حضارات مختلفة في زمن ما يعد أمرا مثيرا للاهتمام (وذلك لأن كل نظام له منظور نسبي مختلف تجاه الآخر) وهذا هو ما يهتم بدراسته - ولكن في عالم اليوم - علم الأنثروبولوجيا النفسية (الطب النفسي الأنثروبولوجي)، وذلك باتباع نهج تصوري لا يعنينا الخوض فيه الآن. ومن الواضح أنه ليس ثمة جنون إلا جنون العالم الغربي. بيد أننا نحيا في هذا الجنون وهو نفسه ما سنتناوله بالدراسة آملين أن يستمتع القارئ بهذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر التي سنخوضها عبر ما يقرب من ثلاثة آلاف عام.
الجزء الأول
العصور القديمة وجذور الجنون
الفصل الأول
رب وأرباب
كان اليونانيون القدماء هم أول من اهتم بدراسة الجنون؛ أي مرض الروح، لكن هل يعني هذا أنه قبل ذلك الوقت لم يتطرق أحد إلى هذا الموضوع؟ نحن لا نقصد بالتأكيد الجنون بمعناه النظري، حتى وإن كان غياب المصادر يجعلنا نتغاضى بعض الشيء عن مثل هذا القول. إنما نقصد المجانين بالطبع. هل هناك حضارات أو مجتمعات، حتى الأولى منها، دون مجانين؟ نراهن أن الإجابة ستكون بالنفي.
جنون وآلهة
في الحقيقة، وحتى لا نستعرض إلا الحضارات التي سبقت اليونان وأثرت فيها، لا بد من البحث عنهم والعثور عليهم؛ أولئك المجانين، الذين سبق أن ضبطوا في أثناء تلقيهم للعلاج. ومع ذلك، نراهم هناك، ببساطة هناك. نجدهم في المعابد التي شيدت لغرض طبي في الحضارة البابلية وفي مصر القديمة، كما في معبد ممفيس على سبيل المثال، والذي كان يعد مدرسة للطب ومشفى في الوقت نفسه. من بين أولئك الذين كانوا يتوافدون على هذه المعابد طلبا للشفاء، نجد المجانين الذين كانوا ينتظرون دورهم لحدوث معجزة معهم من خلال ممارسة بعض الطقوس. وسط أجواء من الشعائر الدينية، كانت هناك ممارسات كالصوم والاغتسال والتطهر والدهن بالمسحة المقدسة تسبق الدخول إلى المعبد، أحيانا ببضعة أيام، للمبيت فيه ليلة. في اليوم التالي ل «نوم حضانة المرض»، والذي يمكن أن يصاحبه تناول بعض العقاقير، كان المريض يقص أحلامه على «الكهنة الأطباء»، الذين كانوا بدورهم يقومون بتفسيرها للحصول على وصفات العلاج والأدوية والأنظمة الغذائية، والتي كان الإله بنفسه هو من يمليها على المريض في بعض الأحيان عن طريق الأحلام. ويمكن الافتراض بأن الحالات المرضية للرجال والنساء التي لا أمل في شفائها لم يكن يسمح لها بدخول المعبد؛ حيث كانت سمعة المكان والإله على المحك. على أي حال، كان هذا الطب الكهنوتي ملائما تماما للجنون.
أما المصريون، فقد كانوا يعتقدون أن مركز كل شيء هو «القلب»؛ فهو مقر «الهروب» و«النسيان»، وأن الجنون يصيب المرء حينما تسكن قلبه قوة إلهية (في إشارة إلى الشيطان) ولا يصبح بعدها مسئولا عن أفعاله. وحينما يعثر الإنسان على «قلبه» فإنه يستعيد في الوقت نفسه عقله. وقد ظلت هذه الفكرة عن المجنون المغيب سائدة لوقت طويل، ثم عاودت الظهور خاصة مع نشأة الطب النفسي، في أوائل القرن التاسع عشر، مع ظهور مفهوم الاغتراب (وهي كلمة مشتقة من الأصل
alienare
وتعني أن يكون الإنسان شخصا آخر غريبا)، ليس فقط غريبا عن الآخرين وإنما أيضا غريب عن نفسه.
في الطب البابلي، كان هناك اعتقاد بأن لكل مرض شيطانا مسئولا عنه؛ ومن ثم فإن الروح الشريرة التي تسبب مرض الجنون كانت تدعى إيديتا. في النصوص المسمارية الطبية،
1
جرى التمييز بين أنواع مختلفة من الجنون كما يلي: «بحسب ما إذا كان الشخص يعاني كثيرا من نوبات حادة أو خفيفة من الصرع، أو بدأت تنتابه أفكار عن الاضطهاد وأن الآلهة غاضبة عليه، أو إذا كان يصاب بهلاوس، أو لديه شعور دائم بالرعب والفزع ...» وبالطبع، فيما يتعلق بالجنون، وكما هي الحال بالنسبة إلى الأمراض الأخرى، كان الطب البابلي يلجأ إلى العراف أو الساحر
Asipu
مثلما يلجأ إلى الطبيب
Asu ، وأحيانا، إذا كان المريض يستحق العناء، كان يجري استدعاء الاثنين معا. كان الطبيب، وهو في الوقت نفسه الصيدلي، يمتلك بالفعل صيدلية (تحتوي على عقاقير ومراهم) لا يتورع العراف من جانبه، إضافة إلى ما يتلوه من تعويذات وعزائم، عن استخدامها.
في بلاد فارس القديمة، كان هناك اعتقاد بأن جميع الأمراض يتحكم بها شياطين، وأن المفهوم الثنائي للصراع الدائم بين الخير والشر يتجسد، ليس في العالم فحسب، حيث يتنازع إله الخير «أهورا-مازدا» مع إله الشر «أهريمان»، وإنما أيضا في الجسم البشري حيث تتعارض الصحة مع المرض. وكان هناك ثلاثة أنواع مختلفة من الطب كما يلي: «طب المبضع أو الجراحة، طب العلاج بالأعشاب والنباتات، وطب الكلام»، ويقصد بهذا النوع الأخير التلاوات المقدسة التي «تجلب السكينة للروح». ويعد اليونانيون أول من قام فيما بعد بتعريف دقيق لماهية الروح.
في تلك العصور القديمة، نادرا ما نجد حالات من الجنون لها أسباب مرضية أو طرق علاجية ملائمة، بعيدا عن نطاق التداوي بالسحر والدين. وبالرغم من ذلك، قبل ألفي عام من ميلاد المسيح، عزا المصريون العديد من الاضطرابات النسائية، سواء أكانت جسدية أم نفسية، إلى هجرة الرحم إلى أعلى الجسم؛ مما ينتج عنه حدوث ضيق في التنفس و«اختناق رحمي» (ما يقصد به «الإصابة بالهستيريا»). انطلاقا من الفرضية القائلة بأن العضو المهاجر يهرب من الروائح الكريهة بينما تجذبه الروائح الطيبة، وساد اعتقاد بضرورة الجمع بين استنشاق روائح غير محببة وتطهير المهبل بالروائح العطرية لإجبار الرحم على العودة إلى موضعه الطبيعي. وهكذا نشأت الهستيريا، والتي أصبحت حقلا واعدا على الصعيدين الطبي والاجتماعي للباحثين بهذا المجال.
وقد اتبعت اليونان القديمة (وما بعدها من حقب) النهج الطبي نفسه القائم على الاستعانة بالسحر والدين، متأثرة في ذلك بالطب المصري القديم. كان الكهنة أيضا هم القائمين على رعاية صحة البشر، ولا سيما في العديد من المعابد المخصصة للإله أسكليبيوس. ووفقا للأسطورة الإغريقية، فإن أسكليبيوس هو ابن الإله أبوللو والحورية كورونيس والذي عهد به إلى القنطور شيرون لتربيته. وكان هذا القنطور يمتاز عن أقرانه، المتوحشين والجهلة، بالحكمة والطيبة. وقد قام القنطور شيرون، بتعليم أسكليبيوس الطب، حيث نقل إليه ما سبق أن تعلمه على أيدي أبوللو وأرطميس. وسرعان ما تفوق الطالب على أستاذه. ولم تقتصر قدرة أسكليبيوس على شفاء المرضى فحسب، وإنما امتدت لتشمل أيضا إحياء الموتى. ولم يتحمل الإله زيوس ذلك، فغضب على أسكليبيوس وضربه بالبرق. وأصبح أسكليبيوس هو إله الطب (وهو الإله إسكولاب عند الرومان)، وصارت ابنته هيجيا أو هيجي (Hygie)
إلهة الصحة (ومن اسمها اشتق الأصل اللغوي لكلمة
hygiène ؛ أي النظافة الصحية).
يقع المعبد الرئيس للإله أسكليبيوس في مدينة إبيداوروس، في أرغوليس. وكان يتوافد عليه المرضى منذ القرن السادس قبل الميلاد. وكما هي الحال أمام مئات المعابد الأخرى المخصصة لإله الشفاء في جميع أنحاء اليونان، كان المرضى يصطفون بانتظار قضاء ليلة حضانة المرض الشهيرة. وكان المؤلف المسرحي أريستوفان يسخر من هذا المشهد في مسرحياته الكوميدية، قائلا بأن الأمر لا يعدو أن يكون عمليات احتيال وخداع كبرى. ولكن لم يشاركه هذا الرأي أولئك المرضى الذين كانوا يحجون إلى هذه المعابد، مفعمين بالإيمان والاعتقاد في الشفاء، ولم لا وقد عزز من إيمانهم هذا منظر آيات الشكر والعرفان والوفاء بالنذور التي كانت تزين جدران المعابد. أما أولئك الكهنة الأطباء - الذين يدعون أنهم ينحدرون من سلالة أسكليبيوس ويمثلون رابطة قوية - فكان من بينهم مختصون في علم التغذية، وصيادلة، وجراحون، ومعالجون بالموسيقى، وكذلك - وقبل ظهور الكلمة نفسها - أطباء نفسيون. وكما هي الحال في مصر، لم يكن الكهنة الأطباء يكتفون بالبقاء في معابدهم بل كانوا يقومون بجولات واسعة لتفقد المرضى. وكان المجانين يمثلون الفئة المختارة لدى هذا النوع من الأطباء الذي يجمع بين السحر والدين.
كما حدث في مصر، أنشئت مدارس تنافسية: في قوريني، ورودس، ولا سيما في كنيدوس، في آسيا الصغرى، وفي جزيرة كوسفي دوديكانيسيا. وتزايد الاهتمام بتسجيل العوارض الصحية وطرق معالجتها على ألواح، بحيث تكون في بعض الأحيان بمنزلة مرجع طبي متكامل، ونذكر على سبيل المثال في هذا الصدد كتاب «الحكم الكنيديسية». ومع ذلك، كان الكهنة الأطباء من سلالة أسكليبيوس يميلون إلى الاقتصار على معالجة الجروح والأمراض الحادة؛ ولهذا السبب هجر العديد من المرضى المصابين بأمراض مزمنة معابد أسكليبيوس وأخذوا يترددون على صالات الألعاب الرياضية، اعتبارا من القرن الخامس قبل الميلاد. ذاع صيت الألعاب الرياضية في اليونان إلى حد أنها لم تكن تعد وسيلة للتمتع بصحة جيدة فحسب، بل أضحت طريقة لمعالجة الأمراض المزمنة، اعتمادا على التمارين البدنية والسير لمسافات طويلة واتباع أنظمة غذائية.
أما فيما يتعلق بالجنون نفسه، فهو يحتل في الأسطورة اليونانية القديمة وقصائد هوميروس مكانة خاصة؛ فقد كان ينظر إليه على أنه يمثل في أغلب الأحيان عقابا يبتلى به البشر الذين يقعون ضحية الجموح والغطرسة. وهكذا، أصيب أوريستيس بالجنون بعد أن قتل والدته وعاقبته على فعلته إلهات العذاب إيرينيس (المسماة فيوريس عند الرومان). كان الإغريق يخافون بشدة من جنيات الجحيم إيرينيس، لدرجة أنهم كانوا يطلقون عليها «الجنيات الطيبة» حتى لا يغضبوها. وكانت مهمة هؤلاء الإلهات معاقبة القاتل والمتغطرس أيضا.
لقد سلطت الآلهة الجنون على أوديسيوس، الذي كان يحرث الرمال بدلا من الحقول، وأجاكس، وهو أشجع الرجال اليونانيين بعد أخيل. وعند موت هذا الأخير، طالب أجاكس بأسلحته ولكن القادة الآخرين اختاروا أوديسيوس. وهكذا أصابت أجاكس لوثة الجنون وطفق يذبح قطيعا من الخراف ظنه جيشا من الآخيين. وكتب سوفوكليس، في مسرحيته «أجاكس» (التي ألفها حوالي سنة 440 قبل الميلاد)، مشهدا تظهر فيه الإلهة أثينا، حامية الآخيين، وهي تشرح لأوديسيوس كيف أنها بددت غضب أجاكس؛ بأن ضربته ب «غشاوة على عينيه»: «سأوقع على عينيه الوهم الثقيل لانتصار كريه [...]، وسأضغط على الإنسان الواقع ضحية هذيانه، وأدفعه نحو عمق شبكة الموت.» وعندما أدرك أجاكس خطأه، لم يبق أمام هذا البائس إلا الانتحار.
بيد أن آلهة الأساطير الإغريقية لم تكتف بلعب دور المنتقمين أو الحماة. فقد كان لدى هذه الآلهة جميعها عيوب الفانين نفسها. وهكذا كان زيوس زير نساء بمعنى الكلمة وكانت هيرا زوجته (راعية الزواج وحامية النساء المتزوجات) غيرى بشكل رهيب. ونظرا لعدم قدرتها على الانتقام من زوجها الفاسق، والذي يعد في الوقت نفسه كبير الآلهة أو رب الأرباب؛ كانت هيرا تتجه نحو العديد من الفانيات اللائي نلن جانبا من إحسانها. وهو ما حدث على سبيل المثال مع ألكمن، أميرة الميسينيين، التي أغواها زيوس بعد أن اتخذ شكل زوجها الغائب أمفيتريون، ثم حملت منه. فاستشاطت هيرا غضبا وطلبت من ابنتها إيليثيا، إلهة الولادة، أن تطيل فترة حمل ألكمن. وبمجرد ميلاد ابن ألكمن، لم تكف الإلهة الرهيبة هيرا عن وضعه في اختبارات كانت تبعث بها إليه، ولكنه كان دائم الانتصار فيها. ومن هنا جاء اسمه: هرقل، ومعناه «مجد هيرا». وعندما أدركت الإلهة أنه لا شيء يقدر على هزيمة هذا البطل، ضربته بلوثة جنون دفعته إلى قتل أبنائه (وأصبح لزاما عليه فيما بعد القيام بالأعمال الاثني عشر الشهيرة للتكفير عن مثل هذه الجريمة). وقد قدم المؤلف المسرحي يوربيديس نسخة شائقة من جنون هرقل في صورة عمل مسرحي؛ حيث أدركت هيرا فجأة، في تجل مصحوب بإحساس شنيع بالابتهاج، أنه لا يوجد شيء أو شخص بإمكانه هزيمة هرقل. لا أحد، إلا نفسه! وبناء عليه، فليعلن الآن الحرب على نفسه! وليصر مخبولا بحيث يكون، في جنونه، غير مدرك لأفعاله؛ وبذلك يكره نفسه!
ورغم أننا هنا في نطاق الأسطورة الإغريقية والشعر التراجيدي، فالجنون المشار إليه، بعيدا عن أي مجاز، لا يقل عن الجنون بصورته الحقيقية؛ لأن الجنون في صورته الأكثر عنفا والأكثر خطورة يتجلى في: هوس هرقل الإغريقي، وغضب هراقليس اللاتيني الهائج.
الإله والجنون
مع آلهة الأسطورة الإغريقية، على الرغم مما كانوا يبدونه من قسوة مع البشر، فقد كان من الممكن - في بعض الأحيان - تقديم تنازلات للوصول إلى اتفاق معهم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الآلهة، التي تكون بشرية للغاية، في أحيان كثيرة، لا تتعامل بقسوة إلا بدافع العاطفة أو التسلية، فإن ذلك يخلق مساحة مشتركة من التفاهم والعلاقات المتبادلة. ولا يوجد مثل هذا مع الإله الأوحد لأول دين كتابي. مع عقيدة التوحيد بوجه عام، ليس هناك مجال للمزاح. إن إله العبرانيين والعهد القديم، والذي يدعى يهوه، محب للانتقام وعنيف في أغلب الأحيان. ألم يطلب من إبراهيم التضحية بإسحاق، ابنه البكر؟ وسيجيب البعض قائلا: إن يهوه لم يكن يريد إلا اختبار عبده إبراهيم بدليل وجود كبش الفداء الذي حل محل ولده في اللحظة الأخيرة. إذا سلمنا بذلك، فهذا لا يبرر أن الأب قد وافق، باسم الرب، على قتل ابنه؛ حيث كان إبراهيم قد قيد بالفعل ابنه على مذبح المحرقة. وبالفعل، مد يده ليمسك بالسكين. وهكذا ظهر إله جديد.
وبعيدا عن هذا الإله العنيد، لا سبيل للنجاة (كما ضاقت سبل الخلاص). «أنا أميت وأحيي. سحقت، وإني أشفي، وليس من يدي مخلص» (سفر التثنية، إصحاح 32، آية 39). الله يرسل المرض ليعاقب خلائقه. وماذا يكون العقاب الأمثل إلا الجنون؟ في هذا السياق، يكتسب الجنون طابعا مبهما وباعثا على التشاؤم بشكل جذري. وعليه، يكون المجنون هو بداية من يقع في الخطية - ثم يسقط في شباك الخطيئة والعقاب. «فكر الحماقة خطية» (سفر الأمثال، إصحاح 24، آية 9). «لأن شعبي أحمق. إياي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين» (سفر أرميا، 4، 22). وترد في سفر الأمثال على وجه الخصوص، بشكل متكرر ومهيمن، الصورة الأكثر تشاؤما للأحمق المتعارض مع الحكيم: «الحكماء يذخرون معرفة، أما فم الغبي فهلاك قريب.» ومن يهوه يغضب المخبول ويكون جنونه غير قابل للشفاء: «إذا ما سحقت معتوها بالهاون بين الحبوب، فإن جنونه لا يحيد عنه.» ولذلك، لا بد من الابتعاد عن الأحمق: «ليصادف الإنسان دبة ثكول ولا جاهل في حماقته» (سفر الأمثال، 17، 12).
عندما عرفت التعاليم اليهودية المجنون على أنه الإنسان الذي يفقد عطية منحت له، كان يقصد بذلك المريض عقليا وأيضا الخاطئ الذي لم يستطع الحفاظ على إيمانه وفضيلته باعتبارهما عطيتين من الله. بالإضافة إلى ذلك، أليس المريض عقليا مسئولا، في نهاية المطاف، عن السماح لنفسه بالانزلاق في هوة الجنون؛ وذلك بنسيان الله ومن ثم الاستهانة به؟
هذا الجمع بين المجنون والآثم لم يكف على أي حال عن التأثير في التقليد اليهودي-المسيحي. وفي هذا الصدد، يمكن أن يأخذ الجنون طابعا جماعيا. هكذا، كان موسى يحذر شعبه قائلا إنهم إذا حادوا عن طريق الإيمان، فسيضربهم الرب بالجنون وب «حيرة القلب» (سفر التثنية، 28، 28). وهكذا كان اليهود يدعون السامريين بأسلوب مهين «شعبا مجنونا»؛ وذلك بسبب انشقاقهم الديني (فهم لا يقبلون في الكتاب المقدس إلا التوراة). مجنون، آثم، شرير، كلها مترادفات لشيء واحد.
ويبلغ التشاؤم ذروته حين يكون جنون الإنسان أمرا مثيرا للحزن أكثر من موته: «ابك على الميت لأنه فقد النور وابك على الأحمق لأنه فقد العقل. قلل من البكاء على الميت فإنه في راحة أما الأحمق فحياته أشقى من موته» (سفر يشوع بن سيراخ، 22، 10-12).
ونتيجة لذلك، كان من الصعب معرفة مصير المجانين «الحقيقيين»؛ فقد كان ينتظرهم بالطبع مصير لا يحسدون عليه، في إطار مناخ ديني متعصب إلى أبعد حد عن الحضارات المؤمنة بعدة آلهة، وفي سياق بيئة دينية ترفض، بل وتحرم اللجوء إلى السحر. وهكذا، كان للعديد من هؤلاء المجانين - المنبوذين من مجتمعهم والمختبئين في الغابات حيث يعيشون حياة بدائية وهمجية - دور في مولد أسطورة الاستذآب (وهي كلمة مشتقة من الأصل اللغوي «الرجل الذئب»، الذي عرف فيما بعد بالمذءوب). ويعد نبوخذ نصر، ملك بابل، خير مثال على ما نقول؛ فلتوقيع العقاب على هذا الملك، الذي قام بغزو مملكة يهوذا ودمر معبد أورشليم (في مطلع القرن السادس قبل الميلاد)، على غروره، ضربه يهوه بالجنون؛ حيث اعتقد نبوخذ نصر أنه تحول ليس إلى ذئب ولكن إلى ثور، على غرار صور الثيران الكثيرة التي تزين جدران قصره. وقد انطلق ليعيش على نحو بدائي في حدائقه الشاسعة، معرضا نفسه لسوء الأحوال الجوية، ولم يعد يأكل إلا الحشائش وأطال شعره وأظفاره. ولكن ملك بابل لم يتعرض للعقاب إلا لفترة مؤقتة («سبعة أزمنة»، كما ذكر الكتاب المقدس دون إعطاء مزيد من التوضيح). ثم صار بإمكانه أخيرا «استعادة رشده» والتضرع في تذلل إلى الله الذي قبل طلبته ومن عليه بالشفاء.
ولكن من يمكن أن يكون مجنونا دون أن يكون خاطئا؟ «إنه ذلك الذي يخرج بمفرده في الليل، ويبيت في المقابر، ويقذف الحجارة، ويمزق ملابسه، ويفقد ما يعطى له» (تكملة التلمود). وإلى جانب هذا التعريف «الإكلينيكي» المبهم، أكد التلمودي ريش لاكيش، في القرن الثالث بعد الميلاد، أن الإنسان لا يخالف أحكام الدين إلا إذا دخلت إليه روح الجنون.
وقد ذكر الكتاب المقدس بعض حالات الجنون، بمفهوم المرض العقلي، أشهر هذه الحالات هو شاول، أول ملوك شعب بني إسرائيل، وقد حدث ذلك قبل الميلاد بألف عام (حسبما ذكر في سفر صموئيل الأول ، من الإصحاح التاسع إلى الإصحاح الحادي والثلاثين). بعد أن شاخ شاول وأصبح معتل المزاج، لم يكن هناك إلا قيثارة داود، الذي كان لا يزال راعيا للغنم، هي التي بإمكانها تهدئته. «فكان يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء» (سفر صموئيل الأول، 16، 23). ومع ذلك، ها هو الحديث عن الأرواح الشريرة، حتى وإن كان سفر الملوك يقدم لنا الخلاصة في قوله: «وذهب روح الرب من عند شاول، وبغته روح رديء من قبل الرب.»
لقد صور كل من رمبرانت ولوكاس دي ليدن في لوحاتهم، شاول مكتئبا ومصابا بالعين. كما كان الملك الشيخ مصابا أيضا بجنون العظمة، أو البارانويا، وبالغيرة من نجاح داود زوج ابنته التي كان شاول نفسه قد زوجه إياها بإرادته؛ هربا من انتقام شاول الذي يعد نموذجا لثنائية المضطهد-المضطهد، وكان يتعين على داود الالتجاء إلى بلاط ملك مدينة جت. وهناك، خوفا على حياته، تصنع هو نفسه الجنون حتى يبدو بمظهر المسالم، غير العدائي: «كان يضع علامات على مصراعي الباب ويترك لعابه يسيل على ذقنه.» لدى رؤيته، صرخ الملك قائلا: «أنتم ترون جيدا أن هذا الرجل مجنون، فلماذا إذن أحضرتموه إلي؟ أينقصني مجانين حتى أكون بحاجة لرؤية ذاك يفعل حماقاته؟» وهكذا، انتحر شاول بعدما عاش وحيدا، ومهزوما من قبل الفلسطينيين في جبل جلبوع؛ مما يثبت أن روح الرب كان قد فارقه. وخلفه داود وبلغت مملكة إسرائيل في عهده أوج قوتها.
يعتبر العهد الجديد أقل تناولا لموضوع الجنون كما أنه أقل تشاؤما بهذا الصدد من العهد القديم؛ فلم يعد يصور الجنون على أنه سلاح في يد إله يميل إلى الانتقام والقصاص، بل نجد هناك إحياء للتقليد القديم المتعلق بالأرواح والشياطين، والذي يعد مترسخا في إيمان الحضارات المتعددة الآلهة. فها هو يسوع يشفي الصريع: «فانتهره يسوع، فخرج منه الشيطان. فشفي الغلام من تلك الساعة» (متى، 17، 18). أيضا، في كورة الجدريين، أتى إلى يسوع رجل كان منذ زمان طويل لا يلبس ثوبا، ولا يقيم في بيت، بل يعيش في القبور (في المغارات التي كانت منتشرة في هذه المنطقة). وكان يربط بسلاسل لمنعه من التحرك ولكنه كان دائما يكسر قيوده. وعندما سأله يسوع عن اسمه، أجاب الرجل قائلا: «لجئون»؛ لأن شياطين كثيرة دخلت فيه. ولأن الشياطين خافت أن يأمرها يسوع بالذهاب إلى الهاوية؛ طلبت إليه أن يأذن لها بالدخول في قطيع من الخنازير كان يمر في ذلك الوقت. وما إن دخلت الشياطين في الخنازير حتى اندفع القطيع إلى البحيرة وغرق. أما عن الإنسان الذي خرجت منه الشياطين، فقد كان «جالسا عند قدمي يسوع، لابسا وعاقلا» (لوقا، 8، 26-39).
وفيما يتعلق بالجنون المجازي، فله مكانة محدودة، ولكن مميزة، في العهد الجديد. بداية أليس هو جنون يسوع نفسه؟ فالشعب اليهودي الذي جاء المسيح ليعظه، ألم يقرن الكرازة بالجنون، بل واعتبرها جنونا يعاقب عليه الدين التقليدي؟ وهكذا نجد الآية مقلوبة، فالمسيح مخلص البشرية، يعد عمله الخلاصي على الصليب جنونا بينما هو الحكمة في أجلى صورها، على العكس من ذلك، تعد حكمة العالم، وفطنته الكاذبة، هي الجنون بعينه: «إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلا لكي يصير حكيما! لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله.» وفي موضع آخر: «فإن كلمة الصليب عند الهالكين [بمعنى الخطأة] جهالة [بمعنى جنون]، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله» (القديس بولس الرسول، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس).
ها نحن الآن في القرن الأول الميلادي وقد بلغنا بالفعل مرحلة متقدمة على طريق التصوف المسيحي. فلنعد إلى جنون العبرانيين كما كان يبدو لنا قبل عدة قرون من ميلاد المسيح وذلك حتى نوضح إلى أي مدى كان مثل ذلك التصور الباعث على التشاؤم بخصوص الجنون يحبط سلفا أي محاولة للتفكير النظري بشأنه. إننا أكثر قربا من الناحية الجغرافية، ولكن على طرفي نقيض من الناحية الفكرية، من وضع البحث الفلسفي والطبي الذي كرس مفكرو اليونان الكلاسيكية، ومن بعدهم مفكرو روما القديمة، أنفسهم له، ابتداء من ظهور المفهوم الأساسي لمرض الروح أو النفس.
الفصل الثاني
مرض الروح
رأينا كيف كانت معابد الاستشفاء المخصصة للإله أسكليبيوس وصالات الألعاب الرياضية مهدا للطب حتى قبل ظهور أبقراط. غير أن هناك جنية سهرت على رعاية هذا المهد، وهي جنية الفلسفة. وبينما ظل الالتجاء إلى السحر والدين مستمرا (حتى إنه بلغ أوجه مع ازدهار معبد إبيداوروس في القرن الرابع قبل الميلاد)، كانت الفلسفة في الوقت نفسه في طور النشأة. كان الفلاسفة يسافرون ويتعلمون من أسفارهم. وكانوا يفكرون مليا بكل ما للكلمة من معنى في العديد من التساؤلات، بدءا بعلم الكونيات (ما الكون؟) (من سنة 600 إلى سنة 450 قبل الميلاد)، وانتهاء بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) (ما الإنسان؟) (من سنة 450 إلى سنة 400 قبل الميلاد). كما كانوا يدرسون الطبيعة، بما في ذلك تنظيم الأجسام وأصل الأمراض.
ومن بين هذه الدراسات، برز مفهوم مرض الروح بشقيه: الفلسفي، بما أن الأمر متعلق بالروح أو بالنفس، والطبي، بما أننا بصدد دراسة نوع من الأمراض. وبناء على ذلك، ساد لفترة طويلة تقليد طبي-فلسفي يجمع بين خبرتين؛ وهما: علم الأمراض النفسية من منظور طبي، وعلم الأمراض النفسية من منظور فلسفي. ويتناول هذا الأخير بدوره مبحثين: المبحث الأول متعلق بأمراض الروح والجسد «يعالج الطب الجسد من الأمراض، وتحرر الحكمة الروح من العواطف» (كما يقول ديموقريطوس). أما المبحث الثاني فيشمل صحة الجسد وصحة الروح. يقول أبيقور: «لا بد من العمل للحفاظ على الجسد من المعاناة والحفاظ على الروح من الاضطراب.»
ولكن، في البداية، ما الروح (في اللغة اللاتينية، كلمة
anima
تعني «النفخة»)؟
وللإجابة عن هذا السؤال، كان لا بد من التوغل في حقل واسع محفوف بالمخاطر ... يعرف أفلاطون (428-348ق.م) الروح على أنها «مبدأ الحياة والفكر أو الاثنين معا، باعتبارها حقيقة كائنة بشكل منفصل ومستقل عن الجسد ولكنها تتجلى من خلاله.» أما أرسطو (384-322ق.م)، فقد عرف الروح على أنها «جوهر كينونة الإنسان، أو صورة لجسد طبيعي به حياة بالقوة (وتمامية الفعل المتحقق للكائن على عكس الذات الناقصة).»
هل الروح والجسد يشكلان كلا لا يتجزأ (الواحدية)، أم يمكن فصل أحدهما عن الآخر (المثنوية)؟ جالينوس (الذي ولد عام 129م وتوفي تقريبا في عام 210م)، هو طبيب درس الفلسفة في بداية حياته وأعرب عن عدم فهمه لما قاله أفلاطون بأن «الموت يحدث حينما تفارق الروح الجسد.» وأكد من جانبه على مادية الروح لارتباطها بالطبائع الأربع (البارد، والرطب، والحار، واليابس)، حتى وإن أوضح في بعض الأحيان أن هذه المعرفة لا تهم كثيرا مجالي الطب وعلم وظائف الأعضاء. وقد أشار جالينوس في مؤلفاته إلى نظرية أفلاطون حول الأنفس الثلاث للإنسان (وهي نظرية شائعة لدى أبقراط) كما يلي: النفس الشهوانية أو النباتية (التي تمثل منبع الرغبة) ومكمنها في الكبد، والنفس النشطة أو الذكورية ومركزها في القلب، والنفس المفكرة أو الآمرة ومقرها في المخ. وهكذا نجد نفسين غير عقلانيتين ونفسا عاقلة (يختص بها الآلهة وحدها). ويصاحب النفس الأولى فضيلة الاعتدال، ويرافق النفس الثانية فضيلة الشجاعة، أما النفس الثالثة، وهي العاقلة، فتلازمها فضيلتا الحكمة والعلم. هذا بالإضافة إلى العدالة التي تحافظ، بالقدر الملائم، على التناغم بين الأنفس الثلاث.
ولأرسطو رأي مختلف تماما؛ فهو يرى أنه لا توجد إلا نفس واحدة متمركزة في القلب ولكنها تجمع كل ملكات الأنفس الثلاث التي عرفها أفلاطون. ويعتقد الفلاسفة الرواقيون، أن الإنسان يملك نفسا واحدة دون أن يميزوا بين الملكات. ويرون أن كل ما يتحرك يعد جسدا (بما في ذلك الروح). أما خريسيبوس (القرن الثالث قبل الميلاد)، فيرى أن الروح نفحة مستمرة، تولد مع مولدنا، وتتوغل في كل الجسد طالما ظل به تناغم الحياة.
ولكن ما هو مرض الروح، سواء وفقا لمذهب الواحدية أم وفقا للنزعة المثنوية (وبالأخص من وجهة نظر العقيدة المثنوية؛ نظرا لأنها تفرق بين مرض الجسد ومرض الروح)؟ من الجدير بالذكر أن جاكي بيجو كان أول، وربما كان لفترة طويلة هو الوحيد، من خصص رسالة ماجستير لبحث مرض الروح في العصور القديمة.
1
وسنتابع بحماس في هذا الفصل ما تم التوصل إليه من خلال هذه الأطروحة. تعتمد فكرة بيجو على تحديد إشكالية العلاقة بين الطب والفلسفة في العصر القديم، مع دراسة «الاستدلالات القياسية المميزة التي يقدمها الطب لعلم الأخلاق، ولا سيما ما يتعلق بمرض الروح »؛ حيث لا يقدم الطب استدلالا قياسيا فحسب، كما قلنا، وإنما هوية أيضا، بما أن «مرض الروح يأتي من خلال الجسد»، والجسد «هو المكان الذي تنفذ الروح من خلاله»، وهذا لا يحدث دون ألم.
في محاورة أفلاطون «طيمايوس»، يحدث مرض الروح، ويقصد به الحماقة أو الجنون، بسبب حالة الجسد، مع الفارق أنه إذا كانت الروح أقوى من الجسد، فإنها «تهزه بالكامل من الداخل»؛ وينتج عن ذلك الإصابة بالهوس أو بالمس الجنوني. أما إذا كان الجسد أقوى، فإن الروح تسقط «في أشد أنواع المرض؛ وهو الجهل» [نقيض الحكمة، أو نسيان الواقع] «لا أحد فاسد طوعا»؛ فكل عمل سيئ هو نتيجة لحكم خاطئ يجعلنا نؤثر الشر على الخير. أما جالينوس، وهو أكثر تشددا من أفلاطون وأرسطو اللذين أخذا بعين الاعتبار تأثير العوامل المادية والمعنوية عند تفسير دوافع الأفعال الإنسانية؛ فيرى أن مزاج الروح مرتبط بمزاج الجسد، وبناء على ذلك يمكن القول: إن أمراض الروح هي انعكاس لأمراض الجسد.
يرى القدماء أن أمراض الروح، أو بالأحرى الأمراض المشتركة بين الجسد والروح، تعد أمراضا عضوية. وأكثر هذه الأمراض الجسدية شيوعا هو التهاب الدماغ الذي يصاحبه حدوث حمى حادة أحد أعراضها الاضطراب العقلي. ومع الاتجاه التدريجي بين ما هو عضوي أو بدني نحو ما هو فلسفي، نجد الهوس (أي «الهياج» عند اللاتينيين). ونظرا لأن الهوس يعد مرضا وفي الوقت نفسه عرضا لأمراض أخرى (التهاب الدماغ، والملنخوليا)، فهو يمثل الجنون بامتياز؛ ولذلك سنتعمق في بحثه في إطار دراسات أبقراط وخلفائه في هذا الصدد. في الأصل، لم يكن لمصطلح «الهوس» أي مرجعية طبية بشكل خاص، وإنما كان مفهوما شائعا يشير إلى السلوك العنيف.
وقد ميز كل من أفلاطون وإيمبيدوكليس (في القرن الخامس قبل الميلاد) بين نوعين من الجنون؛ وهما: نوع سيئ، وهو الهوس الذي يصاحبه ولع جسدي؛ ونوع جيد، ملهم وسماوي. وهكذا أضاف الفلاسفة الإغريق معنى آخر للجنون، فضلا عن معناه المزدوج الذي قد يكون الخطيئة، وهو الجنون الذي قد يكون خلاقا. ويميز أفلاطون في محاورته «فيدر» بين أربعة أنواع من الجنون الإلهي كما يلي: الجنون النبوي والإله المسئول عنه أبوللو، والجنون المتعلق بالإدراك الحسي الأولي أو الجنون الطقسي والإله المسئول عنه ديونيسوس، وهو إله الكرمة والخمر والنشوة، والجنون الشعري المستلهم من ربات الإلهام والفنون، وأخيرا جنون الشهوة الجنسية المستوحى من الإلهة أفروديت والإله إيروس.
يقول سقراط لفيدر: «إن الهذيان، عندما يكون ممنوحا لنا كعطية إلهية، يمثل مصدر الخيرات الأعظم [...] ذلك أن الهبة الإلهية تفوق البراعة [الحكمة] البشرية» (من محاورة فيدر أو جمال الأرواح). وفي هذا السياق نفسه، أشار سقراط إلى الكاهنة بيثيا في معبد دلفي، والتي من المفترض أن ينطوي هذيانها ربما على النبوءات الموحى بها من الإله أبوللو. بالإضافة إلى ذلك، فالإنسان ليس بوسعه أن يكون ناظما جيدا للشعر «دون جنون الإلهام الممنوح من ربات الفنون [...]؛ لأن الشعر الذي ينظمه إنسان متزن ورابط الجأش دائما ما يتفوق عليه ذلك الشعر الذي يقرضه إنسان ملهم (بمعنى إنسان خاضع لسيطرة روح).» أما الجماهير التي لا تدرك أن هذا الإنسان ملهم، فهي تقول عنه: إنه مجنون.
ويشتق الفعل «يهذي»، من اللاتينية
delirare
وتعني «الخروج عن المسار الصحيح»، سواء بالتخريف (ومن هنا نشأت كلمة «هذيان» في القرن السادس عشر)، أو بالتنبؤ (تحدث أفلاطون عن «الهوس التنبئي»).
ومع الاتجاه المستمر نحو ما هو فلسفي، نذكر فيما يلي داء الكلب أو السعار. في نقطة التقاء بين الفلسفة والطب، يعد هذا الداء «اعتلالا جسديا يؤثر على جودة الروح» (كاليوس أوريليانوس، القرن الخامس الميلادي). وأخيرا، نأتي للسوداوية، التي تعد أكثر أمراض الروح ارتباطا بالفلسفة؛ حيث تتجلى بوضوح في هذا المرض العلاقة بين النفس والجسد. ونود في البداية أن نلقي الضوء على الأهمية التاريخية للسوداوية، والتي لن نكف عن الرجوع إليها تباعا. نبدأ بذكر الأهمية التي أولاها القدماء في الطب إلى المرة السوداء
melancholia ، التي يمكن أن تسبب بقطبيها المتناقضين اللذين يمزجان اللذة والألم (الحلو والمر)، عواصف أو فترات سكون.
لم تتوقف تأملات القدماء حول مرض الروح عند هذا الحد، ولكن المجال لا يتسع لاستعراض كل هذه الفكر. يرى لوكريسيوس أن الروح مادية فانية وقابلة للانقسام. ومن هنا تنبع خصوصية أمراض الروح. فهناك أمراض خاصة بها وهي: الهم، والغم، وفقدان الذاكرة، ولا سيما الخوف من الموت الذي يعد المرض الأصلي للروح نظرا لكونه «مرضا جذريا وأساسيا مرتبطا بجوهر الكائن ومتأصلا في شعوره بحتمية الموت» [جاكي بيجو]، هذا بالإضافة إلى أمراض الجسد ذات البعد النفسي مثل: هذيان الحمى والنوام (أو السبات) والسكر والصرع.
كان الرواقيون أكثر من تعمقوا في دراسة مرض الروح، فاعتبروه مماثلا للشغف. ورفضوا إقرار المفهوم الأفلاطوني الخاص بمثنوية الروح والجسد، وكانوا يرون أن الاثنين أشبه ب «ورقة ذات وجهين»؛ بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل أحدهما عن الآخر. بين العاطفة والشغف والرذيلة والجنون (بمعنى غياب الرقابة على النفس)، لا يوجد اختلاف في الطبيعة، وإنما في الدرجة. بعد أن تخلى بينيل بدوره عن الإيمان بمذهب المثنوية، تبنى هذه الفكرة بقوة؛ مما أنذر بتحوله من طبيب إلى فيلسوف. فقبل ظهور الطب النفسي وبروز إسهامات بينيل في هذا المجال، قام شيشرون الفيلسوف، في مؤلفه المعنون ب «مناقشات توسكولوم»، بفصل الجنون عن الجسد، خلافا لرأي الأطباء الذي كان سائدا في ذلك الوقت. ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الروح التي ينبغي أن تكون الفلسفة هي طبيبها. يتعين على كل شخص أن يكون طبيب نفسه؛ وبناء على ذلك، يمكن تعريف المجانين بأنهم أشخاص غير حكماء.
يشرح الفيلسوف الرواقي سينيكا - الذي عاش في القرن الأول الميلادي وكان يؤمن أيضا بمذهب وحدة الوجود (الواحدية) - أن «الروح ليس لها مستقر منفصل وهي لا تراقب العواطف من الخارج»، ولكنها تتحول هي نفسها إلى عاطفة. كما أوضح سينيكا في «رسالته الخمسين إلى لوكيليوس» أن صحة الروح ليست طبيعة فطرية، وإنما هي مرحلة الشفاء، قائلا إنه «ما من أحد لم يمر بالجنون قبل بلوغ الحكمة، فقد اجتاز جميعنا تلك المرحلة مسبقا: فتعلم المرء للفضائل يعني تخليه عن الرذائل.»
الهوى يسبب استلاب العقل، هذا ما تبينه التراجيديا؛ فميديا التي تخلى عنها جاسون بعد أن ارتكبت - بدافع حبها له - العديد من الجرائم، انتقمت بقتل أبنائها منه. وقد ألهم جنونها كلا من يوربيديس، ومن بعده بيير كورني، وديلاكروا الذي رسم لوحة قاتمة عن «ميديا الغاضبة». يقول يوربيديس على لسان ميديا: «أنا أعي ما هي الشرور/الجرائم التي سأرتكبها.» ولكن صوت أحشائها الملتهبة كان أعلى من صوت العقل لديها. لقد أصبحت شخصا آخر؛ «الآخر حل محل الشخصية الأصلية بصورة يتعذر كبحها. وهذا هو الاغتراب بعينه» (جاكي بيجو).
استغرق القدماء أيضا في تأمل الشفاء الفلسفي لمرض الروح؛ وهو ما أطلق عليه سوائية المزاج، وهي كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني
De tranquillitate animi . يعرف سينيكا هذه الحالة: «بأنها روح تشعر بالهناء والتصالح مع نفسها»، وذلك نقيض الاكتئاب الجزئي [الذي يصاحبه الشعور بالضيق وعدم الرضا عن النفس]. ويرى جاكي بيجو أن سوائية المزاج تمثل ذروة تقدم الفلسفة نحو الطب. في الرواية الفلسفية «رسائل إلى أبقراط»، يجيب ديموقريطوس أبقراط قائلا: «إن المعرفة الفلسفية هي بمنزلة أخت الطب ويعيش الاثنان تحت سقف واحد»؛ فالفلسفة تخلص الروح من الأهواء، بينما الطب يخلص الجسم من الأمراض. بيد أن الطبيب يعد أهم من الفيلسوف؛ لأن صحة الجسد هي الشرط الأساسي لصحة الروح.
الفصل الثالث
التراث الأبقراطي
وأخيرا جاء أبقراط، شعرنا برغبة في صياغة الجملة على هذا النحو، حتى وإن لم تكن دقيقة من الناحية التاريخية. لقد عاش أبقراط، الذي لقب ب «أبو الطب» في الفترة ما بين سنة 460 و377 قبل الميلاد تقريبا. درس أبقراط - الذي ربما كان ابنا لأحد كهنة الإله أسكليبيوس - مع ديموقريطوس وجورجياس، ثم سافر عبر اليونان وآسيا الصغرى قبل أن يستقر في جزيرة كوس، موطنه الأصلي حيث مارس هناك الطب قبل أبقراط. ولكن قبل أبقراط، كان بعض الكهنة الأطباء وبعض الفلاسفة يدرسون الطب. وكانت توجد مسبقا مدونة بأسماء الأمراض والمصطلحات الطبية. وتمت بالفعل الإشارة في هذا الطب القديم إلى دور السوداء في بعض الأمراض. وقد ورد ذكر المرة السوداء وارتباطها بالجنون في أعمال المؤلف المسرحي أريستوفان؛ أي في المجال الاجتماعي والشعبي. وقد استبعد ديموقريطوس وأعضاء المدرسة الطبية بمدينة كروتوني فكرة تدخل الآلهة في تفسير ما يحدث في الكون والطبيعة. وبينما كان أبقراط لا يزال طفلا، وضع إيمبيدوكليس نظرية العناصر الأربعة (التي غالبا ما تنسب إلى أبقراط). ومن الجدير بالذكر أن إيمبيدوكليس نفسه قد استلهم هذه النظرية من فيثاغورث.
بالطبع، تشبع أبقراط بهذه الروح العلمية، فاستقر بداية في جزيرة كوس لتلقي العلم. «يذكر، نقلا عن إسترابون، أن أبقراط قد تدرب بشكل خاص على ممارسة الطب عن طريق دراسة قصص معالجة الأمراض التي كانت محفوظة في معبد كوس.»
ولكن، ما هي إذن الإنجازات التي ينسب الفضل فيها إلى أبقراط؟ يقول سيلسوس، الطبيب الروماني الذي عاش إبان حكم الإمبراطور أغسطس، والذي يعد أحد خلفاء أبقراط: إن هذا الأخير هو أول من فصل الطب عن الفلسفة. يعد هذا القول صحيحا ولكن به شيء من المبالغة، هذا إن أغفلنا المؤلفات السابقة مثل «الحكم الكنيديسية»، أو تأملات سقراط الذي كان معاصرا لأبقراط وقام أيضا بالفصل بين الطب والفلسفة. ومن جهة أخرى، ليس في الإمكان تجريد أبقراط تماما من لقب ذي وقع جميل؛ وهو لقب «فيلسوف»، عند قراءة إحدى الجمل التي كتبها في مؤلفه «الفصول» كما يلي: «العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق، والتجربة خطر، والقضاء عسر.»
ناموس الطب لأبقراط
ماذا عن أبقراط والطب؟ نال أبقراط شهرة واسعة في حياته واشتهر بالأكثر بعد مماته؛ لدرجة يصعب معها في أغلب الأحيان التمييز بين ما هو حقيقي وأصلي، وما هو خرافي وأسطوري. وتكمن ميزته الأساسية في كونه مؤلف 76 مقالة بحثية، جميعها تحمل اسمه، سواء أكانت مكتوبة بواسطته أم منسوبة إليه. وتجمع هذه البحوث كل المعارف الطبية التي وصلت إلينا نقلا عن مدرسة كوس. إضافة إلى كون أبقراط مؤسس الطب، فهو أيضا مشرع المبادئ الأخلاقية لهذا العلم. ما الذي يقدمه لنا ناموس الطب لأبقراط؟ يركز هذا الكتاب على العلاج ومتابعة تقدم المرض، مع التشديد على أهمية الملاحظة، وهي الكلمة الرئيسة، وتنحية الفرضيات جانبا. فلا بد من دراسة الوقائع وإدراك الروابط الموجودة بينها وبين أي شيء، بدءا بالتغذية (حيث إن أنواع الاضطرابات كافة إنما تنتج عن نظام غذائي سيئ). وهكذا أصبحت دراسة مسببات الأمراض أمرا بالغ الأهمية.
ترتكز الفسيولوجيا الأبقراطية بشكل كامل على نظرية الأخلاط البشرية التي تتمازج وتتغير داخل الجسم البشري، سواء في حالة الصحة أو في المرض. ما المقصود بهذه الأخلاط؟ يبلغ عددها أربعة، وهي: البلغم، والدم، والسوداء (المرة السوداء، ويقصد بها الدم المتخثر من الطحال)، والصفراء (عصارة المرارة)؛ ويقابلها أربعة أعضاء في الجسم وهي على التوالي: المخ، والقلب، والطحال، والكبد؛ بالإضافة إلى ارتباطها بأربع طبائع، وهي: البلغمي والدموي والسوداوي والصفراوي (المزاج الغضوب). كما أن هذه الأخلاط الأربعة تتوافق مع العناصر الأربعة (الماء، والهواء، والتراب، والنار)، وأيضا مع الخصائص الأربع (البارد، والرطب، والحار، واليابس)، وهي تلك النظرية التي كان منشؤها فلسفة إيمبيدوكليس. ويعتبر توازن الأخلاط شرطا أساسيا للتمتع بصحة جيدة، وذلك عن طريق الغلي [التسوية]: «التعرض للغلي يعني امتزاج الأخلاط بحيث يلطف بعضها بعضا وتسوى معا لتستعيد توازنها.» وحدوث اختلال في توازن الأخلاط من شأنه إصابة الجسم بالمرض.
تشكل المعرفة التي يملكها الطبيب أفضل ضمانة للمريض، ولكن «الطبيعة هي من تقوم بشفاء السقيم.» هذا بالإضافة إلى ذلك التحفظ الذي يعد أحد أعمدة أخلاقيات مهنة الطب: «إذا لم تستطع فعل الخير، فأقله لا تفعل الشر.»
وماذا عن الجنون في كل ما سبق؟ ورد ذكر الاضطرابات العقلية ضمن أربعين مرضا داخليا آخر في ناموس أبقراط الطبي كما يلي: التهاب الدماغ (أو الاهتياج)، الصرع، الهوس، السوداوية، داء الكلب أو السعار، و«الاختناق الرحمي» (أو الهستيريا). يظل التهاب الدماغ ممثلا للهذيان الكلاسيكي الحاد أو الجنون الحاد المصاحب للحمى. ويعد جنون النفاس (ظهرت هذه الكلمة في أواخر القرن الثامن عشر)، على سبيل المثال، أحد أنواع الاهتياج.
وقد وردت دراسة أكثر حداثة حول مرض الصرع في البحث الذي يحمل عنوان «المرض المقدس». «لم يبد لي أن هذا المرض يمتاز بشيء أكثر ألوهية وأكثر قداسة عن سائر الأمراض الأخرى [...] يرجع ذلك دون أدنى شك إلى انعدام الخبرة وروعة هذا المرض؛ مما جعلنا ننظر إلى طبيعته وسبب الإصابة به وكأنهما مظهران لقوة إلهية. وفي الواقع، لم يكن هذا المرض يشبه أيا من الأمراض الأخرى.» كما أن «هناك أمراضا أخرى، ولا أحد يعتبرها مقدسة، لا تقل إبهارا وإثارة للخوف عن سواها [...] رأيت أناسا مصابين باختلال العقل والجنون، دون أي سبب ظاهر، يقومون بالعديد من الأفعال الطائشة وغير العقلانية.»
ويشدد أبقراط (أو المؤلف الأبقراطي) بأسلوب حاد ولاذع على الفكرة نفسها قائلا: «أرى أن أولئك الذين يقرنون داء الصرع بالألوهية ينتمون إلى تلك الفئة نفسها التي ينتمي إليها الدجالون المدعون، والسحرة، والمشعوذون، والمتزمتون دينيا؛ الذين يريدون إيهام الناس بأنهم يعقدون صفقات مع الآلهة وأنهم يعرفون عن هذه الأمور أكثر من سائر البشر جميعا. أمثال هؤلاء اتخذوا من الألوهية ستارا يخفون به قصورهم وعدم أهليتهم.» فبإمكاننا معالجة الصرع بشرط تخير الوسائل المفيدة، «دون الحاجة إلى عمليات التطهير والحيل السحرية وكل ذلك الدجل والشعوذة.»
وقد وصفت نوبة الصرع على النحو التالي: «يفقد المريض صوته ويختنق، ويخرج زبد من فمه، وتصر أسنانه، وتتشنج يداه، وتحول عيناه، ويفقد وعيه بالكامل.» وبإمكان المرضى أن يستشعروا دخولهم في نوبات الصرع. أما عن علاقة الصرع بالمخ، فهو أمر يمكن تبينه بشكل واضح: «المخ هو أساس الإصابة بهذا المرض، كما هي الحال بالنسبة إلى جميع الأمراض الحادة الأخرى.» مما سبق يتضح أن البحث المعنون «المرض المقدس» ليس مجرد دراسة بسيطة عن مرض الصرع، بل هو أكثر من ذلك؛ فمنبع كل شيء هو المخ: «لأننا به نفكر ونفهم ونرى ونسمع ونميز بين القبيح والجميل وبين الشر والخير [...] كما أن المخ هو مصدر إصابتنا بالجنون والهذيان.»
فنحن نهذي عندما يكون المخ غير سليم؛ تماشيا مع الاعتقاد بأن المخ يكون رطبا للغاية ومتحركا من مكانه (مثل تلك الفكرة المتعلقة بالرحم). «طالما كان المخ مستقرا [بمعنى ثابتا في موضعه]، يحتفظ الإنسان بوعيه.» لا بد كذلك أن نفرق بين تضرر المخ الناتج عن تأثره بالبلغم البارد؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم مسالمين «لا يصرخون ولا يهتاجون»، وبين التضرر الناتج عن تعرض المخ لدرجة حرارة مرتفعة بفعل الصفراء؛ مما يؤدي إلى إصابة المرضى بحالات جنون تجعلهم «صارخين ومؤذين ودائمي الحركة ودائمي الانشغال بفعل أمر خاطئ أو بإحداث ضرر ما.»
في انتظار حدوث تطورات واسعة فيما يتعلق بالسوداوية على يد خلفاء أبقراط، عرف هذا الأخير السوداوية باقتضاب في مؤلفه «الفصول» قائلا: «إذا استمر الشعور بالخوف والحزن لفترة طويلة، فإن ذلك يعني أن الإنسان مصاب بحالة من الكآبة.» وفيما يتعلق بالهوس، جرى التمييز بين نوعين في المؤلف الأبقراطي «النظام الغذائي»، وينتج كلا النوعين عن حدوث اختلال في توازن أحد عناصر المزاج المثالي؛ إما الماء وإما النار. فإذا كان السبب العنصر الأول، فنحن أمام «هوس المياه» الذي يصاحبه خمول وفزع وبكاء. أما إذا كان السبب العنصر الثاني، فنحن أمام «الهوس الناري» الذي يصاحبه السرعة والاندفاع المفرط.
ومما يثير الفضول، كما يوضح جاكي بيجو في إحدى دراساته،
1
أن أبقراط، الذي كان يرفض الفصل بين علم النفس المرضي (الباثولوجيا النفسية) والأخلاقيات في مؤلفه «المرض المقدس»؛ أقر هذا الفصل فيما يتعلق بالهوس: «الجنون
mania ، تلك الحالة التي يكون الإنسان فيها مغيبا عن العالم، يمكن تفاديها إذا قمنا بتصحيح الطبيعة»، ولكن إلى حد معين، خاصة أن النظام الغذائي (كما ورد في البحث الذي يحمل الاسم نفسه) «ليس بوسعه فعل شيء حيال حدة الطبع، والهدوء، والدهاء، والصدق، والأريحية، والرفق، وسوء القصد أو النية.» والخلاصة، أن الطبيب لا يستطيع شيئا إزاء الظواهر الأخلاقية.
ورد مرض «الاختناق الرحمي» (ولم تكن كلمة «هستيريا» قد ظهرت بعد)، في كتاب «أوجاع النساء»، حيث جرى التأكيد على الاعتقاد القائل بأن سبب الإصابة بهذا المرض يرجع إلى انتقال الرحم وتجوله داخل الجسم. كما جرت الإشارة إلى هذا المرض، الذي يعد غريبا تماما عن نظرية الأمزجة والأخلاط البشرية ومناقضا للحداثة التي تجلت في كتاب «المرض المقدس»، في ناموس الطب لأبقراط. يتعلق الأمر بوجه عام بطب الأمراض النسائية؛ ذلك أن انتقال الرحم داخل جسم المرأة لا يفسر فقط الإصابة ب «الاختناق الرحمي »، وإنما أيضا ببعض أمراض النساء الأخرى؛ فانتقال الرحم يمكن أن يؤثر على العديد من الأعضاء الأخرى؛ فإذا ضغط الرحم على القلب، يسبب الشعور بالقلق والانزعاج والضيق النفسي، والدوار وقيء العصارة الصفراوية. «وحينما يكون الرحم عند الكبد مما ينتج عنه حدوث الاختناق؛ يؤدي ذلك إلى انقلاب العين (ظهور بياض العين)، وتصبح المرأة باردة وشاحبة اللون في بعض الأحيان، وتصر أسنانها ويمتلئ فمها باللعاب، وتكون في هذه الحالة أشبه بالمصابين بنوبات الصرع.»
الخلفاء
يجدر أن نركز على الأهمية التي احتلتها عملية وضع المفاهيم، والتي تستحق أن نتوقف عندها لنتناولها بشيء من التفصيل، خاصة وأن هذه العملية ستشهد تطورا استثنائيا في مرحلة لاحقة ستستمر حتى أواخر القرن التاسع عشر. وهكذا، نجد اليوم مصطلحات مثل الهذيان والهوس والصرع والهستيريا والسوداوية لم تفقد تماما صداها، كما لم تفقد مضمونها الطبي.
ساد التقليد القديم وحده لما يقرب من ألف عام (من القرن الخامس قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي)، وشهدت هذه الفترة بزوغ العديد من المدارس، من بينها: المدرسة الدوجماتية، وهي أكثر المدارس التزاما بالتعليم الأبقراطي، وتوصي بدراسة التشريح والبحث باتباع التفكير المنطقي عن جوهر الأمراض ومسبباتها الكامنة. على النقيض، ظهرت المدرسة التجريبية التي ترفض البحث عن أسباب الأمراض وترى أن ما يهم فقط - في فن مداواة المرضى - هو التجربة، سواء أكانت مستندة إلى خبرة الطبيب الشخصية أم إلى التجارب والخبرات الجماعية المذكورة في المراجع الطبية. من هذا التناقض بين المدرستين السابقتين، برزت المدرسة الثالثة، التي انتشرت أفكارها في روما في أواخر القرن الأول الميلادي على يد سورانوس الأفسسي؛ وهي المدرسة المنهجية، التي ترى أن الجسم يتألف من مجموعة من الجزيئات دائمة الحركة. وقد تأثرت هذه المدرسة إلى حد ما بالمذهب الذري لأبيقور، كما قامت بدحض المذهب المرتكز على نظرية الأخلاط الأربعة. وفقا لهذه المدرسة، هناك قنوات تمر عبر الجسم ومن خلالها تتدفق النفحة (الهواء) أو الروح بالإضافة إلى سوائل الجسم. وتعتمد حالة الجسم سواء في الصحة أو في المرض على هذه الجزيئات، ومدى سهولة أو صعوبة تدفقها، وشكلها ... إلخ، كما تعتمد على وضع هذه القنوات داخل الجسم. ومؤسس هذه المدرسة هو أسكليبياديس البيثيني الذي عاش في (أواخر القرن الثاني قبل الميلاد)، وكان صديقا لشيشرون. ومن الجدير بالذكر أن مؤلفاته لم تصل إلينا، ولكنها حفظت ونقلت على يد الطبيب الروماني كاليوس.
تجدر الإشارة أيضا إلى المدرسة القائمة على الإيمان بمذهب النفحات، والتي كانت هي نفسها مناهضة للمدرسة المنهجية. فالنفحة أو الروح تسري داخل الجسم، ولكنها لا تجعله في صحة جيدة إلا إذا كان الضغط منتظما. هذا بالإضافة إلى بروز فئة تضم بعض كبار الأطباء الذين لم ينتموا إلى أي من هذه المدارس الطبية، والذين رفضوا التسليم بأي من المعتقدات السائدة وأخذوا منها فقط ما يناسبهم؛ ولذلك أطلق عليهم لقب «الاصطفائيين». نذكر من بين هؤلاء سيلسوس وأريتايوس من كبادوكيا في القرن الأول الميلادي، ومن بعدهم جالينوس في القرن الثاني الميلادي، وهو ثاني أعظم الأطباء في العصور القديمة بعد أبقراط. وقد شاع القول إن جالينوس كان معاديا لأفكار أبقراط (فإذا قال أبقراط «نعم»، قال جالينوس «لا»). يعد جالينوس بالأحرى خليفة أبقراط، كما أنه هو الذي أعاد إحياء نظرية الأخلاط والأمزجة البشرية.
بيد أن جالينوس نبذ نظرية الرحم المتجول المسبب للهستيريا (لنطلق على هذا المرض ذلك الاسم الأكثر ملاءمة)، كما رفض نظرية احتباس دم الحيض ليستبدل بها نظرية احتباس المني، استنادا إلى الفرضية القائلة بأن المرأة تفرز المني مثل الرجل (يحل المبيضان لدى المرأة محل الخصيتين لدى الرجل). وبناء على ذلك، يسبب احتباس المني لدى المرأة، مثلما يحدث لدى الرجل، آثارا مرضية. ويتعرض لهذا الأمر على وجه الخصوص النساء اللواتي ينقطعن فجأة عن ممارسة الجنس بعد أن كن مداومات عليه بصورة منتظمة، مثل الأرامل.
ظل لجالينوس تأثير كبير حتى القرن الثامن عشر الميلادي. إضافة إلى كونه اختصاصيا في علم التشريح والفسيولوجيا، كان جالينوس فيلسوفا أيضا، وكان على صلة وثيقة بأفلاطون وأرسطو. ولكنه فند الفكرة القائلة بفناء الروح العاقلة بصفته طبيبا وليس بصفته فيلسوفا. وأوضح أن الروح موجودة بالدماغ، كما أكد أفلاطون، ولكنها ليست فانية . بالنسبة إلى عالم الفسيولوجيا، الروح عبارة عن وظيفة عضوية يتجلى من خلالها عمل عضو ما في الجسم.
على مدى القرون اللاحقة، تطورت المفاهيم التي عرفها أبقراط في أبحاثه ومؤلفاته بشكل كبير، بحيث أصبحت أكثر وضوحا عن ذي قبل، ولكن أكثر تعقيدا في الوقت نفسه. وبالطبع، كان الهوس - باعتباره خير مثال للجنون - هو أكثر مجال حظي باهتمام واسع. بالنسبة إلى أريتايوس الكبادوكي، «هناك عدد لا يحصى من أنواع الهوس، أما عن الأعراض، فأبرزها [...] حدوث هذيان مستمر دون حمى.» أعطى كاليوس وصفا تفصيليا للهوس كما يلي: «يصاب به على وجه الخصوص الشباب والرجال في منتصف العمر [...] وأحيانا يباغتهم هذا المرض بشكل عنيف ومفاجئ، وفي أحيان أخرى تحدث الإصابة بشكل تدريجي [...] وعندما يسيطر الهوس على فكر شخص ما، يظهر ذلك في صورة إحساس بالغضب، أو الفرح، أو الحزن، أو التصرف بأسلوب طائش، أو كما يذكر البعض، الشعور بمخاوف لا أساس لها من الصحة [...] وفي بعض الأحيان يستمر الجنون - أو لنقل: الهوس - لفترة طويلة، وفي أحيان أخرى تخف حدته على فترات زمنية غير محددة، وما يحدث في هذه الفترات هو أن المريض إما ينسى ما فعله وإما لا يدرك هفواته [...] لدى غالبية المرضى، عندما تنتابهم النوبة، تحتقن أعينهم بلون الدم الأحمر وتصبح نظراتهم حادة. وقد يصابون أيضا بأرق دائم [...] وتصبح قوة المريض على غير عادتها.»
فيما يتعلق بالهوس، يعد سيلسوس من أوائل الذين قدموا توصيفات لمرض الجنون، وفرق بين ثلاثة أنواع من الجنون: التهاب الدماغ، والسوداوية، والهوس، وهو أكثر الأنواع امتدادا لفترة طويلة؛ لأنه لا يهاجم إلا الرجال الأقوياء. كما ميز سيلسوس بين نوعين من المصابين بالهوس: أولئك الذين يعانون من اضطراب عقلي، والذين تخدعهم صور (أي تراودهم أوهام وهلاوس).
ابتداء من النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي، تشكلت ملامح الهوس باعتباره مرضا محددا، يخضع لتشخيص طبي، بينما لم يكن في نظر أبقراط إلا مجرد عرض. وبالطبع، استمر الاعتقاد في كلا الرأيين سائدا، كل على حدة، لدرجة أن المصطلح نفسه أصبح مبهما. غير أنه قد ترسخ، في كل الأحوال، مبدأ الفصل بين أمراض الروح (الأمراض النفسية) التي تدخل ضمن نطاق الفلسفة، والأمراض الجسدية التي يختص بها مجال الطب، حتى ولو أخذنا في الاعتبار أنه في حالة الهوس، تكون لهذا المرض آثار على النفس؛ وعندئذ «يمتنع الطبيب عن التفلسف» (جاكي بيجو). وهكذا، كتب كاليوس عن الهوس قائلا: «وأخيرا، يخطئ أولئك الذين يعتقدون أن الهوس يعد مرضا نفسيا في المقام الأول، ومرضا جسديا في المقام الثاني؛ لأنه ما من فيلسوف قط استطاع علاج هذا المرض.» خلاصة القول أن الجنون من اختصاص الأطباء.
المنافس الأول - إذا جاز التعبير - للهوس هو السوداوية، بأشكالها المتعددة. يقول كاليوس: «يعاني المصابون بسوداوية متأصلة من إحساس عميق بالقلق والانزعاج والضيق، إضافة إلى الشعور بحزن يصاحبه خرس وكراهية للمحيطين. ثم يشعر المريض أحيانا بالرغبة في الحياة، وفي أحيان أخرى تنتابه الرغبة في الموت، ويشك في أن هناك مؤامرات تحاك له.» وهناك ذلك الشعور بالخوف والحزن والنفور من الحياة وكراهية الذات والآخر. وغالبا، تكون النساء أكثر عرضة للإصابة بالسوداوية من الرجال. كما ترتفع نسبة الإصابة لدى كبار السن؛ لأن المرة السوداء تتكون على وجه الخصوص مع التقدم في العمر.
أضفى القدماء على السوداوية العديد من المعاني الأخرى، «ويمثل ذلك ذروة التفكير الطبي نحو الاتجاه الفلسفي» (جاكي بيجو). أليست السوداوية هي المحرك الأساسي للمصير المأساوي؟ أليست العبقرية سمة من سمات الشخصية السوداوية؟ قالها أرسطو على أي حال في مؤلفه «مسائل أرسطوطاليس الطبيعية، الجزء 30»: «ترى لماذا كل الرجال العظماء في الفلسفة والسياسة والشعر والفنون من ذوي الشخصية السوداوية؟ وقد كان بعضهم في الحقيقة مصابا بأعراض مرضية مرجعها المرة السوداء.» وتتجلى مما سبق ازدواجية أخرى كما هي الحال بالنسبة إلى الهذيان الذي يحمل أحيانا طابع الهوس، وأحيانا أخرى طابع الإبداع والتفكير الخلاق. من جانبه، يذكر روفوس - طبيب يوناني من أفسس واختصاصي في علم التشريح عاش في أواخر القرن الأول الميلادي - أن الأشخاص ذوي الفكر الثاقب الذين يتمتعون بقدر كبير من الذكاء يقعون بسهولة في براثن السوداوية.
بالإضافة إلى ذلك، تعتبر السوداوية أفضل وسيلة توضيحية لإمكانية التحول من شكل إلى شكل آخر من أشكال الجنون. لاحظ روفوس الأفسسي أن مرحلة الإصابة بالهوس تسبق مرحلة الإصابة بالسوداوية. بينما يرى أريتايوس الكبادوكي، الذي عرف السوداوية بأنها: «الشعور بحزن عميق في النفس مع التركيز على فكرة ثابتة»، أن حالات الملنخوليا هي التي تتحول إلى هوس وليس العكس.
فيما يتعلق بالسوداوية كما هي الحال بالنسبة إلى أشكال الجنون الأخرى، لقيت قصص الحالات المرضية اهتماما كبيرا من جانب الأطباء في العصور القديمة، وعلى رأسهم أبقراط، وجالينوس الذي حدثنا، على سبيل المثال، عن إحدى الحالات لرجل من كبادوكيا «استقرت في رأسه فكرة مجنونة وأصيب، نتيجة لذلك، بالملنخوليا.» وكان هذا الرجل قد صرح وهو يبكي بكاء عنيفا أنه يخشى أن يكون العملاق أطلس (أحد آلهة الميثولوجيا الإغريقية) قد تعب من حمله قبة السماء لفترة طويلة على كتفيه؛ مما قد يترتب عليه سقوط هذه القبة السماوية فجأة وتدمير كل شيء. كما ذكر جالينوس حالة أخرى لرجل كان يعتقد أن أحد الموتى قد نادى عليه لدى مروره أمام المقابر، ومنذ ذلك الحين أصيب هذا الرجل بالملنخوليا. وهناك حالة أخرى لمريض مصاب بالملنخوليا كان يعتقد أن رأسه قد قطع لأنه طاغية. وشفي هذا المريض حينما وضعت قبعة معدنية بشكل مفاجئ على دماغه؛ مما أعطاه الإيحاء بأنه قد وجد رأسه!
لا تكتفي هذه القصص بوصف ضروب الجنون فحسب، ولكنها توضح أيضا بالنسبة إلى غالبية الحالات ما هي طرائق العلاج التي طبقت. ونستنتج من ذلك أنه منذ بدايات العصور القديمة، كان هناك اهتمام بعلاج المجانين ...
الفصل الرابع
طالما اعتنينا بالمجانين
أدى ثراء التفكير النظري للإغريق والرومان بشأن الجنون إلى إعداد دستور علاجي لا يقل ثراء عن النظرية. لم يكن أبقراط - بما أنه يمثل دائما نقطة البداية - يعطي وصفا دقيقا لأي مرض دون أن يذكر العلاج الملائم له. ففي نهاية المطاف، المرضى هم نقطة الارتكاز. إليكم على سبيل المثال حالة «شخص مخبول» (مصاب بالتهاب الدماغ)، نراه يتصرف على النحو التالي: «يهذي ؛ ويهيأ له أن هناك زواحف تتراءى أمام عينيه، بالإضافة إلى حيوانات أخرى مختلفة الأنواع، وأن هناك جنودا مسلحين من الإغريق يقاتلون، وأنه هو نفسه يقاتل إلى جوارهم، فيثور ويتمرد، ويهدد بما سيفعله إذا لم يتم إطلاق سراحه [...] أمام حالة مماثلة، يصف الطبيب الدواء على النحو التالي: يوضع مقدار خمس وحدات أوبول (وحدة وزن في اليونان القديمة تساوي 75 سنتيجراما) من نبات الخربق الأسود في خمر حلو ويعطى هذا الشراب للمريض، أو تحضر حقنة شرجية للمريض كما يلي: نأتي ببلورات كبيرة الحجم من نترات الصوديوم [الملح الصخري] من مصر، تسحق جيدا، ثم تخلط في وعاء مع إضافة مقدار نصف-كوتيل (وحدة قياس سعة السوائل في العصور القديمة وهي تساوي 0,27 لتر) من أجود أنواع العسل، ونصف-كوتيل من الزيت، وأربعة كوتيلات من ماء مغلي به نبات السلق، وبالإمكان إضافة لبن حمير دافئ بدلا من ماء السلق المغلي، ثم يمزج هذا الخليط جيدا ويعطى للمريض عن طريق حقنة شرجية، سواء أكان مصابا بالحمى أم لا. يمكن أيضا تحضير حساء عن طريق استخلاص القيمة الغذائية للشعير بغليه جيدا مع إضافة العسل. كما يمكن أن يتناول المريض شرابا يحتوي على خليط من العسل والماء والخل.»
طالما كان هناك اهتمام في العصور القديمة برعاية المجانين ومعالجتهم، حتى وإن كان الأمر يقتصر في العصور العتيقة على إرشادهم للذهاب إلى أحد المعابد. واعتبارا من القرن الثالث الميلادي، كان الأطباء يملكون تحت أيديهم ترسانة حقيقية من الطرق العلاجية والأدوية.
بداية، ما هي الطرق العلاجية المستخدمة بما أن الأمر يتعلق بعلاج الجسد؟ في بعض الأحيان يتم اتباع طرق المعالجة الإخلافية، وذلك لعلاج حالات الاضطراب النوعي للأمزجة أو الاختلال الكيفي للأخلاط، وفي أحيان أخرى تستخدم أدوية تكميلية أو على العكس علاجات مفرغة؛ وذلك لمعالجة الاختلال الكمي لسوائل الجسم. أيضا، من العلاجات التي كانت توصف للمريض، نجد الحمامات المائية المهدئة والمراهم الشمعية (المصنوعة من الشمع والزيت)، والتي كانت تستخدم كدهان موضعي، أو الكمادات وذلك بوضع إسفنجة مبللة بماء دافئ على العينين. هذا بالإضافة إلى الحقن الشرجية (علما بأن هذه الكلمة لم تظهر إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، ولقيت فيما بعد اهتماما كبيرا في القرن الأكبر؛ أي القرن السابع عشر الميلادي). بيد أن الطرق العلاجية المفرغة كانت هي الأكثر شيوعا فيما يتعلق بمعالجة الجنون، وتتمثل فيما يلي: الفصد، والحجامة، واستخدام العلقات ولا سيما جذور نبات الخربق؛ فقد كان يستخدم الخربق الأبيض إذا كان يراد تفريغ الجسم من الأعلى، والخربق الأسود إذا كان يراد تفريغ الجسم من الأسفل. نضيف إلى ما سبق المهيجات (مثل: المواد الكاوية، ومسببات احمرار الجلد، والمنفطات) التي تؤدي إلى إحداث تقيحات أو طفح جلدي. وكان هناك اعتقاد بأن المهيجات سواء أكانت مساعدة أم مكملة للعلاجات المفرغة، فإنها من المفترض أن تسحب «من العمق» الأخلاط الفاسدة أو الزائدة عن حاجة الجسم.
يعد نبات الخربق، الذي كان يوصف فعليا كعلاج لأشكال الجنون كافة، هو الأقوى تأثيرا ولكنه الأشد خطورة من بين جميع العلاجات المفرغة. يقول هيروفيلوس - طبيب إغريقي من عائلة أسكليبياديس - عن الخربق: إنه «قائد شجاع»، وأضاف العالم اللاتيني أولوس جليوس قائلا: «إن نبات الخربق يقتلع بالطبع الأمراض من جذورها، ولكن هناك مخاطرة في أن ينتزع أيضا الحياة.» وقد ارتبط هذا العلاج بأصول في الأسطورة الإغريقية كما يلي: بعد أن تسبب غضب هيرا في ضرب بنات برويتوس - ملك تيرينثا - بالجنون، قام العراف ميلامب بشفائهن بعد أن سقاهن لبن المعز الخاصة به التي كانت ترعى في أرض مزروعة بنبات الخربق. وكان يستحيل حصاد الخربق من أي مكان، بل كان لا بد من الذهاب إلى مدينة أنتيسيرا، التي أصبحت مزارا علاجيا شهيرا يقصده طالبو الشفاء. وأصبحت عبارة «الإبحار إلى أنتيسيرا» مثلا شعبيا يستخدم للإشارة إلى شخص مجنون. تجاهل أبقراط كل هذه الخرافات والمهاترات السخيفة؛ فالخربق عنده عبارة عن مستحضر طارد للمواد الصفراوية (عصارة المرارة)، ولا مانع من استخدامه ولا سيما أنه يقتصر على العلاجات الجسدية.
أسس خلفاء أبقراط طريقة لعلاج الجنون قائمة على إشباع الحاجات النفسية الأساسية للإنسان، وذلك مع احتفاظهم في الوقت نفسه بالعلاجات السابق ذكرها. في الواقع، إذا أردنا مداواة الجسد، فلا بد أيضا من مداواة النفس لتأثرها بالتبعية بما يصيب الجسد؛ فيجب تفادي إثارة المريض، ولا بد من الترويح عنه وإدخال السرور على قلبه بكل معنى الكلمة، مع محاولة تخليصه من الأفكار المسيطرة عليه. كما أنه من الضروري ممارسة بعض التمارين المنشطة؛ سواء تلك التي يقوم بها المريض بنفسه، أو تلك التي يكون دوره فيها مجرد متلق (بمعنى أن تأتي الحركات من الخارج). وهذا هو ما يطلق عليه كاليوس الرجرجة، ويقصد بذلك: هدهدة المرضى بوضعهم في أسرة معلقة (ومثل هذا التأرجح أو الاهتزاز من شأنه أيضا تيسير العودة إلى النوم)، أو نقلهم على طرق وعرة، وهكذا برزت الفكرة القائلة بضرورة رج المريض بعنف.
فضلا عن رجرجة المريض، ينصح بالسفر لما له من تأثير على تغيير نفسية المريض. وينصح أيضا بالاستماع إلى الموسيقى والذهاب إلى المسرح؛ إذ كان الاثنان يشغلان مرتبة غاية في الأهمية في العصور القديمة. وأوصى كاليوس «بحضور عروض الفن الإيمائي إذا كان المجانين يعانون من الحزن، أو على العكس من ذلك، حضور المسرحيات التراجيدية التي تتضمن الحزن والخوف إذا كان المجانين مصابين بابتهاج طفولي مرتبط بضحالة الفكر. ذلك أنه يتعين تصحيح نوع الخلل العقلي بنقيضه.» ومن جانبه امتدح أرسطو، في كتابه «فن الشعر»، التراجيديا؛ لأنها «تساهم، بإثارتها لمشاعر الشفقة والخوف، في عملية التطهير (أو التنقية بحسب التعبير اللاتيني
catharsis ) الخاصة بالمشاعر والانفعالات.» وفي كتاب آخر له بعنوان «السياسة»، أضاف أرسطو «الحماس» باعتباره يشيع في النفس، من خلال الأناشيد المقدسة، «فرحا لا ضرر منه»، ويطهرها ويبث فيها شعورا بالراحة.
لا بد أيضا من نصح المريض بعقلانية دون إزعاجه، ولكن أيضا دون مسايرته أو التعامل معه بلطف أكثر من اللازم. وهنا تكمن المشكلة. ما المقصود بالضبط بعبارة «دون مسايرته أو التعامل معه بلطف أكثر من اللازم»؟ طالما ركزنا في تناولنا للموضوع حتى الآن على الجانب الطبي (وبالأخص الجانب النظري)، غير أن هذا الجانب يتداخل بالضرورة مع الجانب الاجتماعي؛ فأفراد المجتمع لا يبدون رد الفعل نفسه الذي يبديه الطبيب أمام مجنون، ولا سيما إن كان هذا المجنون مزعجا، أو عنيفا وخطيرا. عند وصول الأمور إلى هذا الحد، يعد التصرف الأكثر عملية نوعا ما هو استخدام القيود والسلاسل وعزل المجنون، وبالطبع ستكون طريقة التعامل مختلفة على حسب وضع المريض الاجتماعي؛ بمعنى هل هو محاط بعائلة وبعبيد أم معوز وفقير، وفي مثل هذه الحالة الأخيرة، هناك احتمال كبير أن يكون مصير المجنون الطرد من المجتمع والحكم عليه بالتشرد طوال حياته.
ذلك التقليد القائم على استخدام القوة في «معالجة» الجنون لم ينشأ فقط عن صوت الشعب (وفق التعبير اللاتيني
vox populi ) المستعد دائما لنبذ من يختلف عنه، وإنما ارتبط أيضا بالمدرسة الرواقية التي ترى أن الإنسان مسئول عن جنونه مثلما هو مسئول عن عواطفه (ويعتبر المصطلحان في هذه الحالة مترادفين). ولم يخش سيلسوس، رغم كونه طبيبا، من أن يذكر في كتابه «حول الطب»، إمكانية اللجوء عند الضرورة إلى التعنيف والتجويع والتقييد بالسلاسل والجلد بالسوط والضرب، ولا سيما إن كان الهدف من ذلك «قمع وقاحة وتجاسر المرضى.» وأيضا من وسائل العلاج الأخرى: «إثارة الذعر والفزع المفاجئ. خلاصة القول: كل ما من شأنه إحداث اضطراب كبير في ذهن المريض يعتبر مفيدا في علاج هذا المرض.» أما كاليوس، على الرغم من انتمائه إلى المذهب المنهجي مثل سيلسوس، فلم يوافقه الرأي (وذلك علما بأن ما ذكره سيلسوس لا يعني بالضرورة أنه يتبع بشكل أساسي مثل هذا الأسلوب العلاجي، ولكنها مجرد إمكانية.) وقد انتقد كاليوس بشدة (مثل سيلسوس أيضا) القيود التي تجرح، وفرض العطش والصوم الشاق على المريض بالطريقة نفسها التي يجري بها ترويض الحيوانات البرية، والحبس في مكان مظلم واستخدام الأغلال والسوط وإجراء عمليات الفصد بشكل مفرط فيه (بالفعل!) وتخدير المريض بالخشخاش لينام نوما عميقا. كما حرم كاليوس الموسيقى والخمر والحب، معللا ذلك بأنه لا يمكن الاستعانة بهذه الأشياء كعلاجات في الوقت نفسه الذي نعتقد فيه أن الإفراط فيها طالما كان يعد أحد أسباب الإصابة بالجنون. «من العبث التفكير في أن الحب ، الذي طالما اعتبر أحد أشكال الجنون، قادر على قمع نوبة هيجان.»
ولكن، ما هو العلاج الذي وصفه كاليوس للجنون؟ يقول كاليوس: إنه لا بد من وضع المصابين بالهوس أو الجنون في مكان هادئ على أن تكون جدرانه خالية من الرسوم. وتوخيا للسلامة، يوضعون بالطابق السفلي. ومنع المرور المتكرر ذهابا وإيابا في هذا الطابق، وخاصة بالنسبة إلى الغرباء. «وإذا انتابت المرضى نوبات هياج وأصبح من الصعب احتواؤهم، أو إذا تضايقوا لشعورهم بالوحدة، وجب في هذه الحالة اللجوء إلى عدد من المشرفين وتكليفهم بتولي زمام الأمور، ولكن دون أن يدرك المرضى ذلك [...] ويسمح فقط في بعض الحالات النادرة جدا، باستخدام الأربطة، ولكن مع توخي الحذر إلى أقصى درجة.» وبالإمكان إجراء عمليات فصد للدم إذا كانت قوى المريض تسمح بذلك. كما يجب اتباع نظام غذائي خفيف. «إذا ظل المرض متمكنا من الشخص، ينبغي حلق رأسه»، واستخدام الحجامة أو العلقات. وعندما يهدأ المريض، يمكن تشجيعه على ممارسة التمارين والتنزه، ومطالعة بعض القراءات البسيطة وإجراء حوارات غير مجهدة. أما عن المناقشات الأكثر جدية، فتأتي في مرحلة متقدمة من العلاج. «وبالنسبة إلى المرضى الأميين، فإننا نتحدث إلى الفلاح عن زراعة الحقول، ونتحدث إلى الملاح عن الإبحار.» ومع تحسن حالة المريض، يتم التنويع في نظامه الغذائي؛ فيمكن تدريجيا إضافة اللحم (ما عدا لحوم الطرائد) والخمر «على أن يكون خفيفا وضعيف الأثر». وفور اختفاء أعراض المرض وتحسن حالة المريض؛ بمعنى أن يصبح أقل حساسية ولا يكون سهل التأثر والانفعال، لا بد من التفكير في تغيير الجو والسفر «سواء بالبر أو بالبحر»، أو حتى الاهتمام بدروس الفلاسفة التي من شأنها «تبديد الحزن والخوف وفورات الغضب؛ ومن ثم المساهمة بقوة في استعادة الإنسان لصحته».
ولكن، مرة أخرى، لا يبين لنا التناول الطبي للجنون ما هي ردود الفعل الاجتماعية تجاه هؤلاء المرضى. ما هي درجة تساهل المجتمع، في الفترات المختلفة من العصور القديمة، مع هؤلاء المجانين؟ متى كان يتم حبسهم؟ ومن كان يقوم بذلك؟ يتضح من خلال نصوص كاليوس أن عزل الشخص المصاب بالهوس أو بالجنون كان يتم بشكل خاص وسري، في إطار محيط العائلة؛ لم يكن يوجد في ذلك الوقت مارستانات أو مستشفيات للأمراض العقلية. وهناك أيضا مسألة الرعاية الطبية التي تستوجب أن تكون العائلة قادرة على دفع أجرة الطبيب علما بأنه كان لا بد من دفع مبالغ مالية بشكل متكرر حتى يقوم كبار الأطباء بتكريس جهودهم لعمل أبحاث وأطروحات كاملة لمعالجة المريض.
هناك سؤال آخر يطرح نفسه، أولئك المرضى الذين كانت تجرى معالجتهم بألف طريقة، هل شفوا في بعض الأحيان؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال؛ نظرا لأن أبقراط وخلفاءه لم يتطرقوا إلى هذا الموضوع الحساس. وترك الأمر للفيلسوف الرواقي سينيكا الذي قدم إجابة جميلة عن هذا السؤال في رسالته الرابعة والتسعين إلى لوكيليوس، وهي إجابة تصلح لأن تكون شعارا في عصرنا هذا وهي: «ليس معنى أن الطب لا يشفي كل شيء، أنه لا يشفي أي شيء.»
الجزء الثاني
ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
الفصل الأول
الوضع الراهن للتفكير النظري
لم يتطور التفكير النظري بشأن الجنون على الإطلاق في العصور الوسطى، ولا سيما إذا أخذنا في الاعتبار الخصوبة غير العادية للفكر اليوناني واللاتيني في ذلك العصر. فعلى حد قول الكاتب مالرو: «لم نعد في زمن حضارة البحث والتساؤل.» أيتعين أن نرى في هذا العصر - كما رأينا مع إله العبرانيين - ثقل التوحيد؟ سنعود إلى هذه المسألة الحساسة فيما بعد عند التطرق إلى الشيطانية التي اجتاحت الغرب المسيحي في أواخر القرون الوسطى.
وربما لن يكون من الإنصاف على أي حال أن نختتم عملنا، مثلما فعل العديد من المؤرخين، بتلك الفترة من الصمت التي دامت ألف سنة حول مفهوم الجنون، وذلك على عكس ما أوردناه من ثراء فكري مذهل في العصور القديمة. وليس هذا صحيحا إلا مع حلول القرن الحادي عشر، عندما هجر علماء الطب والفلسفة الغرب، بعد أن اجتاحته الغزوات البربرية، ووجدوا ملجأ في بيزنطة ثم في أرض الإسلام. غير أن بعض المؤلفين اللاتينيين أمثال سيلسوس وكاليوس أوريليانوس، لم يختفوا تماما عن الأديرة. ولكن كان لا بد من الانتظار حتى مجيء القرن الحادي عشر لتعيد الترجمات العربية إحياء التفكير النظري الطبي، وبالتالي التفكير في الجنون.
علماء اللاهوت
في إطار حضارة مسيحية كتلك التي سادت في العصور الوسطى، لم يكن ممكنا أن يغفل علماء اللاهوت، في تأملاتهم حول الروح، التطرق لمجال الجنون. لقد أثارت أعمال القديس توما الأكويني (1227-1274) الاهتمام على وجه الخصوص، أكثر من سابقيه الذين أضفوا بعض الرونق على أبحاثهم بفقرات موجزة عن الجنون، الذي أطلقوا عليه اسم («الحماقة أو الجهالة»، وفق التعبير اللاتيني
stultitia ) أو عن الغباء
fatuitas
بينما شكل الجنون لدى القديس توما الأكويني جزءا أساسيا من نظرته إلى العالم. درس هذا الراهب الدومينيكاني في مونتي كاسينو وفي نابولي حيث ذاع صيت المؤلفين العرب. وتتلمذ على يد ألبيرتوس ماغنوس (المعروف أيضا باسم القديس ألبرت الكبير)، كما درس فلسفة أرسطو حاذيا في ذلك حذو معلمه. ويرجع الفضل إلى القديس توما الأكويني في كتابته للأطروحة الأكثر شمولا، في العصور الوسطى، عن فكر الديانة المسيحية، وذلك من خلال عرض المفاهيم اللاهوتية والإيمانية بأسلوب منطقي يفهمه العقل وعرض المسائل الفلسفية بأسلوب إيماني.
1
ومن الجدير بالذكر أن هذا المؤلف اللاهوتي (الخلاصة اللاهوتية)، القائم على التنظيم والعقلانية مع إعطاء الأولوية للاهوت على الفلسفة، يعيد إحياء الأفكار التي آمن بها القدماء فيما يتعلق بالمشاعر والعواطف. فالإنسان الذي يعرف بوصفه «أفقا بين المادة والروح»، الأنيموس
animus (أي ذلك الجزء من العقل المسئول عن تنظيم أداء وظائف الجسم وإشباع رغباته من المتع والملذات)، والأنيما
anima (أي ذلك الجزء من العقل الذي يتوافق مع الجانب الروحاني للنفس)، وهما شقان لا ينفصلان أبدا بعضهما عن بعض ويكونان في صراع دائم؛ يتعين عليه أن يسيطر على عواطفه بعقله (وهي الفكرة نفسها الواردة في كتاب أرسطو «عن الروح»، والذي اقتبس منه كثيرا القديس توما الأكويني). غير أن هذا العقل الذي يمكن الإنسان من كبح جماح مشاعره وعواطفه، قد يتسبب الجنون في فقدانه، وهذا هو «الخبل». وعندما يصاب الإنسان به، لا يتبقى لديه إلا الأنيموس. ولا يعود يملك حرية ولا مسئولية؛ وفي هذه الحالة، لا يختفي تماما جانب الأنيما، وإنما يكون محبوسا ومسجونا. أما ذلك الصراع النفسي أو الروحي، فتبتلعه بالكامل تلك العاطفة المحررة التي أطلق لها العنان.
ما هذه العواطف؟ نجد في البداية الحزن، وهو أكثر العواطف إيذاء للجسم؛ لأنه يصيب الإنسان بالسوداوية ويمكن أن يقوده إلى الهوس والجنون؛ ولذلك نجد أن القديس توما الأكويني قد اهتم بذكر العلاجات التقليدية للحزن وتشمل: كل أنواع الفرح أو انشغال النفس فيما يبدد روح الحزن عنها مثل الأصدقاء، والنوم، والبكاء، والاستحمام، ومن ذلك يتضح أنه يتحدث عن الحزن بوصفه مرضا. وهناك عواطف أخرى كالحب (النشوة) والبهجة (الناتجة عن امتلاك ما يسر القلب ويمتعه، سواء أكان أمرا متعلقا بالروح أم بالجسد).
ولن نجد بالطبع في الفلسفة التوماوية توصيفا حقيقيا دقيقا لمرض الجنون. ولكن يكفي أنه قد ورد بالفعل ذكر للجنون وإحياء لفكرة ارتباطه بالعواطف في مجال علم اللاهوت. ذلك اللاهوت الأخلاقي، حينما يتعلق الأمر بتعريف تلك الفضيحة الميتافيزيقية المتمثلة في انقطاع التناغم بين الأنيموس والأنيما؛ لا يستنكف من أن يقترض من معجم علم النفس المرضي الموجود بالفعل [الجنون في جانبه الطبي البحت]. إضافة إلى المجانين والمعاتيه الهائجين، نجد أيضا المختلين عقليا وهم أكثر نشاطا وحيوية، وأكثر تطورا من المصابين بالخبل الذي يعتبر حرمانا مطلقا من العقل، سواء بشكل دائم أم مؤقت. أما الاختلال العقلي، فيحدث نتيجة فقدان بمعنى هجر أو تخل: حين يسمح الإنسان لجانب الأنيموس فيه أن يتغلب عليه ويتحكم به، مما يذكرنا بالمفهوم الرواقي للجنون. وهكذا برز، بعيدا عن التعبيرات المجازية البسيطة، تشابه بين جنون الجسد وجنون الروح الذي ترسخ وتطور الاعتقاد به في سياق المجتمع المسيحي.
وأخيرا، من المثير للاهتمام ملاحظة أن توما الأكويني يتجنب استخدام مصطلح «الجهالة»، على الرغم من كونه المصطلح الأكثر شيوعا في العصور الوسطى للتعبير عن الجنون. حتى إن القديس بولس الرسول استخدمه للإشارة إلى جنون الصليب (في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس). كما صرح القديس توما الأكويني «بوجود نوعين من الحكمة ونوعين من الجنون [...] وبأن الإنسان الذي يتكل على الله يؤكد على كونه الأكثر جنونا في حكم البشر؛ لأنه يحتقر الكنوز الأرضية التي تبحث عنها الحكمة البشرية.» وسنتناول فيما بعد هذه المسألة بالتفصيل.
الأطباء
اعتبارا من القرن الحادي عشر الميلادي، انتعش الطب بفعل التأثير القادم من إسبانيا وصقلية والمدرسة الطبية بساليرنو. واستفادت هذه الأماكن من المساهمة العلمية المزدوجة التي قدمها العرب؛ فمن جهة كانوا يقومون بنقل النصوص اليونانية، ومن جهة أخرى كانوا يضيفون إلى تلك النصوص دراسات وتأملات انتفع بها الطب الغربي في العصور الوسطى.
ما الذي يمكن أن نستخلصه من الخطاب الطبي بشأن الاضطرابات العقلية اعتبارا من هذه الفترة وخلال القرون التالية، علما بأن هذه الحقبة قد شهدت انتشار المدارس الطبية (مثل مدرسة مونبلييه التي تأسست في بداية القرن الثالث عشر، والعديد من المدارس الأخرى التي ظهرت في إيطاليا في القرن الرابع عشر)؟ في الواقع، إن عدد المقالات البحثية التي خصصت بشكل حصري أو بشكل رئيس لموضوع الجنون محدود للغاية. ولكن، في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، قام قسطنطين الأفريقي، الذي ترهب بالدير البنديكتي بمونت كاسينو، بترجمة كتيب من العربية إلى اللاتينية عن السوداوية (الكآبة)، يظهر فيه التأثر الشديد بفكر روفوس الأفسسي. وهكذا، جرى استكمال الدراسات الطبية من حيث انتهى اليونانيون.
لا بد من البحث في المؤلفات العامة للعثور على الاضطرابات العقلية. وقد استمر قسطنطين الأفريقي، من جانبه، في ترجمة العديد من المؤلفات من العربية إلى اللاتينية، نذكر من بينها «زاد المسافر» لابن الجزار؛ وهو كتاب هام في الباثولوجيا (علم الأمراض) - بالرغم من أن عنوان الكتاب لا يدل على ذلك - ويضم بين دفتيه فصلا عن «النسيان». وهذا المجلد الأخير يثير اهتمامنا على نحو خاص؛ لأن قسطنطين الأفريقي ذكر في المقدمة أنه يخاطب ثلاث فئات من القراء: أولئك الذين يودون ممارسة الطب، وأولئك الذين يودون إثراء معارفهم من خلال الاهتمام بمجال الطب، وأخيرا أولئك الذين يطمحون إلى الاثنتين معا؛ أي الممارسة والمعرفة. ولم يكن الطب علما منغلقا على ذاته، بل قدم فيما بعد، اعتبارا من القرن الثاني عشر الميلادي وخاصة في القرن الثالث عشر، أداة محركة لأفكار وتأملات فلاسفة الطبيعة.
في المقاربة التي تعتمد بشكل أساسي على المنظور الجسدي، نجد أن تناول «أمراض الدماغ» يقتصر في أغلب الأحيان على تعدادها، وإعطاء وصف سريري لها، وتكرار ما ورد في الدليل الخاص بالأمراض العقلية التي جرى تعريفها في العصور القديمة.
2
وهذا هو النهج عينه الذي اتبعه أبو بكر الرازي (865-925) على وجه الخصوص، وهو طبيب عربي شهير ومن أتباع أبقراط. بيد أن بعض المؤلفين حاولوا وضع تصنيف لهذه الأمراض، من بين هؤلاء ابن سينا (980-1037)، وهو ليس طبيبا عربيا فحسب، ولكنه أيضا فيلسوف ومتصوف. ويعد كتابه «القانون في الطب» من أكثر الكتب التي أجمع عليها العلماء والدارسون في الشرق والغرب، وفي نهاية حقبة القرون الوسطى، أصبحت النسخة المترجمة عنه إلى اللاتينية أكثر الكتب طباعة بعد الكتاب المقدس.
قسم ابن سينا الأمراض المسببة لحدوث اضطرابات عقلية إلى ثلاث مجموعات. تشمل المجموعة الأولى التهابات جزء من المخ وهو ما يسبب النوام وجنون الاهتياج (ما كان يطلق عليه قديما التهاب الدماغ). وبالنسبة إلى هذا النوع الأخير من الجنون، تحدث ابن سينا عن أحد أشكاله، وهو فورة الغضب التي يشبهها ب «هوس يرافقه اهتياج». وتشمل المجموعة الثانية الأدواء التي تحدث خللا في القدرات العقلية مثل: الجنون أو تشوش العقل، وتلف الذاكرة، وفساد المخيلة، ثم الهوس، والسوداوية (الملنخوليا)، وتوهم الذئبية، والحب (وقد ورد هذا الأخير، بوصفه شكلا من أشكال المرض، في الجدول العربي لتوصيف الأمراض بعد أن سبق ذكره في العصور القديمة). وفي النهاية تأتي المجموعة الثالثة وهي تشمل الأمراض المسببة لاختلال حركي مثل الدوار والصرع. ونلاحظ في هذا التصنيف، أن جميع الأمراض العقلية (أي تلك الأمراض المفهرسة في العصور القديمة) مذكورة عمليا ضمن أمراض الفئة الثانية. وتقسم الأمراض العقلية وفقا لثلاث ملكات عقلية؛ وهي: الذاكرة، والخيال، والحكم على الأمور. ولكن هذه الملكة الأخيرة تشتمل وحدها على مفهومين رئيسين، وهما: الهوس والكآبة.
بعد صدور النسخة المترجمة من الكتاب الشهير «مسائل أرسطوطاليس الطبيعية، الجزء 30» في القرن الثالث عشر الميلادي لمؤلفه أرسطو، وهو الكتاب الذي ذكر فيه أن أصحاب العقول العظيمة الذين يتميزون بالتفكير الخلاق والإبداعي هم من ذوي المزاج السوداوي؛ ازدهرت السوداوية في الغرب إبان العصور الوسطى، وذلك بعد أن كانت قد نالت اهتماما كبيرا من قبل الأطباء والفلاسفة العرب. وبدأت السوداوية المرضية (الملنخوليا) تحتل، أكثر فأكثر، مكانة متميزة على ساحة الاغتراب العقلي، خصوصا أن المفكرين في العصور الوسطى كانوا يميلون إلى البحث عن الأسباب أكثر من الأعراض.
وأخيرا، نظرا للدور الهائل الذي لعبه الطب العربي وجالينوس، تم - في العصور الوسطى المسيحية - إحياء الحوار بين الطب والفلسفة. واستند علم خصائص الشخصية إلى مبادئ نظرية الأمزجة وارتباطها بالأخلاط. يزعم أرنو دي فيلنوف (1250-1313)، الذي كان طبيبا خاصا للملك أراجون وللبطريرك ومترجما للمؤلفات من اللغة العربية، أن المزاج هو العنصر الجسدي الأكثر قدرة على «تهيئة ظهور حوادث النفس». وهذا ما اتفق أفلاطون وجالينوس عليه، بل أضيف إليه أن حوادث النفس يمكن بدورها أن تؤثر سلبا على المزاج. وقد أولت العصور الوسطى «الأرواح» أهمية خاصة؛ تلك الانبثاقات الخفيفة والرقيقة التي تحمل «النفحة» وفقا للمصطلح المستخدم في الفلسفة الرواقية، والتي تشكل جوهر الحياة والشعور (حيث تعمل بوصفها وسيطا بين النفس والجسد). كما أولت العصور الوسطى اهتماما خاصا بالكيفية التي تتوزع بها الروح داخل الجسد.
بيد أن علماء اللاهوت وضعوا حدا لهذا النمط من التفكير. وحسم جيوم دو سان تييري - راهب من سيتو ومؤلف صوفي ظهر في النصف الأول من القرن الثاني عشر - هذه المسألة بقوله: «إن السمات الطبيعية المتعددة للإنسان، سواء أكانت حيوية أم حيوانية، ليست هي الروح.» لم يعد يوجد ما يسمى بمرض الروح (بالإشارة إلى العصور القديمة)، بما أن الروح غير مادية وغير قابلة للفساد. وإذا بدا أن الروح يشوبها خلل ما في قدراتها أو ملكاتها، فهذا يعني أنها غير قادرة على تملك زمام الجسد باعتباره الأداة التي تظهر من خلالها هذه الملكات. وبغية تفادي إثارة استياء وغضب الكنيسة ، تجنب الأطباء طرح مشكلة الروح في السياق الطبي.
الفصل الثاني
وضع المجنون في المجتمع إبانالعصور الوسطى
لم يكن الجنون الوارد في المقالات البحثية الطبية مماثلا بالطبع لذلك الجنون الذي يتعامل معه المجتمع بشكل ملموس؛ فالمجنون الذي نقرأ عنه في الكتب مختلف عن منظر المجنون الذي نراه «على أرض الواقع». ما هي ممارسات الغرب في العصور الوسطى إزاء الجنون، ذلك الجنون الحقيقي المجرد من أي زخارف بلاغية؟
المحبة والضعف
الإحسان والمساعدة فضيلتان أساسيتان في الديانة المسيحية في العصور الوسطى، وتعني كلمة الضعف بمعناها الشامل: المريض، والمعوز، وعابر السبيل، وبالرجوع إلى الأصل اللغوي والاشتقاقي للكلمة، نجد أنها تعني «الضعفاء» بوجه عام. يرى القديس توما الأكويني أن الإحسان يربطنا بالله من خلال المحبة، في حين أن الرحمة أو الرأفة (التي يتبعها تقديم العون والمساعدة) تجعلنا نتمثل بالله. وهكذا نقرأ في كتاب «القاعدة»، الذي كتب حوالي سنة 540م على يد القديس بنوا (بنديكتوس)، ما يلي: «لا بد قبل كل شيء من الاهتمام بمساعدة الضعفاء والعاجزين، فنخدمهم كما لو كنا نخدم المسيح بذاته.»
انطلاقا من هذا الفكر الإنجيلي، نشأ «المشفى» (بالمعنى اللغوي لكلمة
hospitalis
التي تعني: منزلا مجهزا لاستقبال الضيوف). ويعد غريغوريوس النازيانزي، الملقب بطبيب الكنيسة، أول من أعطى وصفا لمشفى مسيحي، وذلك بأسلوب ينم عن التفاخر والتباهي. وقد كان وصفا لمشفى في مدينة قيسارية (ويقال لها أيضا قيصرية) بكبادوكيا تم تأسيسه في سنة 374م، على يد القديس باسيليوس أسقف قيصرية، بالقرب من الضيعة التي يقع بها الدير: «يا لجمال المحبة والبذل، والتفاني، ومساعدة الفقراء، ومعونة الضعف البشري! اخرج من المدينة، وستجد مباشرة خارج الأسوار مدينة أخرى جديدة ستثير انبهارك وإعجابك [...] مدينة يهزم فيها المرض بالصفاء والسكينة الداخلية التي تنبع من الحكمة. هناك، ينظر إلى الشر باعتباره بركة ونعيما، وهناك نفتش عن الرحمة ونضعها تحت الاختبار.»
1
وهكذا، بدءا من نهاية حقبة العصور الوسطى، ستنشأ إشكالية المساعدة (وتقديم العون بطبيعة الحال إلى المجانين المعوزين) بسبب التناقض التام بين تلك المبادئ المثالية المتعلقة بالمحبة وعمل الخير وبين الممارسة العملية في المشفى على أرض الواقع؛ بحيث سيتم قياس صلاحية كلا الاتجاهين بالنظر إلى القيود المالية.
اعتبارا من القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، تزايدت أعداد المؤسسات الاستشفائية، في الوقت الذي شهدت فيه بعض المدن تطورا ملحوظا (مثل إيطاليا على وجه الخصوص). كما تأسس العديد من الأخويات لخدمة المرضى في المدن الكبرى، مثل رابطة الروح القدس التي أنشئت في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي وكانت مراكزها الرئيسة تقع في روما ومارسيليا. وكانت هذه الملاجئ تستقبل المعوزين من كل الفئات، وهم في أغلب الأحيان من المتشردين والمتسولين، ومن ضمنهم عدد قليل من المجانين ... وكانت اللوائح تنص على «القيام، في جميع أيام الأسبوع، بالبحث عن المرضى الفقراء والمساكين في الشوارع والميادين.» ولكن، في الواقع، هذا لا ينبغي أن يدفعنا للظن بأن المعوزين، على الرغم من كثرة عددهم في العصور الوسطى، كانوا يتهافتون على التوافد بأعداد غفيرة على هذه المشافي المنشأة حديثا. كما أن هناك فئتين، على الرغم من التعارض الموجود بينهما إلى أقصى درجة، فإنهما رفضتا «الاحتجاز» في المشفى، وهما: «الفقراء المستورون» (يطلق هذا الاسم على أعفة الفقراء الذين تأبى كرامتهم أن يظهروا في صورة معوزين؛ ولذا يحاولون إخفاء فاقتهم)، والمتشردون، وهم في حالة صحية أفضل من العجزة، بل لنقل: إنهم عجزة مزيفون، ولكنهم مع ذلك، أشبه بالذئب الهزيل المذكور في الحكايات الرمزية، يسعون إلى «التحرك حيث يريدون دون أن يقيد حريتهم شيء». بالنسبة إلى أولئك الذين ينتمون إلى الفئة الأولى، والأكثر أحقية بالشفقة والعطف، كانت المشافي تتولى تقديم الصدقات وخدمات الرعاية إليهم في المنازل.
ومع ذلك، سرعان ما ازدحمت تلك «المشافي»، التي أطلق عليها أيضا «دور الرب»
hôtels-Dieu
أو «بيوت الرب»
maisons-Dieu ؛ نظرا لضيق المساحة؛ ففي الأغلب لم تكن تستوعب إلا عشرة أسرة أو عشرين سريرا بحد أقصى. ومنذ ذلك الحين، ظهرت الحاجة إلى تناوب العمل؛ مما دعا القائمين على هذه المشافي إلى الحد من قبول الحالات المرضية التي لا سبيل إلى شفائها، بل ورفضها، بدءا بمرضى البرص أو الجذام (والمصابين بالأمراض المعدية بوجه عام)، وأيضا المصابين بالشلل، والمكفوفين، والمجانين ؛ أي جميع أولئك الذين لا يقتصر وجودهم على «تجميد» الأسرة فحسب، وإنما يقتضي أيضا تخصيص أقسام منفصلة (وبالأخص، زنازين للمجانين الهائجين). على الرغم من ذلك، نجد بعض المجانين في المشافي ذات المساحات الواسعة؛ بما يتيح تخصيص أماكن لعزلهم عن بقية المرضى. في نهاية القرن الثاني عشر، نصت اللوائح الخاصة بمشفى سانت إسبري (الروح القدس) في مونبلييه على ما يلي: «إذا وجد مجانين في المدينة، فاستقبلوهم وابحثوا عن سبب إصابتهم بالجنون لإيجاد العلاج المناسب، ثم ضعوا كل مريض منفردا في مكان خاص؛ خشية أن يلحقوا الأذى بعضهم ببعض.»
2
ومن وقت لآخر، تكشف السجلات الطبية للمشافي الرئيسة عن دخول حالات من فاقدي الرشد. في مشفى مولن، ورد في سجلات الحسابات الخاصة بنهاية القرن الرابع عشر بعض النفقات التي صرفت لرعاية المجانين على النحو التالي: 30 فلسا (عملة نقد معدنية) «لتغذية، وإشباع، وإعالة رجل مسكين وفقير مجنون وفاقد لعقله»، أيضا أنفق مبلغ 20 فلسا لعمل سرير صغير لتنام عليه راهبة «مصابة بجنون الهياج [و] لتقييدها إليه». في مشفى باريس، خصص للمختلين عقليا أسرة معينة مغلقة بالكامل بحيث تكون شبيهة بالزنزانة، مع عمل نافذة صغيرة لمراقبة المريض وأخرى كبيرة لتقديم خدمات الرعاية الطبية والتغذية. كما تم تزويد بعض الأسرة الأخرى بأحزمة قوية (لتقييد المريض عند الضرورة). كان الاهتمام منصبا بشكل عام على التفكير في كيفية احتواء المريض والسيطرة على هياجه. «يقتضي الطب، كما يقول بارثولوميوس الإنجليزي، وهو اختصاصي في تبسيط العلوم في القرن الثالث عشر، أن يقيد المجانين حتى لا تكون هناك ذرة شك في إمكانية إيذائهم لأنفسهم أو للآخرين.» وهذا لا يعني التعامل بقسوة من باب التخاذل في رعاية المريض، وإنما كإجراء وقائي لاستحالة مراقبته بصفة مستمرة.
واعتبارا من القرن الرابع عشر الميلادي، بدأ ظهور «التخصص» في أقسام المنشآت الكبرى؛ ففي ألمانيا، كان يجري في بعض الأحيان تخصيص أقسام بالمشافي الجديدة للمجانين على النحو التالي: مأوى المجانين في إلبلاج، على أرض الفرسان التيوتونيين، وحظيرة المجانين (حرفيا «زريبة المجانين ») في مشفى إرفورت، وزنزانة للمجنون في مشفى هامبورج. بعد مرور مائة عام، في سنة 1471، أنشأت بلدية بامبرج، في فرنكونيا، «منزلا للأفراد فاقدي العقل». في إنجلترا، ينص الميثاق التأسيسي لمشفى الثالوث الأقدس في ساليزبري على «أن يوضع المجانين في مكان آمن حتى يستعيدوا رشدهم.» ولكن، يجب أن نأخذ في الاعتبار، لدى قراءة ذلك الإعلان الذي تظهر فيه نبرة الفخر، العدد المحدود للغاية (ستة) للمجانين المحتجزين بمشفى سانت ماري بلندن، وهو الذي سيعرف فيما بعد، في عام 1403،
3
باسم «مصحة الأمراض النفسية والعقلية». في إسبانيا، تم إنشاء ملاجئ خاصة للمجانين بواسطة «مساهمات فاعلي البر والإحسان» [الجمعيات الخيرية]، أطلق على هذه المصحات اسم مشافي الأبرياء وبنيت في فالنسيا وفي إشبيلية. وليس هناك ما يؤكد على الإطلاق وجود مشاف، في العصور الوسطى، حتى وإن كانت محدودة المساحة، مخصصة بشكل حصري للمصابين بأمراض عقلية. ومع ذلك، سوف نجد أن بعض المشافي، مثل مشفى فالنسيا وإشبيلية وهامبورج (1375) وغيرها، قد تباهت فيما بعد - كل على حدة - بحمل لقب «أول مصحة للأمراض النفسية» في أوروبا.
إذا كانت نهاية العصور الوسطى قد شهدت ظهور مصطلحات جديدة فيما يتعلق بالمشافي، وذلك مع الاتجاه نحو «التخصص»، و«علمنة» الوظائف وتقديم مزيد من الخدمات الطبية والصحية؛ فإن الطبيب قلما كان موجودا في المشافي التي أنشئت في العصور الوسطى؛ فلم يكن يشكل ركنا أساسيا من أركان المؤسسة الطبية. وإذا أردت أن ترى طبيبا وهو يمارس مهام عمله، فلتبحث عنه في مكان آخر، «في المدينة»؛ حيث ستجده مشغولا بتقديم خدماته لقلة نظير أجر، أو مكرسا كل وقته وجهده للعمل كطبيب خاص لإحدى الشخصيات من ذوي النفوذ. إن واجب المحبة يفرض على الطبيب معالجة الفقراء بالمجان، ولكن هل من الوارد أن تقوم أي أسرة باستدعائه دون أن تكون قادرة على دفع أجرته، بل ودفع تكاليف الأدوية التي لم تخل منها حقبة العصور الوسطى؟ وفي الواقع، زخرت هذه الفترة بالعديد من المؤلفات في مجال الصيدلة، نذكر منها على سبيل المثال كتاب «فضائل الأعشاب» أو كتاب «مخزن الدواء والترياق» لنيكولاس ساليرنيتانو، الذي توالت طبعاته منذ القرن الثالث عشر الميلادي، بالإضافة إلى نسخة شبه رسمية من الأقرباذين؛ أي دستور الأدوية المعروفة في ذلك الزمن.
الهوس، السوداوية، الصرع، النوام، كل هذه الأمراض نجد لها أدوية، وبأنواع متعددة: مواد مستخلصة بالإغلاء، نقيع، شراب، حبوب أو أقراص، وكذلك زيوت، مراهم، لبخات، لزقات طبية توضع على رأس حليق، ومعطسات [أدوية مسببة للعطس]. وتنقسم أدوية الجنون الموروثة عن العصور القديمة إلى نوعين كما يلي: المهدئات والأفيون والمغد (جنس من النباتات من الفصيلة الباذنجانية) مثل اليبروح أو البلادونا؛ والمقويات أو المنشطات مثل الأفسنتين، والينسون، والقراص، والنعناع البري، والكزبرة، والقويسة أو المريمية، والهال، وغيرها. كانت هذه النباتات، والتي نادرا ما تستخدم وحدها دون إضافات أخرى، تدخل في تركيب مستحضرات طبية معقدة. فعلى سبيل المثال، يدخل في تركيب الدواء المضاد للكآبة أو السوداوية ما لا يقل عن مائة مادة، من بينها مسحة من مادة مستخلصة من أنواع من الصراصير في بيزنطة. وتندرج المعطسات المضاف إليها الفلفل تحت فئة المقويات أو المنشطات (وليس كما قد نتخيل، فئة الأدوية المفرغة). نضيف إلى ما سبق مضادات التشنج التي تؤخذ في صورة لعوق عن طريق الفم [مستحضر طبي طري أو لين كالمعجون]، وكان يجرى تركيبها من خلال وصفات معقدة، ولكنها كانت تحتوي دائما على عنصر أساسي؛ وهو إفرازات القندس (وهي مادة مستخلصة من الغدد التناسلية لحيوان القندس الواقعة بجوار الخصيتين)، أو المسك (ويستخلص من غدة كيسية في بطن نوع من الظباء يسمى غزال المسك). وأخيرا، نضيف إلى القائمة الأدوية المفرغة؛ نظرا لاستمرار الاعتقاد في نظرية الأخلاط البشرية. وفي بعض الأحيان كان يوصف الخربق الأبيض والخربق الأسود (الأقل حدة) معا كدواء مضاد للسوداوية، ولكنهما لم يحققا نجاحا كبيرا، ولم يلقيا الاهتمام نفسه مثلما حدث في العصور القديمة؛ فقد ظهر منافس آخر لهما، وهو الأدوية المقيئة مثل الجوز المقيئ، وفطر الغاريقون، وجذر زهرة البنفسج، وغيرها. ولكن ابتداء من عصر النهضة، انتقل الخربق تدريجيا إلى مجال الصور الاستعارية والمجازية. فها هو المعلم تيودور «يجري عملية تطهير وفقا للقواعد المتبعة» للشاب جارجانتوا باستخدام «خربق من مدينة أنتيسيرا»؛ حتى يخلصه بهذه الوسيلة من أي «تشويه أصاب المخ أو أي عادة سيئة استقرت به.» وعلى الرغم من ذلك، ظل هناك مؤيدون من بين الأطباء لاستخدام الخربق.
كما أدرجت أدوية أخرى، وهي مضادات التشنجات التي كان يتم إعدادها عن طريق الاستخلاص بالإغلاء أو الحقن الشرجية، بالإضافة إلى استخدام العلقات، وعمليات الفصد، في قائمة العلاجات المفرغة. وفيما يتعلق بعمليات الفصد، فقد كانت شائعة للغاية في القرون الأخيرة من العصور الوسطى، وكانت خاضعة لقواعد صارمة، وفقا لسن المريض والموسم ومرات تكرارها. على سبيل المثال، اختيار الوريد الذي يشق لإجراء عملية الفصد، يختلف تبعا لحالة المريض، إذا كان مصابا بالسوداوية أو مصابا بجنون الهياج.
ولم تتوقف أدوية الجنون عند هذا الحد، بل نجد أيضا المعالجة المائية، سواء بحمامات الماء الساخن أو الفاتر أو البارد، ورغم أنها لم تنل الاهتمام نفسه الذي نالته في العصور الوسطى، فالأطباء كانوا يصفونها كعلاج للاضطرابات العقلية؛ فقد كتب جيلبرت الإنجليزي (القرن الثالث عشر الميلادي) أنه «في جميع الأحيان، يعتبر الحمام مفيدا بالنسبة إلى مرضى السوداوية؛ لأنه يبدد الأبخرة التي تحيق بهم وتعذبهم، مما يطرد الأخلاط الزائدة ويصحح المزاج.» كما أخرج هذا الطبيب نفسه من إطار التفكير النمطي حينما نصح بأن يجرى إيقاظ المصابين بالنوام عن طريق الصراخ في آذانهم مع نطق اسمهم والنفخ في البوق و... جر إناث الخنازير من أرجلها أمام أسرة المرضى.
هكذا نقترب من الطرق العلاجية القوية التي ستبلغ فيما بعد، مع تقدم طب الأمراض النفسية، أوج «مجدها». يقترح أرنو دي فيلنوف إجبار المصابين بالهوس على البكاء إما بتخويفهم وإما بضربهم بالسوط أو بالعصي. عمليات الكي [بإحداث شق على شكل علامة الصليب] التي تجرى على رأس حليق، يمكن تمديدها، في الحالات القصوى وخاصة في نوبات الصرع المتكررة، بإجراء عمليات ثقب لعظام الجمجمة. وأخيرا، كما كتب بارثولوميوس الإنجليزي «إذا كانت عمليات التطهير أو العلقات الطبية غير كافية، نلجأ حينئذ إلى فن الجراحة لشفاء المرضى .»
بعيدا عن هذه الحالات القصوى، نجد كل النصائح المتوارثة من العصور القديمة فيما يخص قواعد الحفاظ على الصحة والنظافة، واتباع أنظمة غذائية متوازنة، وممارسة التمارين البدنية بشكل معتدل، ومقاومة أفكار الهوس والهذيان، والعلاج بالموسيقى. وقد كان «العلاج النفسي» أقل حظوة في العصور القديمة. نجد أن الشخص المصاب بالسوداوية، إضافة إلى اتباع نظام غذائي، وتناول العقاقير، والخضوع لعمليات الفصد، وتهيئة مناخ ملائم له وموسيقى مفرحة؛ كان ينصح قبل كل شيء بالخضوع لمعالجة سيكولوجية. غير أنه في العصور الوسطى كان الاهتمام منصبا على العلاج الجسدي أكثر من «المعالجة النفسية»؛ لأن هذه النصائح كانت تسدى إلى المريض من أجل «تدفئة القلب والمخ والكبد».
وعلى أي حال، نحن بعيدون كل البعد عن الاعتقاد السائد في العصور الوسطى فيما يتعلق بعدم جدوى معالجة الجنون. علاوة على ذلك، هذه الترسانة الطبية لا تعد شيئا بالمقارنة مع رواج رحلات الحج العلاجي. وقد كانت هذه الرحلات شائعة للغاية في اليونان القديمة، ثم انتشرت على نطاق واسع في سياق الإيمان العميق بالمسيحية؛ فقد كانت العلاجات التقليدية باهظة الثمن، بينما رحلات الحج، وخاصة المحلية منها، في متناول الجميع. وكان هناك لكل مرض، ولكل جزء مصاب بالجسد، قديسه الشافي. بل كان البعض يربطون بين المرض واسم القديس الشافي؛ فنجد على سبيل المثال «داء القديس يوحنا» كناية عن الصرع. وتعدد القديسون الذين اشتهروا بشفاء الجنون، ولا يتسع المجال الآن لذكرهم جميعا. كان هناك قديسون على الأصعدة «المحلية» و«الإقليمية» و«الدولية»، وكان الناس يأتون للتضرع إليهم من جميع أنحاء أوروبا. كان عددهم حوالي خمسين قديسا، هذا دون احتساب القديسين «العموميين»، الذين لم يكونوا متخصصين في شفاء مرض ذي طابع خاص كالجنون.
وبالطبع، كانت مدينة جيل (بلجيكا حاليا) أكثر الأماكن التي يقصدها الحجاج شهرة. ويعد هذا المكان مكرسا للقديسة ديمفنا، تلك الأميرة الأيرلندية التي عاشت في القرن السابع الميلادي، والتجأت إلى هذا المكان حينما لاذت بالفرار لتهرب من ملاطفات أبيها لها. ولكن للأسف! وجدها الوحش وقطع رأسها. ثم جاءت الملائكة وثبتت رأسها على عنقها قبل دفنها، ومنذ ذلك الحين سرعان ما أصبح ضريحها مزارا مبجلا ومقصدا يحج إليه أولئك الذين «فقدوا عقلهم»؛ أي المجانين الذين أصبحت هذه القديسة بمنزلة شفيعة لهم اعتبارا من القرن العاشر الميلادي. وأمام تدفق الحجاج المتزايد على هذا المكان، بنيت به كنيسة واسعة في القرن الثالث عشر الميلادي. وشيد مبنى ملحق بالكنيسة لإيواء المجانين الذين يحجون إلى هذا المكان. غير أن الحجاج كان عددهم كبيرا لدرجة أنهم كانوا يقيمون في بعض الأحيان لدى أحد السكان، وهكذا، أصبحت جيل أول مستعمرة للمختلين عقليا في الغرب.
ومن الأماكن الأخرى التي كان يقصدها الحجاج، بلدية لارشان، في منطقة جاتينيه، وكان هذا المكان مكرسا لشفيع آخر للمجانين، وهو القديس ماتورينوس، الذي كان يهتم بهذه الفئة أيضا خلال حياته في روما. برز تخصص هذا القديس في شفاء الجنون في وقت متأخر، ولكن سرعان ما ترسخ الاعتقاد في شفاعته حينما اعتاد المستشفى الرئيس بباريس إرسال فاقدي العقل إلى مزاره. وقد تم إنشاء العديد من «المزارات الفرعية» - وذلك بتخصيص كنيسة صغيرة على اسم القديس داخل الكنيسة الكبيرة ووضع تمثال بسيط للقديس بها - بحيث تكون بمنزلة مزار محلي لأولئك الذين لا يستطيعون القيام برحلة الحج إلى لارشان، وخاصة أن السفر لم يكن بالأمر الهين في ذلك الزمن. فما كان يهم بشكل أساسي هو «اقتياد المريض إلى القديس ماتورينوس». وسرعان ما أصبح الأمر معروفا، لدرجة أنه ظهر تعبير شعبي دارج له مدلول سلبي أو بالأحرى ازدرائي، فكان يقال كناية عن شخص مجنون أو غير متزن في أفعاله: «لا بد من اقتياده إلى القديس ماتورينوس!» وبالطبع يمثل هذا التعبير إهانة إذا كان الخطاب موجها بشكل مباشر إلى الشخص المعني. أما الحج، بمعناه الذي ظهر في المجمع الفاتيكاني الثاني، فكان يتم دائما في عيد العنصرة (يعرف أيضا بعيد حلول الروح القدس على تلاميذ السيد المسيح).
كما كان يجري اصطحاب المجانين إلى بلدية هابر، في شمال فرنسا؛ من أجل التضرع إلى القديس أكير (حيث كان يقال هناك «داء القديس أكير»). وقد أدى نجاح رحلات الحج إلى مزارات القديسين ، اعتبارا من القرن الثاني عشر الميلادي، إلى إنشاء «مشفى» لعلاج المجانين في عام 1218م. وكان المجانين يأتون إلى بلدية سان مينو، في مدينة بوربونيه؛ طلبا لشفاعة القديس مينو (أو مينولف). كما كانوا يذهبون إلى بلدية سان ميان (إقليم إيل وفيلان حاليا) للتضرع إلى القديس ميان، وإلى بلدية لوكمينيه (إقليم موربيهان حاليا) الواقعة أيضا في منطقة بريتاني بفرنسا للتضرع إلى القديس كولومبان. كما كان كثيرون يتوافدون على ضريح القديس ديزييه في منطقة الألزاس، وهناك أيضا، كان بإمكانهم الإقامة في منازل القرويين. نذكر أيضا، حتى لا يتبقى إلا الأضرحة الرئيسة والكبرى في فرنسا، مزار القديس فلورنتين في بلدية بونيه (في إقليم الموز بفرنسا)، ومزار القديس جرا في إقليم أفيرون، ومزار القديس فرونت في بيريجو (حيث كان التشفع بهذا القديس أمرا معروفا وثابتا، ثم أضيف إليه قديس آخر يدعى القديس ميموار)، ومزار القديس هيلدفرت في بلدية جورنيه-أون-بريه. وفي هذه الكنيسة، كان المرضى يتشفعون برفات القديس؛ طلبا للشفاء من الجنون ومن الصاعقة، يا له من ترابط «مستنير» بين الاثنين!
كانت رحلات الحج العلاجي للاستشفاء من الجنون تمثل في العصور الوسطى مشهدا مذهلا ومخيفا في الوقت نفسه. وبالطبع لم يكن المرضى يأتون بمفردهم، وإنما كان يصطحبهم بقوة وبحزم أناس آخرون. وبطبيعة الحال، كان هؤلاء المرضى إما مصابين بالذهول وإما هائجين وإما غاضبين وساخطين. وكان يتم دفعهم بشدة، أو حملهم بشكل يعيقهم عن الحركة، على محفات أو نقالات، أو أيضا على نوع آخر من الأسرة يشبه النعوش بشكلها المزعج والمحزن. وكان يجري تهديد المرضى الأكثر عندا وتمردا بضربهم بالسوط. أما الممسوسين (وسنتحدث عنهم لاحقا)، فقد لعبوا دورهم باقتناع؛ حيث كانوا يتخبطون ويطلقون صرخات حادة ويتفوهون بألفاظ تجديف (الكفر بنعمة الله والكلام عليه بالشتم) وسباب. وكان سكان هذه المناطق يخرجون من منازلهم ليتمتعوا برؤية ذلك المشهد المدهش. وكانت الدعابات التي يطلقها هؤلاء القرويون وتعليقاتهم الساخرة، إضافة إلى صراخ الأطفال ونباح الكلاب وقرع الأجراس في بعض الأحيان، كل هذه الأصوات، تضفي مزيدا من الصخب والفوضى على هذا المشهد.
ولم تكن رحلات الحج تنقضي سريعا؛ فعلى شاكلة طقس حضانة المرض الذي كان يمارس في العصور القديمة في بلاد الإغريق، كان المجانين يبيتون في المزار بضعة أيام، تسعة أيام بالضبط؛ أي تساعية، وفقا لطقس شهير في الكنيسة المسيحية. خلال هذه المدة، كان لا بد من إيواء المرضى، أو بالأحرى، احتجازهم في زنازين أو حجرات مفروشة بالقش. وكان المرضى يقيمون، في بعض الأحيان، بمبنى ملحق بالكنيسة، أطلق عليه «غرفة المرضى»، أو في كنيسة صغيرة جانبية محكمة الغلق، أو في قبو الكنيسة في أحيان أخرى. خلال التساعية، كانت تقام صلوات، وتراتيل، وقداسات، وزياح (طواف بأشياء مقدسة داخل الكنيسة وخارجها) في المزار وفي المناطق المحيطة به، كما كان المريض يغتسل ويتم تغطيسه في ينبوع مياه معجزية. وقد شيدت كنائس كثيرة، خلال القرون الأولى لانتشار المسيحية، فوق العديد من المواقع الوثنية. وكان أقدس وقت في التساعية هو وقت الصلاة والتضرع عند رفات القديس، وفي أغلب الأحيان عند قبره. وكانت بعض الأضرحة، مثل ضريح القديس فلورنتين، مشيدة على أربعة أعمدة مرتفعة بما يكفي ليمر الحجاج تحتها ويطوفوا بضريح القديس. وأحيانا، كان يتم عمل فتحة بالناووس حتى يدخل المجانين رءوسهم بها. نذكر على سبيل المثال «ضريح القديس مينو»
le débredinoire de Saint-Menoux (وكلمة
bredin
تعني في اللهجة المحلية شخصا مجنونا أو غريب الأطوار)، وكانت هذه الخاصية تعتبر سمة مميزة للمزار، وقد زادت من نسبة الإقبال عليه بشكل كبير. وفي الواقع، كانت تتلى صلوات وطلبات خاصة على رءوس المجانين وذلك بعد حلاقة شعرهم. وفي كنيسة القديس فلورنتين ببلدية بونيه، كان يوضع على رأس المريض تاج من النحاس به دلاية تحتوي على جزء صغير للغاية من عظام القديس. وفي بلدية سان جرا، توجد خوذة رومانية غير معلوم أصلها، ولكن يقال إن القديس كان قد ارتداها، ويقوم المجنون بوضعها على رأسه بضع ثوان حتى تغمره النعم والبركات.
وبالطبع، لم تكن هذه المراسم الطويلة تتم في هدوء؛ فالمجانين، الذين كان يتم عادة إلباسهم رداء باللون الأحمر أو الأبيض، تذكيرا بالرداء الذي وضعه المسيح وقت الصلب والآلام؛ لم يكونوا جميعا يخضعون بسهولة وعن طيب خاطر إلى كل هذه الطقوس، فكان أولئك الأكثر هيجانا يبقون ملجمين في أسرتهم أو مقيدين إلى جدار مزود بحلقات حديدية على «دكة المجانين». وكانوا كثيرا ما يجلدون بالسوط؛ وذلك لشيوع الاعتقاد بأن المجانين يسكن جسدهم شيطان، وبناء على ذلك، لا يوجه الضرب إلى المريض، وإنما إلى الشيطان المستقر في غلافه الجسدي.
وفيما يتعلق بمسألة معرفة إن كانت مثل هذه الممارسات تؤتي ثمارها في بعض الأحيان أم لا، نجد أن المجلدات التي تضم معجزات هذا العصر تؤكد حدوث معجزات شفاء متكررة؛ ففي «السجل التاريخي» لمعجزات الشفاء، الذي تحتفظ به الكنيسة بعناية، تحتل الأمراض العقلية المرتبة الثالثة - بعد الشلل والعمى - في قائمة معجزات الشفاء. وتكون نسب حدوث الشفاء عالية إذا كان المرض غير متوطن بالجسم منذ زمن طويل. وتكثر القصص التي تحكي عن الحالات التي حدثت معها هذه المعجزات الشفائية، والتي تعد بمنزلة قدوة صالحة للغير، وقد ذكر في بعض هذه القصص أن المريض كان ينال الشفاء أحيانا وهو في طريقه إلى مزار القديس. فعلى سبيل المثال، نجد مجنونا ساخطا يصبح فجأة هادئا. وها هي «شابة مجنونة هائجة»، كانت تجدف في أثناء دخولها إلى الضريح، ثم لمستها النعمة فطفقت تصلي فجأة عند سفح قبر القديس صانع المعجزات. أما إذا تتبعنا مصادر أخرى غير تلك المتعلقة بسير القديسين، فسنجد أن الأمور لم تكن بالضرورة تسير على ما يرام؛ فها هو بيير ناجو، من مدينة كاين، ذلك المريض الذي تم اصطحابه في عام 1384 إلى دير القديس سيفيه حتى يقضي به تساعية، وقد ذكر عنه أنه «ظل مربوطا لمدة تسعة أيام، وكان يصرخ ويصيح لدرجة أنه لم يكن ممكنا أن ينعم أي إنسان بالهدوء والراحة في الدير المذكور طوال مدة إقامته به، ورغم ذلك لم ينل هذا المجنون الشفاء قط ولم تتحسن حالته، بل على العكس، زادت حالته سوءا وبدأ يقوم بتصرفات جنونية لم يكن يفعلها من قبل .»
4
إقصاء
وبعيدا عن واجب المساعدة والمحبة تجاه المجانين ، أو بالأحرى قبل التطرق إلى هذا الموضوع، لا بد أن نتساءل كيف كان المجتمع، في العصور الوسطى، يتعامل معهم فيما يتعلق بشئون الحياة اليومية. من المرجح أنه في الأوساط التي يغلب عليها الطابع الريفي، كان هناك قدر من التسامح أو التساهل النسبي في التعامل مع الحمقى، والبله
crétins (وهي مشتقة من كلمة
chrétien ؛ أي «مسيحي») والأغبياء
benêts (مشتقة من كلمة
béni ؛ أي «مبارك»)، وذلك استنادا إلى تعاليم الإنجيل (طوبى للمساكين بالروح)، ولا سيما امتلاك المجانين القدرة على القيام ببعض الأعمال الموسمية؛ مما جعل المؤرخين يعتبرون حقبة العصور الوسطى بمنزلة العصر الذهبي للجنون. ولكننا لا نملك التيقن من صحة هذا القول.
ولا يتعلق الأمر بالخوف من المجنون، وإنما باحتياجه إلى الرعاية، وبضرورة مراقبته عندما تتجاوز أعراض مرضه حد القصور النفسي والعقلي لأولئك الذين يطلق عليهم «المساكين بالروح». وتعد عائلة المجنون، أو مجتمع الأهالي الذين يعيش بينهم إذا كان وحيدا، مسئولة عنه مسئولية مدنية، في حالة شروده أو تركه هائما على وجهه، مثل الحيوانات التي يقارنه القانون العرفي بها إلى حد كبير، ولكن مع فصل أحدهما عن الآخر بالطبع. وتجدر الإشارة إلى أن المجنون، حتى وإن لم يكن بالضرورة خطيرا، قد يرتكب عمليات تخريب أو سلب ونهب، وقد يخل بالأمن العام، أو يزعج الآخرين على أقل تقدير، حتى إن بعض الأقوال المأثورة في العصور الوسطى تشهد على ذلك؛ فنجد مثلا: «من المجنون، لا بد من أن نحترس»، أو «في اليوم الجيد، تخلص من المجنون.» كما كان المجنون بمنزلة متنفس لأفراد المجتمع. فبعيدا عن تعاليم الإنجيل، كان الناس يسخرون منه والأطفال يركضون وراءه، هذا إن لم يقذفوه بالحجارة؛ مما يقلب الآية التي كانت سائدة في العصور القديمة، حيث كان المجنون هو من يقذفهم بالحجارة، أما في العصور الوسطى فأصبح الناس هم الذين يطاردون المجنون، (ولكن، هل هناك احتمال في أن يكون الاثنان مجانين؟)
وهكذا، نجد أن المجانين على اختلاف أنواعهم - سواء أكانوا هائجين أم خائري القوى، يمارسون العنف أم لديهم نزعة للانتحار، مخربين ومشعلين للحرائق أم وقحين (لم يكن هناك اهتمام بتشخيص نوع الجنون، بقدر ما كان يهم مراقبة السلوكيات الناجمة عنه) - كان يجري حبسهم واحتجازهم من قبل عائلاتهم، سواء بشكل مؤقت أو بشكل دائم، إما في زاوية بالإصطبل، وإما في حجرة صغيرة رتبت على عجل تحت سلالم مخزن الغلال، وإما في كوخ صغير في آخر الحديقة. وإذا كان أحد الأقارب (ذلك أن العائلات كانت أكثر عددا فيما مضى) يمتلك المال اللازم، فقد كان يعهد بقريبه المجنون إلى إحدى الجماعات الدينية. وتخصصت الأديرة البنديكتية في قبول الحالات المماثلة. وبعضهم كان يعيش بمفرده في مسكن متداع أو كوخ حقير بعيدا عن القرية؛ حيث كانوا يعيشون على السرقة والنهب بدلا من استجداء المعونات والمساعدات الخيرية. وبطبيعة الحال، لا نجد في السجلات المحفوظة أي تعداد لأولئك المجانين. هل كان عددهم كبيرا؟ على الأرجح لا، ولكنهم كانوا موجودين بالفعل.
ومع ذلك، اعتبارا من القرن الثالث عشر الميلادي، بدأت السجلات تذكر أولئك المجانين الهائمين على وجوههم و«المتشردين» [الذين لم يتعرف عليهم أحد، وبالتالي لا يوجد لهم ضامن ولا كفيل]. وهنا برز سؤال خطير يطرح نفسه: من الذي سيتكفل بمصاريف هؤلاء؟ ففي سياق مستوى اقتصادي يكفي المرء بالكاد للبقاء على قيد الحياة، ما من أحد - أفرادا أو جماعات - يقبل أن يثقل كاهله بأعباء رعاية غرباء. وكانت هذه هي الحال في المدن الكبرى على وجه الخصوص؛ حيث انضم المجانين المشردون إلى المتسولين لكسب قوتهم. وبناء على ذلك، ساد الاتجاه نحو «انعدام التسامح»، كما أن البلديات رأت أنه يكفيها ما تواجهه من مشاكل فيما يتعلق بالمجانين التابعين لها. ومن ثم، تم طرد المجانين «المتشردين»؛ وهو ما حدث في ألمانيا: حيث تم إقصاء 43 مجنونا في هيلدسهايم في الفترة من 1384 إلى 1480، ويعتبر هذا العدد مساويا - ربما أكثر بقليل - لعدد المجانين الذين تكفلهم المدينة. نجد النسبة نفسها أيضا في مدينة نورمبيرج، التي دأبت على التخلص من أولئك المجانين غير المرغوب فيهم ونقلهم عبر جميع أنحاء ألمانيا، وأحيانا إلى مناطق أبعد، وذلك بعد أن يجلدوا ويضربوا بالسوط. وفي فرنسا، على ما يبدو خلال القرن الرابع عشر الميلادي، وفي المنطقة الشمالية بأكملها، كان بعض قضاة البلديات يقومون بإعطاء ملك السفهاء بالمدينة بعض القطع النقدية حتى يطرد من البلدة بعض «المجانين أو البله» الغرباء، سواء أكانوا إناثا أم ذكورا، وذلك كان يجري عادة بعد ضربهم وجلدهم. في مدينة ليل، على سبيل المثال، كان هذا السيناريو يتكرر مرتين أو ثلاث مرات خلال العقد الواحد، مثلما حدث في عام 1447، حين تلقى ملك السفهاء 12 فلسا نظير قيامه «باقتياد امرأة مجنونة حتى بلدية كومين، وكانت هذه المرأة التي سبق طردها من هذه المدينة تعاني من اضطرابات شديدة». «وفي مدينة أميان، في مارس 1459، أصدر بعض قضاة البلديات أوامرهم بشأن أحد المجانين، وهو يدعى جاكو مانيت، وكان قد فعل في المدينة المذكورة بعض التصرفات المثيرة للاستياء والانزعاج؛ مثل ضرب الناس والأطفال، والدخول إلى منازل الصناع والتجار وإسقاط بضائعهم من على الرفوف، وأخذ غلاتهم رغما عنهم. وبناء على ذلك، صدرت الأوامر بضربه بالعصي في شوارع المدينة المذكورة من قبل رقيب هيئة العدل العليا، على أن يتولى هذا الرقيب مسئولية الحرص على عدم عودة هذا المجنون إلى المدينة مرة أخرى. وإذا عاد ثانية، يقوم أفراد الشرطة المسئولون عن طرده من المدينة بإيهامه أنه سوف يتم إغراقه في حالة رجوعه؛ وذلك حتى لا يعود مطلقا إلى هذه المدينة.»
5
وأحيانا كان يعطى المجنون زادا ومعونة وبعض الملابس، حتى يذهب بعيدا ليمارس جنونه في مكان آخر. وهو ما حدث على سبيل المثال، في عام 1427، في فرانكفورت، مع امرأة «فاقدة العقل». وقد كانت هذه المرأة تصطحب ابنها معها، وخشي الجميع من أن تقوم بقتله. وفي أحيان أخرى، ولكن نادرا، كان يتم استدعاء بعض الأطباء، ربما على الأرجح لإثبات حالة الجنون أكثر من الاهتمام بتقديم خدمات الرعاية الطبية.
بيد أنه كان لا بد من حبس المجانين الخطرين؛ «أي أولئك البله الذين يتصرفون بشكل جنوني مبالغ فيه ويتسببون في مضايقات وإزعاج»، مع الطرح الدائم لذلك السؤال الملح بشأن من سيتحمل تكاليف رعايتهم. وكان مثل هذا الإجراء يطبق على نطاق محدود للغاية وبشكل مقنن، كما يتضح ذلك من خلال القانون العرفي لمدينة نورماندي كما يلي: «إذا كان هناك إنسان فاقد لرشده، وكان يتسبب في إيذاء أو جرح وتعذيب أي شخص بأفعاله الجنونية، يجب في هذه الحالة إلقاء القبض عليه ووضعه في السجن، ويتم الإنفاق عليه من أمواله الخاصة، أو أموال الصدقات، إذا لم يكن له مورد يعيش منه. وإذا كان هناك شخص مجنون وهائج بأي شكل من الأشكال، وكان ثمة شك في أن يكون قد تسبب بجنونه في اضطراب البلاد، سواء بالنار، أو بأي شيء مؤذ، فلا بد من تقييده، ويتولى رعايته أولئك الذين لديهم حاجياته، ويجب ألا يرتكب أي خطأ في حق أي إنسان، وإذا لم يكن لديه مورد مالي يعيش منه، يجب أن يقوم جيرانه بتعضيده ومساعدته، وكبح جماح جنونه» (عن المصابين بجنون اهتياجي، بحث رقم 79). كما نص هذا القانون العرفي أيضا (الذي يعد بمنزلة نموذج ممثل للقوانين العرفية الأخرى) على ضرورة حبس المجنون القاتل مدى الحياة؛ نظرا لكونها الطريقة الوحيدة للتأكد من عدم تكرار فعلته. في عام 1425، على سبيل المثال، حكم على امرأة بالحبس في سجن بايو؛ لأنها قتلت زوجها في نوبة جنون. وقد جاء نص الحكم كما يلي: «ستظل هذه المرأة في السجن مدى الحياة أو سيتم التحفظ عليها بشكل آخر، تبعا لحالتها، ووفقا لعرف مدينة نورماندي؛ وذلك للتيقن من أنها لن تفعل أي سوء في المستقبل.»
6
وبخلاف القتل الفعلي، يمكن أن يؤدي جنون الهياج إلى أن يتخذ المجتمع قرارا بتقييد وحبس أحد أفراده في السجن، خاصة إذا لم يستطع أي شخص من عائلته أو من المحيطين به رعايته وكفالته. ففي عام 1406، في مدينة كارنتان، كلف حداد ب «إحكام غلق زنزانة بها جيوم موجييه، وهو مجنون وأبله وفاقد لعقله. وتم إيداعه السجن بعد أن ألقي القبض عليه من قبل ضباط تابعين للملك؛ وذلك للحماقات والتصرفات الشاذة والغريبة التي كان يقوم بها، فضلا عن رفض أي أحد من أصدقائه استقباله.» وفي مدينة أميان، في 13 يوليو 1501، قام أعضاء مجلس البلدية بحبس «شخص مجنون» يدعى جيهان كوشي في أحد أبراج بوابة أوتوا؛ وذلك لأنه حاول قتل رقيب.
على الرغم من ذلك، ظل حبس المجانين (ولا نجرؤ أن نقول «اعتقال»، حتى وإن كان هذا هو المقصود بالفعل) إجراء استثنائيا تركز العمل به في أواخر القرون الوسطى، وربما لا يرجع السبب في ذلك إلا إلى نقص الأماكن. في ألمانيا، لا تشير التعدادات المحلية في مدينة هيلدسهايم إلا إلى وجود 39 مجنونا تكفلهم البلدة، وذلك في الفترة من 1384 إلى 1480؛ أي على مدار قرن. وفي مدينة نورمبيرج، تذكر السجلات أن عدد أولئك المجانين بلغ 20 مجنونا، وذلك في الفترة من 1377 إلى 1397، ثم أصبح العدد 31 في الفترة من 1400 إلى 1450؛ أي إنه في المتوسط يتناقص العدد بمقدار واحد كل عام.
7
بيد أنه، في نهاية العصور الوسطى، وفي أعقاب حدوث مفارقة بين مرحلة البناء المتأخرة ومرحلة تحويل المباني الدفاعية إلى غرض آخر (في فرنسا، تعلمنا الدروس المستفادة من حرب المائة العام في وقت متأخر للغاية)؛ ظهر في معظم المدن ما يعرف ب «أبراج المجانين»، نذكر من بينها: برج شاتيموان في كاين، وبوابة سان بيير في ليل، وأبراج روزندال وليزل في سانت أومير وغيرها. غير أن هذه الأبراج كانت في الغالب تستوعب أعدادا قليلة للغاية؛ فلم نكن نجد بها إلا بعض المجانين المحبوسين معا، وأحيانا كنا نجد مجنونا واحدا محبوسا بمفرده، هذا بالإضافة إلى بعض النفقات التي كانت تصرف على أعمال النجارة، كما هي الحال في مدينة ليل، في عام 1453؛ حيث ورد في السجلات الحسابية للمدينة المرتب الذي صرف للنجار نظير قيامه ببناء «كوخ صغير» لتقطن به «امرأة بلهاء تدعى بيرويت». وفي مدينة سانت أومير، لم تتكرر النفقات التي صرفتها البلدية لاحتجاز أحد المجانين وتقييد حريته في أحد هذه الأبراج إلا اثنتي عشرة مرة خلال ما يقرب من قرنين (القرن الخامس عشر وثلثي القرن السادس عشر).
أما فيما يتعلق بتقييد المجانين المصابين بالهياج والسيطرة عليهم، فقد تدفق الحبر غزيرا من أقلام فاعلي الخير في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، ومن بعدهم من أقلام العديد من المؤرخين المعاصرين، ليروي بشاعة هذا المشهد بما يشمله من حلقات حديدية ثقيلة تدمي الأجساد، وصوت قعقعة الأغلال الكريه (ناهيك عن البرد والجوع والحشرات الطفيلية القذرة)، بالإضافة إلى سادية الحراس، والقسوة المفرطة في التعامل، وذلك في عصر لم يكن يرى في المجنون إلا «طبيعته الحيوانية»؛ تلك الطبيعة الحيوانية الشهيرة. وهذا تفسير خاطئ. فيما بعد، تداعت السجون التي شيدت في هذا العصر، وأصبحت الأبراج أثرا بعد عين. أما عن الحراس، فقد كانوا قليلي العدد وفي الغالب عاجزين. ومن ثم بات من السهل الهرب. وكان الحبس المشدد المتمثل في استخدام الأقفاص الحديدية لاحتجاز السجناء السياسيين، (في سجن الباستيل على سبيل المثال أو في سجن جبل القديس ميشيل)؛ يمثل «سجونا داخل السجن»، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين هربوا من قبل. مثلما حدث مع كولاس فافيرول؛ ذلك المجنون الهائج الهارب الذي ألقي القبض عليه حين كان «يجوب الشوارع»، ثم وضع في قفص حديدي «حتى لا يؤذي الناس».
ومن الجدير بالذكر أن حبس المجانين المصابين بالهياج لم يكن يتم كعقاب لهم، وإنما كإجراء احترازي. وكان هناك إدراك من جانب المجتمع لعدم مسئوليتهم عن أفعالهم، كما يشهد بذلك القانون العرفي لبلدة بوفيزيه كما يلي: «لا يحاكم المجانين مثل الآخرين؛ لأنهم لا يدركون ما يفعلون.» ويعد العدد الإجمالي لمرتكبي جرائم القتل، الذين جرت محاكمتهم وحكم عليهم في أغلب الأحيان بالإعدام، ثم قدمت الأسرة طلبا إلى المحكمة «لتخفيف الحكم» بدعوى إصابة المتهم بالجنون وما يترتب عليه من عدم مسئوليته عن أفعاله (بحسب ما ورد في المادة 64 من القانون الجنائي)؛ يعد عددا كبيرا نسبيا. ومع ذلك، نجد أنه في بعض القضايا، نظرا لفداحة الجريمة المرتكبة ولشدة تأثر الرأي العام بها؛ كان القضاة ينسون طرح السؤال المتعلق بمسئولية الجاني عن أفعاله، وكانوا يصدرون حكمهم بإرسال المسكين إلى المحرقة أو إلى ساحة التعذيب على عجلة الموت. وهكذا، تعد الجريمة، نوعا ما، في حد ذاتها هي التي نبتغي معاقبتها بشدة، ولكن يتم ذلك من خلال المجرم، غير المسئول عن أفعاله.
وقد أثيرت مسألة الجنون أيضا فيما يتعلق بحالات الانتحار. ففي العصور الوسطى، كان الانتحار يعد جريمة انتهاك حرمات يرتكبها الإنسان في حق نفسه، وإهانة في حق الله والبشر. وكان يحرم دفن المنتحر في المقابر، وكانت أملاكه وأمواله تصادر (مثلما يحدث مع المجرم)، وفي بعض الأحيان، كان يهدم منزله؛ مما يعني أن العائلات المهددة بالإفلاس والعار، كانت تسعى جاهدة إلى إثبات عدم مسئولية المنتحر عن أفعاله. فعلى سبيل المثال، درس مجلس النواب بباريس، في 25 مارس 1278، قضية المدعو فيليب تستار، الذي حاول الانتحار مرتين؛ الأولى: حينما ألقى بنفسه من النافذة، والثانية: حينما أجهز على نفسه بسكين. وقد تحدث الاثنا عشر شاهدا الذين مثلوا أمام القاضي عن جنون المنتحر وهياجه منذ سبع سنوات، ولا سيما في الأشهر القمرية حينما كان يكشط وجهه «وينتف شعره حتى ينزف دما من كل جسده». كما أن عمته نفسها كانت «مختلة عقليا»، وقد تم تقييدها لمدة ثلاث سنوات إلى أن ماتت. وفي نهاية جلسة الاستماع إلى الشهود، أقر المجلس بجنون المنتحر وصدر قرار برد أملاكه، التي كانت قد وضعت تحت الحراسة القضائية، إلى أسرته.
8
بعيدا عن هذه الحالات المتطرفة، اختص القانون المدني بالنظر في الوضع القانوني للمصابين بالجنون. وفقا للمادة المستمدة مباشرة من القانون الروماني، كان يصدر في أغلب الأحيان حكم بعدم الأهلية المدنية ضد المجانين من ذوي الأملاك. وبالتالي، لم يكن في وسعهم الاحتفاظ بهذه الأملاك أو توقيع أي عقود. كما لم يكن باستطاعتهم المثول للشهادة أمام المحكمة. غير أن بعض الأطباء، مثل موسى بن ميمون الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي (ولكنه مارس الطب في الشرق، في بلاط السلطان صلاح الدين الأيوبي)، شددوا على مفهوم فترات الصحو والاستنارة التي يتعين أن يعطى المريض خلالها كل حقوقه المشروعة كأي مواطن. ومن جانبه، أقر القديس توما الأكويني بأهمية مفهوم فترات الصحو. وقد اهتم القانون العرفي الإنجليزي اهتماما بالغا بحماية أموال وممتلكات المختلين عقليا، أما عن القيمين عليهم، في حالة الحجر، فلم يكن يتم تعيينهم إلا عقب الانتهاء من إجراء تحقيق واف ودقيق.
كما كان القانون الكنسي يحد من ممارسة المجانين للأسرار المقدسة. فلم يكن بمقدورهم إبرام عقد زواج أو إبداء الموافقة الشرعية اللازمة لإتمام مثل هذا الاتحاد بين الزوجين. وفي بعض الأحيان، كانت ترفع دعاوى بطلان في هذا الصدد. ولكن، أيمكن منعهم من المعمودية؟ هذا سؤال نموذجي؛ نظرا لأن الأغلبية الساحقة من الأطفال يتم تعميدهم بعد فترة وجيزة من ولادتهم. ولكن الإجابة شائقة. كلا، يجيب القديس توما الأكويني؛ وذلك لأن البشر - على عكس الحيوانات - يملكون روحا عاقلة. وإصابتهم بالجنون ليست إلا حدثا عرضيا أدى إلى فقدانهم للعقل. وهي نفس الإجابة التي أعطاها القديس توما الأكويني فيما يتعلق بالتناول من القربان المقدس (سر الإفخارستيا). وعلى الرغم من ذلك، كان الخوف من تدنيس قدسية خبز الذبيحة أو القربان المقدس عظيما لدرجة أن المجانين، وقت ممارسة هذا السر الكنسي، لم يكونوا يتقدمون للتناول منه، إلا إذا كانوا على شفا الموت.
الفصل الثالث
نماذج من الجنون وصور لإعادة تجسيده
في القرون الوسطى، لم يكن بالإمكان تحجيم الجنون ليقتصر على الطب فقط، حتى وإن كان يتم النظر إليه ودراسته ومعالجته، خلال العصور القديمة، باعتباره مرضا. ويبدو هذا القول منطقيا إلى حد بعيد. والجنون يطرح أسئلة على تلك الحضارة القائمة على المعتقدات ويقينيات علم الوجود (الأنطولوجيا) كما أنه يبث القلق فيها. وهو يضع ذلك المجتمع الذي يرى نفسه مرتكزا وقائما على تعاليم الإنجيل أمام تناقضاته الخاصة. فالمجنون يضحك الناس ولكنه يخيفهم أيضا. وهو مبهر وساحر ولكنه مثير للاشمئزاز في الوقت نفسه. بيد نطعمه، وباليد الأخرى نطرده.
السردية وجنون الحب
من الواضح أن الجنون والأدب المكتوب بالعامية اللاتينية القديمة كان لا بد لهما أن يلتقيا، ولا سيما من خلال روايات العشق والغزل، التي انتشرت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر وفي القرن الثالث عشر، وتغنت بقصص الحب التي لم تكلل بالنجاح. وقد حظي بالفعل جنون الحب بمكانة رفيعة عند اللاتينيين (مثل «أوفيد»)، وورد ذكره في الملاحم السلتية. كما كان موضوعا شائعا إلى حد كبير في الأدب العربي خلال القرنين العاشر والحادي عشر.
وتتعدد الأعمال الأدبية التي تشهد على مدى الاهتمام الذي حظي به هذا الموضوع. في القرن الثاني عشر نجد: «الجنونان»، و«تريستان»، و«إيبوميدون»، و«روبرت الشيطان»، و«أماداس وإيدوان»، و«إيفان أو فارس الأسد»، و«برسيفال». في القرن الثالث عشر نجد: «جنون لانسلوت»، وسلسلة «لانسلوت» النثرية، ورواية «تريستان»، و«معجزات نوتردام»، و«كليوماديس»، و«ملياسين»، و«لعبة المخبأ الشجري».
1
ويبدو أن هذا الأدب، الموجه إلى جمهور أرستقراطي حصري، أقرب إلى الواقعية منه إلى الصور الاستعارية عند تصوير الجنون، حتى إذا كان هؤلاء المجانين ينتمون إلى مستوى اجتماعي رفيع. فترسم لنا هذه الأعمال الأدبية لوحة دقيقة وحقيقية إلى حد بعيد تصور لنا حالة المجنون الهائج (أو بالأحرى المجنون «الغاضب»، والحانق على نفسه، مثل «هرقل الساخط») الهائم على وجهه شريدا، وحيدا. والأبطال المصابون بلوثة الجنون يتحدثون بلهجة عبثية، ويمزقون ملابسهم ويركضون «عراة، وهم يصرخون ويصيحون». وسلوكهم في الغالب يكون عنيفا كما جرى تصوير نوبات الجنون بطريقة «سريرية» للغاية: وهكذا نجد، في رواية «ملياسين»، سيلندا تقذف الحجارة، وتغطي نفسها بالطين، وتعض، وتخربش، وتسحب الناس من شعورهم، وتريد أن تقضم يد الطبيب ثم تريد قضم يديها. وفي مسرحية «لعبة المخبأ الشجري»، نرى مجنونا، وهو أحد «الدراويش»، ساخطا وهائجا، ينبح، ويقول إنه ضفدع ثم يقول في موضع آخر إنه ملك، ويدخل إلى إحدى الحانات صارخا: «إلى الخارج! النار! النار!» كما كان الأبطال يحلقون رءوسهم «حتى يظهروا بمظهر المتسكعين المستهترين والمخبولين» (إيبوميدون)، وهكذا، لم يعد الرأس الحليق علامة على التحضير لإجراء علاجي، وإنما كان بمنزلة وسم أو علامة على الذبول وفقدان الحيوية أو سمة مميزة، على شاكلة إكليل الرأس عند رجال الدين.
وتعد رواية «إيفان أو فارس الأسد»، التي كتبها كريتيان دي تروا في الفترة ما بين 1177 و1181، أكثر الروايات - ربما حتى أكثر من «تريستان» و«لانسلوت» و«برسيفال» التي اختبر أبطالها أيضا الجنون - تمثيلا لهذا الاتجاه الأدبي الذي شهد نجاحا ساحقا. كانت السيدات الجميلات والآنسات النبيلات (وبالطبع، بعض الشبان أيضا) قد تعبن من قعقعة السيوف وأصوات الحروب والأناشيد الملحمية. وهكذا، كان اللقاء بين العاطفة القاتلة والجنون مقدرا. فقد هجر إيفان لودين ليسعى وراء المجد. ولكنه لم يف بوعده بالرجوع في خلال عام، فمنعته زوجته من العودة إليها مرة أخرى. ومن ثم، أصيب إيفان بالجنون. و«لم يكن يكره شيئا بقدر كرهه لنفسه». وهرب إلى الغابة وعاش فيها «كرجل ممسوس هائج ومتوحش». كان يلتهم فرائسه نيئة. وقد تحدث كريتيان دي تروا في هذه الرواية عن «الحنق، والعواصف والأعاصير» (وليس بالإمكان استعراض كل هذا دون التفكير في مرض توهم الذئبية). ثم يختلط الخيال بما يشمله من سحر وأحداث خارقة للطبيعة بأحداث الرواية. فها هو إيفان ينقذ أسدا (ومن هنا جاء اسم الرواية) كان يصارع ثعبانا، ومنذ ذلك الحين، يصبح هذا الأسد ملازما له ويرافقه في جميع مغامراته. وهكذا لم يكن ينقصه شيء حتى ينشد الشفاء وقد ناله بالفعل؛ بفضل ناسك أشفق عليه وعامله بحنو حتى جعله في نهاية المطاف يقهر الخوف. ثم استعاد إيفان صحته عقب قضاء ليلة حضانة المرض. وبعد أن استعاد حب زوجته، تخلى نهائيا عن مغامراته.
خلاصة القول أن الحب الذي يصيب الإنسان بالجنون هو نفسه الذي يشفيه. وقد اختبر بطل الرواية الاثنين بسبب المرأة ذاتها، إنها تلك «السيدة» ذات المتطلبات والشروط التي تبدو قاسية في كثير من الأحيان ولكنها تهدف إلى «خدمة الحب». وذلك هو الدور الذي اضطلعت به لودين بالنسبة إلى إيفان، وإيدوان بالنسبة إلى أماداس، والملكة جونيفر بالنسبة إلى لانسلوت. وقد كان يحلو لمؤرخ الأدب العظيم جوستاف لانسون أن يكتب قائلا: إن تلك الحقبة تمثل بداية عهد المرأة، حتى وإن كانت هذه الفكرة المثالية لا تزال حلما بعيد المنال.
نعود من جديد إلى فرساننا الذين كانوا يركضون عراة في الغابات في حالة هياج، عندما تتملكهم نوبات الجنون. وقد تحدث العديد من المؤرخين بشكل متكرر عن الطبيعة الحيوانية والوحشية للمجنون. وبالإمكان الحديث أيضا عن العودة إلى البراءة بوصفها مرحلة أولية وعابرة في الطريق الطويل الذي يتعين على الإنسان أن يسلكه من أجل «خدمة الحب». يظل المجنون الهائم على وجهه عاريا؛ لأن أحدا لم يعطه ملابس، ويكون همجيا ومتوحشا؛ لأنه لا يجد مأوى، ويظل عنيفا؛ لأنه مضطر دوما إلى الدفاع عن نفسه وحمايتها من اضطهاد أصحاب العقول الرشيدة الذين يطاردونه بضراوة بمجرد أن يلمحوه. ترى، بالنظر إلى الرمز الذي يعود إلى القرون الوسطى والذي يصور لنا «مجنونا ممسكا بهراوة»، هل انقلبت الآية؟ وتزخر المؤلفات الأدبية في العصور الوسطى بهذه المطاردات القاسية. فنجد، على سبيل المثال، تريستان المجنون «كان الجميع يسخرون منه ويستهزئون به، ويقذفونه بالحجارة على رأسه». وكان يضرب ويقص شعره ويلطخ بالرماد من قبل الرعاة. وكان الناس يستقبلون المجنون عند دخوله المدينة أو القرية بصيحات الاستهزاء والسخرية وبالضرب المبرح. كان يتم إلقاء القمامة وإطلاق الكلاب عليه. وكان عامة الناس يتعاملون معه بمنتهى القسوة وكأنهم سعداء لعثورهم على شخص مسكين أكثر بؤسا وشقاء منهم. كما كانوا يظهرون نفورهم واشمئزازهم من أي شخص مختلف عنهم، وكان هذا هو السيناريو المتبع، على نحو مبتذل، لإثناء المجنون عن البقاء في هذه الأماكن ولإرغامه على الرحيل.
مجانين أجراء «أحيا» مجتمع العصور الوسطى الجنون ولكن على هيئة نمط المجنون الأجير أو المهرج (بيد أن هذه الكلمة لم تظهر إلا في القرن السادس عشر الميلادي). وقد ارتبط هؤلاء بالبلاط الملكي وأيضا بقصور الإقطاعيين ورجال الدين المسيحي، غير أنه في هذه الحالة الأخيرة، حرمت روما وجودهم من حيث المبدأ. وقد اعتاد الأمراء، في وقت مبكر للغاية، على أن يحيط بهم، إضافة إلى الحيوانات الأليفة، بعض الكائنات الكريهة مثل: الأقزام، أو الحدب، أو المجانين، وأحيانا كل هؤلاء في الوقت نفسه، وكانت وظيفتهم تقتضي إبهاج وتسلية رب البيت وضيوفه الجالسين إلى موائد طويلة في الشتاء.
ولكن، هل كان هؤلاء المهرجون مجانين حقا أم أنهم كانوا يكتفون بتصنع الجنون؟ بالطبع، كانوا مزيجا من الاثنين معا. وعلى أي حال ، فالنعوت التي وصفوا بها تنطبق على الفئتين، وهي: أحمق ، معتوه، مخبول (و «مجنون»
fol
في اللغة الفرنسية القديمة). إن المجنون الحقيقي الفاقد لرشده لا يمكن أن يضحك الناس لوقت طويل؛ ولذا كان لا بد لهؤلاء الأجراء أن يضيفوا قليلا من السخافة والحماقة حتى يصبح الدور مسبوكا. فما يهم هو إضحاك الناس. في القرون الأولى من العصور الوسطى، كان المهرج متعدد المهارات، فكان يقوم بالألعاب البهلوانية، وبالتمثيل الإيمائي، وبتقديم عروض بصحبة حيوانات مدربة. ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي، ظهر التخصص الذي ميز المهرجين عن لاعبي الخفة الذين كانوا يتنقلون من قصر إلى قصر لتقديم عروضهم، بينما يظل المجنون مقيما في بلاط معين. ذلك المهرج، أو البهلوان، المعروف عنه سرعة البديهة، والمشهور بقدرته على إلقاء نكات ودعابات والإتيان بأفعال مشينة أو التفوه بكلمات بذيئة، والثرثرة في الكلام عن أي شيء، لم يكن يثير بحق ضحك الملك أو السيد الإقطاعي إلا عند قيامه بالتهكم، وأحيانا بشكل قاس، على المدعوين. وتبلغ البهجة ذروتها حين يضيف إلى هذه الأفعال مواهبه في تقليد الآخرين. وكل الكلام الذي لا يجرؤ السيد الإقطاعي على قوله لأحد تابعيه وجها لوجه، كان يقوله لهم بنبرة دعابة. وبهذا الشكل لا يمكن لأحد أن يعيب على هذا الكلام، ألم يصدر عن مجنون؟ وفي وقت لاحق، بدءا من عصر النهضة، كان بعض المهرجين، المختفين وراء عرش الحاكم، يوقعون الرعب في نفوس الحاشية. وبالطبع، لم يكن المهرج - مما يدل على أنه ليس مجنونا تماما - يتحدث إلى الملك عن عيوبه بمثل هذه الصراحة المطلقة، حتى وإن كان يخاطبه بطريقة حميمة وغير رسمية، بل وفجة في بعض الأحيان. لكن ألم يكن كافيا بالنسبة إلى المجنون، مثل ذلك المخبول التابع للملك لير، أن يكون هو الوحيد القادر على التعامل مع الملك بمثل هذه الحميمية؟
ومن نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، أصبحت وظيفة مجنون البلاط، منصبا يتهافت عليه الجميع. وقد قام هنري الثاني، ملك إنجلترا، بمنح قطعة أرض للمهرج التابع له، المدعو روجيه المجنون. أما عن جيوم بيكولف ، وهو المجنون التابع لجون ملك إنجلترا أو ما يعرف ب «جون بلا أرض»، فقد ترقى إلى مرتبة النبلاء ومنح قطعة أرض إقطاعية قابلة للتوريث، شريطة أن يظل في خدمة الملك طوال حياته. وفي فرنسا، اعتبارا من عام 1316، أصبح تكليف المجنون وراثيا. وظلت طريقة تعيينهم أمرا غامضا.
2
ففي بعض الأحيان، كان الأمير يتبناهم إذا صادفهم في طريقه، وفي أحيان أخرى، كان يرسل في طلبهم من العائلات الموجود بها أفراد مجانين؛ مما تمخض عنه انتشار المجانين المحترفين أكثر من المجانين الحقيقيين المصابين بأمراض عقلية.
وتشهد مجموعة الصور والرسوم، وخاصة الزخارف والنقوش، التي تمثل القرون الأخيرة من العصور الوسطى؛ على إعطاء دور سياسي لمجنون البلاط. فنجد الملك والمجنون يظهران في هذه الرسوم وهما يقفان وجها لوجه، وطولهما متساو. يجلس الأول على عرشه، لابسا التاج وممسكا بالصولجان الملكي في يده. أما الثاني، فيبدو واقفا غير مرتب الهندام، أحيانا عاريا تماما، وحليق الرأس وممسكا هو الآخر بصولجان في يده؛ وهي الهراوة، التي أصبحت اعتبارا من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي بمنزلة هوس، وهي عبارة عن عصا ينتهي طرفها برأس مهرج مثير للسخرية مزينة بغطاء على شكل أذن حمار، وكان غطاء الرأس هذا هو نفسه الذي يرتديه مجنون البلاط ويضعه على رأسه. وهكذا، تتجسد المواجهة أو بالأحرى يتجسد الحوار بين رمزية النظام والاتزان من جهة، ورمزية الفوضى والإفراط من جهة أخرى. أحيانا، نجد الملك يرفع إصبعا علامة على الورع والتهذيب. وقد كان إضفاء طابع الغموض مقصودا في هذه الصور الممثلة للجنون. ترى من هو صاحب النفوذ الأقوى؟ العقل أم الجنون؟
عيد المجانين
صورة أخرى من صور إعادة إحياء الجنون تتمثل في احتفالات المجانين، وهي طقوس حقيقية تأسست في القرون الأولى من العصور الوسطى، متوارثة عن أعياد الإله ساتورن التي كانت تقام في الحقبة الرومانية وكان يحل فيها العبيد محل السادة. كانت هذه الطقوس - التي يجري فيها تبادل الأماكن وتختلف مراسمها من مقاطعة إلى أخرى - تسمح للجميع بأن يفرجوا عن أنفسهم ويطلقوا لانفعالاتهم المكبوتة العنان، كما كانت تبيح لهم ممارسة الفسق والمجون في الفترة ما بين السابع عشر والثالث والعشرين من شهر ديسمبر. يبدأ الاحتفال بقيام الكتبة وبعض أعضاء الإكليروس بانتخاب «رئيس طائفة المجانين»، ويجرى تنصيبه وسط أجواء من الألحان الساخرة، وذلك قبل أن تشيعه الجماهير بفرح إلى «منزله» حيث يقام احتفال هناك، يشرب فيه الحاضرون الخمور بكثرة وينشدون مزامير هزلية. ثم يختار واحد من بين الجموع لينصب «أسقف المجانين»، وأحيانا كان يلقب ب «بطريرك المجانين». وسعيد الحظ الذي يقع عليه الاختيار، كان يرافقه رجل دين متنكر على نحو ساخر حتى يوصله إلى باب منزله. وكان يجري توصيله إما راكبا على فرس أو برميل خشبي، وإما جاثما على ظهر حمار مرتديا تاجا أسقفيا. وطوال مسيرة هذا الموكب، كانت تتعالى صيحات المباركة والتهليل ويراق الخمر. وكان هذا الاحتفال، المقصور في أغلب الأحيان على المدن الكبرى، يبلغ أوجه في الكاتدرائية أو في المجمع الكنسي؛ حيث كانت تجرى محاكاة ساخرة لطقوس الخدمة الكنسية أو صلاة القداس. وكان الحاضرون يأكلون لحم خنزير على المذبح أو يقومون بلعب النرد. وكان يتم حرق النعال البالية في المباخر القديمة، وشرب الخمر في حقة القربان المقدس. وكانوا يطوفون بهذا الموكب في جميع أرجاء وشوارع المدينة وهم يطلقون دعابات ماجنة وفاسقة وسط مناخ عام من النشوة والسكر.
وبالطبع، نستطيع أن ندرك أن الكنيسة قد سعت جاهدة لمحاربة هذه الأفعال الماجنة. في عام 1451، أصدر مجلس كنيسة إفرو تحذيرا نص على ما يلي: «سنعاقب بالحرمان الكنسي أي شخص من القساوسة أو رجال الدين التابعين لنا في حالة قيامه بالإتيان بأي تصرفات غير مقبولة في كنيستنا؛ من قبيل إطلاق الدعابات والتكلم بسفاهة أو بوقاحة وممارسة ألعاب غير شريفة.» ورغم ذلك تكررت هذه المحظورات. وعلى نحو ما، كانت هذه الفوضى التي تسود خلال بضعة أيام، وربما يوم واحد، بمنزلة ضمانة لإحلال النظام والاستقرار خلال بقية العام. وتظل الانتهاكات تتخذ مظهرا احتفاليا حتى في شططها.
صور رمزية
إن الجنون الذي أعادت المسيحية إحياءه في القرون الوسطى، هو الجنون بصورته الاستعارية، وليس الجنون بمعناه الفلسفي والأخلاقي؛ أي جنون العالم. وقد برز هذا الجنون على وجه الخصوص في كتاب «سفينة الحمقى» لمؤلفه سباستيان برانت (نشر للمرة الأولى في مدينة بازل، في عام 1494). وقد كتب هذا المؤلف في الأصل باللغة الشعبية ثم سرعان ما ترجم إلى اللاتينية (ولم تكن هذه هي العادة في ذلك الزمن). رأى برانت، باعتباره عالما إنسانيا مسيحيا، أن قراءة الكتاب المقدس لا تعالج البشر من رذائلهم ولا تصحح نقائصهم؛ ولذلك قدم في هذا الكتاب نصوصا هجائية عن البشر على هيئة أبيات شعرية بلغ عددها سبعة آلاف بيت. العالم مجنون وسريع الزوال بالنظر إلى المنحوتات الخشبية العديدة التي صورت «السفينة»، والتي أسهمت في نجاح هذا الكتاب (حتى وإن كان من المؤكد اليوم أن هذه المنحوتات ليست من أعمال دورر)، نجد أن إحداها تعطينا المفتاح لما سيحدث في اليوم الأخير على النحو التالي: بينما يقوم القديس بطرس في المقدمة باجتذاب سفينة مملوءة بالمؤمنين المختارين نحو البر، يجلس المسيح الدجال، المستلهم من الوحش المذكور في سفر الرؤيا، على عرش مقام على سفينة محطمة ومقلوبة، صاريها في الماء، ويحيط بها مجانين يغرقون في حين يسعى آخرون جاهدين للوصول إليها. وقد حقق هذا العمل الأدبي لبرانت نجاحا ساحقا. ويعد هذا الكتاب، الذي جرت ترجمته واستكماله وتقليده، والذي استلهم منه الدعاة في مواعظهم، بمنزلة كتاب رئيس في الأدب الأوروبي في بداية العصر الحديث.
ويتكرر الموضوع نفسه لدى توماس مورنر عندما اقتبس الفكرة في كتابه «طرد الأرواح الشريرة من المجانين»، الذي تم تأليفه سنة 1512. ويؤكد توماس مورنر في هذا الكتاب، وبشكل أكثر وضوحا من برانت، على هوية الجنون والخطية. كما نجد الموضوع عينه في كتاب «انتصار الجنون»، الذي تم تأليفه في بداية القرن السادس عشر الميلادي. وعلى الرغم من أن الرسوم التوضيحية الواردة بهذا الكتاب تبدو أكثر فجاجة وأقل عددا من تلك الواردة في كتاب «السفينة»، فإنها لا تقل عنها بلاغة وتأثيرا. فنجد المجانين، بلباسهم التقليدي، يقودون العالم منذ بدايات الأزمنة: «مع حواء، أم كل البشر.» وفينوس ، بعد حواء، لم يكن لها دور قيادي قوي. وكانت تجلس على مركبة تقودها حيوانات شيطانية على هيئة تيوس، وكانت هذه الكائنات تقول: «عربة نقل الشهوة، لإرضاء الحمقى والسفهاء.» ومن جانبها، كانت فينوس تصدر الأوامر، فتقول عن نفسها: «دعيت إلهة السفهاء؛ لأنني أدعو إلى الفسق وشهوات الحب.»
وتتجلى مقاربة معبرة إلى حد كبير من خلال كتيب ظهر في عام 1539م بعنوان «انتصار السيد العظيم والقوي: الزهري»، ويعد بمنزلة طباق حقيقي لكتاب «انتصار الجنون». وفي عام 1495، انتشر مرض مخيف وجديد في أوروبا. إنه مرض «الزهري»
3
الذي ظهر، إذا جاز لنا التعبير، في الوقت المناسب. وقد ألف الفارس أولريخ فان هيوتن، بعد إصابته هو نفسه بالزهري، كتابا عن هذا المرض في عام 1519؛ حيث نفث عن غضبه الشديد في صورة لعنات قائلا: «يتلذذ الله بإرسال هذا المرض إلى عصرنا بينما لم يعرفه قط أجدادنا. ويقول أولئك الذين يتحصنون بالكتاب المقدس: إن الزهري ناجم عن الغضب الإلهي.»
في الرسوم الواردة بكتاب «انتصار الزهري»، نجد المجانين ماثلين، ويجرون المركبة التي يستقلها السيد الجديد لرومانسيات البلاط: «الزهري»، وذلك على شاكلة «سيد الجنون». وكما أن الحب يحكمه الزهري، فالعالم يحكمه الجنون. ونجد أن الصور الاستعارية والرمزية، التي كانت منتشرة في ذلك الزمن، والتي تشير دائما إلى الموت والتعفن والانحلال، حتى ولو كانت تزينها ألوان الشهوة المبهجة على وجه الخصوص؛ قد استعانت بدورها بصورة الجنون. وهكذا، في عام 1540، صور لنا الفنان الماهر بيهام، والذي يضارع دورر في براعته، «مجنونا» مرتديا غطاء الرأس التقليدي المزين بجلاجل على شكل أذن حمار، وهو ينحني أمام امرأة ليقدم لها زهورا. في العام التالي، في إعادة تمثيل للفكرة نفسها، قدم لنا الفنان المشهد عينه ولكن مع بعض التعديلات البسيطة بحيث بدا المجنون مقطب الوجه، يرتسم على ملامحه تعبير الموت؛ وبدلا من الزهور، تلقت السيدة الجميلة ساعة رملية، وهي صورة تحمل رسالة ذات مغزى مزدوج: أن الجنون والموت وجهان لعملة واحدة، وأن الوقت يدمر كل شيء ما عدا الجنون.
في سياق أقل قتامة وكآبة، كتب إراسموس مؤلفا بعنوان «مديح الحماقة» ظهر عام 1511. وقد شرح إراسموس منهجه الفكري المتبع في إهدائه الموجه إلى توماس مور في مقدمة الكتاب كما يلي: «أردنا أن نرسمها [الرذيلة] بأسلوب مضحك وليس بأسلوب بشع وكريه.» مثلما حدث مع كتاب «السفينة»، يرجع جزء كبير من الفضل في نجاح ذلك الكتاب إلى الرسوم التوضيحية التي قدمها الفنان هولباين الصغير في بداية مسيرته المهنية. بيد أن إراسموس يبقى كما هو. فيصور الجنون، الذي يتخذ صورة امرأة (إلهة في الواقع) وهو يصعد على المنبر ليخاطب الإنسانية. ثم تشير هذه المرأة في خطابها المهيب إلى جنون الآلهة، وجنون البشر، دون أن تغفل النساء اللائي يتمثل جنونهن الأعظم في سعيهن إلى نيل إعجاب الرجال. وقد استهدف الكاتب من خلال كتابه رجال الدين والكنيسة بصفة عامة قائلا: «تأسست الكنيسة على الدم، وترسخت بالدم، وكبرت بالدم.» كما انتقد بحس ساخر الممارسات الخرافية، ومن بينها رحلات الحج العلاجي. وعد في مرتبة المجانين كلا من علماء اللاهوت واليسوعيين، ولا سيما الفلاسفة الذين يعتبرون في نظره الأكثر جنونا لادعائهم الحكمة. خلاصة القول: الجنون هو سمة الإنسانية، و«كلما زاد حيز الجنون عند الإنسان، كان سعيدا.»
ولكن، بصفة عامة، كان موضوع السوداوية أو الكآبة هو الذي ألهم فناني النهضة أكثر من موضوع الجنون. نذكر، على سبيل المثال، لوحة آلبرخت دورر الشهيرة «السوداء»، وهي عبارة عن لوحة منحوتة على قطعة نحاس، وقد أنجزها الفنان في سنة 1514، بالإضافة إلى لوحة الفنان كراناش الأكبر، ويوجد كثير من أوجه التشابه بين اللوحتين. يتجلى في هذين العملين الفنيين، ملاك خنثوي، كئيب وصامت، يبدو على ملامحه الإلهام والتفكير في إتمام عمل ما. إنها سوداوية أرسطو التي تعانقها العبقرية.
الفصل الرابع
جنون ودين
إذا لم يكن باستطاعة الجنون والأخلاق أن يجدا نقطة التقاء المجتمع المسيحي في القرون الوسطى، فماذا نقول إذن عن الجنون والدين؟ والمقصود هنا الدين ببعده الإسكاتولوجي [أي في سياق علم الأخرويات الذي يهتم بدراسة كل ما يتعلق بالآخرة والإنسان]. في أواخر العصور الوسطى، بعد مرور عدة أعوام من الألفية الأولى للميلاد، استحوذ القلق على عقول ونفوس البشر بشأن نهاية الأزمنة، من جراء ما حاق بهم من مصائب وكوارث، مثل؛ تلف المحاصيل، والمجاعات، والحروب، والأوبئة، وكذلك ضعف نفوذ الباباوات. ترسخ وسواس الخوف من الموت في قلب مجتمع قلق ومضطرب وحائر. وأثر ذلك الهاجس بشكل عميق على طابع التدين والتقوى الذي استنكر اضطرابات العالم. في فن الرسم، ازدهرت اللوحات التي تصور رقصة الموت؛ حيث تسحق عربة الموتى بلا شفقة ولا رحمة العظماء والمتواضعين على حد سواء. لم يبق أمام الإنسان إلا أن يتواضع كليا أمام الله، كما تحثه على ذلك المؤلفات الداعية للتقوى والورع والروحانية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال، نقرأ في أحد تلك المؤلفات، في كتاب عنوانه «الاقتداء بالسيد المسيح» العبارات التالية: «فقد كثيرون تقواهم برغبتهم في كشف أسرار تفوق قدراتهم العقلية وذكائهم. فما هو مطلوب منك أيها الإنسان هو الإيمان والسلوك بطهارة ونقاء في الحياة، وليس التعمق في الفكر وسبر أغوار الأسرار الإلهية.»
الجنون والخطيئة
إذا كان المجنون، في الكتاب المقدس، كائنا ضعيفا بين الضعفاء ومحبوبا من الله بشكل تلقائي وبديهي، فإنه يبدو الأكثر بعدا عنه: (قال الجاهل في قلبه ليس إله)، لدرجة أنه استحق اللعنة التي ذكرت في مستهل المزمور الثاني والخمسين من العهد القديم. يعد سفر المزامير هو الكتاب الأكثر قراءة في القرون الوسطى، وهو الكتاب الذي حظي بأكبر قدر من التعليقات والشروح والتفاسير والإيضاحات. كيف يمكن القول إن «الكائن لا يكون»؟ وحده الأحمق هو من يستطيع تأكيد مثل هذه الأكذوبة. غير أن مفهوم المجنون، أو الشخص غير الحكيم، بدأ يتخذ من وقتها معنى أكثر عمومية وشمولية. فأصبحت صفة الأخرق، أو المختل عقليا، الذي ينكر المسيح تطلق على الملحد أو اليهودي (في القرن الثالث عشر الميلادي). ولكن بالنظر إلى ما هو أبعد من ذلك، في سياق العقيدة المسيحية المترسخة، نجد أن المجنون، هو الإنسان الذي يحيا حياة التجديف والخطيئة، وذلك إحياء لمفهوم المختل عقليا عند العبرانيين؛ ومن ثم، سرعان ما يصبح مضيفا مميزا للشيطان. لم يكن من الممكن بالنسبة إلى مجتمع مسيحي مماثل ألا يعيد طرح تلك المعادلة العزيزة لدى ديانة العبرانيين والعهد القديم، والتي مفادها أن الخطيئة حماقة؛ والحماقة خطيئة.
لقد برز ذلك الربط بين الجنون والخطيئة في العصور الوسطى بشكل واضح وتجسد من خلال مثل العذارى الجاهلات والعذارى الحكيمات اللائي زينت تماثيلهن المنحوتة العديد من البوابات، وتيجان الأعمدة، ولوحات الجبهة والأقواس المعقودة بالكاتدرائيات. وقد وردت هذه القصة الرمزية في إنجيل القديس متى على النحو التالي: «حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى، أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس.» العذارى الخمس الحكيمات (أي الحذرات، الفطنات) فكرن في أن يأخذن معهن زيتا في آنيتهن مع مصابيحهن. أما العذارى الخمس الجاهلات (أي الحمقاوات)، فلم يأخذن معهن زيتا. وفي منتصف الليل، عندما جاء العريس (المسيح)، وخرجت جميع العذارى للقائه، تنبهت العذارى الجاهلات فجأة أنه ليس معهن زيت لمصابيحهن، أما العذارى الخمس الحكيمات فقد تمكن وحدهن من الدخول إلى قاعة العرس، وأغلق الباب. وحينما جاءت أخيرا العذارى الجاهلات بعد أن أضأن مصابيحهن، رجون السيد أن يفتح لهن الباب، ولكنه أجابهن قائلا: «الحق أقول لكن: إني ما أعرفكن!» وانتهى المثل بتحذير متى الرسول لنا جميعا قائلا: «فاسهروا إذن لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان.»
إن التأصل التوراتي لإنجيل متى يظهر بوضوح في موضوع ذاك العرس. فقد شبه الأنبياء أيضا الله بالعريس الوفي لشعبه من بني إسرائيل. وشبه يسوع، الملتزم بهذا التقليد، ملكوت السماوات بعرس دعي إليه الجميع ولكن لم يدخله إلا المستعدون فقط. نجد، في مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، ما هو أبعد من التشدد الواضح في إنجيل متى؛ حيث تتجلى في هذا المثل صرامة العهد القديم وقسوته. فالسيد هنا ليس الحب ولا المغفرة. ويا لسوء حظ العذارى الجاهلات! فرفيقاتهن بالأمس؛ أي العذارى الحكيمات، لم يكن أكثر تعاطفا معهن، بل قلن لهن: «لقد أطلتن النوم!» يضاف إلى هذا أن الرؤية السائدة في القرون الوسطى كانت تبعث على التشاؤم. فالعذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات يجسدن ما سيحدث في يوم الدينونة الأخير؛ حيث سيتم التمييز في الحياة الأبدية بين الأبرار المختارين والملاعين الهالكين. في الركنين الأسفلين من القوس الأمامي لكاتدرائية سان دوني، نجد تمثالين، أحدهما لعذراء حكيمة والآخر لعذراء جاهلة. تقف الأولى على باب الفردوس، بينما تتأهب الثانية للدخول إلى الجحيم.
مجانين في حب الله
إضافة إلى جنون الخطيئة الذي ذكرناه سالفا، البعيد كل البعد عن المحبة المثالية الواردة في الإنجيل، نجد على النقيض الجنون الصوفي الذي يجسد الحب في أجلى صوره. «السلوك بزهد واتباع المسيح الزاهد»، هذا هو ما أوصى به القديس جيروم في أوائل القرون الوسطى. وهكذا نشأ مذهب مجانين في حب الله، وهم أولئك الذين يعيشون كنساك في الغابات، مجردين من كل شيء. ولم يكن هذا الشكل المتطرف من أشكال التدين يلقى بالضرورة استحسانا لدى مختلف الرتب الكنسية. في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، خاطب أسقف مدينة رين الفرنسية روبير داربريسل، مؤسس دير فونتيفرو بأسلوب غير ودي يخلو من التهذيب واللباقة معلقا على هيئته: «ثوب رث وحقير يستر جسدا كشطته المسوح، قلنسوة مثقوبة، ساقان نصف عاريتين، لحية شعثاء [...] (ثم يقول له) أنت تتقدم حافي القدمين وسط الحشود وتقدم عرضا مذهلا للحضور. بل يمكن القول إنه ينقصك فقط الإمساك بهراوة لتبدو كواحد من المجانين [المختلين].»
1
أصبح هذا الجنون المقدس موضوعا رائجا في أدب القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كما ازدهر بشكل عام لدرجة أن الغابات امتلأت بفرسان مجانين هائجين وعراة.
النهضة الروحية والإصلاح الديني على مستوى الإكليروس كانا كلاهما مستوحيين من جنون الصليب. يؤكد القديس برنارد، وهو أول رئيس لدير كليرفو (وقد ترهب في القرن الثاني عشر الميلادي): إن «المقياس الوحيد للحب هو أن تحب دون حدود» (من محبة الله). أما جيوم دو سان تييري، الذي كان ينتمي أيضا لطائفة السيسترسيين، وعاش في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، فيشدد على الطابع «الرائع» لجنون الصليب قائلا: إن «فطنة الراهب المبتدئ تكمن في وجوب أن يصبح أحمق وجاهلا في كل شيء من أجل المسيح.»
2
في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، أكد القديس فرنسيس الأسيزي الكلام نفسه حين قال: «الرب قال لي إنه يريد أن يجعل مني مجنونا جديدا في العالم، والله لا يريد أن يقودني بغير هذه الطريقة.»
3
واختصارا للقول وبعيدا عن هؤلاء القديسين المشاهير، كان أولئك المجانين في حب الله ممن يسيرون أيضا على دروب المرض. وكانت العصور الوسطى مليئة بالفعل بالعديد من أشباه المسيح والأنبياء الكذبة، والمجانين في حب الله ولكنهم بالأخص مجانين حقيقيون، وكان أولئك يتنقلون من مدينة إلى مدينة، ومن دير إلى دير، يعظون ويبشرون، ويشجبون تجاوزات رجال الدين، وينذرون بنهاية الأزمنة. في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، ذكر برنارد دي جوردون، وهو واحد من أبرز المعلمين بمدرسة مونبلييه، أنه من بين «الملايين» المصابين بالسوداوية، «هناك أولئك الذين يعتقدون أنهم أنبياء أو أشخاص موحى إليهم من الروح القدس، ومن ثم يقومون بالوعظ عن حال العالم في المستقبل أو عن مجيء المسيح الدجال.»
كيف كان يجري استقبال هؤلاء المبشرين الأخرويين؟ لم تكن هناك قاعدة ثابتة. فقد كانوا يستفيدون مبدئيا من الرأي الإيجابي المسبق حيالهم، ولكن أولئك الذين ذاعت شهرتهم (كما هو شأن البعض) كان ينبغي لهم الاحتراس من الوقوع في البدع والهرطقات، مثلما حدث مع ذلك المدعو إيودس دي ليتوال، في القرن الثاني عشر الميلادي، الذي زعم أنه ابن الله؛ ولذا قام مجمع رانس في نهاية المطاف بإصدار أمر بإلقائه في السجن حيث توفي بعد اعتقاله بفترة وجيزة، بينما أرسل أتباعه الرئيسون إلى المحرقة.
4
وعلى الرغم من قيامه بإظهار عصا مشقوقة وعرضها أمام الأساقفة زاعما، بنبرة شديدة الجدية، أن أحد طرفيها يسند السماء بينما الطرف الآخر يسند الأرض، فإن أحدا لم يستخلص من ذلك إصابته بالجنون. فلم يرد أحد إلا رؤية جريمة التدنيس وانتهاك حرمة المقدسات.
الجنون والشيطان
يعد الجدل بشأن الجنون وعلاقته بالشيطان قديما. فنجده قائما بالفعل في الطب البابلي أو المصري (حيث لا يوجد، عدا ذلك، أي جدال)، كما أن باب النقاش، بطريقة أو بأخرى، ليس مغلقا تماما اليوم، ليس في كل مكان على أي حال. بالرغم من الاعتقادات الشائعة ، لم يظهر الشيطان بقوة في الجنون إلا في أواخر العصور الوسطى، ليبلغ الأمر ذروته في القرن السادس عشر والنصف الأول من القرن السابع عشر. بيد أن كل شيء يتوقف على معرفة ما هو المقصود بالشيطان وما نعنيه بالربط بينه وبين الجنون.
يميز جالينوس، «الملقب بأبقراط القرون الوسطى»، في تعليق له على أفلاطون، بين الاضطرابات [العقلية] الناجمة عن أسباب «طبيعية» وبين تلك التي تنشأ من أسباب أخرى على النحو التالي: «عندما يعتقد المرء أنه يرى ما لا يراه غيره، ويسمع أصواتا لا ينطق بها، وحينما يقول أشياء مخزية، أو يتلفظ بكلام يدل على الكفر والإلحاد أو على الجنون التام؛ فإن ذلك يعد دليلا، ليس على فقدان الروح لقواها الطبيعية فحسب، وإنما على دخول شيء إليها مناف لطبيعتها.» ويتساءل إيتيان تريا، في كتابه الرائع «تاريخ الهستيريا»،
5
عن ماهية ذلك الشيء المخالف لطبيعة الروح: «ألم يكن جالينوس، ذلك المؤمن بإله واحد، على استعداد لإدخال النفوذ المضاد للشيطان في أمراض الروح؟» دون الذهاب إلى القول بأن جالينوس ربما يعد رائد علم دراسة الشياطين، وهي فرضية مثيرة للاهتمام.
أما القديس توما الأكويني، فقد أعلنها صراحة قائلا: «إن الشيطان يستطيع إيقاف استخدام العقل تماما وذلك بالتشويش على الخيال والشهوة الحسية، كما يتجلى ذلك لدى المصابين بمس شيطاني.» وهنا يبرز سؤال يطرح نفسه: ما الذي ينبغي أن نفهمه من ذلك التعبير الأخير؟ هناك طرق عديدة يمكن للإنسان أن يكون من خلالها ضحية للشيطان، أو بالأحرى لعدد لا يحصى من الشياطين المساعدين، فقليلون للغاية هم أولئك الذين ينالون شرف أن يخاطبهم شخصيا إبليس بذاته. هناك شياطين سادية وشهوانية، تدعى الجاثوم أو الحضون (كلمة مشتقة من الأصل اللاتيني
incubus
وتعني الكابوس)، وهي أرواح شريرة أو شياطين تهاجم الفتيات الجميلات في الليل وتغتصبهن في أثناء نومهن، خاصة إن كانت هؤلاء الفتيات قد نذرن العفة. وتوجد أيضا، ولكن بأعداد أقل، شياطين أنثوية تدعى السقوبة (وتعني وفقا للأصل الاشتقاقي للكلمة: «الاستلقاء تحت») وهي تهاجم الرجال. بيد أن الممسوس «الحقيقي» هو الذي يكون له وحده شيطان معين يستحوذ عليه ويتملكه بشكل كامل، فيدخل هذا الشيطان في الجسم ويزعم أنه لن يخرج منه أبدا، ويتسبب في إصابة ضحيته بمس جنوني يجعلها ترتكب آلاف الحماقات.
ومع ذلك، تعد لفظة «ممسوس» تعبيرا مبهما، كما هي الحال بالنسبة إلى لفظة «شيطاني» التي كانت، في العصور الوسطى، مرادفا لكلمة «أحمق أو مخبول». بل إن المعجم الطبي نفسه يستبدل أحيانا بكلمة «هوس» كلمة «شيطان» أو «روح شريرة». وكان يجري اقتياد المصابين بمس شيطاني إلى الأديرة للحج. وبالطبع، لا تخلو قصص معجزات الشفاء من ذكر، بل وتسليط الضوء على حالات المس الشيطاني التي كان يعاني منها أولئك الذين يتم اصطحابهم للحج. فها هي أودلين، تلك الفتاة التي أحضرها والداها على نقالة إلى ضريح القديس جيبريان. ولقد تضرع هذان الأبوان إلى الله وتوسلا إلى القديس بحرارة لدرجة أن «الشيطان أطاع وبسرعة خاطفة، خرج من [الفتاة].» امرأة شابة أخرى تم اقتيادها إلى كنيسة القديس إيجولف: «وفي اليوم الثالث، حررها الشهيد العظيم من قبضة الشيطان وأعاد إليها رشدها الذي كانت قد فقدته.» وهناك أيضا بيير دي فولينيو، ذلك المجنون الهائج، الذي كان عليه أكثر من شيطان في آن واحد. وحينما نقل إلى ضريح القديس فرنسيس الأسيزي، تركته الشياطين عند أول تلامس مع القبر.
6
إن مجموعة الصور والرسوم والأيقونات التي ترجع إلى القرون الوسطى مليئة بتلك المشاهد الباعثة على التقوى التي تصور إنسانا مصابا بمس شيطاني، مكبلا بالسلاسل، أشعث الشعر وغير منسق الهيئة، ثائرا وهائجا بشكل واضح، وهو يلفظ شيطانه ويطرده عن طريق الفم. نجد على أحد النقوش التي ترجع إلى أوائل القرن السادس عشر الميلادي صورة للقديسة رادجوند، ملكة الفرنجة في القرن السادس ومؤسسة دير سانت كروا (أي الصليب المقدس) الذي يقع بالقرب من بواتييه، وهي تخرج شيطانا من جسد فتاة شابة ممسوسة. وتظهر الفتاة في هذا النقش موثقة إلى أحد الأعمدة ولا يكاد يستر جسدها شيء. كما يظهر على أحد الأختام، الذي يرجع إلى القرن الرابع عشر، ويخص دير القديس تيبيري، الواقع بالقرب من بلدية أجد الفرنسية، نقشا يصور القديس جاثيا، وأمامه إنسان ممسوس يخرج من فمه شيطان. وفي بعض الأحيان، نجد المسيح هو الذي يتدخل بنفسه مباشرة.
على الرغم من ذلك، يبدو أن هذه الفكرة المهيمنة ظلت سائدة لوقت طويل (في الواقع طوال القرون الوسطى تقريبا) سواء بشكل رسمي أو مجازي، وكائنة جنبا إلى جنب مع الجنون المرضي الذي يختص به الأطباء، بل إنها كانت في بعض الأحيان تحل محله. فلم يعد هناك اعتقاد في الشفاء الطبي وإنما في معجزات الشفاء. منذ ذلك الحين، لم تعد الحرب التي يخوضها الله وقديسوه من صانعي المعجزات موجهة ضد مرض جسدي («جسدي» من وجهة النظر الطبية السائدة في القرون الوسطى)، وإنما ضد الشر الأبدي، متجسدا في الشيطان أو إبليس بذاته. في نهاية المطاف، نجد أن التسلسل المنطقي يفرض نفسه، فالمجنون المنفصل تماما عن الله، والذي يعد نموذجا مناقضا للتقوى والورع والحكمة (بالطبع، جنون الصليب بعيد كل البعد عما نقول)؛ يقود إلى المجنون الذي يصير غلافه الجسدي، الشاغر نوعا ما، مسكنا للشيطان.
لقد كنا حتى الآن بصدد الحديث عن المعتقدات الشعبية التي تتصف بالتسامح إلى حد بعيد، والتي ظلت على هذه الحال إلى أن تغير المشهد المجتمعي والديني في القرون الأخيرة من العصور الوسطى. وقد سنحت لنا الفرصة بالفعل للإشارة إلى ذلك الشعور بالقلق والخوف من نهاية الأزمنة الذي تملك هذه الحضارة، بيد أنه لا بد من التركيز بشكل أكبر على تزايد البدع والهرطقات التي أضحت مكونا رئيسا، لا يستهان به، في تلك الحضارة. وبالطبع، سادت هذه البدع والهرطقات طيلة القرون الوسطى. غير أن بدعة الكاثاريون أدت، في عام 1231، إلى إنشاء محاكم استثنائية، وهي محاكم التفتيش. ولكن هذا لم يمنع المؤمنين بالحكم الألفي، ومواكب حركة المتسوطين، والمذاهب المتعددة، وأولئك المجانين في حب الله؛ من التبشير بقرب نهاية الأزمنة، ولم يحل دون قيام أكثريتهم بشن هجوم عنيف على الكنيسة. وقد أبدت محاكم التفتيش ردود أفعال على قدر هذه الأحداث. ففي عام 1372 على سبيل المثال، حكم على بعض الهراطقة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «أخوية الروح الحرة» بالصعود إلى المحرقة؛ لأنهم رفضوا وأنكروا وساطة الكنيسة. وأخيرا، فإن الانشقاق الغربي الكبير الذي دام من عام 1378 إلى عام 1417، وحرم خلاله اثنان من الباباوات أحدهما الآخر، ثم ما نتج عن ذلك من انعقاد مجامع دينية متعددة، علاوة على ظهور بدع وهرطقات جديدة ذات طابع وطني وثوري، كل هذه العوامل ألقت بظلالها على العقول وأثارت بلبلة في الضمائر.
لم يكن من المستغرب، في مثل هذا المناخ، أن يقوى نفوذ الشيطان وأن تشتعل المحارق في جميع أنحاء أوروبا. فالهرطقة والشعوذة تسيران على خطى واحدة. ازدهر علم دراسة الشياطين مع ظهور (مطرقة الساحرات)، الذي نشر في عام 1486، على أثر مرسوم بابوي يأمر بالكشف عن الساحرات؛ لأن النساء هن المعنيات بالطبع. ففي المحاكمات المتعلقة بالسحر والشعوذة، التي تضاعفت منذ ذلك الحين واستمرت حتى منتصف القرن السابع عشر، نجد مقابل كل أربع نساء رجلا واحدا. إن «وباء السحر» ذاك، الذي كان سيدوم لمدة 150 عاما، لم ينشأ، وفقا لآر إتش روبنز،
7
عن ظاهرة فولكلورية (بالمعنى الاشتقاقي لكلمة «فولكلور»؛ أي «علم الشعوب»)، وإنما نشأ عن هرطقة مسيحية حقيقية انبثقت من جديد عن الوثنية القديمة.
في سياق هذه الهستيريا الجماعية، لم يبق أمام النظرية الشيطانية للجنون، التي كانت قائمة بالفعل ولكن لم تكن قد بزغت بعد، إلا أن تتبلور وتبدأ في جذب الانتباه. وقد عارض جاك ديبار - الذي توفي عام 1458، وكان يدرس الطب في باريس - مماثلة الجنون بالشيطان، قائلا: «من الشائع لدى العامة وبعض علماء اللاهوت القول بأن المصابين بالسوداوية أو بالهوس لديهم شيطان يسكن الجسد، وهو ما يصدقه المرضى في أغلب الأحيان ويجاهرون به. أولئك الذين يؤمنون بهذه الأفكار المبتذلة لا يسعون، من أجل علاج مرضهم، للحصول على مساعدة من قبل الأطباء، وإنما يطلبون عون القديسين المعروف عنهم أن الله قد منحهم القدرة على طرد وإخراج الشياطين.» فضلا عن ذلك، أدان ديبار موضة اللجوء إلى التنجيم التي استفحلت في المجتمع، لدرجة أنها أصبحت منذ ذلك الحين تؤثر بشكل عميق على تشخيصات وتقديرات الأطباء فيما يتعلق بمدى خطورة أو حدة المرض وتطوراته واحتمالات الشفاء.
أما الراهب الدومينيكاني الألماني يوهانس نيدر، فقد اكتفى في كتابه «عش النمل»، الذي نشر في عام 1475، بطرح إشكالية الموضوع، وذلك عن طريق قيامه، في مؤلفه، بخلق حوار بين عالم لاهوت وخصم له؛ حيث يتناولان في نقاشهما أعمال السحر والتعاويذ المؤذية والخرافات، فيجتهد أحدهما لتفسير كل شيء وفقا لأسباب طبيعية، أما الآخر فينبري في تفسير هذه الأمور وفقا لتدخلات شيطانية. وسواء أكان ذلك الأمر مرده اعتقاد أم واقع، قد يحدث المس الشيطاني نتيجة «تهيؤ سوداوي». وهكذا بلغت الحظوة التي نالها مصطلح «السوداوية» في العصور الوسطى، لدى علماء اللاهوت والأطباء على حد سواء؛ أوجها. وربما يكون هناك ثمة ألفة معينة بين السوداوية والشيطان. هذا التآلف لا يتعلق بالمجانين المصابين بالسوداوية فحسب، وإنما يشمل أيضا الطبائع التي تلونت بنفس هذا المزاج. يعطي أمبرواز باريه وصفا مطولا للشخص المصاب بالسوداوية على النحو التالي: «لديه وجه أسمر أو ضارب إلى السواد، ونظرة متقلبة، شرس وزائغ وشارد الذهن، حزين، كئيب ومتجهم [...] أولئك الأشخاص الذين يعانون من السوداوية، تكون أجسامهم باردة وقاسية وخشنة الملمس، وتنتابهم أضغاث أحلام مروعة وأفكار رهيبة عند النوم؛ إذ يرون في بعض الأحيان شياطين، أو ثعابين، أو قصورا مظلمة، أو قبورا وجثثا وأشياء أخرى مماثلة.»
8
فكيف لا يعشش الشيطان داخل إنسان يشبهه بالفعل؟ «وفقا لما كتبه جون تاكسيل، إن الأجساد التي يتملكها الشيطان داخليا تعاني من الكآبة والسوداوية؛ لأن هذا المزاج هو المستقر الحقيقي الذي يسعد فيه الشيطان ويجد به لذته، ومن خلاله يحدث آثارا شديدة الغرابة.»
9
وبطبيعة الحال، وخلافا لفرضية راسخة، ليس ثمة تشابه، وفقا للمنظور الجدلي للمحققين في محاكم التفتيش، بين الشعوذة والجنون؛ فهذا يتطلب أن يكون الأحمق قد عقد اتفاق تحالف مع إبليس، وهو ما يعد، من وجهة نظر محقق محكمة التفتيش، أمرا مستحيلا؛ لأن المجنون، حسب التعريف، لا يملك حرية الإرادة. وربما كان يتعين أيضا على المحققين أن يطرحوا مسألة الجنون لدى المتهمين بممارسة السحر. في القرن السادس عشر، حيث كانت مطاردة الساحرات والمشعوذات على أشدها، ها هو مونتين يدلي بشهادته في هذا الشأن قائلا: «قبل بضع سنوات، مررت بأراض تابعة لأحد الأمراء الذي تفضل وسمح لي؛ إكراما لخاطري وإمعانا في نفي شكوكي، بأن أرى في حضرته، وفي مكان خاص، نحو عشرة أو اثني عشر سجينا من هذا النوع [المشعوذين] ومن بينهم ساحرة عجوز، مشعوذة حقيقية بما بها من قبح وتشوه ودمامة، وذات شهرة واسعة في هذه المهنة منذ أمد بعيد، ثم عاينت الأدلة والبراهين واستمعت إلى اعترافات حرة [...] وفي النهاية، أمرت، وفقا لما تقتضيه الأمانة، بأن يحضروا لهم بالأحرى الخربق بدلا من الشوكران؛ لأنهم بدوا لي مجانين وليسوا مذنبين ...»
كما أعرب جواكيم دو بيليه عن استيائه من هذا الضلال الجماعي. قضى جواكيم الفترة من 1553 إلى 1557 في روما، حيث كان يتبع عمه الكاردينال. وهناك، سنحت له الفرصة أن يشاهد مرور عدد من مواكب الحج التي يقتادون فيها بعض الممسوسين. وقد تأثر بهذا المشهد تأثرا عميقا، لدرجة أنه خصص له أغنية قصيرة (سونيتة) (في ديوانه الشعري
Regrets ؛ أي «الندم») ووجهها إلى صديقه ريمي دولسين، الذي كان يعمل طبيبا:
دولسين، عندما أرى في بعض الأحيان هؤلاء الفتيات المسكينات،
اللائي يتملك الشيطان جسدهن، أو يبدون كما لو أنه يستحوذ عليهن،
يحركن أجسامهن ورءوسهن بصورة رهيبة،
ويفعلن ما تقوله أولئك العرافات العجائز، [...]
وحين أراهن يصرخن بشكل مخيف،
وحين تنقلب أعينهن ويظهر بياضها،
يقشعر بدني كله، ولا أدري ما أقول.
ولكن حين أرى راهبا يتحدث باللاتينية،
يتحسس بطونهن من أعلى ومن أسفل ويمس حلمات أثدائهن،
يذهب عني ذلك الرعب، وأجد نفسي مضطرا للضحك.
وبالطبع، حرق العديد من المجانين، سواء أكانوا مصابين بالسوداوية أم لا، في المحارق التابعة لمحاكم التفتيش. فلا يوجد ما هو أسهل من طرح مثل ذلك السؤال على المجنون: «هل صحيح أنك قد أبرمت اتفاقا مع الشيطان؟» «نعم.» وقد عمل أحد الأطباء المعاصرين، وهو الطبيب جون وير (1515-1588)، على محاربة هذا «الفكر الأوحد» بجدارة، ولا سيما أنه كان يؤمن ، بالطبع، بوجود الشيطان بما أنه مؤمن بالله. كان هذا الطبيب تلميذا لكورنيليوس أجريبا، الذي لم يكن يخشى توجيه انتقادات شديدة للمحققين بمحاكم التفتيش، واصفا إياهم ب «النسور المتعطشة للدماء»، التي تهاجم «نساء القرية المسكينات»، وتنتزع منهن - تحت التعذيب - اعترافات بممارسة السحر والشعوذة («تفاهة العلوم» 1530). وقد برهن وير على تلقيه تعليما جيدا على أيدي أكفاء وعلى سيره على خطى معلمه حين نشر في عام 1566 كتابا باللغة اللاتينية بعنوان: «قصص، ومجادلات وخطب عن أوهام وخدع ودجل الشياطين والسحرة الأدنياء، والمشعوذات والمفسدين، وعن المسحورين والمصابين بمس شيطاني وشفاء هؤلاء، إضافة إلى العقاب الذي يستحقه السحرة والمفسدون والمشعوذات». بالطبع، العنوان طويل، ولكن الكاتب وفى بوعوده؛ فقد فند وير بالتفصيل ما ورد في كتاب «مطرقة الساحرات»، وميز بين السحرة «الحقيقيين»، الذين يعقدون اتفاقا مع الشيطان بمحض إرادتهم واختيارهم، والمصابين بالسوداوية، الذين يقعون فريسة للشيطان بغير إرادتهم: «لأن الشيطان يندمج بكل سرور مع المزاج السوداوي؛ إذ يجده مناسبا للغاية لتنفيذ عمليات التضليل والتدجيل الخاصة به، وهو السبب الذي دفع القديس جيروم إلى القول بأن السوداوية هي المناخ الملائم للشيطان.» (وبأسلوب أكثر إيحائية، يقول مؤلف آخر، وهو جاك فونتين: إن الشيطان يحب التمرغ في الطبائع الفاسدة مثلما تعشق الخنازير التمرغ في الوحل.) «يستطرد وير قائلا إنه على الرغم من ذلك، ليس كل المصابين بالسوداوية معذبين من قبل الشيطان، بل على العكس، ما يحدث عادة هو أن جميع المصابين بمس شيطاني يصبحون كئيبين ويصابون بالسوداوية.» خلاصة القول: الشيطان والجنون شيئان منفصلان؛ فالممسوس الذي يتملكه الشيطان لا يعد مجنونا بالمعنى الطبي. لقد قام جون بودين، رجل القانون الشهير ومؤلف كتاب «الهوس الشيطاني للسحرة»، الذي نشر في عام 1580، بتفنيد ودحض تلك النظريات التي أثيرت في هذا الجدال بشكل عنيف، ورفض أن يعترف بتمتع جون وير بأي مهارة أو كفاءة، واصفا إياه ب «طبيب بسيط من راينلاند.» إذا كان العمل الشجاع الذي قدمه وير لم يؤد فيما بعد إلى تقليل عدد المحارق، فإنه لا يمكن إنكار حقيقة أن هذا الطبيب، سواء أكان بسيطا أم لا، قد ندد «بالظلمات [التي] كانت تلف متاهة الأسحار»، وهي متاهة ضل فيها المحققون أنفسهم.
وقد حرص بعض الأطباء على أن يكون صوتهم مسموعا، علما بأن ذلك كان يجلب عليهم دائما غضب رجال القانون والمطارنة. وهكذا، قام ميشيل ماريسكو، طبيب الملك وعميد كلية الطب بباريس، مع أربعة من زملائه، بتسليط الضوء على المزاعم الكاذبة بشأن إصابة مارثا بروسييه بمس شيطاني في أواخر القرن السادس عشر، وأوضح أنه لم يجد لدى هذه الفتاة إلا «الكثير من الدجل والقليل من المرض.» يقول ماريسكو: «لا شيء ينبغي أن ينسب إلى الشيطان الذي لا يملك أي قوى استثنائية تعلو على قوانين الطبيعة.» هذه الجملة على قدر كبير من الأهمية. نعم الشيطان موجود، لكن ينبغي تحجيم منطقة نفوذه إلى حد كبير لصالح سلطان الطبيعة، ومن ثم الطب. ربما كان ميشيل ماريسكو يفكر، عندما قال هذه الجملة الجريئة إلى حد كبير، في تلك الحكمة التي نطق بها أبقراط حين قال: «أما فيما يخص الشق الإلهي في الأمراض، فينبغي أن يتعلم الطبيب كيفية التكهن بذلك أيضا.»
الجزء الثالث
احتجاز المختلين عقليا
الفصل الأول
الإنجيل من منظور فوكو
عمدنا، منذ مقدمة هذه الدراسة، إلى الإصرار على أهمية كتاب ميشيل فوكو (1926-1984) «الجنون والخلل العقلي: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»،
1
ذلك المؤلف المؤسس، الذي كان له الفضل في إنشاء حقيقة جديدة، والذي لا يزال يشغل حيز الدراسة النقدية كاملا (الإبستمولوجية) للعلوم الإنسانية منذ بدء استخدام كلمة «جنون». فكيف يمكن دراسة مسألة احتجاز المجانين في ظل النظام الفرنسي القديم دون الرجوع أولا إلى هذه الأطروحة؟ وكيف للمرء أن يدعي فهمه لما كتبه فوكو في الوقت الذي يستخدم فيه هذا المؤلف أساليب متعددة تتداخل عن عمد وقصد مع بعضها البعض؟ فأنى لنا أن نميز متى يكون فيلسوفا، ومتى يكون عالما اجتماعيا، ومتى يكون مؤرخا؟ لذا، على شاكلة وقواق ديدرو الذي كان يمجد الفكر المنهجي، فإننا لن نركز في هذه القراءة إلا على الخطاب التاريخي فحسب - بما أنه يوجد بالفعل خطاب تاريخي - إذ إنه يمهد لتناول إشكاليات لم يعد بالإمكان تفاديها.
كيف نقرأ أطروحة ميشيل فوكو؟ بدءا من مقدمة كتاب «الجنون والخلل العقلي»، يصدم القارئ بمدى صعوبة فهم ما يقصده المؤلف. حيث يفاجئنا دوما على نحو غير متوقع بأسلوبه الشائق والرائع، وفكره الذي لا يقل عنه روعة، وجدليته المقنعة، حسبنا فقط أن ندعي قراءة هذا العمل من منظور النقد التاريخي. يطرح فوكو بعض البديهيات، التي ما إن نسلم بها، حتى تقودنا طيلة قراءة ذلك الكتاب، كما لو كنا تقريبا بصدد قبول قواعد لعبة سباق. بيد أن النرد مغشوش، منذ السطور الأولى. ماذا يعني فعليا ذلك القول المقتبس عن باسكال: «إن الرجال بالضرورة مجانين لدرجة أن عدم الجنون سيكون ضربا آخر من ضروب الجنون»؟ وما المقصود بذلك القول الذي تلا الاقتباس السابق مباشرة، والذي جاء على لسان دوستويفسكي حين قال: «إن حبس جارك ليس هو السبيل لتتيقن من رجاحة عقلك»؟ ماذا تعني هذه العبارات الواردة بهذا الشكل، إن لم يكن المقصود منها أولا تفنيد مفهوم الجنون نفسه، أو بالأحرى عدم التمييز بين ما يتبع الجنون المرضي وما يتبع الجنون بمعناه الفلسفي والأخلاقي؟ انطلاقا من وجهة النظر هذه، قد يجمع الجنون بين كلا الاتجاهين. وفقا لفوكو، ربما يكون الجنون إذن «واحديا»، بيد أننا سبق أن رأينا الجنون في العصور القديمة وهو يختلف تمام الاختلاف عن مثيله في العصور الوسطى.
ولكن ليست هذه هي المشكلة، فها نحن أمام هذه المسلمة المتعلقة ب «غير المجنون»، ذلك المجنون الآخر «الذي يستخدم لغة تخلو من الرحمة»، والذي بدر منه يوما ما سلوك يتسم بالجنون. يتعلق الأمر ب «إيجاد لحظة التآمر تلك». ومن ثم، إيجاد «نقطة انطلاق في تاريخ الجنون» - وبعيدا عن كونها قديمة قدم تاريخ البشرية نفسها - إلا أنها قد تكون جاءت بعده بوقت طويل، فقد ظهرت في «لحظة» ليست كغيرها: وهي لحظة «المؤامرة». لا مجال بالنسبة إلى فوكو للرجوع إلى العصور القديمة في هذا الصدد ، على الرغم من أنه قد سبقت الإشارة إلى مدى أهمية هذه المرحلة فيما يتعلق بالأمراض العقلية. إن إشاراته النادرة إلى تلك الفترة جعلت منها حقبة زائلة، حتى لا نقول غير موجودة. هذه الجدلية قادت فوكو إلى الاستشهاد بنيتشه (الذي أعطى أيضا الأفضلية للعقل على الحق) ليعلن، بأسلوب غليظ وقاس، رفضه ونبذه للغرب وعقلانيته اللذين وضعهما، للبرهنة على صحة كلامه، في مقابلة مع الشرق المؤيد ضمنيا لمذهب اللذة والمتعة. فها هو ذا الإنسان الغربي يقف متهما: «إن الإدراك الحسي لدى الإنسان الغربي للزمان والمكان المحيطين به يكشف عن هيكلية للرفض، تتم من خلالها إدانة قول باعتباره لا يمثل لغة، أو إيماءة باعتبارها ليست عملا، أو شخصية ما كما لو كان لا يحق لها أن تأخذ مكانها في التاريخ.» ما يثير اهتمام فوكو، وما يود رؤيته، هو القرار (وتوقيت ذلك القرار) الذي يربط ويفصل بين العقل والجنون.
يشدد فوكو على أنه لا يريد استعراض تاريخ الطب النفسي، وإنما تاريخ الجنون نفسه «في عنفوانه، قبل أن تكبح المعرفة جماحه.» ولكن، ما هي التواريخ، أو على حد تعبيره، ما هما الحدثان اللذان سيستند إليهما في بحثه؟ «1657» (في الواقع 1656): «إنشاء المستشفى العام والاحتجاز الكبير للفقراء»، «1794» (في الواقع 1793): «إطلاق سراح المكبلين في بيستر». إنهما حدثان يشكلان بالطبع (ضمن وقائع أخرى) لحظات حاسمة في تاريخ الاعتقال، ومن ثم في تاريخ الطب النفسي. بين هذين التاريخين، كان هناك انتقال «من تجربة القرون الوسطى والخبرة الإنسانية في شأن الجنون إلى تلك التجربة المستندة إلى خبرتنا الخاصة، والتي تؤطر الجنون ضمن حدود المرض العقلي. إبان العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، كان الجدل الدائر بين الإنسان والخبل جدلا دراميا يضع الإنسان في صدام ومواجهات مع القوى الصماء في العالم؛ وهكذا كانت تجربة الجنون محفوفة بالصور المتعلقة بالسقوط والكمال، والوحش، والتحول، وبجميع أسرار المعرفة المثيرة للدهشة. أما في عصرنا الحالي، فإن تجربة الجنون يغلفها الصمت ويحيط بها هدوء المعرفة التي نسيتها بعد أن استغرقت في بحثها وعرفت عنها الكثير.» نستنتج من ذلك أن الجنون «السابق»؛ أي الجنون النابع من الحمق (الاختلال العقلي في العصور الوسطى)، كان ذا طبيعة خاصة وبنية مختلفة جذريا عن الجنون «اللاحق» النابع من العقل (العقلانية في العصر الكلاسيكي). هذه المقدمة، التي تنتهي على ذلك النحو، ليست إلا تمهيدا لبرهان تاريخي طويل أفضى، في الجزء الأول، إلى كتابة أطروحة نالت شهرة واسعة عن «الاعتقال الكبير» - وهو تعبير أوجده ميشيل فوكو عبر مصطلح «الاحتجاز» التاريخي - حيث قررت السلطة الملكية، باسم العقل، أن تسجن، سياسيا، المجنون.
كانت الفكرة الأولى التي وردت في الفصل المعنون «سفينة الحمقى» هي: مع اختفاء مرض الجذام في نهاية القرون الوسطى، وانتفاء الحاجة إلى مشافي الجذام، أفسح المجال لظهور «انبعاث جديد للشر، ووجه جديد للخوف، وطقوس سحرية متجددة للتطهير والإقصاء [...]» في البداية، حلت الأمراض التناسلية محل الجذام، ولكن «الإرث الحقيقي للجذام [...] يكمن في ظاهرة أشد تعقيدا لم يكتشفها الطب إلا بعد وقت طويل؛ ألا وهي الجنون.» وقد ذكر فوكو «الصور الرئيسة» للجنون، وذلك قبل أن «تجري السيطرة عليه، نحو منتصف القرن السابع عشر.» يبدأ فوكو بسفينة الحمقى، ويرى أنها ليست رمزا فحسب وإنما حقيقة واقعية أيضا: في العصور الوسطى، كان المجانين المطرودون من المدينة، يعهد بهم أحيانا إلى بعض البحارة والسفن، التي كانت مخصصة هذه المرة بشكل كامل للقيام برحلات الحج العلاجية، وربما كانت هذه السفن، على حد قوله، تجوب أنهار أوروبا صعودا ونزولا. يرى فوكو أن هذه الرحلات الإقصائية، تمثل «طقوسا للنفي». يمزج فوكو، في إيجاز مثير للدهشة، بين جنون الخطيئة وجنون المرض كما لو كانت القرون الوسطى لديها، مرة أخرى، مفهوم «واحدي» للجنون.
بيد أن هذه «الواحدية» الخاصة بالجنون لا وجود لها إلا لدى فوكو. ويتناقض هذا المذهب بشكل مطلق مع النزعة الثنائية التي طالما فرقت بين ما هو فلسفي وأخلاقي وديني من جهة، وبين ما هو طبي من جهة أخرى (وهكذا فإن «المخ الذي يعاني خللا بفعل الأبخرة السوداء المنبعثة من الصفراء»، كما ورد في «تأملات» ديكارت، يتبع المجال الطبي). مع ذلك، سوف يستخلص فوكو مما سبق استنتاجات حاسمة، وسيعمل جاهدا على الانتقال مباشرة إلى الحديث عن إنشاء دور الحجز في القرن السابع عشر باعتباره «أحد علامات مجيء عصر العقل». وهكذا نصل إلى الفصل الحاسم (الفصل الثاني: «الاعتقال الكبير»): «فقد أعاد عصر النهضة إلى الجنون صوته، ولكنه تحكم في عنفه، وسيأتي العصر الكلاسيكي لكي يسكته بقوة غريبة.»
ها نحن إذن، أمام حيلة جديدة للخداع والمراوغة، على الصعيد نفسه المتعلق بالاحتجاز وخاصة احتجاز المختلين عقليا: «نعرف أن المختلين عقليا كان يتم إيداعهم المعتقلات بأوامر ملكية [...] غير أنه لم يتم على الإطلاق تحديد وضعهم بدقة داخل هذه الزنازين، ولا تحديد معنى ذلك الاختلاط الذي كان يبدو وكأنه يمنح وطنا واحدا للفقراء، والعاطلين، والجانحين والمختلين عقليا [...] منذ منتصف القرن السابع عشر، ارتبط الجنون بهذه الأرض الخاصة بالحجز، وبالسلوك الذي كان ينظر إليها باعتبارها بؤرته الطبيعية.» وقد استند فوكو إلى هذا التأكيد كما لو كان أمرا بديهيا: «إن احتجاز المختلين عقليا يشكل البنية الأكثر وضوحا في التجربة الكلاسيكية للجنون.»
انطلاقا من هذه النقطة، يفكر ميشيل فوكو مطولا في أمر المشفى العام بباريس الذي أنشئ في عام 1656: «إن المشفى العام لا يحتوي على أي فكرة طبية، لا من حيث اشتغاله ولا من حيث خطابه. إنه محفل من محافل النظام، النظام الملكي البرجوازي الذي كان منهمكا في تنظيم أوضاعه في تلك الفترة في فرنسا.» خلاصة القول: «لقد اخترعت الكلاسيكية الاعتقال.» هذا الاختراع المتعلق بالحجز، الذي يشكل «لحظة حاسمة»، هو نتاج «رد الفعل الجديد إزاء البؤس». «فابتداء من هذه اللحظة لم يعد البؤس حلقة ضمن جدلية الذل والمجد، بل أصبح مرتبطا بثنائية أخرى هي اللانظام والنظام، ثنائية تصنف البؤس ضمن الشعور بالذنب.» ومن ثم، يستطرد فوكو قائلا: إن العصور الوسطى كانت تنظر إلى البؤس باعتباره أمرا مقدسا في مجمله، وبدأت الكنيسة المشرفة على حركة الإصلاح المضاد تميز بين الفقراء الجيدين والفقراء السيئين الذين ضم فوكو طائفة المجانين إليهم: «وتلك هي أولى الحلقات التي سيحصر ضمنها العصر الكلاسيكي الجنون.» عبر نزع طابع القدسية عن البؤس، انتفت بالتالي عن الجنون صفة القداسة (بعد أن كان ينظر إليه قبلا باعتباره شيئا مقدسا). وبعد أن كان الباعث على الحساسية في التعامل مع الجنون دينيا، أصبح الدافع لها اجتماعيا. وأصبح له منذ ذلك الحين أفقا ضمن النطاق الأخلاقي.
بالرجوع إلى «الحدث الحاسم» المتعلق بإنشاء المشفى العام ونظائره من المشافي الأوروبية، نجد أن فوكو يشدد على طابعه الحصري فيما يخص منع البطالة، «إنها اللحظة التي نظر فيها إلى الجنون باعتباره أفقا اجتماعيا للفقر، وعدم القدرة على العمل، واستحالة الاندماج مع الغير [...] وهكذا فقد انتزع الجنون من تلك الحرية الخيالية التي كانت في تزايد مستمر في سماء عصر النهضة.»
و«على الجانب الآخر من أسوار المعتقل»، في «عالم الإصلاحيات» كما أطلق عليه (المذكور في الفصل الثالث) ماذا نجد؟ «أولئك الذين جرى توزيعهم، بتردد كبير وخوف، على السجون والإصلاحيات والمشافي النفسية أو عيادات الطب النفسي.» يشدد فوكو على أن الأمر لا يتعلق بإقصاء غير القادرين على الاندماج اجتماعيا، بقدر ما يتعلق بذلك «الفعل المؤسس للاغتراب»، ومن هنا جاء قوله: «إن إعادة كتابة تاريخ الإقصاء معناه القيام بأركيولوجيا الاستلاب. ذلك الحقل الاستلابي، الذي تم تسييجه فعليا بفضاء الحجز، حيث شعر المجنون داخله بأنه مقصي مثله مثل مجموعة أخرى من الكائنات تختلف عنه، في تصورنا، في كل شيء ولا وجود لأي رابط بينهما.» ذلك أنه لا يوجد، في عرف الاحتجاز، أي فرق بين هذه الفئات، إنما يجمعها «نفس العار المجرد»: «الفاسق» و«الغبي» و«الضال» و«المعوق» و«المختل عقليا» و«المنحل» و«الابن العاق» و«الأب المبذر» و«المومس» و«الأخرق». ويسترعي فوكو الانتباه إلى هذه النقطة تحديدا: «إن الاندهاش من كونهم حبسوا المريض وخلطوا بين المجنون والمجرم لن يظهر إلا لاحقا. نحن الآن أمام واقعة منسجمة.»
سوف نبين في الفصول التالية أن هذا المزج بين «الأشخاص غير الاجتماعيين» (حديث للغاية وينطوي على مغالطة تاريخية في معناه) والحمقى لم يكن موجودا قط، ولن نخوض الآن في التفاصيل. أيتعين علينا أيضا السير وراء فوكو، حين يؤكد أن «المصابين بالأمراض التناسلية كانوا ينتمون بالكامل، منذ الشهور الأولى لاعتقالهم، إلى المشفى العام»؟ هذا الخلاف ليس عبثيا؛ لأنه يطرح فرضيتين مختلفتين جذريا تتعلقان بطريقة إدارة وعمل المشفى العام. على العكس من ذلك، نجد أن المصابين بالأمراض التناسلية، كما عرضنا في كتاب «داء نابولي»،
2
كان يجري طردهم بشكل صريح من المشفى العام ولم يتم قبولهم به إلا لاحقا لعدم وجود مكان آخر يمكن وضعهم به (فلم تكن المشافي الرئيسة ترغب في قبولهم). هنا يتجلى الفرق بين التشغيل الأيديولوجي والتشغيل البراجماتي للمشفى العام، وهو ليس بالاختلاف الهين.
ولكن لم التركيز على هذه النقطة الخاصة بالمصابين بالأمراض التناسلية، فقد خصص فوكو لهم عدة صفحات من كتابه؟ السبب يرجع إلى أنه، في المشفى العام والدور الصغيرة (حيث يوجد بالفعل مجانين، ومصابون بأمراض تناسلية، وتجدر الإشارة إلى الحرص آنذاك على الفصل بين الفئتين)، «على امتداد مائة وخمسين عاما، سيخالط المصابون بالأمراض التناسلية المختلين عقليا داخل حيز واحد مسيج؛ وستظل آثار ذلك الاختلاط حاضرة لمدة طويلة، وستكشف، عند الضمير الحديث، عن تقارب غريب وغامض جعلهما عرضة لنفس المصير، ووضعهما داخل النسق العقابي نفسه [...] فباختراع فضاء الحجز داخل الهندسة الخيالية للأخلاق، اهتدت الحقبة الكلاسيكية إلى وطن، وإلى مكان للخلاص المشترك من الخطايا المضادة للجسد ومن الأخطاء المنافية للعقل.» ربما تبدو هذه الجدلية جذابة ولكن ذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. في الواقع، كان النظام القديم ينظر إلى المصابين بالأمراض التناسلية باعتبارهم آثمين ومذنبين، ولكنه لم يكن ينظر إلى المجانين النظرة عينها. ما يثير اهتمام فوكو ليست الحقيقة بقدر ما هو الإدراك. ولم لا؟ ألا يملك الحرية التي يملكها الفلاسفة؟ تلك الحرية، التي من أجلها، يغلب الفيلسوف الحس (إدراكه الخاص وحسه الشخصي) على الحق. نأمل أن يطرح ذلك إشكالية في التاريخ.
تحول اهتمام فوكو عن المصابين بالأمراض التناسلية ليصبح منصبا على اللوطيين، الذين يمثلون فئة كان مصيرها الحتمي القمع الشديد في ظل النظام القديم (إلا إذا كان المتهم باللواط ينتمي إلى علية القوم أو إلى طائفة الأمراء الإقطاعيين). ما يريد فوكو إظهاره هنا هو تلك الصلة التي تربط الشذوذ الجنسي بالجنون: كان العصر الكلاسيكي قد رسم معالم الانقسام بين «حب العقل وحب اللاعقل». «ينتمي الشذوذ الجنسي إلى الفئة الثانية. وهكذا بدأ يشكل شيئا فشيئا درجة من درجات الجنون، ويحتل في العصر الحديث موقعه ضمن اللاعقل.» وهذا يعني إغفال حقيقة أن النظام القديم لم يكن يعد الشذوذ الجنسي مماثلا للجنون إلا بقدر محدود للغاية؛ لدرجة أن القضاء كان يعاقب على الفعل الأول باعتباره جريمة (كما يتضح ذلك على أي حال من خلال النصوص ونادرا من خلال الوقائع الفعلية)، بينما لم تراوده قط فكرة معاقبة مجنون على خلل عقله.
أما فيما يتعلق بالحالات التي يطعم بها فوكو أطروحته، فغالبا ما جرى تفسيرها طوعا على نحو خاطئ. هكذا يجسد تورين «ذلك المصير المثير للشفقة الذي طواه التاريخ في صمته»، «افتراض بائس لمرور عابر يرفضه المستقبل.» توحي هذه العبارات بأن تورين هذا لم يكن مجنونا. بيد أن هذا الخادم العامل بالمنزل الكبير كان قد سمع أصواتا تدعوه لقتل الملك، وذلك عقب هجوم داميان
3
مباشرة. وقد حبس تورين في سجن الباستيل، واشتبه في البداية بتظاهره بالجنون، ثم تبين أنه مجنون بالفعل، وبالتالي وجب نقله فيما بعد إلى شارنتون. يذكر فوكو حالة أخرى متمثلة في ديشوفور، الذي حكم عليه بالإعدام في عام 1726 لاتهامه باللواط، ولكن فوكو أغفل أن يضيف أن المدان المذكور كان مقتنعا (هذا ما أكده وهو على حبل المشنقة) أنه كان يقوم بتدبير وتنظيم عمليات اغتصاب جماعية لقاء المال لشباب كان يقوم أولا بإسقائهم خمرا ممزوجا بأفيون. وقد نجا شركاؤه عبر قضاء بضعة أشهر في سجن الباستيل.
4
ليس بالإمكان كتابة التاريخ إلا باحترام الوثائق والسجلات، في مجملها.
استكمالا لعملية استكشاف الممارسات الجنسية المحكوم عليها بالانتماء إلى عالم اللاعقل في العصر الكلاسيكي، يضيف فوكو - إلى ما سبق ذكره - البغاء والفجور. يلي ذلك المتهمون بتدنيس المقدسات، سواء بالتجديف والقذف أو بالمس بالمقدسات الدينية وانتهاك الحرمات، حيث وضع هؤلاء أيضا ضمن «عادات الاعتقال». وأخيرا، نود أن نتمكن من تتبع فوكو حين يتطرق لاحقا إلى معالجة قضية السحرة والمشعوذين، الذين أصبحوا في عصر العقل، «سحرة كذبة». هنا، تم اتخاذ خطوة فعلية أدت إلى حدوث انقسام وثورة، إن لم يكن في العقول، على الأقل على صعيد القانون. بيد أن فوكو يؤكد أن السحر «في ذاته لا يعد جريمة، ولا عملا تدنيسيا»، ولم يعد يحكم عليه إلا «وفقا لما تكشف عنه من غياب العقل.» بعيدا عن الشيطان وبعيدا عن أي دلالات لاعقلانية، أصبحت معاقبة المشعوذين الدجالين تتم بموجب القانون العام باعتبارها جريمة كفر وإلحاد وتدنيس مقدسات. وهكذا فإن النظام القديم، وبالأخص شرطة النظام القديم، لن يريا بعد الآن في السحر والشعوذة جنونا، ومن هنا جاءت الصرامة في التعامل حيالهما. غير أن مثل هذا الخلط من شأنه أن يخدم أطروحة ميشيل فوكو، والتي وفقا لها يكمن الخيط الرئيس للحجز في إصلاح الجنون بجميع أشكاله وصوره؛ حيث أصبح ينظر إليه على أنه صورة سلبية للعقل لا يمكن احتمالها.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو لنا من الخطأ تاريخيا الحديث في القرن السابع عشر عن خطاب جديد بشأن العواطف. سوف نرى أن هذا الخطاب لم «يفسر من منظور الطب النفسي» إلا في نهاية القرن الثامن عشر، ولم يكن له في البداية أي صلة بقضية الاحتجاز. في الواقع، يوجد هنا أمر - من وجهة نظرنا - لا يسير على ما يرام. أيريد فوكو وضع المجانين بين جميع أولئك الحمقى الذين تستهدفهم عمليات الحجز والاعتقال؟ سنرى أن الحجز، بصرف النظر عن كون الكاتب يعزي إلى هذه الحركة أهمية لم تكن يوما لها، لم يكن يهدف إلى معالجة قضية الجنون، وإنما إلى مواجهة مشكلة متأصلة تعود إلى وقت بعيد متمثلة في التسول والتشرد. أيرغب فوكو في أن يظهر شخصية المجنون على نحو مفاجئ؛ وبالأخص المجنون المبطل عنه صفة القداسة؟ لقد رأينا أن المجنون بالمعنى المرضي كان موجودا منذ أوائل العصور القديمة، وأنه لم يجر قط إضفاء طابع القداسة عليه في مجتمعاتنا الغربية .
إن فك رموز خطاب فوكو يبدو أمرا بالغ الصعوبة، حتى وإن كنا نمتنع عن إبراز التناقضات والتفسيرات الخاطئة، على الرغم من كونها مرتبطة جدليا بسياق الخطاب وبالبراهين المستخلصة منه (على سبيل المثال، يطلق فوكو مصطلح «ساخط» على المجنون والمجرم دون تمييز، بينما يستخدم هذا التعبير للدلالة على المجنون الثائر، وذلك بالرجوع إلى الأصل اللاتيني للكلمة
furor
التي هي بمعنى «جنون»). وهكذا فإن القرنين السابع عشر والثامن عشر لا يكفان عن التداخل أحدهما مع الآخر، على الرغم من كونهما يمثلان فترتين مختلفتين تماما فيما يتعلق بالاحتجاز؛ ولذا اعتمدت التقارير الصادرة (في وقت لاحق) عن تونون وهوارد وديبورت وبالأخص عن إسكيرول، والتي تحتوي على تصريحات إنسانية تعبر عن شعور كاتبيها بالاستياء والغضب حيال الوضع الإنساني المتردي لمؤسسات الحجز، باعتبارها مصادر تصف بموضوعية احتجاز المجانين. كما يتناقض تأكيد تلك «الحساسية الطبية» المبهمة، التي لم تنشأ إلا في ظل النظام القديم كتمهيد لتأكيد حالة الجنون الطبية التي ستصبح نتاجا للفلسفة الوضعية في مطلع القرن التاسع عشر، مع الاكتشاف الذي ينسبه فوكو خطأ إلى عالم فقهاء القانون والمتعلق بنمط تفكير طبي أصيل بشأن الجنون، ذلك التفكير، كما نكرر، الذي بدأ مع الثراء الذي نعرفه قبل عدة قرون من ميلاد المسيح.
ومن ثم سيكون عالم المختلين عقليا ابتكارا خاصا بالعصر الكلاسيكي يجمع في طياته بين الجنون واضطرابات السلوك، بحيث يكون هذان الاثنان مرتبطين به ارتباطا وثيقا ومدانين عما يصدر عنه من أخطاء. وقد عزز من هذا الرأي الفكرة القائلة بأن العقل والجنون في العصر الكلاسيكي كانا يتبعان الحكم الأخلاقي، بحيث يكون الجنون «حتما سلوكا لا إنسانيا»؛ ولذا لا يمكن معالجته بأسلوب إنساني. ويستفيض فوكو في الحديث عن الطبيعة الحيوانية للمجنون وما يرافقها من أقفاص وقيود، قائلا: «في العصر الكلاسيكي، شكل هذا الطابع [أي الطبيعة الحيوانية للمجنون] تجليا مدويا تحدد داخله المجنون باعتباره ذاتا غير مريضة.» هذه أكذوبة تامة. وقد تحققنا منها في القرون الوسطى، كما سنفعل الأمر عينه بالنسبة إلى النظام القديم.
هناك فكرة أخرى أكثر عمومية ، ولكنها محورية لدى فوكو: «إن اعتقال المختل عقليا مع المنحرف أو المهرطق يحد من واقعة الجنون، ولكنه يكشف عن إمكانية اللاعقل الأبدية. وهذا التهديد، في شكله المجرد والكوني، هو ما حاولت ممارسات الحجز التغلب عليه.»
في الجزء الثاني من أطروحته، ينحي ميشيل فوكو جانبا قضية الاحتجاز (الاعتقال الكبير) ليتعمق في التفكير الإبستمولوجي المعرفي بشأن معرفة الجنون في العصر الكلاسيكي. في الفصل الأول (المجنون في حديقة الأنواع)، يؤكد فوكو أن الجنون الذي كان سائدا في القرن الثامن عشر (وهذه المرة نحن نتحدث بالفعل عن الجنون بمفهومه المرضي)، والذي «فقد الكثير من صفائه»، لا يمت بصلة لذاك الجنون القائم على «الفصل الصارم» في عصر النهضة. وهكذا «فإن فضاء التصنيفات ينفتح دون صعوبة على تحليل الجنون، والجنون بدوره يجد موقعه بشكل ذاتي من داخله.» للحفاظ على هذا الموقع، لا بد من حجب مرض الروح من جديد في العصور القديمة: «إن التساؤل حول الفصل بين الروح والجسم لم يولد داخل الطب الكلاسيكي، إنه قضية تم استيرادها حديثا استنادا إلى قصدية فلسفية.» وهو ما يؤكده فوكو بجعله من ذلك «الشيء الذي يضع الجسم والروح كليهما موضع تساؤل»، «إشكالية أضيفت، بشكل متأخر نسبيا، إلى تجربة الجنون» (!) مما يبرر إذن «تركها جانبا». إن إدراج الجنون في النوزوجرافيا الطبية لم يتم إلا في القرن الثامن عشر. بيد أن فوكو يجد صعوبة في شطب مساهمة القدماء بجرة قلم ويشير إليها، على الهامش، كأنها تتلخص في وضع «مفاهيم اصطلاحية بسيطة» (!) هكذا، تم اختزال النظريات الفكرية الرائعة بشأن المرض النفسي، والتي تمثل النتاج الفكري لأفلاطون وأرسطو ولوكريسيوس وسينيكا وجالينوس وكثيرين غيرهم في هذه العبارة.
يختتم فوكو هذا الجزء الثاني بالحديث عن «المواجهة بين الطبيب والمريض في العالم الخيالي للعلاج» (الفصل الرابع: «أطباء ومرضى»)، موضحا أنه، كما كان الحجز والاستشفاء منفصلين عن الطب، كذلك «لم يكن هناك تواصل حقيقي بين النظرية والعلاج» داخل هذا المجال العلمي نفسه. على العكس من ذلك، رأينا من قبل إلى أي درجة كانت الممارسة العلاجية للجنون قديمة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظريات الطبية، ولا سيما نظرية الأخلاط البشرية : حيث كانت العلاجات المفرغة أو الأدوية المكملة تستخدم لعلاج الاضطرابات الكمية، وكانت طرق المعالجة الإخلافية تستخدم للسيطرة على الاضطرابات النوعية. ليست هناك حاجة للتأكيد على الاتساق النظري للاستجابة العلاجية، بيد أن هذا الاتساق ليس بالضرورة مرادفا للفاعلية. لم يظهر أي من هذا لدى فوكو الذي رأى، بالطبع، أن مثل هذه الاستمرارية تتعارض وما يقدمه في أطروحته. فجل ما كان يهمه هو التأكيد على الطابع الوهمي لهذه الطرق العلاجية، مذكرا في هذا الصدد باللجوء إلى «ترياق» لم يكن له وجود قط في تاريخ الجنون (حتى الخربق، الذي تكرر ذكره لدى لافونتين، لم يشكل قط ترياقا ناجعا، إنما انتقل من كونه دواء مطهرا قوي المفعول إلى كونه مجرد صورة رمزية). كما يضيف فوكو إلى ما سبق الأفيون المعروف بخصائصه المهدئة منذ العصور القديمة، والمكونات الشعبية المختلفة (مثل مسحوق عظام الجماجم، والأحجار الكريمة) التي ورد ذكرها في البحوث الطبية الخاصة بالصيدلة والمستحضرات الدوائية في ذلك الزمن. على أي حال، ما يثير اهتمام الفيلسوف، ليس هو استعراض تاريخ الطب الثابت والمقرر (وإلا، فما الفائدة من بحثه وتناوله؟) وإنما «المخطوطات الرمزية التي ظلت حية تعاند الزمن، في طرق العلاج في العصر الكلاسيكي.» في الفصل الذي يتناول «معالجة الجنون»، سنتوقف مطولا عند هذه المسألة، وخاصة لبحث المعالجة المعنوية التي ينفي فوكو وجودها في القرن الثامن عشر، ليضعها بالأحرى في سياق القرن التاسع عشر في إطار الاتجاه «الأخلاقي» والمذهب «الوضعي» (وهو ما يشكل هدفه الأساسي)؛ حيث «ستنتظم السيكولوجيا (علم النفس)، باعتبارها وسيلة للشفاء، حول العقاب.» •••
أما الجزء الثالث والأخير من أطروحة ميشيل فوكو، فقد كرس لظهور الطب النفسي في «القرن التاسع عشر الوضعي». وسوف نقرؤه بالتفصيل عندما يحين الوقت لذلك، حرصا منا على الحفاظ، في هذه الدراسة الممتدة على فترة زمنية طويلة، على مخطط زمني بحت. وسيتعين أيضا وضع النتاج الفكري للفيلسوف المتمثل في هذا المؤلف ضمن نطاق الموجة المضادة للطب النفسي التي امتدت فيما بين عامي 1960 و1970.
الفصل الثاني
المشفى العام
ماذا عن «الاعتقال الكبير»، ذلك الحدث المفاجئ الذي كان له وقع الصاعقة والمتمثل في إنشاء المشفى العام بباريس في عام 1656؟ وما علاقة الحمقى بكل هذا؟ يعد عام 1656 عاما هاما في تاريخ الجنون والطب النفسي؛ مما يستوجب التوقف عنده بالبحث والتقصي والاستكشاف العميق. في الفترة نفسها تقريبا، انتشرت لوحة تحمل نقشا باللغات الفرنسية والهولندية والألمانية. وكانت تحمل العنوان التالي: «معلم الحجاج التنابلة، حضرة رئيس دير المعدمين الماكرين»، نرى في هذه الصورة متسولا قصير القامة، ملتحيا وماكرا، متشحا بلباس غريب أشبه بزي الحج، عبارة عن قبعة واسعة ووشاح مزدانين بزخارف كثيرة على هيئة محار سان جاك. تبدأ الرباعية بالبيت الشعري التالي: «يا له من حاج غريب يصلي بتراخ!» هذا الرسم الكاريكاتوري وغيره من الصور الهزلية والرسوم الساخرة التي طافت أرجاء أوروبا المسيحية تبدو غير متوافقة مع الروح الإنجيلية، ومتناقضة تماما مع الحماسة المتقدة لفعل الخير والإحسان، التي كانت دافعا أساسيا وراء إنشاء المشافي الأولى في القرون الوسطى، والتي كانت تنظر إلى الفقراء باعتبارهم أعضاء متألمة في جسد المسيح. فماذا حدث؟
احتجاز المتسولين
إن القرارات الخاصة بمنع التسول وحظر التشرد إذا كان الإنسان سليم البنية وبصحة جيدة تعود إلى فترة بعيدة من الزمن. فنجدها ماثلة بالفعل في مدونة ثيودوسيانوس (المتسولون ليسوا عاجزين)، أو في وثيقة شارلمان القانونية. وفي عام 1166، أثيرت هذه القضية في سياق جلسات كلارندون التي عقدت في عهد هنري الثاني، ملك إنجلترا، في إطار تعزيز السلطة القضائية حيال الخطاب المتعلق بالفقر، ومن أجل التصدي لانتشار الفقراء السيئين ممن كثر عددهم في أعقاب تزايد عدد المتشردين الذين بدءوا يتدفقون على المدن للتسول والاستجداء بها.
1
كان نيقولا أوريسم، أسقف ليزيو في القرن الرابع عشر، ومترجم مؤلفات أرسطو، والفيلسوف وعالم الاقتصاد؛ يرى أن الفقر يضر بالدولة ويسيء إليها، كما كان يعتقد أنه لا بد من إجبار جماعات المتسولين الرهبانية على العمل. وقد لقيت هذه النظريات استحسانا في أوساط الحياة السياسية (والعكس صحيح)، نذكر على سبيل المثال، ذلك المرسوم الذي أصدره جون الثاني ملك فرنسا، الشهير بجون الطيب، في عام 1350، والذي أمر فيه الأشخاص «عديمي النفع والفائدة» بمغادرة باريس. وقد سبقت إيطاليا بقية أجزاء أوروبا في التحضر والتمدن، كما كانت متقدمة كذلك في مجال التشريع. فاعتبارا من القرن الرابع عشر، أصدرت مدينة البندقية قوانين تحظر على المتسولين التشرد في الشوارع، وتفرض عليهم الإقامة في المشافي. وفي عام 1406، تأسست هيئة للتقوى والبر بالفقراء في ميلانو، بحيث تكون مسئولة عن تنسيق المساعدات، وفي الوقت نفسه وضع الفقراء (بما في ذلك عابري السبيل) في دور الضيافة، وهو الإجراء الذي كان متبعا قبل إنشاء المشفى العام بميلانو في عام 1448 (ومن الجدير بالذكر أنه قد جرى إنشاء مشفى آخر في بريشا في عام 1447، ثم أعقبه بناء مشفى آخر في برجامو في عام 1449). وهكذا فإن مصطلح المشفى العام الذي ظهر في ذلك الوقت لم يكن يعني لا مشفى ولا سجنا بالمعنى الذي نعرفه اليوم، وإنما يمكن تعريفه باعتباره مؤسسة تؤوي المتشردين والمتسولين؛ حيث كان يتم استقبالهم والإبقاء عليهم بالقوة. وهكذا ستنشأ ثنائية الإحسان-القمع، وداخل إطار هذه الازدواجية ستكون للمصطلح الثاني الغلبة على المصطلح الأول تدريجيا.
في أواخر القرون الوسطى وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، أدت المصائب التي انتشرت في ذلك الزمان إلى تضاعف عدد الفقراء في جميع أنحاء أوروبا. فيما يتعلق بمنطقة حوض البحر المتوسط، يقدر فرناند بروديل عدد الفقراء في ذلك الوقت بما يتراوح ما بين 12 و14 مليونا؛ أي ما يعادل 20٪ من السكان. بالطبع، ليس هؤلاء جميعهم متشردين ومتسولين، بيد أنه حتى لو لم يكن هناك إلا عشر هذا العدد، لما كانت مشكلة الشرطة - التي طرأت بالتبعية - لتصبح أقل حدة: من هم هؤلاء المتشردون؟ تشمل هذه الفئة - على سبيل المثال وليس الحصر - الأفراد الذين يعانون من البطالة الموسمية والعاطلين «المحترفين»، والحجاج سواء أكانوا حقيقيين أم زائفين، أو الواعظين، و«الأوغاد» [الجنود المشتتين]، والعاهرات، و«الشيوخ الهرمين»، والمعوقين، والمكفوفين، والمصابين بالجرب وغيرهم من «المشوهين» (ومن بين هذه الطائفة الأخيرة نجد المختلين عقليا والمصابين بالصرع)، والبوهيميين، «المصريين» والغجر الذين هاجروا إلى أوروبا الغربية في أعقاب الغزو التركي، والذين تم إقصاؤهم وطردهم من مواطنهم الأصلية، والفرنجة الحقراء المتصفين بالوضاعة والخسة و«مراقبي الطريق»، والأطفال المهجورين ... إلخ.
وقد وجهت السلطات العامة والنخب الكثير من اللوم إلى هؤلاء المتشردين: فكان ينظر إليهم باعتبارهم السبب في جلب الطاعون أو الزهري، ذلك الوافد الجديد الذي نشر الخراب والدمار، وباعتبارهم مسئولين عن ارتكاب كافة أنواع الجرائم وأقلها التسول «بكل وقاحة» (أي بالتهديد)، والمشاركة في حركات التمرد المتعلقة بتوزيع حصص الحنطة وفي جميع «الثورات الانفعالية» الشعبية بصفة عامة، بل والتجسس لصالح جهات خارجية. ولكن بالأخص وجه إليهم انتقادان أساسيان؛ أولهما: أنهم يعيشون بلا دين (إن لم يكونوا وراء نشر البدع والهرطقات). وثانيهما، وهو السبب الأكثر أهمية: أنهم عديمو النفع وكسالى. هذا «المنظور السلبي» للفقر أدى إلى الانهيار التدريجي للنظام التقليدي للصدقة الفردية، ولا سيما أن فكر الإصلاح (الكالفينية تدين التسول والتصدق) شهدت انتشارا واسعا وامتدت إلى الدول الكاثوليكية. وهكذا «بدأت أيديولوجية جديدة للاحتجاز تتعارض مع النظرية اللاهوتية القديمة المتعلقة بالصدقة» (جون بيير جوتن). ألم نر البابا بيوس الخامس يصدر مرسوما باباويا بمنع التسول في روما، وإلا يقع المذنب تحت طائلة القانون وتتم معاقبته بالسجن، أو بالنفي أو بالأشغال الشاقة؟ ألم يفكر أيضا في إنشاء معزل للفقراء في المدينة الخالدة؟
وهكذا، بدأت السلطات العامة تحل تدريجيا محل الاختصاص الكنسي في جميع أنحاء أوروبا من خلال الإجراءات التالية: علمنة المشافي، وتفويض مسألة تقديم المساعدات إلى قضاة الدوائر المحلية، وإنشاء مكاتب للصدقات في المدن الكبرى. خلاصة القول أن «الفقر المدقع أصبح مشكلة تمس النظام العام» (جون بيير جوتن)؛ ومن ثم، أصبح من الضروري مراقبة وتنظيم عملية الإحسان، وذلك باتخاذ التدابير التالية: مركزة المعونات وإعادة تنظيم المشافي، ومضاعفة المراسيم الملكية أو القرارات الصادرة من مجالس البلدية بشأن منع التسول، والقول بعدم وجوب إعانة الفقراء إلا في محال إقامتهم (وفقا لمرسوم مولان، الصادر في فبراير 1566). هل هذا يعني أن التيار السياسي-الإداري قد تفوق بالفعل على التيار الديني؟ بالطبع لا، ولن تبقى الحال على ما هي عليه في القرن السابع عشر. بل على العكس من ذلك، الرجوع إلى الكتب المقدسة في عصر النهضة يقتضي، ضمن أمور أخرى، إغاثة ومساعدة الفئات المحرومة. لكن أصحاب نظرية المساعدة، أمثال فيفيس أو ميدينا، نجحوا في تطوير الفكرة القائلة بأن الإحسان لا يمكن ويجب ألا يمارس دون تمييز؛ ومن ثم تتجلى ضرورة التفريق بين الفقراء الحقيقيين ومحترفي التسول، وبين العاجزين والأصحاء. فالفئة الأولى تستحق الصدقة، أما الثانية فتستحق الحبس.
بيد أن هذه النظريات لم تلق قبولا بالإجماع. وقد حاولت بعض الكتابات الاعتراض والرد على ذلك بالقول بأنه من الصعب عمليا التمييز بين الفقراء الجيدين والفقراء السيئين، وأن إلغاء التوزيع المباشر للمعونات والتبرعات على الفقراء ينطوي على مجازفة فقد يؤدي إلى نضوب معين الصدقات (حيث إن أي رغبة في مركزة المساعدات من شأنها أن تفترض حظر هذه الممارسة التقليدية). فما أهمية أننا نتعرض للخداع عندما نتصدق أو نعطي الفقير؟ يقول القديس توماس الفيلانوفي: الأمر لا يعنينا في شيء كما أننا، بالمنطق نفسه، لا نستحق الثواب الأبدي الذي نناله كمكافأة عن هذا الفعل.
ولكن هذا لا يمنع أن قمع الضالين والمتشردين، وبالأخص احتجازهم، بدأ يدخل حيز التنفيذ، ومن جديد برزت إيطاليا في الصدارة. هذه هي الحال في روما، التي كان المتسولون يتدفقون عليها من جميع أنحاء إيطاليا، إلى الحد الذي جعل مونتين يقول مازحا في كتابه «دفتر يوميات الرحلة إلى إيطاليا»: إن «كل فرد، كان يأخذ حصته من إعانات البطالة الكنسية.» وفي عام 1581، أنشئ أول مستشفى في عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر، واحتجز به ما لا يقل عن 850 شخصا ما بين متسول وعاجز وكفيف. عقب الانطلاقة الحماسية التي رافقت التأسيس، لم تدم هذه المشافي العامة لوقت طويل، ويرجع ذلك لأسباب مالية. في نهاية القرن السابع عشر، كانت روما بصدد إنشاء المشفى الثالث للفقراء، الذي سرعان ما وصفه «عامة الناس» بأنه مأوى للهالكين الميئوس منهم (حيث لا ينال الشخص إلا اليسير من العناية بانتظار موته). وقد أوفد البابا إينوسنت الثاني عشر واحدا من طلائع اليسوعيين، وهو الأب جيفار، لمواجهة الرأي العام. ورد هذا الأخير على ذلك الادعاء قائلا: إن هذا الكلام ليس صحيحا، وحتى إذا ثبتت صحته، فإن ذلك الأمر لن يعدو أن يكون في النهاية إلا عقابا على خطيئة التسول.
فرضت هذه المسألة نفسها بقوة في فرنسا، خصوصا أن هذه الدولة كانت هي الأكثر اكتظاظا بالسكان في أوروبا (فقد بلغ عدد السكان في أوائل القرن السادس عشر 16 مليون نسمة)، وبالتالي كان عدد الفقراء بها كبيرا مقارنة بالمناطق الأخرى. ورغم ذلك كان لا بد من الانتظار فترة طويلة بما فيه الكفاية إبان ولاية الملك فرانسوا الأول حتى تتضاعف المراسيم الملكية بهذا الخصوص. فالإعلان الملكي الصادر في 7 مايو 1526 تصدى في البداية لمشكلة أكثر أهمية، كما هي الحال بالنسبة إلى روما، تتعلق بالعاصمة. هناك العديد من النماذج البشرية التي كان يجري الزج بها في السجن أمثال «المتشردين العاطلين، والأشخاص سيئي السلوك والتصرف، والأفاقين، ولاعبي الورق والنرد، والمجدفين على اسم الله، والقوادين، والشحاذين سليمي الجسد القادرين على العمل الذين بإمكانهم كسب معيشتهم بطريقة أخرى غير التسول ...» وقد سار برلمان باريس على الدرب نفسه حين أصدر في عام 1532 قرارا يقضي بإرسال المتسولين الأصحاء لتسليك وتنظيف مصارف المياه بباريس، ولتنظيف الشوارع والمجاري، وللعمل في المناطق المحيطة بالحصون والأسوار. وسيتم إطعامهم وإيواؤهم، ولكن مع الحرص على «إخضاعهم بشدة وقسوة قدر الإمكان». وقد صدر مرسوم ملكي مماثل في 26 مايو 1537، وتم تعميم سريانه على المملكة بأكملها.
أما هنري الثاني، الذي تولى الملك في عام 1547 خلفا لأبيه، فقد أصدر في العام نفسه لتوليه الحكم بيانا أشد قسوة وصرامة أوضح فيه أن الفقراء الحقيقيين المعاقين جسديا محرومون من الصدقات بسبب المتسولين والشحاذين سليمي البنية؛ لذا سيتم إجبار هؤلاء المدعين على العمل في الأشغال العامة، وسيتم وضع المعاقين المشردين الذين لا مأوى لهم في المشافي. غير أن الإصدار المتكرر لقرارات الحظر وتغليظ العقوبات يظهر بشكل واضح أن هذه المعركة لا نهاية لها.
في الوقت نفسه ، أصبحت المساعدات منحصرة في مقرات مركزية: ففي عام 1531، أنشئ المركز العام لتوزيع الصدقات في ليون، كما تم تأسيس مكتب للفقراء في روان في عام 1534، ومكتب كبير للفقراء في باريس في نفس العام. واجتيحت باريس من قبل المتسولين، ولا سيما أنهم كانوا يأتون من جميع أنحاء المملكة. وكانت هناك مخاوف من انتشار الطاعون «الذي طالما حفظ الله المدينة منه». وتمثل الابتكار الأعظم في تعيين منشأة خاصة للشريحة الواسعة من المتشردين العاجزين، والتي تنقسم ما بين «الفقراء الحقيقيين»، المراد إبقاؤهم في المناطق الرعوية التابعين لها على أن يتم إرسال المعونات لهم في مقار إقامتهم؛ والمتسولين سليمي الجسد المراد طردهم من باريس. ومن الجدير بالذكر أن مجذمة سان جرمان (الخالية من المجذومين)، التي كانت مهجورة منذ عام 1544، أعيد «تأهيلها» في عام 1557، وتحولت إلى مشفى سان جرمان المخصص «لإيواء وحجز وإطعام الرجال والنساء والفقراء غير القابلين للإصلاح والتقويم أو المعاقين أو العاجزين». مساعدة واحتجاز ... هكذا نشأ المشفى العام - حتى لو لم يكن تحت هذا الاسم نفسه - في فرنسا، وبالأخص في باريس، في منتصف القرن السادس عشر.
تشكل المادة 73 من مرسوم مولان (مارس 1566) أول قانون عام يصدر بشأن التسول. وقد نص على أن الفقراء التابعين لكل منطقة يجب إطعامهم ورعايتهم والاعتناء بهم «من قبل سكان المدينة، أو البلدة أو القرية التي ينتمون إليها، سواء أكانوا من سكانها الأصليين أم من القاطنين بها، ويحظر عليهم التسكع أو الاستجداء خارج نطاق المكان الذي ينتمون إليه.» بالإضافة إلى ذلك، نص هذا القانون أيضا على أن المراسيم الخاصة بإصلاح المستشفيات ستدخل حيز النفاذ، وهو ما يسهل قوله عن فعله، كما سيظهر ذلك مرة أخرى من خلال تكرار هذه الأحكام في العقود التالية.
في باريس، تكررت أول محاولة لاعتقال المتسولين، والتي تعود إلى عام 1526، في عام 1611 مع تأسيس، أو بالأحرى نشر، اللوائح الخاصة ب «مشافي الفقراء المحتجزين». وتولى العشرون رقيبا الذين جرى تعيينهم لهذا الغرض مهمة «القبض على جميع الفقراء الشاردين بالمدينة». المستهدفون بالطبع هم الفقراء المتشردون سليمو البنية، ولكن هذا لا يلغي القرار الذي ينص على إيواء العاجزين والمرضى الميئوس من شفائهم في مكان منفصل. من المرجح أن هذه المحاولة الأولى لاعتقال المتسولين على نطاق واسع في باريس كانت قد بدأت على نحو هزلي، استنادا إلى ما ورد في المذكرة الهجائية والمتبصرة إلى حد بعيد، والتي صدرت لاحقا بعد خمس سنوات تحت عنوان («مذكرة بشأن الفقراء المحتجزين»، 1617). أعدت القضية من خلال حملة ملصقات في زوايا الشوارع، لإلزام «المتشردين، والكسالى المتبطلين، والمتسولين والمستجدين، والأصحاء والعاجزين، والغرباء والأجانب» الذين ليسوا من السكان الأصليين لباريس؛ بمغادرة المدينة. ثم علقت لافتات جديدة وتم التنويه عن إعلانات في أثناء العظات التي ألقيت في الكنائس الرعوية تتعلق بإصدار أوامر استدعاء لأولئك الذين بقوا، مع التنبيه على ضرورة وجودهم يوم الثلاثاء في ساحة معرض سان جرمان في تمام الساعة الثامنة صباحا. وقد كان تعداد المتسولين في هذه المدينة، طبقا لما ورد في المذكرة القانونية المشار إليها سابقا، يتراوح ما بين 8000 و10000، ولكن لم يحضر منهم في اليوم المحدد إلا 91. وقد انتظر كل من رئيس مجلس النواب والنائب العام، اللذين ذهبا إلى الساحة، طوال اليوم ولكن دون جدوى. أما عن المتسولين، فقد رأوا أنه من الأفضل الاختفاء: «عد الأمر بمنزلة معجزة، أن ترجع المدينة خالية من الفقراء كما كانت، وأن ينسحب منها المتشردون، والسائلون المعدمون، والفقراء السيئون.» وفي نهاية المطاف، بادر الفقراء الأكثر احتياجا والذين يعانون من اعتلال صحي بتسليم أنفسهم في الأسابيع التالية، ليتم احتجازهم على النحو التالي: احتجز الرجال سليمو البنية في ضاحية سان فيكتور؛ حيث تم الشروع في بناء مشفى لا بيتييه (الرحمة)، بينما جرى احتجاز النساء والأطفال الصغار في ضاحية سان مارسيل بسيبيون، أما العاجزون، فقد وضعوا في الدور الصغيرة (التي سنتحدث عنها فيما بعد). يرجح أن العدد الإجمالي لهؤلاء المحتجزين كان 800، ثم زاد تدريجيا حتى بلغ 2200 في عام 1616. وهو ما يعد نجاحا، ولكنه نجاح نسبي، بالنظر إلى العدد الأصلي، وعلى وجه الدقة نجاح وقتي وسريع الزوال. فكما يلاحظ مؤلفنا المجهول ويقول مازحا : «الأشياء الجيدة تحدث دائما في البداية وتذبل وتضمحل في النهاية!» نظرا لأن الخدام والساسة قاوموا عمليات الاعتقال، قام المفوضون بالمكتب الكبير للفقراء بشن حرب إدارية على مديري مشافي المحتجزين، وإذا أضفنا إلى ذلك نقص الموارد المالية، فسنجد أن هذه الأسباب كانت كافية كي تفضي في نهاية المطاف إلى فشل عملية الاحتجاز في عام 1612. خلاصة القول أن العناصر المختفية عاودت الظهور بينما استعاد المحتجزون حريتهم.
لا يسعنا دون مجازفة استخلاص الكثير من هذه المذكرة المعادية بعنف للمتسولين الذين تكتظ بهم العاصمة، ولكنها تخبرنا من خلال هذه اللهجة الحادة بتفاصيل مثيرة للاهتمام بشأن الحيل التي يلجأ إليها المتسولون للتنكر والظهور بمظهر العاجزين أو المعوقين على النحو التالي: «البعض يظهرون في صورة كتع وقطع، أو عرج أو مصابين بقروح في أجزاء متفرقة من جسدهم، والبعض يجعلون بشرتهم تبدو وكأنها مشوهة، ويضعون على جلدهم دم بهائم، ويحدثون آثار انتفاخ وتورم ويرقان بفعل الكبريت، ويعرضون مناظر مخيفة لجسدهم، وبخاصة للأعضاء التناسلية، وغير ذلك من وسائل الغش والخداع التي لا نهاية لها، والتي يبتدعونها بهدف استغلال مصطلح «الفقر»، والاحتيال على فاعلي الخير لكسب تعاطفهم والاستفادة بالمكر والخديعة من إحسانهم، وخداع الجميع.» ومن هنا جاء تعريف ساحة المعجزات: «هي عبارة عن مكان أطلق عليه هذا الاسم؛ لأن أولئك الصعاليك المتسولين لا يبدون في الحقيقة عرجا ولا مصابين بقروح إلا خارج هذه الساحة.» تخبرنا هذه المذكرة أيضا عن جريمة تدنيس المقدسات التي تجاسر هؤلاء المتسولون على ارتكابها بمنتهى الوقاحة والسفاهة: «لقد كانت الكنائس والشوارع مكتظة بالجنود، والخدام العاملين في صفوف الجيش، والتابعين، والفلاحين، والرجال والنساء المتسولين، إلى الحد الذي يستحيل معه التحدث عن أي أعمال أو تلاوة الصلاة الربانية دون التعرض للمقاطعة ثلاث أو أربع مرات من قبل أولئك المتسولين، الذين كانوا يشكلون مصدرا للإزعاج والضيق بإلحاحهم الشديد، وما يطلقونه من شتائم وتجديف على اسم الله، وسباب بأقذع الألفاظ؛ وهو ما جعل الشعب يتمتم متسائلا باستغراب عن هذا العدد الكبير الذي يراه من المتسولين والشحاذين، وعن أقوالهم المليئة بنبرات السخط والتجديف والسباب بالألفاظ النابية والإهانات، وتراه لا يستطيع أن يصدق أنه يوجد آخرون في دور الحجز، فضلا عن إشاعة خبر، نشره بعض من الفقراء المذكورين، يفيد بأنه قد فتحت لهم الأبواب.»
منذ إصدار مرسوم مولان، لم تعد المشكلة باريسية فحسب، وإنما أصبحت «قومية». نذكر في هذا الصدد بيان ريشيليو الذي صدر في عام 1625 وقضى ب «ضرورة إحلال النظام وإقرار لوائح خاصة بالفقراء في جميع المدن التابعة للمملكة»، وكذلك المرسوم الملكي المعروف باسم «قانون ميشو» الذي صدر في يناير 1629 ونص على ما يلي: «في جميع المدن التابعة لمملكتنا، يتعين الالتزام بالنظام وتطبيق القانون في مدينتي باريس وليون، فيما يتعلق باحتجاز ورعاية وتغذية الفقراء»، بالإضافة إلى المرسوم الذي أصدره لويس الثالث عشر في عام 1639، غير أن صرامة هذا القرار الأخير (الحكم بالسجن مع الأشغال الشاقة) وجدت ما يبررها، أو على الأقل ما يفسرها في سياق حركات التمرد الشعبية التي هزت أرجاء المملكة (1635، 1636-1637، 1639 ...) في نهاية عهد الملك لويس الثالث عشر، بدا وكأن المتشردين والفقراء باتوا يمثلون «فئة خطيرة» أكثر من أي وقت مضى.
استجابة لهذه التعليمات المختلفة، قامت المدن الهامة في النصف الأول من القرن السابع عشر بتخصيص مشفى عام، مثلما حدث بداية في مدينة ليون؛ حيث أنشئ في عام 1614 المشفى العام. ذلك البناء الذي كان يعد نموذجا في عمل الخير والإحسان ومساعدة الغير، ولكن هذا لا ينفي أن الاحتجاز كان حقيقة واقعة، إضافة إلى العمل الإجباري (غزل الحرير) والنظام الصارم (العقاب البدني والحبس الانفرادي). ثم جاء الدور في عام 1641 على مدينة مرسيليا «لتجهيز دار للبر والإحسان بغرض حجز الفقراء المتسولين، الرجال والنساء والأطفال اليتامى وغيرهم من المحتاجين الذين لا يملكون أي وسيلة لكسب لقمة العيش بها، حيث تتم رعايتهم وتربيتهم في مخافة الله، ويتم تكليفهم بالأعمال المتوافقة مع قدراتهم.» كما شيدت العديد من المشافي العامة الأخرى في بعض المدن الأقل أهمية.
تأسيس المشفى العام بباريس
لا بد من دراسة المرسوم الصادر في عام 1656، في ضوء هذه الفترة الزمنية الطويلة، المليئة بمجموعة من الإخفاقات الجزئية المتتالية، مع الحرص على فصل ذلك المرسوم عما سبقه أو تبعه من مراسيم أخرى، التي لا يقل عددها، في الواقع، عن عشرين مرسوما ملكيا تقريبا، فضلا عن قرارات وأحكام المجالس النيابية التي حاولت - طيلة حكم النظام القديم، ولكن دون جدوى - حظر التسول وإصدار أوامر باعتقال المتسولين الأصحاء سليمي البنية.
كان عدد السكان في باريس يبلغ بالفعل 300 ألف نسمة. وقد كانت هي المدينة الأكثر اكتظاظا بالسكان في أوروبا والأكثر شهرة في الوقت نفسه. ولكن، كم كان عدد المتسولين في الشوارع وفي ساحات المعجزات؟ أهو 30 ألف؟ نجمت عن هذا الوضع مشكلة خطيرة تتعلق بالشرطة؛ ذلك أن المتسولين، من كثرة عددهم، أصبحوا أكثر جرأة من ذي قبل، فبدوا وكأنهم يطالبون بقوت يومهم أكثر من كونهم يستجدونه. بيد أن حالة الكلل والضجر العامة التي تفشت في أرجاء المملكة في أعقاب اضطرابات لافروند قد منحت السلطة الحاكمة فرصة استثنائية؛ لاستعادة السيطرة التي كانت متركزة في ذاك الوقت في أيدي الوصي على العرش، ومازاران، وكولبير أكثر من كونها في يدي لويس الرابع عشر الذي لم يكن عمره يتجاوز، في عام 1656، ثمانية عشر عاما. باتت الظروف مواتية، ولا سيما أن السلطة السياسية لم يكن عليها فرض إرادتها بقدر ما كان لزاما عليها إعطاء قوة قانونية للعمل الدءوب الذي تقوم به بعض الشخصيات، التي كرست نفسها - منذ الفشل الذي حدث في عام 1612 - لمشروع إحياء «مشافي الفقراء المحجوزين» الذي سيتخذ فيما بعد اسم المشفى العام. غير أن كلمة «فشل» ليست هي الكلمة المناسبة. إن مستشفى سان جرمان موجود منذ منتصف القرن السادس عشر، وقد أسفرت المحاولات التي بذلت في عام 1612 عن بقاء بعض الدور مثل: دار لا بيتييه (الرحمة)، وهي عبارة عن مأوى للعاجزات المسنات والأطفال، ودار سيبيون للمسنين العجزة أو ذوي العاهات والإعاقات، ودار بون سوكور (المعونة) للعاهرات، ودار سافونري؛ حيث كان يجري إلحاق الصبيان اليافعين بالعمل في مصانع السجاد والمفروشات. وتجدر الإشارة بشكل عابر إلى أنه أجري فصل صارم بين هذه الفئات المختلفة .
أخيرا، استعاد أنصار سياسة اعتقال المتسولين نشاطهم مع موجة حركة أعمال الخير والإحسان التي نمت في فرنسا، خاصة في الفترة ما بين 1640 و1649. وهكذا رأينا قضاة باريسيين بارزين يحرصون، في عام 1651، على المساهمة في إنشاء «متاجر خيرية»، ولكن الدور الرئيس اضطلعت به جماعة سان ساكرمن (القربان المقدس)، التي أنشئت في عام 1629. فلجنة العمل الكاثوليكية هذه - التي كانت نوعا ما سرية - كرست كل جهودها من أجل مشروع معين يتمثل في العمل على اجتثاث التسول والقضاء على البطالة؛ مما يعني باختصار إنشاء المشفى العام، ولكن بنجاح هذه المرة. ومن الجدير بالذكر أن دوقة إيجويون، وهي ابنة أخت الكاردينال ريشيليو وكانت على صلة وثيقة بجماعة سان ساكرمن، ستلعب دورا رئيسا في هذا الصدد. فهي التي أرست، في عام 1634، دعائم مستشفى جالير في مارسيليا، ثم أثارت اهتمام كل من بومبون دو بليافر، رئيس مجلس النواب بباريس، ونيقولا فوكيه، النائب العام وناظر المالية، بخصوص مشروع تأسيس مشفى عام كبير في باريس. ومع ذلك، رأى كثيرون أن هذا المشروع غير قابل للتحقق ووصفوه بأنه «حلم يقظة يراود الأتقياء.» بعيدا عن تأييد ما قاله ميشيل فوكو بأن العصر الكلاسيكي اخترع الاعتقال، ربما يكون من المهم أن نشرح كيف كانت محاولة 1656 باروكية أكثر منها كلاسيكية.
جاء الإعلان الملكي الصادر في أبريل 1656 في صورة مرسوم ملكي ينص على «إنشاء مشفى عام يوضع فيه فقراء ومتسولو مدينة باريس وضواحيها.» يبدأ هذا الإعلان بديباجة طويلة تقر وتعترف بشكل صريح وواضح بفشل التدابير التي اتخذت منذ القرن الماضي «لمنع التسول والبطالة باعتبارهما مصدر كل أشكال الفوضى»، وخاصة محاولة الاحتجاز في عام 1612. ويرجع السبب في هذا الإخفاق إلى نقص الموارد المالية وعدم وجود قيادة قوية بما فيه الكفاية لتولي زمام الأمور. «وصل انحلال المتسولين إلى حدوده القصوى بفعل انغماسهم في كل الجرائم التي تستثير لعنة الله على الدول إذا لم يوضع حد لهذه الأعمال»، فضلا عن أن العديد من هؤلاء المتسولين كانوا يعيشون في غفلة من الدين. وقد نظر بعين الاعتبار إلى هذه المسألة «استنادا إلى الدافع الخيري وحده» وليس «تنفيذا لأوامر بوليسية»؛ (إذ ننظر إلى هؤلاء الفقراء المتسولين باعتبارهم الأعضاء الأحياء للسيد المسيح لا باعتبارهم أعضاء غير نافعين للدولة.) بعيدا عن هذا التمهيد الرائع، فإن الجزء المخصص في هذه الديباجة للحديث بإسهاب عن مروق وزندقة المتسولين، واحتقارهم للشعائر، وعلاقاتهم التي يقيمونها دون زواج، وأطفالهم غير المعمدين؛ يظهر - على الرغم من ذلك - أن مسألة البر وعمل الخير لم تكن هي الدافع الوحيد وراء ما تم اتخاذه من تدابير. كيف يمكن لملك «مسيحي شديد التدين» (وهي صفة شرفية مدعاة للفخر كان يمنحها الباباوات لمن يختارونه من الحكام) في سياق زمن تتمجد فيه قوة الله وتعلو قدرته، وفي ظل مملكة بدأ يجري فيها اضطهاد أعضاء الطائفة البروتستانتية وملاحقة معتنقي مذهب الجنسينية؛ أن يظهر تسامحا إزاء فضيحة كفر المتسولين، أولئك الذين ليسوا أفرادا نافعين للدولة؟ كيف يمكن الاستمرار في تحمل وقاحة وتجاسر هؤلاء المتسولين وتدنيسهم للمقدسات في الكنائس، «فهم أناس يعيشون كوثنيين تحت مظلة المسيحية، يزنون طوال الوقت، ويتساكنون من دون زواج، أو يعيشون بشكل مختلط ضمن مجتمعات جنسية»؟ [تغذية وتهذيب الفقراء]، هذا ما سوف نقرؤه على الوجه الآخر للميدالية التذكارية التي صنعت احتفاء بذكرى إنشاء المستشفى العام.
ولكن ما الذي ينص عليه مرسوم 1656؟ لا شيء إلا الأوامر المعتادة بخصوص منع التسول وإلقاء القبض على المتسولين واعتقالهم، غير أن ما يعتبر أمرا جديدا في الواقع هو الأهمية التي احتلتها المؤسسات التي تحمل اسم المشفى العام، وعددها الذي أخذ يتزايد منذ ذلك الحين. ما يعد أمرا جديدا أيضا هو تخصيص دخول ثابتة لا يستهان بها قادرة - بصرف النظر عن التبرعات المنتظمة - على تمويل نشاط هذه المؤسسات. بالإضافة إلى ذلك، تتجلى هذه الرغبة في الفعالية من خلال الإعداد المتزامن للائحة بغرض مساعدتنا على أن نتبين بشكل أفضل ما هي الفئات المستهدفة التي كانت تحجز في المشفى العام على النحو التالي: الفقراء المتسولون كافة سواء أكانوا سليمي البنية أم عاجزين، ولكن باستثناء أولئك المتزوجين (لن يتم قبولهم في سالبيتريير إلا لاحقا)، والمجذومين، والمصابين بالأمراض التناسلية أو غيرهم من المصابين بأي مرض معد. لن يتم استقبال المتسولين المكفوفين إلا بصورة مؤقتة في المشفى العام، ريثما ينضمون إلى المؤسسات التي أعدت خصيصى لهم (كانز فن وإنكورابل). أما الحمقى، فلم يرد لهم أي ذكر، ولم ينبغي ذكرهم؟ «فالمشفى» لم يكن يقصد به مكان للرعاية والعناية الطبية. هذا صحيح، والدليل على ذلك أن الإجراء المتبع حيال المرضى بالمشفى العام يقضي بأن يجري إما نقلهم - خلال فترة تلقيهم للعلاج - إلى أوتيل ديو، وإما وضعهم في المستوصف التابع للمشفى العام (حيث سيقوم جراحان واثنان من رفقائهما الصيادلة على رعاية هؤلاء المرضى وخدمتهم مجانا). ولكن واقع الحال أن الحمقى مرضى.
كان مشفى باريس العام يتكون من دار لا بيتييه، وملجأ ضاحية سان فيكتور، ودار سيبيون، ودار سافونري، ثم اشتمل بالتبعية على مؤسسة الأطفال اللقطاء ومشفى الروح القدس، ولا سيما منشأتين رئيستين؛ وهما سالبيتريير وبيستر. وقد احتلت مؤسسة سالبيتريير مساحة شاسعة من أراضي الترسانة الصغيرة التي أنشئت في عهد لويس الثالث عشر في الجهة المقابلة للترسانة الصغيرة، على الضفة الأخرى من نهر السين. هذا المجمع الفسيح، الذي كان مخصصا في البداية لصناعة ملح البارود، أصبح فيما بعد مهجورا بالكامل حينما وهبه الملك للمشفى العام. يحتوي هذا المجمع على بعض مخازن الغلة، و«قصر» ومصلى، جميعها بحالة متداعية. ولكن العمل كان يجري على قدم وساق كما تشهد بذلك «يوميات مسافرين شبان هولنديين» في أبريل 1657: «رأينا بالقرب من الترسانة الصغيرة، التي خصصت على نسق بيستر ولا بيتييه من أجل احتجاز الفقراء والأشخاص الذين يتسولون بدافع الكسل في الشوارع، استعدادات كثيرة لإيواء المعوزين: كان قد جرى بالفعل تجميع عدد كبير من هياكل الأسرة، وأفرشة القش والحشايا. ووزعت هذه الأغراض على المباني الكبيرة المتنوعة التي كان بعضها قائما بالفعل والبعض الآخر جرى إنشاؤه. بلغ عدد الفقراء نحو أربعمائة أو خمسمائة فقير. وقد وضعت أوان كبيرة في المطابخ؛ مما يدل على أنه لم تكن هناك رغبة في أن يعانوا من سوء التغذية . إنها أجمل منشأة يمكن أن يراها المرء في حياته.» بعد سالبيتريير، يتطرق مسافرونا الهولنديون إلى الحديث عن بيستر على النحو التالي: «هذه المؤسسة عبارة عن دار تقع على بعد حوالي أربعة كيلومترات من ضاحية سان مارسو. هذا المنزل كبير للغاية، ومحاط بأربعة جدران عالية يحرسها جنود تم تعيينهم في مواقعهم لمراقبة كافة أشكال الفوضى والاضطرابات التي قد تحدث.»
2
أصدر برلمان باريس، فور تجهيز الأماكن، قرارا يلزم جميع المتسولين، أيا كانت أعمارهم، الأصحاء والعاجزين على حد سواء، بالذهاب إلى ساحة لا بيتييه في الفترة ما بين 7 و13 مايو 1657؛ وذلك «حتى يقوم المديرون بإرسالهم إلى الدور التابعة للمشفى العام المذكور وتوزيعهم عليها؛ حيث سيتم إيواؤهم، وإطعامهم، ورعايتهم، وتعليمهم، وتشغيلهم بالورش والمصانع والقطاعات الخدمية التابعة للمشفى العام المذكور.» وهكذا يمكن اعتبار هذا القرار عينه بمنزلة تجديد لحظر التسول في شوارع باريس اعتبارا من ذاك التاريخ. وقد ألقيت عظة رسمية يوم الأحد الموافق 6 مايو في جميع الكنائس الرعوية بباريس، وأرسل مضمونها على هيئة نشرة إلى جميع القساوسة والوعاظ. باختصار، نحن أمام سيناريو 1612 الذي يتكرر من جديد، ولكن النتيجة هذه المرة ملموسة وجديرة بالتقدير: فقد جرى احتجاز ما بين 4000 و5000 متسول في المشفى العام خلال الشهور التالية، وكل ذلك «من دون ذرة انفعال». وعبر الناس عن افتتانهم بمثل هذا الإجراء قائلين: «إنها لمعجزة أن نرى باريس خالية من المتسولين بعد أن كانت تعج بهم فيما مضى.» «تغير وجه باريس في ذلك اليوم، انسحب الجزء الأكبر من المتسولين إلى الأقاليم، أما أولئك الأكثر حكمة فقد فكروا في كسب عيشهم دون استجدائه، والأشد عجزا سجنوا بملء إرادتهم. مما لا شك فيه أن الفضل فيما حدث يرجع إلى عناية الله وحمايته لهذا العمل العظيم؛ لأننا لم نعتقد قط أنه قد ينقضي دون مشقة جمة، ولم نتوقع أن يتم إنجازه ويكلل بالنجاح على هذا النحو.»
3
في الحقيقة، لم يلق القبض إلا على أولئك الذين سلموا أنفسهم؛ أي العاجزين. ومرة أخرى، إذا كان المتسولون الأصحاء القادرون على العمل اختفوا، فهم بالأحرى قد تواروا عن الأنظار في الخلاء وليس في الدور التابعة للمشفى العام.
هناك مشكلة أخرى تتمثل في تمويل العملية. في البداية، كان التنافس قويا، على نسق الهبات التي قدمت من قبل الملك، أو الملكة، أو مازاران (فقد كان الملك يتبرع ب 100 ألف فرنك، وهو ما يعد مبلغا ضخما، لاستقبال المتسولين المتزوجين في مبنى منفصل عن مؤسسة سالبيتريير). ولكن النفقات الضرورية كانت كبيرة للغاية، كما كان من المتوقع أن تتزايد المصروفات مع تزايد عدد المحتجزين. وربما تقدر التكلفة الأصلية للعملية ب 400 ألف جنيه، أو بالأحرى ب 450 ألف جنيه؛ نظرا لزيادة عدد المحتجزين عما كان متوقعا. بيد أن نصف هذا المبلغ كان لا يزال مفقودا في عام 1657، وقد تضاعفت خلال السنوات التالية النداءات التي تحث على العمل الخيري العام. يتناقض كل هذا مع فرضية المستشفى العام الذي يعتبر ثمرة الحكم الملكي المطلق؛ إذ إن هذه الملكية، التي ترسخ نفوذها وتأكدت سطوتها في عام 1661، ستكون فيما بعد مسئولة بشكل جزئي عن انحسار فورة الحماس الرائعة التي كانت قد رافقت تأسيس ذلك المشروع الكاثوليكي العظيم، الذي أطلقته جماعة سان ساكرمن، والمتمثل في إنشاء المستشفى العام. في الواقع، كان القلق يساور مازاران، قبيل وفاته، ومن بعده كولبير حيال تأثير ونفوذ الجماعة، التي كانت تستأثر بجميع الوظائف الإدارية بالمشفى العام؛ حيث كان المديرون يعينون مدى الحياة. وقد دأب كولبير بصورة منهجية على أن يتولى المناصب التي تصبح شاغرة رجال لا ينتمون من قريب ولا من بعيد إلى الجماعة. هذه العلمنة وهذه النزعة إلى إقامة البيروقراطية ساهمتا في إبطاء ثم في إخماد حركة المحبة والإحسان، التي كانت قد أسهمت بقوة في ميلاد المشفى العام.
بإيجاز، يمكن القول إن مستشفى باريس العام كان يحمل، منذ نشأته، جرثومة عدد من الأمراض الانتكاسية، فضلا عن أن هذا المشروع العظيم - حتى وإن كان هناك ترحيب رسمي وسريع بعض الشيء بنجاحه الباهر - صنف «من قبل الشخصيات الحذرة في ذلك العصر، باعتباره خطة من وحي المخيلة أكثر من كونه انعكاسا لصلابة القيادة .»
4
وهكذا يمكن أن نتحدث عن الأضواء الأخيرة لعصر الباروك بدلا من الحديث عن مجيء العصر الكلاسيكي . وهكذا يمكن القول إن العصر الكلاسيكي - العزيز على فوكو - قد أعاق مشروع المشفى العام أكثر مما أسهم في تأسيسه.
المؤسسات الاستشفائية في الأقاليم
إنه لأمر تقليدي أن نكتب قائلين إن إنشاء المشفى العام في باريس كان له أثر ملهم فيما يتعلق بتأسيس المشافي المحلية العامة. هذا القول صحيح جزئيا فقط؛ إذ إن الحالات التي تدل على أسبقية بناء المشافي في الأقاليم كثيرة، ولم تكن أيضا مبنية على مبادرة اتخذتها السلطة المركزية، التي لم تكن قد توطدت بعد، وإنما على إجراء بادرت إليه السلطات المحلية، كما حدث في مولان على سبيل المثال، من أجل مجابهة مشكلة المتشردين؛ حيث شكلت هذه التدابير حركة عامة غالبا ما ترجع جذورها إلى القرن السادس عشر. في عام 1585، أصدر مجلس بلدية أنجيه أمرا إلى الجلاد «بإلقاء القبض على جميع الفقراء الأصحاء القادرين على العمل واقتيادهم إلى الخنادق»، ومن الجلي أن هذا الأمر سبق بوقت طويل إنشاء «مشفى المحتجزين» في عام 1622. لنذكر مثالا آخر: في روان، على الرغم من أن تاريخ تأسيس المشفى العام رسميا يعود إلى عام 1681، فإن هذه المدينة تصدت منذ وقت طويل لمشكلة التسول، كما تشهد على ذلك التدابير المتمثلة في تنظيم مكتب للفقراء في عام 1534، وبناء أول دار لإيواء الفقراء في عام 1601، أعقبها إنشاء مؤسسات الاحتجاز الأولى، في عام 1645 للفتيات الفقيرات، وفي عام 1650 للمشردين الريفيين، وفي عام 1653 للأطفال.
5
نرى بوضوح من خلال هذه الفئات أن الحجز في القرن السابع عشر لا يمت بصلة لمفهومنا الحديث للسجن. فتلك المؤسسة ليس لها نظير اليوم؛ إذ إنها تجسد شكلا من أشكال المساعدة «البوليسية» (وفق مفهوم «البوليس» في القرن السابع عشر، والمقصود به «الإدارة العامة»)، وهي بعيدة كل البعد عن السجن بمعناه الذي يتضمن عقابا بدنيا قاسيا، ولم يكن موجودا في ظل النظام القديم.
في عام 1617، في أعقاب فشل المحاولة الكبرى الأولى لإنشاء المشفى العام في باريس، كان تيوفراست رونودو، طبيب الملك وسكرتيره والمفوض العام لشئون الفقراء بالمملكة (قبل أن يخلد اسمه بتأسيس مجلة لاجازيت دو فرانس )؛ قد اقترح تعميم إجراءات الحجز على جميع أرجاء المملكة؛ بغية منع استمرار تدفق الضالين والمشردين على العاصمة.
6
تجدر الإشارة أيضا في هذا السياق إلى تأثير جمعيات سان ساكرمن السرية، التي كانت تتبع نهجا فكريا مماثلا لجماعة باريس، والتي يبدو أن أقدم فروعها هو ذاك الفرع الذي كان قد تأسس في ليون. وهكذا، عقب إنشاء مؤسستين إحداهما في ليون فيما بين عامي 1613-1614، والأخرى في مارسيليا في 1641 (حيث كان قد تقرر تطبيق الاحتجاز منذ منتصف القرن السادس عشر)؛ شيدت مشاف عامة في المدن التالية: أميان (في عام 1640 تقريبا)، ونانت في 1650، وكاين وسينليس في 1655. ثم تسارعت وتيرة الحركة بعد عام 1656، وسارت هذه المرة على نسق النموذج الباريسي، وبنيت العديد من المشافي في المدن التالية: بونتواز، وسواسون، وسان فلور، ونويون، وإيسودن، وكليرمون فيران، وبورج في عام 1657، وبوفيه، ولو مان، وريوم، وتور، وبلوا في عام 1658، ومون بريسون في عام 1659، وكاليه ومولان في عام 1660 ... معظم هذه المؤسسات هي نتاج مبادرات اتخذتها المجالس البلدية، ولا يحركها أي هدف لتحقيق المركزية. ومن الجدير بالذكر أنه حال قيام مدينة ما بإنشاء دار للحجز، يتراجع متسولوها نحو المدن المجاورة التي تشهد تبعا لذلك تزايد الحاجة الملحة إلى إنشاء مؤسسة خاصة بها. «انتشر جو عام في أرجاء المملكة يدعو لممارسة أعمال الخير والإحسان العامة تجاه أولئك الذين اشتدت بهم الفاقة وصاروا يعانون من البؤس والشقاء.»
في بداية صيف 1662، إثر وقوع أزمة دورية ضربت بشدة النصف الشمالي من فرنسا، اكتظت مدينة باريس من جديد بالمتسولين الذين اضطرتهم المجاعة إلى ترك المقاطعات التي كانوا يعيشون فيها. وهو ما دفع السلطة الملكية إلى تعميم المرسوم الصادر في أبريل 1656، على نحو رسمي هذه المرة، على جميع المدن والبلدات بالمملكة، وذلك من خلال إصدار إعلان يونيو 1662. يكشف هذا الإعلان على الفور عن وجود اختلاف بينه وبين المرسوم السابق من حيث الحجم: فلم يذكر في هذا البيان إلا المتسولون العاجزون؛ مما يعني أن السلطة الحاكمة وعت جيدا الدروس المستفادة من سنوات الاحتجاز الخمس في مستشفى باريس العام ، وسجلت وجود أعداد هائلة من العاجزين والمعاقين، ووصل الأمر إلى درجة إخفاء الوجود الكثيف للمتسولين الأصحاء سليمي البنية والقادرين على العمل ووضع مسألة المساعدة في الصدارة.
في بادئ الأمر ظل إعلان 1662 حبرا على ورق في العديد من المدن ويعزى ذلك إلى نقص الموارد بالطبع، ولكن أيضا إلى تنازع الاختصاص بين الأساقفة، والمجالس النيابية، والقضاة الطبيعيين، والعمد وقضاة البلديات، وغيرهم. وهذا هو السبب وراء تجديد الأوامر الرسمية الصادرة في عام 1662 بقرار من مجلس الدولة صدر بتاريخ 3 يونيو 1673، وبخطاب تعميمي أرسله الملك في عام 1676 إلى الأساقفة والنظار وأرفق طيه نسخة من إعلان 1662. وفقا لما ورد في الخطاب الملكي، توجد حقا صعوبات فيما يتعلق بإنشاء تلك المشافي العامة، ولكن الوسيلة الأولى لتذليل هذه العقبات تكمن في أن يكون لدينا إيمان قوي بأننا نستطيع بالفعل التغلب على هذه المعوقات. ولذا مجددا، بعد مرور عام، أرسلت مذكرة طويلة إلى جميع المدن التابعة للمملكة «حتى يرى الناس أنه من السهل بناء مشاف عامة». تجدر الإشارة إلى أنه ببناء المشفى العام، أصبح الأصحاء من جديد موضع اهتمام وعناية، مثلهم مثل العاجزين: «من خلال هذه الوسيلة، يحصل جميع الفقراء على العون أيا كانت الفئات التي ينتمون إليها؛ الأصحاء والمرضى، والمتسولين، والذين ينظر إليهم باعتبارهم مصدرا للخزي والعار، والسجناء، والهراطقة، والمرتدين.»
بيد أنه لم تتضاعف عمليات إنشاء المشافي العامة في جميع أنحاء المملكة إلا اعتبارا من 1670-1680. وكانت تتم في الأغلب بناء على مبادرة من اليسوعيين، المبشرين الحقيقيين للاحتجاز. أما بالنسبة إلى أولئك المتشككين وأصحاب الرؤى الذين كانوا يتنبئون بفشل هذه المؤسسات على المدى القصير، فقد كان اليسوعيون يردون عليهم ببراعة قائلين إنه حتى لو لم تدم هذه المشافي «القائمة على التقوى» (أي على الدافع الخيري وحده) إلا أربعا وعشرين ساعة، فإنها ستكون قد أمدت الفقراء بالخبز طوال 24 ساعة. وهكذا سيكون اليسوعيون - خلال العقود الأخيرة من القرن السابع عشر - وراء إنشاء أكثر من مائة مشفى عام، سواء عن طريق البناء أو عن طريق إصلاح وترميم عدد لا بأس به من المنشآت الكائنة بالفعل. ولكن يجب ألا تخدعنا مثل هذه الأرقام؛ إذ سرعان ما ستطرح مسألة قابلية هذه المؤسسات للبقاء والاستمرارية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المشافي العامة المحلية غالبا ما تكون ذات مساحة متواضعة للغاية؛ ومن ثم لا يمكن أن تستقبل إلا بضع عشرات من الأفراد.
الحركة في أوروبا
إن احتجاز المتشردين في أماكن يقترن فيها المساعدة والقمع تعد ظاهرة أوروبية واسعة النطاق. فقد سبق أن رأينا هذه الظاهرة في إيطاليا، حيث امتدت هذه الحركة لتشمل البندقية، وتورينو، وروما، تلك المدن التي كان يحتجز المأوى الرسولي بين جنباته 1100 شخص في عام 1726 (أغلبهم من المسنين المعوزين والأطفال الفقراء).
وفي إسبانيا، تعد أيضا ملاحقة المتسولين ممارسة قديمة للغاية، بالنظر إلى التدابير الأولى التي اتخذت في هذا الصدد والتي تعود إلى القرن الرابع عشر. في القرن السادس عشر، صدر عدد لا يحصى من المراسيم؛ مما يدل على أن الإجراءات المنصوص عليها في القوانين لم تدخل حيز النفاذ في إسبانيا، كما هي الحال في فرنسا. في نهاية القرن السادس عشر، أنشئت ملاجئ لإيواء الفقراء حيث كان يجري تجميع الفقراء في الليل مع السماح لهم بطلب الصدقة في أثناء النهار. كما تأسست منازل الرحمة، وإلحاقها، على نحو متزايد خلال القرن الثامن عشر، بإصلاحيات مخصصة للمتسولين الأصحاء سليمي البنية، وذلك مع رسوخ الفكرة القائلة بأنه من الضروري، وفقا للفكر المسيحي، التفريق بين البؤساء الحقيقيين والبؤساء المزيفين مع الاعتراف بأن أولئك الذين ينتمون إلى الفئة الأولى هم وحدهم من يستحقون العطف والشفقة العامة. وفي الواقع، كانت هذه المنشآت متواضعة المساحة وقليلة العدد. من بين جميع البلدان الأوروبية، تعد إسبانيا بالتأكيد واحدة من البلدان التي لم يطبق فيها الاحتجاز على نطاق واسع. ولكن أيتعين أن نرى في ذلك إدراكا أكثر تقليدية لمفهوم المحبة المسيحية؟
في إنجلترا، بإمكاننا إحصاء صدور 44 قانونا ضد التسول والتشرد في الفترة ما بين 1331 و1492 وحدها. تعددت مراكز الاعتقال وتنوعت ما بين السجون، والإصلاحيات (سجون صغيرة بالمقاطعات)، ومؤسسات التأديب والتهذيب والإصلاح الشبيهة إلى حد كبير بالمشافي العامة الفرنسية، وأخيرا دور العمل وهي عبارة عن دور لتشغيل الفقراء. في عام 1697، أنشئ أول بيت للعمل في بريستول. وقد نتج عن نجاح هذه المؤسسة ظهور منافسين لها، لدرجة أن معظم المدن في إنجلترا صارت تمتلك، منذ العقود الأولى من القرن الثامن عشر، بيوتا للعمل لإعالة الفقراء وتشغيلهم، ولا سيما بعد أن أضفى القانون الذي أصدره جورج الأول في عام 1722 طابعا رسميا على هذه المؤسسة، ونص أيضا على أن أي شخص يرفض دخول بيت العمل سيتم شطبه من سجل المعونات الرعوية. وقد اتبعت الإصلاحيات ودور العمل (في الواقع، ثمة تشابه كبير بين هاتين المؤسستين) نظاما صارما يتمثل في عدم تقديم غذاء كاف للأفراد، وتكليفهم بأعمال إلزامية شاقة، وفرض عقوبات بدنية عليهم. في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت دور العمل تتحول إلى ملاجئ للفقراء مخصصة لاستضافة العاجزين، والمسنين، والمعوقين، والأطفال. وهنا أيضا امتلأت هذه الملاجئ بالعاجزين المعوقين أكثر من الأصحاء سليمي البنية.
في ألمانيا، نجد نوعا آخر من التأديب قريب الشبه بالمشفى العام أو بدار العمل، ومتمثلا في
le schallenwerk (وهو مصطلح يعني حرفيا «نواقيس العمل»، وقد أطلق عليه هذا الاسم لأن المتسولين الأصحاء كانوا يكلفون بجمع القمامة والتقاط القاذورات من الشوارع، وكان يتم تزويدهم بأجراس تحدث صوتا إيذانا بقيامهم بهذا العمل الكريه الرائحة)، هذا بالإضافة إلى السجن الذي كان يضم أولئك الذين أدينوا بتهمة ارتكاب جرائم بسيطة أو جنح، كما كان يؤوي المتشردين، وقد كانت هاتان الفئتان مفصولتين داخل تلك المؤسسة. وفي الواقع، انعكس التنوع السياسي الألماني على الحلول التي جرى اللجوء إليها لمعالجة مشكلة التسول. ففي ميونيخ، أنشئت مؤسسة لإعالة وتشغيل أكثر من 1500 فقير، وعند حلول المساء، كان هؤلاء يعودون إلى بيوتهم. في لايبزيج، استخدم أحد المشافي القديمة، وهو مشفى سان جورج الذي أعيد بناؤه في الفترة ما بين 1668 و1671، كملجأ أيتام وإصلاحية في الوقت نفسه. في دريسدن، كان لا بد من الانتظار حتى منتصف القرن الثامن عشر لنشهد إنشاء أول بيت للعمل.
ظهرت في المقاطعات المتحدة (هولندا) مؤسسات قريبة من دور العمل ، حيث يسود النظام الصارم والعمل الإجباري والعقوبات. كانت إحدى هذه العقوبات تتمثل في وضع المتسول السليم البنية العائد للإجرام في جوف بئر تمتلئ ببطء بالماء. وهكذا يتعين على المتسول أن يضخ الماء بلا توقف، لكي ينقذ نفسه من الغرق، مكتشفا في الوقت ذاته إن لم يكن مذاق الجهد فعلى الأقل قيمته. وربما يكون هذا المنهج قد تم اختباره جيدا لتحقيق فاعلية استثنائية. في أمستردام، وجنت، وبروكسل، وإيبر، سميت هذه الإصلاحيات بمنازل التأديب. كما كان يطلق عليها أحيانا منازل صقل الأخشاب، في إشارة إلى العمل الإجباري الذي كان يقتضي قشط نوع من الأخشاب المكسيكية كان يستخدم كصبغة حمراء. استنادا إلى المبدأ نفسه، سميت دور أخرى بمنازل الغزل. وامتدت الحركة عينها إلى السويد، وبولندا، وروسيا ...
بالطبع، لم يكن عدد المجانين داخل هذه المؤسسات أكبر منه خارجها، وفقا للهدف الأصلي. وعلى أي حال، يبين هذا إلى أي مدى لم يأت مرسوم 1656 كحدث مفاجئ أشبه بالصاعقة، كما يوضح أن السلطة الحاكمة لم تكن «تستهدف» (لاتخاذ لغة معاصرة لا تمت بصلة لروح العصر) «الجنون»، بل الكسل، وما ينتج عنه من كفر وخطورة.
مختلون عقليا في المشفى العام
وما شأن المجانين بكل هذا؟ لم يرد أي ذكر لهم؛ لا في المراسيم المتعددة، ولا في الإعلانات، ولا في اللوائح الداخلية، ولا في التقارير والمراسلات. من الواضح أنهم لم يكونوا مستهدفين. وعلى الرغم من ذلك، نجد أن وضع المختلين عقليا المعوزين هو نفسه كما كان في العصور الوسطى. ما زلنا لا نعرف أين يجب أن يوضعوا. نادرة هي المدن التي استطاعت التوصل إلى حلول بهذا الشأن، كما هي الحال في سانت أومير؛ حيث تم إيداع المجانين بداية، خلال القرن السادس عشر، في مبنى بعيد ملحق بالمشفى الرئيس ومخصص للمصابين بالطاعون. بالطبع، كان هناك فصل تام بين القسمين، بيد أن تلك الجيرة بدت صادمة بما فيه الكفاية بالنسبة إلى السلطات المحلية إلى الحد الذي أدى - في عام 1611 - إلى بناء بعض المباني على أرض مستقلة من أجل «إيواء المعاتيه والاعتناء بهم».
أتاح بناء مشفى سان جرمان في عام 1557 الفرصة - وهو ما يعد أمرا استثنائيا - أمام سلطات المدينة لإيداع عدد من الأفراد به، مثل ذلك المحكوم عليه بالإعدام الذي جرى الاعتراف أخيرا بإصابته بالجنون، ثم وضع هناك لكي «يتم تعليمه، وتقويم فكره، ورده إلى معرفة الله التي كان الفقر المدقع قد جعله يغفل عنها.» في أوائل القرن السابع عشر، ذكر جون هيروار في يومياته، وبالتحديد في تاريخ 15 أبريل 1610 (أي قبل شهر بالتمام من اغتيال الملك)، وجود مجانين في مشفى سان جرمان: «ذهب ولي العهد برفقة الملكة في تمام الساعة الرابعة والنصف لرؤية المجانين المحجوزين بمشفى سان جرمان دي بريه.» يعتقد إذن أن عددهم في تلك الفترة كان كبيرا بما يكفي ليشكل فئة خاصة. وعلى أي حال، تؤكد الدراسة التي أجراها الأب الموقر القس دو برول، الذي قضى فترة خدمته الكهنوتية في سان جرمان دي بريه، أنه في عام 1639، كان استقبال المجانين بالمشفى يجري على النحو التالي: «استقبل في المشفى المذكور العديد من النساء المريضات بداء الصرع، المسمى بداء القديس يوحنا، وغيرهن من الفقيرات المستلبات في أموالهن وعقولهن، اللاتي يتهن في الشوارع كالمجانين والمختلين عقليا، والكثير منهن استعدن - نظرا للمعاملة الجيدة - صحتهن وعقولهن.»
7
وفي الحقيقة، تميزت هذه المؤسسة، خلافا للمشفى العام، بقيامها على شيء من الدعوة الطبية، إضافة إلى تعيين طبيب وجراح كملحقين بها. لم يكن مشفى سان جرمان يشكل على وجه التدقيق جزءا من المشفى العام، وإنما كان يتبع مباشرة المكتب الكبير لفقراء باريس. في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أطلق على تلك المنشآت اسم الدور الصغيرة، «سميت هكذا لأن ساحاتها كانت محاطة بمنازل فائقة الصغر وشديدة الانخفاض» (في الموقع الحالي لمتنزه بوسيكو). في عام 1664، كانت الدور الصغيرة تضم 500 «مسكين من العجزة»، و120 مصابا بداء السعفة، و100 «فقير مصاب بالزهري»، و80 «فقيرا مصابا بالجنون»،
8
وكانت تعمل بالتالي كمبان ملحقة بالمشفى الرئيس الذي لم يكن مجهزا للازدحام بحالات المرضى المصابين بأمراض معدية أو المضطربين. «كان المجانين يحتجزون في غرف صغيرة بالطابق الأرضي. وكان للمطيعين الحق في التحرك بحرية في الساحات.» وعلى الرغم من أن المختلين عقليا لم يكونوا يشكلون الغالبية العظمى (فقد كانت نسبتهم تتجاوز 10٪ بقليل)، فإن الدور الصغيرة أصبحت مرادفا لمشفى المجانين في ظل النظام القديم. كتب بوالو قائلا: «ليس مجنونا على الإطلاق من يقوم، لأسباب وجيهة، بإدخال جاره الدور الصغيرة.» هناك أيضا ذلك القول المأثور الحكيم: «ليس المجانين كلهم موجودين في الدور الصغيرة.»
وماذا عن المشفى العام في باريس وكبرى المؤسسات التابعة له على وجه الخصوص والمتمثلة في سالبيتريير؟ على غرار مؤسسة بيستر المخصصة للرجال، كانت مؤسسة سالبيتريير تضم نساء ينتمين إلى فئات متعددة وغير متجانسة: فتيات يتيمات أو متخلى عنهن في سن مبكرة، وفتيات حوامل (حتى إذا ما تم إيواؤهن في هذه الدار الآمنة والسرية، لا يدفعهن الخوف من الفاقة أو من العار إلى براثن اليأس أو إلى اتخاذ قرارات مخيفة تقضي بإجهاض ثمرات بطونهن)، وأزواجا مسنين، وأخيرا جميع النساء «من الأعمار كافة، وعلى اختلاف عاهاتهن، سواء كن فاقدات لصوابهن، أو مشلولات، أو مريضات بالصرع، أو كفيفات، أو عاجزات، أو هرمات، أو طاعنات في السن، أو مصابات بالتهاب العقد السلي، وغيرهن من أولئك اللائي يعانين أمراضا مستعصية.»
9
تبين هذه النبذة، التي يعود تاريخها إلى عام 1676، أن الحمقى ذكروا ضمن الفئات الأخرى من العاجزين وذوي العاهات. ولكن، متى ظهر الحمقى في سالبيتريير، وفي ظل أي ظروف؟ على الرغم من أنه لم تتم الإشارة إليهم صراحة لا في مرسوم 1656، ولا في اللائحة الداخلية للمشفى العام، فإنه يبدو أن عددهم كان - منذ الشهور الأولى لاشتغال مؤسسة سالبيتريير - كبيرا (ربما حوالي عشرين من بين إجمالي المحجوزين البالغ عددهم 700 فرد تقريبا) بما يكفي، خاصة مع اضطرابهم، لتتجلى ضرورة عزلهم على الفور في قسم منفصل. نجد هذه الحقائق مثبتة في التعداد الذي أجري للنساء المحجوزات في سالبيتريير بعد عام من إصدار مرسوم 1656؛ حيث ورد ذكر «البلهاوات » و«المخبولات» بين حوالي عشرين فئة. وقد سمح وجود «البغايا، والفاجرات والحقيرات» بين هذه الفئات، بفرض نظام للقمع. أما الأخريات، أولئك الفتيات الصغيرات اللائي ما زال بعضهن «رضيعات»، وأولئك العجائز «الهرمات»، والنساء المهجورات من قبل أزواجهن، وأولئك العاجزات والمعوقات، وأولئك المريضات بالتهاب العقد السلي والمصابات بأمراض جلدية، وأولئك الكفيفات الكثيرات؛ فأمام كل هؤلاء، كيف لنا أن ننطق بكلمة أخرى غير كلمة «المساعدة»؟
وبدءا من عام 1660، تقرر أن «يخصص مكان لاحتجاز المجانين سواء الموجودون بالفعل بالمشفى العام أو الذين سيلتحقون بالمشفى المذكور فيما بعد.» وفقا لما ورد في «إحدى الخرائط الخاصة بتصميم المشفى العام»، والتي أعدت في عام 1658، كان هناك اقتراح يقضي بجمع «المحتجزين» في مجمع معماري واحد. ولكن مشروع التنظيم المكاني هذا لم ير النور قط؛ نظرا لأن مؤسسة سالبيتريير عنيت فيما بعد باستضافة النساء والأطفال حديثي السن، بينما عنيت مؤسسة بيستر باستقبال الرجال. ولكن هذا لا ينفي أن الهدف كان مثيرا للاهتمام إلى حد كبير. كان هناك جدار متوسط ومن الأمام كنيسة واسعة مبنية على شكل صليب، وهي نفسها منقسمة إلى جزأين، يفصل بين الجنسين بشكل متماثل. وقد خصص القسم الأكبر من المباني للمحتجزين العاملين (في البستنة، والأعمال اليدوية والنجارة وصناعة الأقفال، بالإضافة إلى تخصيص قسم مهم للمصانع)؛ مما يدل على أننا ما زلنا نعيش في وهم احتجاز المتسولين الأصحاء. ومع ذلك، كانت هناك بعض الفئات التي تمثل أقليات، والتي لم يكن يسمح باختلاطها بالفئات الأخرى. نشير في هذا الصدد إلى أنه كان يتم، في المؤسسات الخاصة بالرجال، تخصيص أقسام منفصلة لإيواء «العاجزين»، و«المصابين بالتهاب العقد السلي» (بشكل عام المصابين بالأمراض الجلدية المعروفة في ذلك الوقت على اختلاف أنواعها ووخامتها: الجرب، والسعفة، والتورم الالتهابي سلي المنشأ أو ما يعرف بسل العقد اللمفاوية، وغيرها)، والمكفوفين، وأخيرا «المختلين عقليا» والمصابين بالصرع الذي يطلق عليه «داء القديس يوحنا»، كل على حدة. ونلاحظ أنه جرى بالفعل التفريق بعناية بين الصرع والجنون. كما نلاحظ أن المكانة التي احتلها الجنون بين الأمراض الأخرى تظهر إلى أي مدى أصبح ينظر إليه وفق معيار طبي.
فيما يتعلق بالمؤسسات الخاصة بالنساء، كانت النسوة «المعتوهات والمصابات بالصرع» يتشاركن الفناء نفسه، ولكن يسكن في مبان منفصلة بعضها عن بعض.
لنتوقف عند مؤسسة سالبيتريير، كما شيدت في الواقع وكما يمكن أن نتأملها في نهاية القرن السابع عشر. تعد هذه المؤسسة إلى حد كبير أهم منشآت المشفى العام: فقد كانت تضم 5276 سيدة وطفلا ... فيما يخص شق الاحتجاز بمعناه الصارم والدقيق، بإمكاننا أن نحصي 465 «عاهرة» ومتشردة، بالإضافة إلى 380 امرأة ما بين جانحة، وفاسقة، وداعرة. أما فيما يتعلق بشق المساعدة، نجد ما لا يقل عن 1894 طفلا دون سن الخامسة عشرة، و594 امرأة ما بين «عجائز كفيفات أو كسيحات»، و329 فتاة دون سن السادسة عشرة عاجزات أو مصابات بأمراض جلدية. نحصي أيضا من بين النساء اللائي تلقين المساعدة 92 «مريضة بالصرع من مختلف الأعمار»، و300 امرأة ما بين «مجنونات هائجات أو مختلات عقليا مسالمات». كان الأمر إذن أشبه ب «حي حقيقي للمختلات عقليا». وقد تزايد عددهن بالنسبة إلى العدد الإجمالي على النحو التالي: 22 من 700 في عام 1657، و146 من 3963 في عام 1679، و226 من 4000 في عام 1690. وهكذا ارتفعت نسبتهم من 3٪ إلى 6٪.
10
في منتصف القرن الثامن عشر، وصلت مؤسسة سالبيتريير إلى أعلى مستوى سكاني لها؛ حيث بلغ عدد المقيمين بها 7800 سيدة وطفل في عام 1769، من بينهم 700 امرأة مجنونة (بلغت النسبة إذن حوالي 10٪). وهو ما يعد عددا إجماليا ضخما في هذه الفترة، ويشكل بالتأكيد أعلى نسبة تركز في أوروبا، حتى لو لم يكن ممكنا النظر إلى مؤسسة سالبيتريير باعتبارها بمنزلة مشفى كبير للمجانين (ففي نهاية الأمر، 90٪ من نزلاء سالبيتريير لم يكونوا من المختلين عقليا). سوف نتطرق فيما بعد إلى الآليات التي أدت إلى وجود هذا العدد الكبير، ولا صلة لها بآليات المشفى العام في حد ذاته. وهكذا فرض بناء جديد نفسه في كل الأحوال. في عام 1760، بدأ تأسيس أولى الغرف الفردية في الطابق الأرضي؛ حيث كان يجري احتجاز الهائجين المضطربين، بينما كان «المختلون عقليا» والمصابون بالصرع يبقون في المهاجع القديمة.
وعلى أي حال، لم تكن الرعاية الطبية تحتل موقع الصدارة في مؤسسة سالبيتريير؛ بدليل وجود مطالب في عام 1769 لتأسيس مشفى جدير بهذا الاسم. لقد اجتاح الجرب المهاجع. أما فيما يتعلق بالمجنونات والمصابات بالصرع، فإذا كان أحد لم يفكر في التشكيك في إصابتهن بالمرض، فإن أحدا لم يفكر أيضا في علاج مرض يعد عضالا إذا لم تتم معالجته في بدايته (في المشفى الرئيس على وجه الخصوص). وأقل ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن المجنونات المحاصرات في دوامة الاحتجاز لسن في المراحل الأولى من الإصابة بالمرض. وأخيرا، فإن الأخوات ومدبرات المنزل البالغ عددهن مائة، بالإضافة إلى الخادمات البالغ عددهن 350 (واللواتي عين من بين الفتيات المحتجزات وكن يتقاضين أجرهن بحصولهن على حصة مضاعفة من الغذاء) كان لديهن بالفعل ما يكفي من المهام التي يتعين القيام بها فيما يتعلق بتوزيع العمل في المهاجع (العجائز كن يقمن بغزل القنب، والشابات كن يتولين «الحياكة والتطريز»)، وقوافل المرور الطويل على العنابر لتغيير الشراشف وتجميع الملابس المعدة للغسيل وتوزيع الأطعمة داخل مؤسسة سالبيتريير المترامية الأطراف، هذا بالإضافة إلى الإشراف والمراقبة، دون أن ننسى أيضا المحافظة على الطقوس الخاصة بالصلاة في كل مكان، والاهتمام بالقراءات الدينية، وإقامة القداسات اليومية ...
كان وجود المجانين من الرجال في بيستر مشابها لوجود المجنونات في سالبيتريير. منذ العام الأول لاشتغال مؤسسة بيستر، انقسم المعوزون الستمائة تقريبا الذين تجمعوا داخلها إلى فئات مماثلة لتلك التي كانت موجودة بمؤسسة سالبيتريير. من بين هذه الفئات، كان هناك 20 مجنونا و16 مريضا بالصرع. كما هي الحال في سالبيتريير، كان عدد المجانين والصرعى يتزايد بالتزامن مع التوسع في البناء. في عام 1701، كان هناك 65 مجنونا و42 مصروعا من بين إجمالي المحتجزين البالغ عددهم 1500 في ذلك الوقت. وفي عام 1726، بلغ عدد المجانين والمصابين بالصرع 208 من بين إجمالي عدد المحتجزين البالغ 2454، وهو رقم أقل بشكل كبير من مثيله في مؤسسة سالبيتريير، ويمثل نسبة تتراوح ما بين 7 و8٪ من إجمالي عدد النزلاء في بيستر.
11
كانت منطقة «المختلين عقليا أو المجانين»، المعروفة على وجه التدقيق باسم («القطاع» السابع، أو حي سان بري)، «تتألف من غرف متعددة». في المنطقة التي كان يطلق عليها «المبنى الجديد» («القطاع» السادس)، نجد عنبرا مخصصا للمصابين بالخرف بالطابق الأرضي، وآخر للمعاتيه بالطابق الثاني (سان فرانسوا)، وآخر للمصابين بالصرع بالطابق الثالث (سان فياكر). وتجدر الإشارة إلى أن المصابين بالصرع، كان ينظر إليهم على أنهم «ليسوا مجانين على الإطلاق»، علاوة على أنهم الوحيدون الذين كان لديهم الحق في حضور القداس. ومع ذلك، نجد في مكان آخر داخل مؤسسة بيستر مهجعين؛ أحدهما مخصص ل «السذج الأبرياء»، والآخر ل «المكفوفين والمغفلين». كما هي الحال في مؤسسة سالبيتريير، يقصد بالمصابين بخرف الشيخوخة (وهو مصطلح حديث للغاية بالطبع) أولئك المحتجزون الذين لم يدخلوا مؤسسة بيستر بصفتهم حمقى، وإنما أصيبوا بهذا الخلل العقلي مع تقدمهم في العمر.
لقد تحدثنا عن الكثير من الأمور، بعضها شديد البشاعة، فيما يتعلق بالأوضاع المعيشية، أو بالأحرى ظروف البقاء، في مؤسسة بيستر. وسوف نعود فيما بعد إلى بيستر للحديث عن الخطاب الخيري بها. ومما لا شك فيه أن الأوضاع في بيستر كانت أكثر تدنيا عما هي عليه في مؤسسة سالبيتريير. وقد شددت الحراسة وفرض ممارسات وحشية؛ نظرا لأن الرجال كانوا يشكلون خطورة كبيرة، سواء على صعيد المجرمين والجانحين أو على صعيد المجانين الذين كان يتم احتجازهم في حجرات ضيقة لا تتعدى مساحتها مترين مربعين، موجودة غالبا في القبو حيث لا تصلها تدفئة ولا تهوية جيدة، وكان يتم تكبيلهم بالحبال بل وبالأغلال عند أول بادرة تدل على الهياج، وكانوا ينامون في معالف حجرية ملاصقة للجدار ومفروشة بقش الشيلم الذي نادرا ما كان يجري تجديده أو تزويده بأغطية. والمجانين الذين كانوا يقومون في أغلب الأحيان بتمزيق ملابسهم، كانت لا توزع عليهم إلا الملابس المستعملة من قبل السجناء. قلة نادرة هم من كانوا يملكون القدرة على التنزه في أفنية الحي، ولم يكن ذلك بدافع القسوة بقدر ما كان ناجما عن نقص في الموظفين (فلم يكن هناك إلا ستة أفراد يعملون بدوام جزئي في خدمة أكثر من 150 مجنونا، بالقطاع السابع). وكثيرون كانوا يجدون أنفسهم مضطرين في فترات الازدحام إلى تشارك غرفة واحدة مع نزيل آخر، أو إلى النوم في أسرة كبيرة يتقاسمها أربعة أو خمسة أو حتى ستة أشخاص في العنابر. وتعطي اللوائح الداخلية الانطباع بأنه كان يتم تقديم كمية مناسبة من الغذاء، ولكن في هذا المجال على وجه الخصوص، شتان ما بين الوعود والواقع، كما سوف نرى فيما يتعلق بالمصحات في القرن التاسع عشر.
كما هي الحال في مؤسسة سالبيتريير، لم تكن التغطية الطبية تتسم لا بالاستقرار ولا بالجودة، على الرغم من وجود مستوصفين أنشئا في وقت لاحق، ولا يعزى ذلك إلى أسباب صحية بقدر ما يعزى إلى متطلبات أمنية. في الواقع، كان نقل المرضى بين بيستر والمشفى الرئيس لتلقي الرعاية الطبية يمثل في كثير من الأحيان فرصة سانحة للقيام ب «حركات تمرد» أو عمليات هروب. ولم يكن المجانين يتلقون أي علاج طبي خاص يزيد عما كان يقدم في مؤسسة سالبيتريير. بيد أن المخطط الكلاسيكي الذي يظهر أن معالجة المجانين لم تكن تتم إلا في المشفى الرئيس ولم تكن تستغرق إلا فترة زمنية قصيرة، وأن أولئك الذين كان يتم وضعهم في المشفى العام كان ينظر إليهم باعتبارهم حالات مستعصية ميئوسا من شفائها؛ جدير بالدراسة من منظور نسبي بحت؛ نظرا لأن نقل أحد الحمقى إلى المشفى الرئيس لتلقي العلاج لم يكن بالأمر النادر. كما كان يحدث أيضا أن يطلق سراح بعض الحمقى المحتجزين في بيستر بعد التحقق من شفائهم، أو على الأقل بعد التأكد من خمود المرض وخفوت حدته لديهم. وهناك قرار صادر عن البرلمان في عام 1784 يذكر بهذه الوقائع، وهو بخصوص فرد محتجز في بيستر بسبب الاختلال العقلي، وقد ورد عنه أنه «لم يعد يعطي الفرصة لأحد للشكوى من سلوكه.» هذا لا يعني أن تلك هي النتيجة الطبيعية لتلقي العلاج وفقا للأصول الواجبة، ولكنه يثبت على الأقل إلى أي مدى كان هناك اعتراف بالوضع الطبي للجنون على حاله كما يتجلى من خلال الحالات المحتجزة في المستشفى العام. وقد نص القرار نفسه على أنه قبل إصدار الأمر بإخلاء سبيل أحد المجانين، يتعين على الأطباء والجراحين المنتدبين من قبل المحكمة (التابعة لمجلس النواب) أن يقوموا بزيارة هذا المختل عقليا المعافى، ثلاث مرات كل خمسة عشر يوما.
لم يكن اعتقال المختل عقليا في المشافي العامة في الأقاليم يسير على الوتيرة نفسها التي تحدث في باريس، كما أن الأوضاع تختلف في هذا الشأن من مدينة لأخرى، أو تتفاوت بالأحرى وفقا لكبر أو صغر المدينة. ففي المشافي العامة بالمدن الصغيرة، كان المديرون غالبا ما يرفضون قبول الحمقى بحجة أن مراسيم الاعتقال المختلفة لم تأت على ذكرهم. ولقد كان عدم توافر أقسام مخصصة للمجانين معزولة جيدا ومهيأة على نحو ملائم يشكل عائقا جذريا. في عام 1712، أعلن في مدينة ليزيو عن «إيداع أحد المجانين السجن الصغير التابع للمشفى العام. وكان هذا المجنون قد أتى إلى تلك المدينة منذ فترة وجيزة، فاتخذ ضده هذا الإجراء بهدف إرغامه على العودة من حيث جاء.» فما كان احتجازه إلا لحثه على الذهاب إلى مكان آخر غير ليزيو ليمارس به تصرفاته وأفعاله الجنونية. وقد كان هناك العديد من المشافي العامة الصغيرة، كمشفى بايو، حيث كان المختلون عقليا يتركون على حريتهم وكانوا يتلقون يوميا رغيفا من الخبز من المشفى العام.
أما في المدن الكبيرة، مثل كليرمون فيران، فقد كان المشفى العام يجتذب، رغما عنه وبصعوبة، المختلين عقليا المحولين من منطقة أوفيرني الإدارية؛ وذلك نظرا لأنه مزود (إذا جاز القول) بأقسام خاصة؛ حيث كان يعهد بالمجانين إلى «سجان» لم يكن يحتجزهم عادة إلا في الليل، وكان يتولى تنظيف الأفنية والغرف، وتغيير القش المفروش على الأسرة، وتقديم الطعام لهم ومعاملتهم «برفق وإنسانية قدر الإمكان». أما المجنونات، فكان يعهد بهن إلى إحدى الأخوات. وقد كانت غرف المجانين قريبة للغاية من أقسام الأطفال، أما غرف المجنونات فكانت تقع بالقرب من أقسام الفتيات ذوات السمعة السيئة. ولم يكن واردا في ذلك الوقت التفكير بأي معالجة طبية. في مشفى روان العام، كانت هناك منشآت ضخمة تضم 2000 محتجز (حيث كان عدد النساء ضعف عدد الرجال)، وكان المجانين والمصابون بالصرع قليلي العدد على النحو التالي: حوالي عشرة رجال وستين امرأة «مريضات بالسوداوية ومجنونات ». في مدينة رين، انتقل عدد الحمقى المحتجزين من حوالي عشرة في القرن السابع عشر إلى حوالي مائة في أواخر عهد النظام القديم. وفقا لما جاء بالعديد من الكشوف الصادرة في القرن الثامن عشر، اشتملت المؤسسة على قسم مخصص للمجانين، وآخر للمجانين الهائجين يتميز عن سابقه بكونه مجهزا بكمية هائلة من القضبان الحديدية المحيطة بالنوافذ، والأقفال والرزات الداعمة للأبواب من أسفل، والكلاليب المزروعة حول أسرة المرضى لتقييدهم، والجنازير المعدة لاحتواء فورات الهياج.
أتاح وضع ليون معاينة العلاقة الكائنة بين المشفى الرئيس والمشفى العام، تلك العلاقة المبهمة التي لم يكن لها وجود إلا في المدن الكبرى بالمملكة. بادئ ذي بدء، كان يتم إدخال المختلين عقليا بشكل تقليدي للمشفى الرئيس؛ حيث كان يتم علاجهم لفترة قصيرة نسبيا، شأنهم شأن بقية المرضى. في المشفى الرئيس بليون،
12
ألقي المختلون عقليا في «غرف سفلية»، على طول نهر الرون: حيث خصصت في البداية بعض الزنازين لهذا الغرض، منذ القرون الوسطى وحتى القرن السابع عشر، ثم خصصت حوالي أربعين غرفة للمختلين عقليا في القرن الثامن عشر. بيد أن هذه القدرة المحدودة على استقبال الحالات عوضها نظام التناوب السريع بالعمل؛ فقد كانت فترات الإقامة قصيرة، وكانت تنتهي غالبا بإعطاء المريض تصريحا بالخروج دون التأكد تماما من شفائه. على أي حال، كان المرضى يتلقون الرعاية الطبية في هذه الأماكن؛ نظرا لأن المشافي الرئيسة كانت ترفض استقبال الحالات التي لا أمل في شفائها، وذلك على الرغم من الإلحاح المتزايد للحكام الذين لم يكونوا يدرون أين يجب وضع المختلين عقليا المعوزين الموجودين في المقاطعات التابعة لإدارتهم. ولكن بفضل إنشاء المشفى الخيري العام، أصبح بالإمكان الفصل لأول مرة بين «المجانين، والمختلين عقليا والمصابين بهياج عقلي»، الذين استمر قبولهم بالمشفى الرئيس، وبين «السذج والخرق»، الذين شاع عنهم أنه لا أمل في شفائهم ومن ثم كان يتم إيداعهم المؤسسات الخيرية. في الواقع، لم تكن الأمور يوما محسومة إلى هذه الدرجة تحت حكم النظام القديم، وهناك بالفعل قسم كبير من الملفات كان لا يزال موجودا بالمشفى الرئيس، خاصة تلك التي كان أصحابها ينتمون إلى عائلات لديها المقدرة على دفع نفقة مرتفعة. وكان يجري احتجاز المجانين المصابين بهياج عقلي في مؤسسة «بيستر» التي أنشئت كمبنى ملحق بالمشفى العام في سنة 1759.
في جنوب فرنسا، ولا سيما في بروفانس، يبدو أن استقبال المختلين عقليا سواء في المشافي العامة أو في غيرها من المؤسسات هو ثمرة بذل جهد متواصل في سياق حياة اجتماعية محلية أكثر نشاطا وفعالية، على نسق إيطاليا وإسبانيا، وربما أيضا أكثر اهتماما بأعمال الخير والإحسان. وسوف تعطينا الأمثلة التي ستقدمها مدينتا مارسيليا وإكس، وهي أمثلة لا يستهان بها، لمحة عن مدى تعقد الصلات التي تربط بين استقبال المختلين عقليا الذي يعود غالبا إلى زمن بعيد في جنوب فرنسا، وتأسيس المشفى العام ...
في عام 1671، أتاحت المبادرة الفردية التي أطلقها أحد القساوسة في مرسيليا
13
ضم مجموعة من المختلين عقليا في نزل. في عام 1699، استقرت هذه الجماعة الصغيرة في المشفى القديم الذي كان مخصصا لمرضى الجذام وكان يقع في إحدى الضواحي. وهكذا تأسس مشفى سان لازار (القديس لعازر) أو مشفى الحمقى؛ بغية «مساعدة الأشخاص المصابين للأسف بالاختلال العقلي والخبل وعدم الاتزان والهياج في أغلب الأحيان والتخفيف من آلامهم، سواء في المدينة المذكورة أو في منطقة مارسيليا التابعة لها، وإعطائهم بعض المعونات لإعانتهم على تحمل البؤس، والحيلولة دون وقوع اضطرابات أو أعمال فوضوية قد يتسببون بها.» اعتبارا من هذا التاريخ، أصبح وضع مشفى سان لازار معقدا. طالما أطلق عليه «مشفى الحمقى العام»، بيد أن مشفى مارسيليا العام، الذي كان في منتهى السعادة؛ نظرا لأنه أصبح بإمكانه رفض استقبال المختلين عقليا، لم يرد ضم مشفى سان لازار إليه بوصفه ملحقا به؛ ومن ثم بقي مشفى سان لازار تابعا للمشفى الرئيس حتى عام 1702 حين اشترت المدينة العقار ووضعته تحت رقابة أعضاء مجلس البلدية. ثم برزت مشاكل مالية خطيرة ناجمة عن قدم المباني وتهالكها، وضيق مساحتها في مواجهة ذلك التدفق المتزايد للمختلين عقليا الذين ازداد عددهم من 30 تقريبا في عام 1700 إلى 114 في عام 1788؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى طرد «الغرباء» (عن المدينة). في عام 1770، بنيت منشأة جديدة حوت 24 غرفة. لم تكن هذه الغرف الخشبية - على الرغم من أنها كانت متسعة بما يكفي لتكون لكل واحدة منها نافذة على حدة - مزودة بنظام تدفئة ولم يكن المختلون عقليا يشغلونها إلا في الليل، بينما كانوا يتمتعون بقية الوقت بشبه حرية داخل جدران المؤسسة، باستثناء المصابين بالهياج بالطبع. كانت كل غرفة تشتمل على سرير مثبت بإحكام وفراش محشو بالقش وتطل على ساحتين منفصلتين وضيقتي المساحة؛ إحداهما مخصصة للرجال والأخرى للنساء، وتنتهيان عند المصلى. بيد أنه بمعاينة الغرف الستين اللاتي اشتملت عليهن مصحة سان لازار في أواخر القرن الثامن عشر، واللاتي بلغ إجمالي عدد النزلاء بهن 114 مجنونا؛ ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الغرف، على الرغم من أنها كانت مصممة في البداية لاستيعاب فرد واحد، فإن هناك العديد من الغرف التي كان يشغلها اثنان أو حتى ثلاثة من المجانين. وإذا نظرنا عن كثب، فسنجد أن اللوائح الداخلية تعرضت لتشويه وتحريف رهيب؛ مما أعطى الانطباع بأن هذه المنشأة تعد مؤسسة رائدة (نصت تلك اللوائح بشكل خاص على وجود جراح لحلاقة المرضى وإجراء عمليات الفصد لهم، وتضميد الجروح، وتوزيع المطهرات وجرعات الدواء)، وهو ما يخالف الواقع اليومي بكل تفاصيله: الغرف المزودة بأفرشة القش القذرة، والمجانين المصابين بالهياج المقيدين بالأغلال، والمصابين بالخرف المهملين دون أدنى رعاية أو اهتمام، والوفيات المسائية «التي لا تحدث إلا كنتيجة لعدم متابعة حالة المرضى». وكان يجري تشغيل المختلين عقليا في الأعمال اليدوية بغية الحصول على بعض المال؛ «مما أدى إلى تحقيق مدخرات كبيرة». وكانوا يعرضون يوم الأحد على زوار مارسيليا الفضوليين مقابل فلس «أوبول». ومع ذلك، كان «المشفى يعاني من ناب الفقر الذي ينهشه»، على حد تعبير أمين صندوق سان لازار.
أما فيما يتعلق بالمثال الآخر الذي تقدمه مدينة إكس آن بروفانس، فبإمكاننا ملاحظة التالي: في بداية الأمر، قام المشفى العام باحتجاز المجانين المصابين بالهياج المنبوذين من قبل المشفى الرئيس في الأقبية. ثم انضمت هاتان المؤسستان إلى المشفى الثالث بالمدينة، وهو مشفى لاميزيريكورد (الرحمة)؛ من أجل إيجاد حل للمشكلة التي طرحتها مسألة اعتقال المجانين، وجرى الاتفاق على إنشاء مأوى للمختلين عقليا،
14
في اليوم الموافق 2 سبتمبر 1691، مع تقاسم نفقات الإقامة والإعالة وصيانة المنشأة. ويمثل هذا الاتفاق إحدى الحالات النادرة التي تتفق فيها المشافي الموجودة بمدينة واحدة؛ ولذا ذكرت هذه المبادرة كمثال رائع جدير بالإعجاب والإشادة. وهكذا خصص مبنى منعزل بما فيه الكفاية للمختلين عقليا، وفي اليوم الموافق 27 أكتوبر، احتجز به 11 «امرأة وفتاة مجنونة كن منتشرات في أنحاء المدينة». وكان القائمون على هذا المأوى يحرصون على عدم إبقاء المرضى لمدة أطول من اللازم، ولا سيما أولئك «الذين تنتابهم فترات صحو ووعي تمتد لوقت طويل [...] ولكن مع توخي الحذر في كل شيء». في الواقع، كان معدل التناوب في بداية الأمر سريعا. ففي الفترة من 1691 إلى 1768، بلغ متوسط عدد الحالات المقبولة سنويا سبع حالات، بحيث كان متوسط عدد المختلين عقليا 17. ثم أدى قبول حالات الحمقى القادمين من جميع أرجاء بروفانس مقابل دفع نفقات الإقامة إلى زيادة الأعداد بشكل كبير ليصبح عدد النزلاء 160 في عام 1785؛ مما تتسبب في حدوث اكتظاظ نتج عنه في أغلب الأحيان وضع اثنين من المختلين عقليا في غرفة واحدة.
في مشفى نيم العام، لم يكن هناك في بادئ الأمر إلا عدد قليل جدا من المجانين. «هذا النشاط الغريب عن هذه الدار قبل عام 1749، كان في الأصل محدودا للغاية؛ نظرا لأن تلك الفئة البائسة كانت قليلة العدد ولا تحظى بأي اهتمام؛ ففي عام 1755، لم يكن عددها يتجاوز خمسة أو ستة.»
15
ثم، مع مرور السنوات، ازداد عدد النزلاء تدريجيا حتى وصل إلى 35 مجنونا في عام 1781، في حين أن عدد الغرف لم يتجاوز العشر بالنسبة إلى الرجال، ومن ثم كان لا بد غالبا من احتجاز المجنونات اثنتين اثنتين (نتج عن هذا النظام كثير من المشاكل) في الغرف المخصصة «لفتيات السوء» اللواتي يطلق عليهن أيضا، على اعتبار ما سيكون بالطبع، «التائبات». وكان هذا الخلط في الغرف يعد أمرا مؤسفا وغير طبيعي بالمرة، حتى في نظر المسئولين عنه.
ومع ذلك يبدو أن المختلين عقليا كانوا يحظون في النصف الجنوبي من المملكة بقدر أكبر من الرعاية والعناية؛ فقد أولاهم مشفى مونبلييه العام اهتماما خاصا، ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا كثرا داخله. أما مشفى ألبي،
16
فقد أوجد حلا لمشكلة مجاورة المختلين عقليا المؤسفة (خاصة بسبب صراخهم المزعج) بإنشاء غرف خاصة، في مبنى بعيد ملحق بالمشفى، تطل على فناءين؛ أحدهما للرجال والآخر للنساء (إذ إنه من المفترض أن حسن استعمال الغرف الفردية يمنح المختلين عقليا الهادئين حق التنزه في الساحات). يبلغ طول هذه الغرف 3,25 أمتار وعرضها 2,60 متر، ويزيد ارتفاع سقفها عن ثلاثة أمتار. يغطي الأرضية بلاط من القرميد. وكانت كل غرفة تغلق بباب مثبت عليه قفل ضخم ومزاليج من أعلى ومن أسفل. على أحد الجوانب، هناك نافذة مزودة بقضبان حديدية، مع وجود إمكانية لغلقها تماما بمصراع خارجي سميك. ويشكل السرير المثبت إلى الأرضية والمزود بفراش من القش وببطانيات في الشتاء (يحصل عليها المختل عقليا فقط إذا كان هادئا) قطعة الأثاث الوحيدة بالغرفة، بينما يوجد مقعد مرحاض مجهز عند فتحة النافذة. وكان يتم الخضوع لفحص طبي يوميا؛ إذ كان يتعين على الجراح الملحق بالمشفى المرور شخصيا على المرضى للحرص على قيام السجان المسئول عن المختلين عقليا بمهام عمله المتمثلة في الحفاظ على نظافة الغرف وتغيير الأفرشة القش والملاءات. سواء عولج المجانين أم لا، فهذا يعني أنه كان ينظر إليهم على أنهم بالفعل مرضى. وعلى الرغم من ذلك، كان يجب أن يدفع المختلون عقليا المقيمون في مأوى ألبي نفقة إقامتهم، وهو ما يتناقض تماما، كما هي الحال في ليون، مع مبدأ المشفى العام. في الواقع، لم يكن هناك اهتمام في مختلف الأماكن بإرساء دعائم فكر أو مبدأ تقوم عليها المؤسسة بقدر ما كان هناك انشغال عملي بمسألة إيواء الحمقى بطريقة أو بأخرى.
كما رأينا، خارج فرنسا كان المختلون عقليا - عددهم محدود ولكنه في تزايد - يقيمون في المؤسسات المعادلة للمستشفيات العامة (مثل بيوت العمل في إنجلترا ، والسجون في ألمانيا، والإصلاحيات بأنواعها المختلفة كمنازل التأديب ومنازل صقل الأخشاب ومنازل الغزل في المقاطعات المتحدة، وغيرها). ويبدو من خلال القليل الذي نعرفه أنه كان هناك اتجاه، في وقت مبكر جدا، نحو تأسيس مراكز متخصصة كمشافي المجانين، ودور إيواء المصابين بأمراض مستعصية والميئوس منهم، وملاجئ الأيتام، ودور المسنين ... وهكذا خصص في لاهاي في أوائل القرن السابع عشر مأوى للمجانين وللمصابين بالطاعون، كما أنشئت دار للمجانين في مدينة دلفت وافتتحت في عام 1677. وفي روسيا، في أواخر القرن الثامن عشر، في عهد الإمبراطورة كاثرين العظيمة، «بدأ يظهر اعتراف تدريجي بالطابع الخاص الذي يميز المشفى عن دار المختلين عقليا، ويميز هذه الأخيرة عن الإصلاحية.»
17
ومع ذلك، فإن أيا من المؤسسات لم تكن تستقبل حمقى بقدر ما كانت الداران الباريسيتان الكبيرتان تستقبلان.
إفلاس المؤسسة
لم يستطع مرسوم 1656 إيجاد حل أفضل من سابقيه لمشكلة التسول في باريس، بعد زوال النجاح العابر والنسبي للسنوات الأولى لاشتغال المشفى العام. في أعقاب حدوث مجاعة في عام 1662، اجتاح المتسولون من جديد شوارع باريس. وفقا لما ورد في واحد من الكتيبات العديدة التي نشرها المحافظون، «مقابل كل متسولين اثنين كان يجري اعتقالهما، كان يأتي أربعة أو ستة للتسول في المدينة.»
وسرعان ما وجد مشفى باريس العام نفسه - بوصفه شخصا اعتباريا له كيان مالي - عاجزا عن أداء مدفوعاته. ومن ثم أطلق المديرون صرخات الاستغاثة المثيرة للشفقة: «إن المشفى العام يهلك، سينهار إن لم يتم إنقاذه بسرعة، أو لنقل بالأحرى إنه يتداعى بالفعل إن لم يتم النهوض به على الفور. فلم يعد لديه مال، ولا مخزون، ولا رصيد ائتماني. ويتجلى من خلال بيان الذمم الدائنة الذي أعد في الاجتماع الاستثنائي الذي عقد في الثالث عشر من شهر ديسمبر الجاري 1666، أن المشفى العام مدين بمبلغ مائتين وخمسة وعشرين ألفا وثمانمائة وثلاثة وثلاثين جنيها واثني عشر بنسا وتسعة دنانير.»
18
علاوة على ذلك، وفق ما ذكر، في بعض الأوقات، كان هناك تفكير في إلقاء بعض الفقراء خارجا. بعض التبرعات الكبيرة فقط هي ما مكنت المشفى من الاستمرار، ولكن يبدو أن هذه «الهبات الرائعة» أخذ معينها ينضب سريعا، ولا سيما أن المتبرعين كانوا يتيقنون كل يوم، بالنظر إلى الشارع، من فشل المؤسسة. في منتصف القرن الثامن عشر، ومع وجود أكثر من 13 ألف محتجز، أصبح الوضع المالي كارثيا بحق. هذه المرة بلغ العجز مبلغا ضخما يساوي 2,7 مليون جنيه. تعددت التفسيرات، بدءا بانعدام الدخل. لم تعد الإيرادات وخاصة الصدقات كافية، وتدنت بشكل كبير نفقات الإقامة التي كان يندر دفعها، وأصبحت حصيلة الأرباح العائدة من وراء عمل المحتجزين صفرا. ولكن، قبل كل شيء، يجدر القول إن التوسع المفرط لمشفى باريس العام هو الذي أدى إلى توقف مجلس الإدارة عن المتابعة.
ما قد يبدو، في الواقع، وكأنه «اعتقال كبير» هو في الحقيقة زيادة مصطنعة في عدد المحتجزين، فوفقا لما ذكره المسئولون الإداريون في منتصف القرن الثامن عشر: «أصبح مشفى باريس العام، منذ ذلك الحين، مشفى المملكة بأكملها؛ حيث كان يجري استقبال الفقراء الأصحاء والعاجزين، والمجانين، والمصابين بالصرع، والمصابين بالتهاب العقد السلي، والمرضى المصابين بأمراض تناسلية، وأيضا الأشخاص المسجونين قسرا؛ نظرا لعدم وجود أماكن آمنة في الأقاليم لحبسهم.»
19
ومن ثم برزت شكاوى حيال هذا الوضع عززتها الأوامر المستمرة الصادرة من قصر فرساي إلى حكام الأقاليم: «لا يمكن النظر إلى مشافي باريس باعتبارها مكب نفايات الأقاليم»، وردت العبارة السابقة في خطاب صادر في عام 1749 بشأن إحدى المختلات عقليا التي أراد سكان بلدية بيليم (التابعة لمنطقة ألنسون الإدارية) احتجازها في سالبيتريير.
ويتعين أن نلاحظ، استكمالا لحديثنا، أن الزيادة الرهيبة في أعداد النزلاء بمشفى باريس العام في منتصف القرن الثامن عشر، بعيدا عن كونها ناجمة عن «حصيلة» جيدة لعملية ملاحقة المتسولين في باريس؛ هي نتيجة لفشل الاحتجاز في الأقاليم (لذا سيكون قياس النسبة المئوية لعدد المحتجزين في المشفى العام بالمقارنة مع عدد السكان في باريس أمرا مضللا، وهو ما قاد ميشيل فوكو إلى تلك النسبة المذهلة التي تساوي 10٪). لقد كان المجانين موجودين بأعداد كبيرة خلال عمليات النقل إلى العاصمة، طبقا لما جاء في القرار الصادر عن برلمان باريس منذ عام 1695 والذي ذكر بالفعل أن مديري المشفى العام «أقروا بوجود العديد من الأطفال وأشخاص من جميع الأعمار، من كلا الجنسين، ومكفوفين، وحمقى، وغيرهم ممن يعانون من أمراض أخرى، هؤلاء جميعهم كانوا يرحلون من مختلف الأقاليم وينقلون إلى مدينة باريس.»
20
بالرغم من توبيخات السلطات الملكية، لم تتوقف هذه الظاهرة. وسنتناول بالتحليل الآليات والأسباب المتعلقة بها، مع التطرق إلى الجزء المغمور من الجبل الجليدي المتمثل في التأديب، الذي كان يتم في السجون أو منازل الاحتجاز الجبري بناء على طلب العائلات و«المجتمعات المحلية».
إن تكرار المراسيم الملكية ما هو إلا دليل على فشل الاحتجاز. بدءا من عام 1661، ورد في أحد المراسيم اعتراف بفشل عملية الاعتقال في عام 1657 وتذكير بالهدف المزدوج من إنشاء المشفى العام والمتمثل في: «إظهار قدر من الشفقة والحنو تجاه الضعفاء يقابله قدر معقول من القسوة والصرامة تجاه الكسالى الماكرين.» ودائما ما كانت تفرض عقوبات صارمة متصاعدة على المتسولين الأصحاء في حالة اقتيادهم للمرة الثالثة إلى المشفى العام، وهو ما يناقض الدليل على أنه كان يتم إطلاق سراحهم. وتعكس عمليات إطلاق السراح هذه الغير المناسبة - وهي التي أدينت بشدة من قبل السلطة الملكية الحاكمة في السنوات التالية - الضائقة المالية التي ترزح المؤسسة تحت وطأتها.
تكررت البيانات الملكية دون كلل أو ملل. وقد أحصى أحدها على وجه الخصوص، ضمن فئات أخرى، «العاجزين المصابين بالصرع»، ولكن لم يرد أي ذكر للحمقى (ولن يرد أبدا في نهاية المطاف). أطلقت السياسة القمعية الفعلية التي اتبعها المشفى العام تجاه المتسولين الأصحاء سياسة المساعدة العاجلة. أصر الإعلان الصادر في عام 1724، أكثر من غيره، على إحياء ديناميكية المشفى العام في جميع أنحاء المملكة، وذلك من خلال الإشارة بوضوح إلى اعتقال المتسولين الأصحاء. ثم أصبح إعلان 1724، بعد هذه الانطلاقة القوية، حبرا على ورق اعتبارا من عام 1731، في أعقاب المجاعة التي ألمت بالبلاد في عام 1725 وتسببت في تشريد عدد كبير من التعساء. في منتصف القرن الثامن عشر، حان الوقت لمعالجة قضيتي العاجزين (الذين كانوا يحتلون في الواقع المشفى العام) والمتسولين الأصحاء (الذين كان لا بد من إيجاد مؤسسة جديدة لإيوائهم) كل على حدة. لقد حان الوقت أخيرا للتفريق بين المساعدة والشرطة.
في الأقاليم، كان الفشل أكثر وضوحا؛ لأن المشافي العامة لم تحقق نجاحا؛ لا فيما يتعلق باعتقال الأصحاء ولا فيما يتعلق باعتقال العاجزين. ومع ذلك، فقد حاولت هذه المشافي تطبيق ما جاء في إعلان 1724، ولا سيما أنه كان قد قطع وعدا متهورا بالتكفل هذه المرة بجميع النفقات على حسابه. وهكذا أراد مشفى كوتانس العام، الذي أنشئ متأخرا، أن يدبر مكانا للمتسولين الأصحاء. ومن ثم أبدى اعتراضا على فرسان المارشالية حتى لا يظهروا تعنتا عبر إلقاء القبض على العاجزين فقط: «سيكون من الملائم [...] ألا يؤذن لهم باقتياد جميع الفقراء على اختلاف أنواعهم من الأبرشيات المجاورة دون تمييز، وإلا فستجد المشافي أنفسها مكتظة بالمجانين، والمعاتيه، والعاجزين، وغيرهم. أولئك ليسوا بالضبط المتسولين المحترفين ولا المتشردين الذين يراد قمعهم.» لقد قيل ما فيه الكفاية. وإذا وجد مجانين، كما هي الحال ها هنا؛ فذلك لأنهم «سرقوا» الأماكن المخصصة للمتسولين الأصحاء. بل والأفضل من ذلك، أن بعض المشافي العامة المحدودة المساحة والمكتظة بالعاجزين من شتى الأنواع رفضت بالفعل احتجاز الأصحاء.
في معظم الأحيان، كانت المشافي العامة، التي تأسست على عجل، تكابد صعوبات مالية خطيرة. لقد كان الوضع مترديا، خاصة إذا وضعنا في الحسبان مآسي الدهر. بالإضافة إلى ذلك، لم تستطع السلطة الملكية الوفاء بالتزاماتها على الرغم من وعودها. أما فيما يتعلق بحركة العمل الخيري التي مهدت الطريق لميلاد المشفى العام، فقد نضب معينها؛ سواء من جهة الأثرياء، أو من جهة الأناسي المتواضعين الذين كان يطلب منهم في كثير من الأحيان دفع مبالغ مالية معينة في نطاق ما يسمى ب «جباية الأموال». «لقد تباطأ إيقاع العمل الخيري، وأصابه الجمود، وكاد يخبو»، تلك هي العبارة التي رددها بمنتهى الرقي مديرو مشفى بايو العام في سنة 1772.
في المشفى العام الكائن بمدينة سان لو، كان ينبغي زيادة عدد الأسرة المتاحة بمعدل ثلاثة أضعاف. فقد تعين على المسئولين وضع «ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو حتى ستة من الفقراء معا ليناموا في سرير واحد»، علما بأن عدد الفقراء كان يبلغ 207، في حين أنه كان يجب توفير مكان يسع 600 فقير. وقد كتبت إحدى الراهبات العاملات في المشفى خطابا إلى الوكيل الموفد في السابع عشر من ديسمبر 1724 قالت فيه: «لقد مرضت رئيستنا منذ ثلاثة أسابيع بالحمى وأصابها الحزن من رؤية الفقراء بمشفانا يعانون، وتقطعت أحشاؤها حزنا؛ لأنها ترى نفسها عاجزة عن التخفيف من آلامهم. وأؤكد لكم يا سيدي أن الإنسان الذي لا يتأثر بأوجاعهم وشقائهم ولا تتحرك مشاعره لدى رؤيتهم شبه عرايا في ذلك الفصل الذي نحن فيه [...]، لا بد من أنه يمتلك قلبا من حجر. أود أن أضيف فيما يتعلق بمتسولينا، أنهم أناسي مرضى، جميعهم مصابون بالصرع [؟] ومع كل هذا، فإننا نجد شيئا من التعزية إذا استطعنا توفير مسكن وملبس لهم.» نقرأ في خطاب آخر يعود تاريخه إلى أبريل 1733 العبارة التالية: «لقد استهلك تقريبا كل المخزون لدينا من الخشب، والزبد، والشحم. واستعملت البياضات (قماش قطني أو كتاني يستعمل للملابس الداخلية وسواها) بالكامل، كما ينقصنا خمر التفاح.»
في منتصف القرن الثامن عشر، لم يكن الوضع أفضل حالا في المؤسسات الكبرى. بيد أن هذه المؤسسات كانت تمتلك دخلا عبارة عن مبالغ مالية مخصصة لها لا يستهان بها (متمثلة في جزء من رسوم الدخول المفروضة على بعض السلع والبضائع، والغرامات على وجه الخصوص) بالإضافة إلى الناتج الذي كانت تحصل عليه من المصانع التابعة لها. وعلى الرغم من ذلك، تجاوزت المصروفات بكثير الإيرادات، وكانت هناك محاولات في كل مكان لسد هذا العجز الضخم. فقد قام مشفى روان العام، الذي كانت تقدر خصومه في ذلك الوقت ب 216 ألف جنيه، بطرح قرض للاكتتاب. أما مشفى ليل، فقد تنازل عن ملكية جزء من أصوله ، كما فعلت العديد من المؤسسات الأخرى. في ظل هذه الظروف، لم يكن هناك مجال لتمويل إنشاءات جديدة أو حتى لترميم وإصلاح المنشآت القائمة بالفعل. في كل مكان تقريبا، كانت المباني التابعة للمشافي العامة، والتي لم تكن تتم صيانتها، على شفا الانهيار.
الفصل الثالث
دور الاحتجاز الجبري تتسلم الراية
سرعان ما رأت السلطة الملكية الحاكمة (أي الدولة) أن الحاجة أصبحت ملحة لإيجاد بدائل للاحتجاز. وهو ما قاد في «القطاع العام» إلى إنشاء مستودعات للتسول، في أواخر حكم الملك لويس الخامس عشر، كامتداد مباشر للمشفى العام. وسنتناول هذه النقطة بالتفصيل لاحقا. أما بالنسبة إلى «القطاع الخاص»، فقد تسلمت دور الاحتجاز الجبري الراية. منذ بداية القرن السابع عشر، بدأت العائلات، ولكن بأعداد قليلة، في إرسال أبنائها أو بناتها السيئي السلوك أو المنحلين أخلاقيا إلى هذه الدور بغية إصلاحهم، كما كان يرسل إليها أيضا الأزواج السيئون السكارى، وذوو السلوك العنيف، والمبذرون، والزوجات السيئات الفاسقات، والأرامل ممن لا يزلن في ريعان شبابهن واللائي يتعرضن لإغراءات قد تؤدي إلى تورطهن في زيجات غير موفقة، والجانحون المستترون الذين على وشك الوقوع في يد العدالة مما سيتسبب في إلحاق الخزي والعار بأهلهم، وأخيرا المجانين. وهذا هو المكان الذي كان ينبغي، طوال عهد النظام القديم، البحث فيه عن المجانين، بدلا من المشفى العام حيث لا يوجد إلا المعوزون وفقا لتعريف الكلمة. يذكر أن المشافي العامة المنتشرة في أرجاء المملكة هي أبعد ما يكون عن أن تشكل أماكن ضخمة للاحتجاز؛ فهي لم تكن تحوى في أواخر القرن السابع عشر إلا 5٪ من الحمقى، وذلك قبل أن تصل هذه النسبة بشكل استثنائي إلى 10٪ في باريس في أواخر القرن الثامن عشر (مقابل نسب ضئيلة في الأقاليم)، بالإضافة إلى الأبراج المشيدة فوق الأسوار والسراديب، والتي كانت لا تزال تعد أماكن احتجاز لبعض المجانين منذ القرون الوسطى. تلك حقيقة واقعة، ولا سيما أن دور الاحتجاز الجبري هي التي تمثل الجزء المغمور من الجبل الجليدي، في حين تمثل مؤسستا سالبيتريير وبيستر الجزء الظاهر والخداع منه. اختلفت الإجراءات المتبعة في منازل الاحتجاز الجبري، أو الإصلاحيات، عن سواها؛ إذ كان يتعين على العائلة أن تتقدم بطلب مفصل لالتماس قبول الحالة مرفق بتعهد بدفع نفقات الإقامة.
وكان الخطاب المختوم الذي يحمل أمرا ملكيا استبداديا هو الوثيقة القانونية اللازمة لوضع الشخص في إحدى دور الاحتجاز الجبري. إن الأمر الملكي،
1
بوصفه إجراء معقدا يعبر عن الإرادة الشخصية للملك، لا ينحصر في كونه مجرد أسطورة سوداء تداولتها الألسن. كانت هذه الأوامر الملكية مقتصرة في بداية الأمر على المبادرات التي يطلقها الملك وحده، ثم شاع استخدامها أكثر فأكثر في عهد لويس الرابع عشر، وازدهرت بشكل مذهل في القرن الثامن عشر حين اعتاد القائد العام لشرطة باريس (الذي جعل من هذه الأوامر الملكية «ملاذا اعتياديا لضعفه») ومن بعده حكام الأقاليم؛ اللجوء إليها لاستصدار أوامر من قصر فرساي (بمعنى مقر الإدارة المركزية وليس بمفهوم قرارات مبنية على «إرادة ورغبة» الملك) باعتقال أحد «المرشحين» للإصلاح. ولكن، وراء مظاهر النفوذ المتعددة هذه، كانت العائلات في الواقع هي التي تظهر طوال القرن الثامن عشر باعتبارها المطالب الرئيس بإصدار الأوامر الملكية (في أكثر من 90٪ من الحالات). فعلى سبيل المثال، في منطقة كاين الإدارية (التي تمثل حاليا إقليم المانش والنصف الغربي من إقليم كالفادوس)، تقدر نسبة الملفات التي صدر بشأنها أوامر ملكية خلال القرن الثامن عشر بناء على طلب إحدى الجهات التي تتمتع بالنفوذ (الملك، أو الوزراء، أو الكنيسة) 2,2٪ من إجمالي الملفات البالغ عددها 1723، بينما صدرت جميع الأوامر الملكية الأخرى في باقي الحالات بناء على مبادرات فردية تقدمت بها العائلات في أغلب الأحيان والمجتمعات السكانية في أحيان أخرى.
يرجع نجاح الأمر الملكي إلى سرعته وفي الوقت نفسه إلى سريته. فالعائلات التي كانت تسعى للحصول عليه، يحركها دائما حالة طارئة ورغبة ملحة في إنقاذ الموقف؛ إذ تكون هذه العائلات، على حد قولها، في كل مرة، على شفا تجرع مرارة الخزي والعار: «سيادة الملك، أسرة محترمة من مدينة ليزيو، يتهددها كل يوم خطر الخزي والعار الذي قد يلحق بها بسبب أحد الرعايا المنحرفين، تلتمس شرف الاستظلال بحمايتكم.»
طلبات الاعتقال
في هذه الدوامة الجديدة، التي تلت دوامة المشفى العام، سوف يتم ابتلاع الحمقى غير المعوزين وغير المشردين، بعبارة أخرى الغالبية العظمى من المجانين. ومع ظهور منازل الاحتجاز الجبري، برزت إمكانية جديدة لإيواء المجانين. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن ممكنا أن يكون هناك في ذهن مقدمي الطلبات، بل وفي ذهن السلطات العامة أيضا، أدنى خلط بين «المرشحين» للتأديب والإصلاح الذين يعدون عناصر سيئة يلومها المجتمع، والحمقى، الذين ينظر إليهم كمرضى يشفق عليهم المجتمع. هذا يعني أنه، فيما يتعلق بهذه الفئة الأخيرة، كان يجري التعامل بحذر شديد وإظهار قدر كبير من التيقظ حيال مقدمي الطلبات.
يجب أن تكون العريضة المرفوعة للحصول على أمر ملكي بسبب الجنون - والمقدمة إلى حاكم المنطقة الإدارية أو إلى وزير الديوان الملكي - مفصلة وجماعية. فنجد على سبيل المثال أحد الآباء يقوم بسرد السلوكيات العنيفة التي صدرت عن ابنه ذي الخمسة والعشرين عاما، وتهديداته بالموت. ولا بد من وجود ما لا يقل عن اثني عشر توقيعا، من ضمنها توقيعات الأقرباء، أسفل العريضة. ثم يشهد كاهن الأبرشية بخط يده على أن الشخص المعني مصاب ب «اختلال عقلي يصحبه هياج». ونادرا ما كان يتم إرفاق شهادات طبية بهذا الطلب؛ نظرا لأن الأمر لم يكن يتعلق بالتشخيص وإنما بالتصرفات والأفعال. نستشهد على سبيل المثال في هذا الصدد بإحدى الوقائع حين اجتمع سكان بلدية لينتو، بمنطقة روان الإدارية، في الكنيسة يوم الأحد الموافق 19 نوفمبر 1786 عقب صلاة القداس للاتفاق على بنود عريضة مرفوعة للحصول على أمر ملكي ضد المدعوة ماري برونيه، إحدى رعايا الأبرشية. نقتبس بعض العبارات الواردة في نص العريضة على النحو التالي: «لقد أصابها جنون يجعلنا نخشى على حياتها وعلى السلامة العامة. لقد ألقت بنفسها أكثر من مرة في النهر وحاولت أكثر من مرة إضرام النيران في المباني التابعة للأبرشية المذكورة.»
يسعى مقدمو الطلب للحصول على محضر إثبات حالة؛ ولذا نجد أن الألفاظ المستخدمة تدل على حالة جنون بين، بدءا بكلمة «جنون» ومشتقاتها المختلفة («خطير»، «نوبات») وأيضا «بله، وخرف، وخرف يرافقه هيجان، وهياج، واستلاب واختلال عقلي، والإصابة بفتنة تطير الصواب، وفقدان الرشد، وفقدان تام للقوى العقلية». نقرأ في موضع آخر العبارات التالية: «رأسه (الشخص المجنون) غير متزن تماما؛ مما يجعل التعرف عليه سهلا للناظرين.» من الجدير بالذكر أن المصطلحات الطبية الكلاسيكية مثل الهوس، والملنخوليا، والتهاب الدماغ المسبب لجنون الهياج، و«الاهتياج الرحمي»؛ كانت شديدة الندرة ولم تذكر إلا في فترة لاحقة، بالإضافة إلى أنها لم تكن متطابقة مع أي تشخيص سريري محدد.
كانت العائلة المقدمة للطلب ترفق به في كثير من الأحيان شهادة من قس أهل للثقة بحيث لا يمكن التشكيك في حسن نيته أو صدقه. فعلى سبيل المثال، في عام 1735، أيد كاهن بلدية بريل، التابعة لأبرشية بوفيه، الطلب الذي تقدم به مزارع من أجل اعتقال ابنه «الذي أصيب باختلال عقلي» ونصه كالتالي: «أشهد، أنا الموقع أدناه، القس وكاهن الرعية [...] أن المدعو فرانسوا تيبو، قد أصابه منذ ثلاثة أسابيع تقريبا اختلال عقلي يتجلى لأعين الناظرين من خلال بعض التصرفات الشاذة والمخالفة للصواب التي تصدر عنه، الأمر الذي أصاب والده وعائلته بحزن شديد.»
في بعض الأحيان، كانت السلطة نفسها، ممثلة في شخص قائد شرطة باريس أو حاكم الإقليم، هي التي تتقدم بطلب الحصول على أمر ملكي كبديل عن الأسرة، إذا كانت غائبة أو غير معروفة. نذكر على سبيل المثال قضية مشابهة في باريس، ترجع إلى عام 1717، وهي حالة المدعو روسو الذي اعتقل مرتين من قبل وأثار شفقة المفوض المسئول عن منطقته على النحو التالي: «إنه لا يأكل إلا قليلا من الخبز ويشرب يوميا مقدار نصف ستية من الجعة الممزوجة بالماء، قائلا إنه لا يشرب إلا الماء. يرتدي هذا الشخص ملابس رثة لدرجة أن الشحاذين في الشوارع يبدون أفضل حالا منه [...] إنه لأمر مثير للشفقة رؤيته بمثل هذا النحول والضعف الشديدين. أعظم عمل خيري يمكن القيام به تجاه هذا الشخص هو الحيلولة دون هلاكه.» وقد اتخذ ضابط الشرطة، بعد تلقيه مذكرات جديدة تتصاعد فيها نبرات القلق ، قراره برفع طلب الحصول على أمر ملكي إلى الوصي على العرش.
بعد تلقي العريضة التي يقدمها المدعون، يأمر الحاكم أو القائد العام لشرطة باريس بفتح تحقيق إداري دقيق. في عام 1764، كتب الوزير بيرتن إلى الحكام قائلا: «عليكم أن تحتاطوا كثيرا فيما يتعلق بالنقطتين التاليتين؛ أولا: يجب أن تكون المذكرات موقعة من الوالدين، ومن أقرباء الأم والأب. وثانيا: يجب أن تستفسروا جيدا عن الذين لم يوقعوا وعن الأسباب التي منعتهم من ذلك، والاستماع إلى وجهة نظرهم بالإضافة إلى التحقق الدقيق من صحة ما يقولونه.»
كان الإجراء المتبع يقضي بانتقال نائب الحاكم أو أحد ضباط شرطة باريس إلى مكان وجود الحالة. ثم كان يجري استجواب الشخص المعني، والمدعين، والجيران، وأعيان ووجهاء المدينة. في تقرير صادر عام 1746 عن الوكيل الموفد لمنطقة ألنسون الإدارية، نجد ما يؤكد ثبوت حالة جنون الابن لوفيفر على النحو التالي: «لقد أصيب منذ عامين بجنون حقيقي ومستمر يتدهور في كثير من الأحيان، فيتخذ صورة هياج متكرر وعنيف، لدرجة أنه كاد أكثر من مرة أن يقتل والده ووالدته. هذه الوقائع معروفة للجميع ولنا. ولقد قمنا بزيارته بحثا عن مزيد من الإيضاح بما لا يدع مجالا للشك، ووجدناه على هذه الحال المذكورة أعلاه.» كان الوالدان يقومان برعاية ولدهما ليلا ونهارا ويعملان على مداواته، ولكن لم يعد لديهما بنس واحد. قبل ثلاث سنوات، كان الوكيل الموفد عينه قد ذهب ليتحقق عيانا من جنون رجل دين؛ إذ لم يعد في حالة تسمح له بأن يبقى تحت رعاية الخبازين الذين كانوا قد استضافوه. «يعاني رجل الدين المقصود من خلل ذهني تام وجنون حقيقي يشكل خطورة؛ سواء على صعيد الدار حيث يجري احتجازه عند مقدمي الالتماس، أو على صعيد الجوار في حالة هروبه.» بيد أنه لا يوجد مكان ملائم لاستقباله في منطقة ألنسون الإدارية بأكملها؛ ولذا يقترح وكيلنا الموفد على الحاكم الالتجاء إلى الدور الباريسية، «التي اعتادت استقبال الرجال الذين يصيبهم مكروه مماثل، وخاصة رجال الدين.»
غالبا ما كان الجنون يتجلى فارضا نفسه بشكل واضح : «وفقا للإجابات التي أعطاها (المريض) عن الأسئلة التي طرحت عليه، من المؤكد أنه ما زال مختلا عقليا.» «من الصعب أن نتصور أن هذه الثرثرة التي تحوي كلاما غير مرتب ولا تتمة له ليست صادرة عن شخص مختل عقليا.» ولكن، نجد مرة أخرى أن تشخيص الحالة تم استنادا إلى الإدراك السليم والتفكير المنطقي المشترك وليس استنادا إلى إثبات حالة طبية. وبالطبع، هذا لا يمنع توخي اليقظة. ونظرا لأن معظم الحالات كانت مستعجلة؛ كان قصر فرساي غالبا ما يقوم بإرسال الأوامر الملكية دون إبطاء ومن دون انتظار ذهاب الحاكم أو ضابط الشرطة للمعاينة، بيد أن هذه الأوامر كان دائما ما يرفق بها توصيات كتلك التي أرفقت بالأمر الملكي الصادر في عام 1779 على النحو التالي: «برجاء عدم تنفيذ هذه الأوامر الملكية إلا بعد التأكد بالتحديد من أن حالة السيد بلونديل تقتضي فعلا اتخاذ هذا التدبير الاحترازي حياله.»
ومما يدل على يقظة السلطات، أنه لم يكن من غير المألوف رفض إصدار الأمر الملكي أو على الأقل تأجيله (تم تأجيل طلبات في منطقة كاين الإدارية بنسبة تتراوح ما بين 15 و20٪، وفي بروفانس بنسبة تتراوح ما بين 25 و30٪). نذكر على سبيل المثال حالة أحد النبلاء وهو السيد فير، الذي كان منفصلا جسديا عن زوجته، وأرادت عائلته اعتقاله لإصابته بالجنون (فقد كان ينخس خيوله بالسيوف، ويريد أن يتلو صلاة القداس ويقوم بسب وإهانة القس). ولكن التقرير الصادر عن حاكم كاين، في أغسطس 1767، يقول شيئا مختلفا: «أنا مقتنع أن المصلحة وحدها والعداوة هما الدافع لاتخاذ هذا الإجراء. وعدا ذلك، فإن هذا الشخص يملك عقلا محدودا بحيث يمكن مهاجمته مع الإفلات من العقاب، ولكن لن يكون هناك أمر ملكي.» في عام 1763، كتب الوكيل الموفد تقريرا إلى حاكم روان بشأن التحقيق الذي أجراه، قال فيه: «صحيح أن المدعو بليزو يبلغ من العمر حوالي 76 عاما وأن هذه السن، إضافة إلى ماء الحياة (مادة مسكرة) الذي يشربه، قد أصاباه بحالة من الهذيان وضعف العقل والمزاج العكر، ولكنه لا يشكل خطورة بالمرة سواء على حياة أي إنسان، أو على حياته الشخصية، كما لا يخشى أن يقوم بإشعال أي حرائق.» واختتم الوكيل الموفد تقريره قائلا بأن زوجته وبناته هن اللواتي يثرن معظم الوقت، بإهاناتهن، غضبه وانفعاله. ليس هناك ما يدعو بأي حال من الأحوال استصدار أمر ملكي. أما فيما يخص ذاك الشخص الآخر الذي ألقى بنفسه من النافذة، فيبدو «أن إخوته مسئولون عما أصابه بشكل كبير» (فدائما ما كانوا يقولون له: «اسكت! أنت لست إلا بهيمة لا تفقه شيئا».) خلص الوكيل الموفد فيما يتعلق بهذه الحالة إلى أنه يمكن استصدار الأمر الملكي، ولكن شريطة أن يجري علاج هذا الشخص ورعايته بعناية مع تقديم تقرير كل ستة أشهر عن حالته الصحية.
على كل حال، كان قصر فرساي دائما هو الذي يتخذ القرار النهائي، مطالبا في كثير من الأحيان بمده بمزيد من المعلومات، بل ومعربا من جانبه عن الشكوك التي تساوره حول صحة الطلب ومشروعيته. وهكذا في عام 1755، فيما يتعلق بحالة المرأة التي أراد زوجها اعتقالها بسبب الجنون: «اعترض الوزير قائلا: ألا يعزى السبب الحقيقي والوحيد في فورات الغضب التي تصيب هذه السيدة إلى كونها قد أجبرت على الذهاب للعيش عند أبناء أخيها وهي لا تريد ذلك؟» «إن الإكراه الذي يضغط على الإرادة يمكن أن يدفع الشخص إلى ارتكاب أكثر الأفعال شذوذا وحماقة، ومن هنا يمكن القول: إن أي غضب عنيف يعد جنونا بما أن العقل لا يعمل بشكل سليم، ولكن لا ينبغي أن يدفعنا هذا إلى استنتاج إصابة الشخص بالاستلاب العقلي.»
كان الدفع الإجباري لنفقات الإقامة يشكل عائقا آخر لا يستهان به؛ إذ كان يجب - في عريضة استصدار الأمر الملكي - تحديد المؤسسة المطلوبة وتكلفة الإقامة المناسبة، بيد أن العديد من مقدمي الطلبات كانوا يعانون من البؤس ويدعون احتجازهم للمجانين بلا مقابل. ولكن الإدارة لم تكن تستجيب لهم بهذه الطريقة. فلكي يأكل المرء من «خبز الملك»، يجب أن يكون الملك هو الذي اتخذ مبادرة إصدار الأمر الملكي، وهو ما يعد بعبارة أخرى أمرا مستحيلا أو شبه مستحيل في الأقاليم؛ ولهذا السبب لم تكن العديد من الطلبات تؤتي ثمارها. وإذا كانت حالة الجنون تشكل تهديدا خطيرا على الأمن العام، ينبغي إذن اللجوء إلى القضاء.
في بعض الأحيان، قد يصدر قرار اعتقال أحد الحمقى عن طريق السلك القضائي بدلا من الحصول على أمر ملكي (ربما في 30٪ من الحالات). وتتخذ هذه القرارات أشكالا متنوعة. يشكل الحكم القضائي بالحجر خطوة تمهيدية مهمة، ولكنه لم يكن شائعا نسبيا؛ نظرا لأنه يتطلب خوض إجراءات شاقة ومكلفة. كما أنه يفترض أيضا وجود مصالح مادية على المحك؛ مما يحتم تعيين قيم. بعيدا عن هذا الطريق الكلاسيكي القديم، كان بإمكان المجالس النيابية، والمحاكم المختلفة (محكمة المشرفين الملكيين، ومحكمة الإقطاعيين، والمحكمة الكنسية) النطق بأحكام الاعتقال. وهو النظام الذي كان يسري على وجه الخصوص في الحالات التي يكون الأحمق فيها واقعا بالفعل تحت طائلة القانون. ومن المعروف أن مبدأ عدم المسئولية ينطبق دائما على المجنون، ولكن في القانون الجنائي، ينطوي هذا المفهوم على العديد من القيود. بادئ ذي بدء، يحظر على القضاة الأوائل فتح أي تحقيق خلال إقامة الدعوى متعلق بحالة الجنون، وتختص البرلمانات
2
وحدها بالنظر في هذه المسألة. ينبغي إذن لكي ينظر في قضية الجنون أن يتقدم المحكوم عليه باستئناف، وهو ما يعد - بالنسبة إلى المختل عقليا، الذي يكون غالبا بلا محام وبلا عائلة - إجراء بعيدا كل البعد عن المنهجية. ثم هناك ثلاثة أنواع من الجرائم تعفي القضاء من فتح أي تحقيق بشأن الجنون؛ وهي الجرائم التي تكون ضد الملك، أو ضد الدين، أو ضد «الجمهورية» [الدولة]؛
3
الأمر الذي أدى إلى الحكم، غالبا في القرن السابع عشر أكثر منه في القرن الثامن عشر، على أكثر من مجنون مسكين بعقوبة الإعدام. نذكر على سبيل المثال إحدى القضايا التي تعود إلى عام 1670، وهي قضية فرانسوا سارازان، ذلك المجنون البالغ من العمر 22 عاما والمحتجز عند والدته، والذي «ابتدع دينا جديدا» وكان يزعم أن ذبيحة القداس الإلهي عبادة أوثان. هرب سارازان، ووصل إلى باريس، ودخل كاتدرائية نوتردام، واستمع في خشوع إلى صلاة القداس الأول، ثم إلى صلاة القداس الثاني. عند رفع كأس القربان، اندفع ممسكا بالسيف في يده وحاول أن يخترق القربان بالسيف، وأن يقطعه؛ مما تسبب في إصابة القس بجرح وإيقاع حقة القربان. حينما ألقي القبض عليه، وتمت محاكمته، أوضح في هدوء أنه أراد أن يمنع عبادة الأوثان. إن جنون سارازان كان بينا بما لا يدع مجالا للشك، وكذلك الحكم أيضا. وبعد أن صدر ضده حكم يقضي بإرساله إلى المحرقة، كان يتعين عليه أولا أن يقر بذنبه ويعتذر جهارا أمام بوابة كاتدرائية نوتردام؛ حيث قام الجلاد بعدئذ بقطع معصمه الذي دنس المقدسات، «ولكن دون أن يصدر عن المجنون أدنى صرخة، بل على العكس ابتسم لدى رؤية ذراعه وقد أصبح بلا يد!»
4
لقد أراد بالفعل أن يستغفر الله باعتباره آثما، ولكنه لم يرد أن يطلب من الملك الصفح عنه؛ نظرا لأنه لم يكن يعترف البتة بصحة مثوله أمام القضاء؛ ولذا اقتيد إلى المحرقة وأشعلت فيه النيران «ولم يسمعه أحد يشكو». لم يكن المجرم هنا هو من يبتغى عقابه بقدر ما كان الجرم نفسه هو ما يراد معاقبته عن طريق المذنب. ففي ظل النظام القديم، كانت الأخطاء الكبرى يعاقب عليها بعقوبات كبرى أيضا.
بعيدا عن هذه الجرائم المتعلقة بتدنيس المقدسات، كان القتلة «البسطاء» يفلتون من عقوبة الإعدام في حالة الإقرار بإصابتهم بالجنون، ولكن ذلك كان يتم بعد الحكم عليهم بالموت: هذا؛ لأنه قتل خادمته على خلفية الإدمان المزمن للكحول، وذاك؛ لأنه اغتصب فتاة تبلغ من العمر 16 عاما، وكان - وقت ارتكاب الجريمة - في حالة جنون وهياج شديد، لدرجة تحتم معها ضربه بالعصا ضربا مبرحا، أو آخر أطلق الرصاص على أخيه فأرداه قتيلا، وكانت هناك رغبة في الاعتراف «بالخلل الذي أصاب ألياف مخه». بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من جرائم قتل الأطفال الرضع، ولكن في هذه القضايا على وجه الخصوص، كان لا بد من أن يكون الجنون جليا ومثبتا؛ لأن العدالة لا ترحم حينما يتعلق الأمر بالجرائم الشنيعة. وفي بعض الأحيان، كانت العائلات تحاول أن تأخذ زمام المبادرة، مثلما حدث في قضية ذلك المزور الذي كان صدور حكم الإعدام ضده أمرا محتما. ما وراء الحجة الكلاسيكية المتعلقة بإلحاق الخزي والعار بعائلة محترمة، تأتي حجة أخرى أكثر مكرا، تجلت في قضية ذلك النجار نصف المعتوه، الذي انضم، وهو أب لأحد عشر طفلا، «بالقوة» إلى عائلة في مستوى اجتماعي أعلى من مستواه، وارتكب جريمة التزوير مدفوعا بالفقر والبؤس، وضبط في أثناء محاولته الأولى لتزوير النقود؛ لأن التقليد لم يكن متقنا للدرجة التي قيل معها إن مثل هذا العمل لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص مجنون. يتضح من هذه القضية أن العائلة (أو بالأحرى المحامي) على دراية جيدة بأسلوب تفكير المؤسسة. فهم يدركون أن المجرم الأحمق، الذي يصدر ضده حكم بالإعدام ثم يجري العفو عنه، يبقى مسجونا طوال حياته من دون أدنى إمكانية للخروج يوما ما. وهكذا قضى النظام القديم، استنادا إلى منطق قد يبدو قاسيا اليوم، على خطر تكرار الجرم. ومن ثم، اقترحت العائلة إبقاء مزورها الأبله محتجزا في أحد السجون. وقد علق أحدهم بظرافة قائلا: «لن يخشى إذن أن تسفر محاولاته المتكررة عن زيادة مهاراته.» وبالفعل، حكم على مزورنا بالإعدام ثم تم العفو عنه وسجنه مدى الحياة.
العديد من الجانحين اليافعين، سواء أكانوا لصوصا أم مثيرين للمتاعب أو للشغب، كانوا يرون عائلاتهم تتبع الأسلوب نفسه في استدعاء الجنون أمام المحاكم مع التشديد على السوابق والتاريخ المرضي. فهذا متهم «انتابته في شبابه نوبات جنون ودوار مختلفة، ثم عاودت الظهور مجددا في الآونة الأخيرة بصورة مخزية للأسرة» (يتعلق الأمر بارتكاب سرقة). وذاك مجنون هائج ألقي القبض عليه للتو، «وقد بدرت منه أفعال تستحق كل لوم وتوبيخ من جانب العدالة إن لم يبرأ لإصابته بالجنون» (1778). بالنسبة إلى القلة التي أقرت حالتهم الجنونية، كان القضاء يعترف بعدم مسئوليتهم عن أفعالهم ويأمر بالاعتقال.
5
تميزت بعض الطلبات بالصراحة، مثل ذلك الطلب الذي تقدم به مدير مدرسة ثانوية ضد جارته قائلا على حد تعبيره أنها «مجنونة مثيرة للشفقة، ولكنها تسبب نهارا وليلا إزعاجا للمنطقة بأكملها، ولي على وجه الخصوص.»
لا يوجد في القانون ما يسمى بتنازع الاختصاص بين القرارات القضائية والأوامر الملكية. بالمقابل، كلما تقدمنا تدريجيا في القرن الثامن عشر، وكلما تحسن أداء أجهزة الإدارة الملكية، وجدنا أن قصر فرساي أصبح أكثر فأكثر تساهلا حيال الموافقة على الاعتقالات التي قامت بها السلطات المحلية، والتي كانت لا تزال كثيرة نسبيا، وكان يجري تنفيذها دائما بدافع الحاجة الملحة. ومما لا شك فيه أن هذه الاعتقالات كانت تعطي بذلك ضمانات أقل، وتضفي طابعا رسميا في كثير من الأحيان على ما كانت السلطة الملكية بصدد مقاومته بشدة وصرامة، والمتمثل في اعتقال شخص ما بالاتفاق بين مقدم الطلب وأحد منازل الاحتجاز الجبري.
من المنطلق نفسه، سعى قصر فرساي فيما بعد إلى مكافحة «أوامر القضاة الخاصة»، والتي كانت تعد بمنزلة خطابات حقيقية مختومة صادرة عن النواب العموميين أو رؤساء البرلمانات. وقد جرى اعتقال العديد من المختلين عقليا بهذه الطريقة، كما حدث في الدور الصغيرة حيث كان للنائب العام لبرلمان باريس اليد العليا. بالطبع كان من شأن هذا الإجراء أن يوفر ضمانات جيدة. ومع ذلك، أثارت «هذه الأوامر الخاصة الصادرة عن القضاة» استياء قصر فرساي بشدة. في الرابع عشر من شهر ديسمبر 1757، قام كونت دي سان فلورنتين، وهو وزير الديوان الملكي، بتوبيخ حاكم منطقة روان الإدارية على النحو التالي: «إن جلالة الملك، إذ أحيط علما، أيها السيد، بأن الأشقاء في دار سان يون يذعنون للأوامر الخاصة الصادرة عن القضاة، ويستقبلون بناء على ذلك أبناء عائلات وآخرين لاحتجازهم بالقوة بحجة تلقي شكاوى من أهاليهم؛ يرى أن الحرية من أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان؛ ولذا لا يحق لأي أحد أن يسلب رعاياه حريتهم خارج النطاق القضائي من دون أن يكون القضاء نفسه قد بحث بعناية الأسباب.» خلاصة القول أنه كان لا بد من الحصول على أمر ملكي دون سواه. بعد مرور أسبوع، دعي رئيس سجن سان يون للتوقيع على تعهد بهذا الشأن.
الدوافع
ولكن، من هو المجنون في نظر النظام القديم؟ أو بالأحرى ما الدافع الذي يؤدي في لحظة ما إلى صياغة طلب اعتقال؟ وما المساحة التي يحتلها الجنون في طلبات الاحتجاز؟ بالتأكيد، يحتل مساحة محدودة؛ بدليل أن العديد من المختلين عقليا كانوا من جديد يفلتون من التحقيقات. ففي نهاية المطاف، أولئك الذين ورد ذكرهم في السجلات المحفوظة لا يمثلون إلا الأقلية المضطربة والمزعجة على نحو مفاجئ. هذا من دون احتساب أولئك الذين كانت عائلاتهم تتدبر أمورها بشكل أو بآخر في التعامل معهم، عن طريق احتجاز المختل عقليا بصرامة في بعض الأحيان، وإخفائه دوما عن أعين الجيران. ولا ننسى أيضا أولئك الذين احتجزتهم أسرهم في بعض الأديرة بالاتفاق مع القائمين عليها.
لقد كان الجنون موجودا من قبل بصورة شبه دائمة. إليكم جون شاتيل، ذلك الرجل «المصاب بالجنون» منذ سبعة أو ثمانية أعوام. «لقد استسلم لمعاقرة الشراب وأثر ذلك على دماغه الذي لم يكن قط غنيا بالتفكير السليم.» بعد أن تخلت عنه عائلته منذ ثلاثة أشهر، أصابه «جنون ساخط» وألقي في السجن «حيث صار كالمسعور». وإليكم حالة جاك دولاراك «المختل عقليا» منذ عامين، استضافته أخواته «على أمل المساهمة في شفائه»، ولكن بدلا من أن تخف حدة جنونه، زادت. لقد «رفع سكينا» على أخواته. وها هي ماري ديزوبرديار التي دفع جنونها أسرتها إلى طلب اعتقالها في عام 1756، ثم ألغي طلب استصدار الأمر الملكي في أثناء سير الإجراءات؛ «لأنها أصبحت أكثر هدوءا». بعد ذلك بعامين، انتابت المريضة نوبات غضب عنيفة أكثر من مرة في الكنيسة؛ مما اضطر العائلة إلى تجديد إجراءات الاعتقال لسبب وجيه هذه المرة. أما فيما يتعلق بتلك المجنونة الفقيرة واليتيمة التي لم يذكر التاريخ لها اسما، بعد أن اندمجت بشكل جيد منذ عدة سنوات في مشفى بواتييه العام، حيث كانت تقوم بعمل نافع في المطابخ؛ إذا بها «تضايق المرضى بالمستوصف وتسيء معاملة الأخوات». في بداية الأمر، تم التعامل معها بصبر، ولكن بالتأكيد لم تستمر الحال هكذا، فلم يعد أحد يريد بقاءها: «لم نعد نريدها»، على حد تعبير أحدهم.
نذكر حالة أخرى تعود إلى عام 1778 وهي حالة القس دينيس لوازيل (كانت طلبات اعتقال الكهنة شائعة، ولكن في الحقيقة كانت أفعالهم وحركاتهم، وبالأحرى تصرفاتهم السيئة محل اهتمام عام). «ظهر عليه، في السنوات السبع أو الثماني الماضية، ضلال ذهني.» كان يعيش بمفرده مع خادمته، التي أنجب منها طفلا. لم يضع حدا للفضيحة إلا قرار التعيين الحكيم للقس في أبرشية باريس. ولكن «تملكته رغبة في العودة». وها هو لوازيل يعيش وحيدا في غرفة، وقد أعفي من تلاوة صلوات القداس اليومية، ويحضر مسيرات الزياح مرتديا القبعة على رأسه (وهو ما يعد سلوكا شائنا على وجه الخصوص)، ومطلقا شتائم ولعنات، ومدعيا أنه يقوم بإعطاء دروس دينية، لدرجة أنه كان لا بد في كثير من الأحيان من إلقائه خارج الكنيسة. «وغالبا ما كان يلقي عظة أخلاقية متفردة، أو لنقل بالأحرى عبرة صادرة من مجنون.»
يضاف إلى النمط الكلاسيكي للجنون الذي يعود تاريخه إلى سنوات عدة، ويتجلى فجأة في صورة نوبات انفعالية قد تشكل خطورة أو تضر بالنظام العام، جنون من نوع آخر تعود جذوره إلى فترة أبعد من سابقه، ويتمثل في ذلك الجنون الذي غالبا ما يكون هادئا وخاضعا تماما لسيطرة الأقرباء، إلى أن ينقطع رابط التضامن. يندرج تحت هذا الجنون قائمة أترابية طويلة تضم «البله»، والمعاتيه غير المؤذين، والمصابين بالصرع الذين ترعاهم نهارا وليلا أم أو أخت. وعند إصابة هذه بعجز أو موت تلك، يكون لدينا مجنون آخر للاحتجاز. كما حدث مع ماري آن لوجويكس، ذات الخمسة والأربعين عاما، التي كانت محبوسة في غرفتها منذ 14 سنة تحت رعاية والدتها، التي «استنفدت ثروتها سواء لتوفير نفقات رعايتها أو لشراء الأدوية من كل نوع؛ أملا في التخفيف من شقائها.» بيد أن الوالدة، حين بلغت من العمر 84 عاما، أصبحت طريحة الفراش، ولم يعد في وسعها الاعتناء بابنتها. هناك أيضا حالة أخرى تدعو للدهشة، وهي حالة «تلك الفتاة المعتوهة» البالغة من العمر 20 عاما، والتي كان يرعاها حتى هذه السن جدها الذي توفي للتو، فاقتادها أهالي قريتها حتى أوصلوها إلى مدخل مستشفى سان لو حيث تركوها هناك، مثلما كان يحدث في ذلك الزمان بالنسبة إلى الرضع الذين كانوا يتركون أمام الكنيسة. ونظرا لأنها لم تعرف ما هو اسمها ومن أين أتت ؛ ظلت المسكينة مزروعة في هذا المكان طوال اليوم حتى استقبلتها أخيرا إدارة المشفى. بعد مرور ثمانية أشهر (كان ذلك في عام 1786)، كانت لا تزال في المشفى. «إنها ليست مجنونة البتة، إنما بلهاء فحسب، [لكن] لا يمكن أن تمكث في مكان آخر غير المشفى.»
غالبا ما كان يرد الحديث عن معالجة طبية سابقة على النحو التالي: «وفرنا لها في المراحل الأولى كل المساعدات الممكنة تحت إشراف طبيب ماهر [...] ولكن دون جدوى.» نقرأ في موضع آخر: «لم تكن العلاجات مجدية.» يفسر ذلك سبب ارتفاع متوسط أعمار المرضى لدى دخولهم؛ إذ يبلغ 30، بل 40 عاما.
في جميع الأحوال، يمكن أن تتلخص نقطة الانتقال الحرجة إلى عالم الاعتقال في العبارات التالية، كانت دائما تستخدم: «لا تسمح له حالته بممارسة حريته»، أو «إنه (إنها) غير قادر (قادرة) على امتلاك زمام نفسه (نفسها).» أما إن أردنا، فيما وراء ذلك، إجراء دراسة تصنيفية لدوافع الاعتقال، يجب أن نستبعد أولا الجنون الخطير الذي غالبا ما يمثل الذريعة الأساسية (في أكثر من 50٪ من الطلبات). هناك ذلك الصياد البحري، المدعو جون بيير ميفل، والذي كان مجنونا ولكنه ليس ماكرا، وقام في عام 1787 بجرح أحد أنسبائه بضربة مجداف. وهناك شارل لوفير، الذي تسبب، في عام 1754، في إصابة زوجته بجرح بالغ إثر إطلاق النار عليها في نوبة جنون، كما أطلق الرصاص على معلم بالمدرسة. بل إن بينيل نفسه أصاب زوجته بجرح «نازف»، وقيل عنه إنه: عندما تتملكه نوبات الهياج والغضب، لا يمكن إحصاء أفعاله العنيفة؛ فقد جرح حصانه بضربة منجل، وقتل خنزيرا مملوكا لأحد الجيران كان قد اشتبه في رغبته في أن ينهب حقله المزروع حنطة سوداء، وهدد شقيقته وكذلك أحد الحجاب بالقتل. كما هدد أيضا بإضرام النيران في كوخه وهو ما أثار بالأكثر مخاوف سكان القرية فتحالفوا على الإمساك به واعتقاله . نقتبس: «نعلم أنه مختل بما يكفي لينفذ ما هدد به.» في الحقيقة، الآثار التي يحدثها ليست ذات قيمة كبيرة، ولكن المنازل المجاورة ستتعرض لخطر، ومع انتقال النيران من منزل إلى آخر ، قد يؤدي ذلك إلى إحراق القرية بأكملها. نذكر حالة أخرى لمجنون أكثر مرحا ولكنه دفع الرعية إلى تقديم عريضة التماس لاعتقاله؛ لأنه «يريد أن يشعل النيران في القرية للاحتفال بعيد القديس يوحنا». لقد كان الحريق واحدا من أهم بواعث القلق لدى النظام القديم، وكان ينظر إلى المختلين عقليا الهائمين على وجوههم باعتبارهم مشعلي حرائق محتملين. بعضهم أشعلوا النيران في منازلهم، ولا يهم الجيران إن كان فعلا متعمدا أم حادثا عرضيا بما أن النتيجة واحدة في الحالتين. آخرون كانوا يشعلون أتنا حقيقية في أراضيهم المسورة أو يتجولون ليلا في مخازن الغلة وفي العلالي وهم ممسكون شمعدانا في أيديهم. ماذا نقول إذن، حين نضيف إلى ذلك أن الحمقى كانوا يهددون بإحراق منازل أولئك الذين يحاولون التصدي لتصرفاتهم الجنونية الشاذة، أو معارضة أفعال السلب والنهب والتخريب التي كانوا يقومون بها!
إلى جانب عنف بعض المجانين الذين تخطوا مرحلة القول إلى مرحلة الفعل وهم قلة في النهاية، هناك مجموعة ضخمة ممن يمارسون العنف المحتمل ويركضون، نهارا وليلا، في كل مكان، يصرخون، ويسبون ويهددون بقتل أقاربهم. وقد أضاف أحد هؤلاء المجانين، الذي كان يهدد بصورة منتظمة بإزهاق روح القس، أنه لا يخشى العدالة؛ لأن الناس لا يكفون عن القول له أنه مجنون. وذاك آخر كان يتجول دائما ممسكا فأسا في يده. أيتعين أن ننتظر (يجادل أولئك الذين يسعون إلى استصدار أمر ملكي) هذا المخبول حين يقتل أحدا لكي نحرك ساكنا، بينما سبق له أن هدد زوجته رافعا عليها الفأس وهشم نافذته في أثناء إحدى النوبات؟ كانت فورات الغضب التي تنتاب الحمقى غالبا ما تدفع الجيران إلى تقييدهم. نقرأ في أحد المواضع: «لقد كنا مجبرين على ربطه إلى السرير.» وفي موضع آخر: «لقد قيدناه بالجنازير في مخزن الغلة.» كان بعض الحمقى يقومون بتمزيق أربطتهم، وآخرون يلقون أوانيهم من النافذة. نشير في عام 1737، إلى حالة المدعو فران، الذي كان مسالما إلى حد بعيد ولكنه مثير للقلق أيضا، والذي أدت خسارته للعديد من الدعاوى القضائية «إلى المساهمة بقدر لا يستهان به في إصابته بخلل عقلي». فقد انزوى في منزله، ولم يعد يخرج منه، وزينه بملصقات شائنة ضد جميع أولئك الذين يريدون إلحاق الأذى به، وهم كثر. وكان يتزود بالمؤن من خلال النافذة عن طريق تدلية كيس إلى أسفل ثم جذبه إلى أعلى وكان يدفع ثمن مشترياته عبر فتحة في الباب. يقال: «إنه كان دائما مسلحا وكان يخشى أن يقدم في لحظة يأس على ارتكاب أي فعل يضر بنفسه أو بغيره.»
يشكل المختلون عقليا الانتحاريون فئة على حدة؛ إذ يعانون من الاضطهاد، ويكونون فريسة للهلاوس، والهذيان والأوهام من كل نوع، وقلة في الواقع هم من كانوا يفشلون في محاولة الانتحار، سواء بإلقاء أنفسهم من النافذة أو بالشنق أو بالغرق. هناك أيضا «القطع» (على حد تعبير وكيل موفد)، مثل ذلك التاجر من روان الذي قطع عنقه مستخدما موسى الحلاقة الخاص به، ثم نجا من الموت، وجرى تضميد جراحه ومعالجته، وانتهى به المطاف إلى إلقاء نفسه من النافذة بعد مرور ثلاثة أسابيع وكتب له هذه المرة عمر جديد أيضا. ليست هناك حاجة على الإطلاق لتكرار واقعة مماثلة لتبرير الاعتقال.
هناك شكل آخر من أشكال الجنون، أكثر شيوعا من الجنون الخطير، أو يفترض أنه كذلك، يتمثل في الجنون الهائج والمثير للاضطرابات التي تخل بالنظام العام. نذكر على سبيل المثال أولئك الذين يتسببون بفضيحة أمام المكاتب. وأولئك الذين يركضون في الشوارع شبه عراة. والمخابيل على اختلاف أنواعهم. نقرأ في أحد التقارير الصادرة عن شرطة باريس في عام 1707، العبارة التالية: «يتعذر تحمل هذا الجنون في أي مكان.» وكثيرا ما كان ذلك الهياج مقترنا بإدمان الخمر وبالثمالة، التي غالبا ما كان يتم إثباتها: «مع استسلامه (أي المجنون) لزجاجة الخمر، فإنه يطلق العنان لنفسه للقيام في الوقت عينه بكل أنواع التجاوزات»، «ضعف يومي في الذهن يحدثه الشراب ويرافقه تصرفات جنونية وسلوكيات شاذة من كل نوع.» لم يكن من النادر رؤية بعض المعاتيه غير المؤذين، الذين كان مرتادو الملاهي الليلية يجدون لذة دنيئة في جعلهم يشربون. «حتى الآن، لم يؤذ (أي المعتوه) أحدا.» أما فيما يتعلق بمدمن الكحول، ذاك الذي كان يعاني من الهلاوس ومن الاضطهاد، وكانت الشياطين تحدق به، فيقوم بإطلاق أعيرة نارية في الهواء لإبعادها، «يخشى أن يختلط عليه الأمر يوما ما فيظن أحد جيرانه شيطانا.» هناك أيضا المصابون بالهذيان المميزون، ويقصد بهم أولئك الذين يقال عنهم إنهم يملكون «مشاعر استثنائية». أحدهم يظن نفسه غنيا، والآخر يحسب نفسه مفلسا. وتلك حالة أخرى تعود إلى عام 1705 لرجل «يتسلط عليه الجن الجهنمي». في ظل مجتمع متدين بهذا القدر، يقدم الدين تيمة مفضلة للهذيان. «يكمن جنونه في كونه يلقب نفسه بالله الأبدي وحين يناديه أحدهم باسم آخر تأخذه نوبات غضب عنيفة [...] لا بد من أن يكون المرء مجنونا بقدره لكي يقترح تركه طليقا.» وها هو مصاب آخر بالهذيان قابله لاتود في شارنتون
6
يظن نفسه يسوع المسيح. في القداس الإلهي، عند حلول وقت تقديس الخبز والنبيذ، كان يهرب لأنه لم يكن يحتمل أن يرى نفسه على وشك أن يؤكل حيا. وقد وصف في تقرير صادر عام 1753 بأسلوب أكثر إيجازا ولكنه ليس أقل بلاغة على النحو التالي: «رأس تشدخ بفعل التدين.» وهناك العديد من أوهام الاضطهاد (وهو مصطلح حديث للغاية بالنسبة إلى هذا العصر) أكثر قتامة مما سبق ذكره، مثل حالة جرمان سوبري، 37 عاما، الذي «كان يشكو من مخاوف وعذابات يقاسيها منذ عام بسبب بعض الرجال ولكنه لا يعرف هويتهم. إنه يشعر بحرقة شنيعة كما لو أن أحدا ينتزع أحشاءه ويخرجها عن طريق فمه.»
في أحيان كثيرة للغاية، يكون هذا النوع من الجنون، بالأمس كما اليوم، دافعا للتقدم بطلب اعتقال أكثر من الجنون الذي يتسم، إن لم يكن بالهدوء بصفة دائمة (قلما يوجد هذا النوع)، على الأقل بفترات هدوء طويلة بما يكفي ليتحمل المحيطون بالمريض الأزمات العابرة. ومع ذلك ، لم يختف بسطاء العقل، و«البله» من المشهد: فهذا سقط من برج الجرس - «وتسببت السقطة في إضعاف عقله» - وذاك، على الرغم من كونه غير مؤذ، «يؤدي حركات بهلوانية ويقوم بالتواءات بشعة لدرجة أنه يخشى على النساء الحوامل من رؤيتها.»
الدور
في بداية القرن الثامن عشر، وجدت الإدارة الملكية نفسها في مأزق، على الرغم من التقدم الذي وصلت إليه، في ميدان الاحتجاز. فلم يكن السجن، باعتباره عقوبة بدنية، موجودا. وكان المدعى عليهم في قضايا إجرامية (كانت السرقة تعد جرما)، باستثناء أولئك الذين يتم إسقاط التهم عنهم من وقت لآخر، يعاقبون بالنفي في أفضل الأحوال، وبالأشغال الشاقة أو بالإعدام في أسوئها. ومن ثم كان هناك فراغ قانوني كبير فيما يتعلق بالجانحين المستترين، ومرتكبي الجرائم البسيطة على اختلاف أنواعهم الذين كانت عائلاتهم، الحريصة على عدم تلويث سمعتها، تطالب عن طريق استصدار أمر ملكي بإرسالهم إلى إصلاحية أو ما يطلق عليه «منزل احتجاز جبري». بشكل مبدئي، وأيا كان ما قد نقوله في هذا الشأن، فلم يكن للحمقى أي علاقة بكل هذا؛ نظرا لأن حالتهم المرضية معترف بها؛ ولأنهم، خلافا «للجانحين»، يستحقون الشفقة. نعم، ولكنهم بحاجة أيضا إلى أماكن للاحتجاز، وفي ظل غياب الدور المتخصصة، كانت العائلات والمجتمعات السكانية تطالب باستخدام الدور عينها المخصصة للجانحين. يبدو المذهب البراجماتي الذي اتبعه النظام القديم في التعامل مع هذا الموضوع صادما في أعين عالمنا المعاصر، تلك البراجماتية التي انتهت على عجل إلى الخلط، في نظر أولئك الذين يؤيدونه، بين الجانحين والمجانين. وسوف نرى أن هذا الخلط لم يكن موجودا على صعيد الممارسة العملية بقدر ما تجلى بالأحرى على الصعيدين القانوني والفكري. لم يحدث إلا ضم أماكن احتجاز المجانين إلى السجون، وهو الوضع الذي كان قائما بالفعل في السجون [التي تعادل المعتقلات اليوم]؛ حيث كان يعثر من وقت لآخر على مختل عقليا محتجز هنا أو هناك. وفي كل مرة كان يحدث فيها هذا، كان الوضع يعتبر من قبل السلطات نفسها غير مقبول. وعلى الرغم من ذلك، في سجون بلدة بو، تعين في عام 1777 إنشاء ثلاث دور «لحبس المجانين» (في الواقع، كانت هذه الدور عبارة عن «ثلاث زنازين في آخر الحديقة» تعلوها سقيفة مائلة). وما مصير الإنسان المختل عقليا الذي لا يريده أحد؟ كما هي حال جون كروازيه، الجندي السابق بوحدة بيارن العسكرية، الذي انتهى به المطاف في سجن إبرنيه في عام 1784. «نظرا لعدم توافر مكان ملائم لاحتجاز شخص من هذا النوع، ولعدم وجود من يرعاه»؛ تقاطعت مراسلات السلطات المختلفة وتكدست دون جدوى. وقد كان وزير الحرب يريد تخصيص 150 جنيها سنويا كنفقة إقامة ورعاية بإحدى المؤسسات. ربما بيستر؟ ولكن في ذلك الوقت، كان قد مضى بالفعل عامان وكروازيه لا يزال محتجزا في سجن إبرنيه.
أمام فشل المشفى العام وتكاثر طلبات استصدار الأوامر الملكية، ونظرا لأن الدولة لم تكن تمتلك إلا أربعين سجنا (أشهرها سجن الباستيل) مخصصة أساسا للسجناء السياسيين وحدهم، بدأت الإدارة الملكية تشجع على التحويل المنهجي لأماكن تجمعات الطوائف الدينية إلى سجون أو دور احتجاز جبري. تمتلك هذه الأماكن الدينية ميزة مزدوجة؛ فهي، من جهة، منتشرة في جميع أرجاء المملكة، ومن جهة أخرى، قادرة بحكم تعريفها على احتضان نزلائها في جو يسوده الصمت، والصلاة، والانضباط، والعمل، الذين هم في أشد الحاجة إليه. كما أنها تمتلك ميزة أخرى، وهي أنها تضم فئات متباينة يتفاوت مستواها الاجتماعي بين الغنى والفقر، ومن ثم ستكون تكاليف الإقامة مناسبة لمختلف الميزانيات. بالطبع، لم يكن هذا الإجراء جديدا وإنما تعود جذوره إلى القرون الوسطى، ولكنه لم يكن ينطبق في ذلك الوقت إلا على عدد محدود للغاية من الأفراد؛ إذ لم يكن المكان الواحد يستوعب غالبا سوى فرد أو اثنين على الأكثر. لم يكن هناك داع إذن لتسمية هذه الدور «دور الاحتجاز الجبري».
في هذا الصدد، تعد دار رعاية (المخلص الصالح) بمدينة كاين مثالا بارزا على قوة النفوذ الملكي خلال هذه الفترة. لقد تم إنشاء هذه الدار عام 1720، وكانت تتكون من مجموعة صغيرة مكونة من أربع راهبات، تعمل في منزل متواضع على رعاية وإغاثة الفقراء. من أجل البقاء، بدأت الدار في استقبال نزلاء لقاء دفع مبالغ مالية (فتيات يلتحقن بالدار من أجل تلقي العلم) بالإضافة إلى سيدات مسنات، مقابل دفع نفقات أيضا، يرغبن في عيش أيامهن الأخيرة بسلام في ظل الإيمان المسيحي. ولكن، كان لزاما على الدار، أن تأخذ تصريحا عن طريق الحصول على براءات ملكية. في عام 1733، مارس قائد شرطة مأمورية كاين ضغوطا مباشرة على أسقف بايو حتى توافق الدار على «احتجاز الأشخاص المنحلين لكي يعيشوا حياة منضبطة». وأضاف بتهكم قائلا: إن قبول هذا العرض من شأنه التعجيل بالموافقة على طلب استصدار البراءة الملكية المتعثر. بالإضافة إلى أن خدام الدار سيتم إعفاؤهم من أداء الخدمة العسكرية. أما بالنسبة إلى الدار التي ترفض استقبال أحد الجانحين، فستجد نفسها مرغمة على استضافته بموجب الأمر الملكي عينه الذي ينص على الاعتقال.
في النهاية، وافقت دار بون سوفور؛ لأن تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لتأمين ميزانية كافية. وقد وصلت البراءات الملكية، التي كان من المنتظر إصدارها منذ ثلاثة عشر عاما، اعتبارا من العام التالي على الرغم من خوض معركة مع بلدية كاين بسبب التأخير في إرسال البراءات، زاد من حدتها «وجود اعتقاد راسخ على حساب الحقيقة بأن جنس هذه المدينة فاسق لدرجة أن النساء والفتيات يحترفن الدعارة.» لم يكن يتعلق الأمر في البداية إلا بتقويم وإصلاح «الفاجرات». بيد أن دار بون سوفور، التي انتقلت إلى مقر أكثر اتساعا، كانت تحوي في عام 1785، إضافة إلى 30 راهبة، 12 «فتاة يجري تعليمهن وتهذيبهن»، و15 سيدة متقاعدة، و24 نزيلة محتجزة بالقوة، من بينهن 12 امرأة «مختلة عقليا». تمثل هذه النسبة المرتفعة للمختلات عقليا (لم يكن أي من الدور الموجودة آنذاك يستقبل مجانين بشكل حصري) بداية مرحلة «التخصص»، كما تدل على ذلك اللوائح الأولى للدار (حوالي عام 1780). كانت دار بون سوفور مقسمة إلى أربعة «قطاعات» على النحو التالي: «قسم المجنونات، قسم الفقراء، قسم التعليم والتربية، قسم الآثمات التائبات»، وكان كل قسم من هذه الأقسام يشمل غرفا منفصلة ومستقلة تماما بعضها عن بعض.
في أواخر القرن الثامن عشر، بلغ تعداد دور الاحتجاز الجبري بالمملكة ما يقرب من 500 دار، أكثر من ثلثيها خاص بالجماعات الدينية. شكلت مثل هذه الشبكة بما توفره من ضمانات الإحسان والتعامل الأخلاقي، على الرغم من كونها تقدم خدماتها نظير دفع مبالغ مالية، مكانا مخصصا بالفعل لاحتجاز المختلين عقليا الذين كانوا يمثلون 15٪ من إجمالي المحتجزين قسرا. في الواقع، يخفي هذا المتوسط وجود تفاوت كبير؛ نظرا لأن بعض هذه الدور لم تكن تستقبل فعليا حمقى كغيرها، مثل دار بون سوفور بكاين التي بلغ تعداد المجانين بها ما يقرب من نصف عدد النزلاء لديها. وكانت تكلفة الإقامة متفاوتة داخل هذه الدور ذات المساحات و«وسائل الراحة» المتباينة للغاية؛ حيث كانت تتراوح، في أواخر القرن الثامن عشر، ما بين 200 و1500 جنيه سنويا (وذلك في الوقت الذي كان أجر العامل فيه عن كل يوم عمل يساوي جنيها أو أقل).
على غرار دار بون سوفور، بدأت بعض الجماعات الدينية تدريجيا، ولا سيما جمعيات الرجال بالنسبة إلى الأغلبية العظمى، تتخصص في استقبال المختلين عقليا (ولكن، نشدد على أن استقبال النزلاء لم يكن قط قاصرا على المختلين عقليا وحدهم) كما هي حال جماعة «إخوان الرحمة» التي أسسها القديس يوحنا الإلهي (سان جون دي ديو) وتعددت منشآتها في أوروبا. في فرنسا، في نهاية القرن الثامن عشر، كانت جماعة «إخوان الرحمة» تمتلك وتدير، إضافة إلى ما يقرب من ثلاثين مشفى، عشر دور مخصصة لاحتجاز «النزلاء المصابين باختلال عقلي أو الجانحين الخاضعين للإصلاح». وكانت هذه الدور تحتجز وحدها ما يقرب من 40٪ من مجمل المختلين عقليا بالمملكة، سواء بأوامر ملكية أو أحكام قضائية. وكانت أبرز هذه الدور الجمعيات الخيرية بكاديلاك، وبونتورسون، وشاتو تييري، وسينليس، وبالأخص شارنتون. من جهة أخرى، نجد أن العدد المطلق للمختلين عقليا ليس كبيرا (بل إنه يعد ضئيلا بالنظر إلى ما ستصبح عليه المصحات في القرن التاسع عشر). في دار شاتو تييري، التي أصبحت دارا للاحتجاز منذ عام 1670، بلغ عدد المحتجزين بناء على أمر ملكي، في عام 1778، 29 شخصا فقط، من بينهم 21 أحمق. في سينليس، التي زاد عدد «النزلاء» بها من أربعة في عام 1675 ليصبح 80 في نهاية القرن الثامن عشر، ولم تتجاوز نسبة المختلين عقليا الثلث. أما شارنتون، قبل أن يصبح اسمها مرادفا لمشفى المجانين، فتعد دارا باريسية كبيرة للاحتجاز الجبري يعود تأسيسها إلى عام 1641، بينما لم تكن في الأصل إلا مشفى يحوي سبعة أسرة. في القرن الثامن عشر، كان تعداد نزلاء دور الحجز يتراوح في المتوسط ما بين 120 و130 نزيلا، من ضمنهم ما بين 80 و85 أحمق.
وقد استقبلت أيضا أديرة الرهبان الفرنسيسكان المنتشرة في المملكة، والتي بلغ تعدادها نحو 40 ديرا، نسبة كبيرة من المختلين عقليا (25٪ تقريبا). في دير نوتردام دو لا جارد، الكائن في بلدية نوفيل أون آيز [في مقاطعة إلواز]، كان يوجد في المتوسط حوالي ثلاثين شخصا محتجزين بالقوة يشغلون المؤسسة، نصفهم من المختلين عقليا المعزولين بشكل صارم في غرف فردية. وفي بعض الأديرة الفرنسيسكانية الأخرى، كان عدد المختلين عقليا أقل بكثير، خاصة فيما يتعلق بحالات الاحتجاز الرسمية. فعلى سبيل المثال، في عام 1746، لم يكن يوجد في دير فيك لو كونت (منطقة ليموج الإدارية) إلا مختل واحد محتجز بناء على أمر ملكي. ولكن الوكيل الموفد الذي زار المؤسسة في عام 1735 كتب تقريرا قال فيه: «يوجد في هذا الدير حجيرات محكمة الغلق مصممة خصيصى للمصابين بالهياج. كما نجد بالدير أيضا غرفا لا بأس بها صالحة للسكنى مجهزة لذوي السلوك الهادئ الذين لا تستدعي حالتهم المستقرة مراقبتهم عن كثب.»
7
هناك إذن آخرون؟ تلك هي المسألة التي ستشغل بال الإدارة الملكية في أواخر القرن الثامن عشر، والمتعلقة بحالات الإيداع المباشر من قبل العائلات.
نذكر في هذا الصدد أيضا، بالنسبة إلى الرجال كذلك، دار بون فيس (الأبناء الصالحون)، التي كانت تضم سبع دور للاحتجاز منذ القرن السابع عشر، بالإضافة إلى رهبانية إخوة المدارس المسيحية. أما عن دور الاحتجاز الخاصة بالنساء، فلقد كانت أقل عددا وفي الوقت عينه أكثر تحفظا، بل وأشد معارضة حيال استقبال المختلات عقليا، فيما عدا بيوت روفوج (المأوى)، وبعض المنازل التابعة لرهبانية الأخوات أورسولين أو دار بون سوفور في كاين التي كانت تشكل استثناء.
بيد أن دور الاحتجاز التي كانت تديرها الجماعات الدينية لم تكن هي الأماكن الوحيدة التي تستقبل المختلين عقليا. ولكي نفهم بشكل أفضل تنوع المؤسسات، ينبغي أن ندرس توزيعها الإقليمي. ولن نتناول بالطبع إلا بعض الأمثلة. في منطقة روان الإدارية، تعد دار رهبانية إخوة المدارس المسيحية بسان يون بمنزلة دار المختلين عقليا «الكبرى». ففي عام 1776، كانت تضم 30 مختلا، جرى احتجازهم جميعا بموجب أمر ملكي (من بين إجمالي المحتجزين الذين بلغ عددهم 77). نجد أيضا بعض المختلين عقليا، ولكن بأعداد قليلة للغاية، في العديد من دور الاحتجاز الأخرى مثل: أخوية القديسة بربارة في قرية كرواسيه، ورهبانية الثالوثيين، ودير نوتردام دو روفوج في روان الخاص بالنساء. كتبت رئيسة هذا الدير في عام 1777 إلى الحاكم قائلة: «إن ديرنا ليس سجنا، ولم ينشأ ليحتجز أحد داخله.» وعلى الرغم من ذلك، كان هناك نزيلة محتجزة داخله بموجب أمر ملكي، منذ عام 1769؛ «نظرا لأن عقلها ما زال مختلا وهي في حالة لا تسمح لها فعليا بإدارة ممتلكاتها» (كانت هذه النزيلة موضوعة تحت القوامة). كما تم إيداع بعض المختلين عقليا، منذ أواخر القرن السادس عشر، في المزرعة التابعة لأبرشية سانت أوبن لا كومباني، بالقرب من روان. وقد كانت بمنزلة سجن زراعي. كان المختلون عقليا المحتجزون بهذه الدار، والذين بلغ عددهم حوالى خمسة عشر شخصا، ينعمون بحريتهم إلى حد ما، ولم يكن هذا الوضع مقبولا لدى الجميع، كما يشهد على ذلك الاحتجاج الذي تقدم به السيد الإقطاعي في عام 1785 على النحو التالي: «من الضروري احتجاز المجانين بطريقة أخرى غير تلك التي يجري بها احتجازهم؛ إذ إن الحرية التي يتمتعون بها ليست في محلها. ولا يمكن أن تكون نية الحاكم تهديد السلامة العامة، كما أن أبرشيتي يجب ألا تتعرض أبدا لأي من الحوادث المؤسفة التي قد تنشأ عن لقاء غير متوقع مع هؤلاء الناس.»
8
وهذا ليس كل شيء؛ منذ نهاية القرون الوسطى، تمت مواصلة احتجاز المختلين عقليا المعوزين في أحد الأبراج المشيدة فوق السور المحيط بمدينة روان. وشهد القرن الثامن عشر حدثا جديدا تمثل في احتجاز بعض المختلين عقليا في مشفى روان العام بموجب أمر ملكي؛ مما يعني في الوقت نفسه إضفاء طابع السجن، ولكن بصورة هامشية، على هذا النوع من المؤسسات، وهو أمر لم يكن ذا تأثير يذكر في مدينة روان والمدن الأخرى بالمملكة، بينما كان له عظيم الأثر - كما سوف نرى - على مؤسستي بيستر وسالبيتريير.
نجد هذا التنوع وذلك التعقيد في جميع أرجاء المملكة. منطقة كاين الإدارية وحدها كان بها حوالي ثلاثين دار احتجاز، من بينها ستة منازل كانت تقبل استضافة المختلين عقليا. وكان هؤلاء يشكلون 18٪ من إجمالي عدد النزلاء المحتجزين بالنسبة إلى النساء، و25٪ بالنسبة إلى الرجال. كما كان من المتوقع إيجاد المختلين عقليا في الجمعيات الخيرية، ولا سيما في جمعية بونتورسون (في عام 1774، كان هناك 16 مختلا عقليا من بين إجمالي النزلاء البالغ عددهم 47) أو في جمعيات الرهبان الفرنسيسكان في بايو. بيد أن دير الدومينيكان ببلدية مينيل جارنييه، في جنوب كوتانس، بالإضافة إلى سجن الدولة الموجود بجبل القديس ميشيل والمعروف باسم باستيل البحار، كانا يستقبلان كلاهما أيضا بعض المجانين. وبتحليل المائة والثلاثة والخمسين أمرا ملكيا التي جرى تسليمها في الفترة ما بين 1666 و1789، نلاحظ أن
9
35 أمرا فقط صدر بناء على مبادرة السلطة الملكية، بينما 21 أمرا صدر بناء على مبادرة السلطات الكنسية (ضد بعض رجال الدين)، و97 أمرا صدر بناء على مبادرات العائلات، من ضمنها 11 حالة بسبب الجنون. نحن إذن بعيدون كل البعد عن «آلاف السجناء» الذين كانوا يعانون اليأس والملل والغم في الباستيل. وقد كانت القدرة الاستيعابية، في السجن كما في سائر الأماكن، أقل بكثير من الطلب.
أما مدينة كاين، عاصمة المنطقة الإدارية، فقد كانت تحتجز المختلين المعوزين في برج شاتيموان. يقدم هذا البرج المشيد فوق أحد الحصون، والذي بني في أواخر القرن السادس عشر وسرعان ما أصبح عديم النفع من وجهة النظر العسكرية، مثالا جيدا على «أبراج المجانين» التي نجدها منذ نهاية العصور الوسطى تقريبا في كل المدن الكبرى بالمملكة، حتى لا نقول في أوروبا بأكملها، والتي استمر استغلالها لهذا الغرض طوال عهد النظام القديم. (هكذا، في تورناي، تلك المدينة التي تارة ما تكون فرنسية، وتارة نمساوية، كان يتم استخدام بوابة مارفي كبرج للمجانين اعتبارا من القرن السادس عشر وحتى هدمه في عام 1770.) يعترينا الذهول أمام برج شاتيموان الماثل بارتفاعه البالغ 30 مترا، ومستوياته الثلاثة وجدرانه التي يبلغ سمكها سبعة أمتار؛ حيث جهزت غرف مصممة على شكل شبه منحرف لوضع قطع المدفعية الجديدة. في القرن السادس عشر، كان يجري حبس أسرى الحرب داخل هذا البرج بينما كان المشفى الرئيس بالمدينة يضع المجانين في برج آخر أقرب، وهو برج ماشار. ثم بدأ برج شاتيموان، خلال القرن السابع عشر، يحتكر تدريجيا احتجاز الحمقى الذين لا يريدهم المشفى الرئيس، ولا حاكم القصر (حينما يتعلق الأمر بالجنود العسكريين)، ولا السجن (حينما يتعلق الأمر بالمختلين عقليا الذين ألقي القبض عليهم بسبب تصرفاتهم السيئة). 80٪ من هؤلاء كان ينظر إليهم باعتبارهم يشكلون خطرا على الأمن العام أو يثيرون شغبا يخل بالنظام العام. في القرن الثامن عشر، تضاعفت عمليات الاعتقال في «برج المجانين»؛ لأن العائلات كانت تتوجه مباشرة إلى سلطة البلدية. في عام 1720، عين حارس للمبنى. وقد وقع في ذلك التاريخ إيصالا باستلام سبعة جنيهات، و17 فلسا، وستة دنانير «للتكفل بمصاريف رعاية تسعة أشخاص من المختلين عقليا، بالإضافة إلى خمسة وأربعين فلسا من أجل القش.» وكان المشفى الرئيس يتولى إعالة المختلين عقليا من الفقراء. أما الآخرون فكانت عائلاتهم تتكفل بمعيشتهم بدفع نفقة إقامة ضئيلة للغاية. وكان مستوى «الرفاهية» يتفاوت نسبيا تبعا للقيمة المدفوعة. كان الاثنا عشر مختلا المحتجزون هناك (رجال، وبشكل استثنائي، بعض النساء) يتم توزيعهم فيما بين القاعة العليا؛ حيث أعدت غرف خشبية، والزنازين المصممة داخل تجويف الحائط السميك، وغيابة السجن، حين لا تكون السراديب مغمورة بالمياه. منذ منتصف القرن الثامن عشر، بدأت العائلات تشكو من أوضاع الاحتجاز في البرج، متهمة الحارس بترك المختلين عقليا «مفتقرين إلى كل شيء» (إلا في حال إعطائه مزيدا من المال مقابل الطعام، والتدفئة، والإضاءة). كما اتهمت العائلات الحارس «بأنه يقوم بعرض المختلين عقليا للمتفرجين لكسب المال.» لقد كانت ظروف الاحتجاز مضنية ومحزنة، لدرجة أن تقريرا صادرا عن السلطات المحلية في عام 1766 أشار إلى وضع أحد هؤلاء المحبوسين على النحو التالي: «لقد نسينا هذا الرجل الذي ليس مجنونا، ولكنه قد يصبح كذلك.»
نجد النسب مماثلة في غالبية المناطق الإدارية الأخرى، كما في بلدية ريوم (منطقة أوفيرني) التي بلغ تعداد دور الاحتجاز بها حوالي عشرين دارا، من ضمنها خمس أو ست دور كانت تستقبل حمقى. الأمر نفسه في بريتاني (التي لم تكن مقسمة إلى مناطق إدارية، ولكنها كانت عبارة عن مقاطعة كبرى مؤلفة من ولايات، وتحظى بقدر أكبر من الاستقلالية)؛ حيث نجد الدار الواقعة في بلدية سان ميان، بالقرب من مدينة رين، التي كانت تستقبل الحجاج منذ القرون الوسطى والتي جعلها وضعها المختلط أشبه بالمشفى العام وبدار الاحتجاز في الوقت نفسه (حيث كانت تضم 45 محتجزا بموجب أمر ملكي في عام 1787، من بينهم 18 مختلا). في الأقاليم الجديدة، كما في دوقيات لورين وبار، كان احتجاز المختلين عقليا أكثر تمركزا؛ حيث تركز بالأكثر في ماريفيل، بالقرب من نانسي، بالنسبة إلى الرجال، وفي نوتردام دو روفوج في نانسي، بالنسبة إلى النساء.
في منطقة ميدي (جنوب فرنسا)، كانت المؤسسات الكبرى الأكثر تخصصا تشكل أيضا أماكن جذب للمنطقة بأسرها. وقد سبق أن رأينا ذلك فيما يتعلق بمشفى الحمقى في مارسيليا، وألبي، أو حتى في مشفى لا ترينيتيه (الثالوث الأقدس) بإكس آن بروفانس، والذي كان يعد مشفى عاما ودارا للاحتجاز في الوقت نفسه. ينبغي أن نذكر في هذا الصدد أيضا مشفى أوفر دو لا ميزيريكورد (عمل الرحمة) بأفينيون الذي تأسس في عام 1681 بإيعاز من نائب المفوض الباباوي. بعد «توظيف» محدود في المدينة، تضاعفت عمليات الاحتجاز خلال القرن الثامن عشر. في عام 1779، تلقت العائلات التي تعيش في هذه المقاطعة وتحتجز مختلا لديها (مما يدل على أن مثل هذه الحالات كانت موجودة بالفعل) منشورا باباويا يأمر بإحضاره إلى المشفى . وانطلقت صرخات مدوية تطالب محاكم التفتيش بضرورة تعديل المنشور. كان مشفى أفينيون، الذي يعد بالتأكيد سابقا لعصره، يطلب شهادة طبية لدى احتجاز أحد المختلين عقليا. تعود أقدم شهادة طبية معروفة إلى عام 1690: «أقر أنا الموقع أدناه، طبيب حاصل على شهادة الأستاذية في الطب من جامعة أفينيون، لمن يهمه الأمر، أن المدعوة فرانسواز جوساند مختلة عقليا، كما تبين لي من خلال توقيع الكشف الطبي عليها.»
أما في باريس، فلا بد على الرغم من ذلك الخروج من الإطار الإداري الوحيد والمعقد الذي أحاط بدور الاحتجاز الجبري لفهم مدى تنوع المؤسسات التي كانت تستقبل المختلين عقليا. ما هذه الدور التي انتشرت في أواخر القرن الثامن عشر؟ وما عامل الجذب لديها؟ لقد سبق أن حظينا بالفعل بفرصة للحديث عن العلاقة المتداخلة التي ربطت بين المشفى الرئيس بباريس والدور الصغيرة، التي كانت بمنزلة مشفى ملحق مخصص للحالات المعدية والميئوس من شفائها. في المشفى الرئيس، الذي كان يحوي خمسة وعشرين جناحا مخصصة على وجه التحديد للمرضى على اختلاف أنواعهم (أطفال مرضى، ومصابين بالجدري، وغيرهم)، نجد «المجانين القابلين للعلاج» في جناحين بعيدين تماما أحدهما عن الآخر. الرجال في جناح سان لويس المكون من 42 سريرا، والنساء في جناح سانت جونفياف المكون من 32 سريرا. ولم يفصل بين هذا الجناح الأخير وبين ذاك المخصص «للمهتاجات» إلا حاجز. وفي جميع أرجاء المشفى الرئيس، كانت الأسرة، الموروثة عن القرون الوسطى، في معظمها كبيرة بحيث تسع أربعة أفراد. بإمكاننا أن نتخيل ما هي فرص شفاء المجانين (وبالأخص «المهتاجين») في ظل وضع مماثل يرغمهم على النوم أربعة في سرير واحد. ولكي يحظى الفرد بسرير منفصل ينام عليه وحده، يتعين أن يكون ذلك بناء على توصية، مثلما حدث في عام 1768 بالنسبة إلى ذاك القس «المختل العقل»، الذي أوصي «بوضعه في سرير منفردا». في مشفى باريس الرئيس على وجه الخصوص، مقارنة بالأماكن الأخرى، كان «المجانين يعانون من الضيق وعدم الراحة»، ولا سيما أن المشفى كان يستقبل الحالات الآتية من جميع الأقاليم. «منذ ما يقرب من عشرين عاما - نقرأ في سجل المداولات، بتاريخ 11 أغسطس 1780 - تزايد هذا المرض لدرجة أن الأجنحة المخصصة للمرضى من الجنسين لا تفرغ مطلقا، وتزايد بالتبعية عدد الحالات التي يمكن إرسالها إلى بيستر.» ورغم ذلك كان نظام العمل بالتناوب يسير بإيقاع سريع للغاية. وكان الحمقى يمكثون هناك شهرين على أقصى تقدير، قبل أن يصرح لهم بالخروج أو بالالتحاق بالمشفى الرئيس بباريس أو بالدور الصغيرة.
تعد هذه المؤسسة الأخيرة (التي كانت تضم، في عام 1787، 44 مختلا عقليا، من الرجال والنساء) بالأحرى مأوى لا يتلقى المجانين فيه أي علاج. فضلا عن ذلك، كان لا بد من إعداد شهادة تفيد بأن المختل العقلي تمت معالجته وبأن مرضه غير قابل للشفاء. وكان الحد الأدنى لنفقة الإقامة يستلزم دفع 300 جنيه. لقاء هذا المبلغ الزهيد، «الغرف أفضل بقليل من تلك الموجودة ببيستر». نحن هنا على أي حال في سياق تقديم خدمات رعاية بعيدة عن نمط الاحتجاز المؤسسي (أي خارج إطار المشفى العام ومنازل الاحتجاز الجبري). هذه هي حال ما يقرب من 20 نزلا خاصا ومدنيا في باريس، تلك الدور التي نشأت في نهاية القرن الثامن عشر لتلبي الطلب المتزايد من قبل العائلات القادرة على دفع تكلفة إقامة مرتفعة. وقد تركزت هذه المنشآت الصغيرة - والمتفردة في استقبال المختلين عقليا حصريا - في ضواحي سان أنطوان، وسان جاك، ومونمارتر. بعض هذه الدور لم يكن يستقبل سوى عدد محدود من النزلاء، والبعض الآخر - كل دار على حدة - كان يستقبل حوالي 30 نزيلا. بلغ عدد النزلاء إجمالا حوالي 300 مختل، كان «البله» (ندر وجود «مصابين بالهياج») هم الذين يشغلون في الأغلب هذه الدور في ظل انعدام الرقابة الإدارية.
يبقى إذن، فيما يتعلق بشق الاحتجاز هذه المرة، دور الاحتجاز الجبري والمشفى الرئيس. كانت دار شارنتون، على الرغم من بعدها النسبي، تتبع العاصمة. وقد كانت تكلفة الإقامة فيها مرتفعة (إذ كانت تتراوح ما بين 600 و1200 جنيه) تبعا للفئات المختلفة: النبلاء، والبرجوازيين، ورجال الدين، والجنود العسكريين، وقد كانت مصاريف إقامة هذه الفئة الأخيرة على نفقة الملك. وكانت هناك وحدة تمريض - مما يعد حدثا نادرا - للمختلين عقليا المرضى وحدهم. وكان سجنا الباستيل وفنسين يتخلصان من المجانين الذين يثيرون الشغب لديهم بإيداعهم دار شارنتون. وبالفعل كان يوجد مجانين في هذين السجنين الكبيرين.
لقد احتجز الباستيل وحده - ذلك السجن المتعدد الاستعمالات - خمسين مختلا في الفترة ما بين 1661 و1789.
10
في القرن الثامن عشر، كان قد تم وضع المختلين عقليا في السجون لعدم وجود أماكن أخرى (ذكر في بيان يعود إلى عام 1643 - وهو يعد أحد أوائل البيانات الصادرة عن الباستيل - أن عدد المختلين عقليا بلغ ثلاثة من بين إجمالي المسجونين البالغ عددهم عشرين سجينا، من ضمنهم «كاهن مخبول» و«رجل شرير مملوء خبثا»). هؤلاء المختلون عقليا الذين «كنا نحظى بشرف استقبالهم في سجن الباستيل»، كانوا يأتون أحيانا من إحدى دور الاحتجاز البعيدة؛ حيث لم يعد أحد يطيق وجودهم (وهذا دليل على القابلية العالية للاختراق المؤسسي). فكانوا ينقلون إلى الباستيل ريثما يهدئون. «هذا القصر ليس مخصصا لحبس هذه الأنواع من البشر»، يذكر بذلك وزير الديوان الملكي في عام 1715. ولكن، نجد أيضا في سجن الباستيل، وبأعداد لا حصر لها، جميع أولئك الذين سجنوا لاعتبارهم أشباه مجانين (الجواسيس الكذبة، وكاشفي المؤامرات الكاذبين، والمحتالين والنصابين، والقصاصين، و«أصحاب المشروعات»)، والذين أصبحوا مجانين بالفعل فور إغلاق بوابات الحصن الضخمة عليهم. نذكر على سبيل المثال، عام 1764، ذلك المدعو بوكيه الذي أمطر الوزراء وماركيز دي بومبادور برسائل فضح المؤامرات، أو ذلك النائب العام الأسبق بشاتليه الذي كتب في عام 1771 إلى الملك «اثني عشر خطابا بأسلوب ذميم للغاية»، وقد نقل هؤلاء، فور إقرار إصابتهم بالجنون، إلى شارنتون. وقد رحب القائد العام لشرطة باريس بهذا القرار ولا سيما أنه «سيسفر عن تقليل النفقات التي يدفعها الملك» (فليس هناك بالتأكيد كلفة إقامة واجبة الدفع في سجون الدولة؛ حيث إن السجناء ينتمون إلى طائفة «من يعيشون على خبز الملك»). وفي الوقت عينه، حرص هذا القائد نفسه على ألا تنطلي عليه ألاعيب المجانين الكذبة الذين ينوون الفرار من سجن الباستيل. «لا يخدعننا عبوس وجوههم وتعابيرها المصطنعة»، تلك هي النصيحة الصادرة من فرساي. في بعض الأحيان، كانت تنجح الحيلة بشكل يفوق توقعات الشخص المدعي: «لقد تظاهر بالجنون وأصبح مجنونا بالفعل.»
بالإضافة إلى دار شارنتون، كانت دار سان لازار هي دار الاحتجاز الباريسية الأخرى التي تتولى حبس الحمقى، مبدئيا بموجب خطاب مختوم يحمل أمرا ملكيا فقط. فمقابل دفع نفقة إقامة قدرها 600 جنيه بحد أدنى (كانت هناك أيضا نفقات إقامة تبلغ 1000، بل 1200 جنيه)، كان هذا المنزل، الذي تديره جماعة «قساوسة الإرسالية» التي أسسها فنسان دي بول، مخصصا للعائلات الميسورة على غرار دار شارنتون. كما هي الحال في دور الاحتجاز الأخرى بالمملكة، كانت دار سان لازار تحتجز أيضا جانحين خاضعين للإصلاح (على نمط الفارس دي جريو، بطل إحدى الروايات الأدبية). في نهاية القرن السابع عشر، كانت الدار تحوي 48 غرفة للجانحين و38 غرفة للمختلين عقليا الذين تضاعف عددهم خلال القرن الثامن عشر.
أما مشفى باريس العام، فقد استمر في العمل خلال القرن الثامن عشر باعتباره مشفى ودار احتجاز جبري - وهي الخطوة التي شكلت انحرافا ملحوظا في الأقاليم - عن طريق حبس الجانحين والمختلين عقليا بناء على طلب العائلات. ولقاء دفع تكلفة إقامة قدرها 200 جنيه سنويا، كانت هذه الدار تعد أرخص دار احتجاز في المملكة. وتبعا لذلك، كانت الأوضاع المعيشية متردية داخلها بما رافقها من ضيق وعدم ارتياح وازدحام نتج عنه اختلاط غير مرغوب فيه، وقد ظل «المشفى» كما هو محتفظا بهيبته بحيث كان اسمه وحده يثير الذعر في نفوس القاعدة العريضة من الفقراء (ولفترة طويلة كانت عبارة «الانتهاء في المشفى» تعد في اللغة الشعبية مرادفا للموت بؤسا). «هذا مكان لا يليق بكاهن»، يذكر قصر فرساي في عام 1739. وكانت العائلات، من جانبها، تستنكف من طلب المشفى من أجل المختلين عقليا لديها (لأن اسم المشفى يجرح مخيلتهم)، ولكن هناك أيضا تكلفة الإقامة التي لا مفر منها، والتي تزيد قيمتها خمسين جنيها بالنسبة إلى الطلبات القادمة من الأقاليم؛ مما يدل على وجود محاولات للحد من هذه الطلبات. ومع ذلك، على الرغم من تشديد الإجراءات، حدث «تدفق» عظيم خلال القرن الثامن عشر من جميع أرجاء المملكة نحو بيستر وسالبيتريير. أضيفت إلى طلبات الإيداع المباشرة تحويلات عديدة قادمة من دور الاحتجاز الجبري الأخرى؛ حيث كانت العائلات تعجز عن دفع تكاليف الإقامة المقررة مع عدم وجود إمكانية في الوقت نفسه لإطلاق سراح المختل عقليا .
وهذا هو ما يفسر العدد الكبير للمختلين عقليا المحتجزين، وليست اعتقالات المشفى العام، وهو عدد يجب من ثم عدم مقارنته مع عدد سكان باريس. في نهاية القرن الثامن عشر، بلغ عدد المحتجزين في بيستر ثلاثمائة مختل عقليا على النحو التالي: 92 «مجنونا هائجا مقيدون بالسلاسل»، و138 «مجنونا معتوها أو ضعيف العقل»، وأقل بقليل من مائة مريض بالصرع، وهؤلاء كان يتم تمييزهم بعناية عن المختلين عقليا، وكان يجري تسكينهم بشكل منفصل متى كان ذلك ممكنا، ولكن كان من الصعب للغاية إحصاؤهم؛ لأننا كنا نجد بعضهم أيضا في القطاعات الخاصة «بالعاملين أو بالأطفال». وأولئك الذين كانوا يوضعون في قطاع المجانين هم المرضى الذين كانت تنتابهم فقط نوبات صرع خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، كان لا بد من إخفاء «هذا المرض المرعب والقادر على زرع الفوضى والاضطراب والذعر كل يوم في نفوس المرضى» عن الأعين. أما فيما يتعلق بالمجنونات ذائعات الصيت في سالبيتريير، فقد بلغ عددهن سبعمائة (من بينهن 300 مريضة بالصرع)، ولكن، لا ننس أن هذا العدد الإجمالي للمحتجزين في ذلك الوقت كان يبلغ 7800 شخص. كانت المؤسسة مترامية الأطراف، لدرجة أننا حين نقول «المشفى»، فإننا نقصد بذلك مشفى سالبيتريير. لم يكن قطاع المجنونات، المسمى ب «الغرف»، حتى إذا أضيف إليه مبنى سانت جان للمعتوهات ومريضات الصرع، سوى واحد من ضمن 14 قطاعا داخل مؤسسة سالبيتريير، وكانت جميع هذه القطاعات معزولة بعناية بعضها عن بعض. بعيدا عن أي مقارنة، كان يتم احتجاز الجانحين في «قسم الحبس القسري» الذي أنشئ عام 1684 (حيث كان بالإمكان دائما رؤية المبنى الذي يشمل هذا القسم في نطاق مجمع لا بيتييه-سالبيتريير الاستشفائي). وكانت هناك أربعة أجنحة منفصلة مخصصة للاحتجاز على النحو التالي: جناح «العامة» (للعاهرات اللواتي لا أمل في تقويمهن)، و«الإصلاحية» (للعاهرات أيضا ولكن لأولئك اللواتي هناك أمل في إصلاحهن)، و«جناح الحجز المشدد» (الذي يضم المحتجزات بناء على أمر ملكي)، و«السجن» (للمذنبات الموسومات بالعار اللواتي تمت إدانتهن). يتعلق الأمر بالفعل هذه المرة بالنساء اللائي اقترفن جريمة؛ حيث كن يخضعن لنظام أشد صرامة عما كان سائدا في القطاعات الأخرى. ينطبق الأمر عينه على بيستر. إنهما عالمان مختلفان لهما جغرافيا مشتركة. ولن يتسع المقام للخوض في تفاصيل أكثر لإبراز هذه الفكرة بشكل أقوى.
كانت المشافي العامة تحتجز وحدها بصفتها دور احتجاز جبري ربع المختلين عقليا في فرنسا، مع وجود الأغلبية الساحقة منهم في سالبيتريير وبيستر. وقد دارت عجلة النظام بشكل أسرع في أواخر القرن الثامن عشر، على الرغم من الحل الآخر الذي لجأت إليه الإدارة فيما بعد كوسيلة لتدارك الأمور، والمتمثل في: مستودعات التسول ...
الحياة اليومية
ربما نستطيع أن نتوقع أن مستوى الحياة اليومية للمختلين عقليا داخل دور الاحتجاز الجبري يختلف وفقا لتكلفة إقامة الفرد، سواء كانت 200 جنيه أم 1200 جنيه. وغالبا ما كانت الأسعار تختلف داخل المؤسسة الواحدة تبعا لقوائم الخدمات. وفي حالة تحديد سعر موحد، تكون هناك دائما مبالغ إضافية تدفع نظير خدمات أخرى وليس فقط للكماليات، مثل: الخشب لتدفئة للنزلاء الذين يتسمون بالهدوء والأثرياء بما يكفي ليسمح لهم بتملك مدفأة (إذ كانت الغرف خالية بالطبع من المدافئ) والشمعدان للإنارة، ومزيد من الطعام، وتغيير الملابس أو فرش الأسرة أو القش، والتمتع بقدر أكبر من حسن المعاملة ورقتها بفضل البقشيش الذي يقدم إلى الحارس أو التبرعات المقدمة إلى القسيس. علاوة على المبالغ الأخرى التي كان يتم دفعها للزيارات الطبية والأدوية، بالنسبة إلى المرضى القلائل الذين لا يزال هناك بصيص أمل في شفائهم.
على أي حال، كانت حياة المختل عقليا، بصرف النظر عن تكلفة إقامته، تختلف جذريا وفقا لهدوئه أو حالة هياجه. ففي الحالة الأولى، يتمتع النزيل بحرية التنزه في الباحة أو الفناء، ولا يعود إلى مهجعه أو غرفته إلا في أوقات الغذاء أو النوم. أما في الحالة الثانية ، فبالإضافة إلى تعيين موظفين لإخضاعه للمراقبة المشددة، قد يجري عزله وحبسه بشكل دائم. في بعض المؤسسات، كما في مشفى لا ترينيتيه بإكس آن بروفانس، كانت هناك محاولات للاستعاضة عن الجنازير بقيود تتيح للمختلين عقليا مع ذلك أن يتحركوا ويتنقلوا في الفناء، فضلا عن الحبس والتقييد بالمعنى الحرفي، كانت هناك العديد من الأدوات التي يتم استخدامها بصورة منتظمة للعقاب: الأغلال أو القيود الحديدية، والأقفاص كما في شارنتون.
يبقى أن نعرف ما إذا كان المختلون عقليا يتلقون عموما معاملة جيدة أم سيئة. إذا صدقنا ما ورد في اللوائح والتقارير الصادرة عن دور الاحتجاز الجبري، نجد أن كل شيء كان معدا لتحسين حالة المختلين عقليا (ليس هناك إلا مشفى باريس العام الذي لم يتكبد حتى عناء محاولة تطبيق هذا النظام في تقاريره). في شارنتون، كان يتم اصطحاب ذوي السلوك الهادئ من المختلين عقليا في نزهة تصل أحيانا إلى الريف. أما ذوو السلوك العنيف، فكان يتم حبسهم في زنزانة لا تتضمن «سوى غرفة صحية مؤمنة أكثر من الغرف الأخرى». وكان يتم إخضاعهم لحمامات، وعمليات فصد، وعلاجات مختلفة لمعالجة الجنون (سنعود إلى هذه المسألة لاحقا). وكان المستوصف يستقبل أولئك وهؤلاء لدى إصابتهم بأي توعك. وكانت هناك مكتبة منتقاة بعناية مجهزة لأولئك الذين لديهم الحق في القراءة. وكانت وجبة الغداء (الفطور بالنسبة إلينا) تتكون من «قطعة من أجود أنواع الخبز ومقدار نصف ستية [25 سنتيلترا] من النبيذ(!)» أما وجبة العشاء (الغداء بالنسبة إلينا)، فتشمل «قطعة لحم بقري أو لحم ضأن مسلوقة، أو شريحة لحم خنزير مطبوخة بالماء المملح مع التوابل، وطبق مقبلات، ومقدار نصف ستية نبيذا». وفي وجبة المساء، كان يقدم «لحم العجل أو الضأن المشوي، ونصف ستية من النبيذ». في سان يون، كانت قائمة الطعام تتغير يوميا، وهناك أيضا كانت تقدم اللحوم في الوجبتين، عدا يوم الجمعة بطبيعة الحال؛ إذ كان يقدم فيه «سمك القد أو غيره من الأسماك المملحة» في العشاء والبيض كوجبة مسائية. «وكانت تقدم الحلوى جميع الأيام ما عدا ثلاث مرات في الأسبوع ؛ حيث يتم استبدال السلطة بها.» في دور الاحتجاز الجبري ذات الميزانية المتواضعة، يبدو أنه كان هناك اقتناع بأن «ثلاثة أرغفة من الحنطة زنة اثنتي عشرة أوقية [366 جراما]، وثلث كأس نبيذ [60 سنتيلترا] وحساء سميكا نهارا وليلا، مع خضراوات، ولحوما ومعكرونة» تمثل حصة غذائية كافية يوميا .
ومن ثم، لن يكون مفاجئا الحصول على صدى متباين للغاية في الخطابات التي أرسلها بعض المختلين عقليا القادرين على صياغة شكاواهم. في الواقع، كان يحق لأي مسجون بموجب أمر ملكي، سواء أكان سجينا سياسيا، أم جانحا، أم مختلا عقليا، رفع شكوى أو تظلم، ويجب تحويل مذكرته للعرض على فرساي. ينطبق الأمر عينه على المعتقلين بناء على أحكام قضائية، الذين كان بإمكانهم مراسلة النائب العام لبرلمان باريس وكان يتم إجراء تحقيق إثر تلقي شكاواهم، خاصة إذا كان الشخص المعني يحتج على اعتقال تعسفي أو حجز متعنت. ولكن، هل كانت تتم دائما إحالة هذه العرائض، بالنظر إلى أن رؤساء الديوان الملكي كانوا يقومون أولا بفرز الكتابات التي يرونها جنونية؟
الشكاوى التي وصلت إلينا تقدم لنا صورة مختلفة تماما لحياة يومية مليئة بأنواع شتى من الحرمان، مع إجبار المحتجزين على تناول الخبز الجاف والماء عند ظهور بوادر انحرافات سلوكية، وتقييدهم وحبسهم دون مبرر، وضربهم من قبل الخدم السود، بل والرهبان. وكان المتظلمون يرفقون شكاوى جماعية ومذكرات دفاعية بخصوص هذه الاتهامات. في عام 1767، قدم أحدهم شكوى إلى رئيس أساقفة تولوز يلوم فيها الآباء الرهبان الفرنسيسكان بدير سان بيير دو كانون على قيامهم باحتجاز المختلين عقليا لتحقيق منفعة خاصة، منتهزين فرصة أن المختلين عقليا، خلافا للجانحين الآخرين، يمكن أن يظلوا محتجزين مدى الحياة ومحرومين من كل شيء بما أن وضعهم لا يسمح لهم بالشكوى. وفقا لمذكرة دفاع نشرت في عام 1697، كان المختلون عقليا المحتجزون بسان لازار يتعرضون لإساءة المعاملة مثلهم مثل الجانحين: «يقوم الإخوة الخدم أو الحراس بأخذ المختلين عقليا في نزهة في ساحة الدار في فترات العصر وفي أيام العمل. إنهم يقودونهم جميعا والعصا في اليد كما يقاد قطيع من غنم، وإذا انسل أحد خارج القطيع، أو كان لا يستطيع السير بسرعة الباقين نفسها، تنهال عليه العصي بمنتهى القسوة والوحشية لدرجة أن بعضهم يصاب بعجز أو تشوه، وآخرون تهشم رءوسهم ويموتون من فرط ما تلقوه من ضرب.»
11
حتى لو لم يجب التسليم تماما بما جاء في هذه المذكرة التي تعد مقالة نقدية لاذعة موجهة ضد سان لازار (وهو ما فعله، على الرغم من ذلك، ميشيل فوكو فيما يتعلق بهذا النص)، فإن هذا لا يمحي السمعة السيئة التي شاعت عن الآباء الرهبان خلال القرن الثامن عشر. لقد كان السوط سمة مميزة للمؤسسة، لدرجة أن الرهبان أطلق عليهم لقب «الإخوة المعاقبون بالضرب».
12
العديد من الجانحين كانوا يشتكون من هذه المعاملة، كما هي الحال بالنسبة إلى نزلاء سجن جبل القديس ميشيل الذين كانوا يشكون أنهم «يتعرضون للضرب» و«يوضعون في أقفاص» من قبل الرهبان. ولكن يتعلق الأمر بالجانحين الذين يجب بحق، في نظر الرأي العام، تأديبهم. تكمن المسألة في معرفة إلى أي مدى - في ظل حياة يومية تتسم بالتفاهة والابتذال - يعي الرهبان القائمون على إدارة دور الاحتجاز الجبري الفرق بين الجانحين والمختلين عقليا، بحيث يحتفظون لأنفسهم بحق إساءة معاملة الجانحين وحدهم، واضعين نصب أعينهم أن المختلين عقليا مجرد مرضى. شتان ما بين فرساي وهذه العقول المستنيرة.
في منتصف الطريق بين هذين المصدرين المتناقضين، من المؤسف عدم امتلاكنا لشهادات مباشرة ل «مستخدمين». هناك بعض الأقوال، شديدة الندرة بالنسبة إلى المؤرخ، رواها بعض الجانحين، مثل ذلك الكاهن الذي كان محتجزا في لاسيليت، على حدود منطقة أوفيرني الإدارية، وكتب في عام 1736 رسالة إلى حاكم المنطقة قال فيها: «جميع أولئك الذين أتعسهم الحظ وسكنوا في سجن لاسيليت الشنيع حيث يسمعون اسم الله القدوس يجدف عليه نهارا وليلا من قبل الحمقى، يعانون ليس من الطعام البشع والمقزز فحسب، بل أيضا من الضجة المتواصلة التي يحدثها المختلون عقليا المذكورون، الذين وصل بهم الأمر إلى حد تهديد المصلين يوميا بالقتل.»
13
إن شهادة لاتود،
14
الذي نقل من الباستيل إلى شارنتون في عام 1775، مثيرة للاهتمام، حتى ولو كان لا ينبغي التسليم بها بشكل مطلق. إن مذكراته، التي ظهرت في بداية الثورة، جعلت منه «واحدا من أكثر ضحايا الاستبداد الملكي إثارة للشفقة». لقد سجنه الملك منذ عام 1749 وحتى عام 1789. بعد أن أصبح هذا السجين لا يطاق في الباستيل - السجن نفسه الذي هرب منه في عام 1756 - نظرا لأنه كان مصابا ب «هوس الكتابة»، وقد وصل به الأمر إلى حد الكتابة على قميصه بدمه (يمكن الاطلاع على المستند الذي يثبت هذا الكلام والموجود في أحد صناديق المحفوظات بمكتبة الترسانة)؛ جرى نقله إلى شارنتون «بسبب إصابته بخلل عقلي». بالطبع لا يعتبر لاتود نفسه مجنونا، وهو على الأرجح ليس مجنونا تماما، ولكن ما يهمنا هنا هو تلك العلاقة التي يبرزها لنا، نوعا ما كخلفية، عن المجانين في شارنتون. «صممت دار شارنتون خصيصى لتكون بمنزلة مصحة للمجانين: بعضهم يكون في حالة مستمرة من الجنون والهياج والغضب الشديد مما يجعلهم خطرين؛ ولذا يجري حبسهم وتقييدهم بالسلاسل في أماكن مغلقة أشبه بالحجرات، حيث لا يخرجون منها أبدا. وآخرون لا تنتابهم فورات الغضب ونوبات الهياج إلا بصفة دورية وفي أوقات معينة من السنة، وفيما خلا ذلك ينعمون بالهدوء والاتزان العقلي، ومن ثم تترك لهم الحرية الكاملة داخل الدار حيث لا يتم احتجازهم إلا حينما يكونون على وشك الانزلاق في هذه الحالة المؤسفة. وأخيرا، هناك أولئك المصابون بجنون هادئ ومسالم بل ولطيف في بعض الأحيان، وغالبا لا يثير جنونهم إلا فكرة واحدة أو شيء وحيد، وفيما عدا ذلك يبدو أنهم يتمتعون بذهن صاف وحاضر. هؤلاء، يسمح لهم عادة بالخروج من غرفتهم والالتقاء بالآخرين والتجمع والتنزه في جميع أرجاء الدار، بل إن بعضهم يحصل على إذن بالخروج من الدار خلال النهار.» في موضع آخر، يضيف لاتود: «لقد قلت إنه كان هناك بالفعل مجانين تأتيهم نوبات الهياج والغضب بشكل دوري: وحين تنتابهم تلك النوبات، كان يتم إنزالهم في حجرات سفلية أو سراديب تحت الأرض أشبه بالمقابر حيث كان يجري تقييدهم، وأحيانا كان يتم وضعهم في أقفاص حديدية. وحين تنقضي نوبة الهياج، كان يجري اصطحابهم إلى المبنى الرئيس الذي يحوي غرف النزلاء الآخرين.» في عام 1777، ألقي لاتود، الذي كان قد أفرج عنه ولكنه سرعان ما أدين في قضية احتيال أخرى، في بيستر. وهو أمر مؤسف بالنسبة إلى التحقيق الذي نجريه، فلم يتم وضعه هذه المرة لدى المجانين وإنما لدى الجانحين. «ما زلت أرتعد حين أنطق اسم بيستر.» زنازين الحبس الانفرادي، ضربات العصي، القمل والبراغيث، الجرب، الإسقربوط، المجاعة على وجه الخصوص ... أين أيام الباستيل «الجميلة»، حين كان يسمح لنا بمناقشة قوائم الطعام، وأين أيام شارنتون بحدائقها، ومكتبتها وصالة البلياردو التابعة لها؟ ولكن في حقيقة الأمر، إن دار بيستر للمجانين لا يمكن أن تكون أكثر راحة من الإصلاحية.
ولكننا يجب ألا نستنتج من ذلك أن الحمقى المحتجزين كان يجري تسليمهم إلى دور الاحتجاز الجبري دون رقابة. إذ إن سجلات الدخول والخروج، والوفيات، والتقارير المنتظمة، وعمليات التفتيش التي كان يقوم بها القائد العام لشرطة باريس أو النائب العام أو حكام الأقاليم بشكل شبه سنوي؛ تشهد على أنه كان هناك حرص دائم على عدم التخلي عن المختلين عقليا وتركهم لمصيرهم. إن عمليات التفتيش تلك، التي كان يتم إجراؤها دائما بمنتهى الدقة، تعد دليلا قيما على الجنون، ليس في المرحلة السابقة للاحتجاز، بل بالأحرى في أثناء فترة الاحتجاز. هذه هي الحال في شارنتون وسان لازار على وجه الخصوص. العديد من البيانات تكتفي باستخدام بعض التعبيرات المختصرة على شاكلة: «مختل العقل دائما»، «مجنون هائج على فترات»، «أصبح معتوها»، بعض التقارير الأخرى تتكلف عناء إجراء مقارنات بين الملاحظات التي يبديها كل مختل على حدة والمطابقة بينها، زيارة بعد أخرى، مع رصد تطور الجنون. كان القاضي يدخل كل غرفة، وكل حجرة، ويستجوب شخصيا الأحمق. ومرة أخرى، نجد أن الجنون لم يكن يتم الحكم عليه استنادا إلى التقييم الطبي، وإنما استنادا إلى الخلفية السلوكية التي أفضت إلى الاحتجاز في المقام الأول. في الواقع، للتعرف على المجنون، نحن لسنا بعيدين تماما عن الصيغة التي وردت بأحد كتيبات محاكم التفتيش في أواخر القرون الوسطى: «وكيف للمرء أن يعرف أنه يتعامل مع مجنون؟ الغبي يتحدث بغباء.»
15
هذا «يتحدث عن ملايين»، وتلك «تنادي لويس الخامس عشر، ولويس السادس عشر، وجميع الأمراء واحدا تلو الآخر.» يضاف إلى ذلك ما نتبينه عند النظر إليه للوهلة الأولى: «يبدو السبب الكامن وراء حبسه مطبوعا على وجهه ومتغلغلا في كامل شخصه.» في بعض الأحيان، تمثل عمليات التفتيش فرصة لنقل أولئك الذين يبدو عليهم بشكل واضح أنهم ليسوا مجانين (أو إذا أردنا، أولئك الذين لا يظهر الجنون في تصرفاتهم بما فيه الكفاية) إلى الإصلاحية التي يجري فيها حبس الجانحين: «لا يمكن أن نعده في مصاف المختلين عقليا دون أن يكون في ذلك إجحاف بحقه وإهانة لعقله.»
ها هو السيد دوكلو دي بوسار في شارنتون: «إنه أحمق أكثر هياجا من غيره. يقول: إن جميع من يراهم مسممين [...] وإنه هو الوحيد الذي لديه القدرة على السيطرة على الأرواح والجن. يبدو لي أن خطابات مماثلة هي عناوين دالة إلى حد ما على الجنون.» في عام 1709، «إنه أكثر هياجا من أي وقت مضى.» وفي عام 1711، «يتحدث الآن قليلا جدا ويفكر أقل، وهكذا سرعان ما سيقتاده جنونه إلى بله معتاد سينتهي بالموت.» ها هو سيمون دو لوبيل في سان لازار: «إنه مخبول وهائج في كثير من الأحيان، والألمان يعذبونه.» في عام 1706، كان يظن نفسه القديس فيلبس، وفي عام 1710، لويس الرابع عشر. تدهورت صحته تدريجيا، وفي عام 1711، بات قريبا جدا من نهايته. ودائما في سان لازار، هناك ذلك المدعو ميشيل أمبرواز، الذي «يتجلى جنونه في تحدثه باللاتينية كلاما غير مفهوم وغير مترابط [...] ولكنه وديع إلى حد كبير، وكل ما نستطيع أن نأمله هو ألا ترتفع درجة حرارة مخه.» في عام 1708، «وصلت حالة البله لديه إلى ذروتها. كان غالبا ما يرفع دعوى على نفسه ويترافع فيها. وحين يشعر بالسأم، كان يمضي أياما بأكملها دون أن يفتح فمه ودون أن تكون لديه أي رغبة في تناول الطعام.» لم يحدث أي تغيير حتى عام 1711. هناك أيضا بول لوكوك دو كوربوي، «مختل العقل الذي لا يتحدث إلا عن الأمور المالية والعقارات». في عام 1702، ازداد جنونه: فكان «يغني دائما ولا يشغل مخيلته إلا الكنوز المزعومة، أو الشمبانيا أو متعة الصيد». «تكرر الشيء نفسه في الأعوام 1709، و1710، و1711 وتحسنت صحته عن المعتاد ». فيما يتعلق بالصحة الجسدية، حين تكون بحالة جيدة، تأتي الملاحظات تهكمية أحيانا. هناك ذلك الكاهن الذي لم يرد أن تتم تدفئة غرفته وقضى هكذا فصل الشتاء الرهيب لعام 1709، وأثارت حالته التعليق التالي: «ولكن صحته لم تكن يوما أفضل حالا وتهدد بأنه سيعيش طويلا.» وعن آخر، قيل: «إنه على خير ما يرام.» وعن آخر أيضا: «لقد أصبح سمينا جدا على نحو يثير الدهشة، ولكن يخشى ألا تدوم حياته لفترة طويلة.»
هناك أيضا الذين يصمتون بعناد، بحيث لا يريدون (أو لا يستطيعون) قول اسمهم ولا سنهم. هذا الرجل العسكري، الذي كان الملك يدفع نفقة إقامته، «يريد بشكل مطلق المكوث في غرفته، والتزام الصمت كيفما يشاء، ولكن هذا الإفراط في السكوت أظهر أن حالته الذهنية تتدهور وتزداد سوءا.» وهناك الذين يرفضون الأسرار المقدسة؛ مما يعد - في ظل مجتمع مسيحي متشدد - مؤشرا غير جيد. وهناك أيضا الذين يصرون على وجه الخصوص على هذيانهم بشكل متعنت سواء فيما يتعلق بجنون الدين، أو العظمة، أو الاضطهاد، أو الثراء: «إنه يظل متشبثا بهذه الخرافات.» يكمن نمط الاحتجاز الأكثر كلاسيكية في الانتقال التدريجي، مع مرور السنوات، من حالة الجنون الذي يرافقه اهتياج إلى حالة «البله»: «بعد أن كان مجنونا هائجا حين اقتيد، صار معتوها وصموتا. ضعيف الذهن» ... «يغفو طوال الوقت، لم يستيقظ إلا في أوقات الوجبات» ... «لقد أصبح في الفترة الأخيرة عبارة عن كتلة من اللحم لا حياة فيها» ... «لم يعد يعيش إلا على لحوم البهائم» ... وفي كثير من الأحيان، تأتي هذه العبارة المقتضبة والقاطعة في الختام؛ «في مرحلة الطفولة». وفي بعض الأحيان، تأتي نوبات عرضية من الغضب والهياج لتقاطع حالة الخمول هذه: «عقل مختل على فترات ينتابه اهتياج حينما نحدثه عن والدته» ... وذاك أحمق آخر في سان يون، «فيما عدا الأوقات التي يكون فيها في حالة ثورة واضطراب شديدين حين نضايقه، هو عادة هادئ للغاية ومنضبط في سلوكه.» تلك الحمقاء نزيلة السالبيتريير ليست هائجة بالمعنى الدقيق، ولكنها تمزق دوما أغطيتها وملابسها. «ينبغي حتما تقييدها بالأصفاد إذا أردنا أن نجعلها تتنشق الهواء.»
معظم المختلين عقليا هناك منذ فترة طويلة للغاية، بعكس الجانحين، الذين لا يبقى أغلبهم إلا بضع سنوات. في سان لازار وشارنتون، أكثر من نصف المختلين عقليا موجودون هناك منذ ما يزيد على عشر سنوات، وبعضهم منذ أكثر من عشرين عاما. بل إن بعض «العمداء» يتجاوزون الثلاثين عاما في الحجز. بالنسبة إلى أولئك، لا ينتهي الاحتجاز إلا بانتهاء الحياة، جميعهم يموتون «دون أن يتعرفوا إلى أنفسهم». وهو ما يفسر، بالإضافة إلى العدد المحدود للأماكن المتاحة، أن معدل التناوب، هناك كما في الأماكن الأخرى، ضئيل للغاية، مع دخول بعض الحالات الجديدة سنويا. لم تستقبل مؤسسة شارنتون، في الفترة من 1686 إلى 1714، إلا 347 مختلا، بينما لم تستقبل سان لازار، في الفترة نفسها، إلا بالكاد مائة مختل تقريبا. وفي عام 1776، بلغ عدد المختلين عقليا الذين دخلوا مشفى سان يون (في روان) قبل عام 1770 اثنين وعشرين شخصا، وبعد هذا التاريخ، سبعة فقط. كان الجانحون يمضون والمختلون عقليا يبقون، ويشغلون ببقائهم الأسرة القليلة المتاحة.
بصرف النظر عما قاله النقاد ومتصيدو الأخطاء عن هذه الحقبة (لقد كانوا موجودين بالفعل، ولكنهم كانوا قلة)، لم يكن يتم الإبقاء على الشخص محتجزا في حالة انتفاء المبرر لذلك، ولا سيما أنه كان هناك طلبات احتجاز معلقة موضوعة على قائمة الانتظار للأسرة القليلة المتاحة. خلال عمليات التفتيش، تفرض مسألة الخروج نفسها على نحو منتظم. إذا كنا نقرأ أحيانا بعض التعليقات مثل: «يبدو الآن وديعا ولكن التغيير الذي طرأ عليه ربما يكون في حاجة إلى اختبار أطول»، فإننا غالبا ما نقرأ ملاحظات أخرى مثل: «علمت أن دماغه بحالة جيدة جدا [بعد سنة واحدة]. ومن ثم، أظن أنه يمكن إطلاق سراحه.» وبالفعل يخرج المختل بعد هذا التصريح. أما نيقولا دوبويسون - 45 عاما - المحتجز في شارنتون منذ عام 1710 (نحن الآن في عام 1712)، فنقرأ عنه «لا تظهر عليه مخايل الضعف الذهني إلا في رغبته في التحدث إلى الملك، ولكنه لا يشرد أبدا عند التحدث في مواضيع أخرى، وطالما بدا شديد التدين والوداعة. وبناء عليه ، أظن أننا يمكن أن نخلي سبيله إذا استطعنا تعيين شخص من أهل الثقة بحيث يكون على استعداد لإعادته إلى بلده.» في الواقع، عاودته نوبات الهياج في العام التالي، لكي يخرج مع ذلك في عام 1714، على الرغم من الملحوظة التي نقرؤها بشأنه والتي جاء فيها: «البلاهة المعتادة دوما، والتي يبدو أنه لا أمل في شفائه منها أبدا.» فما حدث هو أن عائلته اتخذت في غضون ذلك قرارا باسترجاعه؛ إما بدافع التعاطف وإما على الأرجح بدافع توفير نفقة الإقامة. وهكذا فإن العديد من الحمقى، الذين كانوا لا يزالون غير قابلين للشفاء ولكنهم استعادوا هدوءهم، كانوا يخرجون بعد بضع سنوات بناء على طلب عائلاتهم. في الأقاليم، كان الحاكم والعائلة يقدمان في كثير من الأحيان طلبات مشتركة لإلغاء الخطابات المختومة الصادر بموجبها أوامر ملكية: «لقد أمضى الفصول الأربعة دون أن تظهر عليه علامات الجنون» (مون سان ميشيل، 1784). وكانت الأفضلية تعطى بصورة منهجية للطلبات القابلة للنجاح. لا يقصد بالضرورة ب «قابل للنجاح» الحمقى الذين نالوا الشفاء (فقد كانت الأغلبية الساحقة منهم ميئوسا من شفائها منذ دخولهم)، ولكن يقصد بهذا التعبير المختلون عقليا القادرون على «العودة إلى المجتمع دون التسبب بأي ضرر». في عام 1760، أراد زوج استعادة زوجته، التي احتجزت في سالبيتريير بموجب أمر ملكي لأنها مجنونة؛ ولذا توجه إلى القائد العام لشرطة باريس، الذي ذهب بدوره إلى رئيسة «المشفى» التي أجابت قائلة: «هذه المرأة لديها دوما الأفكار نفسها ولكنها ليست مصابة بالهياج، ولا شريرة. ومن ثم، بما أنها هادئة، فأعتقد أنه لا مانع من بقائها مع عائلتها.» لم تكن الإدارة توافق دائما على خروج النزيل: «أظن أنه لو لم يكن في هذه الدار، لوجب إيداعه بها. وأعتقد أن مطالبات أنسبائه من ناحية الأم بالإسراع في إخراجه لن تبدو لهم صائبة إذا رأوا وضعه الحالي.» وفي كل الأحوال، كانت مسألة التصريح بخروج المجانين الذين ينظر إليهم باعتبارهم خطرين غير واردة بالمرة.
في أغلب الأحيان، يكون الخروج مرتبطا ببعض الشروط الواجب استيفاؤها، أولها أن تتعهد العائلة المطالبة بخروج المريض بمراقبة مريضها جيدا، بل وإبعاده عن الأماكن التي ارتكب فيها أفعالا جنونية. فها هي تلك الفتاة الشابة التي غرقت في «سوداوية عميقة» استدعت حبسها، بعد أن تسببت في «مصرع الرجل الأكثر وسامة في الوحدة العسكرية» بمدينة لاون، أردنا إخلاء سبيلها بما أن حالتها الصحية تحسنت، ولكن بشرط ألا يتم ذلك في بلدية لاون؛ حيث إنه «ما زال فيلق الجيش التابع للملك متمركزا في مواقعه الدفاعية بالحامية العسكرية.» وحين يصرح لشخص ما بالخروج مع وجود بعض التحفظات من جانب الإدارة (سيكون في حالة يرثى لها، إذا خرج من المشفى)، لا يكون الانتكاس مستبعدا أبدا؛ مما قد يؤدي إلى التقدم بطلب احتجاز جديد: «منذ أن تمتع بحريته، صدرت منه الكثير من التصرفات الجنونية الشاذة» (تكسير الأبواب، ضوضاء ليلية ...) «بعد أربعة أشهر، عاودت نوبات الهياج الظهور لديه وأصبح من الضروري حرمانه كليا من حريته» (وفقا لما ورد في طلب الاحتجاز الثاني في بيستر، 1771).
نحصي بعض عمليات الهروب ولكنها أقل شيوعا بكثير عما هي عليه لدى الجانحين. نذكر على سبيل المثال حالة أحد كهنة كاتدرائية أوتون الذي فر من سان لازار في عام 1705، «ولكن نظرا لأنه لم يتصرف على نحو عاقل بما فيه الكفاية، لم تكن هناك صعوبة في إعادته مرة أخرى إلى المشفى.» نتج عن عمليات الهروب أو محاولات الفرار العديد من عمليات النقل بين دور الاحتجاز الجبري ذات الأنظمة المختلفة. في عام 1771، هرب المدعو دو لاجونكيير - ذو الثلاثين عاما - من دار سان بيير دو كانون حيث كان محتجزا، ولم يخل هروبه من محاولة إحراق الدار. بعد أن ألقي القبض عليه وثبت أن «السياج المحيط بدار سان بيير دو كانون لم يكن مؤمنا جيدا»، تم حبسه في سجن الدولة بجزيرة سانت مارجريت. بدأت سجون الولايات تنفر أكثر فأكثر من استقبال المختلين عقليا الثائرين. فقد أعرب رهبان مون سان ميشيل عن اعتراضهم قائلين: «هذا القصر ليس معدا لإرسال المختلين عقليا إليه»، وذلك حين تمكن مجنون هائج في إحدى الليالي، بعد أن تخلص من قيوده، من تكسير كل شيء في غرفته، بما في ذلك الباب والنافذة ثم قذف السكان الموجودين بالأسفل بالحطام المتنوع.
وكانت هناك تحويلات أيضا تتم بناء على طلب العائلات؛ أحيانا على أمل أن يؤدي التغيير إلى حدوث تحسن، وغالبا لأن نفقة الإقامة تزداد غلوا مع مرور السنوات. وهكذا نرى العديد من المختلين عقليا يتنقلون بلا هوادة من دار احتجاز إلى أخرى إلى أن ينتهي بهم المطاف في بيستر أو في سالبيتريير. وينتج عن كل هذا مسارات معقدة في أغلب الأحيان. فهذه البلهاء احتجزت بادئ ذي بدء في يونيو 1737 في دار شاريتيه بكاين، حيث أشعلت النيران. وها هي في سبتمبر في دار سانت بيلاجي بباريس، ثم في دار رهبانية الأخوات أورسولين بكرافان (بالقرب من أوكسير) في عام 1743، ثم انتقلت إلى دار رهبانية الأخوات أورسولين في أفالون في 1748. أما عن تلك الأرملة المدعوة كرونييه، فيظهر مسارها بشكل واضح مدى تعقيد وبراجماتية اعتقالات المختلين عقليا في ظل النظام القديم. كاترين كرونييه - التي لا نعرف عمرها، ولكن من المؤكد أنها كانت لا تزال شابة - أرملة منذ عام 1760؛ ولذا «داهمتها الأبخرة». وهذا، بالإضافة إلى ما أظهرته من «سلوك غير سوي تماما»، دفع عائلتها إلى تركها في رعاية والدها. ولكن هذا الأخير توفي. ومن ثم، قضى الأمر الملكي الصادر بناء على الطلب الذي تقدمت به العائلة باحتجازها في عام 1769 بأحد الأديرة في كودبيك. وهناك، أدت فورات الغضب والهياج التي كانت تنتابها إلى نقلها في عام 1772، بموجب أمر ملكي جديد، إلى دار بون باستور (الراعي الصالح) في روان؛ حيث أصابتها «نوبات هياج حادة لدرجة أنه كان لزاما تقييدها.» ثم جرى نقلها من جديد في عام 1776 إلى دار بون باستور بليزيو، وفي عام 1781 إلى بيرناي. في ذلك العام، حصلت العائلة على حكم بالحجر عليها بناء على طلب تقدمت به. وهكذا وضعت كاترين في دار بون سوفور بكاين. وفي عام 1785، كتبت رئيسة الدار عنها قائلة: «حالة الجنون لديها تكون - في بعض الأوقات - حادة بما يكفي لجعلها غير قادرة على العيش في العالم، على الرغم من مرورها بفترات صحو وجلاء ذهني.» ومع ذلك، فهذه هي الحقبة - وسنتناول ذلك باستفاضة - التي عكفت فيها الإدارة الملكية بهمة ونشاط على تنظيم عمليات الاعتقال التي تمت بموجب الأوامر الملكية. وفي الواقع، منذ عام 1772، لم تكن هناك أي أخبار جديدة بخصوص الخطابات المختومة أو الأوامر القضائية (لم يكن الحكم بالحجر كافيا). كانت كاترين كرونييه في الحجز منذ سبعة عشر عاما حين أرسل حاكم منطقة كاين الإدارية، في عام 1786، خطابا شديد اللهجة ليس إلى رئيسة دار بون سوفور، التي لم تلتزم بضرورة وجود أمر ملكي فحسب، بل أيضا إلى محل إقامة العائلة: «إنني أتساءل باندهاش كيف لا يوجد، وسط هؤلاء الاثني عشر شخصا [يقصد العائلة، وهم: أخ، وعم، وعشرة أبناء عم] الذين عرفوا جيدا كيف يجتمعون للحجر على امرأة مسكينة تئن تحت وطأة الأسر؛ شخص واحد على استعداد لاختبار ما إذا كانت الحرية تحقق بالنسبة إليها نجاحا أكثر مما حققته خمس سنوات من الحبس» (لا يتحدث الحاكم هنا إلا عن السنوات التي تولت الرئيسة خلالها المسئولية). أعارت العائلة أذنا صماء للحاكم ولكنه أصر على موقفه. لماذا لا «نقوم بتهدئة أبخرة الحزن أو الغضب لديها بمنحها متعة الحرية؟» بعد مضي بضعة أشهر، بعد أن استبد الغضب بالحاكم؛ نظرا لعدم تغير أي شيء، حضر بنفسه أمام بوابة بون سوفور، وأمر بأن تفتح له البوابة وبأن يتم إرشاده إلى غرفة كاترين كرونييه. وهناك، أمام الراهبات المذعورات، قال لها: إن بإمكانها الخروج وقتما تشاء. منذ ما قبل الثورة، بدأ شيء ما يتغير ...
الفصل الرابع
مرحلة مستودعات التسول
بعد انتهاء مرحلة دور الاحتجاز الجبري، ظهر بديل آخر للمشفى العام، في نهاية عهد لويس الخامس عشر ؛ ألا وهو مستودعات التسول. في سياق مجتمع ما زال يميل إلى الإقصاء - ربما حتى أكثر من مجتمع القرن السابع عشر - أصبح الخطاب حول المتشردين والمتسولين أشد عنفا وصرامة من أي وقت مضى: «إنهم قراصنة ينضمون إلى حلف الأصدقاء أو الأعداء، بحسب ما يرونه يشكل خطورة عليهم أكثر أو أقل [...] إنهم دبابير، مجموعة من الزنابير القاسية التي لا تكتفي فقط بكونها عديمة النفع في الخلية، ولكنها تدمر أيضا النظام القائم داخلها وسرعان ما تتلف إنتاجها من الشمع والعسل.»
1
يرى جان جاك روسو أن المتسولين خرقوا المعاهدة الاجتماعية (الخاصة بالعقد الاجتماعي). كما كان سكان المناطق الريفية يتعاملون بمنتهى الجدية والحزم مع هذه المسألة، معربين عن رفضهم أكثر من أي وقت مضى للمشردين الذين بدأ عددهم يتزايد أكثر فأكثر، وعن إدانتهم للمزارعين الذين استمروا في استقبال هؤلاء المشردين.
2
لا إحسان من قبل النخبة، ولا إحسان من قبل الشعب. ولا حتى العمل الخيري المتضارب الذي قدمه المشفى العام في بداياته، والذي تكشف الدروس المستفادة منه عن فشل واضح، وعن ضرورة التمييز بصورة جلية من الآن فصاعدا بين القمع والمساعدة. وهكذا نجد تفرقة جديدة تفرض نفسها: يجب ألا تستخدم الأماكن ذاتها، المخصصة للاحتجاز، للقمع وفي الوقت نفسه للمساعدة. وهذه المرة، لا مجال للسماح للمتسولين الأصحاء بالفرار.
إنشاء المستودعات
في عهد لويس الخامس عشر، أصبح من الآن فصاعدا بإمكان الإدارة الملكية الاعتماد على الشبكة القوية للمناطق الإدارية، بحكامها الذين كان يقال عنهم إن كل واحد منهم بمنزلة «الملك الحاضر في محافظته». وهكذا بدأ المسار الإداري يسود. في الثالث من أغسطس 1764 نشر «الإعلان الملكي بشأن المتسكعين والمتشردين». حيث تم الاعتراف بفشل عمليات الاحتجاز السابقة. واستن من جديد قانون بشأن إلقاء القبض على «المتشردين والمتسكعين، سواء أكانوا متسولين أم غير متسولين»، وعهد بهذه المهمة إلى كتائب المارشالية؛ مما بشر بقدوم مستقبل واعد. وغلظت العقوبات الخاصة بمعاودة الجرم. ولكن ظل الإعلان غامضا فيما يتعلق بأماكن الحبس، مشيرا إلى تلك الأماكن القائمة بالفعل.
إن القرار الصادر عن مجلس الدولة التابع للملك بتاريخ 21 أكتوبر 1767، إذ يأخذ علما بأنه «في معظم الأقاليم، لا تملك المشافي دخلا كافيا وليست لديها أماكن احتجاز مؤمنة بشكل جيد»، يسد هذه الثغرة عن طريق القيام في كل منطقة إدارية بإنشاء «دور مغلقة بشكل كاف بحيث تكون مخصصة لاحتجاز المتشردين والمتسكعين المحكوم عليهم بالحبس ». حيث سيتم إيواؤهم ورعايتهم «على نفقة صاحب الجلالة». يمثل هذا القرار إجراء حاسما، لم يكن موجودا من قبل في بيان 1764 إلا بالنسبة إلى الذين تتكفل بهم المحافظة المجاورة. وهكذا نشأت مستودعات التسول. بشهادة السلطات نفسها، لم تصل التدابير يوما قط إلى مثل هذا المدى البعيد.
ومن جديد كان من المنطقي ألا يرد أي ذكر للحمقى، مثلهم مثل باقي العجزة. ومع ذلك، جاء في خطاب تفسيري أرسل إلى أساقفة المملكة «أن توقيع أشد العقوبات على المتسولين الأصحاء سيكون بلا جدوى، إذا لم نتنبه إلى ضرورة فتح مؤسسات للعجزة في الوقت نفسه وتقديم يد العون إلى جميع أولئك الذين تجعلهم السن أو الإعاقة غير قادرين على العمل لكسب رزقهم.» ومن ثم سيكون هناك على الأقل في كل منطقة إدارية «مشفى عام يكون في الوقت نفسه مؤسسة للاحتجاز، بحيث يصبح مخصصا لاستقبال الفقراء العاجزين الذين لا يمتلكون أي مأوى آخر يلتجئون إليه، و«المختلين عقليا»، والذين سيصدر ضدهم حكم بالحبس». بداية، نلاحظ عودة غريبة إلى مفهوم المشفى الذي يفعل كل شيء. وتجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى أن تلك هي المرة الأولى التي يرد فيها ذكر المختلين عقليا بصورة رسمية. في الواقع، في أثناء قيام اللجنة المجتمعة بمبادرة المراقب المالي العام لافيردي بإعداد إعلان 1764، تم وضع خطة لتصنيف الفقراء؛ حيث ورد، بعيدا عن التقسيم إلى أصحاء وعاجزين، «المجانين، والمختلون عقليا، ومرضى الصرع» جنبا إلى جنب مع المكفوفين، والمقعدين و«ذوي السبعين عاما» في مصاف «الإعاقات المعتادة».
وقد أرسل لافيردي كتابا إلى حكام الأقاليم في السابع من أغسطس 1764 للاستفسار عن الوضع، في كل منطقة إدارية على حدة. أجابه حاكم محافظة كاين قائلا: «يجب أن يقوم الأمير أيضا بحجز الحمقى، والمهتاجين، والمصابين بتشوهات كبيرة للغاية وجميع الذين نراهم يسقطون يوميا في نوبات الصرع؛ لأنه لا شيء يخل بالنظام إلا لقاء هؤلاء الضحايا البائسين الذين يجسدون الشقاء الإنساني.» من الواضح أن المؤسسات القائمة بالفعل لم تكن كافية في ذلك الوقت.
إن فكرة مستودع التسول ليست جديدة تماما، بالنظر إلى أن أحد الإعلانات الملكية الصادرة عام 1750 نص عبثا - دون أن يستخدم التعبير نفسه - على تجهيز مكان مماثل (وقد أنشئت بالفعل بعض المستودعات بعد الإعلان الصادر في عام 1724). ولكن هذه المرة، كانت المملكة بأكملها هي التي يتعين عليها تنفيذ ما وعدت به، تحت قيادة الحكام الذين تلقوا وعودا بإعطائهم كل الوسائل والإمكانيات التي تعينهم على تحقيق ذلك. في كل منطقة إدارية، يجب أن يشكل مستودع التسول حلقة جوهرية في سلسلة الاحتجاز: بحيث يكون بمنزلة دار احتجاز مدنية «رخيصة» («دار احتجاز جبري بمصاريف قليلة»، كما كتب قائد الشرطة في عام 1767) خاضع لإشراف الإدارة الملكية؛ مما سيكون من شأنه تخفيف العبء بشكل واضح عن بيستر وسالبيتريير، والنجاح بالإضافة إلى ذلك في حبس المتسولين الأصحاء. تستهدف هذه المستودعات في المقام الأول هؤلاء: «فلقد أضحى من الضروري وبشكل حتمي - وفقا للكتاب المرسل من فرساي - أن يخشى هؤلاء الإقامة في المستودعات؛ لأنهم يخشون أن يتعرضوا لحالة تستدعي إيداعهم بها.»
انطلقت العملية بسرعة ونشاط. فقد مر أخيرا قرن على صدور مرسوم 1656، ولكن هذه المرة، مع وجود إمكانيات القرن الثامن عشر، نحن بحق في زمن فكر «الاحتجاز الكبير». حققت «الاعتقالات» (بما رافقها من صرف مكافأة لأفراد المارشالية عن كل رأس) المعجزات. ففي الفترة ما بين 1764 و1777، ألقي القبض على 11 ألف شخص. وسط هذا الجمع الضخم، نجد بالتأكيد مختلين عقليا، إما أحيانا معترفا بحالتهم منذ «القبض» عليهم - كنا نتفادى بعناية استخدام كلمة توقيف - وإما غالبا يظهر جنونهم بعد عدة أشهر من الحبس. نلاحظ على وجه الخصوص وجود العديد من حالات الصرع، ولكن نجد في كثير من الأحيان حالات أخرى مثل ذاك الأعور، أو تلك الكتعاء التي تبين أنها «معتوهة تماما ». وفي بعض الأحيان، يضاف إلى ما سبق هذه الملحوظة الأكثر شيوعا بالنسبة للنساء: «إنها هنا بحالة أفضل عما هي عليه في أي مكان آخر»، والتي تكشف عن وجود الرحمة حيث لا نتوقع وجودها.
في أقل من عشر سنوات، غمرت مستودعات التسول المملكة، بوجود مستودعين أو ثلاثة في كل منطقة إدارية. في السنوات الأولى تم إحصاء ما لا يقل عن 88 مستودعا، ولكن سرعان ما أغلق العديد منها؛ نظرا لعدم توافر أماكن كافية، لصالح مستودعات التسول الكائنة بعاصمة المنطقة الإدارية. في الواقع، تسبب تورجو في عرقلة العملية للمرة الأولى، حين أعرب عن رأيه بأن المساعدة (في الأبرشية) يجب أن تسبق القمع الذي لا بد من أن ينحصر تطبيقه على الأفراد «الخطرين وغير القابلين للإصلاح» فقط. أما نيكر، الذي خلف تورجو في تولي وزارة المالية في عام 1777، فكان يود إنشاء مكتب للصدقة في كل أبرشية. مثلما كتب أحد قساوسة الأقاليم إلى الأسقف التابع له في عام 1775 قائلا: «يجب عدم التركيز على مضاعفة المشافي بقدر ما يجب العمل بالأحرى على ألا يحتاج المواطنون إليها أبدا.» على الرغم من التردد الذي ساور السلطة الحاكمة، ظلت المستودعات قائمة. في جميع هذه المستودعات، كان هناك قسم خاص ومنفصل للمختلين عقليا؛ نظرا لأنه، كما قيل عن مستودع رين، «لا يوجد أي مؤسسة أخرى لتخليص المجتمع من هؤلاء البؤساء». في مدينة رين ذاتها، يلخص مرسوم صادر عن الحاكم إلى قائد فيلق المارشالية الوضع جيدا على النحو التالي: «لقد علمت للتو أن المدعو ماثورين لوفلور من مدينة إنبو قد أصابته منذ بضعة أشهر حالة جنون شديدة الخطورة على عامة الشعب. وبما أن عائلته - حسبما أكدوا لي - غير قادرة على دفع تكاليف معيشته في إحدى دور الاحتجاز الجبري، أطلب إليكم أن تتكرموا بإصدار أوامر إلى فرسانكم بضرورة نقله فورا إلى مستودع التسول في رين.»
في مستودع التسول الكائن في مدينة بايون، تم في عام 1774 إحصاء 21 مختلا من بين إجمالي 97 رجلا، و11 مختلة من بين إجمالي 66 امرأة. في مستودع سواسون، كان هناك في عام 1786، 23 مجنونا و24 مجنونة من بين إجمالي المحتجزين البالغ عددهم 208. في مستودع روان، كان هناك في عام 1789، «22 مجنونا و16 معتوها» من بين إجمالي 236 شخصا. في نهاية عهد النظام القديم، وصلت نسبة المختلين عقليا في المستودعات إلى 20٪ تقريبا (في الواقع، 15٪ بالأحرى في المتوسط) مقارنة بنسبتهم في سالبيتريير التي بلغت 10٪. يفسر هذه النسبة الكبيرة التناوب السريع للمحتجزين الأصحاء، بينما يبقى - مرة أخرى - المختلون عقليا (وكذلك المعاقون وذوو العاهات) ماكثين في أماكنهم. خلافا للمشافي العامة، كانت مستودعات التسول تعد مراكز فرز؛ حيث يجرى فيها الفرز بين الأصحاء والعاجزين، وبين المتسولين المحترفين والمتسولين بغير إرادتهم الذين نحاول إرسالهم إلى الأبرشيات التابعين لها، مما يعد حلما مستحيلا بالنسبة إلى الإدارة؛ نظرا لأن ثلاثة أرباع هذه الأبرشيات عاجزة عن تنظيم المعونات. وهكذا، في نهاية عهد النظام القديم، يجدر البحث بالأحرى في مستودعات التسول، وليس في المستشفيات العامة، عن المختلين عقليا المعوزين. يزيد عددهم على ألف بالتأكيد، ربما يبلغ ألفين. معظمهم يعيشون هناك «على خبز الملك»، ولكن هناك قطاع لا يستهان به ممن تم احتجازهم بناء على طلب العائلات وفقا للإجراءات التقليدية. كانت العائلات، حين يتم التعرف عليها، تلزم بالدفع إذا كانت تمتلك المقدرة المادية. كان الحد الأدنى لتكاليف الإقامة يبلغ مائة جنيه؛ أي ما يعادل أقل من نصف القيمة التي كان يتم دفعها للمشفى العام بباريس. يبقى أن نرى كيف تنعكس مثل هذه التكلفة المنخفضة على حياة المحتجزين.
يمثل كل مستودع، كما هو متبع في ظل النظام القديم، حالة خاصة على حدة. في بزنسون، كان هناك مستودع يعمل قبل اكتماله نهائيا، منذ صدور إعلان 1724: وهو مشفى بيلفو، الذي قسم المشفى العام بالمدينة، ذلك أن المشفى العام كان يقوم بطرد المصابين بالأمراض المعدية، والميئوس من شفائهم وجميع «المجانين، ومدعي الرؤى والأشخاص المضطربين».
3
ومن ثم، أصبح مشفى بيلفو هو مستودع التسول بالمدينة بعد إعلان 1764، واستتبع ذلك زيادة عدد العاملين به بصورة جذرية، وبالمقابل زيادة عدد المختلين عقليا. وقد بنيت بعض المستودعات الأخرى من العدم، أو بأقل القليل ، على أثر الإعلان الصادر عام 1764. كما هي حال مستودع بوليو في كاين.
دير بوليو
نشأ مستودع التسول بكاين في مارس 1768 على موقع مشفى الجذام القديم، في الضواحي الغربية للمدينة. بقيت بالمكان كنيسة صغيرة متداعية، وهي كنيسة نوتردام دي بوليو. كان صحن الكنيسة يوفر جدرانا ضخمة وسقفا لغرفتين متطابقتين، إحداهما مخصصة لخمس وستين سيدة، والأخرى مخصصة لستين رجلا. أما مذبح الكنيسة، فقد ظل مخصصا لإقامة صلوات القداس التي سيتمكن المحتجزون المستقبليون من «الاستماع إليها دون مغادرة غرفهم». في الأعوام التالية، شيد مبنيان جديدان في فير وفالوني. وتضاعفت عمليات «الاعتقال» في منطقة كاين الإدارية، كما في المناطق الأخرى. في نهاية عام 1769، تردد حديث أيضا عن الإمساك بالمتسولين القاطنين في محل إقامة.
كان الاتجاه السائد، منذ السنوات الأولى، يقضي بالإفراج عن المتسولين الذين يتعهدون بعدم معاودة التسول على الإطلاق، مع عدم الإبقاء إلا على العائدين إلى الإجرام وكذلك العاجزين، والمختلين عقليا مثل تلك المتسولة، «المصابة بعجز بالغ والفاقدة تماما لرشدها [والتي] لم يطالب أحد بها. لا يمكن بأي حال من الأحوال إطلاق سراحها.» أما عن ذلك المصاب بالصرع ذي الأربعة والعشرين عاما، الذي ألقي القبض عليه في شهر يوليو 1768، فلم يفرج عنه إلا بشرط أن يمكث عند والدته على أن تتم معاقبته بالحبس نهائيا في حالة معاودة الجرم. كان المشردون الذين «يصرعهم الداء الأعظم» - أي مرضى الصرع - كثيرين ومعظمهم من الشباب.
في أعقاب تصريحات تورجو التي تسببت في عام 1775 في عرقلة هذا المشروع، أغلقت مستودعات فير وفالوني (في عام 1769، بلغ عدد الحمقى في مستودع فير أربعة من بين إجمالي 14 شخصا)، ولكن واصل مستودع بوليو نموه وتطوره؛ حيث كان عدد المحتجزين يتراوح في الثمانينيات ما بين 200 و300 شخص. وكان يجري التذكير على الدوام بالغرض المزدوج من إنشاء المستودع، كما ورد في الخطاب الذي بعث به حاكم كاين إلى فرساي في عام 1775: «طالما كان لدار الاحتجاز التابع لمشفى الجذام والواقع بالقرب من كاين هدف مزدوج؛ الأول: أن يكون بمنزلة مأوى أو سجن للمتسولين والمتشردين والمتسكعين ، والثاني: أن يحتوي المجانين والمنحلين والعناصر الفاسدة التي من مصلحة العائلات احتجازها حتى لا تلوث سمعتها [...]» وهكذا، من وجهة النظر المؤسسية، كان يتم احتجاز المختلين عقليا على وجه التدقيق في دار احتجاز جبري (رسمي) وليس في مستودع للتسول في بوليو.
في عام 1784، بلغ عدد المختلين عقليا 43 (27 رجلا و19 امرأة) من بين إجمالي 283 شخصا. يضاف إلى الأشخاص الذين تم توقيفهم باعتبارهم مشردين، أولئك الذين تم إيداعهم الدار بموجب أمر ملكي وبناء على طلب العائلات، وفي أحيان كثيرة بشكل متزايد نزولا عند رغبة المجتمعات المحلية. تم إعداد حجرات المختلين عقليا في جناح بعيد، على مستويين، على جانبي ممر مركزي. وكانت كل حجرة، بمساحة «ستة أقدام مربعة» [3,80م
2 ]، تحتوي على نافذة صغيرة مرتفعة وباب قوي مزود بشباك صغير؛ «لتمرير حصة الطعام للمرضى من خلاله.» الجدران والبلاط قوامهما الأحجار التي تنتجها مدينة كاين. نصف الحجرات تقريبا ذات مساحة مضاعفة؛ مما يدل على أن السبب وراء ذلك، إن لم يكن توفير قدر أفضل من الراحة والرفاهية بشكل استثنائي، يكمن في أنه كان يتم غالبا وضع اثنين، بل وأحيانا ثلاثة، من المختلين عقليا معا. أما المصابون بالهياج، فكان يجري تسكينهم بالطبع في غرف منفردة. كان العدد في بوليو كثيرا، وفقا لتقارير سلوك كل واحد منهم. «إنه مجنون هائج، خطر ويخشى منه، إنه محبوس بشكل متواصل في غرفته.» أما عن المختل الذي يتشارك حجرته مع آخر والذي «تنتابه في بعض الأوقات نوبات هياج»، فيوضع مؤقتا - ودون وجود أي اتجاه للخلط بين الفئتين - في إحدى زنازين الحبس الانفرادي التأديبية المخصصة للمسجونين.
على الرغم من أن المختلين عقليا في بوليو كان لديهم مكان لإيوائهم ووضع مستقل، فإن حياتهم اليومية لم تكن تسير على ما يرام تحت سقف هذه الدار الفسيحة ذات الاستخدامات المتعددة؛ حيث لم يكن المتسولون الأصحاء هم الأكثر عددا، إنما، مما يثير المفارقة، أيضا العاجزون والمعوقون والمصابون بالأمراض التناسلية، والمصابون بالجرب ... هل كان المختلون عقليا يتلقون معاملة جيدة في بوليو، بالمقارنة مع المشفى العام؟ حدد قصر فرساي ، في عام 1770، القواعد المنظمة على النحو التالي: «طالما فكرت الوزارة في أن المحتجزين في المستودعات، إذ يتعين دوما إخضاعهم لنظام تأديبي بهدف إصلاحهم، من الضروري - لإشعارهم بثقل جرمهم وبغية تقويم سلوكهم في المستقبل - ألا تتم معاملتهم بصورة جيدة تماما، ونظن أنه لا بد من اتباع نهج وسطي نوعا ما بين الطريقتين اللتين يتم بهما إطعامهم في السجون وفي المشافي.» في موضع آخر، نجد الحاكم يذكر المهندس المعماري «أن دار الاحتجاز الجبري لا تتطلب إلا الصلابة والبساطة»، بعيدا عن «التصاميم الزخرفية المعمارية التي تكلف دائما الكثير من المال». من البداية، كان حاكم كاين، المسئول المباشر عن بوليو، يجري وراء المال الذي يعطيه إياه قصر فرساي بالتقتير وببخل مفرط يتزايد مع تفاقم الأزمة المالية التي أصابت البلاد في عهد النظام القديم. أصبح مستودع بوليو، مثل العديد من المستودعات الأخرى، مؤسسة تجارية. في عام 1781، كان هناك مائتا محتجز من بين مائتين وخمسين يغزلون القطن، بيد أن نتاج هذا العمل لم يكن كافيا لموازنة الميزانية، فضلا عن أن الحاكم ندد ب «عمليات النصب والاحتيال» التي يمارسها المقاول.
كل تفاصيل الحياة اليومية جرى تنظيمها بشكل مستفيض وبمنتهى الدقة. القادم الجديد، كان يجرد من أسماله البالية (وتعاد إليه بعد نقعها في ماء مغلي وغسلها جيدا بمساحيق التنظيف عند خروجه)، ويحلق شعره وذقنه (ويظل هكذا طوال مدة إقامته)، ويتم تنظيفه وإلباسه الزي الموحد للمستودع: سترة بنية مصنوعة من النسيج الصوفي الغليظ، وسروالا أبيض اللون من قماش الشبيكة، وطاقية بنية اللون من الصوف الغليظ للرجال؛ أما النساء فكان زيهن الموحد يتكون من تنورة بنية مصنوعة من النسيج الصوفي الغليظ، ومشد نسائي أبيض اللون مصنوع من نسيج قطني مشبوك الحبك، وقبعة من القماش وقلنسوة من القطن أو الحرير المضلع، بالإضافة إلى قميص أصفر اللون من القماش الفضفاض، وجوارب صوفية وأحذية لكلا الجنسين. ولكن، ماذا يتبقى من كل هذا فوق جسد الحمقى بعد بضعة أسابيع؟ من المؤكد على أي حال أنه لم يكن يسمح لهم بانتعال الأحذية، التي قد تصبح سلاحا في أيديهم وكان يتم الاستعاضة عنها بالخفاف. وفيما يتعلق بالأسرة، فقد كانت مكونة من هيكل خشبي وفراش من القش رقيق للغاية أشبه بحزمة من القش، يجرى تجديده بشكل مبدئي كل شهرين للمختلين عقليا الثائرين أو الذين يميلون إلى تمزيق الأشياء.
في مستودعات التسول، كما هي الحال في جميع الأوساط الأخرى المتعلقة بعالم السجون، أكثر ما يهم المحتجزين هو الطعام. ولقد كان النظام الغذائي الموحد المطبق بالنسبة إلى الحد الأدنى من نفقة الإقامة (120 جنيها) أكثر من مقتصد؛ إذ كانت وجبة الطعام البسيطة تتألف من: رطل ونصف من الخبز المكون من ثلثين من الشعير وثلث فقط من الحنطة (مع النخالة)، وأوقيتين (حوالي 60 جراما) من الأرز في يوم، وأربع أوقيات من الخضراوات المجففة في اليوم التالي. هذا كل شيء، مع الماء. من الواضح أن هذا النظام أبعد ما يكون عن قوائم الطعام والنبيذ اللذين تقدمهما دور الاحتجاز الجبري «الفاخرة». بالإضافة إلى أن الأرز، باعتباره مادة غذائية جديدة، لم يكن مقبولا وكان يثير استياء النزلاء، بالرغم من أن قصر فرساي، الذي كان يتولى توزيع وصفات الطعام في جميع المستودعات، قد عمل على الترويج جيدا لهذا المنتج. لقد كان الأرز بديلا للقمح الذي يوشك مخزونه دائما على النفاد، وذلك في انتظار البطاطس، التي ستلقى أيضا مقاومات شديدة. في بوليو، كان يتم طهي الأرز تارة بالدهون أو بالزيوت المستخرجة من المكسرات، وتارة بالحليب. ولكي يكون للنزيل الحق في تناول اللحوم أو حساء المرق الدسم (لسنا بعد في زمن حضارة الفواكه والخضراوات الطازجة)، يجب ألا تقل نفقة إقامته عن 200 جنيه. لقاء هذا السعر، يمكن أن نشرب خمر التفاح «المخفف» (نصف الكمية ماء، والنصف الآخر «عصير التفاح المختمر»)، مع شيوع الاعتقاد بأنه «في البلدان المنتجة للنبيذ»، يتم إعطاؤه للمرضى كشراب؛ «ليتعافوا بسرعة أكبر». خمر التفاح «في هذا البلد، يحدث الأثر نفسه [الذي يحدثه النبيذ] ولن يكون منصفا حرمان هؤلاء التعساء من هذا العون». هذا ما كان يظنه حاكم كاين، ولكن قصر فرساي لم يوافقه الرأي وجاءه الرد كالتالي: «ذلك ترف غير ضروري لا مكان له في أي من مستودعات المملكة؛ حيث يجب ألا تحصل هذه النوعية من البشر إلا على الماء كشراب» (وهذا خطأ). لقاء 300 جنيه، يحصل المرء على اللحم في الوجبتين - ناهيك عن غرفة خاصة (حيث تتولى العائلة تأثيثها) - ويختلف «خبز النزلاء» المصنوع بالكامل من الحنطة عن «خبز المتسولين ». على أي حال، كان النزلاء الذين يدفعون تكلفة إقامة تتجاوز المائة والعشرين جنيها قليلي العدد للغاية (أربعة فقط في عام 1770) وكان النظام الغذائي الموحد هو السائد بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة. فضلا عن ذلك، كان هذا النظام الغذائي مرنا وقابلا للتغيير. فعندما يكون الشخص مريضا، يتبع حمية غذائية - أي يتناول نصف الحصة المقررة - ويقدم إليه أحيانا «حساء بلا دهن» كمكمل غذائي. وقد ورد في البيانات المفصلة التي تؤرخ لنهاية القرن الثامن عشر، وصفا تفصيليا للتمييز الذي تحظى به الفئات المميزة؛ مما يعد أمرا جيدا، حتى على هذا المستوى، وفقا لفكر النظام القديم. كما هي حال «السقائين» أو «الأشخاص الشرهين»، وهي الفئة المؤلفة من العمال المشتغلين في الأعمال اليدوية أو المعاونين بمختلف أنواعهم، الذين كان يتم بحكم الأمر الواقع الاعتناء بتغذيتهم على نحو أفضل. علاوة على ذلك، كان «الأجر» الذي يحصل عليه المحتجزون يتيح لهم تحسين وضعهم الاعتيادي، بما في ذلك شراء النبيذ في الخفاء. كل ما سبق، لا يعني بأي حال الحمقى المعزولين في قسمهم.
خفضت العمالة إلى الحد الأدنى؛ فانحصرت في وجود حاجب (أي ما يعادل رئيس حرس في العصر الحديث) مطلق السلطات كما في سائر الأماكن الأخرى وغير مطالب بتبرير أفعاله إلا أمام وكيل المدير الغائب دائما، وأربعة صرافين، وعشرة حراس مسلحين. «الموظفون» الآخرون جميعهم عينوا من بين المحتجزين، بما في ذلك أولئك الذين كانوا يتولون رعاية المختلين عقليا. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك قسيس، وطبيب وجراح. وكان هذان الأخيران يفعلان ما في وسعهما، ولكن لم يكن في استطاعتهما الكثير، خاصة حيال المختلين عقليا، الميئوس من شفائهم جميعا. أما فيما يتعلق بالشكاوى النادرة المقدمة من الجانحين ، والتي وصلت إلينا، فهي تضفي لونا قاتما على اللوحة؛ إذ تزعم إظهار الوجه الخفي للوائح الداخلية: بواب لص يأخذ لنفسه إتاوة عن كل شيء، اختلاط غسيل الأصحاء بغسيل المصابين بالأمراض الجلدية كالجرب والقوباء والزهري، قش لا يتم تغييره مما يوفر مناخا ملائما لتكاثر الحشرات الطفيلية القذرة وانتشارها، زنازين حبس انفرادي أو التقييد بأغلال في الفناء عند أول هفوة، ضرب بالعصي ... أما الطعام، فقد كان يهدر بكميات هائلة لصالح موظفي الإعاشة والعاملين بالمستودع؛ كانوا يأخذون لأنفسهم أفضل القطع المنتقاة من لحوم الذبائح، ويدخرون لأنفسهم كمية من الملح لاستخدامهم الشخصي عند تناول الأطعمة المقددة (كان الملح باهظ الثمن في ظل النظام القديم؛ إذ كانت تفرض عليه ضريبة). بالطبع، كان الجانحون هم الذين يشتكون مما قد يدفعنا للاعتقاد بأن المختلين عقليا - غير المذنبين ولكن المرضى - كانت تتم معاملتهم على نحو أفضل. كتب أحد الوكلاء الموفدين بخصوص إحدى الجانحات قائلا: «لقد كانت قبل [...] مقيمة في جمعية خيرية، ولم تخرج منها إلا لأنها كانت تعتقد أنها ستكون أفضل حالا في بوليو. يبدو أنها انجذبت لاسم المكان (حيث تعني بوليو بالفرنسية «المكان الجميل»). ولكن، لم يكد يتم حبسها داخله حتى رأت بنفسها أن هذا المنزل لا يمكن أو يجب ألا يدعى هكذا إلا من وحي خيال واهم.» بوليو، هذا الاسم الذي ليس على مسمى، لا يعدو أن يكون في الواقع سوى سجن من أشد السجون صرامة، ومنبع لحركات التمرد وعمليات الهروب. فهذا المكان، مثل غيره من المستودعات، ليس إلا مأوى للهالكين الذين ينتظرون حتفهم.
فشل
بعد انقضاء خمسة عشر عاما على إنشاء مستودعات التسول، بدا فشلها جليا. بالطبع، عانى 230 ألف شخص من هذا الفشل، ولكن في حقيقة الأمر، كانت الفئة المستهدفة أساسا من هذا المشروع، وهي الأصحاء، الأكثر تضررا؛ فقد كانت تكلفة العملية باهظة: تتراوح ما بين 900000 و1500000 جنيه سنويا. وكانت الظروف المعيشية بغيضة. وعلى عكس المشافي العامة، كان نظام التأديب قاسيا والمستودعات محكمة الغلق بشكل صارم وخاضعة لإشراف الجند. كانت العقوبات والضربات تنهال كالمطر، وكان يكلف بالحفاظ على الانضباط داخل كل غرفة مراقب يعين من بين المحتجزين، ويفضل أن يكون رجلا عسكريا سابقا. ومن ثم، كانت حركات التمرد وعمليات الفرار كثيرة، وغالبا ما كانت تنتهي بوقوع قتلى. فعلى سبيل المثال، هرب حوالي ستين محتجزا (نصفهم من النساء) من بوليو في الرابع عشر من يوليو 1783، على أثر اندلاع حركة تمرد أسفرت عن مصرع شخصين. في روان، استدعي فوج (وحدة عسكرية) من المدينة، في عام 1775، للمساعدة على إخماد تمرد. وقد وجد الضابط المسئول نفسه، «بعد أن أطلق أعيرة نارية» [خراطيش فارغة]، مضطرا «للجوء الحتمي إلى إطلاق الرصاص»؛ مما أسفر عن سقوط العديد من القتلى.
بالإضافة إلى ذلك، كانت الأوضاع المادية سيئة؛ فقد عبر قصر فرساي عن استيائه من الأوضاع في مستودع روان، حيث يتم وضع المجانين دون سواهم في الحجرات، وهذا يعني أنه كان يتم أحيانا إيداع الجانحين الذين يقضون فترة عقوبة في الحجرات الخاصة بالمختلين عقليا، والأسوأ أنه لم يكن هناك تمييز فعلي بين الفئتين. تلقى مستودع بايون انتقادا عنيفا موجها من أحد قساوسة المدينة على النحو التالي: «يا سيدي [الخطاب مرسل إلى الحاكم]، هؤلاء البؤساء عراة، لا ينتعلون أحذية، ولا يرتدون جوارب، بل إن بعضهم لا يلبسون سترة ولا سروالا [...] حين تصيبهم الأمراض، يتعرضون لسوء المعاملة، ولا يتم إعطاؤهم الأدوية اللازمة» (1774). لم يقل الوكيل الموفد، وهو في الوقت ذاته مدير المستودع، شيئا مختلفا: «خلال زيارتي الأخيرة، لفت هؤلاء البؤساء المساكين نظري إلى العري البشع الذي يعاني منه معظمهم، وأروني الأفرشة القش والأسرة التي ينامون عليها وإذا هي ممزقة ورثة [...] كان يتم تجديد القش على الأقل من وقت لآخر للمجرمين العتاة.» في مستودع التسول الكائن بمنطقة الألزاس الإدارية (إينسيسهايم)، الكائن في مقر مدرسة ثانوية قديمة تابعة لليسوعيين (الذين طردوا من المملكة في عام 1764)، تبدو الأوضاع أقل ترديا؛ إذ كانت «حجرات المجانين مبنية من الخشب، وجيدة التهوية، وكانت كل حجرة تمتلك مراحيض خاصة متصلة مباشرة بالقناة المائية، مما لا يترك مجالا لانبعاث الروائح.» جاء هذا الكلام على لسان أحد المفتشين في أثناء قيامه بجولة. بدا له أن الطعام كاف وأثنى على عدد المواقد الكبير وأشاد به باعتباره «ترفا واضحا». ولكن ها هو مفتشنا في المستوصف. بطبيعة الحال، يقوم كل من الطبيب والجراح الذي يساعده بزيارات يومية وينهمكان في عملهما بنشاط بلا كلل، فيضمدان عددا لا يحصى من الجروح، ويجريان عملية تطهير هنا، وعملية فصد هناك، بيد أن المرضى يرقدون على الأسرة اثنين اثنين. كانت وحدة التمريض الخاصة بالرجال قذرة بشكل يثير التقزز، ومكتظة، ونتنة. وقد اختلط الحمقى المرضى مع الآخرين. «وسط المرضى يوجد شخص مصاب بالهوس، وقد امتلأ سريره بالقمامة [الفضلات]؛ مما قد ينجم عنه، ليس انتقال العدوى إلى جميع من في الغرفة فحسب، وإنما غالبا ما يقوم المختل، حين ينهض في منتصف الليل، بتلويث الأسرة المجاورة له بالقذارة التي كان غارقا فيها.»
في كل مكان، ونظرا لعدم الكفاية المالية المزمن، كانت المباني متداعية، وغير صحية ومكتظة. يقضي هذا الازدحام، باعتراف الحكام أنفسهم، على أي أمل في إعادة تأهيل المتسولين الأصحاء، على الرغم من أن ذلك كان الهدف الأول من إنشاء هذه المستودعات. ومن جديد، كما هي الحال في المشافي العامة، سرعان ما أصبح العاجزون والمعوقون والمختلون عقليا النزلاء الدائمين للمستودعات، من دون أن تكون لديهم أي إمكانية للخروج منها (نظرا لأنهم لن ينالوا الشفاء أبدا ولن تطالب بهم أي عائلة). في هذه الأثناء، أخلي سبيل ثلاثة أرباع المتسولين قبل انقضاء عام. وتسبب الاكتظاظ، وسوء التغذية، وقلة النظافة في ارتفاع معدل الوفيات بشكل مخيف: ففي الفترة ما بين 1768 و1789، من 20٪ إلى 30٪ من الأصحاء، و40٪ من العاجزين، وأكثر من 50٪ من الحمقى لقوا حتفهم في المستودعات.
تلك المؤسسات، التي كان ينظر إليها باعتبارها مأوى للهالكين، هوجمت في نهاية عهد النظام القديم من قبل من كانوا أنفسهم يتمنون تحويلها من حلم إلى حقيقة. استنكر لويس سباستيان مرسييه وجود هذا العدد الكبير من الفقراء المنافقين، والمخادعين والكسالى، ولكنه أدان بشكل خاص المستودعات. «إننا ندفنهم [أي المتسولين] بمنتهى الوحشية في منازل نتنة ومظلمة، حيث يتركون لحالهم. ثم سرعان ما تجعلهم عوامل مثل البطالة، وسوء التغذية، والإهمال، وتكدس رفقائهم في البؤس والشقاء؛ يختفون واحدا تلو الآخر.»
4
في عام 1780 نشر ملخص لعدد من الأبحاث التي تنافست على بحث مشكلة التسول.
5
كانت هذه الأبحاث تشير دائما إلى التسول باعتباره فعلا مذموما ومهينا، وقد اقترحت حلولا جذرية لهذه المشكلة بالرغم من أن العنوان الفرعي لهذا العمل يوحي بالحنو والعطف (من دون إتعاسهم). وفقا لما ورد في هذا الكتاب، يجب أن يعمل المتسولون المعاقون أيضا: «من لديه ساق واحدة فقط سيتم تكليفه بعمل يدوي، من لديه ذراع واحدة فقط سيكون قادرا على قيادة السيارات [...] حتى المكفوفون يمكننا الانتفاع بهم في شيء ما (تدوير عجلة على سبيل المثال). المعاتيه أنفسهم والمجانين، حينما لا يكونون في حالة هياج، يجب ألا يظلوا عاطلين.» لقد كانت المشافي العامة موضع شجب واستنكار. فهي تعد مكلفة للغاية، بالإضافة إلى أنها توفر مناخا يساعد على التسول بدلا من أن يقضي عليه. ولكن، ماذا نقول إذن عن مستودعات التسول؟ «في هذه المقابر البشعة، دفنا الآلاف من البشر أحياء؛ إذ إننا أمتناهم بهذه الوسيلة من أجل المجتمع [...] العديد من مستودعات الفقر لدينا هي صورة للجحيم.»
إن الصراع بين التسول والتشرد ليس على وشك الانتهاء وسوف تتوحد دفاتر التظلمات للتنديد ب «حقارتهما» وللمطالبة بقمعهما. كما لم تحل بعد مسألة مساعدة العاجزين والمختلين عقليا المعوزين، التي برزت في إثرهما. النقطة الوحيدة التي يتفق عليها الجميع هي أن من يتناولون هذه المسألة ليسوا في محل هؤلاء الأشخاص، سواء في المشافي العامة أو في مستودعات التسول. في الواقع، وحتى لا يتبقى لنا سوى المختلين عقليا (ولكن المشكلة ما زالت قائمة أيضا بالنسبة إلى المكفوفين على سبيل المثال)، فربما بدأت تتبلور فكرة تخصيص مآو لهذه الفئات.
الفصل الخامس
فكر الإصلاح
لم تبدأ الإدارة الملكية في التفكير في الإصلاح الكامل لنظام تقديم المساعدة في المملكة إلا متأخرا، بعد أن تنبهت إلى إخفاق المشافي العامة وإلى أسلوب الإدارة غير المرضي لدور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول. كان لا بد من البدء من نقطة الصفر، واضعين في الاعتبار أن المختلين عقليا لا يشكلون إلا فئة من بين الفئات الأخرى من المبتلين. فما العمل - على سبيل المثال - مع الأطفال اللقطاء، الذين يتزايد عددهم أكثر فأكثر؟ كيف يمكن تحسين تنظيم عملية إيداعهم في دور الحضانة في الريف؟ وكيف ينبغي التعامل مع المصابين بالأمراض التناسلية، بينما ينتشر بسرعة متنامية «مرض الزهري» [السفلس]؟
هذا الفكر الإصلاحي الذي ساد العقود الأخيرة من النظام القديم، كان يحركه الاتجاه القوي نحو المحبة الإنسانية ومساعدة الغير، الذي ازدهر في هذه الفترة، وفي الوقت نفسه الإنجازات الهائلة التي حققتها المركزية الملكية، والتي أعطت دفعة ثانية لنظام الحكم المطلق الذي خفف منه فكر التنوير.
الإحسان والجنون
بدأ تيار العمل الخيري، الذي كان متأصلا بالفعل في إنجلترا، يزدهر في فرنسا في نهاية حكم لويس الخامس عشر، وذلك في الفترة التي شهدت بزوغ نجم العلماء الموسوعيين. يتميز هذا التيار على وجه الخصوص ب «النفور الفطري الذي يشعر به الإنسان إزاء رؤية معاناة نظيره» (روسو). هذه الشفقة نحو الآخر وهذا التطلع إلى مساعدة الغير، يتميزان عن تيار العمل الخيري التقليدي (الذي خمد بشكل كبير) بأن أهدافهما ليست إلا وقتية. فقد بدأت تنشأ عقيدة المساعدة على أساس أن الشقاء هو نتاج الوضع الاجتماعي. فالمجتمع ملزم بإصلاح الضرر الذي تسبب فيه. ويعد واجب تقديم المساعدة عند الحاجة أمرا أقرته القوانين (ديدرو)، وهي فضيلة علمانية تماما تصبح الدولة بمقتضاها هي الكيان الأكثر قدرة على الوفاء بمتطلبات الإنسانية. وهذا هو المقصود بكلمة «المساعدة العامة».
في سياق هذا الفكر، أنشأ تورجو، الذي تولى منصب مراقب عام الشئون المالية في الفترة من يوليو 1774 إلى مايو 1776، لجنة تقصي حقائق بقيادة رئيس أساقفة تولوز لوميني دي بريان. وهو العمل الذي كان من شأنه أن يسفر فيما بعد عن وضع خطة شاملة لتنظيم المساعدة. وبالطبع، اقترح محبو العمل الخيري العام إصلاحات أخرى، خاصة في مجال التعليم والتربية، والصحة والقضاء، ولكن المساعدة شكلت الأولوية القصوى، ولا سيما وقد اشتعلت جذوة النقاش بعد حريق المشفى الرئيس بباريس في 30 ديسمبر 1772. خلف نيكر - واحد من أبرز الشخصيات في مجال العمل الخيري (وكذلك زوجته التي اتخذ نشاطها طابعا شبه رسمي) - تورجو في عام 1777، وأنشأ في العام نفسه لجنة مكلفة بالبحث عن الوسائل اللازمة لتطوير نظام المشافي.
في كل مكان سلط الضوء على الوضع المؤسف للمشفى الرئيس والمشفى العام بباريس. أما عن المؤسسات الموجودة بالأقاليم، فكان ينظر إليها على أنها نماذج مصغرة عن بيستر؛ أي مشافي رئيسة صغيرة تخفي نفس الفظائع. «أنا مقتنع - كتب رئيس الدير دي فيري في دفتر يومياته - بأن المريض، المتروك لطبيعته وحدها ولتعاطف جاره، سيبرأ بالتأكيد، الأمر الذي ليس مضمونا في حال تلقيه للرعاية المزعومة التي من المفترض أنها تقدم له في المشافي الرئيسة بالمدن.» أما لوكلير دو مونلينو، فقد أطلق التصريح التالي: «فلنتوقف عن التصدق ولنهدم جميع المشافي!» المراد من هذا القول هو أنه، خلافا للتجمعات المركزية الكبيرة، كان يجب تطوير فكرة الإعانات المنزلية والاهتمام ببناء مؤسسات صغيرة. قدم نيكر مثالا يحتذى، بإنشائه في عام 1778 مشفى نموذجيا مصغرا، بشارع سيفر، وعهد إلى زوجته بإدارته. وتكمن الفكرة هنا أيضا في إضفاء طابع التخصص على المشافي، وهي فكرة ليست بالجديدة بالنظر إلى أنه في أثناء إحدى المداولات التي أجريت بمكتب المشفى الرئيس في عام 1525، أعرب المسئولون عن رغبتهم في الاقتداء بإيطاليا في «إلزام المشافي الكائنة في هذه المدينة بالتخصص في استقبال الحالات؛ بحيث يستقبل بعض المشافي النساء على حدة، وبعض آخر الجرحى، والباقي المختلين عقليا، بالإضافة إلى مشفى للأطفال الصغار، وآخر للمصابين بالأمراض الجلدية والتناسلية، وهكذا يجري الفصل بين المرضى.»
وهكذا استطاع أنصار تيار العمل الخيري، في هذا السياق، اكتشاف الحمقى، بكل ما أحاط بهم من زنازين وقيود. لقد خلق الجنون ومحبو العمل الخيري ليلتقيا، كما تكشف عن ذلك قصة إليونور التي حددت شكل حقبة ما قبل الرومانسية الناشئة. يتحدث إلينا طبيبها الذي قرر - بالاتفاق مع الأب - إخراج إليونور من أحد أديرة تور؛ حيث تم احتجازها لإصابتها ب «الاهتياج الرحمي » [غلمة]. «لن أستطيع أن أصف حجم الرعب الذي تملكني عند دخول هذا المنزل؛ حيث يسكن السخط والجريمة واليأس [...] يا له من مشهد قبيح جدا ومخيف للغاية! يا لهاتين العينين الزائغتين والغائرتين، وهذه البشرة الصفراء الشاحبة، وهاتين الوجنتين المترهلتين الباهتتين، وهذه الشفاه المتدلية ذات اللون البنفسجي، وذلك الفم المزبد الذي تنبعث منه رائحة نتنة، وهذه الأسنان السوداء المتخلخلة، وذلك القوام المحني والمشوه! في المجمل يا لتلك البشاعة! أيمكن أن أظن أنك كنت يوما ما جميلة وتمتلكين مفاتن؟ [...] حين أبلغت الرئيسة بأنني مكلف باصطحاب إليونور لإعادتها إلى منزلها، قالت لي إنني سأكون المسئول، ولكن الأمر يبدو لها مستحيلا، ما لم تقيد بالسلاسل في عربة مسقوفة، وأنه على الرغم من هذه الترتيبات قد تتسبب إليونور بصرخاتها المخيفة في إحداث بلبلة واضطرابات وإثارة فضيحة شنيعة في الطريق. أجبتها بأنني أعددت العدة لكل شيء. أما بخصوص وسيلة تقييد إليونور، فلن أسمح بذلك.»
1
فظاعة زنازين الحبس الانفرادي والقيود هما أكثر ما أثار شفقة محبي الخير، حتى عدالة النظام القديم تأثرت بهذا الأمر، كما ورد في نص ذلك القرار الصادر في عام 1781 عن محكمة برلمان روان: «بناء على التنبيه الموجه إلى البلاط من قبل النائب العام للملك، والذي أوضح أن الجنون يعد أحد أكثر الأمراض إذلالا وإيلاما للبشرية، ومن ثم، فإن هذا المرض بقدر ما يحتاج إلى الرحمة، يتطلب اللجوء إلى أشد الوسائل عنفا لوقف نوبات الهياج وفورات الغضب المصاحبة له. ومن هنا تأتي تلك الزنازين المليئة بالجنازير والقضبان الحديدية حيث يقاسي المجنون غالبا [المقصود بالطبع المختلون عقليا]، العقوبات نفسها تقريبا دون أن يكون مذنبا في أي من الجرائم التي تستوجب التعذيب.»
لقد أتاحت عملية نقل المجموعة الأخيرة من المختلين عقليا، التي كانت موجودة في برج المجانين بكاين، إلى مستودع بوليو للتسول، في السابع والعشرين من أبريل 1785؛ الفرصة لإعادة اكتشاف شناعة عالم السجون وويلاته التي يعانيها المختلون عقليا. ثم تقرر أخيرا تدمير هذا البرج المشئوم. بالطبع، كان الأمر يتعلق في البداية بإحدى عمليات التعمير العامة (حيث كان من المقرر إنشاء محاكم في هذا الموقع)، ولكن هذا البرج كان ينشر الرعب في قلوب الجميع، بدءا بالحاكم الذي كتب في العام الفائت بشأن حبس مجنون قاتل قائلا: «أرى أنه يجب سجن هذا المختل مدى الحياة، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك في برج شاتيموان؛ لأن ما سيلاقيه هناك من عذاب يبدو لي أسوأ من الموت .» وهذه المرة يجدر القول بأن ضباط المارشالية كانوا هم من رووا لنا في أحد تلك المحاضر الدقيقة والتفصيلية التي كانوا بالفعل على دراية كاملة بدوافعها الكامنة؛ وقائع استخراج المختلين عقليا، واحدا تلو الآخر، من البرج. «في البداية، فتحت لنا أكثر من حجرة خشبية في إحدى الشقق الموجودة في وسط البرج، ثم خرجت من إحدى هذه الحجرات المدعوة ماري جان جيدون [...] لقد كانت عارية تماما، وكانت قد سقطت من أعلى البرج؛ ولذا لم يكن بإمكانها الوقوف. ألبسناها كيفما اتفق قدر استطاعتنا، ثم حملها الشيالون الذين حضروا خصيصى لهذا الغرض ووضعوها في عربة نقل مفروشة بالقش ومعدة لاستقبالها.» ثم أخرجت خمس سجينات أخريات من هذه الحجرات ووضعن في عربات النقل. «وفي ثنايا التجاويف الموجودة بزوايا جدران البرج السميكة، في الغرفة نفسها، وجدنا أولئك المدعوين وقمنا بإخراجهم.» كانوا ثلاثة مختلين عقليا، من بينهم «رجل طويل وقوي مسجون منذ عشرين عاما. كان مجنونا هائجا، عاريا وخطرا، ولم يكن قد فتح له الباب منذ زمن طويل للغاية لدرجة أنه تعين كسر القفل والمزاليج [...] ثم تسلقنا أسوار المدينة ووجدنا، داخل سمك الجدار المذكور، المدعو نيقولا ديشان - مجنونا - راقدا على القش مرتديا قميصا رثا وكان جزء من فخذه متآكلا. في موضع آخر من الجدار عينه، وجدنا داخل وعاء حقيقي للعدوى والعفن والرعب المدعوين [...] الذين جرى أيضا حملهم ونقلهم إلى العربات. ثم نزلنا إلى عمق سحيق لا يتسلل إليه الضوء إلا عبر شباك مزود بقضبان حديدية على ارتفاع يزيد عن ثلاثين قدما، وأخرجنا من إحدى الزنازين المصممة داخل أسس هذا البرج المدعو فيليب، الذي كان قد جرى تقييد قدميه بسلاسل حديدية مربوطة إلى الجدار. كان ذلك الرجل مسجونا في هذه الزنزانة منذ ثلاثة عشر عاما، لم يكن يستطيع تحمل الضوء، ولم تكن ساقاه الضعيفتان تقويان على حمله. وقد وضع كالباقين السالف ذكرهم في إحدى العربات ...»
كانت مؤسسة بيستر، كما هو متوقع ربما، الأكثر إثارة للخزي والعار. «قرحة مروعة في الجسم السياسي، قرحة كبيرة وعميقة ومتقيحة»، على حد تعبير لويس سباستيان مرسييه. وقد خصص لها ميرابو كتيبا. «لقد واتتنا الشجاعة للذهاب إلى بيستر، أقول الشجاعة [...] كنت أعلم كالجميع أن بيستر مشفى وسجن في الوقت نفسه، ولكنني كنت أجهل أن المشفى بني لتوليد الأمراض والسجن أنشئ لإنتاج الجرائم.» انتهينا من المصابين بالأمراض التناسلية، وها هم المجانين: «هذا بالأحرى معرض للعقول المضطربة وليس مشفى؛ حيث ثمة تفكير حقيقي في شفاء هؤلاء المختلين عقليا [...] القادمون الجدد يطلقون بصورة عشوائية على هذا الحشد الصاخب من الحمقى: ومن وقت لآخر، يجري عرضهم كوحوش مثيرة للغرابة والدهشة على أول فظ مستعد لأن يدفع ستة قروش لرؤيتهم. إزاء معاملة مماثلة، أيتعين أن نندهش إذا تدهورت نوبات الاستلاب العقلي الطفيفة وتحولت إلى نوبات من الغضب الشديد بحيث تصل إلى ذروة الهياج؟ أيتعين أن نندهش إذا انتابنا سخط حيال المجنون؟ أن يتم السماح بمثل هذه التسلية المؤلمة في بلد متحضر، لهو أمر يصعب تصديقه، ولكن أن يجري التغاضي عنها في أمة مقتنعة تماما بإنسانيتها وفخورة للغاية بها، كالأمة الفرنسية، فهو ما لا يمكن تصوره أبدا.»
2
التعليمات المتعلقة بطرق التحكم بالمختلين عقليا ...
أصبح وجود عدد متزايد من المختلين عقليا داخل المشافي العامة ودور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول يطرح مشكلة، ليس على الصعيد الأيديولوجي، وإنما على الصعيد العملي المتعلق بوجودهم الجماعي وبالحاجة الملحة إلى قانون خاص ينظم عملية احتجازهم. إذا سلمنا بأن المختل عقليا مريض، فلم يوضع في أماكن تأديبية؟
أكب جيه إف دوفور - طبيب ذاع صيته عام 1770 حين نشر بحثا بعنوان «دراسة حول عمليات الإدراك البشري والأمراض التي تصيبها بالخلل» - على تقصي مسألة محددة؛ ألا وهي احتجاز «ضحايا الأهواء البشرية أو الحظ العاثر »،
3
وذلك بتفكيره في حلول جديدة إثر حريق المشفى الرئيس بباريس. نادى دوفور بإنشاء مشفى خاص، يحوي غرفا واسعة، وأراضي مسيجة حيث يمكنهم التنزه، وأماكن جيدة التهوية لاستنشاق الهواء النقي، وسريرا لكل مريض مع ضرورة فصل مرضى طور النقاهة عن المرضى الذين ما زالوا يتلقون العلاج. وقد وافقته الرأي لجنة التحقيق حول المشافي، التي أنشئت بقيادة رئيس أساقفة تولوز لوميني دي بريان: «بعض هؤلاء المعاقين تقتضي المصلحة العامة احتجازهم، مثل المجانين والمختلين عقليا، بل ومرضى الصرع في بعض الأحيان. فينبغي أن يتم إيداعهم في المشافي أو في الدور المخصصة لهذا الغرض.»
تأسست في عام 1781 هيئة للتفتيش العام والدائم على المشافي المدنية ودور الاحتجاز الجبري. وعهد بها إلى الدكتور كولومبييه، وعين له مساعدان هما الطبيبان دوبليه وتوريه. وسرعان ما بادر كولومبييه إلى القيام بجولة حقيقية لتفقد الأوضاع في المشافي العامة ومستودعات التسول في أرجاء فرنسا. رأى كل شيء، واطلع على الرسوم التخطيطية، وندد بلا هوادة بالوضع المؤسف للمنشآت، ناظرا بعين الرعاية إلى المختلين عقليا على وجه الخصوص. بدأ في كل مكان يوصي بإنشاء أبنية جديدة، وتحسين الظروف الصحية والمعيشية. ولكن، أين هي الإعانات المالية اللازمة للقيام بذلك؟ لا أحد، بدءا بالدولة، يملك المال. كان مديرو المشفى العام بكليرمون فيران، في مذكرة أرسلوها إلى المراقب العام في يونيو 1786، هم أول من أقروا أن «الحجرات الحالية تكشف عن منظر منفر لمكان مخصص لحيوانات قذرة.» وبينما لم يكن المكان يسع إلا عشرة من المختلين عقليا، ازدحم بالكثير من المختلين القادمين من مختلف الأقاليم و«لم يعد المشفى قادرا على تقديم المساعدة لهؤلاء البؤساء وسط هذا الوضع المزري.» واختتم المديرون مذكرتهم بطلب إعانات مالية، حتى ولو كانت متواضعة، من أجل تشييد مبنى جديد، وأرفقوا طي خطابهم المخطط الهندسي لهذا المبنى الذي سيشمل «22 حجرة جديدة، وأفنية واسعة، وملاعب، وحمامات». في مستودع التسول بروان، لم يكلف أحد نفسه حتى عناء الرد على كولومبييه الذي تمت مقارنته «بمشروعاته الهائلة، بالذبابة». كان المفتش أحيانا يجد المؤسسة مدارة بصورة جيدة. كما هي حال المشفى العام بشارتر، «ولكن مبانيه كانت على وشك الانهيار».
كان احتجاز المختلين عقليا دائما ما يطرح مشكلة اتخذت قالبا رسميا بصدور «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم» في عام 1785 بناء على أمر من الحكومة. تم نشر هذا المنشور المكون من 44 صفحة، «على نطاق واسع» في الإدارات العامة (بالنسبة إلى تلك الحقبة)، وهو يعد شهادة ميلاد تكفل السلطات العامة بالجنون على نحو خاص. نقرأ في المقدمة بعض الكلمات المتعلقة بحب الخير ومساعدة الغير على النحو التالي: «يلتزم المجتمع بتوفير الحماية الكاملة وخدمات الرعاية للأفراد الأكثر ضعفا والأشد بؤسا.» وهم - بالإضافة إلى الأطفال - المختلون عقليا. «إذا كانوا يثيرون الشفقة، إلا أننا - إذا جاز التعبير - نميل إلى الابتعاد عنهم لتجنب المنظر المؤلم للعلامات البشعة الموسومة على وجوههم وأجسادهم في غيبة عقلهم.» تضاعفت المصحات في فرنسا، ولكنها «لم تخفف إلا من الذعر العام، ولم تستطع إرضاء الإحساس بالشفقة [...] إذ جرى حبس الآلاف من المختلين عقليا في دور الاحتجاز الجبري دون أن يفكر أحد أدنى تفكير في علاجهم. وكان يخلط بين نصف المجنون والمجنون الكامل، الفاقد تماما لرشده، وكذلك بين الغضوب الهائج والمجنون الهادئ [...] وما لم تتدخل الطبيعة لنجدتهم بإبرائهم، فإن آلامهم ستنتهي بانتهاء حياتهم.»
الجزء الأول، «المتعلق بكيفية إيواء المختلين عقليا ورعايتهم وتوجيههم»، يرجع الفضل فيه إلى كولومبييه. (أما الجزء الثاني، الذي حرره دوبليه وتم تخصيصه للحديث عن المعالجة، فهو أقل ابتكارا؛ إذ اكتفى فقط بتلخيص نظريات ذلك العصر التي سنتوقف عندها بالتأكيد لاحقا.) إن الغني، الذي يتلقى العلاج في المنزل، قد يشفى. فلم لا يشفى الفقير؟ «من الضروري وجود أماكن لائقة مخصصة لاستقبال هؤلاء الأشقياء، بحيث تنقسم هذه الأماكن إلى نوعين؛ أحدهما: مخصص للعلاج، والآخر: مخصص لاحتواء أولئك الذين لا يمتثلون للأوامر.» وفيما يتعلق بهؤلاء، تظل هناك دائما إمكانية لحدوث الشفاء «الطبيعي» وليس لأحد أن يعوق ذلك. بإيجاز، لا بد من توفير مساحات كافية، وهواء، وماء، ومبان نظيفة وصحية ، وأماكن للتنزه، مع مراعاة وضع نظام غذائي مناسب (أي لا يحتوي على كثير من اللحوم)، واتباع جدول مواعيد منظم بدقة، والسماح بالزيارات اليومية لمفتشي الصحة ... وليتم تقسيم القطاع الخاص بالمختلين عقليا إلى عدة أقسام فرعية في الطابق الواحد، بحيث يكون كل قسم محاطا بفناء ورواق للتنزه تابع له على هيئة مربع. وفي الزوايا تكون الغرف والمهاجع ، وعلى الجانبين الغرف الشاسعة التي تبلغ مساحتها «ثمانية أقدام مربعة» (وهي أكبر بقليل من المساحة المعتادة). كما يتم إنشاء مراحيض في كل زنزانة، وتوفير حمامات مياه ساخنة وباردة. وأخيرا، وهنا تكمن الفكرة الأكثر ابتكارا، يتم وضع المختلين عقليا في مناطق بحسب التصنيف على النحو التالي: «لا يمكننا إغفال تخصيص قاعات للأنماط المختلفة من المجانين [...] قسم للبله، وآخر لذوي السلوك العنيف من المجانين، وثالث للمجانين ممن يتسمون بالهدوء، ورابع لأولئك الذين يتمتعون بفترات صحو تدوم لبعض الوقت ويسيرون في طريقهم نحو الشفاء.»
كانت مهمة الحكام تنفيذ «التعليمات» الصادرة في عام 1785، بيد أن ردود الفعل كانت مغرقة في التشاؤم. كتب حاكم بريتاني شخصيا: «يجب ألا نأمل أن تنفذ هذه التعليمات في مشافي بريتاني، ليس لأننا لا نستقبل بها تقريبا أي مجانين فحسب؛ ولكن لأن هذه المؤسسات الاستشفائية جميعها غير قادرة على دفع المصاريف اللازمة لإيواء المختلين عقليا ورعايتهم.» وقال رؤساء مشفى لا ترينيتيه بإكس آن بروفانس الكلام نفسه، ولكن بأسلوب أكثر دبلوماسية: «نحن ملتزمون ببذل قصارى جهدنا والعمل بحماس ومثابرة؛ من أجل المساهمة في تحقيق المساعي الخيرية لجلالته في حدود ما يسمح به الوضع الحالي للمشفى، آملين في مستقبل أكثر إشراقا كي يصبح في متناولنا تطبيق القواعد المقررة حرفيا وبمنتهى الدقة.»
4
فنحن نأمل في الحصول على معونات لإنشاء حجرات جديدة (لم يكن يوجد إلا 117 حجرة بينما بلغ عدد المختلين عقليا 160) وصيدلية، و«قاعة للحمامات؛ إذ ثبت أن الحمام هو العلاج الأكثر فعالية ضد الجنون». في شيربور، ثمة من اعترض لأن التصنيف المنصوص عليه في التعليمات يستلزم وجود مؤسسات كبرى، على الأقل واحدة في كل منطقة إدارية . في سان لو، لوحظ أن الرواتب «متدنية للغاية لإلزام الطبيب بالتفرغ حصريا لعلاج المرضى المحبوسين في الدار». يأسف لذلك الوكيل الموفد الذي كتب هذه السطور: «فتور عام عند جميع الأطباء المتقدمين في العمر قليلا وتراخ عن التعلم وتجربة علاجات مختلفة. لا بد لهم من مرضى جديرين بالاحترام لكي يتحفز هؤلاء الأطباء للاعتناء بهم على أكمل وجه وينحون جانبا العلاج الروتيني الذي عاينوا بأنفسهم مئات المرات عدم فعاليته.» كانت هذه الفترة مختلفة بالتأكيد عن تلك الحقبة التي كان يختتم فيها أحد «كبار موظفي» الإدارة الملكية تقريرا من تلك التقارير المخيبة للآمال؛ إذ يكتب السطور التالية: «سوف تظل الموارد المقدمة من الحكومة بلا أي تأثير على الإطلاق، هكذا كان وهكذا سيكون مصير غالبية الاكتشافات التي توصلت إليها الإنسانية وفلسفة القرن المستنيرة.»
مقابل خيبة الأمل هذه، أظهر رؤساء مشفى سان لازار بمارسيليا حماسا غير اعتيادي: «معربين عن رغبتهم في الانخراط قدر الإمكان في خطط الحكومة»، وعينوا لمدة عام طبيبا في خدمة الدار براتب 300 جنيه. «وكانت الحمامات والعلاجات الأخرى توصف بشكل أكثر تكرارا.» أخيرا، أسفرت هذه الجهود عن انخفاض عدد وفيات المختلين عقليا في عام 1787 بمقدار اثنتي عشرة حالة عما كان عليه في عام 1786؛ مما يعد من وجهة نظر رؤساء المشافي إنجازا عظيما. ففي السابق، مقابل كل حالتي خروج من المشفى، كانت هناك حالة وفاة.
السيطرة على دور الاحتجاز الجبري وفرض الرقابة عليها
على الرغم من عدم استمرار وظيفة حكام الأقاليم، خلال تلك السنوات التي شهدت أزمة مالية حادة، ظل الفكر السائد متجها نحو الإصلاح. حتى الإدارة الملكية سعت إلى تنظيم أكثر ما كان يعد مستهدفا في حملات الرأي العام: وهو الخطاب المختوم. في الواقع، تضاعفت الأوامر الملكية بشكل عجيب خلال القرن الثامن عشر، ولم يكن يهم النقاد كثيرا كونها صادرة بشكل أساسي بناء على طلب العائلات. كتب لنجيه - أحد سجناء الباستيل السابقين - في عام 1783 قائلا: «غريب أمر هذا الخطاب المختوم، إنه آفة هذه المملكة، تماما كالطاعون في مصر.»
بغية معالجة هذه المسألة التي أصبحت بالفعل بمنزلة ساحة حرب حقيقية بين المفكرين والبرلمانيين، والسيطرة على ظاهرة الحبس الخاص؛ أرسل بارون بروتوي - وزير الديوان الملكي - في مارس 1784، إلى كل من حاكم المملكة والقائد العام للشرطة، «منشورا بشأن المسجونين بموجب أوامر ملكية.» وفي الوقت نفسه، برزت من جديد مسألة المختلين عقليا. راجع الوزير قضايا الأشخاص الذين سجنوا بناء على أمر ملكي. «سترون أن بعض هذه الاعتقالات تعود إلى فترة بعيدة للغاية. ليس لدي أي شك في أنه قد حان الوقت لإطلاق سراح الكثيرين.» اقترح الوزير وضع بعض الضوابط، والتمييز بين ثلاثة أنواع من المحبوسين: «النوع الأول يضم المساجين المختلين عقليا، أولئك الذين حرمهم خللهم العقلي من ممارسة حياة طبيعية، أو أولئك الذين يشكل سخطهم وهياجهم خطرا على غيرهم. فينبغي التأكد من أن حالتهم هي ذاتها لم تتغير، وللأسف، في هذه الحالة سيستمر حبسهم طالما أن حريتهم قد تسبب أضرارا للمجتمع، أو قد تعد إحسانا لا فائدة منه بالنسبة إليهم.» يأتي بعد ذلك الجانحون، الذين ينقسمون بدورهم إلى فئتين وفقا لما صدر من أحكام قضائية ضدهم. ومن الجديد الملاحظ أن المختلين عقليا ذكروا في البداية؛ مما يعد دليلا على الأهمية التي بدءوا يحظون بها من قبل السلطات العامة. بالإضافة إلى ذلك، ألزم هذا المنشور الحكام والقائد العام للشرطة بتفتيش دور الاحتجاز الجبري المختلفة شخصيا. وأصبح لزاما من الآن فصاعدا تحديد مدة حبس الجانحين. «بالنسبة إلى الأشخاص المرشحين للحجر بسبب الاستلاب الذهني، يقتضي القانون والحذر ألا يؤخذ بالأوامر (أوامر الملك) إلا إذا كان هناك حكم قضائي بالحجر، إلا إذا كانت العائلات عاجزة تماما عن دفع مصاريف الإجراءات التي تسبق الحجر. ولكن في هذه الحالة يجب أن يكون الجنون معروفا ومثبتا بالدلائل التي تؤكد ذلك.»
تعد هذه الخطوة على قدر كبير من الأهمية، حتى وإن لم تؤد إلا إلى تعزيز إجراءات تتسم بالفعل بدرجة عالية من الحذر. يوطد الحكم بالحجر الوضع القانوني للجنون ويمنحه تعريفا باعتباره «حالة شخص ضعيف العقل لدرجة تمنعه من التمييز بين الخطأ والصواب في أفعاله ».
5
بيد أن فقه القانون يفرق بين درجات الجنون؛ فهناك «الجنون العابر، والجنون الذي يأتي على فترات، والجنون المطلق». إن الحجر الذي يقر بثبوت حالة الجنون قانونيا لا يمكن أن يتم الحكم به بلا ترو أو إقامة دعواه باندفاع. «ينبغي أن نتعامل بمنتهى التحفظ والحيطة حيال إقامة هذه الدعوى؛ نظرا لأن الأمر يتعلق بإعادة إنسان ناضج إلى مرحلة الطفولة وما يستتبعها من ضوابط.»
6
بالإضافة إلى أن دعوى الجنون «تعني ضعفا في العقل يطلق عليه بله يجعل الشخص عاجزا عن التمييز بين الخير والشر».
7
أما فيما يتعلق بالمجانين الذين يصيبهم الجنون على فترات، فيجب ألا يحجر عليهم خلال فترات الصحو. يبقى أن نتساءل: كيف سيتم تفعيل هذه الإجراءات الشاقة (ليس على الصعيد الإداري فحسب بل والمالي أيضا) على أرض الواقع؟ في الحقيقة، سوف تظل دعاوى الحجر أمرا نادرا يكشف عن العديد من مواطن الضعف، أبرزها أن القاضي وليس الطبيب هو الذي يقوم بإقرار الجنون. وكان القضاة هم أول من اعترفوا بأن استجواباتهم للمدعى عليهم غير مجدية في حالة ما إذا كانوا كتومين أو «مجانين مجادلين» أو مصابين ب «الهوس البارد».
أما فيما يتعلق بالشهادات الطبية، فقد نزعت إلى التضاعف خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولكنها لم تكن إجبارية، حتى ولو بدأت ترفق بشكل متزايد أكثر فأكثر بالعرائض التي تطالب بالاحتجاز أو بالنقل. ولقد كانت هذه الشهادات، من وجهة النظر الطبية، شديدة الإيجاز بالقياس إلى الإنجازات النظرية التي تم التوصل إليها في هذا العصر. «نشهد بأن المدعو برتراند بدا لنا في حالة من السوداوية جسدية أكثر منها معنوية، وقد كانت إجاباته عن أسئلتنا صحيحة إلى حد كبير، ولكنها ممزوجة بدهشة وحرج وارتباك مما ينم عن حالة من البله» (1786). «نقر بأن المدعوة رينيه رينيل - البالغة من العمر حوالي 20 عاما - مصابة بثورة دموية سببت لها الكثير من الأذى لشخصها لدرجة أثرت على أذهان الحيوانات» (1786). وهكذا نجد أن الشهادة الطبية غالبا ما تكون إثباتا لحالة سلوكية مصحوبا بعبارات على غرار «مصاب بالهوس» أو «مختل العقل تماما».
أراد منشور بروتوي وضع الأمر الملكي فوق الشبهات (ولكن دون جدوى في ظل المناخ السياسي الذي كان سائدا في ثمانينيات القرن الثامن عشر.) بيد أن عمليات التفتيش سلطت بالأحرى الضوء على العدد الكبير للمختلين عقليا (والجانحين) المحبوسين في دور الاحتجاز الجبري من دون أمر ملكي أو قرار قضائي، لدرجة أن قصر فرساي أصدر في عام 1786 أوامر إلى الحكام «بالتحقق في الدور الدينية المختلفة والمشافي ودور الاحتجاز الجبري من حالات الأشخاص المحتجزين من دون أمر ملكي أو قرار قضائي.» بالطبع، كان على الحكام القلق بالفعل حيال حالات الاحتجاز التي تتم بناء على اتفاقات بين العائلات ودور الاحتجاز الجبري، ولكن ها هم وقد وجدوا أنفسهم مكلفين «من قبل الملك». خلال زيارات التفتيش الحقيقية، اكتشف الحكام ونوابهم (الأكثر صرامة وتشددا أيضا) الوجه الخفي لدور الاحتجاز الجبري. مما لا شك فيه أنه كان هناك فراغ قانوني فيما يتعلق بالجانحين الذين كان ينظر إليهم في دور الاحتجاز الدينية باعتبارهم «متطوعين»، ولم يكن أصحاب الشأن (نساء إجمالا) يقولون شيئا مختلفا حين يستجوبهم الوكيل الموفد عن الحاكم. «لقد أتت طواعية إلى هذه الدار لتقويم بعض السلوكيات الخاطئة وللتكفير عن الآثام التي ارتكبتها في العالم.» كثيرات دخلن تلك الدور طاعة للوالد أو الأخ، ولكنهن يتقن الآن إلى استعادة حريتهن. ليس جميعهن بالطبع. نحن هنا إزاء وضع أشبه بوضع الجانح المحتجز في إصلاحية. ومع ذلك، فإن شرط «الطواعية»، الذي كان يعد بالفعل موضع شك في نظر الإدارة الملكية، لم يكن يتم التطرق إليه عندما يتعلق الأمر بالمختلين عقليا، وهم كثر في حقيقة الأمر.
اكتشف الوكيل الموفد لبلدية أفرانش خلال زيارته التفتيشية للجمعية الخيرية ببونتورسون في عام 1768 (قبل صدور منشور بروتوي) ثمانية من المختلين محتجزين بالدار وقد أودعوا مباشرة بناء على طلب العائلات. وقد بعث الوكيل الموفد إلى الحاكم بمذكرة على النحو التالي: «على سيادتكم والوزير تقرير ما إذا كان يمكنهم البقاء في دار الاحتجاز الجبري دون أمر ملكي.» بحلول تاريخ صدور المنشور، لم يكن الوضع أفضل حالا في منطقة كاين الإدارية. لقد سبق أن رأينا كيف احتدم الخلاف بين الحاكم ورئيسة دار بون سوفور بكاين. في عام 1785، من بين إجمالي النزلاء البالغ عددهم 24 شخصا، بلغ عدد أولئك الذين جرى احتجازهم من دون أمر ملكي ولا حكم قضائي 12 نزيلة، جميعهن مختلات عقليا. وعندما تيقن الحاكم بنفسه من أن هؤلاء المخبولات مجنونات بالفعل (ثلاث منهن كن محتجزات منذ خمسة عشر عاما)، سأل الرئيسة لماذا لا يوجد أي أمر ملكي بخصوص هؤلاء. وأجابت رئيسة الدار، بأسلوب لا يخلو من الوقاحة، قائلة: «ليس من المعتاد تلقي أوامر من أي جهة غير العائلات فيما يتعلق بهذه النوعية من الأشخاص.»
في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر 1784، في تمام الساعة الثامنة صباحا، حضر نائب حاكم جرانفيل بشكل مفاجئ إلى دير مينيل جارنييه. وطلب من الأب رئيس الدير أن يحضر إليه السجلات. كان هناك 14 نزيلا، من ضمنهم 12 مختلا: ثمانية كان قد تم إيداعهم في الدير بموجب أوامر ملكية، أما الستة الآخرون - جميعهم من المختلين عقليا - فقد وضعوا هنا «باتفاق العائلة وترتيبها». أراد الوكيل الموفد الالتقاء بهم جميعا. طلب أن يتم إرشاده إلى غرفتهم واستجوبهم واحدا واحدا. تبين أن المجانين مجانين بالفعل؛ فهذا تعذبه الأرواح في الليل، وذاك يتحدث إلى الملائكة، وثالث «عاري الجذع، يمشي على يديه ورجليه كالحيوانات ولا يتحلى بذرة عقل واحدة». استمرت الزيارة على هذا النحو من يقظة الضمير والأمانة والدقة، وسعى الوكيل الموفد جاهدا للكشف عن بصيص من المنطق قد يكون مدعاة للتشكيك في جدوى عملية الاحتجاز، كما هي الحال أحيانا في بعض الأماكن الأخرى.
أما فيما يتعلق بمنطقة كاين الإدارية، فقد أرسل الوكيل الموفد بسان لو إلى الحاكم، في عام 1786، محضر «فحص الجنون أو العته لدى الأشخاص المحتجزين في دار بون سوفور [وهو منزل مختلف عن مثيله في كاين] وفي المشفى الرئيس بالمدينة.» من بين المختلات الأربع المحتجزات بالمشفى، أشار الوكيل الموفد إلى الآنسة دي مونترابو. بادئ ذي بدء، لم يكن هناك خطاب مختوم يحمل أمرا ملكيا ولا حكما قضائيا بشأنها . ثم إنها أجابت بعقلانية شديدة على الأسئلة التي وجهها إليها الوكيل الموفد. وأخيرا تبين أن الاختلال العقلي الذي أدى إلى إيداعها دار الاحتجاز «ليس شديدا بما فيه الكفاية لحرمان هذه الفتاة الشابة من حريتها». وكان لا بد من أن يتقدم شقيقها، الذي وضعها هناك، لاستعادتها أو أن يتم إيداعها في نزل حر. في المقابل، أشاد الوكيل الموفد بدار سان لو وأعجب بها إعجابا شديدا. «لقد انبهرت بالطريقة التي ترعى بها راهبات بون سوفور الفتيات الست المجنونات اللواتي عهد بهن إليهن وكيف تقمن بالاعتناء بهن ومعالجتهن. تشكل الدور المماثلة موردا ثريا في الإقليم. ويجب أن تعمل الإدارة على تشجيع هذه النوعية من دور الاحتجاز، وتوفير كافة الإمكانات اللازمة لزيادة مواردها حتى يتسنى لها قبول أبناء العائلات المحترمة الذين يعانون من أمراض مشابهة. أظن أن هؤلاء الراهبات لا يرغبن في استقبال المزيد من المرضى؛ نظرا لأنه ليس لديهن ما يكفي من المساكن لإيواء المزيد، ولأن رعاية أولئك المرضى تكلف أكثر من رعاية الأشخاص الأصحاء.» وفي 21 ديسمبر 1785، كتب الوكيل الموفد بشيربور تقريرا إلى الحاكم بشأن الوجود غير القانوني لاثنتين من المخبولات في المستشفى العام الذي «استقبل هاتين المرأتين إرضاء لعائلتيهما اللتين لم تكونا تدريان، وما زالتا لا تدريان، أين يجب وضعهما.» وأحال الحاكم التقرير إلى قصر فرساي الذي أعرب عن قلقه وأبدى اهتماما وأرسل يطلب مزيدا من التوضيح. في ذلك العصر، كانت الإدارة ترد على المراسلات بسرعة، على الرغم من أننا كنا في زمن الكتابة بالريشة وامتطاء الخيل كوسيلة ركوب، بدليل أننا لم نكن إلا في اليوم الثاني من شهر يناير. منذ متى وهاتان المرأتان هناك؟ «أوليس من الممكن توقع نتائج جيدة من اتباع إحدى الطرق العلاجية التي ربما لم تستخدم بعد؟» فسواء أكان مقررا إطالة فترة العلاج أم لم يكن هناك أمل في الشفاء، فلا بد من تقنين وضع المريض داخل المشفى أو الدار.
ينطبق الأمر عينه على جميع المناطق الإدارية الأخرى. «المريض يجب ألا يخضع لأي عقوبة»، كما يقول أحد حكام الأقاليم. وحين يكون الجنون مشكوكا فيه، على الرغم من تأكيدات الرهبان، يطالب الحكام والوكلاء الموفدون بعقد لقاءات فردية مع النزلاء في غير وجودهم. وفيما يتعلق بالراهبات اللواتي كن يقمن بالخدمة في الدور الصغيرة، كان المحافظ قد بدأ يفقد صبره إزاء «استحالة كشف هالة الغموض التي أحاطت بها الراهبات تفاصيل إدارتهن». فها هي الأخت بروبيون متهمة بإساءة معاملة المختلين عقليا «بلا داع»، وكذلك الأخت أنياس التي ضربت إحدى المخبولات بعصا المكنسة.
وكان يسمح بخروج المرضى فور «تحسن حالتهم العقلية». كانت الآنسة دو لافريير - 24 عاما - محتجزة لإصابتها بضعف ذهني، ولكن «هل عقلها ضعيف لدرجة تمنعها من إدراك وضعها البائس؟» أما عن طلبات الاعتقال الجديدة، فقد بدأ يتم التصريح بها مع توخي مزيد من الحذر عن ذي قبل (حتى ولو بدا أن الحكم بالحجر كان يظل غالبا حبرا على ورق). في بعض الأحيان - وهذا أمر مستحدث كليا - كان يمنح الخطاب المختوم الذي يحمل أمرا ملكيا لمدة عام واحد فقط، وهو الوقت الكافي للتأكد من استمرارية الجنون. وفي كل مكان، أصبح لزاما توفير «إمكانية التتبع». فأصبح توثيق حالة المريض، في السجلات والكشوف السنوية المطبوعة التي تحدد بدقة تاريخ صدور الأوامر الملكية وأسماء الوزراء الذين وقعوا الأوامر المذكورة، أمرا إلزاميا أكثر من أي وقت مضى. وأصبح يتعين، من الآن فصاعدا، تحديد الدافع وراء صدور الأمر الملكي. في نهاية عهد النظام القديم (ولكن أحدا لم يكن يعلم أنها النهاية)، صار الأمر الملكي، بعكس الأسطورة السوداء التي ارتبطت به، أكثر من أي وقت مضى هو أفضل ضمانة للحماية من الاعتقالات التعسفية. «مشاف تقوم بذاتها بوظيفة العلاج»
في أواخر عهد النظام القديم في فرنسا، كان المختلون عقليا محتجزين تقريبا في كل مكان، في انتظار تقنين وضعهم وتحديد مكان احتجاز خاص بهم (وفقا لما ورد في منشور «التعليمات» الصادر في عام 1785). بدأت مظاهر الإصلاح تلوح في الأفق وكان شبح الإفلاس الذي يهدد المملكة هو الذي يحول دون تفعيلها.
برزت على الساحة بعض دور الاحتجاز الجبري «المتخصصة» بالفعل كمنازل مرشحة للتحول إلى «دار للمجانين». كما هي حال بلدية سان ميان، التي أعدت في عام 1786 «مشروعا لإنشاء دار للمجانين في مقاطعة بريتاني»؛ بحيث تكون هذه الدار بمنزلة مأوى علماني مخصص لاحتجاز المختلين عقليا، سواء الفقراء أو أبناء العائلات القادرة على دفع نفقة إقامة، والتي كانت تدفع بالفعل تكاليف إقامة ذويها في الدور الخاصة الكائنة خارج المقاطعة؛ «حيث كان هؤلاء يعانون غالبا؛ لأنه لم يكن يتم قبولهم في تلك الدور الخاصة إلا بإغراء دفع النفقة المرتفعة». نشير في هذا الصدد أيضا إلى مستودع التسول الكائن في ليون، والذي كان يطلق عليه اسم معبر؛ وهو «لاكارنتين» (الحجر الصحي)، أو اسم تقليدي بالأكثر؛ وهو «بيستر». في اللائحة التأسيسية لعام 1783، كرست المنشأة فصلا كاملا للعاجزين والمختلين عقليا. وجرى التأكيد على الاتجاه العلاجي للمؤسسة (إذا كان المرض في مراحله الأولى)، وهو ما انتقده المشفى الرئيس بالمدينة الذي أراد أن يجعل من هذه المؤسسة مجرد ملجأ للمرضى الميئوس من شفائهم بالإضافة إلى دار احتجاز جبري للهائجين في الوقت نفسه. بعيدا عن هذه الصراعات الإدارية، فإن مشروع إنشاء ملجأ مخصص حصريا للمختلين عقليا رأى النور في عام 1787.
8
في عام 1785، طلب الملك إلى أكاديمية العلوم إبداء رأيها فيما يتعلق بإصلاح المشافي. وكان جاك رينيه تونون (1724-1816) أحد أعضاء اللجنة. كلف تونون - الجراح الأول في سالبيتريير، وعضو بأكاديمية الطب ثم بأكاديمية العلوم، الذي كان يناضل من أجل التلقيح ضد الجدري - من قبل الملك بالذهاب لزيارة مشافي إنجلترا التي كان ينظر إليها في جميع أرجاء أوروبا على أنها نموذج يحتذى به. في عام 1788، تمت طباعة «خمسة أبحاث حول مشافي باريس» تحوي الملاحظات التي سجلها تونون، بأمر من الملك. أحصى تونون، استنادا إلى المعلومات المحددة التي نقلها إليه القائد العام للشرطة، وجود 1331 مختلا عقليا محتجزا في باريس (من بين إجمالي نزلاء المشافي البالغ عددهم 28799 شخصا) في نهاية شهر يناير 1787. بيد أن تونون لم يقم للأسف بحساب إجمالي العدد في المملكة بأكملها؛ مما شكل بالتأكيد تحديا بالنسبة إلينا، ولكننا نقبل بخوضه، مع توخي الحذر والحيطة إلى أقصى درجة. ربما كان عدد المختلين عقليا يبلغ 1500 شخص في مستودعات التسول، وربما 2500 في دور الاحتجاز الجبري في الأقاليم، وفقا لتقدير أكثر عشوائية إذا ما نظرنا إلى المختلين عقليا - وهم في نهاية المطاف كثر - الذين اكتشفت الإدارة الملكية مؤخرا عدم وجود محل ثابت مخصص لهم. بل لعله من الأصعب أيضا إحصاؤهم في المشافي العامة ، باستثناء بيستر وسالبيتريير. وبالطبع، كان عدد المختلين عقليا داخل هاتين المؤسستين قليلا، على الأرجح أقل من 500 شخص؛ نظرا لأن المختلين المعوزين التحقوا بمستودعات التسول الكائنة في الأقاليم التابعين لها. تشير هذه الإحصاءات، إضافة إلى التعداد الذي قام به تونون بالنسبة إلى باريس، إلى ترجيح فرضية تقول بأن: العدد الإجمالي للمختلين عقليا المحتجزين في فرنسا في عام 1789 كان يبلغ 5800 شخص (أو 5000 شخص على أقل تقدير). وهذا هو ما أدى إلى «الاحتجاز الكبير» للمختلين عقليا من وسط إجمالي 26 مليون فرنسي في ذلك الوقت؛ أي إن نسبة المختلين عقليا كانت تبلغ 1 إلى 4500، بل 4700، وكان ذلك في أواخر القرن الثامن عشر. في أواخر القرن السابع عشر، بلغ إجمالي عدد السكان 20 مليون فرنسي، ولم تكن نسبة المختلين عقليا تتجاوز بالطبع 1 إلى 25000. ينبغي أن نذكر مباشرة، على سبيل المقارنة، أن هذه النسبة، التي يجري حسابها دائما بالقياس إلى عدد السكان، سوف تبلغ 1 إلى 1000 في نهاية الإمبراطورية الفرنسية الثانية و1 إلى 500 في نهاية الجمهورية الثالثة.
يستأنف تونون، في سياق «تعليمات» 1785، خطابه الإنساني حول الجنون: «إن الوضع المحزن للمجانين المصابين بالهياج وجه أنظار الحكومة إلى حالتهم التي يرثى لها وجعلها تنظر إليهم بعين الرعاية. فقد كانت هناك مخاوف من أن يسيء هؤلاء المجانين، في ظل حرمانهم من عقلهم وتمتعهم في بعض الأوقات بقوة خارقة، استغلال قدرتهم وقوتهم؛ ولذا كان ينبغي الحرص على ألا يؤذوا أنفسهم بأي شكل من الأشكال، ومن ثم لم يكن هناك مفر من احتجازهم، ولقد أخذنا على عاتقنا أداء هذا الواجب الاجتماعي. ولكن قبل أن نقتطع المجانين من المجتمع، كان لزاما على هذا الأخير التأكد مما إذا كان مرضهم قابلا للشفاء أم لا. وبعد أن استنفدنا كل الوسائل الممكنة، اضطررنا إلى السماح بالموافقة على الحل المؤسف الذي يقتضي حرمان أحد المواطنين من حريته.» هذا الخطاب الذي تلا صدور «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم»، لا يمكن اعتباره جديدا إذا لم يكن تونون قد أضاف إليه رؤية جوهرية وعميقة للمستقبل القريب. كتب قائلا: خلافا لمباني المشافي التي لا تمثل بالنسبة إلى المرضى الآخرين إلا «وسائل مساعدة»، فإن المشافي بالنسبة إلى المجانين «تمثل هي نفسها وسيلة للعلاج [...] إذ يجب ألا تتم مضايقة المجنون خلال فترة العلاج، وينبغي أن يكون بإمكانه، في الأوقات التي يكون فيها خاضعا للمراقبة والإشراف، الخروج من حجرته والتجول في الرواق، والذهاب إلى المتنزه، والتريض وممارسة التمارين التي تسري عنه والمناسبة له تبعا لحالته.»
مشاف تقوم بذاتها بوظيفة العلاج ... سنرى كيف سينقل إسكيرول كل كلمة من هذا الاقتراح وينسبها إلى نفسه، ولكن دون إشارة إلى أي مرجع سابق. خلال السنوات الأخيرة من عهد النظام القديم، كان الطب النفسي المؤسسي بالفعل في طور النشأة.
الجزء الرابع
اختراع الطب النفسي
الفصل الأول
إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر
اشتهرت الثورة الفرنسية - التي اندلعت في الخامس من مايو 1789 - على غرار جميع الثورات الأخرى، بأنها «طوت صفحة الماضي». فإذا حاولنا البحث في تأريخ مرحلة اليعاقبة وما بعد اليعاقبة - وحتى عصرنا الحالي - عن الإنجازات الإيجابية للنظام القديم، فلن نجد شيئا. بل إن مصطلح «النظام القديم» نفسه، الذي عممه ميرابو في عام 1790، يعد تعبيرا تحقيريا؛ إذ يشير إلى مجتمع ظلامي ورجعي كان ينظر إليه على أنه مرتع للتعسف والمظالم. وحتى لا نحيد عن موضوعنا الرئيس، فقد سطعت شمس 1789، بعد ليل اجتماعي وطبي طويل، تحمل معها ربما رياح الإصلاحات الإنسانية الواسعة. وهكذا نجد أن الإصلاحات التي بدأت في نهاية عهد لويس السادس عشر، لم يتم إلغاؤها فحسب بفعل الأحداث (بينما كانت بالكاد قد بدأت) بل وحجبت أيضا، وكأنها أسقطت من التاريخ. فالثورة الفرنسية وحدها كان يمكنها إنتاج العمل الخيري الإنساني. وهكذا لم يكن للتاريخ الفرنسي، ذلك التاريخ الحافل بالتقدم والتضامن، أن يبدأ إلا مع بزوغ الثورة الفرنسية وبفضلها.
إلغاء الأوامر الملكية
في دفاتر التظلمات والشكاوى، كما في جلسات الجمعيات الإقليمية التي عقدت فيما بين عامي 1787 و1790، احتلت مسألة المساعدة العامة مكانة كبيرة، وهي المكانة نفسها التي حركت الرأي العام والسلطات منذ عقدين. استنكر الجميع الوضع المزري للمشافي، وكانت هناك مطالب في كل مكان تقريبا لإنشاء مآو للفئات الماثلة بالفعل في جميع مشروعات الإصلاح السابقة: الأيتام، والأطفال المهجورين، والمكفوفين، والصم والبكم، والمختلين عقليا ... طالبت بعض التظلمات بتخصيص مآو منفصلة لهذه الفئة الأخيرة: «فلتنشأ في كل محافظة دار يجرى فيها استقبال ومعالجة المختلين عقليا الذين يشكل وجودهم خطرا على المجتمع» (الدفتر الخاص بالطبقة الثالثة (أي العوام) في إقطاعية تروا). وركزت بعض الدفاتر القليلة بشكل أكثر تفصيلا على مسألة المختلين عقليا دون غيرها. فعلى سبيل المثال، نجد الدفتر الخاص بالإكليروس التابع لقهرمانية كليرمون، في أوفيرني، يطالب بإنشاء مؤسسة للمصابين بالهياج العقلي وأخرى للمصابين بالصرع، «يحصل فيه المرضى، مع العلاج اللازم، على متطلبات الإعاشة تبعا لحالتهم المؤثرة». كما كانت هناك مطالبات بأن تكون هذه المؤسسات «مزودة بالأطباء والجراحين المتعلمين». اهتمت بعض الدفاتر الأخرى بهذه القضية نفسها ونقلت - دون الإشارة إلى المرجع الأصلي - ما ورد في «تعليمات» 1785، أو استلهمت من هذا المنشور مباشرة بعض المبادئ والآراء على النحو التالي: «سنهتم في المشافي بصورة أكثر جدية من ذي قبل بفن شفاء المهووسين. فنحن نظن أننا فعلنا كل ما ينبغي القيام به، حين نضيق الخناق عليهم ونحتجزهم في أركان مظلمة قادرة على إفساد عقل الإنسان الأكثر اتزانا، ظانين أننا بهذا الشكل نكون حميناهم من إلحاق الضرر بأقرانهم» (الدفتر الخاص بالعوام التابع لدائرة جماعة الإكليروس المكرسين النظاميين التي أسسها القديس جايتان دي تيين [باريس]).
تجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى إجماع جميع دفاتر التظلمات والشكاوى على المطالبة بإلغاء الأوامر الملكية التي كانت تعد رمزا لتعسف السلطة الملكية، حتى ولو كانت بعضها تأمل في إمكانية إجراء بعض الترتيبات على النحو التالي: «فليسمح للعائلات، بالنسبة إلى حالات الجنون أو العته أو غير ذلك من الاضطرابات التي تستدعي تأديبا وإصلاحا وليس عقابا، بتقديم عريضة إلى مقر محكمة المشرفين الملكيين المختصة، والتي قد تأمر، بعد إجراء تحقيق غير قضائي، بأن يجري حبس المتهم لفترة طويلة نوعا ما في إحدى الإصلاحيات» (دفتر الإكليروس التابع لإقطاعية رانس).
لقد ورد مبدأ إلغاء الأوامر الملكية في إعلان النوايا الذي أصدره الملك، وعرض على مجلس النواب في الثالث والعشرين من يونيو 1789: «يدعو جلالة الملك [...] الجمعية الوطنية بفئاتها الثلاث - رجال الدين والنبلاء والعوام - إلى البحث واقتراح الوسائل الأكثر ملاءمة للتوفيق بين إلغاء الأوامر الملكية المعروفة باسم الخطابات المختومة، والحفاظ في الوقت نفسه على السلامة العامة والأمن، مع اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة، سواء للحفاظ على شرف العائلة في بعض الحالات، أو للإسراع في قمع بدايات التمرد والعصيان، أو لحماية الدولة من آثار وجود عقل إجرامي مدبر لدى القوى الأجنبية.» ظن هذا الملك (الذي أصبح مجردا من ألقاب التفخيم) أنه لا يزال سيد الموقف، ولكن هيهات، فما حدث بالتحديد هو أنه بعد انتهاء هذه الجلسة مباشرة انقلب كل شيء رأسا على عقب؛ إذ لم يعد أسلوب الترويع والترهيب يجدي نفعا مع طبقة العوام.
نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي تم التصويت عليه في السادس والعشرين من أغسطس 1789، في مادته السابعة على ما يلي: «لا يجوز اتهام أي إنسان ولا القبض عليه ولا سجنه إلا في الحالات التي يحددها القانون ووفقا للأشكال التي ينص عليها. ويجب أن يعاقب كل من يلتمس إصدار أوامر تعسفية أو يرسلها أو ينفذها أو يأمر بتنفيذها.» أما عن الإلغاء الملموس للأوامر الملكية، فكان لا بد من انتظار عريضة مستقلة، في نوفمبر 1789، لكي تقرر الجمعية التأسيسية إنشاء لجنة للخطابات المختومة، وهي تلك اللجنة التي كان ميرابو أحد أعضائها. بعد نقاشات مطولة هيمن عليها القلق والانشغال ليس بوضع المختلين عقليا، وإنما بمصير الجانحين (إن أحدا - بدءا بميرابو الذي احتجز فيما مضى في فنسين بموجب أمر ملكي بناء على طلب والده - لم يتحدث عن كونهم ضحايا أبرياء)، صوتت الجمعية التأسيسية على قرارات إلغاء الأوامر الملكية في جلستيها اللتين عقدتا يومي 16 و26 مارس 1790، «لقد وصلت الجمعية الوطنية أخيرا إلى اللحظة السارة للقضاء على الأوامر التعسفية، وتدمير السجون الغير القانونية، وتعيين أجل محدد لإطلاق سراح السجناء المحبوسين فيها، لأي سبب كان أو بأي ذريعة.» ومع ذلك، ارتأت الجمعية المذكورة «أنه من الضروري تمديد فترة حبس أولئك الذين احتجزوا بسبب الجنون، لفترة طويلة بما يكفي لمعرفة ما إذا كان يجب إطلاق سراحهم بموجب حكم نهائي، أم معالجتهم والاعتناء بهم في المشافي القائمة بحيث يجري تفتيشها وإدارتها بمنتهى اليقظة والحكمة والإنسانية تبعا لما تقتضيه حالتهم.» وصدر قرار يقضي بإطلاق سراح جميع الأشخاص المسجونين في منازل الاحتجاز الجبري في غضون ستة أسابيع، ما لم يكن قد صدر حكم بإدانتهم أو بالقبض عليهم واقتيادهم إلى السجن، أو «ما لم يكن قد تم اعتقالهم بسبب الجنون». ونصت المادة التاسعة على أن «الأشخاص الذين اعتقلوا بسبب الجنون سيستجوبون، لمدة ثلاثة أشهر، اعتبارا من تاريخ نشر هذا القرار، وبناء على طلب النائب العام، من طرف القضاة وفق ما هو معمول به، وبأمر من هؤلاء القضاة سيزورهم الأطباء الذين سيقدمون، تحت إشراف مديري الدوائر، تقريرا حول حالة المرضى الحقيقية حتى يتسنى - تبعا للحكم الذي سيصدر بناء على وضعيتهم - الإفراج عنهم أو معالجتهم في المشافي التي ستخصص لهذا الغرض.»
وقد نفذت بالفعل عمليات التفتيش ولكن بأعداد قليلة نسبيا؛ نظرا لتزايد الاضطرابات السياسية. وكانت تجرى على طريقة سؤال وجواب (أو بالأحرى غياب الجواب). وكتب الضباط المحليون بكاين في الثاني والعشرين من يونيو 1791 بشأن طلب اعتقال: «ينبغي لنا الامتثال [للقرارات الجديدة] وعدم إحياء النظام القديم الذي كان يعتدي على حرية الأفراد.» في الواقع، اعتمدت لجنة الخطابات المختومة في المقام الأول على ما وردها من وثائق وتقارير مكتوبة في إطار التحقيق الموسع الذي أطلقته في جميع المشافي العامة، ودور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول المنتشرة في أرجاء المملكة. وسرعان ما تدفقت تقارير وافية للغاية؛ لأنه لا أحد من مديري المؤسسات أراد أن يبدو بصمته متواطئا في جريمة «الأوامر التعسفية» (وهو ما يفسر بالتأكيد، دون مزاح، قيام رئيس دير الرهبان الفرنسيسكان في دونجون أون بوربونيه بالرد سريعا «للوفاء بقرارات سادتنا أعضاء الجمعية الوطنية»). ذكر بالطبع في تلك التقارير المجانين المسجلون بالفعل في القوائم التي سبق إعدادها من قبل الإدارة الملكية، في بعض الأحيان منذ ما يقل عن عام مضى. فنجد محافظ قصر سومور يعرب عن استيائه قائلا: «لقد أرسلت بالفعل مرتين بيانا بحالة ثلاثة سجناء مجانين ما زالوا محبوسين لدي.» وهكذا ظهر المختلون عقليا على الساحة، ولا سيما أن العديد من دور الاحتجاز الجبري، التي امتثلت على الفور لقرارات الجمعية الوطنية، تخلصت من عبء الجانحين المحبوسين لديها. على سبيل المثال، أطلقت دار ماريفيل سراح 34 جانحا خلال صيف 1790، وهكذا تبقى من بين الخمسة والأربعين نزيلا المحتجزين بالقوة في الدار ثمانية وثلاثون مجنونا. في بعض المؤسسات، كما في جمعية سينليس الخيرية، لم يتبق في دار الاحتجاز الجبري إلا المجانين.
أصرت جميع المؤسسات على أن المجانين المحتجزين لديها مختلون عقليا بالفعل ووصفت جنون كل واحد منهم؛ فهذا يأكل فضلاته، وتلك «تبحث عن وسيلة للانتحار، وفيما عدا ذلك فهي في غاية الوداعة والاستقامة»، وذاك «يشكل مصدر رعب للدار؛ حيث يجري احتجازه منذ عام 1773 على أثر قتله لشقيقه.» في الواقع، العديد من هؤلاء المختلين عقليا كانوا محتجزين منذ فترة طويلة لدرجة أنهم أصبحوا «عاجزين عن العودة إلى المجتمع، حتى ولو كان ذلك لسلامتهم الخاصة». «فلا يمكن للمرء أن يستعيد حريته بعد أن حرم منها طيلة 22 عاما دون أن يصاب بصدمة قوية يعجز دماغ ضعيف وغير متزن كدماغه عن احتمالها ومقاومتها؛ الأمر الذي قد يفضي إلى حالة من الهيجان والعنف مما قد يستدعي في نهاية المطاف حبسه من جديد.»
وقد رفضت بعض المؤسسات، مع تقديمها للإحصاءات المطلوبة، أن يتم اعتبارها كدور احتجاز جبري. كما هي حال «المشفى العام للمختلين عقليا في مدينة إكس آن بروفانس»: «هذا المشفى ليس بتاتا دارا للاحتجاز الجبري، ولكنه مؤسسة خيرية يديرها مواطنون؛ مأوى مخصص لبؤساء المدينة والإقليم الذين يعانون من شقاء فقدان العقل.»
ومرة أخرى، يبدو أن الاعتقالات التي تمت بموجب أمر ملكي بعيدة عن أن تشكل أغلبية، وهكذا تأكد من جديد بما لا يدع مجالا للشك أن الإيداعات المباشرة من قبل العائلات والمجتمعات المحلية هي السبب الرئيس وراء أغلبية حالات الاحتجاز، حتى حينما يتعلق الأمر «بعريضة موقعة من عدد كبير من المواطنين». بل إنه في العديد من المؤسسات الصغرى، كانت الأوامر الملكية تشكل استثناء.
لجنة التسول
بالتزامن مع إلغاء الأوامر الملكية، وضعت أملاك الإكليروس تحت تصرف الأمة (نوفمبر 1789)، وفي المقابل تولت هذه الأخيرة، ضمن أمور أخرى، مسألة المساعدة العامة وتكفلت بها. يأتي هذا الإجراء أيضا كنتاج للحركة الخيرية الإنسانية التي انطلقت منذ عشرين عاما، والمرتبطة بالفكرة المتكررة التي تقول بأن المساعدة، باعتبارها ليست إحسانا وإنما واجب، تقع على عاتق الدولة. ومن ثم، فإن فكرة تقديم مساعدة عامة ذات صبغة علمانية تغذيها الضريبة وليس الصدقة - مع العلم بأنها ليست بالفكرة الثورية (بمعنى أنها لم تخرج من رحم الثورة) - فرضت نفسها بقوة. وهو الغرض الذي من أجله تأسست لجنة التسول في مطلع عام 1790. كان أعضاء هذه اللجنة جميعهم - والبالغ عددهم 19 عضوا - بدءا برئيسها لاروشفوكو ليانكور؛ أنصارا لتيار العمل الخيري ومساعدة الغير، وكانوا يناضلون لمكافحة البؤس. وقد كان أحد هؤلاء الأعضاء، وهو الأب دو كولمييه - نائب طبقة الإكليروس في باريس - مديرا لدار شارنتون.
تخطى اختصاص اللجنة - على الرغم من اسمها - مسألة التسول التي كانت تعد دوما مشكلة مؤرقة، ليشمل أمورا أخرى؛ إذ كلفت الجمعية الوطنية أعضاء هذه اللجنة «بأن يقدموا إليها مقترحات بشأن قوانين لتطوير المشافي، ودور الاحتجاز الجبري والسجون.» وقد عقدت سبعون جلسة حتى انتهاء عمل الجمعية التأسيسية في الثلاثين من سبتمبر 1791. كان من الضروري أولا تحديد فئات المعوزين المستحقين للعون وتقييم الوضع في المنشآت، بدءا بالمؤسسات الاستشفائية في العاصمة. وقد كانت هناك حوالي عشر مؤسسات تابعة للمشفى العام وحده. فقد كان بمنزلة «آلة ضخمة» تعمل على إغاثة ما يقرب من 12 ألف شخص. وقد احتلت العديد من الفئات الأولوية على الجنون، وأتى على رأس القائمة الأطفال اللقطاء أو المهجورون. فقد كان مشفى باريس العام يستقبل سنويا ما بين 5 آلاف و6 آلاف طفل لقيط، وكان ثلثاهم يموتون خلال الشهر الأول.
ذهبت اللجنة في زيارتها الأولى إلى بيستر. وسلط الضوء من جديد على أوجه القصور - التي أدينت منذ ما قبل الثورة - مع التركيز على البطالة العامة. وقد كونت اللجنة انطباعا طيبا فيما يتعلق بالمجانين (الذين تفاوتت الأسماء التي أطلقت عليهم، ما بين «مختلين عقليا» وفقا للتعبير الذي كان سائدا في عهد النظام القديم، ومصطلح «المرضى عقليا» الذي لم يكن قد فرض نفسه بعد ولكنه أصبح أكثر تداولا) البالغ عددهم 219 شخصا، بالإضافة إلى 89 أبله، جميعهم كان «ينظر إليهم على أنهم غير قابلين للشفاء منذ وصولهم إلى الدار». وتبين وجود حالات شفاء (بلغت نسبتها حوالي الخمس) من بين أولئك الذين تم إرسالهم للعلاج في المشفى الرئيس بالمدينة، وأيضا أولئك الذين، في ظل غياب أي طرق علاجية أو أدوية، «منت عليهم الطبيعة بنعمتها». لقد بدأ مجانين بيستر «يستعيدون الهدوء والوداعة في سلوكهم»، أما أولئك الذين لم يكونوا مصابين بالهياج، فقد كانوا يمنحون حرية التنزه في الأفنية الجيدة التهوية. «عشرة فقط كانوا مقيدين بالسلاسل يوم زيارتنا». أما عن الحجرات، «فهي ليست بالسيئة بالنسبة إلى رجل واحد» (بيد أن الحجرة الواحدة يتشاركها اثنان). الأمر الوحيد الذي جرى استنكاره وشجبه بشدة هو تلك الممارسة التي كانت سائدة هناك، والمتمثلة في وضع بعض الجانحين أو مرضى الصرع على سبيل العقاب في عنابر المجانين (ما لا يقل عن 50 شخصا كانوا على هذه الحال في يوم التفتيش).
أما بخصوص زيارة سالبيتريير - تلك المؤسسة التي بدا بشكل عام عدم السيطرة عليها نظرا لاتساع المكان - فمن الواضح أنها تركت انطباعا سلبيا ولم ينل هذا المشفى استحسان اللجنة فيما يتعلق بالمجنونات البالغ عددهن آنذاك 550 مختلة عقليا. «حال المجنونات هنا (أي في سالبيتريير) أسوأ بكثير من حال المجانين في بيستر؛ فالهواء داخل الحجرات القديمة ملوث ونتن الرائحة، والحجرات صغيرة، والأفنية ضيقة. كل شيء في حالة محزنة من الإهمال لدرجة تفوق حد التصور ... كل أنواع الجنون بأشكاله المختلفة مختلطة بعضها ببعض: فالمجنونات المقيدات بالجنازير (وهن كثيرات) مجتمعات في مكان واحد مع المجنونات الهادئات المسالمات، وأولئك اللواتي تنتابهن نوبات غضب عارم وهياج شديد كن تحت أعين أولئك اللواتي يتحلين بالهدوء. منظر التلوي، والهياج، والغضب، والصرخات، والصياح المتواصل، كل ذلك يحرم تماما من الراحة جميع أولئك اللاتي هن في أمس الحاجة إليها، ويجعل النوبات المرافقة لهذا المرض الرهيب أكثر تكرارا، وأشد عنفا، وأشد قسوة وأكثر استعصاء. في تلك الدار، لا يوجد في النهاية أي نوع من أنواع الرفق، أو التعزية، أو العلاج. تم بناء حجرات جديدة أكبر قليلا وأفضل من حيث التهوية، وأقل عرضة للتلوث، ولكنها كانت لا تزال خاضعة للنظام نفسه السائد، وبالتالي لم تحل المشكلة من جذورها وبقيت المساوئ وأوجه القصور الجوهرية على ما هي عليه. وجدنا 22 من المجنونات، الهادئات إلى حد ما، ينمن في أحد عشر سريرا، بالإضافة إلى 44 من البله كن ينمن أيضا مثنى. وقد كانت القاعات غير نظيفة وخالية من الهواء النقي المتجدد.»
فيما بين عامي 1786 و1789، قام شارل فرانسوا فييل - المهندس المعماري للمشفى العام ثم لبيوت الإيواء في باريس - ببناء حجرات جديدة في مؤسسة سالبيتريير الاستشفائية. وكان يتعين للمرة الأولى إيواء ألف مريضة عقليا وفقا للمتطلبات الصحية الجديدة التي كان ينبغي مراعاتها: أنشئت 257 حجرة و6 مهاجع مقسمة على أجنحة متباعدة بشكل كاف بعضها عن بعض، في سياق تنظيمي متماثل، وتم الشروع في تصنيف المرضى إلى أربعة قطاعات (مختلات عقليا في مرحلة المعالجة، «مجنونات مصابات بالهياج، ومختلات عقليا لا أمل في شفائهن»، مجنونات مصابات بالجرب وبالصرع، مريضات ميئوس من شفائهن وبلهاوات). إزاء النقد اللاذع الذي وجهته لجنة التسول لمؤسسة سالبيتريير، ولا سيما بسبب اكتظاظ الحجرات، وأيضا بسبب عدم هدم الحجرات القديمة؛ لم يكن من المستغرب الاحتجاج على الصورة الرومانسية الجميلة وشبه المثالية التي قام برسمها فيليب بينيل، بعد عشر سنوات، لمستشفى سالبيتريير. فها هو يتحدث عن الفناء الذي يحوي فسقية وصفين من أشجار الزيزفون، والمختلات عقليا «اللائي تنعم كل واحدة منهن بالمكوث في غرفة منفصلة»، والمريضات عقليا المسالمات اللواتي يتنزهن بحرية، والمصابات بالخرف الشيخوخي اللائي يجري الاعتناء بهن ورعايتهن بواسطة «فتاة مسئولة عن الخدمة تحرص على تلبية احتياجاتهن وتهتم بنظافتهن»، والمهاجع الرحبة بما يكفي لتهيئة مساحات متباعدة بين الأسرة «التي تشع نظافة ...»
طالبت لجنة التسول في تعليقاتها الختامية أن يراعى في المؤسسات الخيرية التي سيتم إنشاؤها، «الاهتمام بشكل أكثر رفقا وحنوا، على وجه الخصوص، بمصير هؤلاء التعساء الذين يعانون - إذ تدهورت حالتهم حتى انتهت بالعودة بهم إلى أنبل وأطهر جزء فيهم، وإذ أصبحوا لعبة تحركها مخيلة مريضة - أبشع أنواع الشقاء الإنساني وأشدها ترويعا.» طالما وضعنا السلامة العامة - تستطرد اللجنة - في مقدمة أولوياتنا. لم يبذل أي جهد في هذا البلد من أجل شفاء المجانين، خلافا لإنجلترا، وإيطاليا وإسبانيا. إحياء للرؤية المثالية حسب تصور النظام القديم، أوصي في المقام الأول بتقديم المساعدات المنزلية، ولكن هذه المرة في إطار التقسيم الجديد إلى مقاطعات بالنسبة إلى الريف وإلى «أحياء» (الحي يعادل دائرتين إداريتين) بالنسبة إلى المدن، مع ضرورة تعيين طبيب مختص بمعالجة الفقراء في كل قطاع.
بالإضافة إلى ذلك، تقرر «إنشاء مشفيين لعلاج الجنون» في باريس. وبالمثل، اقترحت اللجنة، أن يتم - في العاصمة أيضا - إنشاء مشفيين للمصابين بالأمراض التناسلية، ودارين للنقاهة، وثلاث دور للمسنين والعجزة، ودار للأطفال اللقطاء، بحيث يكون كل هذا تحت اسم الأمراض الكلاسيكية. علاوة على ذلك، اقترحت اللجنة تخصيص مؤسستين أخريين للمتسولين والمتشردين. بدا أن علاج الجنون في المشفى الرئيس بالمدينة لم يعد ممكنا؛ نظرا للازدحام والخلطة بين المرضى من شتى الأنواع وعدم الاهتمام بالرعاية الفردية. وكان من المقرر أن يتم إنشاء المشفيين المختصين بعلاج الجنون في موقع بعيد عن وسط العاصمة؛ حيث بدا أن «الهدوء والبعد عن أي ضوضاء شرطان أساسيان للشفاء من هذا المرض القاسي.» هذا فضلا عن تخصيص مبان للمرضى القادرين على الدفع. وهكذا فإن هذه المؤسسات «لن تكلف الدولة شيئا»، وفي المقابل تستمر هذه الأخيرة في التكفل بالمرضى المعوزين. وقد كان من المقرر أن يخصص أحد هذين المشفيين للمجانين غير القابلين للشفاء؛ «إذ تتم معاملة المرضى بمنتهى الرقة واللطف، وإذ يخضعون للإشراف الدقيق والمتابعة النشطة على الدوام لكل ما يطرأ على حالتهم من تغيرات، فإن الكثيرين ربما يدينون لتلك الرعاية بالفضل في هذا الأثر المحمود وغير المتوقع لمعالجتهم [بمعنى أسلوب التعامل معهم]. أما بالنسبة إلى أولئك الذين تبقى حالتهم على ما هي عليه دون أدنى أمل في الشفاء - وهم كثر - فسيتمتعون على الأقل بكل تلك التجهيزات، ووسائل الراحة والتعزية المتوافقة مع حالتهم، والتي من شأنها إشعارهم بآدميتهم، وهو ما يعد واجبا على المجتمع الإنساني نحوهم.»
وفيما يتعلق بالمشفى المقرر تخصيصه لمعالجة الجنون، فلم يذكر أي شيء بشأنه. ومع ذلك، بدأ الحديث عن شارنتون. خلصت لجنة التسول إلى أن الرهبان الذين يعتنون بالمجانين في شارنتون «يولونهم أكبر قدر من الرعاية والاهتمام، ويسعون بكل الوسائل إلى جعل بقائهم في الحجز مريحا قدر الإمكان وفق ما تقتضيه وما تسمح به حالتهم»؛ ومن ثم «تستحق هذه المؤسسة كل تقدير وإشادة». في ديسمبر 1790، قام ثلاثة مفوضون من بلدية باريس بجولة تفتيشية لاحقة لتفقد مؤسسة شارنتون، بناء على طلب لجنة الخطابات المختومة التي تلقت شكاوى بخصوص عمليات اعتقال تعسفية أو حجز متعنت، فضلا عن ذلك، «كان ثمة ادعاءات بأن الزنازين غير صحية، وقذرة وبشعة». ولكن التقرير المطول الناتج عن هذه الزيارة لم يكف بدوره عن الإشادة بدار شارنتون والثناء عليها. وقد فندت الاتهامات واحدا واحدا. أولئك «الذين لم يروا عن قرب مآسي إنسانية تأثروا لدرجة جعلتهم يروون أمورا مجافية للحقيقة»؛ «ولذا ليس من المستغرب ظنهم بأن تلك الغرف، ذات القضبان الحديدية والأقفال التي يقيم بها المهووس المحبوس، زنازين غير صحية وشنيعة.» في موضع آخر، أشيد بالنظام الممتاز للدار: موقع جغرافي متميز، طعام ممتاز وصحي ومتنوع، نزه، عدد كبير من الموظفين، ناهيك عن «الرهبان المستنيرين والمؤهلين منذ فترة طويلة لتقديم خدمات الرعاية والقيام بالواجبات الشاقة.» باختصار، «لماذا لا تشيد الأمة مؤسسة جديرة بعظمتها ولا سيما بإنسانيتها؟»
ما زلنا في عام 1790، ولم يكن أحد يتخيل أن البنية التحتية الدينية قد تختفي في يوم من الأيام. بالطبع كانت النذور الرهبانية محظورة (فبراير)، ولكن استثنيت من ذلك الراهبات اللواتي كن يخدمن في دور التعليم العام والمؤسسات الخيرية. ومع ذلك، كانت لجنة التسول يساورها القلق حيال ما ستصدره الجمعية الوطنية من «قرارات تمس مصير الأخوات اللائي كرسن حياتهن لخدمة المرضى».
فراغ قانوني
السؤال الذي طرحته لجنة التسول بقلق بالغ، تلقت عنه إجابة في الثامن عشر من أبريل 1792 مع صدور قرار بإلغاء الجماعات الدينية؛ تمهيدا لتنفيذ عمليات إقصاء وطرد في الأعوام التالية. بعد إبطال الأوامر الملكية، أدى إلغاء دور الاحتجاز الجبري بحكم الواقع (كلها تقريبا) إلى تدمير نظام احتجاز المختلين عقليا المعقد وغير المرضي الذي كان سائدا في ظل النظام القديم. بيد أن الجنون استمر. اختفى الجانحون كسرب من الطيور، بينما بقي المجانين. أما فيما يتعلق بطلبات الاحتجاز الجديدة، فإنها لم تتوقف بسبب الثورة. ما هي إذن الأحكام القانونية الجديدة التي ظهرت بعد طي صفحة الماضي الموصوم؟ في الحقيقة، لم تكن هناك أي نصوص قانونية جديدة في هذا الصدد، أو لنقل: إنها لم تتخذ شكلا محددا ومعرفا في إطار قانون كبير، على الرغم من أنه كان أمرا منتظرا في أعقاب أعمال لجنة التسول. القوانين الوحيدة التي صدرت في سياق الجمعية التأسيسية والمجلس التشريعي والمتعلقة بشكل غير مباشر بالمرضى عقليا تتمثل في حكمين قانونيين مختصين بالشرطة - أحدهما في الفترة من 16 إلى 24 أغسطس والآخر من 19 إلى 22 يوليو 1791 - ينصان على معاقبة أولئك الذين يتركون المختلين عقليا مشردين هائمين على وجوههم. ولكن أيعني هذا أن المختلين عقليا عادوا من جديد يجوبون الشوارع بلا مأوى ولا هدف؟
كان الفراغ القانوني، الذي لم تستطع الثورة ولا الإمبراطورية ملأه، جليا. فإذا كان المرسوم الصادر في أغسطس 1790 يشير إلى إجراءات إدارية للحبس وفقا للشرطة العامة، يجدر القول إن هذه الإجراءات كانت مشددة بصورة استثنائية، بحجة «أننا ينبغي ألا نعيد إحياء النظام القديم الذي كان يعتدي على حرية الأفراد». على سبيل المثال، في مكان ما في فرنسا، في تسعينيات القرن الثامن عشر، أبلغ عن مجنون يتجول في الطرقات وأصبح يمثل «آفة المقاطعة». فكيف يمكن احتجازه؟ لكي يتم ذلك، كان لا بد من أن يحصل النائب العام المسئول عن البلدية على قرار رسمي من مجلس البلدية، ومحضر تحقيق لإثبات حالة الجنون موقع من قبل اثنين من مفتشي الصحة. ومن ثم يمكن للنائب العام المسئول عن هذا القسم الإداري أن يطلب من مجلس المديرين التابع لهذه الدائرة أو المقاطعة إصدار أمر بالحبس في «أحد مستودعات الأمن».
لم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، ولكن بداية، ما المقصود بمستودع الأمن؟ لقد شكل موضوعا بارزا في التشريع الثوري، ولا سيما فيما يتعلق بالمجالين الجنائي والقضائي؛ فقد صنفت المؤسسات العقابية المدنية إلى ثلاث فئات: السجن التابع لمحكمة الجنح، ومستودع الأمن الخاص بالدائرة والتابع لمحكمة الشرطة (المختصة بالجرائم البسيطة)، و«دار الاحتجاز الجبري والحبس»، الذي تأسس بموجب التشريع الصادر في الخامس والعشرين من سبتمبر 1791 من قانون العقوبات، في كل مقاطعة. في الواقع، بسبب نقص الأماكن والموارد، لم يكن هناك مفر من الالتجاء معظم الوقت إلى مستودعات التسول القديمة. فإذا كانت الجمعية التأسيسية قد ألغت التسول رسميا، فإن المستودعات لم تغلق أبوابها. في الرابع والعشرين من شهر فنديميير من العام الثاني للتقويم الجمهوري الفرنسي (الموافق 15 أكتوبر 1793 في التقويم الميلادي)، أنشأ المؤتمر الوطني - متبنيا هذه المرة مشروع مرسوم صادر عن لجنة التسول بشأن قمع التسول - «دارا للقمع» في المقر المركزي الإداري الخاص بكل مقاطعة. جل ما حدث هو أن مستودعات التسول غيرت اسمها، ولفترة وجيزة فحسب؛ نظرا لأنه سيعاد استغلالها فيما بعد إبان عهدي حكم المديرين والإمبراطورية. كان المتسولون هم المعنيين وحدهم بهذا المرسوم، عدا أن المادة السابعة من الباب الثالث ذكرت «أولئك [أي المتسولين] المحتجزين في الوقت الحالي بسبب الجنون، وحددت أن الآباء سيكون لهم مطلق الحرية في المطالبة باستعادة ذويهم الذين يقيمون في هذه الدور على نفقتهم الخاصة أو بتركهم في بيوت القمع.» بينما أمرت المادة التالية بإرسال المصابين بالأمراض التناسلية، الذين ما زالوا في المستودعات، إلى المستشفيات. وهكذا بدا أن الوضع الطبي للمجانين الذي طالبت به بإلحاح لجنة التسول قد طواه النسيان تماما.
لنعد إلى «آفة المقاطعة» التي ذكرناها سلفا. فقد تم حبس هذا المجنون في المستودع الأقرب ولكن الثورة لم تستطع - ليس أكثر من النظام القديم - اعتبار ذلك المجنون «كواحد من السجناء» (تلك هي الكلمة الرسمية) المحبوسين هناك بسبب التسول؛ ولذا، لم يكن هذا الحبس إلا مؤقتا، في انتظار قيام المحكمة بإصدار حكم بشأن جنونه ومن ثم توجيهه إلى أحد الملاجئ أو المشافي، أما مسألة تقرير أيهما، فتلك مشكلة أخرى ... ولكن كثرة التدابير الاحترازية تضر بمبدأ الحيطة، فقد انتهى المآل بتلك الإجراءات الإدارية المشددة إلى التوقف في منتصف الطريق، ولم يتبق إلا القرار الإداري. وهكذا كان أمام «آفتنا» كل الفرص، إذا جاز التعبير، ليرى وضعه المؤقت يتحول ليصبح نهائيا. في اليوم الموافق 15 ثيرميدور من العام التاسع بحسب التقويم الثوري الفرنسي، كتب وزير العدل رسالة إلى وزير الداخلية ليذكره بأن إيداع المختل في أحد مستودعات الأمن هو «تدبير مؤقت أساسا ولا يمكن أن يغني أبدا عن قيام المحاكم بإصدار حكم نهائي بشأن حالته. وللمحاكم فقط الحق في إصدار حكم لإعلان حالة الجنون لدى الأفراد الذين أبلغ عن إصابتهم به، وذلك بعد استجوابهم وسماع الشهود ومضاهاة حالاتهم بما ورد في تقارير مفتشي الصحة.» كما أن السلطة القضائية، وليست التنفيذية، هي من تمتلك وحدها صلاحية السماح بالإيداع المباشر داخل إحدى المصحات، إذا كان الأمن العام لا يستلزم الحبس التمهيدي، أو الأمر بإخلاء السبيل، «إذا كان الشخص الذي أقرت حالة الجنون لديه بموجب الحكم الصادر قد استعاد عقله».
ولكن، مرة أخرى، يطرح السؤال نفسه، عن أي مصحات بالضبط يتحدثون؟ في الثالث والعشرين من نوفمبر 1792، انكب المؤتمر الوطني لفترة على دراسة هذه المسألة، وانتهى بالرجوع إلى نقطة الصفر. وقد كلف المؤتمر الوطني وزير العدل بتخليص الدولة من دور الاحتجاز كافة، «أيا كانت»، حيث يوجد أشخاص مسجونون بسبب «الجنون، أو السخط والهياج أو لأي سبب آخر». يعد هذا اعترافا مسبقا بأن هذه الدار كانت متعددة الأنواع. وكنا نعثر على مختلين عقليا حتى في السجون، التي ظلوا بها غالبا لمدة طويلة؛ لأنه بمجرد دخولهم هناك، يصبح من العسير للغاية إيجاد مأوى لإيداعهم فيه بشكل دائم. هكذا في مقاطعة نييفر، في العام السادس، لم ندر أين نضع ذلك الشاب المختل الفقير البالغ من العمر تسعة عشر عاما، إن لم يكن في باريس. لم يعر وزير الداخلية الأمر اهتماما وأرسل مفوضين للتأكد من أنه لا يوجد مآو قائمة في تلك المنطقة. وكان هذا هو الوضع بالفعل. لم توافق الوزارة إلا بشكل جزئي. وكان المقرر ألا تتكفل بنفقات السفر، ولا سيما أنه ينبغي التحقق أولا من أن الجنون قابل للشفاء، وإلا فلن يرسل هذا الأحمق إلى باريس، وإنما إلى دار القمع الأقرب؛ «حيث كانت هذه المؤسسات معدة، في حالة الافتقار إلى مآو، بحيث تكون بمنزلة ملاجئ لجميع أولئك الذين لا يستطيعون العيش داخل المجتمع بسبب عاهاتهم أو إعاقاتهم.»
لم يمر هذا الحدث باعتباره حدثا معزولا، بل إنه كشف عن مفارقة تتجلى في أن هذه الأماكن «الجديدة» المعدة للحفاظ على السلامة أصبحت مخصصة لاحتجاز المجانين بصفة مؤقتة، وبعضها بصفة دائمة، وهو ما يثبت سيادة حالة من عدم الاتساق والتضارب بين المؤسسات آنذاك. ظل المجانين متفرقين هنا وهناك ومنتشرين في كل مكان تقريبا، كما في أسوأ أيام النظام القديم. ها نحن نجدهم في المشافي، وقد أصبحوا منسيين أكثر من أي وقت مضى، و«مهملين ومعزولين في الحجرات الأكثر قذارة والأبعد عن الخدمة ومتروكين لمواجهة مصيرهم البشع» (تقرير دوبليه عن منطقة الألزاس في نهاية عام 1789). وكنا نجد بالفعل بعض المجانين منبوذين ومطروحين في مخازن الغلال أو إسطبلات المستشفيات، «لعدم وجود مكان أفضل».
وفيما يتعلق بدور الاحتجاز الجبري الدينية، التي ألغيت مبدئيا، فقد استمر الكثير منها في العمل بشكل غير رسمي. فلنلق نظرة أخرى على دار بون سوفور بكاين؛ إطلاق سراح النزلاء المحتجزين بالقوة، ثم حظر النذور الرهبانية، وأخيرا إلغاء الجماعات الدينية، كل هذا كان من المفترض أن يمثل نهاية تلك الطائفة. بيد أنها بعد أن طردت من مقراتها في عام 1792، انزوت في العديد من المنازل بضاحية كاين. وقد كان أحد هذه المنازل يؤوي بين جنباته اثنتي عشرة فتاة حمقاء كن باقيات من عهد النظام القديم ولم يكن بالإمكان إطلاق سراحهن. أما السلطات المحلية، إذ كان يساورها القلق حيال التكفل بهؤلاء المختلات؛ ونظرا لأنها كانت في نهاية المطاف معادية للجبليين في العاصمة، فقد أغلقت عيونها عما يحدث. وشهد على ذلك الوضع الراهن التعميم الذي أرسله وزير الداخلية إلى مديري مكتب المشافي المدنية بمقاطعة الكالفادوس، بتاريخ 30 فينتوز (شهر الرياح) من السنة الرابعة، فيما يتعلق بمستودع بوليو (ما زال يطلق عليه «مستودع» لا «دار القمع»). ورد في هذا التعميم بشأن المجانين من الرجال والنساء الموجودين في مستودع بوليو، أنه يجب عدم الإبقاء إلا على الفقراء المعوزين منهم، ولا ينبغي «أن يسمح المستودع لأولئك الذين يعيشون عالة عليه بالبقاء طويلا ما داموا يستطيعون سواء بأنفسهم أو بمساعدة عائلتهم الحصول على المساعدات والمعونات التي يحتاجون إليها من مكان آخر»، ذلك «المكان الآخر» مثير حقا للدهشة؛ لأنه يشير ضمنيا إلى مؤسسات ملغاة (ولا سيما جمعية بونتورسون الخيرية للرجال، ومشفى بون سوفور بكاين وسان لو للنساء). ها نحن نشهد في عام 1805، عقب حيازة المباني القديمة التابعة للجماعة الرهبانية الكبوشية، عملية النقل - الرسمية هذه المرة - للجماعة الرهبانية وللخمس عشرة امرأة المحتجزات «سرا» لديها (ثلاث نزيلات جديدات أتين في تلك الأثناء). وهكذا نجت من الثورة المؤسسة التي مثلت النواة المستقبلية لمشفى بون سوفور الكبير للأمراض العقلية.
انطبق الأمر عينه على دير نوتردام دو لا جارد للرهبان الفرنسيسكان «سابقا»، الكائن في مقاطعة واز. أغلق هذا الدير بصورة رسمية ولكن ظل المختلون عقليا، وأصبح الرئيس الأسبق للدير - الذي تحول بحكم الواقع إلى المواطن تريبو - مديرا ل «دار دو لا جارد». في عام 1799، ترك تريبو منزل دو لا جارد، بعد بيعه بوقت قصير، ليستقر - مع المرضى عقليا الأواخر الذين تبقوا - في كليرمون، في المقر الذي أصبح فيما بعد أكبر مصحة في فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر. بإمكاننا مضاعفة الأمثلة على هذا النحو. أثبتت مؤسسة لا ترينيتيه الاستشفائية بإكس بنجاح «أنها ليست دارا للاحتجاز الجبري وإنما مؤسسة خيرية يديرها مواطنون، بمنزلة مأوى مخصص لبؤساء المدينة والإقليم الذين يعانون من شقاء فقدان العقل.»
1
وهكذا، يظل المأوى الذي كان يضم، في نهاية عام 1790، 165 مختلا عقليا، رجالا ونساء، صامدا ولكنه سيفقد تدريجيا استقلاليته؛ نظرا للصعوبات المالية التي ستواجهه.
في باريس، نالت الدور الخاصة التي تحولت إلى «مشاف» أهمية بالغة بشكل مفاجئ؛ نظرا لأنها استطاعت، لكونها علمانية، أن تظل مفتوحة. نذكر في هذا الصدد على وجه الخصوص دار بيلوم الكائنة في 70 شارع شارون، في ضاحية سان أنطوان. في الأول من مايو 1791، بلغ عدد النزلاء بها 47؛ ما بين مختلين عقليا وعاجزين، رجالا ونساء، أقدمهم موجود في هذه الدار منذ عام 1774. وقد التحق بهذه الدور زهاء عشرين شخصا منذ الثورة. جميعهم كانوا يدفعون نفقة إقامة، وكثيرون لم يمروا على أي محكمة، وبعضهم لم يذكروا في سجلات الدخول إلا بعبارة موجزة: «مجنون، وحر.» نالت دار بيلوم شهرة واسعة لعدة أسباب؛ فقد كان يختبئ بها إبان عهد الإرهاب - مقابل دفع نفقات مالية باهظة - عدد من الرءوس التي حالفها الحظ في الهرب والنجاة بهذه الطريقة من المحكمة الثورية. ازدهرت التجارة بشكل كبير لدرجة أنه أصبح لزاما على المؤسسة أن تتوسع، وانتهى الأمر بإلقاء القبض على جاك بيلوم. ولكنه هرب ونجا من المقصلة وظلت الدار مفتوحة أثناء وجوده في السجن. وحين توفي في عام 1824، خلفه ابنه البكر - الذي كان يعمل طبيبا - مدشنا بذلك العصر الطبي الحقيقي للمشفى. وهناك أيضا، في دار بيلوم، شرع ذاك الطبيب المبتدئ، الذي جاء إلى باريس في عام 1778 ليبدأ مسيرته المهنية، في معالجة مرضاه عقليا الأوائل في عام 1786. إنه الطبيب فيليب بينيل.
وضع حرج
في كل مكان كان الوضع حرجا. في باريس، كانت الدور الخاصة باهظة للغاية وتحولت الدور الصغيرة إلى مآو للأرامل المسنات والعجزة. ومن جديد لم يتبق على الساحة إلا بيستر وسالبيتريير؛ هاتان المؤسستان اللتان أصبحتا أكثر اكتظاظا، وأكثر تخصصا من أي وقت مضى في استقبال الميئوس من شفائهم الذين «أصبحوا لا يستثيرون إلا مشاعر الشفقة والعطف الأكثر عقما والأشد قسوة، وهي مشاعر لا يخفف من حدتها أدنى أمل في الإغاثة.» لم تكف نزيلات سالبيتريير المجنونات عن التزايد، فقد بلغ عددهن 600 في مطلع يناير من العام الحادي عشر (1803)، و794 في عام 1813، و1542 في عام 1821، و1760 في عام 1824، وهي السنة التي توفيت فيها أقدم نزيلة بلا منازع في المشفى، وهي المدعوة ماري لويز بوديه، المريضة بالصرع. كانت هذه النزيلة قد دخلت مؤسسة سالبيتريير في اليوم الموافق 12 ديسمبر 1758، وهكذا قضت هناك 66 عاما.
في الأقاليم، تضاعفت صيحات الإنذار التي أطلقها مديرو المشافي ودور الإيواء لدى وزارة الداخلية. ففي كل مكان، كانت الميزانيات، التي أصبحت منذ ذلك الحين ملقاة على كاهل الدولة، غير كافية. وكانت دور الإيواء في مارسيليا تعاني من المجاعة وتطالب بنقل المأوى الذي يضم المختلين عقليا؛ نظرا لتهالك المباني (العام السادس). أما مأوى شاتو تييري الخيري، فكان يطالب باستمرار بمده على وجه السرعة بخمسمائة قنطار من القمح: «ما مصير هؤلاء المرضى المساكين، وأرباب العائلات البؤساء، وأولئك العاجزين الأشقياء من المختلين عقليا الذين أودعتهم الحكومة هذه الدور؟» (10 مسيدور، العام الرابع). في شاتوبريان، «كان وضع المأوى مزريا لدرجة أنه في غضون أيام قليلة، إن لم يتلق مساعدات، فسيتم إغلاقه» (الأول من فروكتيدور، العام السابع). كان الوضع مماثلا في بلوا، وليل، وكاربنترا؛ حيث بعث المديرون بلا مواربة رسالة إلى الوزير على النحو التالي: «ها نحن بصدد رسم لوحة تعكس لكم الويلات التي نقاسيها منذ فترة طويلة من جراء البؤس الأشد قسوة الذي حاق بنا، ونجرؤ على القول إن صمت الحكومة هو المسئول الوحيد عن هذا الوضع» (4 فينتوز، العام الثامن). «الجوع لا يعرف التأجيل»، بهذه العبارة المقتضبة والمصاغة بأسلوب بليغ لخص بيزو - نائب تارن في مجلس القدماء - الوضع القائم (16 مسيدور، العام السابع). اختتم المسئولون الإداريون في مقاطعة شير خطابهم الذي أرسلوه بتاريخ 28 بريريال من العام السادس إلى «المواطن الوزير» على النحو التالي: «إن دور الإيواء التابعة لهذا المركز الإداري، والتي نكتب إليكم بشأنها ليست هي المؤسسات الوحيدة التي تعاني من الفاقة ونقص الموارد بشكل يدعو للقلق. ففي مستودعات التسول وأيضا في الدور التي تحتجز أولئك المساكين المصابين بالهياج والجنون، والذين يصل المبلغ الإجمالي لنفقتهم الشهرية إلى 2200 فرنك، الخبز على وشك النفاد. ولا يمكن أن تنظر الحكومة بعين التجاهل واللامبالاة إلى تلك الكائنات التي ستشكل خطرا بالغا إذا ما أطلقت في المجتمع، والأمر يتطلب من جانبكم اتخاذ تدابير سريعة للوفاء باحتياجات هؤلاء الأشخاص واتقاء التجاوزات الحتمية والمشاهد المؤلمة التي قد نشهدها من جراء ذلك.» وهكذا، لم يعد بالتأكيد إضفاء الطابع الطبي على الجنون موضع اهتمام وعناية.
كان وضع المختلين عقليا في مستودعات التسول دراميا بالفعل. في بوليو، بلغت نسبة الوفيات بين المختلين عقليا 57٪، مقابل 13٪ بين المسجونين. في أغسطس 1800، كان المستودع يضم 41 مجنونا ومجنونة، من بين إجمالي عدد النزلاء البالغ نحو 350 سجينا. يذكر أن أحد عشر شخصا كانوا موجودين هناك قبل عام 1790. كانت الاعتقالات وعمليات الاحتجاز في هذا المستودع لا تزال إذن مستمرة، مع وجود نسبة 13٪ من المحتجزين قادمة من السجون. وقد جعلت الضائقة المالية الفصل بين المختلين عقليا والفئات الأخرى من السجناء أصعب من أي وقت مضى (بالإضافة إلى أن المختلين عقليا أنفسهم - فيما يعد انحدارا رهيبا بالمقارنة مع النظام القديم - كان ينظر إليهم باعتبارهم سجناء بحكم الأمر الواقع.) لم يكن من المستغرب، في ظل هذه الظروف، أن يصبح الجنون مزمنا، كما هو مبين في الشرح الذي قدمه طبيب بوليو في الثاني عشر من مايو 1793: «لم نر في الحوادث الصادرة عن المواطنة لوتيلييه - المسجونة في بوليو - إلا عاطفة سوداوية بحق، ومخيلة يستحوذ عليها بقوة شيء رئيس، وقد يضعف من حدة هذا الخيال بشكل مفيد مهام التنظيف المنزلية التي تقوم بها للعناية ببيتها، ورفقة زوجها، ومداعبات أطفالها الذين تحبهم، وصورة المجتمع الدائم الحركة والنشاط. أما إذا تركت لحالها بعيدا عن أي مصدر إلهاء، فبإمكاننا على الأقل أن نتوقع عودة هذه المريضة تدريجيا إلى الحالة السيئة التي كانت عليها، وربما يصل الأمر إلى انعدام الأمل في شفائها على الإطلاق.»
الفصل الثاني
مداواة الجنون
ربما يكون وضع المجانين الذين تم احتجازهم في عهد النظام القديم - إذا استثنينا من ذلك الإصلاحات التي أجريت بعد فوات الأوان، إلى جانب ذلك الوضع الذي خلفته الثورة الفرنسية، بمجرد أن توقفت أعمال لجنة التسول - يدفعنا إلى التصور أنه، فيما عدا خدمات الرعاية المبهمة التي كانت تقدم للبعض، لم يكن هناك أي تفكير حقيقي جدير بأن يسمى تفكيرا بشأن الجنون أو معالجته. ولكن هذا ليس صحيحا، وهي ليست بمفارقة بسيطة حين يتكشف أن المجانين والجنون قد سلك كل واحد منهما بطريقة أو بأخرى طريقا منفصلا عن الآخر. لقد كونا - في نهاية الثورة - عالمين استمرا متوازيين. وقد سادت حالة متبادلة من الإنكار والتجاهل بين ردود الفعل الاجتماعية والاستجابات الطبية، والدليل على ذلك قلة حالات الاحتجاز الناتجة عن تشخيص الطبيب. ولكن هذا ليس المقياس الذي يتم على أساسه الحكم على الجنون. وتعبير «الحكم على» مناسب لمقتضى الحال، بما أن القاضي هو الذي يقرر في النهاية من يعد مجنونا، ومن ليس كذلك. أما فيما يتعلق بالرعاية التي كانت تقدم إلى المريض في المشفى الرئيس بباريس وفي المشافي الأخرى بالمدن الكبرى، فقد اقتصرت - مع توافر حسن النوايا - على دستور العقاقير والحمامات اللذين يتم التوصية بهما منذ العصور القديمة. بيد أن البحث (إذا كان لدينا الجرأة على قول ذلك) حول الجنون كان ثريا للغاية وأسهم، أكثر بكثير مما هو شائع، في ميلاد الطب النفسي. ومع ذلك، لم تسفر هذه النظريات في زمانها - لتعددها ولجرأتها في كثير من الأحيان - عن ممارسات تطبيقية. وقد عبرت لجنة التسول عن أسفها الشديد حيال هذا الوضع على النحو التالي: «مما لا شك فيه أنه قد نشر عدد كبير من المؤلفات العلمية الهامة والغنية بالمعلومات حول هذا الموضوع الشائق، ولكن هذه المذاهب لم تحقق أي نفع ولا فائدة لهذه الطبقة البائسة ولم تخفف من آلامها.»
تأملات نظرية
إذا أردنا حقا أن نتحدث عن القرن السابع عشر بوصفه لا يمثل ميلاد تاريخ الجنون، على حد قول فوكو، وإنما إحدى مراحله (متسائلين في الوقت نفسه بصورة أعم عما إذا كان التقسيم التاريخي للجنون يشكل في حد ذاته ضربا من ضروب جنون المؤرخ)؛ فسيتعين تناول هذا الموضوع بالنظر إلى سياق الثورة الفكرية، التي اندلعت شرارتها مع ديكارت. إن عدم التسليم في العلوم إلا بما يتفق مع العقل، يعد المبدأ الذي شكل بصورة صارخة قطيعة مع الفلسفة المدرسية (الإسكولاستية) ... مع ظهور المؤلف الذي نشره ديكارت في عام 1649 بعنوان «انفعالات النفس»، نشأت ثنائية الجواهر (ماهية المادة) والفسيولوجيا العصبية النظرية التي منحت الغدة الصنوبرية [الجسم الصنوبري] دور «الرقيب»: فعن طريق هذه الغدة يتلقى الجسم الأوامر من الروح. يرى ديكارت باعتباره معارضا لفكرة ازدواجية النفس، التي تقول بوجود نفس عاقلة وأخرى حسية، أنه لا يوجد إلا نفس واحدة فقط، وهي النفس المفكرة المتحدة اتحادا وثيقا بالجسد، بحيث ينتج عن اتحادهما في الجوهر كيان ثالث وهو الإنسان المادي الملموس. أما فيما يتعلق بنظرية الأهواء، التي تعد قديمة قدم القدماء أنفسهم، فهي تسمح بالتمهيد لفكرة «حركات النفس» التي تقدم تعريفا، إذا جاز التعبير، للطابع النفس-جسمي للانفعالات.
يدحض سبينوزا (1632-1677) - المؤمن بمذهب الواحدية - الثنائية الديكارتية، والتي شكلت فيما بعد مصدر إلهام لقطاع كبير من الطب النفسي المعاصر. يرى سبينوزا أن التعارض بين النفس والجسد ليس إلا تناقضا بين إدراكين لواقع واحد. ويشير كورو دو لاشامبر (مؤلف كتاب «سمات الأهواء»، 1640) إلى المنفعة الاستراتيجية التي حققها الأطباء والفلاسفة بتفضيلهم للأهواء، لكي يتمكنوا بذلك من الحفاظ على موقفهم كأخلاقيين مع بقائهم في الوقت ذاته في حقل الفلسفة، وكاختصاصيين في علم النفس بتطرقهم إلى الطب.
بخلاف النظامين الطبيين-الفلسفيين اللذين تشاركا التفكير الطبي السائد إبان القرن السابع عشر (العناية الطبية الآلي والعناية الطبية الكيميائي )، واللذين تركا فيما بعد بصمة على الطرق العلاجية، استمر الطب في عدم الفصل بين دراسة أمراض الجسد ودراسة أمراض النفس. فكما تصيب الأمراض الكبرى الأشخاص موفوري الصحة، تبتلى أيضا العقول العظيمة والممتازة بأفظع ضروب الجنون، التي تحدث اضطرابا في القوة الجسدية لدرجة تجعل الإنسان يفعل أشياء غريبة واستثنائية، ومن ثم يتم استدعاؤنا لإبداء رأينا حول هذا الاختلاف، ولمعرفة ما إذا كان مصدر هذه الأفعال خبث المريض أم غلبة المرض. وللحكم بدقة على الحالة وكتابة تقرير أمين عنها، لا بد من تفحص المريض ودراسة جميع عاداته وسلوكياته لمعرفة ما إذا كانت سوداوية أم صفراوية، وسؤاله عن العديد من النقاط، ولكن بأسلوب دقيق ومحدد ينم عن مهارة وذكاء؛ لأنه يجب ألا يتوقف المرء عند الرأي أو الاعتراف الذي يدلي به شخص مصاب بالسوداوية؛ إذ إنه غالبا ما يقول ما لا يعرف، ويظن أنه يرى ما لا يراه فعليا، وحين يتصور أشياء خاطئة، فإنه يتشبث بها بحزم لدرجة قد تجعله يفضل بالأحرى مكابدة الموت على أن يغير موقفه أو يناقض كلامه، وهنا تتجلى قوة حركة مخيلته المختلة
1 (1609).
للبقاء على أعتاب القرن السابع عشر الذي ما زال قريبا من عصر النهضة، لا بد من التوقف برهة عند مؤلف هام وفريد من نوعه، كتبه بيير دو لانكر، أحد قضاة بوردو. ونحن لا نقصد هنا كتابه الشهير المعنون «جدول تقلب الأرواح الشريرة والشياطين» (الذي أبدى فيه تأييده العنيف لمطاردة الساحرات والمشعوذات، ولكن يتعلق الأمر، بالنسبة إليه كما يتعلق بالنسبة إلى العديد من العقول بأي شيء آخر غير الجنون)، وإنما المقصود هو مؤلف آخر أقل شهرة من سابقه، وهو كتاب «جدول تبدل وتقلب الأشياء؛ حيث يتجلى أن الله وحده هو مصدر الثبات الحقيقي الذي يجب أن يهدف الإنسان الحكيم إلى الوصول إليه» (1607). هذا المؤلف الأخلاقي، كما يتضح من عنوانه، يتناول بأسلوب غاية في السلاسة واليسر بعض التأملات والأفكار الطبية الأصيلة، والدليل على ذلك أن المرء يستطيع إذن (ولكن لفترة قصيرة فحسب) أن يكتب بحثا قيما عن الجنون دون أن يكون طبيبا ولا فيلسوفا. الحكمة لا تأتي إلا «بشكل عابر»، بينما «تكمن بذرة الجنون داخل كل واحد منا.» بإيجاز، منذ الجنون الأول والأعظم؛ أي جنون حواء «حين أكلت الثمرة المحرمة»، أصبحنا جميعا «جنسا من المجانين». ولكن هذه الاستعارة سرعان ما دخلت في نطاق المقارنة بالجنون الطبي: «أحد أكبر التهديدات التي اعتاد الله توجيهها إلى البشر الخطأة، وإحدى المصائب العظام التي يبتلى الإنسان بها ، هو الجنون؛ أي تركنا لهلاكنا لنسقط في هوة الخطيئة السحيقة.» يتناول دو لانكر في خطابه الهلاوس (بالتأكيد، من دون استخدام المصطلح نفسه) التي تنتاب المهتاجين الساخطين، ويتحدث أيضا عن المخ باعتباره مقر الجنون ومسكنه. وبدأ يؤسس على استحياء نظاما حقيقيا لتوصيف الأمراض على النحو التالي: «الجنون أشبه بشجرة [...] تتفرع منه أنواع وأشكال متعددة كما تتدلى الأغصان والفروع من الشجرة وترتبط بها. فهناك الحمقى، والمصابون بالهياج والهوس والسعار، والمعاتيه ذوو المزاج المتقلب، وسريعو الانفعال [...] ولا أريد أن أغفل أيضا اليائسين [...] بالإضافة إلى عدد من المصابين بالسوداوية والحالمين.» علاوة على ذلك، يشير دو لانكر أحيانا بشكل صريح إلى الجنون المرضي، الذي يطلق عليه «الجنون الطبيعي»، والذي يصاب به الإنسان بالولادة أو عن طريق المصادفة، وفي هذه الحالة الأخيرة يحدث ذلك بسبب «العواطف المفرطة»، التي تمثل في حد ذاتها أشكالا متنوعة من الجنون؛ كالهوس، والسوداوية، والحب، والغضب، وغيرها من المشاعر. وأخيرا، يتناول دو لانكر بوضوح شديد مسألة تشرد المجانين، معربا عن استيائه بشكل خاص من «ترك المجانين يتجولون بحرية في جميع الأماكن من دون أن يقيدوا بإحكام، حتى ولو كانوا في الكنائس؛ وذلك لأن المجانين، إضافة إلى كونهم دوما خطرين، يخشى أن يأتوا بأي فعل مذموم ينم عن وقاحة، ولا سيما في حق القربان المقدس.»
لم يكن روبرت بيرتون طبيبا ولكنه كان عالما لاهوتيا وعميدا لكلية أوكسفورد. وقد حقق كتابه «تشريح السوداوية»، الذي نشر في عام 1621، نجاحا باهرا في زمانه.
2
يعد هذا المؤلف كتابا جامعا لكل ما كتب قبله عن السوداوية، كما أنه يقدم في الوقت ذاته - على الرغم من الدلالات الخرافية والمتطيرة - تفكيرا أصليا بشأن الاكتئاب (قبل ظهور الكلمة نفسها)، يتعلق في جزء كبير منه بسيرة الكاتب الذاتية (في الواقع، سيلقى بيرتون مصرعه منتحرا). يدل النجاح الفوري الذي حققه هذا الكتاب على أن الاهتمام بالسوداوية لم يتناقص. فقد اتسع مجال هذا المرض - الجذاب قطعا - ليشمل حقولا جديدة، مثل سوداوية الحب، التي أفرد لها بيرتون فصلا كبيرا في كتابه تحت عنوان (الحب-السوداوية ). بعد ذلك بعامين، نشر جاك فران في باريس «داء الحب أو السوداوية الشبقية». لم يكن هذا المؤلف، الذي ورد به مصطلحا الهوس والسوداوية باعتبارهما مترادفين، ليحظى باهتمام كبير لو لم يطعم ببعض التأملات الفكرية البديعة، التي استحقت لروعتها أن يرد ذكرها في القصص والحكايات (الطريفة) الخاصة بهذه الفترة: «حب النساء أعظم وأسوأ من حب الرجال.» يرجع ذلك إلى العديد من الأسباب؛ من بينها، لدى المرأة، «تقارب الأوعية المنوية». على النقيض، دفعت الطبيعة هذه الأوعية، عند الرجال، «بعيدا خارج البطن؛ خوفا من أن تصاب قوى النفس الرئيسة، والمخيلة، والذاكرة وملكة الحكم على الأمور، باضطراب شديد نتيجة لتأثرها بالأعضاء التناسلية وقربها منها.»
ولكن يتعين أن نعود إلى اثنين من الإنجليز الرواد في هذا المجال؛ وهما بالتأكيد توماس سيدنهام (1624-1689) وتوماس ويليس (1621-1675)، لقب الأول ب «أبقراط الإنجليزي»، واشتهر في البداية بأبحاثه في النقرس (فقد لاحظ هذا المرض ودرسه على نفسه شخصيا)، ويعد من أوائل الذين نظروا إلى الهستيريا على أنها مرض مختلف عن الأمراض الأخرى؛ إذ إنها تستطيع وحدها محاكاة سائر الأمراض المزمنة في مجملها. «هذا المرض متلون ويتخذ عددا لا حصر له من الأشكال المختلفة، فهو أشبه بالحرباء التي تغير ألوانها إلى ما لا نهاية.»
3
إن نظرية الأبخرة، التي جعلت الهستيريا تحظى بكل هذا الاهتمام والعناية، قد وضعت لرصد مظاهر هذا المرض التي لا يمكن التنبؤ بها. بعد شارل لوبوا (1563-1633)، كان سيدنهام، بالإضافة إلى ويليس، واحدا من أوائل المدافعين عن الأصل الدماغي للهستيريا التي لم تعد، وفقا لما كانت قد ساقته نظرية الرحم المتجول، حكرا على النساء. في الواقع، كان لا بد من الانتظار قرنين حتى تعتمد الكلية بشكل رسمي مفهوم الهستيريا الذكورية. أما عن الثاني؛ أي توماس ويليس - طبيب سريري وعالم متخصص في تشريح الجهاز العصبي - فقد أعد أول خطاب عقلاني ومتسق في الوقت نفسه حول الباثولوجيا النفسية،
4
واضعا حدا لمسألة الشيطانية، ورافضا العلاقة السببية بين الركيزة الخلطية والجنون، ونابذا الطابع الديكارتي الميتافيزيقي للنفس والعقل. يرى ويليس أن العقل كف عن أن يكون مطلقا، وحلت الوظيفة (دور أحد الأعضاء وعمله) محل الملكة (العقل).
5
وقد طرح ويليس أيضا، بعد أريتايوس وروفوس الأفسسي، احتمالية وجود روابط بين الهوس والسوداوية.
شهد القرن الثامن عشر، المختلف اختلافا جوهريا، ظهور ظروف مواتية لبزوغ فكر علمي جديد. بعد ديكارت ونيوتن، أصبحت الطبيعة تكتب بلغة الرياضيات. وكما يؤكد فولتير، ليس من الملائم بالنسبة إلى هذا القرن المستنير أن يتبع خطى هذا الفيلسوف أو ذاك؛ فلا وجود بعد الآن لمؤسس مذهب معين، وإنما المؤسس الحقيقي هو البرهان. ها قد أتى العصر الذي شهد بزوغ نجم لافوازييه وبوفون، ولينيه وكوفييه، الذين شرعوا عن طريق وضع تصنيفات واسعة في تنظيم الطبيعة. حذا الأطباء حذو الباحثين في علم التاريخ الطبيعي وخاطروا بوضع أولى التصنيفات الكبرى للأمراض. أقدم فرانسوا بواسييه دو سوفاج - طبيب من مونبلييه - على الخطوة الأولى من هذا النوع حين أصدر في عام 1732 مقالاته البحثية الأولى تحت عنوان «صنوف جديدة من الأمراض»، ثم وردت هذه التصنيفات من جديد بشكل موسع في كتابه الصادر عام 1763 تحت عنوان «علم تصنيف الأمراض المنهجي». يحتوي هذا المؤلف على وصف لما لا يقل عن 2000 مرض؛ حيث جرى تقسيم هذه الأمراض إلى فئات، ورتب وأنواع. خصصت إحدى الفئات العشر - القسم الثامن - ل «الذهان العقلي أو الجنون على اختلاف أشكاله وأنواعه: ويقصد به الخلل العميق نوعا ما، الذي يصيب ملكات الفهم والإدراك.» نجد في الفئة الأولى الهلاوس أو الضلالات الذهنية «التي يجب أن تنشأ عن عيب بعضو ما خارج الدماغ، ومنه تأتي الضلالات التي تصيب المخيلة.» يندرج تحت هذه الفئة الدوار، والغشاوة، والعثرة، والارتباك (طنين بالأذن يرافقه هلاوس سمعية يعاني منها الشخص المصاب)، وعصاب توهم المرض والسرنمة. في الرتبة الثانية، نجد الكآبة والمزاج العكر [غرابة الأطوار] التي تتجلى في صورة «شهوة منحرفة أو اشمئزاز وكراهية شاذة». يندرج تحت هذه الرتبة، القطا (الرغبة الملحة طويلة المدى في اشتهاء أكلة واحدة أو أكثر من المواد غير الصالحة للأكل لمدة شهر على الأقل) أو شهوة الغرائب [اشتهاء مواد غير صالحة للأكل بشكل مرضي]، والنهام أو الشره المرضي، والعطاش النفسي المنشأ [العطش المفرط]، والنفور، والحنين أو الشعور بالغربة، والرهاب الشامل [الهلع]، والشبق، والغلمة أو شدة الشهوة الجنسية عند الإناث التي يطلق عليها (الاهتياج الرحمي)، والرقوصة [مرض عصبي كان سائدا في جنوب إيطاليا، ويظهر في صورة رقص هستيري متنوع، وتسببه لدغة حشرة الرتيلاء]، ورهاب الماء أو داء الكلب. نجد في الرتبة الثالثة الهذيانات التي تعرف على أنها «أرق أو تشويش في الحكم على الأمور منشؤهما خلل في الدماغ.» يندرج تحت هذا التصنيف الهذيان (نقلة أو اغتراب، بمعنى هذيان عابر يحدث بفعل السم أو غيره من الأمراض)، والهبل أو العته، والسوداوية، والهوس (الجنون) وهوس الشياطين. سوف نلاحظ أن بواسييه دو سوفاج قد صنف بحكمة، على غرار ابن سينا، أنواع الجنون الرئيسة ووضعها في الرتبة ذاتها. وأخيرا، تأتي الرتبة الرابعة التي تشمل أشكال الجنون اللانمطية (ذهان عقلي شاذ) المتمثلة في فقدان الذاكرة والأرق. تنقسم كل فئة بدورها إلى العديد من الفئات الفرعية؛ حيث يشتمل العصاب المراقي (عصاب توهم المرض) على عشر فئات فرعية، والعته على اثنتي عشرة فئة فرعية، ويندرج تحت السوداوية - بما أن لكل مقام مقالا - أربع عشرة فئة فرعية.
كانت هذه التوصيفات المرضية العامة تعاني تارة من ارتباطها بشكل حصري بمبحث الأعراض (بواسييه دو سوفاج، أو كولين، كان هو أول من استخدم في عام 1769 مصطلح العصاب للدلالة على الأمراض غير المصحوبة بالحمى أو بالآفات الموضعية)، وتارة من كونها «سيكولوجية» (على سبيل المثال، ميز فايكهارد في عام 1790 بين نوعين من الجنون: جنون العاطفة وجنون العقل). وقد حاول مؤلفون قليلون، مثل توماس أرنولد في إنجلترا،
6
التوفيق بين الاتجاهين.
ومن بين الابتكارات التي تعزى أيضا إلى القرن الثامن عشر ابتداع الدراسات السريرية المكرسة حصريا للجنون، وذلك في إطار التيار الأوروبي واسع النطاق الذي تميز بالثراء والذي لا يتسع المقام الآن لتناوله بشكل كامل. وتجدر الإشارة إلى الإنجازات التي حققها الإنجليز في هذا المجال، ولنبدأ بذكر ويليام باتي (1703-1776)، وهو أحد أوائل من شهدوا على الجمع بين النظرية والتطبيق - إن لم يكن أولهم - في كتابه «أطروحة حول الجنون» (1758). وسوف نرى ما هو الدور المحوري الذي اضطلع به في مجال إصلاح تقديم خدمات الرعاية الطبية في المشافي للمرضى عقليا في إنجلترا، وفي نشأة العلاج المعنوي. فيما يتعلق بمفهوم الجنون، يرى باتي أن الجنون هو اضطراب في الحس والشعور والمخيلة (الجنون، أو خطأ الإدراك) أكثر من كونه انحرافا في العقل والذكاء. نذكر أيضا ريتشارد بلاكمور الذي درس السوداء في عام 1725، وجورج تشين الذي نشر في عام 1733 كتاب «المرض الإنجليزي» (المرض الإنجليزي أو أطروحة حول الأمراض العصبية على اختلاف أنواعها مثل السوداء، والأبخرة، والاكتئاب، والأمراض المتعلقة بالعصاب المراقي وبالهستيريا). حقق هذا الكتاب الأخير نجاحا عظيما وبدا عصريا بشكل مثير للدهشة؛ نظرا لأنه أرجع كل هذه الأمراض «العصابية» إلى أسباب مثل الخمول البدني، وفرط التغذية، والاكتظاظ في المدن المزدحمة.
في إيطاليا، تميز مورجانيي (1682-1771) - أحد مؤسسي الباثولوجيا التشريحية - بدراساته العديدة التي أفردها لفحص المخ في حالات الشلل والعته. ولقد ثبت ابتداء من هذا العصر أنه لم يعثر على أي آفات في الدماغ يرجع السبب فيها إلى الإصابة بالجنون، ولكن هذا الكشف لم يخلق جوا تنافسيا يلهم آخرين للسير على الدرب نفسه. شياروجي (1759-1820)، وهو طبيب ممارس أسندت إليه في عام 1788 مسئولية رعاية المختلين عقليا بمستشفى القديس بونيفاس في فلورنسا؛ ونشر له فيما بين عامي 1793-1794 المجلدات الثلاثة من «أطروحته حول الجنون» (في شأن الجنون وتصنيفاته)؛ حيث وضع أسس الملاحظة العلمية للجنون، محاولا أن يأخذ في الاعتبار الآفات التشريحية والاضطرابات الفكرية.
لقد كان للفرنسيين بصمة أيضا في هذا المجال بظهور للو كامو (مؤلف كتاب «طب العقل»، 1753) أو دوفور، الذي تظاهر للمطالبة بإنشاء «منزل خاص لعلاج الجنون» بعد حريق المشفى الرئيس بباريس في عام 1772. ولقد أشرنا من قبل إلى المقالة البحثية التي كتبها بعنوان «دراسة حول عمليات الإدراك البشري والأمراض التي تصيبها بالخلل» (1770). يعرض هذا المؤلف، الذي يقدم تمثيلا نموذجيا لعصره، اقتراحا جريئا يتمثل في «التقريب بين الأقوال الأكثر إثارة للاهتمام التي صرح بها الفلاسفة من جهة والأطباء من جهة أخرى بشأن هذه المواد وتشكيل نوع من الفسيولوجيا المرضية للإدراك البشري.» في الحقيقة، لم يف هذا المشروع الجميل إلا بالقليل من وعوده. فيرى دوفور، حاذيا في ذلك حذو أستاذه بورهاف - الأستاذ بجامعة ليدن - أن مقر الأمراض العقلية ليس في الدماغ، إلا في حالة إصابته بالخلل بفعل التواد (أي العلاقة بين الجسم والعقل، التي تؤدي إلى تأثر أحدهما بالآخر). «إن العيوب الموجودة في مختلف أجزاء الجسم الأخرى تتسبب أيضا في حدوث خلل وبلبلة في أفكار العقل» (نذكر على سبيل المثال تأثير الخثلة في حالة عصاب توهم المرض أو في العديد من الاضطرابات العقلية الأخرى)؛ «ولذا ليس من المستغرب عدم إحراز الطب لأي تقدم يذكر في علاج تلك الأمراض؛ نظرا لأنه كان يبحث عن أسبابها في الدماغ.» ولا تعد هذه النظرية المتعلقة بالأصل الودي للجنون (ويقصد بالأصل الودي أو التعاطفي للجنون: «تضامن فسيولوجي يتم عن بعد»؛ بحيث يؤثر إصابة عضو ما في الجسم بتضرر أو خلل على إصابة الإنسان بالجنون أو الاختلال العقلي) نظرية معزولة.
نشر سيمون تيسو (1728-1797) - وهو طبيب أيضا - بحثا بعنوان «دراسة حول الصرع»، وهو الجزء الثالث من الأجزاء الستة التي يضمها كتاب «أطروحة عن الأعصاب وأمراضها»، ولكنه اشتهر بكتابه «بيان للشعب بشأن صحته» الذي صدر في عام 1761، والذي يعد أحد أوائل المؤلفات التي اهتمت بالتثقيف الطبي، كما اشتهر بكتابه «الاستمناء - دراسة حول الأمراض التي تسببها العادة السرية». وقد حقق هذا المؤلف، الذي ترجم إلى لغات عدة، نجاحا باهرا، وصدر منه ما يزيد على 30 طبعة فيما بين عامي 1760 و1842. لم يكن الطب النفسي قد نشأ بعد وها هو يتوغل ليغزو أراضي جديدة. بسبب الاستمناء، وبشكل عام، «الكمية الكبيرة من المني التي تبدد بغير الطرق الطبيعية»، وقعت حوادث أسوأ وأفظع بكثير بالفعل من تلك «التي تصيب الأشخاص الذين يفرغون ما بداخلهم في الاتصال الجنسي الطبيعي.» بطريقة أو بأخرى، إنها الحماقة التي تجعل الشخص مجنونا ... وبعيدا عن كون هذه الآراء تشكل نظرية بلا مستقبل، سوف يسيطر هاجس الدمار البدني والعقلي الناجم عن «الرذيلة الفردية» على القرن التاسع عشر بأكمله.
كان مجتمع القرن الثامن عشر - ولا سيما صفوة المجتمع وأهل النخبة - في حالة وفاق مع علمائه، أكثر مما كان عليه الوضع في القرن السابق، مبديا اهتماما كبيرا بأبحاثهم. ما زلنا حتى الآن بعيدين عن تلك المرحلة التي كانت فيها المعرفة غير متاحة إلا للمتخصصين؛ ومن ثم، كانت المؤلفات العديدة التي خصصت للجنون تخاطب قاعدة عريضة من الشعب المستنير ولم تكن مقتصرة، كما ستكون عليه الحال في القرنين التاليين، على المتخصصين المحترفين فقط. أما عن المعاجم أو القواميس والموسوعات، فقد حظيت بقدر من الاهتمام من جانب عامة الشعب، حتى لو لم تكن في طليعة المعارف والإشكاليات في ذلك العصر. من المثير للاهتمام إجراء مقارنة، مع الأخذ في الاعتبار بالفارق الزمني الذي يزيد عن نصف قرن، بين «المعجم العام» الذي ألفه فورتيير (1690) و«الموسوعة» (1765 بالنسبة إلى المجلدات التي تهمنا) فيما يتعلق بالجنون. نجد في معجم فورتيير نحو عشرة تعريفات موجزة للغاية تبدو، حتى مع ارتدائها عباءة حقبة أواخر القرن الثامن عشر، قديمة. فعلى سبيل المثال، يعد الهوس «بحسب التعريف الطبي، مرضا يسببه حلم يقظة، ويكون مصحوبا بسخط وهياج من دون حمى، وهو ينشأ عن مزاج سوداوي ناجم عن التهاب المرارة أو السوداء، أو حرق الدم.» في «الموسوعة»، نجد عشرين بيانا مستفيضا يشمل معلومات محددة ومعرفة بدقة في مجال الطب. نذكر من بين المصطلحات الجديدة التي وردت بالموسوعة المخ/الدماغ، والأهواء (خصص لهذا الموضوع تسعة أعمدة)، وأيضا هوس الشياطين، الذي هبط بالضرورة إلى مرتبة الأمراض العقلية. والأطباء الذين كانوا لا يزالون يتجرءون على إثارة مسألة تأثير الشيطان كانوا يوصفون بالفلاسفة السيئين، بل والأسوأ من ذلك كانوا يوصفون بكتاب التراجيديا الفاشلين، الذين يستغلون هذا الموضوع «كمدد غيبي لمسرحية لا يعلمون كيف يسطرون نهايتها.» نجد من بين المصطلحات الجديدة أيضا الأبخرة، بوصفها «مرضا مراقيا مشتركا بين الجنسين؛ حيث يتأثر الدماغ بفعل التواد بتهيج الألياف العصبية للأحشاء، الرحم بالنسبة للنساء والمراقان بالنسبة إلى الرجال.» لم يغفل «الاهتياج الرحمي »؛ إذ ورد ذكره على أنه مرض يصيب «الجنس» [بمعنى مجموع النساء]، وتم تعريفه كهذيان تتجلى من خلاله «رغبة جنسية مفرطة تدفع المرأة بعنف إلى إشباع ذاتها.» ويؤدي عدم إشباع هذه الشهوة إلى هياج (ومن هنا جاء اسم «الاهتياج الرحمي» أو الغلمة). المعادل الذكوري لهذا المرض هو «الشبق» الذي قيل عنه إنه أقل شيوعا؛ نظرا لأن الرجال يستطيعون بسهولة إطلاق العنان لنزعاتهم التناسلية ولشهواتهم الجنسية. ولقد تم تعريف المصطلحات الكلاسيكية المعروفة منذ العصور القديمة بأسلوب تقليدي وكلاسيكي للغاية. ولكن، في الواقع، ما هو الجنون في نظر المؤلفين الموسوعيين؟ قد يكون الجنون أخلاقيا أو طبيا: «حين يحيد المرء عن العقل ويكون مدركا لذلك وشاعرا بالندم؛ لأنه تحت نير عبودية هوى عنيف، فهذا معناه أنه ضعيف. أما حين يبتعد المرء عن العقل بثقة وباقتناع تام بأنه يتبع طريق الصواب، فهذا فيما يبدو هو ما نطلق عليه الجنون. هؤلاء هم على الأقل أولئك المساكين الذين يتم احتجازهم، والذين ربما لا يختلفون عن سائر البشر إلا لأن جنونهم من نوع أقل شيوعا ولا يدخل في نطاق نظام المجتمع وأمنه.»
عرف فولتير في مؤلفه «القاموس الفلسفي» (1764) مصطلح «الجنون» على النحو التالي: «الجنون هو ذلك المرض الذي يصيب أجهزة الدماغ ويجعل الإنسان بالضرورة غير قادر على التفكير أو التصرف مثل الآخرين. وبما أنه لا يستطيع إدارة ممتلكاته، فإننا نحجر عليه، وبما أنه لا يملك أفكارا ملائمة للمجتمع، فإننا نقصيه عنه. وإذا كان يشكل خطورة، نقوم باحتجازه. وإذا كان هائجا، نقوم بتقييده [...] المجنون هو شخص مريض يعاني بسبب تضرر دماغه، كما يعاني مريض النقرس بسبب الآلام التي يشعر بها في يديه وقدميه.» ومن جانبه، يشرح ديدرو إلى صوفي في أحد خطاباته (رسائل إلى الآنسة فولاند) ما هي السوداء، أو «الأبخرة الإنجليزية». كما ألهمت هذه الأبخرة نفسها مرسييه في كتابه «لوحة باريس»: «إن الخيال هو الذي يفتح المجال للألم؛ لأن هذه القوة العقلية، حين لا تجد ما يجذب اهتمامها ويستحوذ عليه، تمتلك المقدرة على تحويل كل ما يحيط بها إلى مصادر للألم والوجع.»
عصر الباروك العلاجي
بالطبع، كان كل هذا التفكير النظري حول الجنون مصحوبا بإرشادات علاجية. نادرة هي المؤلفات التي لم تتطرق إلى الجانب العلاجي. ولقد كانت الإرشادات العلاجية وافرة في هذه الحقبة أكثر مما كانت عليه في العصور القديمة أو العصور الوسطى، لدرجة أن غزارتها، وليس غيابها، هو ما بدا بالنظر إلى الماضي أمرا غير مطمئن. في الواقع، كان جدول الطرق العلاجية في أواخر القرن الثامن عشر مستفيضا بقدر ما كان متنوعا. نجد في المقدمة الطرق العلاجية الكلاسيكية المنصوص عليها في أواخر القرون الوسطى. في العديد من المقالات البحثية كما في منشور التعليمات الصادر في عام 1785، تنوعت أساليب المداواة تبعا لأنماط الجنون المختلفة: الهوس، والسوداوية، والوساوس المرضية، والتهاب الدماغ المسبب لجنون الاهتياج، والعته والبله.
أصبحت عملية الفصد رائجة أكثر من أي وقت مضى منذ بروز أعمال هارفي المتعلقة بالدورة الدموية، وكانت توصف تقريبا في جميع حالات الجنون، ولكن بدرجات متفاوتة. فكلما كان الجنون حادا (هوس، جنون الاهتياج)، وجب «إجراء عملية الفصد بجرأة». ويتم التخفيف من حدة الفصد إذا كان المريض مصابا بالسوداوية، خاصة إذا كانت الحالة قديمة. ولكن لا بد من توخي الحذر، وفق ما ورد في «تعليمات» 1785، وعدم «الإفراط» في الفصد في حالة الهوس؛ لأن هذا قد يؤدي إلى «إضعاف المريض وإصابته غالبا ببله غير قابل للشفاء». ورد في دورية الطب الرسمية تقرير بشأن العلاج الذي خضعت له في السابع والعشرين من سبتمبر 1778 الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعا المصابة ب «هوس حقيقي لا تصاحبه حمى». يتحدث الطبيب المعالج قائلا: «جعلتني حالة الفتاة أشخص هذا المرض فعليا على أنه هوس وراثي يسببه تدفق دم الحيض نحو الأعضاء التناسلية [لم تكن الفتاة المعنية قد حاضت بعد]. ولإجراء عملية التفريغ الأولى، أوصي بالفصد من القدم.» بيد أن المريضة اهتاجت جدا، وباستشارة أحد الجراحين، اقترح استخدام العلقات. وبصعوبة استطعنا وضع ست علقات «متعطشة للدم» على قدمي المريضة المغمورتين في الماء. بعد مرور بعض الوقت، قطع الطبيب أذناب العلقات. «كلما كان الدم يخرج، كان رأسها يتحرر من وطأة الجنون. وبعد ذلك بأربعة أيام، حين قبلت طواعية بأن يتم إجراء فصد لها من القدم، استعادت عقلها في النهاية.»
وفي المقابل، لماذا لا نلجأ إلى نقل الدم؟ لقد لاقت النظرية، بل وأيضا التطبيق، رواجا في باريس في الفترة ما بين 1660 و1680، وكان بطلهما هو الدكتور ديني، الذي ادعى أنه قد شفى العديد من المجانين بهذه الطريقة، بينما أكد المغتابون أنه قد قتلهم. في يوم الإثنين الموافق 19 ديسمبر 1667، أجرى الطبيب دينيس تجربة علنية على مجنون حقيقي كان يركض نصف عار في شوارع ماريه وبات أضحوكة الحي. حضر هذه التجربة «بعض الشخصيات المحترمة من ذوي الوجاهة والمقام الرفيع، وطبيبان، وسبعة أو ثمانية فضوليين، وجزاران وهما اللذان أحضرا العجل.» حيث يتعلق الأمر في الواقع بنقل دم العجل إلى المريض؛ إذ إن هذا الدم «قد يسهم بعذوبته وطزاجته ونقائه في التلطيف من حدة فوران وغليان الدم الذي سيختلط به.» وقد تكررت عملية نقل الدم بعد مرور 48 ساعة «بمعدلات كبيرة». بل لقد كان هناك تفكير في إخضاع المريض قبل إخلاء سبيله لعملية نقل دم للمرة الثالثة (لإنهاء ما بدأته العمليتان السابقتان). «لقد أصبح حاليا في حالة من الهدوء التام.» تبول المريض ملء كوب كبير بولا ذا لون داكن للغاية كما لو كان قد مزج بسخام المدخنة. وتعد هذه البيلة الهيموجلوبينية [وجود دم في البول بسبب تكسر كريات الدم الحمراء الناجم عن عدم التوافق بين دم المتبرع ودم المتلقي] مؤشرا جيدا بتفسيرها على النحو التالي: «يرجع السبب في وجود خضاب الدم في البول إلى تعرض المرة السوداء للتفريغ وتصريفها عن طريق الأبوال، وذلك بعد أن كانت محتبسة قبلا داخل الجسم وكانت تبعث بأبخرة إلى الدماغ؛ مما كان من شأنه أن يؤثر في وظائفه ويحدث بها خللا.» ونحن لا نعلم ما إذا كان هذا المجنون المسكين قد نجا أم لا، ولكن عمليات نقل الدم الأخرى التي أجريت لاحقا كان لها عواقب وخيمة؛ مما أسفر عن إدانة هذه الممارسة اعتبارا من بداية القرن الثامن عشر، فضلا عن ذلك، بدأ يظهر تيار قوي لمعارضة إجراء عملية الفصد للمجانين، ولا سيما إذا كان الجنون مستعصيا. وخصصت كتب بأكملها لتناول هذا الموضوع، ولكن تجدر الإشارة إلى أن ما تم التنديد به بالأحرى هو الإسراف في اللجوء إلى هذه الطريقة العلاجية وليست الممارسة في حد ذاتها.
وفيما يتعلق بطرق التفريغ العلاجية الأخرى، فلم يطوها النسيان. فقد اتفق جميع أطباء هذا العصر على ضرورة تصريف المرة والأخلاط الحمضية (خصوصا حالة السوداوية)، وإفراغ الجسم منهما، و«تخليص الاقتصاد الحيواني» منهما، على أن يكون كل هذا مستندا بالطبع إلى الخلفية الراسخة لمذهب البقراطية. كان الأطباء يصفون المطهرات والمقيئات في جميع الحالات. وتشير «تعليمات» 1785 إلى أن «استخدام المطهرات كانت أهم بكثير من إجراء عملية الفصد.» وهناك عدد لا حصر له من وصفات المطهرات، بدءا بالراوند والسنامكي (أصبحا فيما بعد من العلاجات الشائعة) وانتهاء بالوصفات الغريبة والعجيبة إلى أقصى الحدود، على سبيل المثال: «خذ ثلاث ملاعق من مرق ديك عجوز، بعد حشوه ب ...» أما عن المقيئات، فتمتلك خاصية إضافية، وهي أنها تهز المريض وتجعله يرتجف وينتفض، وسرعان ما أثارت هذه الهزة اهتمام الأطباء المتخصصين في علاج الجنون؛ نظرا لما تحدثه من إلهاء في «الاقتصاد الحيواني».
بدأ استخدام هذه الطرق العلاجية القائمة على الصدمة، قبل إقرار صورتها النهائية، منذ العصور القديمة (لدى سيلسوس، على سبيل المثال) ثم في القرون الوسطى. يشير أمبرواز باريه (1509 تقريبا-1590) - الأب الروحي للجراحة الحديثة - إلى إحدى الحالات التي تمت معالجتها بهذه الطريقة في الفصل الذي خصصه في مؤلفاته ل «سبل الشفاء المتنوعة».
7 «مؤخرا قام مريض يدعى جاسكون، مصاب بحمى حادة، وبالتهاب في الدماغ المصاحب لجنون الاهتياج إثر تدهور حالته، بإلقاء نفسه في الليل من نافذة بالطابق الثاني، فسقط على البلاط وأصيب بجروح في مواضع متفرقة من جسده. وقد استدعيت لتطبيبه، ووجدت أنه بمجرد أن وضع على السرير، بدأ يستعيد عقله وهدوءه وزال عنه جنون الاهتياج تماما.» وبخلاف «الملاحظة» العارضة، بدأت فكرة إحداث صدمة لغرض علاجي تشق طريقها نحو التطبيق. فقد أشار كولين في هذا الصدد إلى العقوبات البدنية. وقال ويليس: إنه في حالة الهوس، تكون الآلام والأوجاع أكثر فائدة من الأدوية والعقاقير. انطلاقا من هذا المبدأ، نجد من بين الوسائل المتبعة، التي كان القدماء قد أوصوا بها، الحمام المفاجئ والحمام الإجباري. في عام 1783، قام أحد القساوسة باستدعاء الطبيب؛ لأن الطاهية التي تعمل لديه مصابة بالجنون. لم تفلح مع حالتها العلاجات الكلاسيكية كالفصد، وعمليات التطهير وإفراغ الأمعاء بالمطهرات، والحقن الشرجية. وأمام نوبات الهياج والسخط التي تضاعفت، لم يجد الطبيب بدا من إلقاء المريضة في النهر المجاور، بعد ربطها أولا بحبل. وبالفعل، شفيت المريضة.
8
ثم بدأ الحديث يكثر عن حمامات البحر المرعبة: «كانت الحمامات البحرية رائجة، سواء في حالة الهوس أو رهاب الماء/داء الكلب. بيد أنها لم تكن تحدث سوى خوف يضر أكثر مما ينفع» (تعليمات 1785). كفى، فهذا كثير.
كان القرن الثامن عشر يعد رائدا باختراعه الصدمة الكهربية، في الوقت الذي كانت فيه الكهرباء قد تم للتو اكتشافها، فكيف لنا أن ننكر هذه الحقيقة؟ تلك الحظوة التي نالها «السائل الكهربائي»، والتي استحوذت على اهتمام المجتمع وانعكست بالتالي على الطب. في البداية، بدت حالات الشلل مؤهلة لتطبيق تلك الطريقة العلاجية عليها، بل وأيضا الأمراض العصبية والاضطرابات التي يصاحبها تشنجات. ولم تكن هناك إلا خطوة واحدة تفصل هذه الأمراض عن الجنون. بدأنا ب «كهربة» المريض بوضعه بالقرب من مصدر انبعاث شرارات،
9
ولكن نظرا لأن «هذه الحمامات الكهربائية» لم يكن لها تأثير كبير، فكرنا فيما بعد في «الصدمة الكهربائية». وقد نص منشور التعليمات الرسمي الصادر في عام 1785 على اللجوء إلى هذه الطريقة في حالات البله والهوس، «ولكننا ما زلنا لا نستطيع الاستشهاد فعليا بأي حالات عولجت بهذه الوسيلة.»
لنعد إلى العلاجات المفرغة، ماذا حدث للخربق؟ يبدو أن الاهتمام بعشبة أنتيسيرا الشهيرة أصبح من الآن فصاعدا أدبيا أكثر منه طبيا. بيد أن «تعليمات» 1785 نصت على استخدامه، ولكن ربما كان الدافع لذلك يتمثل بالأحرى في وجوب عدم إغفال أي شيء. لقد شكلت المطهرات التي توصف بجرعات عالية، خاصة في حالة السوداوية، إحدى طرق العلاج بالصدمة؛ نظرا لما تحدثه من هزة معوية عنيفة. بعد العلاجات المفرغة، كانت المهيجات أيضا مسئولة، ولكن بوصفها قرحا مفتعلة، عن إتمام عمليات التفريغ الصعبة. فقد كانت عمليات الكي، والخزامة، والقرح المصطنعة تسبب تقيحا أو طفحا بغية جذب الأخلاط الفاسدة، ومن ثم طردها خارج الجسم (لم يعد يشار إلى أبقراط إلا قليلا، ولكن مذهب البقراطية ظل سائدا). حين كان يعزى سبب الإصابة بالجنون إلى «فيروس نقيلي» [فيروس يعني إذن سما]، كان يتم في بعض الأحيان التلقيح بالجرب، اعتقادا بأن هذه التقنية من شأنها طرد نوع من السموم لسم آخر.
استطاعت المرطبات، المتوافقة أيضا مع نظرية الأخلاط البشرية، أن تفرض نفسها وتحتل مكانة متميزة على الساحة وتحقق فائدة أكثر من أي علاج آخر استخدم لمداواة الجنون في القرن الثامن عشر. كما يعد العلاج بالتبخير باستخدام المرطبات هو العلاج الذي نجح بامتياز في جميع حالات الجنون. وقد ورد هذا في الأطروحة التي قدمها الطبيب بيير بوم وحظيت بنجاح كبير في أواخر عهد لويس الخامس عشر.
10
إن «استرخاء الجهاز العصبي» يعززه استخدام المرطبات والمشروبات المغلية التي تحتوي على أعشاب أو نباتات، وشرب الماء بكميات كبيرة (بدءا بمياه الينابيع الحرارية التي كانت رائجة للغاية في هذه الفترة)، والاغتسال وبالأخص في الحمامات، سواء أكانت نهرية أم منزلية، وساخنة أم دافئة أم باردة، والتي «تمنح الألياف قوة ومتانة. فقليلة هي الوسائل التي تعزز بصورة فعالة الجهاز العصبي وتستعيد مرونة أنسجته العضوية.» بالطبع أشعل بيير بوم، الذي أصبح طبيب البلاط الملكي ، نار الغيرة في نفوس زملائه، الذين نشروا شائعات تفيد بأنه قد تسبب في موت بعض مريضاته الشهيرات. ولكنه وجد مدافعا ممتازا عنه في شخص فولتير، المريض الدائم بوسواس المرض. بوم ليس هو الوحيد، على أي حال، الذي امتدح المرطبات؛ فحين يصبح التهاب الدماغ وما يصاحبه من جنون الاهتياج، مرضا مزمنا، يوصى كذلك بترك الماء البارد يتدفق على رأس المريض. تكشف لنا تعليمات 1785، التي أوصت أيضا باستخدام المرطبات ، عن «قلنسوة أبقراط» الغريبة التي كانت توضع على رأس المختل العقلي الحليق منذ بداية غزو المرض. وهي عبارة عن عصابة يشد بها رأس المريض مع الحرص على أن تكون مبللة دائما بترطيبها بإسفنج مغموس في خليط من الماء البارد والخل.
لم يغفل دور المهدئات والمخدرات في معالجة الجنون. فقد شاع استعمال الأفيون وشهد بذلك جميع الكتاب في أواخر القرن الثامن عشر، ولا سيما في حالات جنون الهياج. بالإضافة إلى ذلك، نجد السيكران، والبلادونا، والداتورة، والكافور. مع هذا المهدئ الأخير، نستعيد مضادات التشنج التي ترجع إلى العصور الوسطى، وأصبحت رائجة على وجه الخصوص في القرن الثامن عشر. يضاف إلى إفرازات القندس والمسك الكلاسيكيين الحلتيت وخصوصا «زهور الزنك» (أكسيد الزنك)، الذي أقرت إنجلترا استخدامه بحماس ولم تستحسنه فرنسا في بادئ الأمر ثم أثنت عليه لاحقا بدورها.
ولقد كانت المقويات والمنبهات أقل عددا؛ لأن استخدامها كان يأتي في المرتبة الثانية بعد المهدئات. ولكن، ما الذي كان يتم إعطاؤه للمصابين بالسوداوية، وللمعاتيه؟ في القرن الثامن عشر، كان الاهتمام منصبا على نبات الكينا. فقد كان يوصف في البداية كمضاد للحمى خلال القرن السابع عشر، ولكنه رفع في القرن التالي إلى مرتبة المقويات، والمهدئات، ومضادات التشنج. وتوجد بعض أنواع المنبهات الداخلية الأخرى، مثل الخردل، وفجل الخيل البري (الملعقية)، ومسحوق الذراح (الذباب الإسباني المجفف) الذي كان معروفا بأنه مثير للرغبة الجنسية، ولكن كان يوصف أحيانا في بعض حالات العته. أما عن المعطسات المعروفة بالفعل، والتي يمكن تصنيفها ضمن فئة المهيجات، فقد كان لها أيضا أنصار. وقد تشتمل المقويات على فرك بعض النباتات (الكينا والجنطيان؛ «كينا الفقراء»)، والحمامات المضاف إليها طحين الخردل، أو الحمامات الكبريتية ... علاوة على ذلك، ظل الأطباء متمسكين للغاية بالوصفات الطبية المتعلقة بالأنظمة الغذائية الملائمة لكل حالة على حدة.
كل ما تم ذكره حتى الآن من طرق علاجية ما هي إلا أساليب كلاسيكية لمعالجة الجنون. لقد حان الوقت لنتساءل عما إذا كانت هذه الترسانة تدخل تحت بند النظرية أم التطبيق، وفي الحالة الثانية، من المستفيد ؟ مما لا شك فيه أن المرضى الأثرياء استفادوا، إذا جاز القول، من هذه الأدوية والأساليب العلاجية التي لا تعد ولا تحصى. وكانت استشارة الطبيب تقتضي الحصول على وصفة طبية، وهو الغرض الذي لأجله استدعي الطبيب في المقام الأول. ومع ذلك، فلا مجال لطرح مثل هذا السؤال المبتذل حينما يتعلق الأمر بالنتيجة، حتى ولو كانت جميع الحالات المذكورة، على سبيل المثال في «دورية الطب، والجراحة، والصيدلة» - التي ظهرت في القرن الثامن عشر، والتي ربطت بشكل وثيق بين الأوصاف السريرية والمؤشرات العلاجية - تبدو وكأنها تنتهي دائما نهاية سعيدة: «أتاه النوم»، «قلت الأزمات»، «شفي المريض»؛ مما قد يضفي طابعا أكاديميا بعض الشيء على جميع هذه القصص.
وماذا عن المجانين الآخرين، المختلين عقليا الذين تعج بهم المشافي ودور الاحتجاز الجبري؟ سواء أكانوا قد احتجزوا مباشرة في إحدى دور الاحتجاز الجبري أم «مروا أولا على أحد المشافي الرئيسة بالمدينة»، كانت توصف لهم العلاجات الأكثر شيوعا: الفصد، والحمامات ومن ضمنها الحمامات الإجبارية، والشربة بمختلف أنواعها. في عام 1767، قدم دستور الأدوية الخاص بمشفى باريس الرئيس عددا من الصيغ المتعلقة بعلاج المختلين عقليا. نجد من بينها «مستخلصا مغليا لحالات الهوس أو الهياج» (يضاف إليه الخربق الأسود، وهذا دليل على أن هذه العشبة الشهيرة لم تختف تماما)، و«حبوبا مضادة للسوداوية»، و«شربة ضد الهوس» (ملينا) و«مسحوقا ضد الصرع» يشتمل بشكل أساسي على هدال البلوط أو الدبق، والفاوانيا أو عود الصليب، والناردين، والكونفالاريا المسمى أيضا زنبق الوادي والزيزفون. ومع ذلك، يتدخل عنصران هامان لحفظ التوازن؛ أولا: العلاجات التي كان يتم وصفها لمختلين عقليا - ولا سيما المعوزين - كان يتم التقليل بالضرورة من كميتها ومن معدل تكرارها (بالنظر إلى هذه العلاجات اليوم، نجد أنها لم تكن بالتأكيد سيئة تماما). ثانيا، والأهم من ذلك: أن هذه العلاجات وخدمات الرعاية الصحية لم يكن يتم توفيرها للمريض إلا في «بدايات الجنون». تتكرر هذه العبارة باستمرار. فإذا لم تتحسن حالة المريض في غضون ستة أشهر إلى ثمانية أشهر من المعالجة، يخيم شبح الإقصاء الرهيب ويوضع المريض في مصاف الميئوس من شفائهم. أقصى ما كان يتم عمله هو تجربة علاج جديد في وقت لاحق، عند نقل المريض من مكان إلى آخر، خاصة إذا كان الشخص المعني لا يزال شابا.
يضاف إلى هذه البانوراما الواسعة من الطرق العلاجية الكلاسيكية العديد من العلاجات التي تبدو مجنونة بقدر الجنون نفسه. تعرض مجموعة الأيقونات والصور التي تمثل القرنين السادس عشر والسابع عشر أحد هذه الأساليب العلاجية المجنونة: استخراج حصوات الرأس، أو حجارة الجنون. ويصور لنا بيتر برويغل الأكبر على وجه الخصوص وأيضا جيروم بوش في رسومهما إحدى هذه العمليات الهزلية؛ حيث نجد طبيبا يبدو كأحد الدجالين أو المشعوذين يحدث شقا، عند مستوى الجبهة، في فروة رأس مريض مقيد إلى كرسي ثابت ومتين، حتى يستخرج منه حجرا صغيرا ومستديرا، وهو حصوة الجنون. نظن أن الأمر لا يعدو أن يكون قصة رمزية، ولا سيما أن العملية تتم غالبا في جو احتفالي أشبه بالكرنفال. في رسوم بوش، نجد الجراح الذي يجري العملية يرتدي قمعا على رأسه. وقد انضمت حصوة الجنون - ذلك الضيف غير المرغوب به - إلى القائمة الطويلة التي تشمل النعرة، والزنبور، والجعل، وعنكبوت السقف. ألا نقول في فلاندر: «فلان لديه حجر في رأسه»؟ بيد أن واقعية تفاصيل العملية نفسها (كما تتجلى بالأخص في رسم جون تيودور دو براي) قد تجعلنا نفترض أن عمليات مماثلة أجريت في بداية عصر النهضة، في المعارض والأسواق التي كان الناس يتوافدون عليها أيضا لخلع أسنانهم. ربما كان لدينا أمل في شفاء ذلك المجنون، الذي أظهر له الدجال بحيلة ما الحصاة المسئولة عن جنونه. لم ينس أمبرواز باريه أن يذم «أولئك الجراحين المدعين، الذين هم في حقيقة الأمر مخادعون ومحتالون، وفاسقون ولصوص.»
في وقت لاحق من القرن السادس عشر، صورت لنا الأيقونات والرسوم ممارسة طبية أخرى غريبة لمعالجة الجنون متمثلة في المواكب الراقصة. لم تختف رحلات الحج العلاجي التي كانت رائجة في القرون الوسطى، ولم تكن لتختفي بالأحرى بعد انقضاء عهد النظام القديم. يقدم لنا بيتر برويغل الأكبر من خلال بعض النقوش الرائعة صورة حية لإحدى رحلات الحج العلاجي في مولنبيك (فلاندر). وهنا أيضا قد تعطينا واقعية المشاهد الإيحاء بأنها قد رسمت على الطبيعة: نساء يتلوين، وقد أمسكت بأذرعهن بقوة ممرضتان في كل جانب، يسرن في موكب راقص يشرحه برويغل على النحو التالي: «هؤلاء هم الحجاج الذين يتعين عليهم الرقص في يوم عيد القديس يوحنا في مولنبيك، بالقرب من بروكسل. وحين يرقصون أو يقفزون من أعلى الجسر، ينعمون بالشفاء من داء القديس يوحنا لمدة عام كامل.» نشير في هذا الصدد أيضا إلى المرضى المصابين بداء رقص القديس غي (وفقا للمفهوم الشامل آنذاك، الذي يضم العديد من المتلازمات العصبية و«النفسية» المختلفة، وذلك قبل أن يبدأ سيدنهام بعزل داء الرقص في 1685، وكان أول من وصفه ولذا سمي برقص سيدنهام). وكان لداء رقص القديس غي موكب راقص خاص في اشترناخ (لوكسمبورج)؛ حيث توفي القديس غي في عام 698. وكان إيقاع الرقص يستلزم اتخاذ ثلاث خطوات إلى الأمام، وخطوة إلى الخلف، حتى الوصول إلى ضريح القديس ويليبرورد [القديس غي]. ما زال هذا الطقس موجودا إلى يومنا هذا، ويتكرر في يوم الثلاثاء من عيد العنصرة.
اتسمت بعض هذه الطرق العلاجية بالشذوذ لدرجة قد تجعلنا نتساءل عن حقيقة وجودها الفعلي (ولكننا لن نعلم ذلك أبدا؟) نذكر على سبيل المثال بيانو الهررة المثير للفضول الذي وصفه الأب كيرشر - اليسوعي الألماني إبان القرن السابع عشر - والذي افتتنت به الأوساط الطبية. من المرجح أن يكون هذا البيانو قد اخترع لتبديد السوداوية والكآبة عن أحد الأمراء العظام. تعتمد فكرة هذا البيانو على اختيار تسعة هررة وفقا لصوت موائها واحتجازها داخل الخانات الضيقة لصندوق متصل بمفاتيح البيانو التسعة. ينتهي كل مفتاح بطرف حاد وقاطع لوخز ذيل أحد تلك المخلوقات المسكينة؛ مما ينتج عنه صدور صوت المواء المرغوب. وبما أن الأمر يتعلق بالموسيقى، كان يحرص على وضع القطط وفق ترتيب معين من الصوت الأغلظ إلى الصوت الأكثر حدة. تبنى جوهان كريستيان راي (1759-1813)، وهو اختصاصي ألماني شهير في تشريح الجهاز العصبي ويعد ممثلا بحق للطب النفسي الألماني في الحقبة الرومانسية، فكرة بيانو الهررة موضحا بدقة ضرورة وضع المريض «بالشكل الذي يتيح له رؤية تعابير الحيوانات وإيماءاتها».
11
واقترح أيضا اتباع طريقة «التعذيب بلا ضرر»، التي تقتضي ضمن أمور أخرى تعليق المريض عقليا على ارتفاع معين بواسطة الحبال وتركه على هذا النحو سابحا بين السماء والأرض. كان يتم أيضا ترويع المريض عن طريق إطلاق بعض الأعيرة أو تفجير بعض الألعاب النارية بالقرب منه. وإذا لم يكن كل ذلك كافيا، فلنسمعه بعض المقطوعات الموسيقية الأوبرالية!
قد يتصور البعض أن القرن الثامن عشر كان أقل «رجعية»، ولكن الأمر ليس كذلك. فقد كان الأطباء الذين يستشهدون بالعلاجات التقليدية القديمة؛ بغية التنفير منها وإبراز أهمية وفعالية العلاجات الحديثة مقارنة بها هم الأقل عددا. بينما كان الباقون يكتفون بالإشارة من جديد إلى تلك العلاجات القديمة؛ متسببين بذلك في زيادة الفوضى وتفاقم الوضع. من بين العلاجات التي كانت تستخدم لمعالجة الصرع وحده، نذكر دون ترتيب «دود الأرض (الذي كان يؤخذ على الريق في شهر يونيو قبل شروق الشمس)، وحافر حيوان الموظ، وعقب الأرنب البري، ومخ الغراب، وقرن الكركدن، وعظيمات أذن العجل، وصفراء الكلب الأسود الطازجة، وزبل الطاوس، وروث الأسد، وشوكة (بنية تشريحية عظمية) للعمود الفقري لسحلية متآكلة في عش نمل.» أما عن «القاموس الدوائي» الذي ظهر في عام 1757 بتوقيع طبيب مشكوك في أمره وهو الدكتور جيه جي،
12
فإليكم الدواء الذي يقترحه لعلاج الهوس: «خذ مخ كلب، وقم بإذابته في ثمن جالون من النبيذ الأبيض، ثم بعد مرور أربع وعشرين ساعة قم بتقطيره. ويعطى المريض ملء ملعقة صغيرة من هذا الخليط مضافا إليه دم حمار بالمقدار نفسه، في كوب من مغلي البطونيقا، كل صباح.» بل لقد كان من الممكن في بعض الأحيان استخدام مكونات من أصل بشري مثل: كشاطات فقرات ودماغ رجل مات ميتة عنيفة، والمشيمة أو الحبل السري لطفل حديث الولادة. ولكننا نقترب هكذا من السحر الأسود، وتلك قصة أخرى. فقد كان يطلب من الساحر أو المشعوذ أي شيء، بما في ذلك شفاء أحد المجانين، ولكن الطلبات من هذا النوع كانت قليلة للغاية، وهي أقل بكثير من طلبات الرغبة في الفوز بقلب أحدهم أو موت والد ما للحصول على الميراث.
قد يصعب تفهم ما يشيعه البعض اليوم عن سذاجة النظام القديم دون أن نأتي على ذكر «أنصار المدرسة التجريبية». فالنظام القديم ليس ساذجا، ولكنه مؤمن. إن جميع فئات المجتمع على اختلاف مستوياتها، تؤمن بالله، والشيطان، والمعجزات الكبيرة والصغيرة. وكان أنصار المذهب التجريبي، الذين لا يحصى لهم عدد، يتباهون بقدرتهم على الشفاء دون الحاجة إلى مساعدة الأطباء الذين ليس في وسعهم الكثير. كان لكل مؤمن بالمذهب التجريبي سره الخاص. كان هناك اعتقاد في قوة الأسرار. كان الجميع يلجئون إلى التجريبيين، بالرغم من الحرب التي كانت دائرة على استحياء بينهم وبين الأطباء. «الطبيب - كما كتب مرسييه في مؤلفه «لوحة باريس» - بوجه شاحب وصوت مزماري النغم، وعين حائرة، يجس نبضكم بفتور، وينطق بتلك الجمل اللبقة التي تشعركم مع ذلك بالفراغ والخواء. ويبدو وكأنه يريد المماطلة مع المرض [...] أما التجريبي، فيتمتع على العكس من ذلك بجرأة في الكلام، ويملك نظرة واثقة [...] الطبيب بارد، أما الآخر؛ ذلك التجريبي الدافئ والعاطفي والمتقد الحماس، فيقول لك: خذ، ولتنعم بالشفاء!» يعد الجنون حقلا مناسبا تماما لأنصار المدرسة التجريبية. في عام 1772، كتب حاكم كاين تقريرا في منتهى الجدية إلى وزيره يخبره فيه بوجود أحد أتباع المدرسة التجريبية في المنطقة الإدارية الخاضعة لسلطته؛ حيث كان ذلك الشخص الشهير معروفا بقدرته على شفاء داء الكلب «بواسطة سر قديم للغاية متوارث في عائلته ». «السيد دوميسنيل لديه أيضا سر خاص بشفاء الجنون، ولكنه يمتلك من النزاهة والأمانة ما يجعله يعترف بأن النجاح لا يكون حليفه دائما. في الواقع، من بين عشرة أشخاص مصابين بالجنون، لم يشف العلاج إلا خمسة فقط. أعرف بشكل شخصي مثالين بارزين وحديثين للغاية لحالتين حظيتا بالشفاء بتلك الطريقة.» وأخيرا، ألم يرغب الملك في امتلاك هذا السر؟ في مكان آخر، كان هناك قس هو الذي «يعالج بنجاح الصرع »، وكان يطلب أيضا مساعدات من الملك.
لا يمكن للطب إلا أن يكون تجريبيا. لقد أبرأ شيراك - الطبيب الأول للويس الخامس عشر - رجلا إنجليزيا من السوداء بواسطة رحلة على متن عربة خفيفة يجرها حصان. وهنا يطرح السؤال نفسه، أيرجع الشفاء إلى السفر أم إلى العربة؟ ينبغي أن نشير في هذا السياق إلى أن كاليوس كان يقوم بالفعل بهدهدة مرضاه في أسرة معلقة، أو كان يهزهم بقوة باصطحابهم للتنزه في طرق وعرة (الرجرجة). تجدر الإشارة إلى أن خاصية الارتجاج والتحرك كانت توفرها «كراسي الاهتزاز» الأولى (1734) التي كان بوسع المرضى الأغنياء استخدامها في المنزل. وقد ذكر فولتير تلك الكراسي في رسالة موجهة إلى كونت أرجنتال. وماذا عن اللجوء إلى الحيلة والخديعة في علاج الجنون؟ ألا يعني ذلك تشجيع الجنون بغية محاربته؟ سوف تكون هذه المسألة محل جدال في القرن التاسع عشر ولكن ليس تحت مظلة النظام القديم. يروي أمبرواز باريه - الجراح الكبير في القرن السادس عشر - أنه شفى أحد المختلين عقليا كان يعتقد أن هناك ضفادع داخل بطنه، وذلك بإجراء عملية تطهير له (من خلال إفراغ الأمعاء بالمطهرات)، وألقى خلسة بعض الضفادع في وعاء موجود بغرفته. إنه المبدأ نفسه، ولكن بصورة أقل إيلاما، الذي تنبع منه عملية حصوات الجنون.
أبإمكاننا الحديث عن المدرسة التجريبية فيما يتعلق بمسمر (1734-1815) وب «المغناطيسية الحيوانية» التي تمثل الخطوة الأولى على طريق التقدم العلمي الذي تم إحرازه في اتجاه التطور اللاحق الذي شهده فيما بعد الطب النفسي الديناميكي؟ تأكدت الخصائص الطبية للمغناطيسية، التي تم استشعارها منذ العصور القديمة، إبان القرن السابع عشر ، وأشار إليها في القرن الثامن عشر فرانز أنطون مسمر - الطبيب النمساوي - بعد أن عرج على اللاهوت والفلسفة والقانون. وضع مسمر نظريته بشأن «المغناطيسية الحيوانية» في فيينا؛ حيث رفع زواجه من امرأة ثرية من قدره وجعل منه طبيبا اجتماعيا مرموقا متخصصا في معالجة أهل النخبة والأغنياء. يقول مسمر: إن الكون مفعم بسائل رقيق، يعمل كوسيط بين الإنسان والكون. سوء توزيع هذا السائل هو المسئول عن إصابة الإنسان بالمرض ويكفي توجيه السائل المذكور نحو مراكز معينة عن طريق إحداث «أزمات» لتحقيق الشفاء. مثل هذه النظرية، المتناغمة تماما مع نظرية الأبخرة، كان مقدرا لها النجاح في باريس، حيث وصل مسمر في عام 1778. هرعت سيدات الطبقة الراقية «المصابات باضطرابات وخلل عقلي بفعل اختلال الأخلاط وتصاعد الأبخرة السيئة إلى الدماغ» إلى عيادته الفخمة الكائنة في حي لويس لو جراند [ميدان فوندوم]. وقد ساعده شارل ديسلون - الطبيب الأول للكونت دارتوا - الذي ربطته به علاقة وثيقة، على أن يحظى بإنعامات البلاط الملكي، على الرغم من العداء الواضح الذي أظهرته الكلية تجاهه. في شقة فسيحة مزينة بديكور أنيق، حيث يتسلل ضوء خافت رقيق قائم على تقنية الجلاء والقتمة، وضع «سطل» (أصبح فيما بعد أربعة)، وهو عبارة عن إناء معدني كبير ذي فوهة مغلقة مستوحى من قوارير ليدن [المكثفات الكهربائية الأولى] تنبثق منه القضبان الموصلة التي يمسك بها المرضى. يتيح هذا الجهاز العبقري معالجة عدد من المرضى يصل إلى عشرين مريضا في وقت واحد، حيث يربطون بحبل حول الخاصرة، ويشكلون دائرة ممسكين بعضهم بأيدي بعض. ثم يقترب مسمر، مرتديا زيا رائعا من الصوف المطرز بالورد الأرجواني بألوانه المتباينة، وواضعا شعرا مستعارا مصففا بعناية، برفقة المساعدين المتخصصين في المسمرية أو العلاج بالقوة المغناطيسية، شباب وسيم وقوي يطلق عليهم «الخدم ذوو اللمسة الشفائية». يوجه مسمر بعصاه الحديدية، السحرية بقدر ما هي ممغنطة، السائل نحو أحد المشاركين، متسببا في إحداث الأزمة الشافية. وهكذا دشن مسمر أسلوب العلاج الجماعي الذي كان ينتظره مستقبل مشرق. ثم يندفع أحد «الخدم من ذوي اللمسة الشفائية» ليسيطر على المريض الذي انتابته التشنجات ويقتاده إلى غرفة مجاورة؛ حيث يسمح للأزمة المخلصة بالتعبير عن نفسها بمنتهى الحرية. «كانت هناك بعض النساء اللاهثات اللاتي تعرضن لخطر الاختناق؛ ولذا كان لا بد من فك وثاقهن. وهناك أخريات كن يضربن الجدران أو يتدحرجن على الأرض، كما لو كان هناك ما يطبق على حناجرهن، وكن يشعرن بتدفق الأبخرة الباردة أو الملتهبة في ثنايا الاقتصاد الحيواني، تبعا للمسار الذي رسمته العصا القادرة.»
13
لا تقتصر المغناطيسية الحيوانية على علاج الهستيريا الاجتماعية، ولكنها تشمل أيضا الأمراض العصبية كافة، وكذلك جميع الأوجاع والآلام بشكل عام، ويمكن تطبيقها على الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء على حد سواء. وقد خصص مسمر للفقراء سطلا، وذلك قبل أن يقوم بمغنطة شجرة من أجلهم تقع في نهاية شارع بوندي. وقد جنى ثروة تقدر ب 340 ألف جنيه في عام 1783 بعد أن أسس جمعية الانسجام، التي كان يحق لكل مساهم فيها أن يكشف له عن «سر» من أسرار المغناطيسية، بشرط أن يقسم على أن يحتفظ بهذا السر لنفسه ولا يبوح به لأحد. وكان رسم الانضمام إلى هذه الجمعية يبلغ مائة لويسية (2400 جنيه). انتقد مرسييه بشدة نزوع الإنسان الطبيعي إلى كل ما هو عجيب وخارق وساحر ومثير للدهشة (فالفضول هو ما جعل الناس يتهافتون على الذهاب إلى المنومين المغناطيسيين). وبدأت الكلية في التحرك. ففي عام 1784، عين لويس السادس عشر لجنتين لتقصي الحقائق. وكانت إحدى هذه اللجان تضم لافوازييه، وبنجامين فرانكلين وطبيبا يدعى جيوتن، كان يشغل حينئذ منصب أستاذ بكلية الطب في باريس، وكان مشهورا «بتفانيه في خدمة الإنسانية المعذبة». جاءت النتائج الختامية للتقارير حاسمة؛ فلا وجود للسائل المغناطيسي الحيواني، وجميع الآثار الملاحظة «تحدث بفعل اللمس، والخيال». وهكذا انتهت مسيرة مسمر المهنية وغادر فرنسا في عام 1785. وسنترك كلمة النهاية لشارل ديسلون: «إذا كان طب الخيال هو الأفضل، فلم لا نمارسه؟»
14 «انطلاق» العلاج المعنوي
بالتوازي مع ما سمحنا لأنفسنا بتسميته بأثر رجعي «عصر الباروك العلاجي»، الذي كان يعد - وينبغي أن نشدد على ذلك - متوافقا مع التفكير الطبي السائد في ذلك الوقت؛ بزغت - منذ العصور القديمة - فكرة «العلاجات المعنوية»، التي مهدت الطريق ل «المعالجة الأخلاقية أو العلاج المعنوي». وكان كاليوس أوريليانوس قد نصح بالاستعانة بكل ما يؤثر في علاقة المريض بالطبيب وبالبيئة المحيطة به: التعليم، والسلطة، بل والإكراه من جهة، والرقة والوداعة، وتجاذب أطراف الحديث، والترفيه من جهة أخرى. بإمكاننا الحديث عن نوع من العلاج الترابطي، وخاصة فيما يتعلق بتطبيق مبدأ «يشفى الضد بالضد» (كأن نتحدث مثلا مع مرضى السوداوية عن أشياء مفرحة). في القرن السادس عشر، عكف خوان لويس فيفيس - واضع نظرية المساعدة، والعالم الإنساني واللاهوتي، وعالم الاجتماع - ضمن أمور أخرى على دراسة مسألة المختلين عقليا؛ «لأنه لا يوجد في العالم ما هو أكثر تميزا من الإنسان، ولا يوجد في الإنسان نفسه ما هو أكثر تميزا من العقل.» ينبغي أن يكون العلاج ملائما لكل حالة على حدة: «فالبعض يحتاج إلى تناول مهدئات واتباع نظام غذائي، والبعض الآخر يجب التعامل معه برفق وعطف حتى يتم ترويضه رويدا رويدا كوحوش البرية، وآخرون بحاجة إلى أن يتم تعليمهم وتثقيفهم وتوعيتهم، وهناك من ينبغي إخضاعهم بالاحتجاز والسلاسل.»
15
لم ينس باجليفي - طبيب إيطالي من القرن السابع عشر - بعد أن قام بإعداد لائحة طويلة تتضمن أساليب المعالجة الفيزيائية الخاصة بمداواة الجنون، أن يضيف إلى هذه القائمة تأثير «الانطباعات المعنوية»، المبهجة، أو الرقيقة أو الانفعالية تبعا لكل حالة على حدة. وهكذا انساب مصطلح «الجانب المعنوي» في مجال العلاج إلى ميدان تاريخ الجنون، وذلك في الوقت نفسه الذي أعاد فيه هذا التاريخ إحياء الخطاب حول الأهواء. يعد هذا المصطلح، الذي سنلاقيه مرارا، مبهما. وسيظل محاطا بهالة من الغموض. يقصد به في المقام الأول كل ما له علاقة بالنفس أو العقل، ونشير في هذا السياق إلى التناقض بين العلاجات المعنوية والعلاجات الفيزيائية، مثلما نفرق بين البؤس المادي والبؤس المعنوي. وفقا لهذا المعنى، علينا أن نفهم التصريح التالي بشأن إحدى المختلات عقليا التي أدخلت مشفى شيربور العام في سنة 1786: «النظام الغذائي والعلاجات المعنوية قد جعلاها تتحسن ومنحا الأمل في شفائها.» ولكن، أمام الاتصال النشط بالمشاعر والأهواء، طوال القرن الثامن عشر، اكتسب الجانب «المعنوي» إشراقة وحيوية، وأصبح يشمل أيضا بعدا أخلاقيا يقصد به كل ما هو منضبط، وعادل، ونزيه وخير في مقابل الشر. وتحول النعت
moral «معنوي» إلى اسم
morale «مبادئ أخلاقية» في القرن السابع عشر، ولكن وفقا للمعنى المعياري الذي نعرفه اليوم، والذي يتوافق مع إحياء الفلسفة الرواقية. نذكر بأن الجنون، من وجهة نظر الرواقيين، ليس إلا التهاب المشاعر؛ أي عدم القدرة على ضبط النفس أو التحكم في الأهواء وانعدام الرقابة الذاتية. وهكذا فالمرء مسئول بشكل ما عن جنونه، بما أنه مسئول عن عواطفه. ومن ثم، بالنسبة إلى القرن التاسع عشر، سنجد أن ذروة التقدم - أو لنقل التجسد النهائي للعلاج المعنوي - سيتمثل في «توبيخ ووعظ» المريض عقليا.
أقر القرن الثامن عشر الفلسفي، الذي أعاد قراءة مؤلفات القدماء، هذه الأفكار، كما تشهد بذلك «الموسوعة» التي ورد فيها أن الأهواء «تنزع عن الإنسان الحرية تماما، وتجعله في حالة تصبح فيها النفس بشكل ما سلبية
passive ، ومن هنا جاءت تسمية العاطفة بالهوى
passion .» وهكذا يجد الإنسان المثقل نفسه «لا يملك حرية التفكير في أي شيء إلا فيما له صلة بهلاكه؛ ولذا تعد الأهواء أمراض الروح.» ولا يعني هذا أن الأهواء غير ضرورية، كلا، فهي تمثل «المحرك الرئيس لكل شيء»، وإنما لا بد من السيطرة عليها.
من ثم، تراجعت مدرسة الجسدنة (التي عادت فيما بعد) لصالح مدرسة علم النفس. «إيقاظ حساسية الروح وإحياء ذوقها وشجاعتها اللذين انطفأت جذوتهما، وذلك من خلال الاستعانة بكثرة بعوامل الإثارة والتحفيز وجذب السرور الذي تستطيع الروح تذوقه: وبهذه الوسيلة نثير داخل الدماغ فكرة أقوى بحيث تقوم بمحو تلك الفكرة السخيفة التي تحتل النفس» (دوفور). إن خدمات الرعاية التي يقدمها الطبيب غالبا ما تكون غير مجدية؛ لأنه لا يعرف بما فيه الكفاية «معنويات» مريضه (تيسو). «إذا كان سبب الداء معروفا، فأين نجد الدواء؟ في مصدر الداء نفسه - أي في المخيلة - فهي التي قدمت السم، ومن ثم لا بد من أن نجد عندها الدرياق.»
16
أوضح الأب شارل ليون روبن، الذي ترجم من الإنجليزية مؤلفا عن مشفى بيت لحم (بدلام) للمجانين بلندن،
17
أن «فن شفاء المجانين لا يزال في مهده». لا بد من الاهتمام بدراسة «معنويات المرضى» غالبا أكثر من الاهتمام بصحتهم الجسدية، ومتابعة أي فكر تطرأ على بالهم أو أي استدلالات منطقية، وتمييز اللحظات والمناسبات التي تنقطع فيها هذه السلسلة الفكرية، و«علينا أن نكتشف أي شعور عنيف من شأنه إحداث فوضى واضطراب، وأن نعرف كيف نتقرب من وجهات نظرهم وأذواقهم وأهوائهم؛ بحيث يتسنى لنا دائما إخضاع إرادتهم وإجبارها على الرضوخ، والسيطرة على مشاعرهم وأفكارهم وتأملاتهم [...] هذا الفن المجهول هو ما سيحث المختل عقليا بشكل تدريجي ودون أن يشعر على معرفة الأفكار والاستدلالات المنطقية التي تزعجه وتسبب له تشويشا واضطرابا.»
انضم جوزيف داكين (1757-1815) - محب للأعمال الخيرية وعضو بالجماعة الماسونية، وطبيب غامض من شامبيري - إلى هذا التيار حين نشر في عام 1791 «فلسفة الجنون». العنوان وحده بمنزلة بيان تأسيسي لتيار جديد. ما الذي يقصده داكين بكلمة «الفلسفة»، التي يرى أنها «ربما تمثل المساعدة الوحيدة التي يمكن تقديمها في علاج الجنون»؟ يقدم داكين نفسه - وهو ما لا يرد في العنوان - بصفته ممارسا يواجه المشكلات التي يطرحها المجانين الميئوس من شفائهم الذين يتولى علاجهم في مأوى شامبيري، وليس بصفته عالما نظريا. كما يشير إلى نفسه أيضا باعتباره من أنصار تيار الإنسانية وحب العمل الخيري؛ نظرا لأنه يهدي كتابه للإنسانية، «ذلك أن الجنون هو اللوحة التي تجسد أعظم شر يصيب الحياة، والإحسان هو أعظم دواء له.» «هلموا إذن، أيها البشر الفخورون والمتغطرسون، يا من تحتقرون نظراءكم، ادخلوا معي هذه الحجرات الضيقة البشعة [...] تحسروا على ما أصاب النظام الطبيعي من تشوه وتدمير مماثل!»
يقر داكين بأن احتمال شفاء الجنون ضعيف. وتقع مسئولية ذلك في المقام الأول على عاتق الأطباء. «بعض الأطباء لديهم، لعلاج هذا المرض، نمط معين يتبعونه في جميع الحالات تقريبا، وحين يستنفدون كل علمهم، وينفرون المرضى سواء بسبب كمية الأدوية أو بسبب صرف أدوية خاطئة لهم، وحين يصابون تماما كمرضاهم في نهاية المطاف بالضجر والإرهاق؛ فإنهم يتخلون عن المرضى ويتركونهم يواجهون مصيرهم المشئوم، إلى أن تقرر العناية الإلهية إراحة العالم منهم.» بيد أن داكين لم يرفض كليا طرق علاج الجنون الرئيسة (باستثناء الخربق)، ولكنه يرى انعدام قيمتها إلا إذا اقترنت ب «صحة الروح»، التي «من المفترض أن يكون لها وحدها تأثير كبير على عقل هؤلاء المرضى أكثر من كل العوامل الفيزيائية التي تم الاستعانة بها حتى الآن.» ويشكل كل من النظام الغذائي الذي يتبعه المجانين و«نمط المعيشة» بشكل عام جزءا أساسيا من العلاج، تماما كإنشاء مصحات خاصة، ولم يستفض داكين في تناول هذه النقطة. وتركزت تطلعاته على الطبيب بالتأكيد، الطبيب الفيلسوف. «لن أقول أبدا، مثل جان جاك روسو، إن الطب يأتي من دون الطبيب. وإنما أزعم على العكس من ذلك أن الطبيب يأتي مع الطب، ولكن مع ذلك الطب المجرد من الهراء ومن الدجل والشعوذة، ولا سيما من العقاقير والتراكيب. أود أن يأتي الطبيب مزودا بفكر الملاحظة الذي يتيح له مراقبة مسار الطبيعة؛ من أجل تعزيز سبلها، وتيسير خطاها في حال سيرها على الطريق السليم، أو تقويم انحرافها في حال سلوكها طريقا خاطئا.»
يعود داكين، في ختام مؤلفه، إلى ما يعنيه ب «فلسفة الجنون»، التي يقصد بها اجتماع وسائل يكون معها «أقل عدد من أدوية الصيدلة» لازما. فلا بد من إظهار قدر من الصبر، والرفق، والاهتمام والتقدير، و«الحذر المستنير»، و«الأفكار المنطقية والأقوال المعزية» خلال «فترات الصحو التي يتمتع بها المرضى في بعض الأحيان [...] وأزعم أن المساعدات المعنوية ربما يجب أن تكون هي الوسائل الوحيدة التي ينبغي الاستعانة بها.»
النموذج الإنجليزي
يثني داكين، مثل أغلبية زملائه الفرنسيين، على الأطباء الإنجليز قائلا: «ما من أمة حتى الآن وفرت مثل ما وفره الإنجليز من رعاية طبية، ولا حققت مثل ما حققوه من نجاح باهر في شفاء المجانين.» وقد أقرت لجنة التسول بأن «فرنسا متأخرة كثيرا فيما يتعلق بهذا النوع من العلاج عن جميع الممالك المجاورة وخاصة إنجلترا . أمامنا، في هذا الصدد، دروس عظيمة لنتعلمها من إنسانية الإنجليز المستنيرة؛ إذ تجمع مشافي المجانين لديهم كافة المزايا، وكل وسائل الراحة، وجميع وسائل الشفاء التي قد يبتغيها المرء أو يتوقعها.» ولقد أرسلت اللجنة في الثالث والعشرين من أبريل 1790 استبيانا إلى الدكتور هانتر، أحد مؤسسي مشفى المجانين بيورك، لمعرفة الطريقة المتبعة لعلاج الجنون؛ حيث «تجري الاستعانة بالوسائل الأكثر رفقا التي أثبتت نجاحها في تحقيق الشفاء، حتى بالنسبة إلى المرضى عقليا الأشد هياجا.» ولم تتلق اللجنة جوابا عن هذا الاستبيان، على الرغم من أنها عاودت إرساله بعد ذلك بستة أشهر.
لماذا تتمتع إنجلترا بهذه السمعة الطيبة؟ يعزى ذلك جزئيا إلى إسهامها النظري، بدءا بما قدمه ويليس في هذا المجال، ولكن قدرتها على ربط الجانب النظري بالجانب العملي هي التي حظيت على وجه الخصوص بالإشادة في جميع أنحاء أوروبا.
18
لم تكتف إنجلترا بتمني امتلاك مشاف مخصصة للمجانين، وإنما حولت الحلم إلى حقيقة ببنائها إياها. وكانت البداية في القرن السابع عشر مع إنشاء المشفى الأشهر بين المشافي جميعها، وهو مشفى بيت لحم بلندن، المعروف باسم بدلام، والذي أصبح مرادفا لمشفى المجانين في جميع أرجاء البلاد. كان مشفى بدلام ديرا تأسس في القرن الثالث عشر، ثم صادره الملك هنري الثالث ومنحه إلى مدينة لندن. وقد بدأ في استضافة المجانين منذ نهاية القرن الرابع عشر، وذلك قبل أن يصبح في القرن السابع عشر المشفى الوحيد للمجانين في إنجلترا. على غرار مشفى باريس العام، كان مشفى بدلام مركزا يتدفق عليه المختلون عقليا من جميع أنحاء المملكة. على الرغم من الأعمال الإنشائية الهامة التي تم إنجازها فيما بين عامي 1675 و1676، كانت قائمة الانتظار طويلة. مقابل 50 مريضا عقليا محتجزين، كان هناك ما بين مائة إلى مائتي مريض ميئوس من شفائهم ينتظرون أحيانا خمسة أو ستة أعوام لدخول المشفى. وكما هي الحال في فرنسا، تزايدت عمليات الاحتجاز بشكل ملحوظ إبان القرن الثامن عشر. وفي عام 1730، بلغ تعداد المجانين في بدلام 250 مجنونا إجمالا، سواء القابلون للشفاء أو الميئوس من شفائهم، ومن ثم تجلت ضرورة إجراء توسعات جديدة. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وزعت 275 حجرة على خمسة أروقة مسقوفة. ومنع مرضى الصرع والمعاتيه من دخول المشفى. وكان الصيدلاني يمر يوميا على المشفى، والطبيب ثلاث مرات أسبوعيا. «يعد مشفى بيت لحم أثرا بارزا ومشهورا للإحسان البريطاني. وسواء أخذنا في الاعتبار فخامة المبنى التي تليق به، أو التصميم الداخلي المناسب وتوزيع الغرف بشكل مريح، أو الراحة التي يوفرها للبؤساء المقيمين فيه؛ فإننا نستطيع أن نؤكد أن هذا المشفى لا مثيل له في الكون كله.»
19
وبمتابعة هذا الإطراء المبالغ فيه، نجد أن أحمقين من بين كل ثلاثة «كانا يستعيدان عقليهما» بعد الخضوع لعلاج لمدة عام واحد. ومع ذلك، ترسم لنا بعض الروايات المرعبة التي تصف بدلام صورة مناقضة تماما لما ذكرناه سابقا. فعلى سبيل المثال، لم يلغ عرض المجانين - حيث كان المتفرجون يدفعون المال لقاء مشاهدة المختلين عقليا - الذي كان يشكل موردا رسميا لا يستهان به لدخل المشفى إلا في عام 1770. وقد ألهم هذا العرض العديد من الفنانين مثل ويليام هوجارث. وتبين اللوحة التي صور فيها هذا المشهد في عام 1735 أن هذه المؤسسة لم تكن يوما ميناء لراحة المرضى عقليا. فيما وراء الهجاء اللاذع، يعكس لنا الفنان ببصره الحاد صورة من وحي الطبيعة لما قد يعد بالنسبة إلى المجنون أبشع من جنونه الخاص: وهو مشهد جنون الآخرين، الذي يجد نفسه مرغما على معايشته في نطاق مساحة ضيقة للغاية.
من الواضح أن بدلام كانت هي المؤسسة الوحيدة المخصصة لاستقبال المختلين عقليا؛ إذ كنا نجدهم في جميع مؤسسات الاحتجاز غير المتخصصة مثل السجون في حال ارتكابهم جريمة، وبيوت العمل، والإصلاحيات، والمنازل التي توفر المسكن والمأكل نظير دفع نفقة إقامة (وهي منازل للرعاية وليست للعلاج) ... وهو الوضع الذي يذكرنا، حتى منتصف القرن الثامن عشر، بمثيله في فرنسا. في إنجلترا أيضا، توالت التشريعات في البداية على استحياء. كنا نرى بلها أثناء عمليات مطاردة المتسولين، التي لم تكن أمرا خاصا بفرنسا وحدها. وقد خصصت للمختلين عقليا مادة في قانون 1744، الذي جاء في أعقاب أعمال لجنة برلمانية كانت مكلفة بإعادة النظر في قوانين التشرد. وكان السؤال الأبدي الذي يطرح نفسه دوما هو: من سيتكفل بمصاريف رعاية، وحراسة، وعلاج هؤلاء المختلين عقليا أو المجانين (العائلة، أم الأبرشية، أم المدينة، لم يرد أي ذكر للملك)؟ أما عن الجملة التي نقرؤها مرارا بشأن أحد المجانين: «تم احتجازه سالما في مكان آمن»، فهي تشدد على فكرة الاحتجاز الآمن، ولكنها تظل غامضة حيال تحديد مكانه. كنا في انتظار ميلاد مشافي المجانين، باستثناء مشفى بدلام الذي بدا وكأنه مأوى أكثر منه مشفى للمجانين.
كان مشفى بدلام مكتظا على أي حال؛ ولذا كان من المنطقي تماما إنشاء مشفى القديس لوقا للمجانين في لندن، عن طريق الاكتتاب العام. يرتبط ميلاد هذا المشفى الخاص ارتباطا وثيقا بشخص الدكتور ويليام باتي (1703-1776)، الطبيب الأول بالمشفى وعضو الكلية الملكية للأطباء، ثم رئيسها. لقد سبق أن ذكرنا «أطروحته الهامة حول الجنون»، والتي عرض فيها وسائل العلاج التي كان بصدد تطبيقها في مشفى القديس لوقا. لماذا - يتساءل باتي - أنشأنا في لندن مشفى آخر للمجانين؟ يتعلق الأمر بتزويد هذا المشفى بعدد من الأطباء الشباب وبفريق عمل مؤهل؛ من أجل «دراسة وممارسة واحد من أهم فروع الطب». علام يرتكز علاج الجنون في مشفى القديس لوقا؟ كان علاج الجنون يجري باتباع الطرق العلاجية التقليدية، ولا سيما العلاجات المفرغة ومضادات التشنج. بيد أن ما وضعه باتي في المقدمة وسلط عليه الضوء هو «الإدارة» بما تشمله من [سلوك، وحكم، وتوجيه]: الإدارة تفعل أكثر مما يفعله الطب في هذا المرض. لا يمكن معالجة الجنون إلا في مصحة خاصة؛ حيث يتم الاعتناء بالمجنون ورعايته بشكل كامل في كل ساعة من اليوم. فالمصحة التي تنتزع المجنون من بيئته المتسببة في مرضه تسمح باسترداد الجسد لعافيته، وفي الوقت نفسه كبح جماح الغرائز المنحرفة وتبديد الفكر الثابتة المتسلطة على رأس المريض. وهكذا استقر العلاج المعنوي لأول مرة - بالطبع قبل ظهور المصطلح نفسه - في المصحة وأصبح جزءا لا يتجزأ من عملية الاستشفاء.
حاول جون مونرو - طبيب ببدلام - أن يسخر من المذهب الجديد (ملاحظات على أطروحة دكتور باتي عن الجنون)، مدافعا عن الطرق العلاجية التقليدية (العلاجات المفرغة وبالأخص المطهرات المعوية)، ومؤكدا أن أطباء بدلام، الذين يرى أنهم تعرضوا ضمنيا لهجوم في بحث باتي، يقومون أيضا بتطبيق «الإدارة» والاحتجاز العلاجي. ولقد ذهب مونرو - إذا صدق القول - إلى أبعد من زميله في اتباع الطرق العلاجية غير الفيزيائية، وذلك من خلال العمل على التأثير في المختلين عقليا باللين وليس بالخوف، وذلك بعد البحث عن سبب الجنون عند كل واحد منهم. أما عن مبدأ استبدال عاطفة بأخرى، الذي تركه باتي لتقدير الممارس، فقد كان مونرو معارضا له؛ إذ يرى أنه خطأ شائع منذ العصور القديمة. فهجمات عاطفة ثانية لن يكون لها إلا آثار سلبية على عقل المريض الذي أضعفته العاطفة المستحوذة عليه. تكمن أهمية هذا الجدال بين طبيب بدلام وطبيب مشفى القديس لوقا في أنه أثار نقاشا حول فكر معالجة الجنون، وهو نقاش ظل مرتبطا بشكل ملموس ببناء مشافي المجانين. أنشئت مشفى مانشستر للأمراض العقلية في عام 1763، ومشفى نيوكاسل أبون تاين في عام 1767، ومشفى يورك في عام 1777، ومشفى ليفربول في عام 1790، والعديد من المشافي الأخرى. واعتبارا من عام 1753، أصبح يسمح لأطباء مشفى القديس لوقا بتعليم وتدريب تلاميذ في مشفاهم؛ «من أجل الصالح العام»، مجسدين بذلك حلم باتي الأساسي الذي عد رائدا للتعليم السريري للطب النفسي.
لم يكن هذا العمل الخيري الإنساني مصحوبا دائما بشفقة مبالغ فيها. فيما يتعلق بمشفى مانشستر، تمت الإشارة بشكل حاسم في أحد المؤلفات المترجمة إلى الفرنسية في عام 1777
20
إلى ضرورة إنشاء مشاف متخصصة ومجانية للفقراء؛ ليس فقط لأن المجنون جدير بالشفقة والرحمة ولذا يستحق مشفى، وإنما أيضا لأنه مثير للإزعاج، ومن ثم يجب أن يتوارى عن أعين الجميع. «وبتجميع عدد من المختلين عقليا في مصحة مشتركة، يصبح بالإمكان التقليل من عدد المشرفين.» وأضاف المؤلف قائلا: «إنه تفكير محزن حقا، حين نظن أن الأمل نادر في الشفاء التام من هذا المرض.» يتطلب علاج الجنون «إدارة» قاسية : «ففي فن المداواة يجب أن يكون الاهتمام منصبا بشكل كامل على وسائل اكتساب سلطة حقيقية على الطبع والأهواء، وذلك من خلال الاستعانة بالعواطف والأفكار العقلية المناقضة؛ وهي مهمة تقتضي ملاحظة مستمرة، وخبرة كبيرة، في التعامل مع الحالات المماثلة، بالإضافة إلى الحزم والأمن اللذين تستطيع العادة وحدها توفيرهما.»
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، افتتحت مصحات عامة أو شبه عامة للأمراض العقلية في غالبية المدن، لتضاف بذلك إلى المؤسسات الخاصة المتعددة، التي كانت تستقبل منذ القرن السابع عشر، خلافا لدور الاحتجاز الجبري الفرنسية (وعلى غرار الدور الخاصة الباريسية)؛ المختلين عقليا دون غيرهم من المرضى. بيد أن هذه المصحات كانت أكثر تنوعا؛ فبعضها، مثل مؤسسة السير جوناثان مايلز الكبرى في شرق لندن، كان يحتجز المجانين المعوزين الذين يتكفل بهم المسئولون القائمون على تنفيذ قانون الفقراء. والبعض الآخر كان يضع قائمة بالأسعار المختلفة لنفقة الإقامة، التي قد تصل أحيانا إلى خمسين ضعفا للسعر الأساسي المقرر لتكلفة إعالة المعوزين، كما هي الحال في دار تايسهرست هاوس (ساسكس)، التي ظلت تديرها لما يقرب من قرنين عائلة نوينجتن، وكان يعمل بها مائة وخمسون خادما وحارسا لخدمة ورعاية أقل من نصف هذا العدد من النزلاء. كان يوجد أيضا دور عديدة ذات مساحة صغيرة للغاية؛ حيث كان يقوم المالك غالبا بإيواء اثنين أو ثلاثة من المختلين عقليا في بيته الخاص. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، تعالت الأصوات منددة بما أطلق عليه «تجارة الجنون». وقد أثار العديد من حالات الاحتجاز المشكوك فيها الصحافة وهيجت الرأي العام. لم يستطع أحد أن ينسى أنه في ظل هذه المملكة، وليس في مكان آخر، تم التصويت رسميا في عام 1679 على قانون المثول أمام القضاء، الذي يحق بمقتضاه لكل مواطن محبوس أن يمثل أمام القاضي الذي وقع على أمر توقيفه؛ حتى يتم بالدليل القاطع إثبات وجود دافع للاعتقال [عليك إحضار الشخص بشحمه ولحمه للمثول أمام القاضي]. وفي حالة عدم توافر هذا الدليل، يصبح لزاما على القاضي إصدار أمر بإطلاق سراح الشخص المحتجز. لقد كان تيار العمل الخيري الإنساني الذي كان ساريا إبان القرن الثامن عشر أكثر رسوخا في إنجلترا منه في فرنسا، وقد حلت محله بقوة الماسونية التي أوجدها كذلك في إنجلترا مذهب الفلسفة النفعية، ولا سيما الطوائف البروتستانتية، مثل الكويكرز (جمعية الأصدقاء الدينية) أو الإنجيليين.
في عام 1774، صوت البرلمان على قانون تنظيم مشافي المجانين الخاصة الذي نظم عملية احتجاز المختلين عقليا في المصحات الخاصة وقننها. بموجب هذا القانون ، لم يكن ممكنا افتتاح أي مؤسسة أو تشغيلها دون الحصول على ترخيص من السلطة العامة، التي يتعين إعلامها بجميع حالات الدخول المستجدة. وكانت جولات التفتيش التي يقوم بها المفوضون المعينون من قبل البرلمان، والذين تتولى كلية الطب الملكية دفع رواتبهم، تستهدف التأكد من أن عمليات الاحتجاز قانونية وأن المختلين عقليا يعاملون بإنسانية. في الواقع، كان لا بد من الانتظار عدة أعوام لتصبح هذه التدابير فعالة، ولكن هذا لا ينفي أنه قد أعطيت دفعة قوية أولية لتشريع خاص بشأن المرضى عقليا. بالإضافة إلى أن جنون الملك جورج الثالث، الذي أصبح واضحا ابتداء من عام 1788، وما استتبعه من عراك بين الخبراء، كان من شأنهما تعزيز انشغال الرأي العام بهذه المسألة.
بلغ هذا «النموذج» الإنجليزي أوج ازدهاره وتجلى في أبهى «صوره» مع إنشاء مأوى ذا ريتريت في يورك، الذي أسسته عائلة توك المنتمية إلى طائفة الكويكرز. في عام 1791، لقيت إحدى سيدات الكويكرز مصرعها في ظروف مريبة داخل مشفى المجانين بيورك، الذي كان قد أنشئ قبل ذلك بعشرين عاما. وقد استنكر ويليام توك (1732-1822) - وكان يعمل تاجرا للشاي والقهوة - الأوضاع المعيشية السيئة داخل مشفى يورك، وانتهى بإقناع أعضاء طائفة الكويكرز بتمويل بناء دار مخصصة للمصابين بالجنون، بحيث تكون هذه الدار - التي لا تعد مشفى ولا ملجأ ولا سجنا - بمنزلة مؤسسة إنسانية، أو بالأحرى بيت خلوة، ومن هنا جاءت تسميته ذا ريتريت. فتحت المؤسسة أبوابها في عام 1796، وكانت تضم في ذلك الحين ثلاثين مريضا وسبعة موظفين. وقد أسهم هؤلاء الموظفون السبعة، من الطبيب إلى الحارس، في تطبيق نظام الإدارة بأسلوب غاية في الإنسانية. فكما ترتدي اليد الحديدية قفازا مخمليا، ينصهر الطابع التربوي والمعياري للاحتجاز في بوتقة الإحسان والرحمة والرفق التي يغلفها هيكل شبه عائلي.
شارك هنري، الابن البكر لويليام، في حياة المؤسسة الجديدة، ولكنه توفي قبل الأوان. ثم خلفه ابنه الأكبر صموئيل (1784-1857) الذي قدم للعالم الغربي «بيت الخلوة»، في عام 1813، من خلال كتابه «وصف بيت الخلوة، تلك المؤسسة الواقعة بالقرب من يورك والمخصصة للمرضى عقليا التابعين لجمعية الأصدقاء. لمحة تاريخية عن أصل هذه الدار، وإنجازاتها، وطرق العلاج المتبعة فيها، وعرض للحالات.» بعد عرض تاريخ «ذا ريتريت» وإعطاء وصف دقيق للأماكن وللائحة الدار، خصص فصلان؛ أحدهما للعلاج الطبي، والآخر - تقريبا أطول من مثيله بثلاث مرات - للعلاج المعنوي الذي برز بوضوح كمرادف للإدارة. في هذه الأثناء، ظهر المصطلح في كتابات فيليب بينيل، الذي كان صموئيل توك يستشهد به في كثير من الأحيان، وسنتطرق بالطبع إلى هذه النقطة فيما بعد. علام يرتكز العلاج المعنوي في «بيت الخلوة»؟ بما أن الجنون مصدره الذهن، يتعين أولا التأثير في العقل. يملك المختلون عقليا («المجانين»، ولكن صموئيل توك أعلن عن استعداده لتبني مصطلح «المريض عقليا» المقتبس من الفرنسية) درجة من التحكم في «ميولهم السيئة». إن حسهم الفكري والأخلاقي غالبا ما يكون مشوها أكثر منه مدمرا. ومن ثم بإمكاننا التأثير في عقل الأحمق عن طريق كسب ثقته وتحويل انتباهه إلى أغراض مناقضة لجنونه. ينقسم العلاج المعنوي إلى ثلاثة أجزاء. في الجزء الأول، لا بد من مساعدة «المريض» على ضبط نفسه. الخوف ليس محظورا، ولكن ينبغي التحكم في جرعته كما يحدث عند تربية الطفل. فيجب أن تسبقه التربية والسلطة. تساهم العديد من العوامل المتمثلة في الحياة المنضبطة، والعمل، والدين؛ في تعزيز ضبط النفس. يتوقف الجزء الثاني عند وسائل الإخضاع: التقييد في السرير، وفي الغرفة، والحبس في غرفة مظلمة، والتغذية القسرية بالنسبة إلى العديد من المختلين عقليا الذين يرفضون تناول الطعام، والأحزمة الجلدية وسترات المجانين المخصصة لتقييد المهتاجين والسيطرة عليهم (باستثناء سلاسل العار)، ويتم تطبيق هذا النظام بدقة وبصورة منتظمة مصحوبا بكلمات الإقناع. يعقب هذه المرحلة الثانية، التي وطدتها المرحلة الأولى، المرحلة الثالثة التي تقتضي استكشاف سبل الترويح عن النفس والتعزية والراحة المتمثلة في الحوار المناسب لكل مريض على حدة، والأنشطة الترفيهية التي تهيئ المناخ الملائم للتواصل الاجتماعي، والقراءات المنتقاة ما عدا الروايات، وزيارات الأصدقاء التي تعد سلاحا ذا حدين؛ ولذا لا يتم السماح بها إلا للمرضى اللذين هم في طور النقاهة.
ولكن، بما أنه لا كرامة لنبي في وطنه، فإن وصف بيت الخلوة، الذي سرعان ما حظي فيما بعد بأهمية كبيرة لدى أطباء الأمراض العقلية في العالم أجمع باعتباره نموذجا، أثار جدلا واسعا في إنجلترا، بتحريض من مصحتي بدلام ويورك اللتين اعتبرتا أنفسهما موضع نقد، وهو ما حدث بالفعل. نتج عن هذا الجدل تحقيق برلماني أسفر في عام 1815، بعد أن تقدم السيد ويليام توك الهرم للإدلاء بشهادته شخصيا أمام مجلس العموم، عن انتصار «بيت الخلوة» وعلاجه المعنوي الذي أصبح أخيرا نموذجا رسميا في بلاده.
الفصل الثالث
عودة سريعة إلى فوكو
نحن بحاجة الآن إلى الرجوع سريعا إلى أطروحة ميشيل فوكو لنرى ماذا يقول عن العلاج المعنوي، وعن ميلاد الطب النفسي؟ وفقا لفوكو، الفرق بين العلاجات الفيزيائية والعلاجات المعنوية (النفسية) «لم يعرف طريقه إلى الوجود بكامل عمقه إلا [...] حينما أدخل القرن التاسع عشر الجنون وشفاءه، من خلال اختراعه «للطرق الأخلاقية» الشهيرة، ضمن لعبة الذنب. إن التمييز بين الفيزيقي والأخلاقي لم يصبح مفهوما عمليا في الطب العقلي إلا في اللحظة التي انتقلت فيها إشكالية الجنون إلى التساؤل حول الذات المسئولة»، باستثناء أنه لا يوجد ترادف في تاريخ الجنون بين المسئولية والذنب. إن المفهوم الرواقي للمسئولية - غير المباشرة (إذ إن المسئول الحقيقي، هو الأهواء) - لا يمكن أن يجعل من المجنون مذنبا، حتى ولو على المستوى «الأخلاقي» وحده. بيد أن هذا التحويل في المعنى أمر لا غنى عنه لميشيل فوكو للوصول إلى أطروحته المركزية؛ فهو لا يستهدف في نهاية المطاف العصر الكلاسيكي وإنما القرن التاسع عشر؛ حيث سترتبط معالجة الجنون - في رأيه - بالعقاب (ستنتظم السيكولوجيا، باعتبارها أداة للعلاج، حول العقاب). فالجنون المختبر في العصر الكلاسيكي بوصفه حماقة «سيصادر كله ضمن الحدس الأخلاقي» في إطار القرن التاسع عشر الوضعي، و«لن ينظر إليه إلا باعتباره مرضا».
في الواقع، لم يخترع القرن التاسع عشر العلاج المعنوي، الذي رأينا كيف تشكل ببطء طوال القرن الثامن عشر وكيف تعود جذوره القوية إلى العصور القديمة التي يتجاهلها فوكو عمدا؛ نظرا لأن استمراريتها تضر بخطابه كثيرا. وإذا اعتبرنا أن العلاج المعنوي (أو العلاج الأخلاقي) هو ألف باء الاستراتيجية الطبية للقرن التاسع عشر فيما يتعلق بمعالجة الأمراض العقلية؛ فهذا يعني تجاهل انهياره السريع، حتى قبل التصويت على قانون 1838. فلقد تلاشى العلاج المعنوي - كما سنرى - بفعل الممارسة داخل المشافي نفسها التي شهدت نشأته.
يستهل ميشيل فوكو الجزء الثالث والأخير من أطروحته بالتفكير في المعنى العميق للحوار الفلسفي، الذي كتبه ديدرو في مؤلفه «ابن شقيق رامو»، ولا سيما في تأملات ابن الأخ حين قال: «أنت تعرف أني رجل جاهل ومجنون وسفيه وكسول.» يقول فوكو: «قد يحلو لنا للوهلة الأولى أن نصنف «ابن شقيق رامو» ضمن القرابة القديمة بين المجانين والبهاليل.» ولكن فوكو يرى فيه على العكس من ذلك «نموذجا فكريا مختصرا للتاريخ [...] يرسم الخط المنكسر الذي يسير من «سفينة المختلين عقليا» إلى الكلمات الأخيرة لنيتشه، وربما إلى صراخ أرتو.» وهكذا يظهر «ابن شقيق رامو» بوصفه الشخصية الأخيرة التي يجتمع فيها الجنون واللاعقل، قبل الفصل الباثولوجي بينهما في القرن التاسع عشر. وسيرتكز خطاب فوكو، في هذا الجزء الأخير، على «إعادة رسم حركة هذا التمييز من خلال ظواهره الأنثروبولوجية الأولى»: «إن هذا الميدان غير القابل للاقتسام الذي تعينه سخرية «ابن شقيق رامو» كان من الضروري أن يأتي القرن التاسع عشر من خلال روحه الجدية؛ لكي يفك رموزه ويرسم بين ما كان غير قابل للفصل حدودا مجردة للباثولوجي.»
ومع ذلك، نعتقد أننا أوضحنا بما فيه الكفاية أن الجنون بمعناه الطبي واللاعقل بمعناه الفلسفي والأخلاقي، كان يتم التمييز بينهما بوضوح منذ أوائل العصور القديمة (ولا يوجد تقريبا أي ربط بين الجنون والخطيئة إلا في دين العبرانيين، ثم في دين المسيحيين). طالما كان التذبذب بين المعنيين، حتى في القرون الوسطى، ضربا من الاستعارة أو المجاز أو التماثل على أقصى تقدير. لم يكن هناك قط أصل مشترك (إن لم يكن على صعيد الكلمة نفسها)، ولا بالأحرى «حدود مجردة للباثولوجي».
أعلنت نهاية القرن الثامن عشر - يستطرد فوكو - أن الوقت قد حان لإجراء «تقسيم جديد» ... تشكلت «صور» ومنها انبثقت أساطير الاعتراف الموضوعي والطبي بالجنون، ولقد قادت هذه الصور إلى «الطب العقلي الوضعي». لا يمكن وصف هذه الصور من خلال حدود معرفية، وإنما من خلال هياكل معينة: في إحداها، اختلط الفضاء القديم للحجز بالفضاء الطبي. وقد حرص فوكو على أن يثبت أن منشور 1785 «ليس له قيمة كشفية ولا قيمة تتعلق بتحول في طريقة التعامل مع الجنون.» ولكننا، من جانبنا، أوضحنا على العكس من ذلك أهمية «التعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم»، في سياق حركة الإصلاح الخيرية التي بدأت في عهد لويس السادس عشر. وسنلاحظ، وهو أمر غريب، أن عبارة «العمل على شفائهم في المصحات المخصصة لهم»، على الرغم من أنها تعد أساسية وذات أهمية جوهرية، اختفت في كتابات فوكو. (فقد كتب، وهو ليس على الإطلاق الأمر نفسه: «تعليمات مطبوعة بأمر الحكومة وبتمويلها حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والتعامل معهم».)
بالنسبة إلى فوكو، «ليس الفكر الطبي هو من كسر أبواب الحجز. وإذا كانت السلطة الآن بيد الأطباء في المصحة، فإن ذلك لم يتم من خلال حق منتزع، بفضل القوة الحية لحبهم للعمل الخيري ولمساعدة الغير، أو بفضل حرصهم على الموضوعية العلمية؛ إنما تم ذلك لأن الحجز ذاته بدأ، شيئا فشيئا، يمتلك قيمة علاجية من خلال إعادة النظر في كل المواقف الاجتماعية والسياسية، وفي كل الطقوس، الخيالية أو الأخلاقية، التي كانت، منذ ما يزيد على قرن، تواجه الجنون واللاعقل.» بالاستناد إلى ما ذكره كابانيس ، يعرف فوكو بنية ثانية حاسمة: «إن الأساس في تجربة اللاعقل، هو أن الجنون كان موضوعا لذاته، أما في التجربة التي كانت في طور التكوين في نهاية القرن الثامن عشر، فإن الجنون كان مغتربا في علاقته بذاته من خلال حالته كموضوع.» يختتم فوكو هذا الفصل بقوله: «إن صفة الموضوع هذه ستفرض، منذ الوهلة الأولى، على كل فرد أعلن مستلبا.» هذه الجدلية الغريبة قادت فوكو إلى إعلان ظهور المجنون، المفعول به، في الوقت الذي كانت فيه أهم الأبحاث تنظر إليه باعتباره فاعلا (ولا سيما كما يتجلى ذلك في أعمال جلاديس سواين المبتكرة، التي سنتوقف عندها بالتأكيد لاحقا).
وأخيرا البنية الثالثة، لدى فوكو، هي حين «وجد المجنون نفسه في مواجهة المجرم.» وهكذا أصبح هذا الجنون الذي اكتسب طابعا متفردا يسائل جميع المسئولين عن النظام ويطرح قضايا ملحة، خاصة فيما يتعلق باللامسئولية في مجال القانون الجنائي. لقد كان «الإنسان الكلاسيكي» [في ظل النظام القديم] يعترف بالجنون مستندا في ذلك إلى حسه السليم وليس إلى حقوقه السياسية، أما الآن، فإن المواطن يمارس سلطة أساسية تسمح له بأن يكون في الوقت ذاته «رجل القانون» و«رجل الحكومة».
شهد هذا العصر الجديد للجنون تلاقي تجربتين، فقد بدا الجنون معروفا وواقعا تحت السيطرة في الوقت نفسه «ضمن وعي واحد، هذا ما هو موجود في قلب التجربة الوضعية للمرض العقلي.» هذا «الرابط الأساسي في الثقافة الحديثة [الذي] لم يتم إلا على مستوى الفكر [...] أصبح فيما بعد وضعا ملموسا بفضل بينيل وتوك ...» يقول فوكو في مقدمة الفصل المكرس لميلاد المارستان: «هذه الصور مألوفة لدينا.» «لقد ألفها تاريخ الطب العقلي كله، وكانت وظيفتها هي الكشف عن أسرار ذلك العصر السعيد الذي تم فيه أخيرا الاعتراف بالجنون والتعامل معه وفق حقيقة ظل الناس يتجاهلونها لمدة طويلة.» ثم يصف فوكو بإسهاب توك وبيت الخلوة «ذا ريتريت» في يورك، وبينيل وتحرير المرضى عقليا في بيستر، مظهرا في كل ذلك أن قوة هاتين القصتين إنما هي مستمدة من أشكال خيالية. فها هو يرسم لنا صورة «الشكل الأمثل للمارستان؛ مارستان لن يكون قفصا للإنسان العائد إلى وحشيته، بل ما يشبه جمهورية الحلم، حيث الروابط شفافة وفاضلة.» هذا المارستان المحرر الذي ينشده توك وبينيل هو «إعادة بناء لمجتمع استنادا إلى موضوع مطابقة أنماط معينة»؛ ومن ثم «فإنه سيؤدي حتميا إلى الشفاء.»
وسرعان ما اكتسب هذا المبحث أهمية خاصة عند فوكو، وأصبحت اليوم مترسخة في الثقافة كتيمة عالم يستقر فيه، تحت ستار القضاء الظاهري على القيود والاحتجاز، احتجاز آخر أشد غموضا وتعقيدا، ضمن نسق المكافأة والعقاب، يندرج «ضمن حركة الوعي الأخلاقي [...] إن الأمر يتعلق بالانتقال من عالم الإدانة إلى عالم المحاكمة»؛ حيث يكون إصدار الأحكام مبنيا على الأفعال وحدها. فالجنون ليس مسئولا «إلا عن ذلك الجزء المرئي من ذاته، وما تبقى يلفه الصمت. إن الجنون لا يوجد إلا ككائن ينظر إليه. فهذا القرب الذي أصبح سائدا في المارستان، والذي لن تنال منه القيود والقضبان، ليس هو من يخلق حالات النظرة المتبادلة: إنه ليس سوى جوار لنظرة تحرس وتراقب [...] إن علم الأمراض العقلية، كما قد يتطور في المارستان، لن يكون أبدا سوى نوع من الملاحظة والتصنيف، ولن يكون حوارا.» ولذا، كان لا بد من الانتظار حتى «يتخلص التحليل النفسي من ظاهرة النظرة التي كانت أساسية في مارستان القرن التاسع عشر» و«يجعل سلطات اللغة بديلا للسحر الصامت». ولكن، لنطمئن، فالتحليل النفسي لم يجد نعمة في عيني ميشيل فوكو: «سيكون صحيحا القول إن هذا العلم قد ضاعف من النظرة المطلقة لحارس الكلام القائم على المونولوج المطلق للشخص الذي يحرسه. وبذلك يتم الحفاظ على البنية المارستانية القديمة للنظرة غير المتبادلة، ولكن من خلال خلق توازن في تبادل غير تماثلي، عبر بنية جديدة للغة لا تملك جوابا.» في موضع آخر، يعود فوكو إلى فرويد والتحليل النفسي اللذين، بالتأكيد، «خلصا المريض من هذا الوجود المارستاني الذي كان قد نفاه داخله «منقذوه»»، ولكنهما استعادا الخصائص الإعجازية للطبيب وسلطات المارستان، بل وضخما منها: «نظرة مطلقة [...] صمت خالص ومكبوت [...] قاض يعاقب ويجازي ضمن محاكمة لا تصل إلى حدود اللغة.» باختصار «يظل الطبيب، باعتباره صورة مستلبة، هو مفتاح التحليل النفسي.» ولذا، فإن التحليل النفسي، ليس أكثر من الطب النفسي الوضعي، «لا يستطيع [...] ولن يستطيع [...] سماع صوت اللاعقل.» وسنعود إلى هذه المسألة حين نبلغ ضفاف مناهضة الطب النفسي.
المراقبة والمحاكمة ... هاتان هما الكلمتان الرئيستان في خطاب فوكو. توك هو النموذج الأصلي للشخصية المقدر لها أن تكون محورية في مارستان القرن التاسع عشر. لقد حلت السلطة محل القمع. شكلت مؤسستا بيستر وسالبيتريير في عهد بينيل الصورة المكملة لبيت الخلوة الذي أسسه توك. خلافا لدار توك التي تعد «بانعزاله عن العالم، فضاء للطبيعة والحقيقة المباشرة»، الدين بالنسبة لبينيل ليس ركيزة للحياة المارستانية. لقد كان المارستان «حقلا دينيا بلا دين»، أما الآن، فيجب أن يكون تجسيدا «للاستمرارية الكبيرة للأخلاق الاجتماعية». وهذا هو ما يكسب مارستان بينيل طابعا عالميا. إنه «ميدان موحد للتشريع، مكان للتأليف الأخلاقي» الذي تنظمه ثلاث وسائل تتمثل في: الصمت من جهة (وهي الفكرة التي تتلخص لدى فوكو في الاختفاء الكامل للغة المشتركة بين الجنون والعقل [؟] بينما كان هناك في الحجز الكلاسيكي «بين العقل واللاعقل حوار صامت هو في الأصل صراع»)؛ والتعرف من خلال المرآة من جهة أخرى (فالجنون، وقد تحرر من القيود التي جعلت منه موضوعا خالصا للرؤية، قد فقد - من باب المفارقة - أهم ما في حريته، فقد ما يشكل تمجيدا لعزلته، لقد أصبح الجنون مسئولا عما يعرفه عن حقيقته، لقد أغلق على نفسه في النظرة التي لا تحيل إلا على نفسها إلى ما لا نهاية. لقد ربط في النهاية إلى المهانة الكامنة في أنه موضوع في ذاته)؛ وأخيرا المحاكمة الأبدية (في المارستان، «ذلك العالم القانوني الصغير»، كل شيء كان منظما لكي يتعرف المجنون على نفسه في عالم المحاكمة هذا الذي يحيط به من كل جانب، «يجب أن يعرف أنه مراقب ومحاكم ومدان»).
تشكلت بنية أخرى متعلقة بعالم المارستانات مع «تمجيد الشخصية الطبية» (ما زال فوكو هو الذي يتحدث). «إن إنسان الطب لا يستمد سلطته في المارستان باعتباره رجل معرفة، بل باعتباره حكيما. فالمهنة الطبية مطلوبة باعتبارها ضمانة قانونية وأخلاقية، لا بوصفها علما.» وهنا يتلاقى عمل بينيل مع عمل توك، «ولكن سرعان ما انفلت معنى هذه الممارسة الأخلاقية من بين يدي الطبيب؛ نظرا لأنه كان يحتجز معرفته ضمن معايير التيار الوضعي.» «لقد أصبح الطبيب، في نظر المريض، صانعا للمعجزات. فسلطته التي كان يستمدها من النظام والأخلاق والعائلة، يبدو أنه يستمدها اليوم من ذاته [...] وهكذا، وبينما كان المصاب بمرض عقلي مستلبا كلية في الشخصية الواقعية لطبيبه، فإن الطبيب كان يكشف حقيقة المرض العقلي في المفهوم النقدي للجنون. بحيث لن يظل هناك، خارج الأشكال الفارغة للفكر الوضعي، إلا واقع واحد ملموس: الثنائي الطبيب-المريض الذي تتلخص فيه وتقام وتتلاشى كل أشكال الاستلاب.»
سوف نلاحظ كلما تقدمنا أن فوكو ينتقد بشدة وبشكل مستمر «الوضعية»، التي ترد في كتاباته كما لو أنها تهمة (وسيندد أتباعه، وما زالوا مستمرين في ذلك، ب «الوضعية المحدثة»). إذا كنا ما زلنا نذكر أن هذه الفلسفة التي أسسها أوجست كونت تدعي، ربما بسذاجة، وفقا لدلالتها الأولية، أنها تستند إلى معرفة الحقائق وحدها، وإلى التجربة العلمية، وإلى ما هو واقعي ومحدد، على النقيض مما هو وهمي ومبهم، لأمكننا أن نفهم أن الوضعية لا تستطيع أن تعوق إلا من يدعي أنه ينظر إلى التاريخ من خلال «جدول تحليلي».
مع ملاحظة أن الأمر لا يتعلق بالخاتمة، خصص ميشيل فوكو الفصل الأخير من كتابه إلى ما أسماه «الدائرة الأنثروبولوجية»؛ حيث أراد التركيز على بعض الفكر المركزية؛ أولها: حرية المجنون، المتضمنة بقوة في مفهوم الجنون نفسه، والتي ظننا «أن بوسعنا حصره ضمن بنية موضوعية»، ولكننا «لم نجن إلا سخرية التناقضات»، فنحن لم نحرر المجنون وإنما أضفينا صبغة موضوعية على مفهوم الحرية.
هناك فكرة أخرى محورية أيضا في أطروحة ميشيل فوكو، وهي تلك الفكرة المتعلقة بلغة الجنون التي أصبحت «أنثروبولوجية»؛ لأنها «لغة تستهدف في الوقت ذاته، من خلال غموض كانت تستمد منه سلطاتها المقلقة لدى العصر الحديث، حقيقة الإنسان وفقدان هذه الحقيقة، وبالتالي ، حقيقة هذه الحقيقة»، ذلك أن لغة الجنون غير الأسير تبلغ في النهاية أعماق الإنسان وتصل إلى جوهره. فخلافا لتصورنا، السبيل إلى «الإنسان الحقيقي» يمر من خلال المجنون: إن المارستان الذي «حرر المجنون من لاإنسانية قيوده، قد قيد الإنسان وحقيقته بالجنون»؛ مما جعل فوكو يقول: إنه بترك «اللغة تتابع انزلاقها في المنحدر»، يتبين لنا أن «الإنسان السيكولوجي هو سليل إنسان أسير ذهنه».
أما الفكرة الثالثة، فتتعلق بإعادة ظهور الجنون ، بعد «الصمت الكلاسيكي الطويل»، في مجال اللغة (كما رأينا مع «ابن شقيق رامو») وإحيائه للغة تمثل توهجا غنائيا، «لغة لا تظهر من خلالها الصور غير المرئية للعالم، بل الحقائق السرية للإنسان.»
وأخيرا، نجد مشروع دراسة لاحقة، ولكنها محددة المعالم بدقة؛ حيث يشكل اتساق الفكر الأنثروبولوجي الكامن مرجعا للصراعات العلمية التي نشأت في القرن التاسع عشر حول الاستلاب العقلي (لا سيما بين القائلين بالأصل العضوي للمرض وبين أولئك القائلين بالأصل النفسي للمرض). وفقا لفوكو، بدأت المفاهيم التوصيفية للشلل العام، والجنون الأخلاقي والهوس الأحادي، في إنشاء حقل التجربة الطبية النفسية، على نطاق واسع، في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لم يبال الفيلسوف بحقيقة أن هذه المصطلحات تعد من الناحية الطبية متباينة وغير متجانسة، وأن الجمع بينها ينطوي على مغالطة تاريخية؛ لأنه لا يريد أن يرى إلا ما يوجد تحت هذه الطبقة الطبية. إنه لا يريد أن يبصر هنا إلا «بنية جديدة للتجربة»، و«أنثروبولوجيا ضمنية تتكلم عن الذنب نفسه» (ها نحن نعود إلى تلك النقطة).
وهكذا نصل إلى الفكرة النهائية: «لقد كانت نهاية اللاعقل، في مكان آخر، تجسيدا لأشكال جديدة.» يود ميشيل فوكو للمرة الأخيرة أن يستسلم لسحر «تلك الصور المنسية للجنون» التي تتجلى في أعمال بوش، وجويا، ودي ساد، ونيتشه، وفان جوخ، وأرتو، إنه ليس جنونا يتسرب إلى العمل، ولكنه «ذلك الجنون الذي هو قطيعة مطلقة في العمل.» «حيلة وتفوق جديدان للجنون: فهذا العالم الذي كان يعتقد أنه يعرف حجم الجنون ويبرر وجوده من خلال السيكولوجيا، عليه الآن أن يبرر وجوده أمام الجنون، ذلك أن هذا العالم في سعيه ونقاشاته يقيس حجمه بلا محدودية عمل كعمل نيتشه وفان جوخ أو أرتو. ولا شيء داخله، وخاصة ما يمكن أن يعرفه عن الجنون، يضمن له أن أعمال الجنون هذه تبرره.» وهنا يجب أن نتساءل: عن أي مجانين وعن أي جنون يتحدث فوكو بالضبط؟ إنه لا يكف بالطبع عن الرجوع إلى تاريخ الطب النفسي، وهذا هو ما يجب أن تنصب عليه قراءتنا النقدية . بيد أن الفيلسوف يشير باستمرار إلى جنون «سابق»، إنه جنون لم تقض عليه الباثولوجيا؛ التي تعد في حد ذاتها تعبيرا عن السلطة، جنون كان يتحدث لغة اللاعقل. «في فضاء معد بهذا الشكل، لا يمكن للجنون أبدا أن يتكلم لغة اللاعقل [...] سيستوعب الجنون كلية داخل عالم الباثولوجيا. لقد اختزل القرن التاسع عشر الوضعي التجربة الكلاسيكية للاعقل في إدراك أخلاقي محض للجنون، سيكون لاحقا وبشكل خفي، نواة لكل التصورات التي سيثمنها القرن التاسع عشر باعتبارها علمية وإيجابية ومحسوسة.»
لقد أوضحنا بما فيه الكفاية استمرارية الجنون كمرض منذ أوائل العصور القديمة، وثبات التوصيف المرضي للاضطرابات العقلية الذي سرعان ما استقر (الهوس، السوداوية ...)، وعدم استيعاب العصور الوسطى للاستعارات والصور الرمزية الخاصة بالجنون، ومن ثم عدم الالتفات إلى «التجربة الكلاسيكية للحماقة» ولا إلى العبور التاريخي من مرحلة اللاعقل إلى مرحلة الجنون ذي الطابع الطبي. ومرة أخرى، ما المقصود بال «لاعقل» الذي يستدعيه ميشيل فوكو باستمرار ولكنه قلما يفسره؟ أي جنة للعقل، و«لحرية الكلام» تكمن في هذا الإطار النظري الغامض؟
الفصل الرابع
«بينيل» اسم صار علامة
وفقا لتصور غريب للتاريخ، ولكنه تصور كلاسيكي، «ظهر الرجل المعجزة ...» إذا أعدنا صياغة الجملة التي وردت على لسان لامارتين ولكن مع قلب معناها، ربما نجرؤ على القول: «إن ظهور كائن واحد، أعطى لكل شيء نبض الحياة!» هذا الرجل الذي ترك بصمة في تاريخ الطب النفسي والذي أرسلته العناية الإلهية يدعى بينيل، الطبيب فيليب بينيل. قبله، كان تاريخ الجنون محاطا بهالة من الغموض. وبعده، أو بالأحرى اعتبارا من مجيئه، بدأ تاريخ الطب النفسي. «لقد اهتم بينيل على وجه الخصوص بدراسة الأمراض العقلية، وكان له الفضل في إلغاء أساليب العلاج الوحشية التي كان يتم تطبيقها على المرضى عقليا» (قاموس روبير لأسماء الأعلام).
مثل هذا التصور سيجعلنا بالتأكيد ننظر إلى الدراسة السابقة بأكملها على أنها «قصة طريفة»، فضلا عن أن مؤرخي الطب النفسي التقليديين يتحاشون غالبا التحدث عنها. أما عن ذلك الجدال الدلالي الزائف المتعلق بالفصل بين تاريخ الجنون وتاريخ الطب النفسي ، فإن هذا سيكون من شأنه إغفال حقيقة أن مسيرة علاج المجنون، التي رأينا أنها قديمة قدم الجنون نفسه، أرست دعائم الطب النفسي. يبقى أن نبحث في الكلمة نفسها. ظهرت لفظة «طبيب نفسي» في اللغة الفرنسية في عام 1802 (وهي كلمة معاصرة على نحو ذي مغزى لبينيل)، بينما لم ترد لفظتا «الطب النفسي» و«طب عقلي» في القواميس إلا في عام 1842، وهو تاريخ يتعلق بطريقة أو بأخرى بالتنظيم المؤسسي.
سنذكر في هذا الصدد مقولة جلاديس سواين، صاحبة الأعمال التي أوضحت بشكل كبير هذا الفصل من الكتاب (والتي نحيي ذكراها الآن): «ما يجب أن يطلق عليه «ميلاد الطب النفسي» في القرن التاسع عشر بدا لأول وهلة كحدث غير متوقع غير في مسار الأحداث التالية. وبالطبع، لا نعني بهذا الحدث إنتاج أو بزوغ جذري لشيء جديد تماما، فالأمر ليس مماثلا لإنشاء خطاب ملهم طبيا حول الجنون من العدم؛ فهذا الخطاب كان موجودا قبله بكثير.»
1
رجل أفعال
لقد رأينا الطبيب فيليب بينيل يصل بتواضع إلى دار بيلوم في عام 1786. كان يبلغ من العمر آنذاك 41 عاما. وكان متحمسا في البداية للمثل الثورية، ولكنه سرعان ما انضم إلى معسكر المعتدلين في عهد الإرهاب. وقد عين، بفضل توريه، في سبتمبر 1793 في بيستر؛ حيث مكث حتى أبريل 1795. في «القطاع السابع»؛ أي في المنطقة التي تضم الحجرات المخصصة للمجانين المصابين بالهياج، كان يلاحظ، أكثر من كونه يوجه، نشاط كبير المشرفين لديه، جان باتيست بوسان. ولقد أصبح هذا الأخير فيما بعد المنفذ الحقيقي لعملية تحرير المرضى عقليا الشهيرة من قيودهم، التي نادى بها فاعلو الخير منذ عقد من الزمن. سنعود إلى هذا الحدث البارز الذي وضع ركائز الطب النفسي وصنع مجد بينيل في الوقت ذاته.
جنى بينيل ثمار تأييده لأحداث ثرميدور (التي مثلت انتفاضة في الثورة الفرنسية ضد تجاوزات عهد الإرهاب)؛ فقد عين في وظيفة أستاذ مساعد في الفيزياء الطبية وعلم الصحة بالمدرسة الجديدة للصحة في باريس، وأستاذ في الباثولوجيا الباطنية، ثم رئيس أطباء بمشفى سالبيتريير، حيث واصل مسيرته المهنية حتى وفاته. ثم توالت نجاحاته؛ فقد كان من أوائل من تقلدوا وسام الشرف، وعين بعد ذلك في معهد فرنسا في عام 1803. تعرض لوصمة عار سياسية نسبية، في عام 1822، كما تعرض لبعض المشاكل الأسرية وهما عاملان ألقيا بظلالهما الداكنة على السنوات الأخيرة من حياته، التي انتهت في عام 1826.
وهكذا وضع بينيل مؤلفاته النظرية خلال فترة عمله في مشفى سالبيتريير، وكان أول أعماله «البحث الطبي-الفلسفي» الذي صدرت منه طبعتان. ولكن دعونا نتابع المسار الطبيعي للأحداث الذي يقودنا إلى «القيود التي تمت إزالتها». منذ قدومه إلى سالبيتريير، طالب بينيل «لاقتناعه بالمزايا الثمينة للنظام الداخلي الذي وضعه المواطن بوسان، وأشرف على تطبيقه بحزم ودقة، بشأن التعامل مع المختلين عقليا في بيستر»؛ بنقل هذا الأخير إلى سالبيتريير إلا أنه حصل بصعوبة بالغة على موافقة بتنفيذ قرار النقل. يشرح بينيل سبب طلبه هذا قائلا إنه منذ تعيينه في سالبيتريير، «لم يستطع مباشرة علاج الجنون بسبب الفوضى التي كان يشهدها هذا القطاع من المؤسسة.» ومن ثم كان لا بد له أن ينتظر حتى التاسع عشر من مايو 1802 لينضم إليه أخيرا بوسان؛ مما يعد دليلا في جميع الأحوال على أن بوسان (الذي عمل بمشفى سالبيتريير حتى وافته المنية في عام 1811) كان هو الجندي الحقيقي في الميدان، ولم يخف بينيل ذلك. كان دور بوسان، «بصفته مشرفا على المجانين في بيستر»، رسميا منذ بداية الثورة. فقد أرسل خطابات عديدة إلى لجنة مسئولي الإدارة المدنية، والشرطة والمحاكم، ليسأل عما إذا كان بإمكانه - دون أن يتسبب ذلك في تعرضه لأي عواقب - السماح للمرضى بالتنزه في الأفنية «عندما لا يكونون في حالة هياج شديد».
ولقد كتب بوسان، بينما كان لا يزال في بيستر، وبالتأكيد بناء على طلب من بينيل، «ملاحظات» عظيمة الفائدة.
2
لندع جانبا الإحصائيات - التي تركز ضمن أمور أخرى على نسبة الوفيات المرتفعة - والملاحظات الكلاسيكية حول أهمية العمل والنظام الغذائي والإلهاء، للوصول إلى القضية المركزية المتعلقة بالمراقبة، واستخدام القوة والقهر، والتقييد. يشرح بوسان كيف واجه صعوبة بالغة في منع «الخدام» من ضرب المجانين. ولكنه لم يسمح للمرضى، ولا للموظفين ولا لإدارة بيستر بالتأثير عليه، أو إثنائه عما اعتزم القيام به من اتباع نهج نموذجي قائم على العمل الخيري الإنساني «الشاق». فقد كان مؤمنا بأن المراقبة النشطة تغني عن عنف القيود. «لقد نجحت في إلغاء القيود (التي كانت تستخدم للسيطرة على المصابين بالهياج) والاستعاضة عنها بأقمصة التقييد التي تسمح للمريض بالتنزه وبالاستمتاع بأكبر قدر ممكن من الحرية، من دون أن يشكل خطرا على من حوله [...] لقد أثبتت لي التجربة، وما زالت تبرهن لي يوميا، أنه لإحراز أي تقدم في شفاء هؤلاء المساكين، لا بد من التعامل معهم قدر الإمكان باللين، والسيطرة عليهم بالرفق، وعدم إساءة معاملتهم، وكسب ثقتهم، ومكافحة سبب إصابتهم بالمرض، وتوجيه نظرهم نحو مستقبل أفضل وأكثر إشراقا وسعادة. خلاصة القول: طالما كافحت هذا المرض بشكل أساسي بالعلاجات المعنوية، وإذا كان الحظ قد حالفني في تحقيق نجاح، فإن الفضل في ذلك يرجع إلى هذه الأساليب العلاجية المعنوية.»
نعود إلى الحدث المتعلق «بالقيود التي أزيلت». لقد ألغيت القيود رسميا في بيستر بعد رحيل بينيل، ويشير هو نفسه إلى هذا الحدث على أنه حادث سخيف، وهو كذلك بالفعل. فقد كان يتم دائما نزع قيود المجانين المصابين بالهياج ووضعها لهم من جديد. علاوة على ذلك، ظل التقييد بالقوة بسترة المجانين محل جدل كبير. ولكن المشكلة ليست في هذه المسألة. فما لا يرغب فاعلو الخير في سماعه قبل وبعد الثورة، هو صوت الأغلال الشنيع. لم يكن هذا الاشمئزاز المعلن ليكتفي تاريخيا بذلك التصرف الذي أقدم عليه بوسان - وهي بادرة بعيدة الاحتمال حتى بمفهومها المبالغ فيه - والذي يرمز بالأحرى إلى نهاية ممارسة سبق أن أدينت بالفعل. وبدا بينيل، باعتباره كبير الأطباء بسالبيتريير وصاحب البحث البارز، أكثر ملاءمة لمثل هذه البادرة «الإعلامية». ولقد نشر سيبيون بينيل - الابن - الأسطورة، في عام 1823، باستحضاره لذكريات مزعومة منسوبة إلى والده؛ حيث نرى بينيل يخلص المرضى عقليا واحدا تلو الآخر من قيودهم: «أيها القائد - يخاطب بينيل أحد المجانين - إذا نزعت عنك قيودك الحديدية ، وأعطيتك حرية التنزه في الفناء، أتعدني بأن تكون عاقلا وبألا تؤذي أحدا؟ أعدك، ولكنك بالتأكيد تمزح؛ فالجميع، بمن فيهم أنت، يخشونني.» وهكذا يحرر بينيل بشجاعة أول مجنون مصاب بهياج لديه، وقد كان رجلا عسكريا خطيرا، وعلاوة على ذلك، إنجليزيا. أما عن المريض عقليا الأكثر مهابة، فهو ذلك المدعو شوفنجيه، الذي ظل مكبلا بالأغلال لمدة عشر سنوات، «لم يحدث قط أن شهد أي عقل بشري مثل هذا الانقلاب المفاجئ، بمثل هذا القدر من الاكتمال. لدرجة أن الحراس أنفسهم تملكتهم دهشة بالغة وانحنوا احتراما أمام هذا المشهد الذي قدمه لهم شوفنجيه. فبمجرد أن تحرر من قيوده، صار لطيفا وخدوما، ومتنبها، ومتابعا بعينيه لجميع حركات بينيل لتنفيذ أوامره بمنتهى البراعة والسرعة.»
في عام 1849، صور شارل مولر في إحدى لوحاته، التي اشتهرت باسم «جنون هايدي» العظيم، بينيل وهو يقوم بنزع قيود المرضى عقليا في بيستر. في لوحة أخرى رسمها طوني روبرت فلوري، في عام 1878، يظهر بينيل وهو يقوم بتكرار هذه الحركة المهيبة نفسها مع المريضات العاقلات في سالبيتريير. هناك عمل فني آخر يتميز بهذا الطابع الأكاديمي نفسه، وهو ذلك التمثال المصنوع من البرونز لبينيل، والذي نجده قائما أمام المدخل الحالي لمشفى لابيتييه- سالبيتريير. عند قدمي هذا التمثال، وسط القيود المحطمة، تنظر فتاة شابة عارية الذراعين نحو بينيل بوجه يبدو عليه الشعور بالامتنان البالغ. ونقرأ على قاعدة التمثال العبارة التالية: «إلى الطبيب فيليب بينيل، المحسن إلى المرضى عقليا.»
وقد أسهم إسكيرول، من جانبه، في بناء تلك الأسطورة بالحديث عن بينيل - وفي هذا مفارقة - على النحو التالي: «ثمانون مصابا بالهوس، كانوا عادة يقيدون بالسلاسل، نزعت عنهم القيود وخضعوا لمعالجة أكثر هدوءا ونفعا، وكثيرون منهم نالوا الشفاء. لقد أعطت أفكار هذا العصر أهمية كبيرة لعملية تحرير المجانين المكبلين في بيستر.»
3 «وهنا يتجلى الدهاء الأعظم، كما كتبت جلاديس سواين، الذي من خلاله وضع البناء الأسطوري نفسه بمنأى عن التناقض؛ إذ يقدم نفسه ليس باعتباره حقيقة ثابتة ومؤكدة، وإنما باعتباره دعامة متواضعة، بل أداة عرضية، لحقيقة لا تدركها الأسطورة نفسها ولا تصرح بها على وجه التدقيق. إنه يحقر من شأنه ليستقطب بشكل أفضل [...] وهكذا تتكرر دون كلل أو ملل التفسيرات المتعلقة بمشهد الخلاص هذا الذي من المفترض أنه يكشف بشكل ما عن سر دخول الجنون في مجال الطب.»
4
رجل صاحب قلم
يعد بينيل رجلا صاحب قلم، أكثر من كونه رجلا صاحب أفعال يرفض علم التأريخ نسبتها إليه، فهو في المقام الأول عالم نظري. لقد كان بينيل يملك ثقافة كلاسيكية واسعة، فكان يعرف أبقراط، وأريتايوس، وسيلسوس، وكاليوس أوريليانوس، وجالينوس. وقد قرأ بعناية كتاب «مناقشات توسكولوم» لشيشرون، وتبنى منه النظرية الرواقية القائلة بأن الجنون مصدره الأهواء. ولقد ذاع صيته بعد صدور كتابه «التصنيف الفلسفي للأمراض العقلية» في عام 1798. ونشر في العام التاسع للثورة (1800-1801) «البحث الطبي الفلسفي عن الاستلاب العقلي، أو الهوس»، يبدأ هذا الكتاب بمقدمة طويلة تعطي لمحة عامة لا هوادة فيها عن تاريخ الاستلاب العقلي، حتى ولو أثنى بينيل على أنصار النزعة الخيرية الإنسانية، وأشاد بالدور الرائد الذي اضطلع به الإنجليز، على الرغم من أنه شدد على أن علاجهم المعنوي يجب أن يفهم وفقا لمعناه الأكثر عمومية. لا يزعم بينيل أنه أول من طور تفكيرا نظريا في إطار فلسفي. فلا ننس أن داكين قد حاول، من قلب مأوى شامبيري، اعتماد مقاربة مماثلة منذ عام 1791 في مؤلفه «فلسفة الجنون». لم يتحدث بينيل قط عن داكين، بينما أهدى إليه هذا الأخير الطبعة الثانية من كتابه، التي صدرت في عام 1804. كان هذا الصمت سببا وجيها في انتقاد بينيل، لدرجة أنه أثار جدلا في منتصف القرن التاسع عشر حول أسبقية داكين. كما لم يأت إسكيرول أيضا على ذكر داكين. فما قام به بينيل وإسكيرول في المدينة غطى على ما قام به داكين في الريف.
سلط الضوء في «البحث» على الهوس، الذي يمثل الجنون الأكثر شيوعا ولكن الأكثر قابلية للشفاء في الوقت ذاته. لا يؤمن بينيل بالأصل العضوي المباشر لأمراض الدماغ؛ مما تسبب في إثارة عداء راعيه وصديقه كابانيس (1757-1808)، الذي كان مقتنعا من جانبه بضرورة ربط دراسة الظواهر النفسية بعلم وظائف الأعضاء وليس بالأحاسيس («العلاقات التي تربط بين الجانبين المادي والمعنوي للإنسان»، 1802). يرى كابانيس أن بينيل عويص المعاني وغامض، وأنه لا يؤمن كثيرا بالفسيولوجيا: «هذا العقل الممتاز لا يجهل أن كل ما له صلة بالجانب المعنوي يوقظ أفكارا مبهمة وخاطئة.» بالنسبة إلى كابانيس، يرجع سبب الإصابة بالجنون في أغلب الأحيان إلى تهيؤ الجسم للمرض: الروابط بين ضروب الجنون والتهاب الأحشاء عند الخثلة، والآفات التي تصيب لب الدماغ أو الأجزاء المجاورة ... أما عن أنواع الجنون الفكرية البحتة، فربما تكون عدم دقة التحليل هي التي أكسبتها طابعا نظريا.
5
وهكذا وضعت أسس الجدال الكبير حول الأصل التشريحي-الباثولوجي للاستلاب العقلي. وفي هذا الصدد، يشير بينيل بالأحرى، وبصورة غامضة، إلى تلف الدماغ الناجم بفعل التواد عن اضطرابات الأحشاء الموجودة أسفل البطن (وهي الفكرة التي كانت رائجة إبان القرن الثامن عشر)، التي تسبب بدورها الانفعالات والأهواء. الطبعة الثانية من «البحث الطبي الفلسفي» (1809)، التي فقدت الجزء الثاني من عنوان الكتاب الأصلي (أو الهوس)، تميل إلى وضع تصنيف الأمراض العقلية على منحدر سلوكي؛ حيث نجد على نحو ظاهر توصيف الأمراض الذي ورد بالموسوعة: السوداوية، أو الهذيان الجزئي الموجه نحو غرض واحد، والهوس الذي يلي غالبا السوداوية ويأتي في صورة هذيان عام وأحيانا «هوس هياجي دون هذيان»، والخرف الذي يعد ضعفا ذهنيا عاما، والعته الذي يمثل «فقدانا كاملا لملكات الفهم والإدراك». بالإضافة إلى ذلك، في المقدمة المستفيضة التي كتبها بينيل في عام 1808 تمهيدا ل «الموسوعة المنهجية» (المجلد الثامن)، والتي خصصها ل «الهوس، والذهان العقلي والاستلاب العقلي، أو أنواع الخلل التي تصيب الوظائف الفكرية»؛ أضفى طابعا رسميا على استخدام مصطلح «الاستلاب العقلي»، باعتباره «مصطلحا موفقا يعبر عن شتى أنواع الاختلال الذي يصيب الفهم والإدراك.»
كل هذا لا يبدو ثوريا بما يكفي لتأسيس الطب النفسي؛ فلا بد من النظر في موضع آخر.
6
وفقا لبينيل، ينبغي أن يكون المرء طبيبا، وألا يعطي الأفضلية للعلاج على حساب الملاحظة. كما يجب أن يكون ممارسا، ولكن ليس كثيرا أيضا ، وأن يولي كذلك أهمية كبيرة لرصد المرض العقلي. بالمقابل، لا بد من أن يكون المرء فيلسوفا حقا (يستخدم بينيل في بعض الأحيان تعبير «الطب الفلسفي»، وها نحن نعود من جديد إلى داكين، الخالد المنسي). فالفلسفة يجب أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة في مجال الجنون؛ لأن منشأها الأهواء. ويذكر أن بينيل لا يتبع الرواقيين الذين يطمحون إلى اجتثاث تلك الأهواء. ويقترح من جانبه أن «توازن» بعضها البعض. كما أنه ينفصل عن القدماء، حين يريدون إحداث انقسام صارم بين النفس التي يختص بها الفيلسوف والجسم الذي يختص به الطبيب.
وهكذا يتخطى بينيل الحاجز الذي يصعب فيما وراءه - سواء من الناحية الفلسفية أو الطبية - النظر إلى المجنون على أنه شخص آخر تماما، كما لو أنه منغلق على ذاته. استبدل بينيل بالخطاب الخارجي ذي النزعة الإنسانية، معرفة إنسانية المجنون: «إنه كائن لا ينعزل عن الآخرين بقدر ما يحصن نفسه ضد ما يأتيه من الخارج. إن الأمر لا يتعلق بالانطواء على النفس، ولا باغتراب المريض عقليا عن ذاته، وإنما بحضور مفجع يتجسد في الخلل الذي يعاني منه والقلق المتواصل من الآخر. وهنا تتجلى إمكانية خلق صلة علاجية مع هذا الشخص الذي يعرف باستلابه ويدافع عن نفسه ضده. ومن هنا نشأت فكرة اتباع طريقة معالجة ترتكز بشكل تام على عنصر العلاقة بالكلام.»
7
وهكذا بإمكاننا أن نقيس من جديد إلى أي مدى نحن على طرفي نقيض من أطروحة ميشيل فوكو.
وضع هذا الانقسام النظري أسس الطب النفسي. بيد أن هيجل (1770-1831) لم ينخدع بذلك، وهو الذي كتب قائلا: «ولذا يتبنى العلاج النفسي الحقيقي بحزم وجهة النظر القائلة بأن الجنون ليس فقدانا مجردا للعقل، سواء على صعيد الذكاء أو على صعيد الإرادة والمسئولية، وإنما هو خلل بسيط، تناقض بسيط ضمن حدود العقل الذي يظل حاضرا تماما، كما أن المرض الجسدي لا يعني فقدانا مجردا؛ أي كاملا، للصحة (فقدان مماثل هنا سيعني الموت)، ولكنه تعارض ضمن حدود هذه الصحة. هذا العلاج الإنساني؛ أي الرحيم والمعقول - يستحق أن نعترف بفضل بينيل العظيم لما قدمه من خدمات في هذا الصدد - يفترض مسبقا أن المريض كائن عاقل، ويشكل هذا الاعتقاد نقطة ارتكاز أساسية للمضي قدما، كما يعتمد - من وجهة نظر النشاط الجسدي - على الحيوية، التي تتضمن داخلها الصحة» («موسوعة العلوم الفلسفية»، فلسفة العقل، 1817).
بينما يرى هيجل أن الجنون عبارة عن تناقض داخل العقل، يرى كانط (1724-1804) أنه الغياب المجرد للعقل، الذي يعزل المريض عقليا عن سائر البشر ضمن إطار جنون كامل («أنثروبولوجيا»، 1798). «لقد أعاد هيجل الجنون إلى داخل العقل، بعد أن كان كانط قد وضعه خارجه. إن «الوعي الرشيد» و«عالمه الموضوعي» حاضران في الجنون: إن نقطة البداية التي انطلق منها هيجل هي بالضبط النقطة نفسها التي انبثق منها نهج بينيل أو إسكيرول.»
8
ومن الجدير بالملاحظة أنه، في تلك السنوات، أحرز كل من شياروجي في إيطاليا، وكريشتون في إنجلترا (وهو المؤلف الوحيد الذي أثنى عليه بينيل)،
9
وراي في ألمانيا؛ تقدما مماثلا إلى حد كبير. وهذا لا ينفي حقيقة أن بينيل، كما شهد بذلك هيجل، هو «اسم صار علامة» (جي لانتري لورا). ويمكننا الرد على ذلك بأن بينيل لم يقل قط أمرا مماثلا. ولكن هذا لا يهم! «فما ظن بينيل أنه قد وضعه في كتابه، ظن عصره أيضا أنه قد عثر عليه» (جلاديس سواين).
بينيل والعلاج المعنوي
منذ عام 1799، شرح بينيل ما المقصود ب «العلاج المعنوي للمرضى عقليا»،
10
وأعاد في بحثه نصا ما سبق أن ذكره. إن تعبير «العلاج المعنوي» سبق طرحه بكل ما يتفرع عنه من بنود (وسائل معالجة معنوية، وأدوية معنوية)، ولكن الأمر في الواقع كان أشبه قليلا بفندق إسباني صغير لا يجد المرء فيه إلا ما أحضره معه. فما الذي أحضره بينيل من جانبه؟ «أظن أنني ضاعفت الأمثلة بما يكفي لأثبت أن العلاج المعنوي للهوس هو أحد الأجزاء المهمة للغاية، والأقل تقدما حتى الآن في مجال طب الملاحظة.» يتعلق هذا العلاج المعنوي بالبيئة، وبالمريض نفسه: ويعتمد على تقنية التعامل برفق وبعطف مع المريض لتشجيعه على البوح بأسراره والكشف عما في قلبه. إن المرضى عقليا «المعروفين منذ وصولهم بسرعة انفعالهم وشدة خطورتهم [...] ربما يكتسبون فجأة طبيعة مغايرة؛ لأننا نتحدث معهم بهدوء، ونتعاطف مع آلامهم ونمنحهم الأمل المعزي في أن يكون لهم مصير أكثر سعادة.» «من هذا المنطلق، قد يبدو العلاج النفسي الناشئ مرتكزا على النفاق والزيف إذا لم يتضمن المبدأ الذي يقوم عليه الطب النفسي، والمتمثل في إعطاء المريض الفرصة، عن طريق الإصغاء إليه والتعاطف معه؛ لاستعادة كرامته كإنسان معترف به من جديد وتقديره لذاته [...] أما عن «الأمل في مصير أكثر سعادة»، فيعد المحرك لهذه العلاقة العلاجية ولكنه شرك لها في الوقت نفسه. في الواقع، هذا الأمل هو ما يمنح الإنسان الإيمان بالشفاء، ويتيح هذا التحول الذي يتبنى المريض من خلاله نظام معتقدات المعالج [...] ولكنه يمثل أيضا فخا يمكن أن ينزلق فيه هذا الأخير في لعبة من الإغراءات النرجسية التي قد تؤدي به إلى الانزواء» (جاك بوستيل).
ولكن هنا أيضا، ربما نبالغ في الحديث عن دور بينيل في مجال «العلاج النفسي». فهو، بداية، ليس الأول ولا الوحيد، الذي اعترف بتأثير الروح والنفسية في علاج الأمراض، ولا سيما الجنون بأشكاله المختلفة. بالإضافة إلى أنه لم يأت بجديد فيما يتعلق بضرورة التعامل بهدوء، ورفق، وتفاهم، والاهتمام بما نطلق عليه اليوم «الإصغاء». وبما أن بينيل - ذلك العالم النظري - هو من أعاد فرضا إلى المختل عقليا وضعه وكرامته كشخص، فقد أصبح الحوار مع هذا الأخير، وليس «الاستماع إليه» فحسب، ممكنا. وأصبح عقل الطبيب قادرا على الدخول في علاقة مع عقل المريض عقليا، المختل والمتناقض (بالمعنى الهيجلي)، و«الحاضر بشكل ما». للقيام بذلك، تمرن بينيل - كما يروي في الطبعة الأولى من «بحثه» - على إخضاع المريض لعلاج نفسي خالص، بالبحث عن السبب السيكولوجي (الإعلال النفسي) للهذيان بعد «رؤية الأمور من منظور المريض عقليا». وهكذا كان العلاج المعنوي في ذلك الوقت في أوج ازدهاره؛ لأن الأمر لم يكن يتعلق فقط بنصح المريض وإقناعه منطقيا، وإنما أيضا بالتفكير بعقلانية معه، من داخل هذيانه.
نذكر على سبيل المثال حالة ذلك الخياط المصاب بالسوداوية، الذي استحوذ عليه منذ الثورة هاجس الخوف من أن يعدم بالمقصلة. كان هذا الخياط قد قاوم كل أساليب العلاج وأصابته حالة من الوهن والإعياء الشديد. وكان يقضي وقته راقدا على أرضية زنزانته، منتظرا باستمرار جلاديه. وهنا فكر بينيل، على حد تعبيره، في «حيلة» تمثلت في عرض مسرحية كوميدية على هذا المريض بالسوداوية، أجريت خلالها محاكمة ثورية زائفة؛ حيث عملت هيئة المحكمة على استجوابه مطولا لتبرئته على نحو أفضل، مع إلزامه بالمكوث لمدة ستة أشهر أخرى في بيستر «ليمارس بها مهنته من أجل خدمة المرضى عقليا». ترك هذا العرض أثرا عميقا في نفس المريض ولكنه لم يشفه، لا على الفور، ولا فيما بعد (خاصة بعد أن قيل له إن الأمر كله كان مزحة). حتى لو أخذنا في الاعتبار الكشف غير الحكيم للحيلة، لبدا منذ تلك التجربة الأولى أن الخدعة، التي ذكرها من قبل بعض السابقين (نتذكر أمبرواز باريه والخدعة المماثلة التي لجأ إليها باستخدام الضفادع)، لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود، ذلك أن تبني منطق الهذيان وإقراره في الوقت نفسه لا يؤديان إلا إلى ترسيخ الجنون لدى المريض. وقد اعترف بينيل بهذه الحقيقة في ختام الطبعة الأولى من «بحثه» قائلا: «لقد نظرت منذ ذلك الحين إلى حالته باعتبارها غير قابلة للشفاء.» ولكنه في الطبعة الثانية، أخفى فشله حرفيا، بل وحوله إلى شبه نجاح (استعاد المريض عقليا، بعد «صحوة إدراكية»، عمله وقد وجد فيه «متعة جديدة»). في هذا الإغفال المتعمد، الذي يلاحظه ويعلق عليه جاك بوستيل، هناك «اعتراف لا واع بحدود العلاج المعنوي : حيث أصبحت العناصر المتمثلة في الانشغال النشط، والعمل الإجباري، ونظم المعيشة و«اللائحة الداخلية المنظمة» لمؤسسة الرعاية؛ تشكل جوهر هذه «الوسائل المعنوية» التي نادى بها طبيب مشفى سالبيتريير. ولم يعد هناك وجود لعلاج يخاطب «ما تبقى من عقل» المريض المصاب بالجنون.»
11
لم يتبق من علاج بينيل المعنوي إلا السلطة؛ وهي النقطة التي يركز عليها بينيل، في كتاباته، أكثر من تركيزه على الحوار مع المختل عقليا و«البقية الباقية من عقله»، فيشدد على سلطة الطبيب الذي سرعان ما سيطلق عليه، على نحو ذي مغزى، طبيب الأمراض العقلية. يجب أن يقوم هذا الأخير، فيما يخص المهووسين، ب «كسر إرادتهم في الوقت المناسب وترويضهم [...] عن طريق وسيلة تبث الرعب في قلوبهم لإقناعهم بأنهم لا يملكون حرية اتباع رغبتهم الجامحة؛ ومن ثم، لا سبيل أمامهم إلا الخضوع.»
12
كتب بينيل هذا الكلام في عام 1794، بينما كان لا يزال في بيستر ولكنه، فيما بعد، لم يقل ما يخالف ذلك: «يرتكز هذا العلاج، إذا جاز التعبير، على فن إخضاع وترويض المريض عقليا، وذلك بجعله تابعا بشكل أساسي لرجل مؤهل، بصفاته الجسدية والأخلاقية، وبتطبيقه المتواصل لمبادئ النزعة الإنسانية الخيرية في أنقى صورها، للسيطرة عليه بشكل لا يقاوم ولتغيير سلسلة الأفكار التي تستحوذ عليه.»
ها هو مريض عقليا «منهار»، بسبب الإطاحة بالمذهب الكاثوليكي في فرنسا إبان الثورة، وخائر القوى منذ ثلاثة أشهر. إنه يرفض تناول أي طعام حتى ولو كان القليل من ذلك «المرق اللذيذ» الذي يقدمونه إليه؛ مما حدا بالطبيب، الذي يطلق عليه بينيل «المدير» قاصدا من وراء ذلك مغزى معينا، إلى التحدث إليه «بصوت مدو» (ذكر هذا التعبير أكثر من مرة في كتابات بينيل)، ثم قام بتجميع كل الأشخاص القائمين بالخدمة وهدد بأنه سيستخدم معه الوسائل الأكثر تطرفا. أربكت هذه النبرة الحازمة المجنون وأرعبته، فعزم إذن على تناول القليل من الطعام. وبدأ يستعيد شيئا فشيئا قواه وينتظم في نومه. وصار في طريقه نحو الشفاء. وهكذا تغلبت على إرادته (السيئة) إرادة «المدير» (الطيبة).
ولكن إلى أي مدى ينبغي المضي في «زعزعة مخيلة المريض عقليا من خلال زرع الشعور بالخوف الشديد داخله»؟ يجيب بينيل قائلا إنه لا بد من «ترهيب المريض عقليا، ولكن مع عدم السماح مطلقا باللجوء إلى العنف.» ويشدد بينيل كثيرا على هذا التحفظ قائلا إنه يجب التعامل «بحزم جريء وصارم خال من أي إهانة أو تعد.» وأوضح بينيل أنه ضد الحمامات المفاجئة، على أن تستخدم فقط «في الحالات القصوى والأكثر خطورة.» ومع ذلك، أتاحت لنا الطبعة الثانية من «البحث» قياس المسافة التي تفصل بين النظرية والتطبيق بشكل أفضل. فقد شكلت الحمامات في مشفى سالبيتريير «الركيزة الأساسية في علاج المصابين بالهوس والسوداوية»؛ حيث كان يتم، «خلال جزء كبير من النهار»، استخدام اثني عشر مغطسا مغطى بغطاء من قماش الكتان المتين لا يظهر منه إلا الرأس؛ مما يسمح بالحفاظ على الحشمة والسيطرة على المريض في الوقت عينه. ويمكن الدمج أحيانا بين حمامات المياه الساخنة أو الباردة والرشاش، الذي قد يصبح سيلا من الماء المثلج. هذا هو «دش القمع»: «حيث كانت تغمر رأس المريض عقليا فجأة بالماء البارد لإجباره على الالتزام بالنظام [...] كانت هذه الحمامات، التي تعد إحدى وسائل القمع، تكفي غالبا لإخضاع إحدى المريضات عقليا للقانون العام للعمل اليدوي، وللتغلب على رفض إحداهن العنيد لتناول الطعام، ولترويض المريضات عقليا اللائي تستحوذ عليهن حالة مزاجية مضطربة وواعية. وهكذا كنا نستغل فرصة وجود المريضة بالمغطس لأخذ حمام، ونذكرها بخطأ ارتكبته أو بواجب مهم أخلت به، ثم نقوم بواسطة الصنبور بترك تيار الماء البارد يتدفق فجأة على رأسها؛ مما يكون من شأنه غالبا إرباك المريضة عقليا أو إبعاد فكرة مسيطرة عن ذهنها، بفعل التأثير القوي وغير المتوقع. وإذا أصرت المريضة على التشبث بهذه الفكرة المستحوذة على عقلها، نقوم بتكرار الدش، ولكن يجب أن نتجنب بعناية استخدام لهجة قاسية أو ألفاظ صادمة قد تدعو إلى التمرد والثورة، بل على العكس من ذلك، نجعلها تسمع أن هذا لصالحها وأننا مضطرون - ببالغ الأسف - إلى اللجوء إلى هذه الإجراءات العنيفة، ونمزج كلامنا أحيانا بالدعابة، مع الحرص على عدم المبالغة فيها. فإذا تراجعت المريضة عن عنادها، يتم حينئذ إيقاف هذا القمع على الفور، وتتبعه لهجة رقيقة تنم عن عطف ومحبة.» جاء هذا الكلام على لسان بينيل الذي أضاف قائلا: إن هذه الوسيلة كانت «شائعة للغاية في المصحة.»
هذا هو التناقض الفكري الكامن في مفهوم العلاج المعنوي لدى بينيل الذي يتوجه عصره باعتباره أبا للطب النفسي. وهو ليس في حقيقة الأمر تناقضا بقدر ما هو تحول ينطوي على مفارقة؛ فالأمر لا يتعلق بالعلاج المعنوي المجرد، العلاج المعنوي الفلسفي كما يعرفه هيجل، وإنما العلاج المعنوي المتوافق مع الواقع اليومي القاسي داخل المارستان والذي يظل، حتى وإن أراد التجديد، مارستانا. وهو ما شرحه بينيل نفسه، بأسلوب لا يخلو من التواضع، منذ صدور الطبعة الأولى من «بحثه»: «إن ارتياد مصحات المجانين هو السبيل الوحيد لإعطائنا فكرة عن صعوبات الخدمة: مشاعر تقزز ونفور تنشأ باستمرار يجب إخفاؤها، مخاطر يتم التعرض لها، صراخ متواصل وألفاظ مقذعة تتردد على المسامع، وغالبا أعمال عنف مرفوضة نسعى إلى السيطرة عليها.»
الفصل الخامس
إسكيرول ونشأة مصحة الأمراض
العقلية
ولد جان إيتيان دومينيك إسكيرول في تولوز عام 1772، وهو التاسع في أسرة مكونة من عشرة أطفال. وقد نذر نفسه في البداية للحياة الكنسية، ولكن الثورة قطعت دعوته، فشرع في دراسة الطب في عام 1792. وعين مفتشا للصحة إبان الحروب التي شنتها الثورة وحكومة الإدارة (الديركتوار)، واستأنف دراساته الطبية في مونبلييه، قبل أن يبدأ مسيرته المهنية في باريس عام 1799، حيث انضم إلى العمل في خدمة كورفيزار في المشفى الخيري، كما عمل مع بينيل في مشفى سالبيتريير. وناقش في عام 1805 أطروحته بعنوان: «الأهواء كأسباب وأعراض ووسائل علاجية للاختلال العقلي». ها هو يبلغ من العمر نحو 34 عاما ولم يعد مبتدئا، بل أكثر من تلميذ، إنه معاون بينيل. حين توفي بوسان في عام 1811، عين إسكيرول طبيبا مشرفا على قسم المريضات عقليا في سالبيتريير، ثم أصبح في العام التالي طبيبا خاصا للقسم نفسه.
سنكتفي هنا بهذا القدر من سيرته الذاتية حتى نتعرف بشكل أفضل على المرحلة الهامة، في ميلاد الطب النفسي، التي تمثلها أطروحة إسكيرول. في كتاب «ممارسة العقل البشري»، يشدد كل من مارسيل جوشيه وجلاديس سواين
1
بحق على أن: «إسكيرول كتب بعد تأسيس «المبادئ التي وضعها البحث حول الهوس»، ولكنه كتب أيضا قبل التحول الحاسم لتمثيل سبل ووسائل العلاج المعنوي، الذي نجم تدريجيا وفرضته تجربة المشفى الكبير، والذي انتهي بحمله إلى سالبيتريير.» أي بعد تأسيس حقل طبي نفسي وفق تعريف بينيل وقبل إيجاد حل مؤسسي.
أهواء ...
رفيق درب بينيل في تبنيه لمنظور قابلية الجنون للشفاء، وهو من أكمل الطبعة الأولى من بحثه عن العلاج المعنوي، إنه إسكيرول الذي كتب «بحوثا عملية» ترتكز على الممارسة التطبيقية. لقد أراد تناول الاستلاب العقلي «بوصفه أحد مواضيع الطب السريري.» ومن الجدير بالذكر أن إسكيرول افتتح عام 1817 في سالبيتريير محاضرة سريرية في الطب العقلي، توافد على حضورها طلاب العلم. كان إسكيرول أيضا قارئا لكتابات القدماء وبخاصة الفلاسفة الرواقيون، وأراد أن يجعل من نظرية الأهواء «طريقة جديدة لوضع الجنون في قلب الموضوع البشري.»
2
فالأهواء تشكل الحدث الأولي للاستلاب العقلي. ولمعرفة الجنون، لا بد من الرجوع إلى أصول الخلل؛ «بحيث يصبح مضمون الهذيان الأكثر استحواذا قابلا، على الأقل جزئيا، لأن يفك شفرته ويحلل رموزه أولئك الذين يعرفون كيف يكشفون لعبة العلاقات والروابط وما يترتب عليها من آثار.»
كما هي الحال بالنسبة إلى بينيل، يعد الهوس (الذي يمثل دوما الجنون بامتياز) «حالة عصبية بحتة». فلا توجد أي آفة عضوية، ومن هنا تتجلى ملاءمة العلاج المعنوي. ومع ذلك، يعد إسكيرول وبينيل «من أنصار النظرية العضوية»، على غرار عصرهما. «الأهواء تنتمي إلى الحياة العضوية، ويشعر الإنسان بانطباعاتها في المنطقة الشرسوفية أسفل المعدة، وسواء أكان ذلك بشكل أساسي أم ثانوي، يكمن مستقرها هناك.» في الجدال الكبير حول الأصل التشريحي الباثولوجي للجنون، انتصر علماء التشريح (أو «مؤيدو النظرية العضوية»): فقد شكلت أعمال جال ركيزة أولية للمذهب التشريحي. فرانز جال (1758-1828) - طبيب من فيينا - هو مؤسس علم فراسة الدماغ، وهو علم جديد يقوم على أساس أن الدماغ يتألف من أجهزة خاصة بقدر ما يوجد من ميول ونزعات، ومشاعر وملكات عند الفرد. وبناء على ذلك، فإن أشكال الجمجمة، التي يفترض تطابقها بشكل وثيق مع محتواها، تتيح، من خلال إجراء قياسات معقدة ودقيقة (نطلق عليها عملية «تنظير القحف»)، «قراءة شخصية الفرد» (ومن هنا جاء تعبير «لديه نتوء ...» بمعنى لديه موهبة). وهكذا عكف أطباء الأمراض العقلية على البحث عن نتوء الجنون (وهو ما جرى ربما فيما بعد بشأن البحث عن النتوء المسئول عن الجريمة، كما تجلى ذلك من خلال المجموعة المثيرة للاهتمام المحفوظة بكلية الصيدلة بكاين، التي تضم قوالب جماجم لأشخاص أعدموا بالمقصلة). ولقد عملت السلطات في فيينا، في مطلع القرن التاسع عشر، على الحيلولة دون انتشار «معتقد الدماغ» هذا؛ لأنها كانت ترى أن هذه النظرية قد تؤدي إلى «تقويض أسس الدين ونشر المادية.» ولكن، بمساعدة سبورزهايم (1776-1832)، تمكن جال، الذي استقر في باريس، من نشر أطروحته بشأن المراكز الدماغية المرتبطة بالوظائف المختلفة. وتشارك كل من جيوم فيريس، وفيليكس فوازن (1794-1872) - عضو مؤسس بجمعية فراسة الدماغ - وفرانسوا بروسيه (1772-1838)؛ الافتتان نفسه بهذا المذهب.
ولقد نشر بروسيه في عام 1828، قبل أن يصبح من أنصار علم فراسة الدماغ، كتابا بعنوان «التهيج والجنون»، يرتكز على مذهب فسيولوجي مفاده أن الجنون ينشأ عن التهاب في الدماغ وفي أغشيته؛ تارة لأسباب معنوية، وتارة لأسباب «سمبثاوية (أو ودية)» منتشرة بفعل التواد والتأثر بإصابة عضو آخر؛ لأن «الدماغ لا يعاني أبدا وحده»؛ مما يبرر نظرية الخثلة (في حالة «تهيج الجهاز الهضمي»). وقد حذا حذوه كل من سيبيون بينيل، وألكساندر بريير دي بواسمون (1797-1881)، مؤلف أطروحة مهمة نشرت في عام 1845 بعنوان «هلاوس».
بيد أن تفرد «الشلل العام»،
3
ذلك التناذر المرضي الذي يدخل ضمن دائرة اختصاص الطب النفسي العصبي، هو ما أدي فيما بعد - على وجه الخصوص - إلى تأييد نظرية الأصل العضوي للأمراض العقلية. كتبت شهادة ميلاد الشلل العام في عام 1822، تحت اسم «التهاب العنكبوتية المزمن»، في الأطروحة التي دافع عنها أنطوان لوران بايل (1799-1858)، تلميذ أنطوان أثاناز رواييه كولار، في شارنتون. «أكون قد حققت الهدف الذي أصبو إليه إذا استطعت أن أثبت في هذا الجزء من عملي أن التهاب العنكبوتية المزمن موجود بالفعل، وأنه سبب الإصابة بالاختلال العقلي المترافق بأعراض.» في دراسة جديدة نشرها عام 1826، اختزل بايل بشكل أساسي أعراض التهاب العنكبوتية المزمن في الإصابة بشلل عام غير مكتمل وخرف يتميز في المقام الأول بجنون العظمة. وبينما كان إسكيرول وإيتيان جان جورجيه لا يزالان يدافعان في سالبيتريير عن نظرية الثنائية (الشلل والخرف مقترنان ولكنهما يشكلان مرضين مختلفين)، أقر بايل وكالميل في شارنتون، وبارشاب في سان يون، تصورا أحاديا (فالشلل والخرف ليسا سوى مرض واحد). وهكذا، أصبح «الخرف المصحوب بشلل» أو «الشلل العام» معزولا. ولو لم يسارع أنصار النظرية العضوية إلى الاستحواذ عليه ليجعلوا منه النموذج المثالي للمرض العقلي العضوي، لأمكننا إضافته إلى قائمة توصيف الأمراض النفسية التي كانت آنذاك قيد الإعداد. فلأول مرة، عثر على آفات محددة في الدماغ!
بعد مورو دي تور (1804-1884)، الذي كان يعد الجنون «آفة عصبية بحتة وبسيطة»، انتصر، ولمدة طويلة، مؤيدو النظرية القائلة بأن الإصابة بالجنون ترجع إلى سبب عضوي بالضرورة؛ مما يعني أن «الوظيفيين»، المعارضين للعقيدة القائمة على النظرية العضوية، هم قلة قليلة. نذكر من بينهم لوريه وآرشامبو. نشر هذا الأخير عام 1840 - فيما كان يتردد على القسم الذي يعمل به إسكيرول - الترجمة الفرنسية للبحث الذي كتبه إيليس الإنجليزي.
4
تكمن أهمية هذه الترجمة في أنها مزودة بهوامش عديدة لإسكيرول وآرشامبو. وقد انتهى إيليس أيضا إلى أن الاستلاب العقلي مرجعه آفة تسبب التهابا في المخ. وهكذا جلب عليه هذا التأييد الحاسم للنظرية العضوية عداء مترجمه.
في عام 1820، نشر إيتيان جورجيه (1795-1828) - وهو تلميذ قديم لإسكيرول - مؤلفا صنع شهرته بعنوان «الجنون: تأملات في هذا المرض، ومقره، وأعراضه ...» حيث سعى أيضا إلى «تحديد مقر» الجنون. اقترح جورجيه - محاولا تجاوز الخلاف بين علماء التشريح (أنصار نظرية الأصل العضوي للمرض)، والوظيفيين (أنصار نظرية الأصل النفسي للمرض) - فصل الجنون إلى حقلين مختلفين: فمن جهة، هناك الاضطرابات العقلية المصحوبة بأعراض، والناشئة عن سبب عضوي معروف، والتي تعد نتيجة «غير مباشرة وودية»؛ ومن جهة أخرى، هناك «اعتلال مجهول السبب يصيب الدماغ»، وهو ذو طبيعة غير معروفة ولكنها «مباشرة وجوهرية» [بمعنى أنها ليست عرضا لعلة أخرى].
على أي حال، كما أوضح جوشيه وسواين، لا يمكن «القول إن أطباء الأمراض العقلية الأوائل توصلوا إلى تعريف «نفسي» بحت للاضطراب العقلي، بالمعنى الذي نفهمه اليوم.»
5
ولم يبين إسكيرول، مثله مثل بينيل، «الخصوصية المطلقة للحدث الباثولوجي النفسي.»
6
ومن ثم، سيكون بوسعنا الحديث عن «الطب النفسي المعنوي».
بيد أن إسكيرول ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه بينيل. «إننا لم نسع يوما لمعرفة الوضع المعنوي والفكري للمريض عقليا: لقد افترضنا أنه؛ بما أن قواه العقلية متضررة، فليس بإمكانها أبدا العمل بحرية. أفلا يوجد، في أشد الآلام قسوة، فترات هدوء، بل ومتعة؟ [...] إذا كانت الإصابات الجسدية تتخللها أوقات راحة، فلم لا تتخلل الإصابات المعنوية فترات خمود؟»
هذا هو ما يعيدنا إلى العلاج المعنوي، الذي يفتح لنا بالتأكيد بوابة سحرية تقودنا نحو طب نفسي في طور النشأة. نجد لدى إسكيرول، في سنة 1805، علاجا معنويا لا يزال ممكنا بالمعنى الهيجلي (أو إذا أردنا القول: بالمعنى البينيلي؛ نظرا لأن هيجل نسب كل شيء إلى بينيل)؛ لأن المريض عقليا يعقل الأمور بطريقة ما (يمكن أن يتصرف بعقلانية)، وهنا يأتي دور الطبيب. ومع ذلك، في نوع من الجدلية الذاتية التي تنطوي على شيء من التشويه، يرد إسكيرول على نفسه قائلا: «إذا بدا لنا العلاج المعنوي عديم الفائدة ووهميا، فهذا يعني أننا لم نفهم جوهره الحقيقي. فهو لا يقتصر أبدا على مواساة وتعزية المرضى عقليا، وزيادة شجاعتهم، وقمع هياجهم وغضبهم، والتفكير بعقلانية معهم، ومكافحة انحرافات مخيلتهم. ولم ندع قط شفاءهم عن طريق التحاجج معهم؛ إذ إن مثل هذا الادعاء أثبتت التجربة اليومية عدم صحته: فهل تخضع الأهواء للمنطق العقلاني؟» إنه لتفكير رهيب، له عواقب وخيمة تتجلى في ذلك المسعى الذي ينطوي، مرة أخرى، على تلك المجازفة الخطيرة المتمثلة في الانتقال من المسلمات إلى التطبيق. إن المسيرة المهنية لإسكيرول هي التي صنعت هذه الهوة، فها هو يتحول من إسكيرول المدافع عن أطروحته حول «الأهواء» ... إلى ذلك الإسكيرول صاحب الفكر المؤسسي، الذي نشر في عام 1838 كتابا من جزأين يضم مؤلفاته السابقة بعنوان «الأمراض العقلية وما يتعلق بها من روابط طبية، وصحية، وطبية شرعية»؛ حيث لم يرد بهذا المؤلف الجامع - على نحو ذي مغزى - أي ذكر لأطروحة 1805.
المصحة: أداة للشفاء
لنترك إسكيرول في بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر (1810) في سالبيتريير، ولنذهب إلى عام 1817 تقريبا، الذي بدأ فيه في استقبال بعض المريضات عقليا نظير دفع مبالغ مالية في مسكنه الكائن بشارع بوفون. ولقد تزايد عليه الطلب لدرجة أنه أنشأ في عام 1827 مشفى على قطعة أرض شاسعة في إيفري. في عام 1825، شغل منصب كبير أطباء البيت الملكي في شارنتون إثر وفاة رواييه كولار، الذي كان يشغله طيلة 20 عاما (ويذكر أنه كان قد نذر نفسه أيضا للحياة الكنسية). وكان رواييه كولار قد رشح في عام 1819، لتولي كرسي الأستاذية في قسم الباثولوجيا النفسية، الذي كان قد أنشئ حديثا في كلية الطب (محاضرات حول الأمراض العقلية من جهة علاجها الخاص، والطب الشرعي والصحة العامة). ثم خلفه إسكيرول، الذي كان عضوا بأكاديمية الطب منذ 1820. فقد كانت مكانته تؤهله لهذا المنصب. يعد مشفى شارنتون الجديد المكان الأمثل - أكثر من بيستر أو سالبيتريير - لتطبيق الطرق العلاجية المعنوية؛ حيث يتعين «على الطبيب المتخصص في فن المداواة الاستعانة بالفلسفة والتعامل بأكبر قدر من الإنسانية والحنو» (منشور الأول من نيفوز، العام السادس). لم يكن يقبل في شارنتون سوى المرضى عقليا القابلين للشفاء، مع تحديد مدة العلاج، على غرار المشفى الرئيس، بالنسبة إلى المعوزين (شهرين في المشفى الرئيس، وثلاثة إلى ستة أشهر في شارنتون) قبل نقلهم إلى بيوت الإيواء المخصصة للميئوس من شفائهم. أما المرضى عقليا الذين كانوا يدفعون نفقة إقامة فكان بإمكانهم البقاء.
قبل تعيينه في شارنتون، جذب إسكيرول انتباه السلطات العامة بتقريره - بشأن «المؤسسات المخصصة للمختلين عقليا في فرنسا وسبل تطويرها» - الذي قدمه إلى وزير الداخلية في عام 1818، والذي سرعان ما أصبح سببا في شهرته بعد أن نشر، في العام نفسه، في «قاموس العلوم الطبية».
7
وهذه المرة، ارتكز التقرير على البحث الميداني. «لقد جبت جميع مدن فرنسا لزيارة المؤسسات المحتجز بها المرضى عقليا.» ها قد مر ثلاثون عاما على بداية الثورة، وما زال محضر المعاينة سلبيا تماما. فعدد المؤسسات المخصصة حصريا للمرضى عقليا وحدهم قليل جدا. وكان المرضى يتركون داخل هذه المؤسسات بلا رعاية: «هؤلاء التعساء الذين يعانون أبشع أنواع الشقاء الإنساني، تساء معاملتهم أكثر من المجرمين، ويحط من قدرهم حتى يصلوا إلى مرتبة أسوأ من مرتبة الحيوانات. لقد رأيتهم عرايا، أو مغطين بالخرق، لا يحميهم من برد الأرضية الرطبة التي يرقدون عليها إلا غطاء من القش. رأيتهم يطعمون بمنتهى الغلظة والخشونة. رأيتهم محرومين من الهواء الذي يتنفسونه، ومن الماء الذي يروي عطشهم، ومن الأشياء التي لا غنى عنها للحياة. رأيتهم وقد سلموا إلى سجانين حقيقيين وتركوا تحت رحمتهم يعانون من مراقبتهم الوحشية. رأيتهم في أكواخ ضيقة قذرة كريهة لا يدخلها الهواء أو الضوء، وقد قيدوا بالسلاسل في أوجار لا يمكن أن تحتجز داخلها الوحوش الضارية التي تتكفل الحكومات المرفهة بدفع مصاريف كبيرة لرعايتها في العواصم. هذا ما رأيته تقريبا في جميع أرجاء فرنسا، وتلك هي الطريقة التي يعامل بها المرضى عقليا تقريبا في جميع أنحاء أوروبا.»
في عودة قاسية ومباغتة إلى الخلف، تتلاقى صيحة الإنذار هذه مع غضب أنصار النزعة الإنسانية الخيرية؛ حيث نستعيد شناعة الأغلال التي لم تختف على الرغم من البادرة التي قام بها بينيل: «كانت السلاسل قيد الاستخدام تقريبا في كل مكان»، ويرجع السبب في ذلك، من بين أمور أخرى، إلى «أن استخدام قميص التقييد كان مكلفا.» «كان المرضى يوثقون بأطواق حديدية، وأحزمة حديدية، وقيود حديدية حول القدمين واليدين. في إحدى المدن التي أخشى ذكر اسمها، قيد المصابون بالهياج بطوق حديدي موصول بسلسلة طويلة طولها قدم ونصف، مثبتة بدورها إلى وسط الأرضية، وقد أكدوا لي أن تلك هي الوسيلة الأكثر أمانا لتهدئة المهتاج. في تولوز، وفي قاعة مسقوفة تضم نحو عشرين سريرا، علقت إلى الجدران وفوق كل سرير سلسلة تحمل حزاما من حديد؛ حيث كان المرضى عقليا يربطون في الحزام الحديدي، عند صعودهم إلى أسرتهم، فيتم تقييدهم أثناء الليل.» يتجسد بامتياز نموذج المريض عقليا المكبل بالأغلال في شخص نوريس، في بدلام، الذي انتشرت صوره في أماكن كثيرة في أوروبا، والذي وجدناه ماثلا في تلك اللوحة التي نقشها تارديو، ووردت في «أطلس اللوحات» المرفق بكتاب «الأمراض العقلية ...» يصف إسكيرول نوريس على النحو التالي: «تمت السيطرة على هذا البائس بوضع أطواق حول رقبته ورجليه، وقيد جذعه بحزام حديدي أوثقت إليه اليدان. وكان الطوق والحزام ينزلقان، بواسطة حلقة ملحومة بسلسلة طولها عشر بوصات، على طول قضيب حديدي مثبت عموديا إلى السقف والأرضية. لم يكن هذا المسكين يستطيع التمدد على سريره وعاش هكذا طيلة تسعة أعوام.»
قلة قليلة فقط من الدور لم ينصب عليها غضب إسكيرول، باستثناء ثماني مؤسسات متخصصة؛ ذلك أنها كانت تستقبل حصريا مرضى عقليا (أرمنتيير، وأفينيون، وبوردو، وشارنتون، وليل، ومارسيليا، وماريفيل بالقرب من نانسي، وسان ميان بالقرب من رين)، وأيضا لأن «تلك المؤسسات تعد، على حالتها هذه، أفضل من دور أخرى سأتحدث عنها فيما بعد» (ومع ذلك، أشار إسكيرول إلى المختلين عقليا والمصابين بالهياج في مؤسستي ماريفيل وأرمنتيير، الذين كان يجري احتجازهم في سراديب). في الطبعة الصادرة عام 1838، حدث إسكيرول البيان الصارم الذي أصدره قبل عشرين عاما وأضاف إليه مزيدا من التفاصيل. مما لا شك فيه أن الصورة باتت تبدو أقل قتامة، ولكن تظل هناك حاجة لإجراء تطوير شبه شامل، ولا سيما في المصحة وفقا لتصور إسكيرول: «مشفى المجانين هو أداة للشفاء، بين يدي طبيب ماهر، وهو يمثل العامل العلاجي الأشد تأثيرا في مقاومة الأمراض العقلية.» بيد أن هذا التصريح النظري، الذي تم الاستشهاد به مرارا واعتباره بمنزلة بيان تأسيسي للطب النفسي المؤسسي، لا يعد مجددا إلى هذا الحد. فعلينا أن نتذكر في الواقع أن تونون قد عبر عن المعنى نفسه، منذ عام 1788 (حين قال: إن مشافي المجانين «تقوم بذاتها بوظيفة العلاج»)، مرددا من جانبه ما سبق أن ورد في «تعليمات» 1785 بشأن «كيفية التحكم في المختلين عقليا».
كيف تصبح المصحة في حد ذاتها «أداة للشفاء»؟ وكيف يستعيد العلاج المعنوي مكانته في ظل هذه المسلمة المدهشة مبدئيا؟ يشدد إسكيرول دائما على مبدأ العزلة، وهو مبدأ مركزي في رأيه، بل لقد خصص له بحثا قرأه في المعهد عام 1832. «عزل المرضى عقليا [بمعنى حجزهم] يقوم على إنقاذ المختل عقليا من جميع عاداته وحمايته منها؛ بإبعاده عن الأماكن التي يسكن فيها، وبفصله عن عائلته وأصدقائه وخدامه، وبإحاطته بغرباء، وبتغيير نمط حياته بالكامل. يهدف العزل إلى تغيير الاتجاه المنحرف للذكاء ولعواطف المرضى عقليا: تلك هي الوسيلة الأكثر فعالية، وعادة الأكثر فائدة، لمكافحة الأمراض العقلية.» وللقيام بذلك، أين نجد مكانا أفضل من المصحة، تلك المصحة المؤسسية الجديدة التي ستساهم - بمظاهرها اليومية - في تحقيق هذا الهدف العلاجي؟
سيترك المريض عقليا مجتمعا ممرضا ليلتحق بمجتمع نموذجي، حكيم، منظم وقادر على محو الجنون. لقد أرادت الثورة تغيير الإنسان، أما المصحة فتغير المجنون. كما كتب جوشيه وسواين،
8 «المريض عقليا يمثل الإنسان الذي ينبغي تغييره» ببراعة، وهكذا تصبح المصحة بمنزلة مختبر سياسي. يجري روبرت أوين - وهو مصلح اجتماعي واشتراكي بريطاني - هذه المقاربة قائلا: يتعين أن نحكم المجتمع (المريض) بقوانينه غير الرشيدة، ونعالجه بالطريقة نفسها التي يعالج بها الطبيب المرضى عقليا ويحكمهم (في المشافي الأفضل من حيث التنظيم) («الثورة في عقل الجنس البشري وممارسته»، 1849).
9
كتب آرشامبو - رئيس أطباء مشفى ماريفيل - في عام 1842: «لترتيب فكر المرضى عقليا، لا بد من زرع النظام والترتيب حولهم.»
العزلة والنظام ... قاعدتان ارتكزت عليهما معالجة المريض عقليا حتى ظهور هذه الجملة التي كتبها بوشيه، تلميذ إسكيرول المقرب، في «الحولية الطبية النفسية» الصادرة عام 1849، بشأن «العمل المفروض على المرضى عقليا»: «يجب أن تختفي الفردية الاجتماعية لتذوب في الحياة المشتركة [...] أي أن تطبق نفس مبادئ الشيوعية على النظام الذي يخضع له المرضى عقليا. ففي أغلب الأحيان، لا يكون المرض إلا نتيجة للفردانية المفرطة؛ ولذا يكمن علاجه في الاتجاه المعاكس.»
ومن ثم، أصبح المريض عقليا جزءا من كل أكثر من كونه فردا مستقلا بذاته. ومن هذا المنطلق، أصبح العلاج المعنوي كما يعرفه إسكيرول، من الآن فصاعدا، مختلفا عن ذلك العلاج الذي تصوره في أطروحته بعنوان «الأهواء» ... وبشكل أقل من أي وقت مضى، لم تعد مسألة الحوار مع المختل قائمة: «لقد ظننا أن العلاج المعنوي المطبق على المصابين بالهوس يقتضي التفكير بعقلانية، والتحاجج معهم: هذا وهم؛ فالمهووسون لا يستطيعون السيطرة على انتباههم بما يكفي ليتمكنوا من الإصغاء ومتابعة الاستدلالات المنطقية التي نعرضها عليهم.» لقد رأينا من قبل أن هذا القيد كان قد بدأ بالفعل في أطروحة 1805، ولكنه سيبلغ من الآن فصاعدا ذروته: «لا بد من أن يمتلك المرء شيئا من المهارة العقلية وخبرة كبيرة ليستطيع فهم الفروق الدقيقة اللانهائية التي يطرحها تطبيق العلاج المعنوي، وتحديد مدى ملاءمة هذا التطبيق. ففي بعض الأحيان، يتعين اللجوء إلى التضليل في مراحل الشفاء الأكثر استعصاء من أجل التغلب عليها، وذلك من خلال الإيحاء إلى المرضى بعاطفة أشد من تلك التي تسيطر على عقلهم، واستبدال خوف حقيقي بخوف وهمي. وفي أحيان أخرى، ينبغي كسب ثقة المرضى، وتقوية شجاعتهم الواهنة، عن طريق بث الأمل في قلوبهم. لا بد من تطبيق الطريقة التي تحدث اضطرابا، ومقاومة التشنج بالتشنج، وإحداث هزات معنوية من شأنها تبديد السحب التي تغطي الذكاء، وتمزيق الحجاب الذي يفصل بين العالم الخارجي والإنسان، وكسر السلسلة المفرغة للأفكار، ووضع حد لعادة التداعيات السيئة وتدمير ثباتها المحبط، وإبطال السحر الذي يبقي كل القوى الفاعلة للمريض عقليا في حالة تعطل.» باختصار، «يدخل في نطاق العلاج المعنوي كل ما يمكن أن يؤثر على الدماغ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ويغير إنساننا المفكر، وكل ما من شأنه السيطرة على الأهواء وتوجيهها.»
في هذا الصدد، يشير إسكيرول، مثل بينيل، إلى الترهيب والتخويف، ولكن ذلك الخوف المعتدل الذي يخفف من شدته، إذا جاز التعبير، اللطف. «بالرغم من أن هؤلاء المرضى وقحون ومتهورون، فإنه يسهل ترويعهم. للخوف سلطان كبير عليهم، لدرجة أنهم يصبحون خجولين ومرتجفين وخاضعين أمام الأشخاص الذين يعرفون كيف يسيطرون عليهم [...] ولكن يجب ألا يصل هذا الشعور إلى حد الرعب.» يتابع إسكيرول قائلا إن قلة قليلة شفيت. ينبغي استعمال الخوف، على أنه أيضا «أداة للشفاء»، بحكمة ومهارة، ومن هنا تتجلى أهمية توافر «صفات معينة جسدية، وفكرية وأخلاقية» في من يقتربون من المرضى ويقومون برعايتهم وعلاجهم. وهكذا قد تساهم «الهزات المعنوية والانفعالات القوية وغير المتوقعة» في شفاء المصابين بالهوس. «إذا كان القمع ضروريا، فلتمارسوه من دون احتداد، أو وحشية، وإلا فلن يرى مريض الهوس في سلوككم إلا الغضب.» ويضيف إسكيرول أن الطبيب يجب ألا يقوم بزرع الخوف مباشرة في نفس المريض، وإنما يتولى مساعدوه ذلك؛ إذ يجب أن يظل هو «مواسيا» بحيث يجمع بين الطيبة والحزم ويكون محط احترام وتقدير المرضى.
ها هي مريضة بالهوس (من جراء مآسي الثورة) متعجرفة للغاية ومستعدة دائما لضرب الآخرين. يكفي إلباسها مرتين قميص التقييد «لمدة ساعة واحدة فقط وإشعارها بما تنطوي عليه مثل هذه المعالجة من مهانة ومذلة.» وكما هي الحال عند بينيل، يعد الماء البارد «عاملا علاجيا فعالا»؛ إذ إن له «مفعولا جسديا» و«تأثيرا معنويا» في الوقت ذاته «باعتباره وسيلة قمع». «معظم المرضى في طور النقاهة يقولون بشكل عام إنهم شهدوا تحسنا بعد استعمال الماء البارد. بل إن بعض المصابين بالهوس يطلبونه، ولكن يجب عدم الإفراط في استخدامه.»
كان هذا النوع من العلاج المعنوي الجماعي قد أصبح بالفعل ضرورة حتمية في المصحات الكبرى، التي جعلت من المستحيل «فعليا» تطبيق أي نوع من العلاج الفردي. وأصبح إسكيرول مؤيدا لهذا الأسلوب العلاجي، ولا سيما بعد استقراره في شارنتون. فبينما كان يريد فيما مضى «تحديد الحجم الأمثل للمؤسسات على أساس إمكانية عيش الطبيب داخلها وسط المجانين وبقائه على مقربة منهم»، ها هو قد أصبح «نموذجا أوليا للطبيب العقلي الذي يعرف ويوجه عن بعد، ولا يتعامل مع المرضى، في الحالة القصوى، إلا عبر أجهزة المؤسسة التي ينظمها ويديرها ويسيطر على كل شبر فيها.»
10
وهكذا ولدت مع إسكيرول شخصية طبيب الأمراض العقلية، الذي يضطلع في الوقت ذاته بدور المدير الإداري، والطبيب، وكبير المشرفين.
وهكذا بدأت تتضح معالم المؤسسة العلاجية، على الرغم من أنها لم تكن قد نشأت بعد؛ حيث سيتعلم المريض تدريجيا، بعد أن انتزع من دائرة الوحدة التي يفرضها عليه جنونه، كيف يندمج من جديد وسط الآخرين داخل المصحة. ولكن أي آخرين؟ إن مجتمع المصحة ليس مثل المجتمع باختصار. أما عن قابلية الجنون للشفاء، فإن الآمال العريضة التي رسمها بينيل وإسكيرول في تصورهما المبدئي، قبل عام 1810، تبددت ليحل محلها صمت حذر. وهنا تتجلى قمة التناقض بين «الانقسام البينيلي» و«تجسيده المؤسسي»؛
11
حيث اصطدمت قابلية الشفاء النظرية بقابلية الشفاء الفعلية. في عام 1816، وفي أحد التقارير الختامية، أشار بينيل، الذي كان قد ذكر قبل عدة أعوام مضت أن هناك حالة شفاء واحدة من بين كل حالتي دخول إلى مشفى سالبيتريير، إلى «خطورة حالات الخلل العقلي وتواترها الفريد وعدم قابليتها للشفاء على الإطلاق.» أما إسكيرول، فلم يتطرق إلى هذا الموضوع إلا فيما يخص شارنتون، التي أقر بأن نسب الشفاء فيها مقابل حالات الدخول بلغت 1 إلى 3 في الفترة من 1826 إلى 1833. وإذا استبعدنا من حسابنا مرضى الشلل العام والبلهاء والمصابين بالصرع - أي الميئوس من شفائهم - سنجد أن النسبة تبلغ 1 إلى 2,33، وفيما يتعلق بالإحصائيات الإطرائية المقدمة في صورة جداول لا تشوبها شائبة يعد إسكيرول، هنا أيضا، رائدا. فضلا عن ذلك، أنب إسكيرول زملاءه الذين «يحتقرون الإحصاء؛ لأن الناس يسيئون استعماله» (بالفعل؟) أما عن أولئك الذين يتذرعون بعدم دقته - يضيف إسكيرول على نحو غامض - فهم ينسون أن طبيب الأمراض العقلية، الذي يعتبر بحكم التعريف فوق الشبهات، يتعين أن يكون أيضا خبيرا إحصائيا.
التحول النهائي للعلاج المعنوي
في عام 1828، شرع بيتر سولومون تاونسند - طبيب من نيويورك - مثل العديد من زملائه في زيارة المشافي الباريسية، وخاصة مشافي المجانين. وفي هذا النصف الأول من القرن التاسع عشر، أصبحت باريس قبلة الطب. وقد كتب تاونسند، وكان يبلغ من العمر آنذاك 32 عاما، تحقيقا صحفيا مفصلا للغاية ونابضا بالحيوية عن هذا التحول.
12
حين وصل إلى مدينة لو هافر في الرابع والعشرين من ديسمبر 1827، ذهب على الفور لزيارة المشفى الرئيس بالمدينة. لم يكن القسم الخاص بالمختلين عقليا يؤوي إلا اثنين من المصابين بالهوس. كانت غرفتاهما مريحتين ولكن أحدهما كان مقيدا «قليلا». في الواقع، لم يكن المجانين يتركون هناك إلا بصفة مؤقتة ريثما ينقلون إلى مشفى الأمراض العقلية بروان، التي زارها مسافرنا، وهو في طريقه إلى باريس. ولقد التقى أولا بالطبيب فلوبير (والد جوستاف) - وهو طبيب مشهور كان يشغل منصب رئيس الجراحين بالمشفى الرئيس - قبل ذهابه إلى مشفى المجانين بسان يون، الذي كان يديره في ذلك الوقت الطبيب فوفيل، والذي كان يحتجز 250 مختلا عقليا (ولكنه يمكن أن يسع حتى 400). بدا كل شيء في نظر تاونسند مثاليا ربما باستثناء الغرف (الحجيرات) التي وجدها ضيقة للغاية. ولقد كانت الحمامات شائعة هناك أيضا؛ حيث كان المرضى عقليا يستلقون لمدة ساعتين في الماء الساخن، بينما يظل كيس من الثلج زنة أربعة أرطال موضوعا على رءوسهم باستمرار طوال فترة الحمام. ولقد صرح الدكتور تاونسند بأنه كان شاهدا بنفسه على «التأثير المهدئ» لهذا الأسلوب العلاجي. وكانت وسيلة الردع المستخدمة في هذه المصحة عبارة عن أنبوب رش قوي يجري تسليطه على أي مريض عقليا معاند. وأبدى تاونسند ملحوظة مخيبة للآمال مفادها أن هذه الوسيلة تعد طريقة غريبة للغاية لضبط الأهواء والمشاعر، حتى ولو كانت متبعة أيضا في إنجلترا وفي الآونة الأخيرة في الولايات المتحدة.
ولكن ها هو طبيبنا الأمريكي في باريس يزور المشافي الكبرى، والسوربون والمسارح. ويتابع زيارات كل من دوبويتران إلى مشفى باريس الرئيس وبروسيه إلى فال دو جراس. في الخامس من مارس، ها هو في مشفى سالبيتريير منذ السابعة صباحا. هدفه الأساسي مقابلة باريزيه، خليفة بينيل، الذي يتولى مسئولية 800 مريض عقليا من بين الستة الآلاف مريض المقيمين بالمشفى. بدت له القطاعات المختلفة بالمشفى مجهزة جيدا، بيد أن التدفئة لم تكن كافية. وهنا أيضا، بدا دش العقاب بالنسبة إليه موضع شك، ولكن لحسن الحظ كان يستعاض عن هذا الإجراء في بعض الأحيان بالاستخدام الحديث لسترة المجانين المصنوعة من القماش المتين، التي تقيد الذراعين من دون إعاقة حرية الحركة والتنقل. وفي الرابع والعشرين من شهر مارس، قام بزيارة جديدة إلى المشفى، وكان لا يزال برفقة باريزيه، الذي ربطته به علاقة صداقة؛ إذ كان هذا الأخير يصطحبه معه في حفلات العشاء الباريسية التي يحضرها. ونتيجة لذلك، أخذ تاونسند يجزل الثناء على الخدمة المقدمة للمرضى عقليا ويشيد بالطريقة التي استطاع بها باريزيه أن يحمل الشعلة التي أضاءها بينيل. فما من قيود، وهناك تغذية جيدة، وملبس جيد، وتدفئة جيدة (؟) أما عن وسائل الإخضاع، فلم يتبق منها إلا «تلك السترة الرائعة المسماة قميص التقييد» (ولقد ذكر هذه الكلمة الأخيرة
camisole
باللغة الفرنسية في النص). ولم يشر على الإطلاق إلى أي علاج معنوي.
وهكذا لم يبق على خلفاء إسكيرول المباشرين إلا توجيه الضربة القاضية لهذا العلاج المعنوي المتلون الشبيه بالحرباء، والذي كان في النزع الأخير. أوضح جورجيه أن العلاج المعنوي ينحصر في اتجاهين هما: الاتجاه السلبي الجماعي عبر العزل في المصحة، والاتجاه النشط الفردي (المتمثل في «التعليم الطبي» المباشر للمريض)، وهو الاتجاه الذي يفضله. بيد أن جورجيه يشدد، بعد إسكيرول، على ضرورة وجود سلطة طبية مطلقة، لكونها تشكل مبدأ أساسيا في العلاج المعنوي. «يجب أن يكون التحكم بالمجانين مطلقا. ويجب أن يرجع القرار النهائي في جميع المسائل إلى الطبيب [...] فإذا كانت هناك أكثر من جهة تتنافس على السلطة وتتنازع على النفوذ، فلن يحدث توافق إلا نادرا؛ مما سيجعل المناخ مهيأ لاندلاع عصيان من جانب طرف أو آخر.»
ولكن فرانسوا لوريه (1797-1851) - وهو أيضا تلميذ لإسكيرول، وكان يشغل منصب كبير الأطباء بمشفى بيستر منذ عام 1836 - هو الذي دفع العلاج المعنوي إلى أقصى حدود المنطق. يفسر لوريه ذلك في كتابه «العلاج المعنوي للجنون» (1840) قائلا: «أقصد بالعلاج المعنوي للجنون، الاستخدام المعتدل لجميع الوسائل التي تؤثر مباشرة على عقل وعواطف المرضى عقليا [...] لقد دأبت على جعل الفكر غير العقلانية شاقة ومضنية، لكي يبذل المريض جهدا فيطردها، وحرصت دائما على طرح فكر أخرى، متوافقة مع المنطق والتفكير السليم، وعملت على إضفاء طابع من الجاذبية والمتعة عليها.» يجب أن يكون العلاج المعنوي «بالغ التأثير؛ لأن المرضى عقليا معرضون للوقوع في الخطأ.» ولكن، ما المقصود ب «بالغ التأثير»؟ في عام 1837، لم يكن عمر الدكتور بليني إيرل - وهو طبيب أمراض عقلية من نيويورك - يتجاوز الثامنة والعشرين حين شرع في القيام بجولة تثقيفية في أوروبا لزيارة مشافي المجانين الرئيسة. في ربيع 1838، ذهب إلى باريس وزار مشفى بيستر تحت قيادة الطبيب لوريه. «لقد أراني القاعة المخصصة للحمامات، وشرح لي كيف تستخدم لفرض نظام عقلي وأخلاقي وجدته مضرا [مؤذيا].» حيث كان يوضع المرضى عقليا في مغاطس يغطيها لوح لا يظهر منه إلا الرأس. وعند صدور الأمر من الطبيب، يندفع تيار قوي من الماء المثلج ليتدفق على رأس المريض. يدعي أحد هؤلاء المرضى أنه زوج دوقة بيري. في اليوم السابق، أذنا له بالكتابة، بشرط ألا يأتي على ذكر «سخافاته المعتادة»، وهو ما فعله على أي حال. أمسك دكتور لوريه بالخطاب موضوع الخلاف في يده وسأل المريض عقليا عما إذا كان لا يزال يصدق هذه الترهات. «نعم، سيدي» (ورد هذا الرد باللغة الفرنسية في النص). «أعطوه إذن حماما»، هكذا أمر الطبيب. «أخذ المريض يصرخ ويتلوى متوسلا لكي نتوقف، وبالفعل توقفنا، وسألناه عما إذا كان لا يزال يصدق أنه الصديق الحميم لشارل العاشر، «نعم، أنا هو بالفعل»، إذن «أعطوه حماما».» وأخذ المشهد يتكرر بحذافيره لمدة نصف ساعة، حتى اقتنع المريض عقليا بأن الإجابة الصحيحة هي «كلا»، بالتأكيد، فهو ليس زوج دوقة بيري كما أنه لا يعرف شارل العاشر. واتبع النهج نفسه مع مريض عقليا آخر لم يكن يريد أن يعمل. وهذه المرة، دش واحد كان كافيا، بعده صاح المريض قائلا: «أريد أن أعمل! أريد أن أعمل!» صدم الطبيب الأمريكي من هذه الطريقة المتبعة، التي وجد أنها ليست أفضل من استخدام القيود، التي حرر منها بينيل المرضى عقليا.
13
لقد سبق أن رأينا إسكيرول وبينيل يستخدمان الدش كوسيلة عقابية، ولكن لوريه هو الذي سينصب عليه غضب المجتمع الطبي. فسيؤخذ عليه قسوته إزاء المرضى عقليا، و«أسلوب الترهيب الذي يتبعه في التعامل معهم [...] والذي ينتزع به من المريض - إذا جاز التعبير - طاقة وقوة جبارة، وإنكارا قسريا لأفكاره» (لجنة الأكاديمية الملكية للطب، 1838). وسيستاء الناس على وجه الخصوص من قيامه بسرد تجاربه بصراحة ممزوجة بتهكم لاذع وبسخرية مؤلمة. «من لا يعلم ما هو الدش؟ كل من يستحم في البحر لا بد من أن يكون قد اغتسل بالرشاش ومرر الدش فوق رأسه. إنه لأمر بالغ التأثير، ومن الصعب تحمله. ولكن، إذا كنا لا نخشى التعرض له عند الاستحمام في البحر، حيث نذهب عادة للشفاء من مرض أقل خطورة، فلم لا نقبل التعرض له إذا كان الأمر يتعلق باستعادة العقل؟ لقد كان الدش بالكاد مؤلما قبل أن يدخل في نطاق العلاج المعنوي، ولم يتحول إلى وسيلة تعذيب وحشية إلا مؤخرا، وفي الكتابات التي نشرت ضدي. ولقد سبق أن استخدمه بنجاح كل من بينيل وإسكيرول - حتى لا نتحدث إلا عن الموتى - ونجده في جميع مؤسسات المرضى عقليا سواء العامة أو الخاصة التي أنشئت وفقا لأفكار هذين العالمين الاختصاصيين في الطب النفسي. وهكذا فإن ما استعنت به، سبق أن استعان به أسلافي.» علاوة على ذلك، أراد لوريه «تقييم الآثار المترتبة على استخدام الدش»، فجربه على نفسه وكذلك على مساعديه. «إن الدش يجمد الدماغ ويعيق التنفس. ومع ذلك، استطعنا جميعا تحمله لعدة ثوان.»
وأخيرا، أألقينا باللوم على لوريه لقيامه بالوشاية؟ ألم يحسب أن المريض عقليا بإمكانه الاجتماع برئيس الأطباء لمدة تتراوح، تبعا لحجم المؤسسة، ما بين 18 و37 دقيقة سنويا؟ فكيف يمكن إذن، في ظل هذه الظروف، ادعاء تطبيق علاج معنوي فردي؟ لقد اتهمناه على أي حال بأنه يريد «تجريد بينيل من واحد من أعظم إنجازاته العلمية» (د. بلانش، «خطورة القسوة البدنية في معالجة الجنون»، 1839). بيد أن لوريه يدافع عن نفسه قائلا: «لقد اعتقد الناس، أو تظاهروا بالاعتقاد بأن العلاج المعنوي يتمثل بالنسبة إلي في التعامل بقسوة وهمجية، وشن هجوم عنيف على مشاعر وأهواء المختلين عقليا، وإخضاع هؤلاء المرضى لنظم جسدية صارمة؛ أي باختصار اتباع أسلوب الترهيب والترويع.» كلا، يجيب لوريه. يشكل الألم، في حقيقة الأمر، جزءا من المعالجة، ولكن ليس دائما وليس مع جميع المرضى. «تكمن فائدة الألم بالنسبة إلى المرضى عقليا، كما في المسار الطبيعي للحياة، في التعليم.» «فبين الأطفال والمرضى عقليا، هناك العديد من أوجه التشابه.»
قبل ذلك بستة أعوام، كتب لوريه في مؤلفه «شظايا سيكولوجية حول الجنون » (1834) ما يلي: «لا تستخدموا أساليب المواساة والتعزية؛ لأنها غير مجدية. لا تلجئوا إلى الاستدلالات المنطقية؛ لأنها غير مقنعة. لا تظهروا حزنا عند التعامل مع المصابين بالسوداوية؛ لأن حزنكم سيؤجج حزنهم. ولا تشيعوا جوا من المرح والسعادة؛ لأن ذلك سيجرحهم. وتحلوا بقدر كبير من الثبات ورباطة الجأش، بل والصرامة، عند الضرورة. ولتكن حكمتكم نموذجا لهم في السلوك. ما زال هناك وتر واحد يهتز لديهم، وهو وتر الألم، فليكن لديكم ما يكفي من الشجاعة للمسه.»
أيتعلق الأمر بانحراف العلاج المعنوي أم ببلوغه أقصى حدود المنطق؟ كما يوضح جاك بوستيل،
14
إن زوال التكيف الاستفزازي الذي مارسه لوريه جعل منه رائدا معترفا به في مجال أساليب المعالجة السلوكية الأنجلوساكسونية (العلاج السلوكي). ولكن، ما جلب عليه في الواقع العداء الصريح الذي أعلنه أطباء الأمراض العقلية في عصره، بقيادة مورو دي تور، زميله في بيستر، «هو أن، العلاج المعنوي الذي نادى به لوريه، كان يندرج، على الرغم من تجاوزاته، في إطار علاقة سببية نفسية مرتبطة بالمرض العقلي، ويتعارض بالتالي مع خطاب طب النفس والأعصاب المتعلق بالنظرية العضوية، والذي كان بصدد غزو مجال الطب النفسي. ولم يكن بإمكانه أن يفعل ذلك، للأسف، إلا من خلال إعادة تجسيد علاقة العنف المتطرف، بصورة صريحة وواضحة بين الطبيب النفسي والمجنون، والتي سيحاول الخطاب الرسمي الجديد إخفاءها بعناية تحت ستار الحيادية «العلمية» الظاهرية للموقف التشريحي-الإكلينيكي. بطريقة ما، حجة «النزعة الإنسانية الخيرية» أخلت الساحة لحجة «النزعة العلمية الطبية»، وبقي لوريه وحيدا بين هاتين الحجتين.»
15
وهكذا لن يتبقى على الساحة إلا شارل لازيج (1816-1883) - فيلسوف ثم طبيب - لمعارضة النظرية العضوية النفسية والإبقاء على مسار العلاج المعنوي. ولقد أقر بالفعالية المحدودة للعلاج الجماعي (الذي أطلق عليه اسما جذابا وهو العلاج «الإداري»)، واعتزم أن يعيد إلى «العلاج الفردي» النشط قيمته ومكانته العلاجية. فيجب عدم «إزالة الداء مثلما يفعل مبضع الجراح» (وفي هذا إشارة إلى لوريه)، بل ينبغي العثور داخل المريض نفسه على «مبدأ الشفاء».
16
على طرفي نقيض من الحمى التصنيفية التي اجتاحت عصره (وهي التي سنتوقف عندها لاحقا)، يرى لازيج أن ما يعد بالأحرى أكثر أهمية الآن، بدلا من التنويع اللانهائي للجنون، هو الانشغال ب «درجة العقل» لدى المرضى عقليا من خلال تصنيفهم «بحسب نسبة العقل الإجمالية الثابتة.» ولقد طرح للمناقشة أيضا مسألة شخصية الطبيب نفسه، التي يثير تنوعها، في رأيه، مشاكل متعددة باختلاف المرضى. أهي معرفة مسبقة بنقلة عكسية انفلت زمامها لدى لوريه؟ «من المؤكد أنه كان على الطريق الصحيح»، هكذا يختتم جاك بوستيل كلامه مذكرا بأن لازيج - بتوجيه مسيرته المهنية نحو الطب الشرعي (سيشغل لمدة 23 عاما منصب «طبيب الأمراض العقلية بقسم الشرطة»، «المشفى الخاص» المستقبلي) - لم تكن أمامه فرصة كبيرة لانتهاج سبيل المعالجة النفسية، الذي كان قد تنبأ به جيدا.
الجزء الخامس
العصر الذهبي للطب العقلي
الفصل الأول
قانون 1838 الخاص بالمرضى عقليا
بينما كانت ملامح الطب النفسي تتشكل، ظل الجنون والقدرة على السيطرة عليه من الأمور القائمة على أرض الواقع، بينما تزايدت الهوة أكثر من أي وقت مضى بين النظرية والتطبيق. لقد رأينا أن الثورة أجلت المسألة إلى أجل غير مسمى، وأهملت معالجة الوضع الحرج الذي وصلت إليه الأمور. ومع ذلك، فإن أحدا لم يعد النظر في اعتقال المرضى عقليا، على الرغم من أن هذا الاعتقال لا يرتكز على أي أساس قانوني أو إداري. وهكذا ظهرت معضلة جديدة، نابعة من التأكيد لمذهب قابلية الجنون للشفاء: ينبغي منع المرضى عقليا من إحداث ضرر (بما في ذلك لأنفسهم)، ولكن لا بد أيضا من معالجتهم، وأن يتم ذلك داخل المؤسسة نفسها. وقد شجب تقرير صادر عن الإمبراطورية هذا الوضع بوضوح: «من الصعب جدا أن نحدد ما إذا كان يجب اعتبار مؤسسات المختلين عقليا دور احتجاز أم بالأحرى بيوت إيواء؛ إذ إن وظيفة هذه المؤسسات تقتضي من جهة احتجاز الأفراد الذين يضرون ربما المجتمع، ومن جهة أخرى، توفير سبل الشفاء للأفراد المرضى.»
1
في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، برزت هذه الفجوة المؤسسية من خلال ذلك الصراع الذي بدأ يتفاقم بين السلطات: السلطة القضائية، والسلطة الإدارية التي كانت مهمتها تتمثل - من القائد العام للشرطة إبان عصر التنوير إلى المحافظ في عهد الإمبراطورية - في تنظيم كل ما يمس الحياة العامة (بالنسبة إلى المجنون ما يتعلق بالسلامة العامة أو بالمساعدة)، وأخيرا السلطة الطبية، التي أرضت غرور القضاء بإعطائه سلطة تقرير متى يكون المرء مجنونا، ومتى لا يكون كذلك. وإذا أضفنا، إلى هذا الخلط بين السلطات، التعثر المالي المتوطن الذي يؤثر بالسلب دائما على المساعدة - بما في ذلك مساعدة المرضى عقليا - فسنفهم سبب تأخر صدور تشريع بشأن المرضى عقليا. ولكن ما أهمية إصدار قانون مماثل؟
تقييم الوضع
ينبغي أن نتساءل كيف كان الوضع في نهاية عهد الإمبراطورية وإبان عصر عودة الملكية. يكفي القول إنه لم يكن ممتازا. ففي عام 1818، أجري تقييم شامل، ونشرت نتائجه في «التقرير المرفوع إلى الملك بشأن وضع المأوى، والأطفال اللقطاء، والمرضى عقليا، والتسول والسجون» على النحو التالي: «من بين جميع الإعاقات التي تصيب الإنسان، يأتي الاستلاب العقلي في المرتبة الأولى التي تستحق أكبر قدر من الاهتمام؛ نظرا لأنه يحرم الإنسان من جميع ملكاته، كما أنه يصيب جميع الأعمار، وشتى الطبقات، في مختلف الظروف. ومع ذلك، لم نوله إلا أقل القليل من الاهتمام في مجال تقديم المساعدات [...] ولم تطل التحسينات الكبيرة التي أدخلت على نظام المشافي إلا القليل من الأماكن المخصصة للمرضى عقليا.» ومرة أخرى، تمت الإشارة إلى إنجلترا التي أصبحت مثلا يحتذى به في هذا المجال. «لا يمكن لفرنسا أن تظل في الخلف.» تلا ذلك بيان بخصوص «احتجاز المرضى عقليا»: ورد فيه أن عددهم يتراوح ما بين ثمانية إلى تسعة آلاف، وهم موزعون على 24 مأوى ومشفى، و15 مستودع تسول (وهناك العديد من الحالات التي لم تسجل؛ لأن الجميع لم يقم بإرسال البيانات المطلوبة لهذه الدراسة الاستقصائية)، بالإضافة إلى عدد غير محدد من دور الإيواء الصغيرة والسجون. وإذا أضفنا إلى ذلك المؤسسات الخاصة، التي لم يذكر بشأنها أي شيء، فسنجد تقريبا الانتثار نفسه لأماكن الاحتجاز الموروث من النظام القديم. كانت شارنتون، التي لم تخل من الانتقادات، تضم من 430 إلى 440 «مختلا»، أما مؤسستا سالبيتريير وبيستر، اللتان أدخلت عليهما «تحسينات كبيرة»، فكانتا تضمان 1200 و550 مختلا عقليا. وهكذا كانت المؤسسات الثلاث الكبرى في باريس تضم وحدها 43٪ من إجمالي المرضى عقليا المحتجزين في فرنسا. ومن بين المصحات السبع التي خصصت في الأقاليم للمرضى عقليا، يعد أهمها مشفى ماريفيل، الواقع بالقرب من نانسي، والذي بلغ عدد المحتجزين به 250 شخصا. وفي عام 1814، تأسس مشفى ماريفيل باعتباره «مشفى مركزيا للمرضى عقليا» في المقاطعات التالية: مورت، وأردين، ومارن العليا، وموز، وفوج، وموزيل، والراين السفلى، وسون العليا ودو. بيد أن المستودعات ودور الإيواء هي التي كانت على وجه الخصوص موضع انتقاد في تقرير 1818: «في كل مكان تقريبا، كان المختلون عقليا يشغلون المباني النائية الأكثر انعزالا، والأقدم، والأشد رطوبة، والأقذر. وكانت الزنازين، التي يطلق عليها حجيرات، بلا تهوية، وضيقة، وذات أرضية مبلطة بالحجارة كالشوارع. كما كانت توجد غالبا في مستوى أكثر انخفاضا من سطح الأرض، وفي بعض الأحيان داخل أنفاق تحت الأرض أشبه بالسراديب. ولم تكن هذه المساكن تشتمل عادة على أي فتحات باستثناء الباب وثقب مربع أعلى الباب نفسه، ولم يكن الهواء يتجدد داخلها، كما لم يكن النظام والطعام ملائمين على الإطلاق لحالة المرضى. لم يكن المرضى عقليا يملكون المساحة اللازمة للتنزه. وكان يتم دائما احتجاز مرضى الهياج العصبي؛ حيث كان هؤلاء الأشقياء يتركون في كثير من الأحيان فريسة لنزوات القائمين بالخدمة وقسوتهم.»
في عام 1809، صدر تقرير عن دار إيواء لا بروفيدانس (العناية الإلهية) بسومور يكشف - على الرغم من أنه يعطي الإيحاء بالرضا الذاتي للمؤسسة عن أدائها - واقعا لاشعوريا لهذا الوضع المحزن: فها هي حجرات المختلين عقليا، التي قيل عنها إنها «صحية للغاية»، منحوتة في الصخر. «كذلك الحال بالنسبة إلى الغرفة المشتركة التي ليست سوى كهف ضخم يؤوي فقيرات الدار، والبلهاوات، والمصابات بالشلل، والمكفوفات، ومريضات الصرع، وبعض المجنونات المسالمات. تحتوي هذه الغرفة على ثلاثة صفوف من الأسرة موزعة على طول الكهف، بحيث يشتمل الصف الواحد على عشرين سريرا تقريبا. جميع الأسرة نظيفة للغاية ومرتبة بعناية قدر الإمكان بحسب ما تسمح به الظروف. للوهلة الأولى، قد يبدو لنا هذا المنزل غير صحي، ولو حكمنا بناء على الظلام السائد في هذا المكان وعمقه فحسب، لتأكدت لدينا القناعة بصحة هذا الرأي. ولكن، إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى ما يقدم من خدمات رعاية للتغلب على المساوئ الناتجة عن اجتماع هذا العدد الكبير من الأفراد في غرفة واحدة، فستتبدد مخاوفنا.» ولقد وصل الأمر لدرجة أن الأماكن الأكثر إثارة للاشمئزاز بدت مدعاة للرضا: «بجوار الكهف الكبير الذي تحدثت عنه للتو، توجد الكثير من الكهوف الأخرى الأصغر حجما التي تؤوي عددا من المجنونات ومريضات الصرع اللائي يصعب تركهن وسط الأفراد الآخرين، من دون أن يشكل ذلك خطورة على أحد. في الواقع، تنبعث من هذه المساكن الصغيرة رائحة نتنة، بيد أن هذه الرائحة ناتجة عن قذارة ساكناتها اللواتي لا يتخيرن أبدا الأماكن المناسبة لتصريف فضلاتهن، فيتخلصن منها في فراشهن. ولكن حرص الإدارة على عزلهن، والاعتناء بهن وتنظيفهن باستمرار، والسماح لهن بالخروج من وقت لآخر؛ كل هذه التدابير الاحترازية مجتمعة من شأنها الحيلولة دون انبعاث هذه الرائحة الكريهة حتى لا يشمها الآخرون، وانتشار الأمراض المعدية.»
2
هذا التقرير ذو قيمة؛ لأنه لا يستنكر ولا يثور على الأوضاع، بل يخفف بحكم العادة من وطأة بشاعة ظروف الاحتجاز. ومع ذلك، تعالت صيحات الإنذار التي سلطت الضوء على فقر الموارد. وقد كتب أحد أعضاء مجلس البلدية تقريرا عن زيارته لقصر أنجيه (سجن قديم كان تابعا للدولة في عهد النظام القديم) في العدد الصادر من «صحيفة مقاطعتي ماين ولوار ومايين» بتاريخ 6 أكتوبر 1834: «بعد أن استعرضت المسجونين المدانين، طلبت أن أرى المجانين. اقتادوني عبر كومة من الركام والأنقاض إلى مكان، تبلغ مساحته طولا نحو أربعين قدما وعرضا نحو عشرين قدما، تحيط به جدران شاهقة لدرجة تسمح بالكاد بانسياب الهواء، الذي يأتي ملوثا بفعل مروره على كومة من القمامة الناجمة عن التفريغ اليومي للدلاء. نجد ناحية الشمال خمس حجرات، تبلغ مساحة كل واحدة منها عشرة أقدام طولا وستة أقدام عرضا. مستوى الطابق منخفض للغاية ؛ ولذا يتسلل ضوء النهار الخافت بصعوبة بالغة عبر طاقة صغيرة فوق الباب. تؤوي هذه الغرف حاليا أحد عشر فردا. لا تحوي الحجرة إلا القليل من القش الذي يجدد كل خمسة أيام، ودلوا، وهذا كل ما بها من أثاث، سواء في الصيف أو في الشتاء. أما عن هؤلاء التعساء، فقد كان بعضهم عرايا بالكامل، والبعض الآخر تكسوهم خرق، وقد تركوا فريسة للحشرات الطفيلية تنهش فيهم. وكانوا يكدسون كل ثلاثة داخل هذه الحجرات الملوثة؛ حيث كانوا يرقدون وسط القاذورات على بلاطات من الأردواز رطبة دائما؛ نظرا لعدم تغطيتها بكمية كافية من القش. اثنان من هؤلاء المختلين عقليا كانت تنتابهما في بعض الأحيان حالة من الهياج؛ ولذا كان يجري احتجازهما بصورة مستمرة، كل على حدة في حجرة منفصلة، وحرمانهما من ضوء الشمس. أما الآخرون فكانوا يتواصلون بحرية بعضهم مع بعض أثناء النهار، ولكن لم يكن هناك أي حارس لمراقبتهم؛ مما يجعل الضعيف عرضة للوقوع تحت رحمة القوي. في الثامنة صباحا، كان يتم إحضار حساء لهم. وكان يقدم إليهم يوميا رطل ونصف من الخبز. ولقد كنت حاضرا وقت تناولهم طعام العشاء، ووجدته يتكون من نوع من العصيدة السوداء المفرودة على الخبز، التي تسبح فيها بعض قطع البطاطس. ولقد سألت السجان عن طبيعة هذا الطعام، فأجاب قائلا: «إنها يخنة، وهي لذيذة».» وهكذا رسم السجان بإجابته عن السؤال الذي طرحه عليه عضو المجلس البلدي صورة تعبر ليس فقط عن غياب الرحمة والشفقة، وإنما عن العوز التام. «اعترف لي السجان (الذي يعمل بهذا القصر منذ ما يقرب من أربعين عاما)، والذي أصبح متآلفا للغاية مع المآسي الإنسانية، أنه كان يشعر بالنفور والاشمئزاز، وأنه بالرغم من تعاطفه مع هؤلاء المرضى وشعوره بالشفقة نحوهم، يمتنع، قدر الإمكان، عن زيارتهم، ويزيح عن كاهله عبء هذا الجزء من الخدمة. وعلى الرغم من نواياه الطيبة، كان من المستحيل بالنسبة إليه إدخال أي تحسين أو تطوير على هذا المكان. فلم يكن هناك أحد معين خصيصى تحت إمرته لهذه الخدمة. ولم تعط له أي ملابس للمجانين. فلم يستطع أن يمنحهم إلا الأسمال الخاصة ببعض المدانين. ولم يكن يمتلك أي وسيلة للقمع، ولا أي وسيلة وقائية، حيال من يقومون بالتكسير والتهشيم، ولكن من دون أن تكون لديهم أي نية خبيثة: فلا شيء إلا القيود الحديدية، ودائما القيود الحديدية.»
3
ولم يكن المجلس العام التابع لمنطقة ماين ولوار ينتظر هذا التاريخ لإبداء قلقه إزاء وضع المرضى عقليا داخل المقاطعة، منددا بما يلقاه «هذا الفرع من الإدارة العامة» من إهمال تام منذ تدمير دار الرهبان الفرنسيسكان. اعتبارا من عام 1807، إذ أعرب المجلس العام عن انشغاله بمسألة المجانين «المتروكين من جديد في الشوارع وعبر الحقول، والذين يشكلون تهديدا على حياة المواطنين، وشرف السيدات»؛ قد طرح فكرة إنشاء مؤسسة خاصة بالمقاطعة، بل بأكثر من مقاطعة في الواقع، لاستقبال المرضى عقليا المعوزين والقادرين على الدفع على حد سواء، بحيث تغطي المبالغ المالية التي تدفعها الفئة الثانية نفقات الفئة الأولى.
4
لقد رأينا إسكيرول يندد بشدة بحالة مشافي المجانين في فرنسا، ومع ذلك، فقد تم إحراز بعض التقدم في الفترة ما بين 1818، وهو تاريخ نشر تقرير إسكيرول، و1838، الذي هو تاريخ إنجازه لجميع مهامه على أكمل وجه. كما أن التقرير المقدم من جيوم فيريس،
5
الذي عين في عام 1835 مفتشا عاما على مصحات الأمراض العقلية، شهد أيضا - على الرغم من أنه بدا شديد التحفظ - بتحقيق العديد من الإنجازات في هذا المجال. بيد أن أبرز ما يركز عليه فيريس في تقريره، هو تنوع المؤسسات واختلافها من مقاطعة لأخرى. بانتظار صدور القانون الكبير بشأن المرضى عقليا الذي طال ترقبه في فرنسا، وتأخر بفعل التغيرات المستمرة في النظام الحاكم، كان لا بد من معالجة المشكلة الأكثر إلحاحا. ففي كل مكان تقريبا، شرعنا منذ بداية عهد عودة الملكية في إعادة تنظيم، وتوسيع، وبناء المؤسسات. وفي بعض المقاطعات، «كان لا بد من البدء من نقطة الصفر.» كما هي الحال، على سبيل المثال، في بوش دو رون؛ حيث كان المرضى عقليا موزعين في دارين من دور الإيواء بمارسيليا: سان جوزيف وسان لازار، ولقد كانت الثورة تمثل كارثة بالنسبة إلى هاتين المؤسستين؛ إذ أدى ارتفاع نسبة الوفيات إلى تقليص العدد من 114 في عام 1789 إلى 44 في عام 1802.
6
في عام 1832، قفز عدد المحتجزين إلى 208، متسببا في اكتظاظ المكان، لدرجة أنه كان يجري أحيانا تكديس عدد يصل إلى ستة مختلين عقليا في حجرة واحدة. وكانت المباني متداعية. في تقرير مرفوع إلى باريس، عبرت إدارة بيوت الإيواء عن الوضع بالعبارة التالية: «لن تعطي الإدارة أي وصف لمباني مشفى سان لازار؛ إذ ستكون الصورة قاتمة ومؤلمة للغاية.»
كان لا يزال العديد من المرضى عقليا في السجون، وكان العدد الأكبر منهم لا يزال في مستودعات التسول. العديد من المقاطعات تدبر أمره بطريقة أو بأخرى مع جيرانه. ومن الجدير بالذكر أن تلك المقاطعات التي كانت تعتز بنفسها وتشعر بالرضا عن مستواها لم يكن لديها دائما ما يدعو لذلك. فها هو فيريس يعلق على الوضع في مشفى أفينيون قائلا: «إن المشفى ليس مثاليا كما قد نتصور في البلاد»؛ فالأبواب، والنوافذ، والحجرات، جميعها «مسلحة بكمية كبيرة من الحديد».
وماذا عن المؤسسات الثلاث الكبرى في باريس؟ لم تعد سالبيتريير مؤسسة نموذجية، على الرغم من القطاعات الجديدة التي أنشئت داخلها. ولقد جرت إزالة صف كامل من صفي الحجرات «لإعطاء الآخرين الفرصة لتنشق الهواء والاستمتاع بالضوء»، وفتح نوافذ داخل الزنازين، وإنشاء متنزهات، وتغطية البلاطات الحجرية بأرضية خشبية. في بيستر، جعل فيريس - وكان آنذاك رئيس أطباء المشفى - المرضى يهدمون بأيديهم الحجرات القديمة غير الصحية، واستبدل بها صفين من الحجرات، يشتمل كل صف منهما على عشرين حجرة مبنية على مستوى مرتفع بين ساحتين مسقوفتين [باحتين]، إحداهما للشتاء والأخرى للصيف. وقد أضيفت إلى الأفنية القديمة متنزهات وحدائق مزروعة بالبقول والخضراوات والفاكهة. في «مساء» اليوم الموافق الحادي والثلاثين من ديسمبر 1824، كانت المؤسستان الباريسيتان الكبريان تضمان عددا من المرضى عقليا بلغ تعدادهم على التوالي 1842 امرأة و830 رجلا. أما عن مشفى شارنتون (فقد بلغ تعداد المرضى عقليا به، في الأول من يناير 1826، 492)، وقد أثنى فيريس على المستوى الرفيع لهذه المؤسسة، ولكنه انتقد بشكل عابر الأسلوب الذي اتبعه إسكيرول في إعداد إحصائيات الشفاء الخاصة به استنادا إلى هذا المشفى؛ ففي الوقت الذي صرح فيه إسكيرول بأن نسب الشفاء تبلغ 1 إلى 3، أوضح فيريس أن النسبة تبلغ بالأحرى 1 إلى 6، ولكن هذه الأرقام مشكوك بها أيضا على أي حال. وهنا نجد مسألة هامة للغاية تطرح نفسها، ولكننا سنعود إليها فيما بعد.
ومن جانبه، منح إسكيرول مؤسسته شهادات الرضا الذاتي، حتى ولو كانت هذه المصحة تمثل ذلك النمط من المشافي الذي - إذ كان قائما بالفعل - لم يكن بالإمكان هدمه وإعادة بنائه من جديد. في الواقع، يعد المخطط الخاص بهذه المصحة، بصرف النظر عن القطاع الجديد الذي شيد للنساء في عام 1828، متشابكا إلى حد بعيد؛ إذ إنه يشتمل على العديد من المباني ذات الطوابق وهو ما انتقده إسكيرول. ولقد أدخلت العديد من التطورات والتحسينات المنتظمة على هذه المصحة: فزودت القطاعات المختلفة بنظام التدفئة الذي كانت تفتقر إليه، وبدورات مياه جديدة (1821)، وحمامات جديدة ووحدة تمريض، وحدائق وباحات.
وكلما دعت الحاجة إلى القيام بتوسعات في المصحة، كانت هذه العمليات الإنشائية المتعاقبة تنفذ على وجه الخصوص في المؤسسات الخاصة التي تتولى الجماعات الدينية إدارتها. ولقد استعادت هذه الجماعات قواها في عهد عودة الملكية، بدءا بجماعة القديس يوحنا الإلهي (سان جون دي ديو) أو جماعة القديسة مريم؛ عذراء الصعود. ويقدم لنا تاريخ طائفة بون سوفور بكاين الخاص بهذه الحقبة مثالا بارزا على ما نقول. لقد رأينا كيف صمدت دار الاحتجاز الجبري القديمة ونجت بطريقة ما من الثورة، بمريضاتها عقليا «المستترات» البالغ عددهن خمس عشرة، عن طريق المكوث في أحد الأديرة القديمة التابعة للرهبان الكبوشيين. ولقد كانت المباني متداعية للغاية، وسرعان ما بدأت أعمال الترميم والبناء التي لم تتوقف قط. استعادت دار بون سوفور صفتها الرسمية عام 1809، مع موافقة الحكومة على قوانينها الجديدة. «تضع فتيات بون سوفور نصب أعينهن الأهداف التالية: (1) أن يعتنين بالمجانين المقيمين بالدار سواء أكانوا رجالا أم نساء، ويقدمن لهم خدمات الرعاية مع إظهار أكبر قدر ممكن من المحبة تجاههم.» وهكذا نلاحظ أن هذه الدار أصبحت من الآن فصاعدا تستقبل كلا الجنسين. اختفت الفتيات سيئات السمعة، ولكن ظلت المدرسة الداخلية المخصصة «للآنسات الشابات» و«دار العجائز المعدة للسيدات المسنات اللائي يردن العيش في هدوء وعزلة» مفتوحتين، الأمر الذي كان يوفر دخلا للجماعة. ومع ذلك، استمرت الصعوبات المالية المتفاقمة حتى عام 1818 الذي شكل منعطفا؛ إذ إنه العام الذي حول فيه محافظ كالفادوس مستودع بوليو إلى سجن مركزي. ومن ثم، بات من الضروري إخراج المرضى عقليا من هذا المكان. في البداية، بدت الراهبات مترددات، ولكنهن وافقن في النهاية على عقد اتفاق مع المقاطعة؛ من أجل إيجاد حل لمشاكلهن المالية. وهكذا أصبحت دار بون سوفور مصحة خاصة تقوم بوظيفة المصحة العامة، بمعنى أن هذا المشفى قد أصبح قادرا على احتجازه - بالإضافة إلى المرضى عقليا الذين يدفعون نفقة إقامة - عددا غير محدود من المرضى عقليا الفقراء من الجنسين، والذين ستتكفل بهم المقاطعة. منحت المقاطعة الجماعة قرضا بقيمة 50 ألف فرنك لبناء قسم للرجال (سان جوزيف). وخلال ستة وثلاثين عاما؛ أي في الفترة من 1817 إلى 1853، تزايد عدد المريضات عقليا من 37 إلى 100، بالإضافة إلى وجود 70 مريضا عقليا. ثم قدمت المقاطعة قرضا آخر مما أتاح القيام بتوسعات جديدة (ولا سيما تشييد مبنى جديد للنساء، وهو مبنى سانت ماري). وهيأت السياسة المنهجية التي جرى اتباعها لشراء المنازل والأملاك المجاورة إجراء توسع كبير بالمشفى. فأنشئت أجنحة مريحة مزودة بحدائق للمرضى عقليا القادرين على دفع نفقات إقامة مرتفعة للغاية. وبطريقة ما، كان الأثرياء يدفعون للفقراء داخل مؤسسة بون سوفور التي أصبحت بمنزلة ساحة بناء كبيرة.
في بلدية كليرمون بمقاطعة إلواز، كانت الثورة قد أغلقت الدير حديث النشأة الخاص بالرهبان الفرنسيسكان؛ وهو دير نوتردام دو لا جارد، الكائن في بلدية نوفيل أون آيز، وأطلقت سراح النزلاء المحتجزين بالقوة، ولكنها ألقت في الوقت ذاته المختلين عقليا في الشارع. ولقد استضاف أحد المواطنين، وهو السيد تريبو، ستة من هؤلاء المختلين في منزله الخاص الذي يملكه بالمدينة. وهكذا تشكلت النواة الأساسية لما سيصبح فيما بعد أكبر مصحة للأمراض العقلية في فرنسا في القرن التاسع عشر (مصحة خاصة تقوم بوظيفة المصحة العامة). في عام 1832، لم يكن هناك إلا ستة عشر مريضا عقليا من كلا الجنسين، حين عقد الطبيب لابيت، وهو خليفة السيد تريبو وصهره، اتفاقا مع مقاطعة إلواز، وذلك بعد أن كان قد شيد خلال عامي 1822-1823 مبنى مهما مكونا من طابق واحد (طبقا لإرشادات إسكيرول) بواجهة يبلغ ارتفاعها 33 مترا منقسمة إلى جزأين متلاصقين؛ واحد للرجال وآخر للنساء. وبإضافة فناء خلفي شاسع لتربية الدواجن وزريبة للبقر، تتشكل لدينا الباحة الأمامية الرائدة لمزرعة مترامية الأطراف. ثم عقدت مقاطعتا سينواز وسوم بدورهما اتفاقا؛ نظرا لأنهما كانتا تفتقران أيضا إلى وجود مصحة عامة. خلال سبعة أعوام ونصف، وبعد حيازة المزيد من الأراضي والإنشاءات، قفز عدد المحتجزين إلى ما يقرب من الخمسمائة.
ولقد عاب إسكيرول على هذه المؤسسات الخاصة وقوعها في أماكن بعيدة جدا، نتيجة لتوسعاتها المتعاقبة؛ نظرا لأنه ينادي باتباع خطط نموذجية. وقد وجه انتقاداته بشكل خاص للأديرة القديمة: «العديد من مصحات المجانين المنشأة داخل أديرة لا يوجد بها مخطط عام، ولا توزيع مناسب لأولئك الذين يقطنون فيها، ولا وسائل راحة للخدمة، ولا تسهيلات للمراقبة والإشراف.» فالمباني متجاورة للغاية، ولا توجد بها مساحات كافية ولا أفنية، ولا تنظيم داخلي يأخذ في الاعتبار الأسعار المختلفة لنفقات الإقامة والمعايير الطبية العقلية ...
لا يزال انطلاق المصحات العامة يحتاج إلى بذل المزيد من الجهود. وهو ما شرحته وزارة الداخلية في التعميم الموجه إلى المحافظين والصادر بتاريخ 29 يونيو 1835: «إن العقبات التي تواجهها الإدارة مرجعها سبب واحد: نقص الموارد المتاحة وعدم كفايتها. ولا يمكن التغلب على هذه العقبات إلا بالقانون.» علاوة على ذلك، جميع هذه المصحات تقريبا لم تبن من الصفر؛ مما نجم عنه العديد من المشاكل. ففي سان يون، كان هناك دير ثم ألغي في عام 1792، ثم أصبح تباعا سجنا ثوريا، وترسانة، ودار احتجاز، ومشفى عسكريا، ومستودعا للتسول، إلى أن شرعنا في عام 1821 في بناء مصحة للمجانين وفقا للمعايير الجديدة. فضلا عن ذلك، ذهب إسكيرول وبنجامين ديبورت - مدير دور الإيواء المدنية في باريس - شخصيا إلى روان للإشراف على المنشآت الجديدة. وتحولت المباني القديمة ذات الطابع الديني إلى مراكز لإدارة المرافق، وأنشئت حولها خمسة قطاعات حديثة. ومع ذلك، جرى تجهيز مهاجع في الدير القديم، على حساب المخطط العام.
يعد دير مان التلميذ الممتاز الوحيد الذي سار على النهج السليم، فهو أول دير يبنى، ابتداء من عام 1828، من العدم. يشيد إسكيرول بمزاياه قائلا: «يستحيل تقديم وصفة لبناء أكثر بساطة، وأكثر صحة، وأكثر ملاءمة لخدمة المرضى عقليا، والإشراف عليهم، والاهتمام برفاهيتهم.» ومع ذلك، في هذا الدير أيضا، يلعب متغير «الملجأ»، بفئاته الثلاث، دورا مؤثرا على التصنيف الطبي.
قبل التصويت على قانون 1838، بدأت المصحات على الفور في التطور في جميع أنحاء فرنسا، ولكن رافق هذا التطور شيوع فوضى عارمة. ففي بداية عهد ملكية يوليو، بلغ تعداد المرضى عقليا المحتجزين ما يقرب من 10 آلاف تم توزيعهم على 140 مؤسسة متباينة على جميع الأصعدة: المعدات، وحالة المباني وحجمها، والنظام الإداري (فقد كان هناك مصحات خاصة للمرضى عقليا وحدهم، ومصحات مشتركة داخل المشافي أو دور الإيواء المزودة بقسم خاص للمرضى عقليا)، والوضع القانوني (هل هي مصحة خاصة، أم عامة، أم خاصة تقوم بوظيفة العامة)، وتكلفة الإقامة باليوم بالنسبة إلى المرضى عقليا المحتجزين، التي تبدأ بسعر معين ثم قد تصل إلى خمسة أضعافه ... ويجب ألا ننسى أيضا المرضى عقليا المعوزين الذين بلغ عددهم نحو 6 آلاف شخص، والذين كانت البلديات ودور الإيواء والعائلات تنتظر الفرصة السانحة لإدخالهم إحدى المصحات. ومن ثم ، لم يعد من الممكن تأجيل إقرار قانون، حتى ولو كان العديد من النواب ما زالوا يهددون بشبح الهاوية المالية.
الإدارة والنقاش
بعد سقوط النسور، عاد عهد عودة الملكية إلى نقطة الصفر فيما يتعلق بالتشريع، أو بالأحرى غياب أي تشريع بشأن المرضى عقليا. في السادس من نوفمبر 1815، قيد قرار وزاري نفقات المرضى عقليا على حساب البلديات تبعا للمقر المسئول عن تقديم المعونات التابع له المريض، أو في حالة عدم وجوده، على حساب المقاطعة. ومع ذلك، على الرغم من المذكرة الشهيرة التي أرسلها إسكيرول إلى وزارة الداخلية في عام 1818 والتعليمات الوزارية المليئة بالأحلام الوردية، ظهرت من جديد فجوة مؤسسية وبدأت تتسع إبان العقد الثالث من القرن التاسع عشر (1820)، حتى ولو كان الدور الذي يضطلع به المحافظون قويا بالفعل. فنجد على سبيل المثال أن لائحة 1820 الخاصة بمصحة سان فنان - التي أصبحت تخدم المقاطعة بأكملها - وضعها محافظ بادو كاليه بنفسه، وقد نصت على أنه «لن يقبل أي مريض عقليا لأي سبب من الأسباب إلا بعد صدور أمر من المحافظ ولمدة معينة» (المادة الثانية). كما «سيتولى أحد المديرين تنظيم النواحي الإدارية بالمؤسسة، تحت قيادة المحافظ وإشراف لجنة خاصة، على أن يتولى طبيب إدارة المؤسسة فيما يتعلق بالشق الطبي» (المادة السادسة).
كان لا بد من انتظار مملكة يوليو لكي تظهر من جديد مسألة المرضى عقليا على الساحة في عام 1832، حين رفض مجلس النواب مشروع قانون قدمته الحكومة بخصوص إدراج نفقات المجانين المعوزين (المشكلة الأبدية) في سجل نفقات مجلس البلدية الإلزامية. تلك هي بداية المسألة المالية، التي ستؤدي بعد جهد جهيد إلى إقرار قانون 1838 ... في الدراسة الاستقصائية التي بعث بها وزير الداخلية إلى المحافظين في الرابع عشر من سبتمبر 1833، غطت المتطلبات المالية على أي انشغال طبي أو حتى خيري. ولقد طلب من المحافظين تقديم إحصائية عن المرضى عقليا الذين لا يتلقون أي معونة أو مساعدة. وكانت جميع الأسئلة المطروحة تقريبا، فيما عدا العدد، والسن، والجنس، ومعرفة الأسباب الرئيسة للإصابة بالاستلاب العقلي (متى كان ذلك ممكنا)، تتعلق بالنواحي المالية: من يدفع؟ (العائلة، البلدية، المقاطعة؟) ما هي أسعار نفقات الإقامة في المؤسسات المختلفة؟ ما هي المبالغ التي تصوت عليها سنويا المجالس المحلية لتخصيصها لصالح المرضى عقليا؟ كم ستبلغ تكاليف احتجاز المرضى عقليا المعوزين، سواء في مصحة عامة أو في مصحة خاصة؟ وأخيرا، كيف «يمكننا جمع الأموال اللازمة»؟
انطلقت البداية الحقيقية لطرح مشروع قانون بشأن المرضى عقليا للمناقشة من خلال المذكرة التي أصدرها وزير الداخلية (أدولف تيير)، في التاسع والعشرين من شهر يونيو 1835، والذي يمكن أن نلخصها على النحو التالي: ما زال الأمن العام مهددا بسبب المختلين عقليا المعوزين الذين يجوبون الشوارع بحرية، ويلتمس القضاء «من السلطة الإدارية تقديم المساعدة». غير أن العقبات التي تواجهها الإدارة، وهي عقبات مالية على وجه الخصوص «لم يعد بالإمكان التغلب عليها من الآن فصاعدا إلا بالقانون.» أما عن النفقات، التي من الواضح أنه سيتحتم على المقاطعات في المستقبل التكفل بها، فيجب أن تقدر قيمتها من أجل التصويت عليها في موازنة 1836. لم تذكر المسألة الطبية إلا مرة واحدة، عند الانتقال من فقرة إلى أخرى وبأسلوب تقييدي: من هنا ينبع، بالنسبة إلى السلطة الإدارية، الواجب أو بالأحرى الحق في مطالبة القانون والمجتمع بتوفير الوسائل اللازمة لفتح مصحات مخصصة لاستقبال المختلين عقليا المعوزين؛ بحيث يصبح بإمكانهم تلقي علاج شاف، إذا كان مرضهم قابلا للشفاء، أو - في المقابل - تلقي خدمات الرعاية والمساعدات التي يتلقاها العاجزون، والمسنون الفقراء في دور الإيواء التابعة لنا. ولم تتحرك مجالس البلدية لتلبية النداء، على الرغم من رسائل التذكير شديدة الإلحاح التي بعثت بها الحكومة؛ ومن ثم، تضاعفت الدراسات الاستقصائية. وأخذ مكتب «إحصائيات فرنسا»، الذي تأسس حديثا، يطالب بإعداد جداول جميلة وكبيرة؛ حيث يأخذ الجانب الطبي-الاجتماعي مكانه أخيرا على الساحة، وقد اشتملت هذه الإحصائيات على البيانات التالية: مهنة المرضى عقليا، وأسباب الاستلاب العقلي وهنا تم التمييز بين الأسباب الجسدية (آثار السن، والعته، والتهيج المفرط، والإرهاق الناجم عن الإفراط في العمل، والفقر المدقع، والاستمناء، والأمراض الجلدية، والضربات والجروح، والزهري، واستسقاء الدماغ، والصرع والتشنجات، والحمى ، والسل وأمراض القلب، وانبعاث المواد المضرة، والإسراف في شرب الخمر والمشروبات الروحية) والأسباب المعنوية (الحب والغيرة، والحزن، والأحداث السياسية، والطموح، والغرور، والدين الذي يساء فهمه).
ها نحن الآن يفصلنا أقل من شهر عن التصويت على قانون المالية، الذي سوف يذكر فيه للمرة الأولى المرضى عقليا، وقد أجري بحث وزاري جديد (تعميم صادر في 25 يونيو 1836) في محاولة جديدة لتطويق المشكلة. وهذا البحث هو الأخير في تلك السلسلة الطويلة التي تسعى جاهدة، منذ عهد الإمبراطورية ، لتسليط الضوء على مسألة المختلين عقليا، إن لم يكن حلها. في ذلك الوقت، كان الفكر الحكومي قد نجح أخيرا في معالجة قضايا رئيسة؛ كإدراج نفقات المرضى عقليا المعوزين في بند المصروفات المتغيرة للمقاطعة (دون المساس بالمساهمة المقدمة من البلدية التابع لها المريض)، وآليات قبول وتوزيع المرضى عقليا غير المحجور عليهم، وضمانات حمايتهم من الاعتقالات التعسفية، والإدارة المؤقتة للممتلكات، وطبيعة المؤسسات، والمتطلبات المعمارية والتنظيمية، والخدمات الطبية والدور الذي يجب أن يضطلع به كبير الأطباء في هذا الصدد. ومع ذلك، كانت الإحصاءات - على الرغم من تقديم فيريس للعديد من المذكرات وقيامه بعمليات التفتيش - افتراضية، ولا سيما فيما يتعلق بالعدد الإجمالي للمجانين المعوزين، سواء المحتجزون أو غيرهم. كما بدت المعلومات الواردة عن النفقات أكثر غموضا. فلا أحد يريد أن يدفع: لا الدولة، ولا المقاطعة، ولا البلدية، ولا العائلة.
دامت المناقشات ثمانية عشر شهرا (من 6 يناير 1837 إلى 14 يونيو 1838)، وهذا دليل على اهتمام مجلس النواب وديوان البير (أي أهل المشورة الأولى) بهذه المسألة. ولم يرتفع أي صوت قط للاعتراض على مبدأ المشروع نفسه. وبعيدا عن المسألة المالية، يهدف هذا المشروع إلى التوفيق بين متطلبات الإنسانية والنظام الاجتماعي. يتعين على الإدارة، الممثلة في شخص المحافظ، أن تحل محل القضاء على أن تبقى تحت إشرافه، سواء لتلقي طلبات الاعتقال التي تتقدم بها العائلات، أو لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإصدار أمر احتجاز مباشر. ولم يكن هناك مجال كبير أمام الطب النفسي الناشئ لقيادة المناقشات. فمن بين أكثر من ألف صفحة من المحاضر، لم يحق لبينيل أن يكتب إلا خمسة أسطر فقط على سبيل الإحالة المرجعية. بالطبع، ذكرت الأسباب الطبية ولكن ليس من وجهة نظر الطبيب، كما هي الحال على سبيل المثال حين أوضح كابانيس «أن الجنون لا يدوم بطبيعة الحال؛ لذا لا يمكن تبينه إلا في اللحظة نفسها التي يوقع فيها الكشف الطبي على المريض. فعادة ما يستعيد المختل عقليا، من وقت لآخر، صوابه، وبالتالي يتعين حينئذ إعطاؤه كامل حقوقه المدنية.»
7
ولكن من سيطالب إذن بإطلاق سراحه؟
ولقد جرت استشارة أطباء الأمراض العقلية العظماء في ذلك الوقت، ولا سيما إسكيرول وفيريس وفالريه. ولم يكتب فيريس تقريرا بالمعنى الدقيق عن مشروع القانون، وإنما أوضح رأيه بهذا الشأن في كتابه «المرضى عقليا»
8 ... حيث نلاحظ أن جل ما يهمه هو الحفاظ على الحرية الفردية؛ مما سيؤدي به إلى أن يكون فعليا المدافع الوحيد عن مبدأ الإيداع بناء على أمر من السلطة القضائية. وعلى الرغم من كونه طبيبا، فإن السلطة الطبية وحدها بدت له خطيرة: «طالما بدت لي تلك السلطة الحصرية للطبيب أمرا مبالغا فيه، وأنا على قناعة تامة بهذا الرأي؛ نظرا لما ألاقيه من صعوبات بالغة عند ممارستها.»
ولقد قدم جان بيير فالريه (1794-1870) - وهو تلميذ لبينيل وإسكيرول، وطبيب بقسم البلهاوات في سالبيتريير، وعضو بأكاديمية الطب - تقريرا وفقا للأصول الواجبة،
9
شدد فيه على إجماع الأطباء على رفض الحكم بالحجر المنهجي. على النقيض من فيريس، انتقد فالريه بقوة قلة الحالات التي تجلت فيها السلطة الطبية؛ حيث خبت «أضواء الطب» لصالح السلطة القضائية أو الإدارية. هذه السلطة الأخيرة «تتدخل في عقد ثقة تربط بين الطبيب والأسرة»؛ مما يهدد بدوره نجاح العلاج المعنوي. وفيما يتعلق بالفكرة التي طرحت، في المذكرة التوضيحية التي عرضها وزير الداخلية أمام مجلس النواب، بخصوص احتجاز «المرضى عقليا الذين تم الاعتراف بأن حالتهم ميئوس من شفائها من قبل مؤسسات أخرى غير تلك التي اختصت بمعالجة الاستلاب العقلي»؛ فقد عارضها فالريه، ولا سيما بسبب الخطورة التي يشكلها ذلك الاستبعاد التعسفي للميئوس منهم؛ مما يؤدي بدوره إلى إعاقة تقدم علم الطب . ويرى فالريه على أي حال أن تسمية هؤلاء المرضى ب «الميئوس منهم» تعد في حد ذاتها «إهانة للإنسانية». كما صاغ فالريه العديد من الانتقادات الأخرى (من ضمنها معارضته، على سبيل المثال، للمؤسسات المشتركة لصالح المؤسسات الخاصة)، لدرجة أن تقريره أسهم بشكل ملموس في تدمير المشروع الذي اقترحته أساسا الحكومة، والذي ستجري له لجنة مجلس النواب تحولا جذريا.
لم يظهر تقرير إسكيرول
10
إلا في مطلع عام 1838، قبل أشهر قليلة من التصويت النهائي، وبالتالي لم يكن له تأثير كبير على المناقشات كتقرير فالريه. إذا كان إسكيرول قد أعرب عن سعادته بتفوق السلطة الإدارية على السلطة القضائية، فإنه لم يقلل من انتقاداته. يرى إسكيرول أن التدابير الاحترازية العديدة التي اتخذت لمكافحة الاعتقالات التعسفية لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الإضرار بحسن سير المؤسسات وبعلاج المرضى عقليا. ولقد ذكرت أمثلة على الانتهاكات مستوحاة من إنجلترا. في الواقع، ليس هناك مجال للخوف من حدوث هذا في فرنسا؛ حيث «تضعنا عذوبة أخلاقنا ورقتها، ونزاهة طبعنا بمنأى عن مثل هذه التجاوزات.» وها هو سيل من الانتقادات ينهمر: فالمؤسسات العامة المخصصة للمرضى عقليا يجب ألا توضع تحت قيادة الحكومة، بل المشافي. ليست الحكومة هي المخولة بإعطاء التراخيص للمؤسسات الخاصة، وإنما تتولى السلطات المحلية ذلك. على غرار فالريه، يرى إسكيرول أن مسئولية إصدار الحكم بالاحتجاز المباشر تقع على عاتق عمدة البلدية (شريطة أن يستشير المحافظ)؛ لكونه أكثر قربا وأكثر قدرة على الحكم على الأمور من المحافظ. ولقد دعي عدد كبير جدا من السلطات لزيارة المصحات: «يا لكثرة الزيارات! ويا لكثرة الزوار! ويا لكثرة الأفراد الذين اخترقوا خصوصية مرض يسعى الجميع إلى إخفائه!» لقد أثارت هذه الزيارات فيما بعد اهتياج المرضى، كما تسببت في فقد «الرؤساء» «لهيبتهم الأخلاقية» (وهو ما قاله فالريه). وفيما يتعلق بخروج المرضى عقليا، يقترح إسكيرول أن نحتذي في ذلك بالنموذج الألماني؛ حيث يسبق الخروج النهائي خروج مبدئي على سبيل التجربة في نطاق العائلة؛ «حتى يختبر المريض قواه العقلية والعاطفية.» ولكن، لماذا يجب إعطاء المحافظ سلطة السماح بالخروج الفوري لأي مريض عقليا أدخل طواعية [أي أودع المصحة بناء على طلب عائلته] بمجرد أن يطالب المودع بذلك، ودون أن تكون استشارة الطبيب إلزامية؟ وقد بدت العديد من الانتقادات الأخرى كمجادلات في سفاسف الأمور، على نحو غير متوقع، مثل انتقاد وجود سجل للاحتفاظ بالبيانات المتعلقة بكل مريض عقليا، بما في ذلك الملاحظات الطبية الشهرية (يصرح إسكيرول بشكل قاطع قائلا: لا فائدة من هذا السجل؛ لأنه لن يكون دقيقا). ويختتم طبيب الأمراض العقلية قائلا: المشروع ليس جيدا. فنحن لا نضع في الاعتبار بشكل كاف مصلحة العائلات. كما أن عدد الالتزامات الكبير للغاية يجعل هذا القانون غير قابل للتطبيق.
وهناك تقرير آخر لم يفطن له أحد تقريبا، وهو الذي قدمه آديودا فيفر،
11
الطبيب السابق بمأوى أنتيكاي في ليون، ولم يستشر بصورة رسمية. بل لعل هذا التقرير أكثر أهمية من تقارير كبار أطباء الأمراض العقلية الباريسيين. لقد صيغت معظم المواد - ينتقد فيفر - بهدف حماية حرية فردية ليست موضع تهديد، ولكن، في الوقت نفسه، تعوق هذه التدابير عملية الإيداع، ولا تحترم خصوصية العائلات أو السرية الطبية. وندد فيفر، مثل إسكيرول، بالسلطة التعسفية التي تعطي للمحافظ الحق في أن يصدر بمفرده أمرا مباشرا بإيداع أو خروج مريض عقليا دون الحاجة إلى أي شهادات طبية.
باختصار، لا يسعنا الحديث عن قانون 1838، كما هي الحال في كثير من الأحيان، على أنه قانون أملاه أطباء الأمراض العقلية، أو على الأقل أخضعوه لسيطرتهم القوية. بالطبع، يتعلق الأمر في المقام الأول بقانون مالي (لا أنوي مناقشة المسألة الطبية - يقول أحد النواب - فنحن بصدد إعداد تشريع، وليس ممارسة الطب)، ولكن ما زال بإمكاننا التعبير عن اندهاشنا إزاء وضع الطب والأطباء في المرتبة الثانية. لقد أشارت المادة الأولى بالفعل إلى «مؤسسة عامة، معدة خصيصى لاستقبال وعلاج المرضى عقليا» (يظل ذلك أقل القليل)، ولكن لم يرد على الإطلاق، حتى ولو كان ذلك من باب التأكيد على مبدأ أساسي، أي ذكر للعلاج المعنوي ولا للدور المحوري الذي يضطلع به طبيب الأمراض العقلية، والذي تحدث عنه إسكيرول قائلا: «ينبغي أن يكون الطبيب، بطريقة ما، جوهر حياة المشفى. ومن خلاله، يجب أن يتم تسيير كل شيء.» أكان تطبيق العلاج المعنوي في المصحة ضمنيا لدرجة أنه لم يكن هناك داع لذكره؟ أم على العكس، كان الاعتقاد الهائل في قابلية الجنون للشفاء متزعزعا لدرجة أننا لم نعد نجرؤ على التحدث عنه؟
القانون وتطبيقه
بعد أن أقر المجلس الأعلى في البرلمان القانون بالإجماع، صوت عليه مجلس النواب في الرابع عشر من يونيو 1838 (216 صوتا مقابل 16) وصدر القانون في اليوم الموافق 30 يونيو. علام ينص هذا القانون الذي طال انتظاره؟ أصبح لزاما على كل مقاطعة أن تمتلك من الآن فصاعدا مصحة للمرضى عقليا أو أن تعقد اتفاقا مع مؤسسة أخرى عامة أو خاصة. وتتولى السلطة العامة إدارة المؤسسات العامة والإشراف على المؤسسات الخاصة، التي ستصبح من الآن فصاعدا خاضعة للترخيص. ولقد كلف المحافظ، ونائبوه، ومفوضو وزارة الداخلية (لم تكن قد أنشئت بعد وزارة الصحة)، ورئيس المحكمة، والنائب العام، وقاضي السلام، وعمدة البلدية بزيارة المؤسسة (بحيث يقوم النائب العام على الأقل مرة كل ثلاثة أشهر بزيارة المؤسسات الخاصة ومرة كل ستة أشهر بزيارة المؤسسات العامة). وأصبحت عمليات الإيداع في المشافي خاضعة لتنظيم محدد وفقا لنمطين: الإيداعات الطوعية والإيداعات المحكومة بأوامر صادرة من السلطة العامة (التي أطلق عليها فيما بعد «الإيداعات الرسمية»). في الحالة الأولى، ينبغي تقديم طلب قبول موقع من أسرة المريض، وشهادة طبية من طبيب لا يمت بصلة للمؤسسة أو للعائلة. ترسل بعد ذلك نشرة دخول يذكر بها المستندات المقدمة خلال أربع وعشرين ساعة إلى المحافظ، مع إرفاقها بشهادة من طبيب المؤسسة. ثم يتعين أن يقوم المحافظ من جانبه بإخطار النائب العام في غضون ثلاثة أيام. وبعد ذلك، يتعين إرسال شهادة طبية ثانية من طبيب المؤسسة إلى المحافظ، في غضون خمسة عشر يوما، تفيد بتأكيد أو تعديل الشهادة الأولى.
من الواضح أن هاجس الاعتقال التعسفي استحوذ على المشرع، الذي أدخل ثلاث سلطات لتحقيق نوع من التوازن في القوى (وهي سلطة المحافظة ، والسلطة القضائية، والسلطة الطبية). في حالة «الإيداع الرسمي»، يأمر المحافظ مع التعليل بإيداع أي شخص - سواء أكان محجورا عليه أم لا - «قد تشكل حالة الاختلال العقلي لديه خطرا على الأمن العام أو سلامة الأشخاص.» ويتعين أن يقوم خلال أربع وعشرين ساعة باتخاذ قرار بشأن تدابير الاعتقال المؤقت داخل دور الإيواء أو المشافي، ولكن مع الأخذ في الاعتبار بأن هذا الاحتجاز لا يمكن أن ينفذ «بأي حال من الأحوال» في أحد السجون. و«في غرة كل شهر»، يقوم طبيب المؤسسة بكتابة تقرير وإرساله إلى المحافظ عن «حالة جميع الأشخاص الذين يجري احتجازهم، وطبيعة مرضهم ونتائج العلاج. ويصدر المحافظ حكمه على كل فرد على حدة، فيأمر ببقائه داخل المؤسسة أو بخروجه منها.»
أيا كان نمط الإيداع، كان يتم إعداد سجل - خاضع لإشراف أولئك الذين يملكون حق زيارة المؤسسة - بحيث يشتمل بالنسبة إلى كل مريض على مجمل البيانات الإدارية، وشهادات الدخول، والخروج أو الوفاة، والملاحظات الطبية على أن يجري تحديثها على الأقل شهريا. ويحق للمريض في حالة الإيداع الطوعي، الخروج من المؤسسة، حتى دون إتمام العلاج، إذا تقدم المودع بطلب. وإذا بدا أن هذا الخروج قد يهدد الأمن أو السلامة العامة، يمكن حينئذ أن يطلب العمدة إلى المحافظ إصدار أمر بالإيداع الرسمي. يحق لكل شخص محتجز في مؤسسة للمرضى عقليا، كما يحق لكل والد أو صديق، الالتجاء إلى المحكمة للمطالبة بالخروج.
إلا أنه لا قيمة للقانون وحده دون إرفاقه بالمذكرات المتعلقة بتطبيقه. ولقد ركزت هذه المذكرات بشكل خاص على توضيح النقاط المالية التالية: مساهمات البلديات بالقياس إلى المجالس العمومية التي تستنكف من الدفع، ومساعدات دور الإيواء، وتحديد أسعار الإقامة باليوم ...
بعيدا عن هذه المسائل، هناك جملة قصيرة وردت في المادة 25 من القانون، وأبعدت إلى القسم الثالث (مصروفات قسم المرضى عقليا)، ولم يتنبه أحد إليها على الرغم من أهميتها: «يقبل أيضا بالمؤسسة المرضى عقليا الذين لا تشكل حالتهم العقلية أي خطورة على الأمن العام أو سلامة الأشخاص.» تفسر المذكرة الصادرة بتاريخ 5 أغسطس 1839 هذا الجزء على النحو التالي: «يبدو أن النصوص الواردة في الفقرة الثانية من المادة 25 من القانون لم تفهم بشكل كامل.» أوضح الوزير أن التزام المقاطعات لا يتوقف فقط عند متطلبات السلامة العامة. فالقانون «ليس قانونا شرطيا فحسب، وإنما هو قانون يتعلق أيضا بالبر والإحسان. هناك مرضى عقليا يعيشون في أوضاع مؤسفة للغاية، على الرغم من أنهم لا يهددون بأي صورة أمن المواطنين، فلم لا يساعدهم المجتمع؟ جميع أولئك على وجه الخصوص، الذين يجدون أنفسهم بصدد الوقوع في براثن المراحل الأولى لداء يستطيع فن الطب مداواته؛ يجب أن يحصلوا على فرصتهم لتلقي معونات العلم والإحسان. فلا يمكن، في الوقت الذي تنتشر فيه المشافي في جميع أرجاء البلاد وتفتح أبوابها أمام الأمراض المختلفة التي تصيب البشرية، أن نحرم أشد هذه الأمراض قسوة، وهو الاستلاب العقلي، من هذا الخير.» وحيث كان النظام القديم يزعم (ببخل) أنه لا يقوم إلا باحتجاز المختلين عقليا المصابين بالهياج، نجد القرن التاسع عشر، الذي بدأ يشهد بزوغ الطب النفسي، يضع أمامه هدفا مغايرا تماما: من الآن فصاعدا، قانون 1838 يعنى بكل المجانين.
أتاح المرسوم الصادر بتاريخ 18 ديسمبر 1839 للقانون أن يدخل حيز النفاذ، ولا سيما فيما يتعلق بلائحة وتشغيل المؤسسات. فأصبح يتعين على المؤسسات الخاصة التي كانت قائمة بالفعل الحصول على تراخيص في غضون ستة أشهر. وأصبح لزاما على المدير، إن لم يكن هو نفسه طبيبا، توظيف أحد الأطباء لمعاونته في مهام الإدارة. أما عن المؤسسات العامة، فسيقوم الوزير بتعيين مدير لها. و«إلى جانب» (وهو التعبير المستخدم) المدير، يوجد رئيس الأطباء الذي يعين أيضا من قبل الوزير. «يتضمن علاج الاستلاب العقلي رعاية خاصة، ونظاما يهتم بالجانبين المعنوي والجسدي؛ مما يتطلب بالضرورة أن يتمتع الطبيب بنوع من الاستقلالية تتيح له اتخاذ كافة التدابير التي يراها ملائمة لإعادة المريض إلى صوابه.» ومع ذلك، كانت الإدارة المركزية في ذلك الوقت لا تزال تجهل الكثير فيما يتعلق بحقيقة الوضع داخل كل مقاطعة. ويتعين على المقاطعات، من جانبها، استيضاح كل نقطة من القانون، بدءا، كما هي الحال دائما، بالمسائل المالية. تلا ذلك تنظيم مكثف خلال الأعوام 1840، و1841، و1842.
لكن هذه ليست النهاية. فقد نصت المادة السابعة من القانون الصادر بتاريخ 30 يونيو 1838 على أن اللوائح الداخلية الخاصة بمؤسسات الأمراض العقلية يجب أن تعرض على الوزير وتحصل على موافقته. في الواقع، معظم المؤسسات الخاصة لم تكن ترسل شيئا. أما المؤسسات العامة، فكانت تضع لوائح وقوانين تنظيمية بها عوار لدرجة أن الوزير لم يكن يعتمدها. وهو ما يفسر إعداد لائحة نموذجية نشرت بقرار رسمي بتاريخ 20 مارس 1857. هذا القانون التنظيمي الكبير، بمواده البالغ عددها 189 مادة، وجداوله التي تشتمل على 15 نموذجا، ولائحته التنفيذية التي تفسر جميع المواد تفصيليا؛ لم يترك شيئا للمصادفة. وسيكون بمنزلة الكتاب المقدس لمصحات الأمراض العقلية بما يشمله من معلومات عن: الإدارة، والخدمة الطبية (7 مواد - على سبيل المثال - عن مهام الصيدلي فقط)، والحياة اليومية والجداول الزمنية، والنظام الغذائي وعمل المرضى عقليا ... ولقد أعلن الوزير صراحة أن هذه اللائحة تعد مكملة لقانون 1838: «بعد تكريس ثمانية عشر عاما من الخبرة من أجل هذا الإنجاز، يمكن القول إن هذا العمل هو نوع الأعمال التي تستطيع بحق أن تفخر بها الإدارة الفرنسية، التي تقدم مادة ثرية تقتبس عنها التشريعات الأجنبية.»
الفصل الثاني
ازدهار المصحات في فرنسا
لقد طرح التصويت على قانون 1838 ضمنيا قضية إنشاء مصحات جديدة، ولكن ما المقصود ب «مصحات جديدة»؟ كان التفكير في الشكل الذي يجب أن يكون عليه - على وجه التحديد - مشفى المجانين، قد بدأ بالفعل قبل التصويت على قانون 1838 مع صدور «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين والعمل على شفائهم في المصحات المخصصة» لهم عام 1785. اعتبارا من هذا التاريخ - وبالتالي قبل إسكيرول وقبل ظهور نموذجه «المصحة: أداة للشفاء» - تم التأكيد على «ضرورة تصنيف الأنواع المختلفة من الجنون وفصل بعضها عن بعض». ولقد رأينا مع ذلك أن معيار التصنيف كان يرتكز بالأحرى على السلوك وليس على علم توصيف الأمراض (النوزوجرافيا).
وحينما لاح في الأفق قانون 1838، بدأ تصميم قطاعات التصنيف، بشكل نظري، وكأن كل قطاع منها بمنزلة مصحة داخل المصحة، وحدة معمارية وعلاجية منغلقة على نفسها ومستقلة طبيا. إن إضافة هذه القطاعات إلى بعضها البعض، مع تعميم الخدمات، هو ما شكل المصحة، التي كانت تخصص أحيانا لجنس واحد، وأحيانا أخرى للجنسين، مع ما كان يستتبع ذلك من تكرار للنموذج القائم نفسه. فضلا عن ذلك، سبق أن رأينا، فيما يتعلق بإنشاء مشفى دو مان، أن التصنيف، الذي كان يترنح بين النوزوجرافيا والسلوك، أصبح أكثر تعقيدا بسبب المعايير المالية. فهناك من جهة ، المعوزين، ومن جهة أخرى النزلاء، وبالنسبة إلى هذه الفئة الأخيرة، كان يوجد أيضا تقسيم داخلي إلى طبقتين أو ثلاث متميزة بعضها عن بعض بحسب القدرة على الدفع.
هناك العديد من المسائل المهمة الأخرى التي طرحت نفسها على مشارف القرن التاسع عشر. ما هي مساحة مصحة الأمراض العقلية؟ كان تونون وكابانيس يفضلان أن تكون المشافي محدودة المساحة (بحيث تسع من 100 إلى 150 سريرا)، لشكهما في فرص الشفاء داخل مؤسسات كبرى وشاسعة. بيد أن هذا ليس ما نصبو إليه، وإنما على العكس، نحن نتجه نحو إنشاء مؤسسات كبيرة، بل كبيرة للغاية بحيث تصبح تكلفتها نسبيا أقل، وأيضا؛ لأن هذه المؤسسات الكبرى هي الوحيدة القادرة على إيجاد حل لمشكلة التصميم المعماري المؤرقة الناجمة عن التقسيم إلى قطاعات بحسب التصنيف. أما عن أولئك الذين لا يؤيدون وجود المصحات على الإطلاق، فهم قلة قليلة لدرجة تدفعنا للإشارة هنا إلى ذلك الصراع الذي شنه عبثا المدعو مور، محافظ مقاطعة فار في عام 1791.
1
لا لمصحات الأمراض العقلية - هكذا قال - لأنه يفضل وجود الداء على الدواء. بالطبع، المصحات التي يشير إليها هنا هذا المواطن هي المصحات «التي تنتمي إلى مرحلة ما قبل إسكيرول». بيد أن انتقاداته، التي صاغها وفقا لمبادئ العلاج المعنوي، هي المبادئ نفسها التي تلقي بالفعل بظلالها الثقيلة على المصحة المستقبلية. فالمختلون عقليا، حين يمرون بفترات الصحو، لا يسعهم إلا الشعور بالهلع والرعب واليأس عند رؤية منظر جنون الآخرين، ذلك الجنون الذي يغرقهم أكثر فأكثر في جنونهم الخاص. وفيما يتعلق بالعدد الكبير للمختلين عقليا المحتجزين داخل المشفى ذاته، فهو يوضح لنا استحالة الاهتمام فيه بشكل حقيقي بكل مريض على حدة؛ إذ يجب «أن يكون المعالج موجودا باستمرار مع المريض للاستفادة من هذه اللحظات السعيدة التي تكون فيها روحه لا تزال منفتحة على نور الحقيقة.» أليس من الأفضل توزيع هؤلاء المختلين عقليا في المشافي بالقرب من أسرهم؟ ولكن ذلك سيكون باهظ التكلفة. المحافظ هو الذي يتحدث هذه المرة.
مبادئ معمارية
لقد كان عصر المصحات بلا أدنى شك هو عصر اللقاء بين أطباء الأمراض العقلية والمهندسين المعماريين وسط أجواء حماسية من الهندسة المعمارية. كتب إسكيرول قائلا: «إن المخطط الخاص بمصحة الأمراض العقلية ليس أمرا بلا قيمة بحيث يتعين تركه للمهندسين المعماريين وحدهم.» ومن ثم، فإن المشروعات التي سيكتب لها النجاح ستكون نتاجا لهذا التعاون.
بيد أن المهندسين المعماريين أنصار التيار الخيالي لم يفشلوا. فإذا كان السجن، في بداية القرن التاسع عشر، هو التيمة الكبرى للهندسة المعمارية الوظيفية في فرنسا،
2
فإن المشفى وبالأحرى مصحة الأمراض العقلية، بسبب أهدافها المزدوجة، يشكلان تجسيدا لنظرية معمارية، تتسم بالمبالغة والغلو في بعض الأحيان. يضاف إلى المبدأ الأساسي القائم على التماثل التام؛ أي صورة الجسم المثالي، مبدأ آخر وهو مبدأ الهندسة المعمارية المرتكزة على المراقبة، التي يعد المثال الأبرز لها هو نموذج البانوبتيكون الشهير أو النموذج شمولي الرؤية (وهو نوع من السجون يسمح بمراقبة جميع السجناء دون أن يشعروا) الذي صممه جيريمي بنثام (1748-1832)، وهو فيلسوف نفعي وفقيه قانوني إنجليزي. لنتذكر سريعا هذا المبدأ: «مبنيان (دائريان) متداخلان أحدهما مع الآخر. يتكون المبنى المحيط من شقق السجناء [مع] وجود زنازين مفتوحة من الداخل [...] هناك برج يحتل الوسط، وهو مسكن المراقبين [...] يحيط ببرج المراقبة رواق مغطى بمشربية شفافة؛ مما يتيح للمراقب أن يتوغل بنظره في أعماق الزنازين، ولكن دون أن يراه أحد [...] وسواء أكان غائبا أم حاضرا، فإن فكرة حضوره فعالة كحضوره نفسه.»
3
ويذكر بنثام صراحة مصحات المجانين ضمن المؤسسات القابلة للتنظيم على شاكلة التصميم المعماري شمولي الرؤية. في إطار رؤية للجنون «تنتمي إلى مرحلة ما قبل الطب العقلي» حيث كان الاحتجاز هو العنصر الوحيد الذي يؤخذ في الحسبان (نحن نتحدث عن عام 1791)، يوضح بنثام أن الحجرات المنفصلة بعضها عن بعض والخاضعة للمراقبة المركزية «تغني عن استخدام القيود وغيرها من وسائل القمع»، بالإضافة إلى أنها توفر ميزة أخرى تتمثل في حماية المجانين في الوقت نفسه من اعتداءات الحراس؛ لأن كلا الطرفين يجدون أنفسهم خاضعين لنظام من المراقبة التي تتسم بالشفافية المطلقة.
في الوقت ذاته، اتجه بعض المهندسين المعماريين ، بوصفهم الورثة الروحيين لكلود نيقولا لودو، الذي تأثر هو نفسه بمفهوم التصميم المعماري شمولي الرؤية، إلى «ذلك البناء القائم وسط الأشعة، حيث لا يفلت أي شيء من المراقبة»،
4
كما نرى على سبيل المثال في تصميم مبنى الملاحة الملكية في آرك إي سينان أو لإيتيان لويس بوليه، نحو تصميم مخططات عملاقة ذات نزعة معمارية شمولية. ولقد رسم جان باتيست هارو رومان - المهندس المعماري بكالفادوس - أثناء قيامه ببناء سجن بوليو المركزي الجديد (من وحي التصميم المعماري شمولي الرؤية) في موقع مستودع التسول نفسه القديم بكاين؛ تصاميم مصحة الأمراض العقلية ذات الطابع الانعزالي الشبيه بالأديرة؛ حيث نقرأ فوق بوابة الدخول الوحيدة والضيقة، العبارة الآتية على الشاهد: هنا يوجد مختلون عقليا.
يظهر هذا الطراز المعماري المزود بإشعاع للمراقبة، الذي نجده بالفعل في مشاريع مصحات القرن الثامن عشر، في مشروع إنشاء «مؤسسة لمعالجة الاستلاب العقلي» (1827)، الذي قدمه فيريس - كبير الأطباء بدور الإيواء في بيستر - بالاشتراك مع بيير فيليبون، المهندس المعماري بالحكومة. يتمثل هذا المشروع في إنشاء أربعة أجنحة مزودة بالإشعاع للمرضى عقليا الذين يحتاجون إلى مراقبة خاصة. بحيث يمكث في المبنى المركزي طاقم الخدمة و«المشرفون الرئيسون». «ومن خلال هذه الترتيبات، يصبح الأشخاص القائمون بالخدمة والمكلفون بحراسة المرضى عقليا الغاضبين أو الثائرين، أكثر قربا من بعضهم البعض؛ مما يتيح لهم تبادل المساعدة فيما بينهم عند الحاجة، كما يسهل تحركهم وتنقلهم في أرجاء المكان من دون أن يكونوا مضطرين لقطع مسافات طويلة داخل المؤسسة. وهكذا أصبحت المراقبة العامة أكثر سهولة، وأكثر نشاطا وحيوية، كما أصبحت تغطي كافة أنحاء المؤسسة، ولم يعد يوجد أي منطقة محرومة منها. وكان من المقرر إنشاء مبان أخرى لاستقبال المرضى المسالمين، في نهاية القسم المكون من حجرات مخصصة للمرضى عقليا الهائجين.»
ومع ذلك، كان مقدرا للمخططات المعمارية الشعاعية - من قبيل التصميم الذي وضعه مونروبير (مهندس معماري في ليون) في عام 1835 وأطلق عليه اسما جميلا هو «المخطط الفسيولوجي» - أن تظل مجرد تصاميم على لوحات كرتونية. وتزايدت الانتقادات: إن نظام المراقبة المركزية، وإن كان أساسيا في السجون، إلا أنه ثانوي في مصحات المجانين؛ حيث يتعلق الأمر بتفريق المرضى بدلا من تجميعهم بالأحرى؛ الأمر الذي يؤدي بهم إلى الهياج والضوضاء. كما أن القسم الواحد ليس مجزأ بما يكفي إلى عدد من الأقسام الفرعية. فضلا عن ذلك، يضفي المخطط الشعاعي مظهرا قبيحا على الأفنية، ويحتم إطالة الأشعة بشكل مفرط أو زيادة عدد الطوابق متى زاد عدد المحتجزين بشكل كبير. وبمنتهى الجدية الممكنة، يضيف جوزيف جيزلان (1797-1860) - رائد الطب العقلي البلجيكي (نطلق عليه أحيانا «بينيل البلجيكي») - بخصوص الشكل الشعاعي، قائلا: «عند النقطة المركزية، يوفر هذا التصميم تدفق تيارات الهواء.» لقد بنيت مصحة مونديفيرج، في فوكلوز، عام 1843، على الطراز الشعاعي، وكان لها فيما بعد ثقل كبير خارج فرنسا.
من الواضح أن إسكيرول قد أولى اهتماما خاصا لذلك المخطط الذي كان من المفترض أن يصبح مصحة للمرضى عقليا، مشيدة خارج المدينة على أرض شاسعة، وقادرة على استيعاب من 400 إلى 500 مريض. لقد استعان بالمهندس المعماري لويس-إيبوليت لوبا لتنفيذ التصاميم، ثم عرض على المجلس العمومي لدور الإيواء في باريس المخطط الأول لمشروع إنشاء مصحة كبرى للأمراض العقلية، وهي المصحة التي كان مقدرا لها أن تكون نموذجا للإنشاءات التي بدأ يتم تنفيذها في العديد من المدن الفرنسية. فوق محور مركزي، حيث نجد المصحة التي تعد بمنزلة نقطة ارتكاز حقيقية لهذه المدينة داخل المدينة، تقع مباني الإدارة والمرافق (المطابخ، والحمامات، وورش العمل). ولا ننس أيضا ذلك البناء المركزي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والمتمثل في الكنيسة، ذات الأبعاد الكبيرة في الغالب. من كلا الجانبين، عموديا وفي تماثل تام، بحيث يكون الرجال ناحية اليمين والسيدات ناحية الشمال، نجد مناطق التصنيف، وهي عبارة عن «كتل من المباني رباعية الأضلاع ومعزولة، وتمتلك من الداخل فناء محاطا برواق مسقوف، [مع] وجود جانب رابع مغلق بقضبان حديدية يطل على حدائق واسعة أو الريف [...] كتل معزولة كثيرة لتصنيف جميع المرضى بحسب طبيعة مرضهم وفترة الإصابة [...] وكان من المقرر أن توفر جميع هذه المباني المبنية على الطابق الأرضي، مساكن منفصلة ومجهزة للمرضى عقليا: المصابين بالهياج، وبالهوس دون دوافع عدوانية على الإطلاق، وللسوداويين الهادئين، وللمصابين بالهوس الأحادي، وهم عادة يتسببون في صخب كبير، وللمختلين عقليا المصابين بالخرف، وللمختلين القذرين، وللمصابين بالصرع وبأمراض عرضية، وأخيرا، للمرضى في طور النقاهة الذين يتعين أن يكون مسكنهم مجهزا تجهيزا معينا بحيث لا يصبح في إمكانهم رؤية أو سماع المرضى الآخرين، بينما يظلون هم أنفسهم على مقربة من المبنى الرئيس» ... ومن جديد، كانت الغلبة والسيادة للتصنيف على أساس المعيار السلوكي.
وفي عام 1862، أثناء افتتاح تمثال إسكيرول في شارنتون، أعرب جان باتيست بارشاب (1800-1866) - وهو مفتش عام على قسم المرضى عقليا منذ عام 1848 - عن تقديره لهذا الأب المؤسس، وصرح بأن «هذه المعطيات الأساسية، التي تعد فكرا طبيا، ستكون بمنزلة الأساس الراسخ الذي سيرتكز عليه، من الآن فصاعدا، المثل الأعلى لمصحة الأمراض العقلية. يتمثل هذا الفكر في تصنيف المرضى وتقسيمهم على مناطق منفصلة ملائمة لاحتياجات ومتطلبات العلاج المعنوي، تبعا لطبيعة وشكل وحدة المرض [...] وهكذا، فإن تبعية الهندسة المعمارية للمعالجة، التي تجلت للمرة الأولى في التصاميم المقدمة والمستوحاة من إسكيرول، سترتبط بجميع التطورات المتتالية التي سيجري إدخالها في مجال تأسيس، وإنشاء، وتنظيم مصحات الأمراض العقلية.»
5
إذا كان البرنامج الذي اقترحه بنجامين ديبورت - مدير مكتب المساعدة العامة - وعرضه، في عام 1821، على المجلس العمومي للمشافي ودور الإيواء المدنية في باريس، يعد بمنزلة تكرار للإرشادات الجوهرية التي سبق أن أوردها إسكيرول، فإنه (البرنامج) تغلغل في بعض التفاصيل الخاصة بالتنفيذ وفي بعض الاعتبارات؛ مما أدى في النهاية إلى إرساء دعائم البناء الاستشفائي في بداية القرن التاسع عشر.
6 «إن المصحة المكرسة لمعالجة الاستلاب العقلي هي بمنزلة صرح خيري تفتقر إليه فرنسا.» أو أنه لم يكن في الإمكان محاكاة الدول المجاورة، التي تضحي مؤسساتها بالتنسيق والترتيب الداخلي في سبيل «عظمة التنفيذ». «ينبغي على فرنسا تقديم هذا النموذج.» فلا يتسم مشفى الأمراض العقلية بأي مغالاة معمارية: «تعتمد فخامة مصحات الأمراض العقلية على توفير أكبر قدر من الرفاهة لكل فرد من خلال توفير مكان مريح ونظيف له ؛ فيجب ألا تظهر عبقرية المعماري إلا من خلال النسب الدقيقة والخطوط المستقيمة دائما والتنسيق المعين للكتل، بحيث تمر عليها العين بسهولة. أما فيما يتعلق بالموقع، فنجد مبادئ إسكيرول: «مساحة واسعة خارج المدن (والدافع الفكرة الواضحة التي تستهدف إبعاد المختلين لإلهائهم عن أفكارهم الثابتة، وفي ذات الوقت عزلهم عن فضول الآخرين) وهواء نقي وموارد مياه وفيرة ... على أن يكون مكان المباني ناحية الشرق، كما ينص إسكيرول. وبالتالي يجنب المرضى «حرارة الجنوب في الصيف وبرودة الشمال في الشتاء»، [...] الأمران اللذان يساهمان في تأجيج خيالاتهم.» في حين أن الشرق - بغض النظر عن جودة ونقاوة الهواء «وانتعاشه الذي يهدئ من احتدام الذهن» - يتيح للمرضى الاستفادة من وضوح أشعة الشمس الأولى، التي لها القدرة على تحسين حالتهم وتهيئهم للخضوع دون مقاومة للرعاية التي يتطلبها وضعهم.»
يسع مثل هذا النوع من المصحات خمسمائة مريض: ثلاثمائة امرأة ومائتي رجل «يفصلهم أكبر قدر ممكن من الفراغ»، لدرجة تحولهم إلى مصحتين داخل واحدة كبيرة، مع الاحتفاظ بإمكانية المرور بسهولة من واحدة للأخرى. ويتكون كل من هذين الجزأين الكبيرين من اثنتي عشرة منطقة على الأقل؛ أي اثني عشر مشفى صغيرا منفصلا بعضها عن بعض دون أن يستطيع أحد رؤية أو سماع ما يدور في أي منها: «مجانين ثائرين أثناء العلاج ومجانين ميئوس من شفائهم في حالة هياج، ومجانين هادئين في طور العلاج موضوعين في غرف، إلى مجانين في حالة صرع وهياج، ومجانين مصابين بالصرع في مهجع، وأيضا مجانين هادئين موضوعين في المهجع ومجانين هادئين ميئوس من شفائهم، بخلاف المصابين بالسوداوية والبله والأمراض العرضية ومن هم في طور النقاهة.»
وتعد هذه المناطق الاثنتا عشرة أكثر بكثير مما أنشيء في الواقع، فعادة ما يتعارض تواضع الميزانيات مع المشروعات الطموحة. إلا أن ديبورت يرى وجوب إضافة تقسيمات فرعية أخرى: «توجد بين المجانين فروق، وقد يرغب الأطباء في تصنيفهم منفصلين وفقا لها»، كما يجب تجنب مشاهدة المجانين لنوع آخر من الجنون غير الذي أصابهم؛ ومن ثم فإن مضاعفة هذه التقسيمات قد يعني مضاعفة وسائل الشفاء في الوقت نفسه. ويعتقد ديبورت أن - في جميع الأحوال - وجود اثنتي عشرة منطقة للتقسيم إنما يعد الحد الأدنى. «أي تقسيم أقل من ذلك قد يعرض الأطباء إلى فشل محاولات العلاج.»
وفقا لفكرة إسكيرول، فإن تلك المباني لن تنشأ إلا من طوابق أرضية وقباب مضفية على الأراضي نقاوة أفضل. ويضيف ديبورت أن هذا التصميم يتطلب مساحة أكبر من الأرض، ولكن تكمن ميزته في مضاعفة الباحات والمتنزهات والحدائق. ويكون المحور الرئيس هو «الحاجز الأول للمراقبة بين الجمهور والمرضى.» وبالإضافة لمكوناتهم التقليدية كما في أي مصحة أخرى (كنيسة ومشرحة ومطبخ ومخبز ومغسلة وحجرة للبياضات وأيضا المباني الإدارية)، ينبغي أن تكون المباني بأقسامها الأربعة والعشرين ظاهرة جميعها للعين، وأن تمتلك خدمة متطورة للاستحمام بصفة خاصة. ويخصص ديبورت كتابات مطولة لما يجب أن تكون عليه المنشآت الخاصة بالعلاج بالمياه، الذي هو العلاج الأمثل للجنون.
يكون لكل مناطق الأقسام تكوين مماثل، يتضمن مهاجع وزنازين وقاعة طعام وغرفة اجتماعات ومشغلا ورواقا مغطى ورواقا في الحديقة ونافورة ومراحيض (ويدرس ديبورت بدقة ترتيب وتكوين هذا المكان الحساس في مصحات الأمراض العقلية)، وغرفا وباحة مخصصة للخدمات. وتقع مسئولية الاختيار بين الاحتجاز في المهجع أو الزنزانة على عاتق الإداري الذي يقدر بأن عدد الزنازين لا بد أن يكون قليلا قدر الإمكان. ويكون الباقي عبارة عن مهاجع بها أربعة وعشرون سريرا؛ حيث إن الانفراد هو الاحتجاز في حد ذاته، فيجب ألا يعزل أحد داخل المصحة؛ لأن الحياة في مجتمع - وهي النتيجة المنطقية لتلاشي القيود - إنما هي شرط وضمان إعادة الاندماج. ويرى ديبورت في المهجع هذه الميزة (إنه يعطي إحساسا بالطمأنينة في حد ذاته)، «فهو يساعد على الاحتماء من التقارير التي يعدها الموظفون عن المرضى، خاصة وأن هذه الطبقة قد لا تمتلك دائما القدرات المطلوبة. فحتى من يمتلكون منهم قدرا عاليا من الحساسية، قد يفقدونها في بعض الأحيان ليتحولوا في نهاية المطاف إلى كائنات غير آدمية.»
عندما نشر الطبيب سيبيون بينيل - ابن بينيل الكبير - في عام 1836 مؤلفه «بحث كامل عن النظام الصحي للمختلين عقليا، أو دليل المؤسسات المخصصة لهم»؛ أصبح هو رائد أول النتائج في هذا المجال. ولقد أهله اسمه إلى جانب بعض الإضافات (كان برنامج ديبورت أقدم باثني عشر عاما) للوصول إلى صياغة أكثر تحديدا للمبادئ الملموسة لعلم الطب العقلي، كل هذا في الوقت الذي أعلن فيه عن التصويت على قانون للتمويل بشأن هذا الموضوع الذي ظل طويلا موضعا للنقاش. إلا أن العنوان المزدوج لبحث سيبيون بينيل يؤكد بالفعل على القضية الرئيسة: فالنظام الصحي للمرضى عقليا إنما يندرج برمته داخل المؤسسة العلاجية التي هي المصحة. ويستند سيبيون بينيل في البداية إلى برامج ديبورت وإسكيرول، دون إغفال تعاليم والده الشهير. ولقد استقى من هذا كله الخطوط العريضة لخطته التقليدية التي تقوم على ثلاث كتل متماثلة تربطهم ممرات تصل مناطق إقامة المرضى عقليا بالمباني المركزية وتعطي للمصحة طابع الوحدة والتماسك. إلا أن خطة سيبيون بينيل كانت تقدم بعض ملامح الإبداع: تكون الكتل الثلاث الرئيسة ثلاثة تجمعات رأسية أكثر منها أفقية. وتنشأ الأجنحة في منتصف الفناء وليس حوله. وفي النهاية، يحيط بالأجنحة مزرعة للرجال وغرفة للبياضات والغسيل للنساء، وكأنهما العضوان الفاعلان في هذا الجسد المريض الضخم.
وتعد القضية الأكثر أهمية التي عكف سيبيون بينيل على دراستها طويلا هي مناطق التقسيم. يتحدث لويس-جاك مورو دي لاسارت عن تصنيفات المرضى «الذين يجري توزيعهم في البلدان المختلفة في مختلف المناطق بحسب نوع الجنون الذي أصيبوا به.» ومن جانبه، يذكر هنري داجونيه «تصنيفا لا يقل أهمية على المستوى العملي عن النظري.»
7
يقترح سيبيون بينيل ست مناطق للتصنيف تضم تقسيمتين فرعيتين أساسيتين: تخصص أربع مناطق للمرضى عقليا ممن هم في طور العلاج (قطاع للتمريض وقطاع لمن هم في فترة النقاهة وآخر للمرضى عقليا المسالمين وآخر للمرضى الثائرين داخل الزنازين)، بينما تخصص منطقتان للمرضى الميئوس من شفائهم (واحدة للمسالمين منهم والأخرى لمن يعانون من حالات الهياج أو الصرع). للوهلة الأولى، يقدم هذا التقسيم الحل للمشكلة التي ستظل منذ ذلك الحين موضع انتقاد في كافة مصحات الأمراض العقلية؛ ألا وهي السلوك صعب الانقياد للمرضى عقليا المزمنين. «فهمنا أخيرا أن مصحة الأمراض العقلية مخصصة ليس فقط للعلاج الفعال للجنون، بل وأيضا للاحتجاز الدائم للمرضى عقليا الميئوس من شفائهم»، هكذا كتب سيبيون بينيل. لماذا إذن ستة تقسيمات فقط، بدلا من الاثني عشر التي اقترحها ديبورت؟ ويبرر سيبيون بينيل الأمر باستدعائه للخبرة المكتسبة من تقسيمات مصحة سالبيتريير وبيستر اللتين أنشأهما ديبورت. ويكون الاقتصاد في النفقات بضم المرضى الهادئين الميئوس من شفائهم إلى المصابين بالبله، وبإلغاء الزنازين الخاصة بالمرضى الهادئين في طور العلاج ونقلهم بالتالي إلى المهجع. والشيء نفسه مع النساء؛ حيث تكون هناك منطقة من الزنازين لا تصلح إلا للمصابات بالهوس الجنسي والهستيريا وأولئك اللاتي يطيب لهن العيش عرايا بين القاذورات. ولكن تلك الحالات ليست بالكثرة التي تتطلب تشكيل قطاع كامل خاص بها، ومن ثم فإن الاحتجاز لا يؤدي إلا إلى تفاقم حالات هؤلاء المرضى: «يجب وضعهم في المهجع طالما كان ذلك في الإمكان، وعند الضرورة القصوى قد يكون لدينا زنازين داخل الأجنحة المعزولة.»
تنقسم المنطقة الخاصة بالمرضى عقليا الميئوس من شفائهم، سواء المصابون بالهياج أو الصرع، إلى قسمين يفصلهما جدار لتفادي اختلاط المرضى الذي هو أمر مخالف للتقاليد الطبية. ولقد انشغل سيبيون بينيل بهذه المسألة الخاصة بالجدران خاصة السياج الخارجي، كما اهتم غيره من المعماريين وأطباء الأمراض العقلية أيضا خلال العقود التالية بدراسة ضرورة إحاطة مستشفى الأمراض العقلية بسور خارجي من عدمه. إنها مسألة نظرية بحتة، ولا سيما أن جميع المصحات لها أسوار، ولكنها كانت مفارقة في ذات الوقت؛ لأنها تقدم صورة لمصحة الأمراض العقلية كمصحة وسجن في آن واحد. وبنوع من السذاجة، حاول علم النفس الوليد على الأقل أن يخفي هذه الجدران البغيضة: «بما أن جميع المرضى عقليا يقولون ويعتقدون أنهم سجناء لأسباب أخرى غير مرضهم، فيجب قدر الإمكان محاولة محو فكرة وجودهم داخل سجن أو حبس إجباري عن طريق إخفاء الجدران بكتل ضخمة من الأشجار والزهور.»
يتبقى لنا الجزء المركزي للمباني الإدارية، والذي يقوم أيضا بعدة وظائف خاصة بالعلاج: فقبل كل شيء هو المبنى حيث توجد دورات المياه - التي ثبتت أهميتها العلاجية على مدار مائة عام - وأيضا قاعة الاستقبال، ويعكس قربها من المكاتب الإدارية الرغبة في منع أي زيارات داخل مناطق المرضى، بل وأيضا مراقبة أي علاقة بالخارج عن كثب. وتضم هذه المباني أيضا قاعة الترفيه والمكتبة المخصصة للموظفين وأيضا للمرضى «الذين يتمتعون بالوعي»: «يمكن للمرضى الذين هم على قدر من التعليم دخول هذه الأماكن عند بلوغهم مرحلة النقاهة للتعود تدريجيا على طرق الاندماج داخل المجتمع.» أخيرا، نظرا لعدم وجود منطقة للمراقبة كما هي الحال في كافة مصحات القرن التاسع عشر، فكر سيبيون بينيل على الأقل في إنشاء وحدة للاستقبال تكون في المبنى الرئيس، «تكون مكانا آمنا يمكن للمريض أن ينتظر فيه حتى موعد الزيارة التي يقوم بها طبيبه في اليوم التالي، وخلالها يقرر الطبيب بعد فحص دقيق نقل المريض إلى القسم المناسب له وفقا لنوع مرضه. وإذا كان هناك شك في نوع جنونه، يمكن للطبيب أن يبقي المريض عدة أيام في هذه الوحدة حتى يتأكد.»
وفي النهاية، منع سيبيون بينيل - شأنه شأن سابقيه - أي تصميم معماري جديد أو فخم أو فاخر للمشفى. ففخامة المشفى تكمن في نظامه وتجانسه ونظافته. وعلى الرغم من ذلك، فلقد ظهرت بعض المشاريع المعمارية الجريئة، مثل ذلك الذي قدم في عام 1847 في مدينة رون. فلماذا يجب أن يحرم مشفى للمرضى عقليا تماما من «العظمة والأناقة التي تروق للجميع بجودة ذوقها وبساطتها دون إغفال الجانب الاقتصادي. ينبغي أن نمحو من أذهان المرضى أي صورة لدور الاحتجاز الإجباري والتأديبي.»
8
وفي الواقع، كان المشروع يقوم على: التقسيم التقليدي للمباني إلى ثلاثة أجزاء تحوطهم مساحات خضراء شاسعة تفصلها ممرات مزروعة بالأشجار منسقة على الطريقة الفرنسية في وضع متماثل يضفي بريقا على المشهد ويضفي طابعا جليلا. ومما يزيد من إبداع المشروع وجود جناحي المرضى المقيمين على زاويتي المكان، بالإضافة إلى وفرة عدد الممرات المزينة التي يمكن تغطيتها وتدفئتها خلال فصل الشتاء. ويمتد الشارع الرئيس في هذه المدينة (التي يقيم فيها من تسعين إلى مائة وعشرين موظفا وما بين ستمائة إلى سبعمائة مريض عقليا) لمسافة خمسمائة متر (ويصل عرضه إلى خمسة أمتار)، عبورا بجميع وحدات الخدمات ليفصلهم وينظمهم في ذات الوقت. كانت تلك هي «الحدود القصوى» للمصحة على حد قول أصحاب المشروع الذي كان بمنزلة تصور أولي لما سيصبح عليه شكل المصحات بنهاية القرن التاسع عشر.
ولا يزال تقسيم المناطق لتصنيف المرضى مثارا للجدل، على نحو مختلف من مصحة لأخرى، بل وداخل المصحة الواحدة ومن عصر لآخر وفقا لإمكانيات التنسيق والزيادات المتتالية في العدد. ولا تزال أيضا قضية التقسيم بين مرضى يمكن علاجهم وآخرين ميئوس من شفائهم تطرح بقوة أكثر من تلك المتعلقة بالمرضى القادرين على تحمل نفقات العلاج ومن يعالجون بالمجان. وتراجعت تماما فكرة تخصيص مصحة للمرضى الميئوس من حالتهم (لكونها أليمة للمرضى ولعائلاتهم وللرأي العام وأيضا للطب).
9
ويلاحظ أيضا وجود ذات النفور من تخصيص منطقة من المصحة للمرضى الميئوس من شفائهم. إلا أنهم موجودون بكثرة هؤلاء المرضى، ولكن موزعون بين أقسام المصابين بالهياج والمختلين والمشلولين والقذرين وحتى البله؛ باختصار، في كل مكان. ولكن - من ناحية أخرى - ألا يجب أن يحظى البله والمصابون بالصرع بمصحات خاصة بهم؟ ولكن لا يظهر في الأفق إلا المصحة الشاملة التي تجمع كل الأمراض العقلية.
ولقد قدم كل طبيب شهير للأمراض العقلية في نحو مثالي تصوره عن المصحة العقلية. ففي عام 1852،
10
عرض جوزيف جيزلان نتائجه في حديث مطول عن مسألة تصنيف المرضى. ولقد قارن بين الطريقة النظرية (التي تقضي بتنظيم المرضى بحسب النوع وتصنيف المرض المصابين به)، والطريقة «العملية والتجريبية التي تقوم على التأثير السلبي أو الإيجابي الذي يمكن أن يحدثه المرضى عقليا على بعضهم البعض.» وكتب جوزيف بأن الطريقة الأولى آخذة في الزوال، فالقيام بجمع كافة المصابين بالسوداوية معا «يعني الحكم عليهم جميعا بالعيش في محيط تغمره الكآبة.» وعلى المستوى التقليدي للتنظيم الجيد - مع قدر قليل من التنازل - يقترح جيزلان التصنيف التالي: المرضى في حالة النقاهة، «والواعون مع نوبات دورية، والعاجزون وطريحو الفراش، والمرضى المسالمون، والمصابون بالسوداوية، والمرضى في حالات الانتشاء، والمصابون بالهوس السلمي وبالهذيان، والمختلون، والبله الهادئون» (ويكون الشرط الأساسي للوجود ضمن هذا التصنيف هو «القدرة على التصرف تقريبا مثل الشخص العاقل»؛ ثم المرضى المصابون بالهياج، «المصابون بالسوداوية والقلق، واليأس، والمرضى ذوو الميول الانتحارية، والمتجولون، والمتحركون والمصابون بالهوس والثرثرة وإلصاق التهم بالآخرين، والمغنون، والمصابون بالهذيان والمختلون والبله الماكرون، ومرضى العناد، والمصابون بالصرع لفترات طويلة.» (ولكي يدرج المريض في هذا التصنيف عليه ألا يتشاجر أو يمزق ثيابه، بل وأيضا عليه أن يحسن التصرف ليلا داخل المهجع)، باختصار عليه «أن يمتلك قدرا من الذكاء يمكنه من الخضوع لنظام هادئ»)، وأخيرا، المرضى المضطربون والمدمرون «الذين يتشاجرون ويحطمون الأثاث ويمزقون ثيابهم، والخائنون أو الميالون للانتقام، والمصابون بنوبات غضب عنيفة، والأغبياء المصابون بالصرع، والمصابون بالهوس المضطربون الغاضبون، والميالون للقتل»، والمختلون «الذين أصيبوا بضعف شديد في الوظائف العقلية، والبله والمصابون بالصرع دون هوس أو خرف، و(المصابون بهوس جنسي متعلق بالبول والبراز)»؛ أي إنهما ستة تصنيفات كبرى، معزولة بشدة بعضها عن بعض.
تم التخلي عن فكرة إسكيرول باستخدام الطوابق الأرضية لصالح نظام مختلط دعا إليه جيزلان: وضع المرضى عقليا المصابين بالخرف والمضطربين والخطرين في الطابق الأرضي، وباقي المرضى المسالمين في الطوابق الأخرى.
في عام 1852، نشر فالريه - تزامنا مع جيزلان - تصوره الخاص عن مصحة الأمراض العقلية
11
التي ترتكز - بالإضافة إلى مقولة إسكيرول الهامة (إن مصحة الأمراض العقلية إنما هي إحدى أدوات العلاج) - على الشعار التالي: «يجب أن يكون إنشاء مصحة للأمراض العقلية تحقيقا لمبادئ الطب العقلي أكثر منه عملا معماريا.» ونجد في هذا التصور - الذي يعد في فرنسا مرجعا في هذا الموضوع - جميع المسائل التي طالما نوقشت وبالتأكيد الإجابات نفسها، ولم يكن ظهور فكرة المهجع محط جدل؛ لكونه يخدم فكرة الحياة المشتركة، مثله مثل إنشاء قاعات الطعام والاجتماعات، بل وأيضا مبدأ العمل المشترك الذي من شأنه تنظيم إيقاع الحياة اليومية في المصحات. كل شيء خاضع للتحليل والحساب والقياس: مساحة الزنزانة (التي زادت) ومادة تصنيع السلالم والأرضيات وفتحات النوافذ (في ثلاث صفحات على الأقل عند فالريه)، دون إغفال المراحيض: «تعد مسألة المراحيض غاية في الأهمية في أي تجمعات بشرية كبيرة إلى حد ما، وتزيد أهميتها في مصحات الأمراض العقلية؛ بسبب ميل المرضى العام إلى القذارة، بل وأيضا لميولهم الانتحارية، أو بسبب حالات الاستمناء التي تتطلب مراقبة خاصة.»
ماذا عن العلاج المعنوي في كل هذا؟ لا يستخدم فالريه - مثله مثل زملائه - هذا التعبير المشوه بالفعل، وإنما تساءل أيضا، في خاتمة بحثه، عن مدى عمق فاعلية هذا «العلاج العام» وهذه «الرتابة» في المرض العقلي. وأخذ حينئذ يحلم بوضع تصنيفات خاصة أوحت إليه بها الدراسة الطبية وليس المبادئ الإدارية، وبمضاعفة المساحات الصغيرة التي تتيح للمرضى ممارسة تأثير مفيد على بعضهم البعض؛ أي ما يسمى ب «علاج متبادل» حقيقي.
أما بارشاب فإنه يتمسك أكثر بالأوضاع على أرض الواقع، ومن ثم يبدو أكثر عملية. كان متشددا في ممارسة مهامه بعيدا عن جمود التفكير، ولم يكن يشغله فكرة «أن تحديد شكل أو نمط معين يفرض على المصحات بشكل عام أمرا عقلانيا أو ممكنا.» كان يعتقد بالأحرى في «التحسين المستمر لتصنيف المرضى عقليا»، وعندما طلبت منه وجهة نظره حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه مصحة الأمراض العقلية، أجاب: «أعطوني برنامجكم، وأروني أرضكم.»
12
إلا أن هذا لم يمنعه من امتلاك فكر جديدة لم يجر تنفيذها. كان يريد أن يحتجز الأغنياء في المصحات الخاصة، وأن يفصل الجنسان في مصحات منفصلة، وأن يكون الطبيب هو المدير الوحيد للمؤسسة؛ حيث إن المشاركة في السلطة لها دور كبير في رفاهية وشفاء المرضى، ولكن على حساب النفوذ والفعالية. لم يرد بارشاب - الذي هو من مؤيدي فكرة المساحة المتواضعة للمهجع - أن تكون الزنازين (المخصصة للحبس الانفرادي والإجباري، والمزودة بمعدات خاصة) مخصصة للإقامة الدائمة.
إنشاءات
لا يوجد في فرنسا العديد من مصحات الأمراض العقلية الحديثة والنموذجية. فلم يبدأ أثر تنفيذ قانون 1838 في الظهور إلا بعد فترة طويلة من الوقت. كان لا بد من الانتظار حتى صدور مرسوم الخامس والعشرين من مارس 1852 (مرسوم آخر!) والذي يعطي للمحافظين قدرا أكبر من الاستقلالية، وأيضا فترة التوسع الاقتصادي في العقدين التاليين اللذين بدآ مع فترة الإمبراطورية الثانية، كل هذا لنشهد حركة انطلاق حقيقية في إنشاء مصحات الأمراض العقلية.
ويساعد «التقرير العام حول خدمات المرضى عقليا في عام 1874» - الذي قدمه مفتشو الهيئة (كونستانس ولونييه ودوميسنيل) إلى وزير الداخلية في عام 1878 - على قياس التقدم الذي طرأ منذ التصويت على قانون عام 1838. حينه كانت فرنسا تضم مائة وأربع مؤسسات لرعاية المرضى عقليا: ست وأربعون منها خاضعة لإدارة السلطة العامة، وثمان وخمسون تحت إشرافها. هذه الأخيرة كانت إما أماكن للاستضافة (ثماني عشرة)، وإما مصحات خاصة للأمراض العقلية (أربعين؛ منها ثماني عشرة فقط تؤدي دورها كمصحة عامة، أما الباقي فلم تكن تستقبل المواطنين). ويضاف إلى هذه المؤسسات المائة والأربع المصرح بها، مصحات وأماكن استضافة، كانت لا تزال تستقبل المزيد من المرضى عقليا، بالمخالفة للقانون.
كان هناك الكثير من المصحات التي لم تنشأ من العدم، والتي اجتهدت كيفما اتفق في سبيل تنظيم مناطق تصنيف المرضى وفقا للتوسعات والزيادات المستمرة، وبالتالي فإنها كانت تتوسع دون أن تكون هناك خطة كاملة لها من البداية. تلك هي الحال مع أكبر مصحة للأمراض العقلية بفرنسا: كليرمونت في مقاطعة إلواز، والتي كانت تضم ألفا وأربعمائة وخمسة وستين محتجزا في الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 1874. فإلى جانب مرضى إلواز، كانت تستقبل الكثيرين من مناطق لاسوم، وسين ومارن، وسين وواز وجزءا من مرضى منطقة السين. ويتكون المشفى من مبنى رئيس في وسط المدينة (وهو المبنى الأصلي) وعدة ملحقات زراعية واسعة في الريف (من بينها فيتز-جيمس). ولقد لاقت هذه الملحقات استحسان المفتشين العمومين، على عكس المقر الرئيس بمبانيه القديمة. والأمر كذلك بالنسبة إلى مصحة بون سوفوربكاين: «يمتلك هذا المشفى - المقام على قطعة أرض غير كافية - بعض العناصر الجيدة للغاية: ثلاث أو أربع باحات واسعة، ومهاجع جميلة وغرفا ملائمة للغاية، إلا أن كل هذا كان مكدسا ومتقطعا ومتشابكا، لدرجة أنه لم يكن هناك في الواقع أي تصنيف أو فصل للفئات المختلفة من المرضى عقليا.» في الواقع، فيما يتعلق بالنساء، كان يجب الانتظار حتى عام 1880 لتنشأ أول منطقة خاصة بالمريضات الفوضويات، وحتى عام 1900 لتخصيص منطقة خاصة بالمصابات بالهياج، وأخرى خاصة بالتمريض. أما بالنسبة إلى الرجال، فلم تشهد المناطق المخصصة للمرضى تنوعا في التصنيف إلا ابتداء من عام 1905: منطقة الفوضويين، ومنطقة المصابين بالهياج، ومنطقة المصابين بالصرع، ومنطقة من هم في مرحلة النقاهة، ومنطقة الأطفال، ومنطقة العاملين، وأخيرا منطقة جهاز التمريض (التي تستخدم كمنطقة للمراقبة). ولكن لم تجد المصحات العقلية الخاصة التي أنشئت داخل الأديرة القديمة أي قبول لدى المفتشين، مشاطرين إسكيرول الرأي ذاته؛ ومن ثم، قيل عن المصحة الخاصة بمنطقة كوت دور (دير ديجون سابقا) - على الرغم من التعديلات الهامة التي أجريت عليها - إنها: «لا يمكن اعتبارها مؤسسة جيدة، ومن المشكوك فيه أن تصبح كذلك.»
في الواقع، تعد كل مصحة عقلية حالة خاصة؛ ففي مصحة شير بمنطقة بورج، كانت هناك محاولات لاستخدام ما هو متاح بالفعل، إلا أن عدد المحتجزين - الذي لم يكن يتجاوز الأربعين عام 1839 - زاد ليصل إلى مائتين وأربعة وثلاثين في عام 1873. وعليه كان القرار في العام التالي بإنشاء مصحة جديدة بالكامل (بوروجارد)، ليبدأ العمل بها في عام 1882 وهي لا تزال تحت الإنشاء. وفي مصحة أورن بمنطقة ألنسون، تم البدء في إعادة إنشائها في عام 1841 بناء على خطة رائعة، إلا أن الإنشاءات توقفت. وأبقي على بعض المباني العتيقة، بينما شجعت قلة الأماكن على بقاء الأكواخ والزنازين في مختلف أماكن الاستضافة بالمنطقة. وبحلول عام 1874، كان سيعاد بناء كل شيء في مكان ما خارج المدينة. وفي عام 1893، أنشئت أخيرا وحدة سليمة للعلاج بالمياه (في العام السابق، كانت اللجنة قد لاحظت - بنوع من الفزع - أن عملية الضخ تتم باستخدام أربعة من المختلين يديرون عجلتين هائلتين من داخل قفص مظلم مليء بالرطوبة).
ولقد راقت المصحات العقلية التي أنشئت خصيصى خارج المدن للمفتشين العموميين بصورة واضحة. ومن بين أمثلة عدة، نذكر مصحة برون على بعد خمسة كيلومترات من مدينة ليون التي استغرق إنشاؤها الفترة ما بين 1868 و1875، ولها جناحان منفصلان يتوازيان ويتعامدان على المحور المركزي. وعلى الرغم من قدرتها الاستيعابية التي تتجاوز الخمسمائة (من ألف ومائة وحتى ألف ومائتين)، فإن التصنيف داخلها كان شديد الاقتضاب دون أدنى تعليق من المفتشين: مرضى هادئون وفي مرحلة النقاهة، مرضى ضعفاء ومسنون، مرضى «ثائرون» وفوضويون، وشبه مصابين بهياج. أما إفرو، فهي عبارة عن مبنى واحد يمتد طوله حتى أربعمائة متر، وبدأ بناؤه عام 1858 واستمر حتى عام 1874 دون أن ينتهي تماما. ويعتقد المفتشون أنه «مبنى غاية في الجمال»، على الرغم من أنهم ليسوا من مؤيدي المباني المكدسة. وفي مدينة روان، أنشئ مشفيان للأمراض العقلية جنبا إلى جنب: مشفى سان يون الجديد للنساء، ومشفى كاتر مار للرجال.
ويعد مشفى بايول - الكائن على بعد ثمانية وعشرين كيلومترا من ليل، والذي فتح أبوابه منذ عام 1863 - «أحد أجمل، بل وأفضل، مصحات الأمراض العقلية لدينا وفقا للعديد من التقارير، حتى وإن بدا تصميمه فخما، بل ومغاليا في الفخامة من بعض النواحي.» كان هذا المشفى مخصصا للنساء فقط، ويضم ستمائة وعشرين من المعوزات ومائة وأربعين من النزيلات. ولقد خالف تصنيفهن - في سبيل قدر من التنوع - كل معايير تصنيف الأمراض: نزيلات هادئات، نزيلات مصابات بالهياج وفوضويات، نزيلات هادئات في مرحلة النقاهة ونزيلات في حالة هياج، نزيلات فوضويات، نزيلات شبه هادئات، نزيلات مصابات بالصرع (مع تخصيص أجنحة وغرف للنزيلات الثريات). وتعتمد هذه الاختلافات الضخمة في حجم المؤسسات وتصميمها وتوزيعها وتاريخ إنشائها أو إعادة إنشائها الكلي أو الجزئي على السبل المادية الواقعية أو المتفق عليه لكل منطقة .
عادة ما يكون تاريخ أي مصحة للأمراض العقلية أمرا يتعلق بالأشخاص. كانت هذه هي الحال مع مستشفى أوكسير - الذي انتهى إنشاؤه عام 1858 - وهو نتيجة تعاون وثيق بين كبير الأطباء جيرارد دي كايو، والمحافظ هوسمان بعد تعيينه في منطقة إيون في عام 1850. كانا شديدي التفاهم أحدهما مع الآخر، تملؤهما الحيوية وحب النظام، مفعمين بالطموح الاجتماعي. كان هنري جيرارد كايو - شأنه شأن جميع أطباء الأمراض العقلية - يولي اهتماما كبيرا للعمارة، «التي ينبغي أن تزيل من ذهن المريض فكرة كونه محبوسا»، وتسهل بالتالي تصنيف المرضى وفقا لتوزيع منظم للمباني. ويروي البارون هوسمان في مذكراته: «كانت روح المبادرة والنشاط الحاد لجيرارد سببا كبيرا في نجاح عمله. لم تكن تشغله فكرة أخرى عن عمله، بل ظل يتابعه باجتهاد وإصرار وصبر، متخذا من مرضاه أصحاب الأفكار الثابتة - المختلين الواعين أو العاقلين - مثالا يوميا له. ولهذا كان يطلق عليه على سبيل المداعبة: «كبير المرضى».»
13
ولقد أضفت كتابات جيرارد دي كايو العديدة نوعا من البريق على تأثير المعمار على العلاج. وسرعان ما أعطت الدعاية التي قام بها هذان الرجلان لمبنى أوكسير هذا الطابع النموذجي. كان مشفى النساء هو الوحيد الجديد، بينما ظلت مناطق الرجال تابعة للمباني القديمة المتبقية من المبنى القديم الذي كان قبلا مركزا للتسول ثم تحول إلى مشفى عام. وهكذا كانت الحال مع باقي الإنشاءات الموجودة.
وبعيدا عن هذه الأمثلة لمصحات الريف، تظل منطقة السين أكثر منطقة شهدت أكبر موقع عمل لإنشاء مصحة للأمراض العقلية؛ نظرا للزيادة الكبيرة في عدد سكان العاصمة باريس، وأيضا بسبب نسب الاحتجاز العالية، وهي بدورها مسألة هامة لن نغفلها. في عام 1836، كان هناك ألفان وثلاثمائة وستة مرضى عقليا محتجزين، وبلغ عددهم ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة في عام 1856 ... ولم تعد مصحات سالبيتريير وبيستر وشارنتون كافية، على الرغم من التوسعات. فلم تعد شارنتون المؤسسة النموذجية كما كانت وقت إسكيرول. أما بالنسبة إلى بيستر وسالبيتريير، فيشير تقرير عام 1874 أنه إذا لم تكن منطقة السين تمتلك اليوم إلا «هذين المشفيين، فلن تحتل في هذا التقرير سوى مركز متواضع للغاية.» في عامي 1844 و1845، صدر تقرير نشرته جريدة (إيلوستراسيون) حول مصحات الأمراض العقلية بالعاصمة - وكان مليئا بالصور ويسمى (المرضى عقليا في مصحاتنا) - ينتقد بقسوة مصحة بيستر وسالبيتريير، على الرغم من المباني الجديدة بهما: «نصطدم في البداية بالطابع البائس لما هو خارج الزنازين في كلا المشفيين.» وبالنظرة القريبة داخلهما، نجد ما هو أسوأ. وتدعو الجريدة إلى إنشاء «مشفى يبنى خصيصى للمرضى عقليا، وليس مشفى يقام داخل مبان قديمة.»
وقد لجأت منطقة السين، انتظارا لإنشاء المصحات الجديدة، إلى اتباع سياسة مكلفة تقتضي القيام بتنقلات داخل مصحات الإقليم (وهي سياسة لن تتوقف). والآن ها هو هوسمان بعد أن تم تعيينه في باريس، يروي في مذكراته المتواضعة: «قبل حركة الإصلاح التي أخذت بجسارة زمام مبادرتها، كانت خدمة المرضى عقليا في منطقة السين تتم في ظروف لا تليق بمثل هذا الإقليم وعلى نحو مهين للمحافظ المسئول عنه.» ولأسباب تتعلق بالميزانية، كان لا بد من الانتظار حتى عام 1860 للشروع في الإنشاءات. وهنا تذكر هوسمان جيرارد دي كايو الذي أنشئ من أجله منصب المفتش العام لخدمات المرضى عقليا بمنطقة السين. هكذا كان بارشاب واضعا للنظريات، بينما سيكون جيرارد دي كايو المنفذ لها.
كان هوسمان قد فكر في إنشاء ما لا يقل عن اثنتي عشرة مصحة للأمراض العقلية حول باريس تسع ستمائة مريض. ولكن في الواقع، لم تفتح إلا ثلاث منها أبوابها للعامة تحت حكم الإمبراطورية الثانية: في عام 1867، افتتحت مصحة سانت آن المقامة في مزرعة سانت آن، والتي كانت حتى ذلك الحين فرعا زراعيا لمصحة بيستر، ثم في عام 1868، مصحة إفيرارد، على بعد ستة عشر كيلومترا شرق باريس، وأخيرا عام 1869، مصحة فوكلوز التي تبعد أربعة وعشرين كيلومترا جنوب باريس. ثم نشبت الحرب في عام 1870، وعطلت - ولمدة طويلة - مشروعات الإنشاءات (فقد كان لا بد من سداد ديون الحرب لألمانيا). وتحولت مصحة سانت آن - نظرا لموقعها داخل باريس ذاتها - إلى مشفى طبي مخصص للتعليم والبحث (على الأقل في المستقبل؛ لأن عدد المحتجزين ظل ثابتا منذ ذلك الحين عند اثنين). وأصبحت - وفقا لشارنتون - المصحة النموذجية التي يتردد عليها بانتظام الأطباء والمعماريون والإداريون وحتى أولئك القادمون من الخارج. ولقد عاب المفتشون فقط على مصحة سانت آن عدم إنشائها في الريف.
زيادة حالات الاحتجاز
لم تكن حركة بناء أو إعادة بناء مصحات الأمراض العقلية - على الرغم من الجهود المبذولة - قادرة قط على مواكبة العدد المتزايد لحالات المرضى المحتجزين. ودائما ما يغلب الطلب على «العرض»، وهذا ما استدعى إنشاء الهيئة. (إلا أنه، كما كتب جيد: «في النهاية ، تدعو الهيئة إلى العمل».)
14 «تحتوي كل المصحات تقريبا على كثافة إشغال تفوق قدرتها الاستيعابية، عادة ما تكون مكتظة بالمرضى.» ومن ثم فإن هناك ضرورة تستدعي إنشاء المزيد من المصحات أو توسيع الموجود منها (تقرير عام 1874). في عام 1834، حدث أن تخطى عدد المرضى حاجز عشرة الآلاف مريض بعد أن كان العدد لا يتجاوز بضعة آلاف تحت حكم النظام القديم، في عصر «الاحتجاز الموسع» الأسطوري.
تجاوزت الأعداد الخمسين ألفا في عام 1883، وبلغت أكثر من ثمانية وثمانين ألفا في عام 1931. وسنرى أن الرقم قد بلغ أوجه في عام 1969 عندما تخطى عدد المحتجزين مائة وثمانية عشر ألف مريض. في الفترة من 1690 وحتى 1931، تضاعفت نسبة المحتجزين لعدد السكان الكلي (بنسب ثابتة) ثلاثين مرة، وهو رقم هائل بالفعل، ويفسر بالطبع سبب القصور في الخدمات المحلية. إلا أن هذه النسبة - حتى في أعلى معدلاتها - لم تتجاوز 0,236٪ من عدد السكان، بما يوازي مريض محتجز لكل أربعمائة واثنين وعشرين مواطنا (بمعدل 1 لكل ثلاثة عشر ألفا وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين مواطنا تحت حكم لويس الرابع عشر، وواحد مقابل خمسة آلاف ومائتين في عام 1789). وإذا اكتفينا بدراسة التناسب بين الأعداد، يمكننا نفي وجود ما يسمى بحركة الاحتجاز الموسع في القرن التاسع عشر.
التاريخ
عدد المحتجزين
نسبتهم المئوية من إجمالي عدد السكان
1690
حوالي 1500
0,007
1789
حوالي 5000
0,019
1834
حوالي 10000
0,033
1851
21353
0,059
1871
37717
0,104
1883
50418
0,13
1931
88427
0,21
ويخفي هذا النمو - الهائل وفقا للأرقام المطلقة - تفاوتا كبيرا باختلاف الأقاليم. وفي أسفل التقييم، نجد أن كورسيكا لا تضم في عام 1874 إلا 15,6 مريضا محتجزا لكل مائة ألف مواطن (وأيضا تضم مناطق اللاند وإيندر وكروز وبيرينيه العليا ولاسوم والألب العليا ما يقل عن أربعين محتجزا)، في حين تضم منطقة السين على النقيض الآخر ما يقرب من ثلاثمائة وأربعة مرضى لكل مائة ألف مواطن (بينما تضم مناطق الرون وبوش دي رون والسين السفلى أكثر من مائة مريض). فالمدن الكبرى لا تضم فقط عددا أكبر من المرضى المحتجزين بالتناسب، وإنما تمثل أيضا مراكز جذب للعائلات التي تقيم بعيدا وترغب في إبعاد الشخص المريض عن محيط أقاربهم وجيرانهم. وتتأثر هذه العائلات القادرة على تحمل تكاليف إقامة المريض بشهرة المؤسسات العلاجية بالعاصمة (بينما يظل الفقراء في مناطقهم). وتمتلك كل مصحة عقلية نطاق جذب يتجاوز بشدة الإقليم الخاص به، مثلا: مصحة بون سوفور بكاين، الواقعة في شمال غرب البلاد، وأيضا المصحات العقلية الكبرى بباريس، فهي تغطي فرنسا كلها على غرار سالبيتريير وبيستر تحت حكم النظام القديم (إلا أن السبب في ذلك العصر، كان يرجع إلى أن هذه المؤسسات كانت هي الأقل تكلفة).
نجد أيضا هذا التفاوت في النفقات العادية المخصصة لخدمة المرضى عقليا (بخلاف الإنشاءات): في عام 1874، كانت النسبة 171,25 مريضا عقليا لكل مائة مواطن في منطقة السين، بينما كانت النسبة 11,64 مريضا عقليا في كورسيكا. وفي المقابل، كانت هناك زيادة ثابتة بالنسبة إلى كل المناطق (41٪ في المتوسط من عام 1864 وحتى عام 1874). من ناحية، يسبق هذا النمو الهائل في عدد المرضى المحتجزين - أثناء الثلثين الأولين من القرن التاسع عشر - ظاهرة تعويض وزيادة في عدد الأماكن المتاحة وتراجع نسبة تردد العائلات، خاصة في المناطق الحضرية.
في عام 1874، كانت فرنسا تضم مائة وأربعة مستشفيات للأمراض العقلية. لن يزيد هذا الرقم، بل ولن يتجاوز المائة والخمسة عشر كحد أقصى خلال العقود الأولى للقرن العشرين (اثنان وسبعون مستشفى عاما وثلاثة وأربعون مستشفى خاصا). في الأول من يناير 1880، شهد عدد المرضى المحتجزين زيادة - في أقاليم الجبال ومنتصف البلاد - بعدد 22101 مريض عقليا و24964 مريضة عقليا (وسنعود لدراسة هذه الزيادة في نسبة عدد النساء، والتي - خلافا للاعتقاد القديم - لا تعني أن النساء أكثر جنونا). بالإضافة إلى العلاقة الجلية بين ذلك بالمدن الكبرى؛ حيث تتأثر مناطق الغرب والشمال بصورة أكبر، وسنرى أسباب ذلك، ولا سيما ما يتعلق بإدمان الخمور.
بالطبع يطرح أطباء الأمراض العقلية قضية زيادة أعداد المرضى المحتجزين. وكما يحذر أصحاب تقرير عام 1874، فإن «جميع الحضارات كان لها نصيب من المرضى عقليا بالتناسب مع معدل نموها. وإذا كانت الأجيال الحاضرة تشهد أعدادا أكبر من المصابين بهذه الأمراض العقلية، فإنما يرجع هذا إلى أن التيارات السريعة التي تهب على المجتمعات الحالية دافعة إياها نحو الأفضل والجديد، بل والمجهول، إنما تترك أيضا أثناء مرورها ليس فقط مبادئ أكثر غنى، بل وتسبب المزيد من الظواهر الفطرية والعرضية.» ويضيف الشهود على العصر على هذا مجموعة مختلطة من الأسباب؛ منها الثورات والسياسة والأزمات الصناعية والمالية وتنقلات السكان وتقدم التعليم، كل هذا دون إغفال دور العاطفة الدائم، وهي التي تشهد نوعا من الاستثارة لم تشهده من قبل. تلك هي حالة باريس، «مركز كافة الطموحات، ومكان التقاء جميع الأحلام الفانية، ومصدر كل الافتراضات، ومحور جميع المشاعر والمتع، وأيضا جميع المآسي؛ ولذا فباريس هي صاحبة نصيب الأسد في عدد المرضى عقليا في فرنسا.»
15
ويشير المحافظون - في تقاريرهم - إلى أسباب أكثر وضوحا. فبالنسبة إلى العديد منهم، الزيادة ليست في عدد المصابين بالجنون، وإنما في سهولة وتعجل قرار الاحتجاز للإصابة بمرض عقلي. «في الحقيقة، في سبيل تخليص بلداتهم من المتسولين البله والمصابين بالصرع ومن المخبولين من فرط الرذيلة والفساد، وجميعهم تقريبا غير مؤذين، وإنما لهم مظهر مزعج؛ يعتمد السادة المحافظون بسهولة بالغة الطلبات المقدمة لهم بشأن هؤلاء لإيداعهم المصحة.»
16
ولا يقتصر الأمر على المحافظين فحسب، بل وأيضا العائلات: «فكثير من العائلات في العديد من المناطق، والتي كانت تتحمل قبلا نفقات أفرادها المصابين بمرض عقلي، تبحث - بمجرد السماع عن افتتاح مصحة جديدة - عن وسيلة لإيداع هؤلاء المساكين بها وللتملص من النفقات التي تفرضها الإدارة.»
17
ودائما ما يبرز على السطح «أنانية العائلات التي تتحرر من الواجبات التي تفرضها عليها الطبيعة.»
18
فلم تعد خطورة المريض وحدها ضرورية لتقديم طلب باحتجازه، ويبدي الكثير من المحافظين ندمهم على عدم بقاء الحال كما كانت في السابق، خاصة مع استحالة العودة إلى ما كان. «إذا لم تقف السلطة دون هوادة ضد التجاوزات التي تتفشى دائما، فستكتظ مصحات الأمراض العقلية بكافة أنواع البشر المعتلة نفسيا وكافة العقليات المشوشة - وهي كائنات تعيسة - التي تسبب الحرج والتقزز للمسئولين عنها من عائلاتها، دون أن تشكل في واقع الأمر أي خطر أو قلق للمجتمع.»
19
باختصار، ينتقد جميع المحافظين تقريبا أن طالبي الاحتجاز (العائلات وأيضا الإدارات المحلية ) يعدون مصحات الأمراض العقلية أماكن للاستضافة والإيواء. إلا أن كل هذا لم يكن من اختصاص إدارة التمويل العام. وبالتالي، بلغت نفقات خدمة المرضى عقليا في كالفادوس - في الفترة من عام 1841 وحتى 1905 - 5,7٪ في المتوسط من إجمالي الميزانية الخاصة بالمنطقة، وهو أمر بالغ الخطورة، ولا سيما أن عدد السكان كان يقل في ذلك الوقت، لدرجة أن التكلفة زادت أربعة أضعاف للفرد.
20
لاقت الزيادة الهائلة في عدد المصحات عائقا من جهة الإدارة ذاتها - أثناء فوكو وما بعده - فيما يتعلق باحتجاز المرضى بدافع المجاملة أو تعسفا. ومنذ القرن التاسع عشر، لم يعد المحافظون يقبلون - كما رأينا - استمرار الوضع كما هو. بدأت البلديات تتذمر من الدفع، خاصة وهي مجبرة في الغالب على دفع حصتها من خلال التسجيل في ميزانية البلدية. والعائلات أيضا كانت ترغب في إرسال مريضها عقليا ولكن دون أي نفقات؛ مما يعني قيامهم بإخفاء دخولهم الحقيقية. كما تسبب ارتفاع تكلفة إقامة المرضى الفقراء إلى ثلاثة أضعاف في نوع من التذمر العام إزاء الدفع. وباتت تكلفة الرعاية الصحية العقلية ضخمة. وابتداء من عام 1840 - أي في أعقاب التصويت على قانون عام 1838 - أسهب وزير الداخلية في الحديث عن أماكن إيداع المرضى عقليا غير الخطرين، مؤكدا بالطبع أن القانون يشمل جميع المرضى عقليا، ولكن تبعا لشروط تحددها المجالس العامة. باختصار، أصبح من الواضح أن أماكن إيداع المرضى عقليا ليس مكانا عاديا مثل أي مكان أو إدارة أخرى، ومن ثم فإن طلبات الإفراج لا بد من أن تحظى بمرونة أكبر .
وعني المحافظون ورؤساء الأحياء بتصفية وفرز طلبات الاحتجاز. وهكذا، في عام 1921 بلوفيني بالقرب من كاين، تقدمت سيدة وصية على امرأة تبيع البقول - شبه متشردة ومقيمة بالمنطقة - بطلب لاحتجازها كمريضة عقليا، مشيرة إلى إدمانها الكحول وقيامها ببعض السرقات من حدائق المنطقة وحياتها البائسة في كوخ قذر. وفي خطابه للمحافظ، أعلن رئيس البلدية موافقته على كل هذا، ولكنه قرر أنه لا يوجد خطر منها على الأمن العام، وبالتالي «فلا يوجد داع لاحتجازها».
21
وزادت الردود من هذا القبيل بصورة واضحة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأيضا العقود الأولى للقرن العشرين.
لا يمنع هذا من الإشارة إلى أنه مع الانتقال التدريجي من فكرة الأسرة الكبيرة والريفية إلى الأسرة الصغيرة الحضرية المحدودة، لم يعد للمرضى عقليا مكان بين ذويهم. في «ذكريات الطفولة والشباب» لإرنست رينان - عام 1883 - يروي بصيغة الماضي قصة «مجانين تريجييه»: «بدلا من حبسهم، كانوا يتركون يتجولون طوال اليوم. كانت الناس تحبهم، وكانوا هم يقومون ببعض المساعدات.» كان أحد هؤلاء المجانين يعتقد أنه كاهن، وكان يقضي أياما في الكنيسة: «كانت الكاتدرائية مملوءة طوال الظهيرة بهمهمة ترانيمه، كانت هي صلاة المجنون المسكين التي تساوي الكثير. كان لدى الناس الذوق والحس الراقي في تركه يفعل ما يشاء، وعدم اللجوء لتمييز سخيف بين البسطاء وعامة الشعب الذين يأتون ينحنون أمام الله.» وفي رواية «الكونتيسة سيجور»، تفقد الأخت جريبوي مكانها لكونها - على الرغم من الضغوط الممارسة ضدها - رفضت استغلال قانون عام 1838 لإيداع شقيقها البسيط العقل إحدى المصحات، بعد أن أقسمت على ألا تتخلى عنه. ولنذكر قول دوستويفسكي المأثور: «ليس عن طريق حبس جارك، تتيقن من رجاحة عقلك» بالطبع!
الدفعة الثانية
بمجرد إنشائها، أصبحت مصحات الأمراض العقلية محط انتقادات عديدة، شأنها شأن قانون 1838. وسنعود لدراسة مسألة التنديد الطويل بمصحة الأمراض العقلية: انتقادات شديدة من الصحافة ومن الأدب ومن محتجزين سابقين، بل وأيضا من بعض أطباء الأمراض العقلية، الذين زاد عدد المحبطين منهم من جراء قلة النتائج العلاجية التي تعطيها هذه المصحات الكبيرة الجميلة والمكلفة والمنغلقة على ذاتها . وسرعان ما أدركوا أن المصحة - هذه المؤسسة العلاجية التي كان من المفترض أن تكون في حد ذاتها علاجا - أصبحت، بسبب نوع من المنطق الفاسد، وسيلة ليس للشفاء كما كان يطالب إسكيرول، وإنما لصناعة المزيد من الميئوس من شفائهم.
منذ الإمبراطورية الثانية، والجدل يدور ما بين مؤيد ومعارض مبدأ عدم القيود، استنادا إلى نموذج إنجلترا؛ حيث قرر طبيب الأمراض العقلية جون كونولي (1794-1866) إلغاء استخدام كافة وسائل الحبس في مشفى هانويل منذ عام 1839: سترات المجانين أو كراسي الاحتجاز وكل أنواع القيود. ومن هنا نشأ مبدأ عدم استخدام القيود الذي يضعه الإنجليز - بنوع من الاحتقار - كمقابل لنظام التقييد المطبق في المصحات الفرنسية. ولقد أحدثت هذه الثورة الحقيقية هزة في عالم أطباء الأمراض العقلية. وينتقد مورو دي تور بعنف هذه الفكرة «الإنجليزية المنشأ التي ترجع إلى بعض أشباه النظريات النفسية، والتي تغالط جميع فكر علم الطب العقلي»
22 (ويذكر أن مورو دي تور كان رائد فكرة الأصل العضوي للأمراض العقلية). «أتظن أن المرضى عقليا في إنجلترا لهم طبيعة أخرى غير التي لمرضانا؟ ربما هم أقل هياجا، وأقل استجابة للاستثارة؟»
23
ويستكمل مورو دي تور حديثه بأن كل هذه إنما هي أوهام وأكاذيب؛ ففي حالة إصابة مريض مهووس بنوبة غاضبة، سيتطلب الأمر من الحرس استخدام أساليب أشد عنفا من مجرد ارتداء سترة المجانين للسيطرة عليه. ويضيف مورو دي تور - بسذاجة فجة - أن استخدام سترات المجانين إنما يعوض نقص العاملين. في الواقع، لم يأخذ مبدأ عدم القيود في الانتشار في فرنسا إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، خاصة في سانت آن على يد فالنتين مانيان (1835-1916).
ثم، ما الفائدة من تطبيق مبدأ عدم القيود إذا كان المشفى ذاته - «هذه السترة الحجرية»
24 - لم يحرر بعد؟ في عام 1896، صدر مقال لمارندون دي مونتييل - كبير الأطباء بمصحة مدينة إفرار - يعرض فيه لحصيلة قرن بأكمله من الاحتجاز لأسباب علاجية: «عندما حطم بينيل قيود المريض عقليا، لم يعطه أيضا حريته. وأعتقد - مثله مثل من تبعوه حتى الوقت الحاضر - أنه في سبيل علاج مريض، لا بد من إخضاعه لنظام صحي خاص، وكان هذا النظام هو العزل. وأصبحت المصحات محاطة جميعها بأسوار عالية [...] فقد كان هناك اعتقاد راسخ بأنه يجب وضع المريض عقليا في بيئة مختلفة عن التي يغوص فيها عقله ووضعه بمنأى عن الانفعالات كافة، حتى الأكثر شرعية والأكثر رقة.»
25
هل كانت مصحة الأمراض العقلية في طريقها إلى الزوال بناء على ذلك؟ بالطبع لا! يكفي استبدال نظام الحرية، بنظام العزل: «لا توجد جدران، لا داخلية ولا خارجية، ولا في البدروم، ولا ممرات مغطاة، وإنما فيلات موزعة في متنزه أو مجمعة على هيئة قرية، فيلات لها أبواب ونوافذ مفتوحة لأكثر من ستين بالمائة من المرضى الموجودين بالمصحة، وتغلق فقط باستخدام قفل صغير وشبكة لمن يشكل ربما تجولهم بحرية نوعا من الخطورة؛ أي إيجاد مكان يذكرهم بالحياة العادية.»
26
بالإضافة إلى زيارات إرادية وعطلات.
في الواقع، جرت بالفعل بعض محاولات لتحرير المرضى عقليا: وضعهم في منازل في الريف أو إنشاء مصحات محلية ... إلا أن تقرير عام 1874 قرر فشل هذه المحاولات: «جرت تجربة هذا النظام على نطاق صغير، ولكننا اضطررنا إلى التخلي عنه سريعا. بمجرد معرفة أصحاب منازل الريف أن هؤلاء مرضى عقليا، سرعان ما جاهدوا للتخلص من الذين كانوا في عهدتهم، أو بدءوا في معاملتهم كدواب؛ ومن ثم كان لا بد من إخراجهم من هذه المنازل.»
عندها، تقرر التوجه إلى المستعمرات الزراعية، ومنذ عام 1847، أنشئت المستعمرة الزراعية فيتز-جيمس بمشفى كليرمون (إلواز) بناء على فكرة قديمة لفيريس: جعل المرضى عقليا يحيون بالكامل داخل وحدة زراعية مرتبطة بالمشفى، وكأنها مزرعة - مثل المزارع الموجودة في العديد من المصحات - ولكنها أصبحت هي المصحة ذاتها. وفي عام 1861، صدر كتاب ساهم في جعل فيتز-جيمس نموذجا «للمستعمرات»: «من وجهة نظر طبية، يقوم الشرط الأساسي للمؤسسة على بعدها عن المصحة [...] فعلى المستعمرة أن توفر لمن هم في فترة النقاهة وللمرضى المسالمين الذين هم في طور العلاج، الوسائل التي تعجل بتحسن حالتهم؛ فعليها إذن أن تطور من قواهم البدنية من خلال التطبيق الحكيم لهذه الأعمال، وتؤدي جاذبية هذا إلى حدوث تحسن في طبيعة إصابتهم العقلية، وتقود الحرية التي يعيشون فيها إلى تسهيل دخولهم تدريجيا في تفاصيل عادات حياتهم الخاصة.»
27
ولكن إذا نظرنا عن كثب، فسنجد أن تلك الحياة في المزرعة جبرية مثلها مثل المصحة: فممارسة الأعمال الترفيهية فقط من حق النزلاء الذين سددوا النفقات، أما الفقراء فيجبرون على القيام بأعمال إنتاجية. والأسوأ أن المهام المختلفة تقسم هذه المرة بالنظر إلى الفئات المرضية. ففي بيكريل - الملحق الذي تتم فيه أعمال الغسيل للمصحة كلها - نجد المرضى بالهذيان الصاخب يقومون بطرق الأحواض، بينما يقوم المصابون بالاكتئاب بفرد الغسيل، والمصابون بالهوس بفكرة مسيطرة ولكن يقومون بتطبيقه الهادئون، وأخيرا يتولى البله والأغبياء مسئولية نقله. فالأمر إذن أصبح يشبه استخدام المرضى عقليا بالسخرة، كما تبدو طريقة استغلال أنواع مرضهم أمرا مثيرا للجدل. إلا أن المسئول عن فيتز-جيمس لم يكن يشعر بذلك، فما يهم هو «أن يكتسب المرضى الميئوس من شفائهم من النظام وانتظام وتيرة الحياة - وهي العناصر الأساسية التي يعنى بها - عادات الترتيب والعمل التي تجعل منهم عمالا مطيعين ومجتهدين.»
في جميع الأحوال اقتصرت الفكرة على التحول من المشفى المقيد إلى المصحة الريفية؛ الأمر الذي غير، ربما جذريا، خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ليس المؤسسة العلاجية للأمراض العقلية نفسها، بل تنظيمها الداخلي ومعمارها. هذا ما يسمى بالأبواب المفتوحة. ولقد أتت هذه الفكرة (لا نجرؤ على القول الموضة) أيضا من إنجلترا، وهي تقول بفتح، لا أبواب المصحة الخارجية، وإنما على الأقل الأبواب داخلها؛ فقد انتهى عهد المصحات العقلية التي تشبه الثكنة العسكرية. وبدأ إنشاء مؤسسات علاجية ضخمة في الريف. «يجب أن تمتلك المباني المكونة للمصحة طابع منازل المعيشة، وليس دور الإقامة الجبرية. وظهرت تلك الغرف والفيلات المبهجة الأنيقة والمريحة دون أسوار تحجب الأفق، بل ويحيطها الحدائق والحقول الزراعية التي تبعد أي فكرة قيد أو حبس. وتعطي مجموعة هذه المباني بتجمعاتها الرائعة صورة قرية صغيرة وليس مصحة.»
28
بالطبع، ما يجب أن تتحول هي المؤسسة ذاتها، وليس مصحة الأمراض العقلية وحدها. فالعزل داخل زنزانة «يضر بطرق مراقبة المرضى».
29
فخارج نوباتهم، يكون المرضى عقليا أحرارا في التجول داخل المؤسسة، بل ويمكنهم الخروج منها بإذن لعدة أيام؛ وبالتالي يكون المريض عقليا قد ارتفع إلى منزلة المريض العادي.
في مطلع القرن العشرين، لم تنته في الواقع، فكرة المصحة المغلقة إلا نظريا فقط. ونظرا للأسباب المادية (فكان لا بد من إعادة إنشاء كل المصحات على المستوى الوطني) وأيضا بحكم العادة، لم تبدأ المصحة المغلقة بالكامل في الاختفاء من فرنسا إلا بصورة تدريجية للغاية. ولزمن طويل، لم يعد يبقى منها إلا عدد مخصص لبعض العمليات المتطورة. في أعقاب الحرب العالمية الأولى، افتتح الطبيب إدوارد تولوز (1865-1947) في عام 1921 بسانت آن أول «هيئة لعلاج المرضى النفسيين الذين لا تتطلب حالتهم وضعهم في مصحات وفقا لقانون الثلاثين من يونيو 1838.» وظهرت أول خدمة مفتوحة من هذا النوع للنور، على الرغم من مسارعة المجلس العام إلى منطقة السين - الذي وقع على هذا القرار التاريخي - بإضافة بند له طابع فرنسي في المادة الثالثة: «يجب عدم الالتزام بدفع أي نفقات إضافية بسبب إنشاء هذه الهيئة الجديدة.» ولقد لاقت هذه المبادرة كافة أنواع المقاومة واللامبالاة. وقبل الحرب العالمية الثانية، كان عدد مصحات الأمراض العقلية التي قررت خوض هذه المغامرة نادرا للغاية.
ويشرح الدكتور تولوز في مقالة بلاغية بعنوان: «هل علينا تحرير مرضى الأمراض العقلية؟» الصادر في مجلة التثقيف الطبي «جيرير (شفاء)»، قائلا: «هناك العديد من مرضى الأمراض العقلية محتجزون في المصحات» (110 ألف في عام 1938). وبالمقارنة بباقي الأمراض الأخرى، نجد أن تكلفة الرعاية للصحة العقلية هي الأعلى، ويرجع ذلك إلى حركة دائرية على نطاق أوسع. «فالمصحات تحتفظ بمرضاها لفترات طويلة.» لم يتوقع «الميثاق الشهير للجنون» - الذي اهتم بتنظيم كل شيء لوضع مرضى الأمراض العقلية في المصحات ونظامهم - هذا الأمر، ولم يشغله كيف سيستعيد المريض توازنه داخل المجتمع. «والأكثر، أعليهم الخروج؟» على عكس الاعتقاد العام، فإن مصحة الأمراض العقلية تستقبل مرضاها بسهولة، ولكنها تحتفظ بالفريسة للأبد. ويدين الدكتور تولوز زملاءه الكثيرين الذين يحتفظون بمرضاهم في المصحة؛ «فقط لأنه الإجراء الأكثر أمنا من وجهة النظر الإدارية.» باختصار، «يجب أن يتحول المشفى القديم السري والمحاط بالأسوار وكأنه سجن، إلى مصحة حقيقية مفتوحة لا يقتضي دخولها إلا الإجراءات المستخدمة في باقي المشافي العادية.»
وفي سبيل مواجهة التكدس داخل المصحات العقلية، جرت محاولات إنشاء جمعيات لتوجيه مرضى الأمراض العقلية الذين نالوا الشفاء والذين هم في طور النقاهة. لم تكن الفكرة جديدة، فلقد أنشأ جان بيير فالريه في عام 1843 هيكلا من هذا النوع بمصحة سالبيتريير، المخصص للمرضى الفقراء في مرحلة النقاهة ولكن على شفا الانتكاسة. في عام 1856، أنشئ مشفى-مشغل، وافتتحت مراكز أخرى لتوجيه وتدريب المرضى في نانسي وبايولولوكيمبر. في الحقيقة، مقارنة بمدى توسع هذه المراكز في ألمانيا وسويسرا، فإنها في فرنسا لم تحقق تطورا ملحوظا، ولا سيما عندما ادعت حركة العلمانية - التي بدأت في مطلع عام 1880 - أنها جاءت كبديل للجمعيات الدينية. باختصار، فإنه على الرغم من إنشاء «الجمعية الفرنسية لتدريب مرضى الأمراض العقلية الذين تحقق شفاؤهم في منطقة السين» في عام 1896، فإن التجربة لم تدم طويلا. إلا أنه - بمقتضى قانون عام 1902 المنظم للصحة العامة - بدأت حركة من التنسيق بين العلاج الطبي وإجراءات المساعدة للمرضى. وفي أثناء المؤتمر الدولي الثاني لمساعدة مرضى الأمراض العقلية - المقام عام 1906 بمدينة ميلانو - طرح مفهوم المصحة النفسية لأول مرة، إلا أنه لم يصل فرنسا إلا في عام 1937.
على الرغم من جميع المحاولات الرائدة، لم يكن هناك إلا المصحة المغلقة، تماما مثل المصحة النفسية والعقلية التقليدية. فإحداهما تقتضي الأخرى والعكس صحيح. في مطلع القرن العشرين، عرض يوهان ساندريت - المعماري الحكومي - مبادئ جديدة لإنشاء مصحات الأمراض العقلية،
30
ولم تكن متعارضة مع التنسيقات السابقة. وظل التصنيف تماما كما هو، يقوم على تمييز السلوك والعمر والثروة. واحتفظت الخطة المقترحة بتماثل وتنسيق ذي طابع تقليدي. كان الأمر الجديد الوحيد هو: اتجاه واضح لتقسيم الأجنحة. وتحدد الحد الأقصى لعدد المرضى المحتجزين بستمائة مريض. إلا أن ساندريت - المعماري المحنك - طرح بصراحة مسألة التكلفة: ماذا سيحدث إذا اضطرت منطقة إلى قبول أكثر من ستمائة مريض عقليا؟ أسيكون علينا إنشاء مشفيين يحتوي كل منهما على ستمائة سرير؟ إلا أن ذلك سيكلف كلا منهما 5454000 فرنك، بينما لن يتكلف إنشاء مصحة واحدة بها ألف ومائتا سرير إلا 7600000 فرنك.
واستكمالا لتفكيره الواقعي، طرح المعماري ساندريت قضية الزنازين، التي «على الرغم من انتقاد بعض أشهر الأطباء لها - استمر إنشاؤها في كل مكان.» بالطبع أصبحت الزنازين أكثر اتساعا من ذي قبل (3,40 × 2,80 و3,55 أمتار ارتفاعا)، ولم تعد مخصصة للإقامة الدائمة. ويستكمل ساندريت حجته حول كون الزنزانة مصدرا لاستثارة المريض عقليا عند حبسه داخله، ويقول: ألن يكون وضع مريض هائج في المهجع سببا لاستثارة باقي المرضى؟ في الحقيقة المشكلة لا تتوقف عن النمو، فالخيار ليس بين استخدام الزنازين أم لا، وإنما بين تخصيص منطقة للزنازين ليس لها شعبية، وبين وضع زنازين داخل كل منطقة. على أي حال، فإن كلمة زنزانة ذاتها أصبحت مرفوضة، وتسمى من الآن فصاعدا: غرف عزل.
ورغم كل شيء، أصبحنا نسير في اتجاه جيل جديد من مصحات الأمراض العقلية، ظهرت بوضوح مع مشروع إنشاء المشفى السابع في منطقة السين عام 1907.
31
كان مشروعا ضخما، على عكس مشاريع هدم أي مشفى قديم: ألفا مريض موزعون على خمس خدمات طبية كبرى (ثلاث للنساء واثنتين للرجال)، بمعدل طبيب واحد لكل أربعمائة مريض، في بداية القرن العشرين. وتؤكد الخطة العامة للمشروع الاتجاه الجديد لدمج المناطق المختلفة داخل المصحة وليس ربطها فحسب بعضها ببعض في إطار مشهد منظم، خاصة وأن التصميم الإجمالي للمشروع ظل يحاكي التصميمات التقليدية المماثلة. وجرى تمديد المحور المركزي للمباني - على غرار البيت الأبيض الذي بني قبل بضع سنوات في عام 1900 - من خلال إضافة منحدرين يتيحان - دون فصل الجنسين بجدار مانع - «مراقبة المرضى من كل الجوانب لمنع اختلاط الجنسين». إلا أن الجدار الخارجي كان أمرا لا غنى عنه.
وخصصت لكل من الخدمات الخمس الكبرى ثمانية أجنحة يختلف تصميمها المعماري وفقا للفروق الطبية المخصصة لها، تفصلها مساحات وأشجار ومشهد لا يحده أسوار أو واجهات أخرى. أنشئ الجناح الأول الذي يضم خمسين مريضا في الدور الأرضي، وخصص للاستقبال والملاحظة المستمرة (بعد فصل هذين العنصرين). وتم الاحتفاظ بغرف العزل للداخلين. ويمتلك كل من هذين القسمين صالة للطعام وصالة اجتماعات وقاعة استقبال، بينما تم تخصيص الجناح الثاني - الذي يضم خمسين مريضا ويمكن عند الضرورة إضافة طابق إليه - مقرا لجهاز التمريض. ويمتلك الجناح الثالث، الذي يضم ثلاثين مريضا، طابقا خصص للمصابين بالوهن العصبي الواعين والذين يعانون من وجودهم مع مرضى آخرين مصابين بالهذيان. والجناح الرابع مخصص لخمسين مريضا ممن في مرحلة النقاهة، وهناك يتبع «نظام أكثر حرية يقترب من الحياة العادية ويسمح بالحكم على قدرة المريض على الخروج». أما الجناح الخامس، فيضم أيضا طابقا يحتوي على خمسين مريضا من العاملين والمرضى الهادئين. والسادس، وله طابق أرضي، يضم المرضى الضعفاء والمصابين بالخرف كل في قسم مختلف. وتصل قدرته الاستيعابية إلى مائة مريض. كلما زاد عدد المهاجع، زادت القدرة على وضع تصنيف محدد (مثلا تخصيص مهجع للمصابين بالخرف والهياج). ويختص الجناح السابع - مع إمكانية إضافة طابق - بالمرضى شبه المصابين بالهياج. وفيه أيضا تقسم أماكن الإقامة الليلية إلى الحد الأقصى بغية تجنب انتقال «عدوى الهياج بين المرضى». وأخيرا، يأتي الجناح الثامن وبه طابق وقسمان، ويضم ستين مريضا كلهم ممن هم في حالة هياج. ويسمح وجود العديد من الغرف المجاورة للمهجع القيام بتقسيمات داخلية. لم يعد هناك منطقة مركزية للزنازين، وإنما غرف للعزل داخل كل جناح يوجد بها أيضا قاعة للطعام ودورات مياه غير مركزية.
إلا أنه كان من الصعب اتخاذ قرار بالتخلص من الجناح الفخم «المقدس» المخصص للعلاج بالمياه، الذي خضع - مثله مثل قاعة الاحتفالات - لنظام دقيق وفصل مشدد بين الجنسين. وضعت قاعة الاحتفالات بالقرب من مدخل المصحة؛ لكي يصل للمرضى الجدد الإيحاء بأن «أبواب المصحة ليست هي بأبواب الجحيم»، وأيضا حتى إذا ما دعيت إحدى العائلات لا يكون عليها الدخول إلى مناطق محظورة.
إذن في النهاية لم يتم إنشاء هذه المصحة السابعة في السين - على غرار المشروع الذي قدمه الطبيبان راينييه ولوزييه
32
عام 1935 - فيجب أن نرى في ذلك مدى البؤس الأبدي للميزانية المخصصة لهذا الأمر، وليس التخلي عن المبادئ المعمارية التي تظل - على الرغم من كل شيء - الأساس الملموس لطب النفس العقلي. ويعد الدليل على ذلك أنه بمجرد صدور نظرية جديدة خاصة بالمشفى- القرية ذات الأجنحة المنتشرة المتعارضة مع فكرة «المشفى-الثكنة» (وهي أكثر تماثلا وجمالا للنظر عن الأخيرة)؛ ظهرت للنور عقيدة معمارية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين؛ وهي المصحة المقسمة إلى مناطق. فيعاب على المصحة-القرية تبعثر المباني وانتشارها؛ مما يعقد عملية المراقبة والإدارة ويطيل من كافة دوائر النظام الذي يظل مركزيا في النهاية. في المصحة المقسمة إلى مناطق، يمكن التمييز في البداية بين المنطقة الطبية التي تشكل الخدمة المغلقة الخاضعة لأحكام قانون عام 1838. وتنقسم هذه المنطقة إلى قسمين: قسم مخصص للعلاج وللتمريض، وقسم آخر كمأوى للحالات المزمنة والخرفين والمرضى بالصرع؛ أي إن الهدف هو الفصل الجذري بين الحالات القابلة للشفاء والحالات الميئوس منها (الأمر الذي كان مرفوضا قبل ذلك). أما المنطقة الثانية، وتختلف تماما عن الأولى، فهي تختص بالخدمات المفتوحة (التي لا تخضع لقوانين 1893 و1905): الأطفال وضعاف العقول والمسنون والمصابون بالصرع غير الجنوني والمرضى النفسيون غير المختلين والمصابون بالوهن العصبي ... من المقرر أيضا أن ينشأ في هذه المنطقة مصحة للأمراض النفسية. وإلى جانب هاتين المنطقتين الكبيرتين، توجد أيضا مناطق أقل مساحة: مناطق صغيرة للخدمات الخاصة (أطفال غير طبيعيين، خدمات أمنية للمرضى ذوي النزعات الإجرامية أو المنحرفين)، ومناطق للخدمات الطبية الملحقة (جراحة، دار حضانة ... إلخ)، ومنطقة للإقامة (لذوي المنح المتوسطة، وانتهت فكرة الإقامة في الأكواخ)، ومنطقة إدارية بالطبع، وفي النهاية، «منطقة خاصة لتجميع الخدمات الاقتصادية» (ورش صناعية، منتجات زراعية) بالقرب من مناطق العمال. كان تخفيض المساحة هائلا: 11 ونصف هكتار لكل مائة مريض؛ أي إن عدم كفاية الميزانية كانت لها الكلمة الأخيرة مرة أخرى.
في الواقع، قبيل الحرب العالمية الثانية، استمرت غلبة فكرة مصحة الأمراض العقلية المغلقة - التي أصبحت على مر السنين المشفى القديم - في كافة أرجاء فرنسا تقريبا. ويبدو أن كل هذا التقدم المؤسسي والمعماري - الذي لم تتحقق الاستفادة منه مطلقا - قد أضفى عليها بصورة مفارقة نوعا من الشرعية: لكونها المصحة بمعناها المعروف؛ أي المصحة التي نحتاج إليها.
الفصل الثالث
جدران المصحة
كما جاء في التقارير الرسمية والصحافة المحافظة في عهد حكومة يوليو الملكية والإمبراطورية الثانية، وجد المرضى عقليا أخيرا في مصحة الأمراض العقلية - الذي طالما أراده مؤسسو الطب النفسي - الرعاية الجيدة التي طالما افتقدوها. كان ذلك هو عصر الحكايات المبهرة التي كان يعدها الزائرون للبلد التي بها تلك المصحة. ويكتب أحد الزائرين: «قمنا بزيارات طويلة لكل من مصحة بيستر وسالبيتريير.»
1 «وبمجرد رؤيتنا لبعض الأشخاص المحتجزين هناك على كراسي مربوطين بأحزمة وسيور، انشغل باقي المرضى في هدوء تام بالقيام بأعمال مختلفة، وإذا لم نكن بالفعل نعلم ما هو الوضع النفسي لهؤلاء البائسين لاعتقدنا أننا داخل إحدى الورش الصناعية العادية.» وقد حضر زائرنا تقديم الوجبات ومعها الشوك والسكاكين في قاعة الطعام. «رأينا النظام الرائع والصمت الذي يخيم على القاعة.» كان الخبز جيدا واللحم أيضا ومعه المرق. اتسمت المهاجع بالنظافة الرائعة، والسرائر النظيفة والمنظمة والأغطية الدافئة. «كم تغيرت الأوضاع إلى الأفضل!» كانت هناك أيضا نزهات في الهواء الطلق وأعمال صباحية، وأيضا أغان وموسيقى في المساء، وهكذا «انمحت الفكرة الثابتة في عقل المريض تدريجيا.» كان الشفاء أكيدا، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية؛ ففي أي مرض دائما ما تكون هناك حالات مستعصية، يتطلب شفاؤها معجزة. ولكن يجب عدم المبالغة ...
كان الحماس في العلاقات أمرا مقبولا: «جميع المرضى دون استثناء - المستكينين والمصابين بالهياج - كانوا يستمتعون بالهواء الطلق والشمس والمساحة والحرية التي يشوبها الحذر، والتي تتناسب مع طبيعة هلوستهم ومتطلبات علاجهم ونظام المؤسسة. وتحت الشروط نفسها، كانوا يراسلون عائلاتهم ويتلقون زيارات من ذويهم وأصدقائهم.» الفراغ والخضرة و«المهاجع الممتازة وقاعات الطعام عالية النظافة» والأعمال المفيدة ووسائل الترفيه المسلية و«الانشغال بالعمل»؛ كلها كانت باختصار «الصورة الممكنة الكاملة للأحوال العادية للحياة العائلية؛ كانت هذه هي الصورة الحقيقية لمصحة الأمراض العقلية.»
2
هناك شكوك في أن واقع المصحة كان مغايرا تماما. بالتأكيد كانت الثقة في الدور العلاجي للمشفى العقلي في منتصف القرن التاسع عشر راسخة لدرجة تدفع إلى تخيل مثل هذه الصور المثالية الرقيقة (الصورة الحقيقية لمصحة الأمراض العقلية)، بل ويبالغ أحد الزائرين الموثوق بهم في التعبير عن رضاه عن المشفى لدرجة أنه يتساءل: «أين هم المجانين؟» إلا أن المرضى كانوا هناك بالفعل خلف الجدران العالية للمصحة، كما كان يمكن ملاحظتهم يوميا في بداية القرن العشرين، العصر الذي بلغ فيه علم الطب العقلي أقصى سرعاته في التقدم. وسنرى لاحقا من كانوا من الناحية الطبية ، إن كانوا يشفون أم لا إذا ما جرى احتجازهم لفترات طويلة. ويكفي الآن رؤية كيف كانت المصحات العقلية في ذلك العصر تنظم حياتها اليومية. «نظام ثابت وانتظام لا يتغير»
الفزع الحقيقي في مصحة الأمراض العقلية هو الفراغ. فيجب عدم ترك أي دقيقة من اليوم للمصادفة، فيجب إذن توجيه المرضى لكيلا يترك لجنونهم الفرصة في السيطرة عليهم. الأمر الذي يتفق عليه جميع أطباء الأمراض العقلية: «يجب أن يكون هناك نظام ثابت وانتظام لا يتغير داخل جميع أجهزة المصحة. فهذا الانتظام يجب أن يكون مشددا مثل حركة الساعة؛ بمجرد أن ينطلق يسير دائما دون توقف. ويكون لكل فترة من فترات اليوم مهمة وواجبات.»
3
يكون الاستيقاظ في السادسة صباحا خلال فصل الصيف وفي السادسة والنصف في فصل الشتاء (تختلف المواعيد بشكل طفيف من مصحة إلى أخرى). ويقوم الحراس والراهبات الممرضات بفتح أبواب المهاجع وغرف العزل. وإيقاظ المرضى ليس بالأمر الهين؛ فيجب عمل جرد سريع بالخسائر الليلية: ملابس ولوازم فراش ممزقة وخدوش في الأثاث والأشياء وأسرة متسخة. إنه «اختبار القش» (مرتبة القش)؛ حيث يجب التأكد من أنه لا توجد قشة واحدة على الأسرة. كما يجب مساعدة العاجزين والكسالى على الخروج من الفراش، والتأكد من أن من لا يزالون في فراشهم هم مرضى بالفعل وسيحولون إلى قسم التمريض، وليسوا متمردين. تتم مساعدة كل مريض على ارتداء جميع ملابسه «برقة وحزم». في جميع الأحوال، تشدد اللائحة على هذا الأمر. تخصص نصف ساعة للنظافة الصباحية. هناك مرضى يذهبون إلى لأحواض بمفردهم، ولكن يجب مراقبتهم لمنع أي تدافع أو شجارات، وأيضا لاكتشاف من يتظاهرون فقط بالاستحمام. وهنا تكمن أهمية دور الحراس، والذين أصبحوا ممرضين بالفعل الدلالي منذ بداية القرن العشرين. فيتعين عليهم إجبار المريض - دون عنف - على النظافة الشخصية الجيدة، دون إغفال أي منطقة: الفم والأذنين (فهناك مرضى اعتادوا الاحتفاظ ببعض القاذورات داخل القناة السمعية) والعيون والأعضاء التناسلية. ويجب عدم إغفال البحث عن أي طفيليات؛ «فالممرض الجيد يعرف من هيئة مرضاه إن كانت أيديهم قذرة، وأيضا ما بين أصابعهم وأعضائهم التناسلية؛ فهذا يعني أن الممرض مهمل وغير نظيف.»
4
وبينما يتم اقتياد المرضى إلى صالة الطعام، يجري تنظيف المهاجع والغرف بالمياه وإخراج القمامة ووضع المراتب والملابس المبللة لتجف، وأيضا تفريغ وتنظيف أوعية غسل الثياب وتطهير المراحيض ومحاولة إزالة الرائحة الكريهة الموجودة في كل مكان. يجب أيضا التأكد من أن الملابس ليست متسخة أو ممزقة؛ ولذلك فإن استهلاك الملابس والبياضات يكون هائلا. ويذكر تقرير صدر في منتصف القرن التاسع عشر: «هناك مرضى يحتاجون إلى تغيير الملاءات والملابس الداخلية يوميا، بل وقد يحتاجون إلى أكثر من قميص يوميا. ويوجد منهم من يتسبب في خسائر كبيرة: فيكسرون الفراش، ويحطمون الزجاج ويمزقون أحذيتهم وملابسهم ويلقون بها أو بطعامهم على الحائط.»
5
وفي دورات المياه، لا بد من وجود مراقبة خاصة: «على الأقل يجب أن تكون هناك حارسة (نتحدث عن مستشفى ماريفيل) لتراقب المراحيض بصفة خاصة، ولا سيما عند خروج المرضى من المهجع؛ لأنه في تلك اللحظة قد تحدث أحداث جانبية في بعض الأحيان أثناء التكدس؛ مناقشات أو شجارات بين المرضى ويكون لها عواقب وخيمة. يجب ألا يغفل أحد في أي وقت من اليوم عن دورات المياه؛ لأن هناك أيضا محاولات الانتحار تحدث، أو قد يستسلم أحد المرضى لبعض الممارسات الغريبة، مثل أكل فضلاته على سبيل المثال ... إلخ.»
6 •••
تسبق الصلاة الصباحية الإفطار، وتتلى عادة داخل قاعة الطعام؛ حيث يرددها بصوت عال أحد المرضى أو الحراس، وتتكرر قبل كل وجبة وأيضا قبل النوم. وكما أن الصلاة اليومية تعتبر مفيدة، هكذا أيضا بالنسبة إلى صلاة القداس والتناول. وفي هذا الشأن يجب التفريق بين فترتين مختلفتين؛ فحكومة يوليو الملكية والإمبراطورية الثانية اتسمتا تماما بالطابع الكاثوليكي، وفي هذه الفترة أقر كبير الأطباء فالريه الصلاة كركيزة من أهم ركائز الشفاء النفسي. أليست هي في ذاتها إجابة لكل شيء؟ ولكن، حينما أصبحت الجمهورية الثالثة علمانية وسادت موجة الهجوم على الكنيسة - وعلى الرغم من أن المصحات العقلية الخاصة (ذات الطابع الديني على الأغلب) ظلت تعتبر الدين محور الحياة اليومية - حاولت المشافي العامة السير دون جدوى في اتجاه العلمنة. «لم يعد الكثير من الأطباء الكبار يريدون وجود كنيسة وكهنة داخل مصحة الأمراض العقلية [...] ولا يسعنا إلا التفكير في أن وجود كنيسة وخدام قد يكون له أثر ضار في تفاقم حالات الهوس بالفكرة الواحدة التي تتخذ طابعا دينيا وتطورها إلى صور وأشكال غريبة، خاصة في البلاد التي لا تزال تخضع لسلطة دينية كاثوليكية.»
7
على أي حال، فإن القرار يرجع لكبير الأطباء في حضور المراسم الدينية من عدمه، مع العلم بأنه داخل الكنيسة يكون هناك فصل صارم للجنسين، بل ويفصل المرضى أنفسهم عن باقي المشاركين في الصلاة. وفي خطاباتهم - التي تخضع للرقابة - يشتكي العديد من الكهنة أو الراهبات المحتجزين لإصابتهم بأي نوع من الهذيان الديني من عدم قدرتهم على حضور صلاة القداس والتناول على الأقل. فعندما يأتي كاهن المنطقة لزيارة المرضى والعاملين، كان يمتنع عن التعامل مع المرضى الذين حذره منهم كبير الأطباء لكونهم مصابين بهذيان ديني.
كان الإفطار الذي يوزع في كل منطقة يتكون من خبز وقهوة باللبن، وأحيانا تبعا للأوقات أو المناطق كان يوزع حساء أو جبن. وهنا أيضا يجب أن تكون هناك مراقبة يقظة؛ حيث يجب منع أي مشاجرات وإجبار المرضى الرافضين للأكل على الإفطار، وعلى العكس منع المرضى الشرهين من الإفراط في الطعام والاستيلاء على نصيب الآخرين. كما يجب إطعام العاجزين، وإحضار الطعام إلى الملازمين الفراش، ثم عد أدوات المائدة عدة مرات لكيلا تستخدم لأغراض سيئة.
بحلول الساعة السابعة في الصيف ، أو السابعة والنصف في الشتاء، يكون موعد العمل. في الأساس، من وجهة النظر العلاجية النفسية، فإن هدف العمل هو «الإلهاء عن الجنون» (بمعنى إبعاده أو انتزاعه أو على الأقل الابتعاد عنه). ويجعل كابانيس من العمل «المنظم الحقيقي للطبيعة النفسية»، ويرى أن لا داعي للتخوف من ترهيب من يرفض العمل في سبيل إجباره عليه.
8
ودون النزوع لهذا النهج الثوري، يشاطر سيبيون بينيل باقي أطباء الأمراض العقلية الرأي: «إن العمل الدائم يغير من تلك الحلقة المفرغة للأفكار، ويصلح مهارات التفاهم عن طريق النشاط، ومن ثم يستطيع بمفرده الحفاظ على النظام بين مجموعة من المرضى عقليا ...»
9
ولكن على مر العقود، أصبح العمل لغاية علاجية عملا فقط بل وثقيلا أيضا: حتى عشر ساعات يوميا (ثمان فقط في النصف الأول من القرن العشرين). وبغض النظر عن طبيعة جنونهم، كان معظم المرضى يمارسون داخل المؤسسة نشاطا فعالا (وليس بهدف «شغلهم» كما يتضح لاحقا). في عام 1867، كانت نسبة المرضى الذين يعملون بدوام كامل في مصحة بون سوفور بكاين تبلغ 68٪ للرجال و78٪ للنساء. في عام 1893، أنجز 61 ألف يوم عمل؛ خصص ثلثها لأعمال التنظيف، والثلث الثاني للخدمات: المطبخ والغسيل. وانقسم الثلث الثالث - الذي يخضع لمراقبة لصيقة من الموظفين الخارجيين - ما بين الورش والمزرعة. ولا يمكن التصديق بأن هذا العمل كله كان لأهداف علاجية؛ فمزرعة أو مزارع بون سوفور كانت تنتج في عام 1926 ثمانية وعشرين طنا من البطاطس، وسبعين طنا من الخضراوات الأخرى (مثل الكرنب)، وخمسة وثمانين طنا من التفاح، وثلاثة آلاف دستة من البيض، ومائة وخمسة آلاف لتر من اللبن، وثلاثة عشر طنا ونصف طن من لحم الخنزير، كل هذا لم يكن يكفي إلا بالكاد لإطعام المشفى الضخم (الثالث على مستوى فرنسا عام 1875، والذي يضم 1023 مريضا).
وتستلزم رعاية الحدائق والمساحات الخضراء - اللازمة لأي مصحة - عددا كبيرا من المرضى. كما تتطلب أعمال الخبز وإصلاح الأحذية وورش الصيانة وترميم المباني جهدا ورجالا أشداء. أما المريضات، فكن يستخدمن بكثرة في أعمال نظافة وتقشير الخضراوات وغسل الملابس والأواني، وأحيانا كن يعملن في الورش لأعمال التريكو وإصلاح الملابس والتفصيل والتطريز. في عام 1853، في مصحة سالبيتريير، كان تسع وستون بالمائة من المريضات يعملن وينتجن ما يقرب من نصف مليون قطعة مصنوعة: قمصان وسترات المجانين وملابس داخلية وجوارب ومناديل وتنورات داخلية ومفارش ... إلخ. ويمكن القول بأنه بالنظر إلى قلة ما يدفع لهؤلاء المرضى العاملين، لن تكون ميزانية المصحة قادرة على التخلي عن أيدي عاملة بهذه الضخامة. واستمرت هذه الحال حتى العقود الأولى من القرن العشرين - حينما بدأ هذا التناسب في الانخفاض - خاصة بعد أن أصبح استغلال المصحات للمرضى في أعمال «تسخيرية» واضحا للعيان. فلم تكن الجرأة الشديدة التي سادت في القرن التاسع عشر حيال هذا بالأمر «السليم سياسيا».
كان الضغط الذي تمارسه المصحة على المرضى لتحفيزهم على العمل قويا للغاية، ولأن من يرفض العمل كان يتعرض لعقوبات عديدة: الحرمان من بعض الحريات في التحرك، أو منعه من التدخين أو أي طعام أو نبيذ إضافي، بل وقد يصل الأمر إلى توقيع عقوبات حقيقية عليه. ويبدو هذا الخطاب الاحتجاجي الذي أرسلته مريضة في عام 1880 مفيدا لنا في هذا الشأن وإن كان من جانب واحد فقط: «حينما كنت في الجناح الثاني (في مصحة أوكسير) كنت أعمل في تصليح البياضات، وكنت أنجز ما يقرب من ثلاث ملاءات جديدة يوميا، وكنت أصنع أيضا أغطية للرأس تستخدم أثناء الليل. وكنت أعمل أيضا في تصليح القمصان النسائية وأغطية الوسادات والمناشف والأقمشة، ولم يكن يشوب عملي أي خطأ. (في المنطقة الرابعة) جاءت الراهبة آر ... - المسئولة عن قسم الطي - لتحضرني لأصبح مسئولة عن طي الملاءات، وهي واحدة من أصعب المهام، وكانت تبقيني واقفة على قدمي لما يقرب من سبع ساعات؛ حيث كنت أقوم بطي حوالي مائتي ملاءة لأضعها في آلة الكي ثم أقوم بطيها أو أمررها للتصليح. في شهر أبريل، قلت للراهبة آر ... إني أعاني من آلام في قدمي، وإني لم أعد أرغب في طي الملاءات. فأعادتني إلى قسم التصليح. (كان النقل إلى مصحة بون سوفور في كاين «كنا جميعا مستقرين جيدا».) كنت أجلس في غرفة كبيرة يعمل بها ما بين أربعين إلى خمسين شخصا تحت إشراف الراهبة إم ... وكنت أعمل على إصلاح الملابس الداخلية لقضاء وقتي، ولكني بمجرد أن شعرت أن هذا العمل إجباري رفضته على الفور. قالت لي الراهبة إم ... إنه إذا أصررت فسيتم إرسالي إلى عنبر المصابات بالهياج. أجبتها بأني سأذهب إلى هناك. وبالفعل ذهبت، وهناك قمت بتطريز ما يقرب من أربعين مترا من الدانتيل للسيدة إف ... صاحبة العمل.» للأسف، لا يوجد مثل هذه الخطابات التي تشرح كيف كانت الحياة اليومية هناك إلا نادرا. ففيما يمكن اكتشافه من مراسلاتهم، يظل مرضى الأمراض العقلية حبيسي عالمهم الخاص وهذيانهم، وبالتالي نادرا ما يأتون على ذكر الحياة الواقعية.
كانت القدرة على العمل معيارا محايدا للخروج؛ حيث يثبت أن المريض أصبح قادرا على الاندماج ثانية في المجتمع (مما يثبت ثانية أن السلوك الاجتماعي يعد عاملا مهما، بل وأكثر أهمية من المقياس «النفسي»). وعلى العكس، فإن المريض الفقير العاجز عن العمل أو الرافض له تندر فرص خروجه، والدليل على ذلك ما كتبه كبير الأطباء في عام 1848 بنوع من الخبث بخصوص مريض في مصحة بون سوفور بكاين: «يقول المريض: إنه شفي وإنه على استعداد تام للعمل، بل ويطلب أي وظيفة، ولا سيما وظيفة المحافظ.»
في الأساس، يحدد كبير الأطباء، وليس سواه، من هم المرضى القادرون على العمل، إلا أن الحقيقة والواقع يختلفان تماما. نظريا، تكون زيارة الطبيب يوميا قبل بدء العمل داخل المصحة، إلا أن جميع الشهادات أجمعت على أن هذه الزيارات كانت تتم مقابل مبلغ مالي. وبمصاحبة كبير المراقبين والمتدربين معه والطبيب المساعد إن وجد، كان كبير الأطباء يمر بالمرضى المصطفين بطول الجدار. وكما يروي ماكسيم دي كامب في تحقيقه الموسع حول باريس - والذي درس فيه بإسهاب وضع مصحات الأمراض العقلية
10 - «فإن المرضى لديهم كلمة معتادة، تعبير لا يتغير يلقنوه لنا؛ فكانوا يقولون: الطبيب يمر، الطبيب سيمر. كان الطبيب يمر بالفعل، لم يكن بمقدوره فعل شيء آخر؛ لأنه لم يكن له الحق في التوقف.» ويجري دي كامب حساباته بأن كل طبيب أمراض عقلية في منطقة السين يكون لديه مائتان وواحد وستون مريضا لزيارته، وفي حين أن اللائحة الداخلية بتاريخ العشرين من مارس 1857 تحدد أن تلك الزيارة لا بد من أن تكون يومية. وفي الواقع، فإن الأطباء أنفسهم هم أكثر من يبدون أسفهم لهذا الإهمال. في عام 1905، كتب أحدهم: «أنريد رفع المرضى عقليا مصاف وكرامة المرضى العاديين أم لا؟»
11
إذا كانت الإجابة بنعم، «فإن المرضى في حاجة إلى أطباء!» وينعى هذا الطبيب أن كبير الأطباء - نظرا للظروف - لا يعتني إلا بالمرضى الجدد (حيث يكون عليه تقديم شهادات إجبارية لقبولهم بالمصحة) وبالحالات الحادة، تاركا المرضى بأي مرض عقلي مزمن. «وبالتالي، بطريقة غير محسوسة، قد يصل به الأمر إلى إقناع ذاته بأنه لا يمكن شفاء هؤلاء المرضى؛ لأنه لا يرى أيا منهم قد شفي.» رهيبة هي الكلمات التي خطتها ريشة ماكسيم دي كامب: «لدينا علماء على أعلى مستوى، ولكن على الرغم مما لديهم من علم، ينقصهم الإيمان، ومن ثم يبدون غير واثقين من قدراتهم، وهذا هو أخطر شيء.»
في منتصف القرن العشرين، كان كبير الأطباء «يمر» - على ما يبدو - بسرعة شديدة. ولقد تمكن أندريه سوبيران - طبيب ومؤلف كتاب «الرجال ذوو المعاطف البيضاء»، أحد أشهر الكتب في عصره - من إجراء زيارة طويلة لمصحة سانت آن للأمراض النفسية، وعلى وجه الخصوص قسم التمريض المتخصص الشهير الذي أنشئ في عام 1872؛ حيث كانت الشرطة تودع «الأفراد المشتبه في إصابتهم بمرض عقلي» لإخضاعهم للملاحظة. ولقد حول الدكتور سوبيران هذه الجولة إلى رواية
12
قد تتسم حبكتها ببعض الشحوب، ولكن تكمن قيمتها في الوصف الذي تقدمه لهذه الحياة داخل المصحة. في قسم التمريض المتخصص، يوضع المرضى بالطبع في زنازين، ثم يحل موعد زيارة كبير الأطباء بصحبة مساعده وكبير المراقبين واثنين من الممرضين. «يدوي صوت فتح الأقفال، ثم يسمع سؤال: «كيف الحال؟ ما الجديد؟» موجه سؤاله ليس للمريض وإنما للحارس. وبعد انقضاء الوقت المخصص لرد الحارس وتقرير الطبيب المتدرب، يسمع صوت غلق الباب والأقفال. وتستكمل الزيارة بهذا المعدل السريع.»
في الظهيرة، تبدأ «خدمة الطاولات» المخصصة للمرضى في النظام العادي، ويليهم النزلاء من أبناء «الطبقات العليا». تضم مصحة بون سوفور بكاين خمس درجات، وتختص الدرجة الخامسة بمرضى المنطقة. أما الأربع الأخر، فتقدر تكلفة الإقامة وفقا لوجود طاقم للخدمة ومكان إقامة مريح وقوائم طعام متنوعة. ويقدم الطعام لنزلاء الدرجتين الأولى والثانية في حجراتهم، بل في «أجنحتهم». ولا يتناول المرضى الوجبات جماعيا إلا ابتداء من الدرجة الثالثة. «وأيضا تتسم مائدتهم بالوفرة.» بالنسبة إلى الدرجة الرابعة، «تكون وجباتهم وفيرة أيضا ولكن دون تكلف أو مبالغة.» وسنهتم بدراسة ماذا كان يأكل أو ماذا كان من المفترض أن يأكل مرضى الدرجة الخامسة. وتحدد اللائحة الداخلية لعام 1857 بدقة شديدة قوائم الطعام والكميات (والتي تكون قليلة أيام الجمعة والسبت، ودسمة باقي الأيام). نظريا، تبدو الوجبات كافية، خاصة بالمقارنة مع ما كانت تأكله الطبقات العاملة خارج المصحة: في الظهيرة، يقدم طبقان أحدهما به لحم والآخر خضراوات أو بيض أو جبن؛ وفي المساء، حساء أو مرق لحم (يقدم ما يعادل 250 جراما من اللحم يوميا)، وأيضا طبق من الخضراوات الطازجة أو المجففة. وعلى مدار وجبتي الظهيرة والمساء، يقدم الخبز (ما يعادل 600 جرام يوميا) والنبيذ (ما يعادل 0,60 لتر يوميا، ويمكن زيادة الجرعات بنسبة 0,25 لتر للعاملين من الجنسين). وطوال مدة حكم النظام القديم، ظل الخبز واللحم سائدين في نظام التغذية. والأمر كذلك بالنسبة إلى النبيذ الذي كان يقدم بكميات قد تكون مفاجئة (في البلاد المنتجة للكروم، كان يمكن للنزلاء إحضار النبيذ الخاص بهم). ويمكن تفسير هذا التساهل الشديد - على الرغم من أن إدمان الخمور يعد أحد أهم أسباب الاحتجاز داخل مصحات الأمراض العقلية - بأنه في ذلك العصر كان هناك فرق واضح بين النبيذ «كمشروب للطاقة» أو «مشروب صحي» (وقد ينضم إليه الجعة وخمر التفاح في بعض المناطق) الذي يمنح لمرضى الأمراض العقلية المزيد من القوة؛ وبين «المشروبات الكحولية» (القوية) التي تعرف بأضرارها. لم تفند هذه المسألة الخطيرة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن يجب ألا ننسى أن المياه ذاتها (التي تأتي من الآبار) كانت حينها مشروبا خطيرا لكونها تنقل التيفويد والكوليرا.
يبقى الآن السؤال عما إذا كانت هذه الوجبات المحددة بالجرام كانت تقدم بالفعل للمرضى. يظهر المفتشون العموميون تشككا واضحا إزاء هذا الأمر: «كنا عادة إذا لاحظنا - خلال جولاتنا التفتيشية - عدم كفاية كمية اللحم المقدمة للمرضى، كانوا يجيبوننا بأن المرضى ربما يحصلون على أكثر مما يكفي؛ ولذلك فهم يتركون أو يلقون بعضها. ولكن في الواقع، نادرا ما يحدث هذا إذا كان اللحم من نوعية جيدة ومطهيا ومتبلا جيدا.»
13 (إنها مسألة الإسراف نفسها سواء في الشراء أو «الاستقطاعات» التي تتم داخل المطبخ.) وتنعي جولة تفتيشية أخرى أن ما يتبقى من مائدة المرضى النزلاء يقدم للمرضى الفقراء. كما أنه عادة ما يكون طول المسافة بين المطبخ وصالة الطعام سببا في تناول الطعام فاترا وليس دافئا. ولقد اشتكى بالفعل بعض المرضى من هذا الأمر في مراسلاتهم الخاضعة للرقابة بالطبع. هناك بالتأكيد بعض منها يصل، ولكن تكون نسبتها ضئيلة للغاية كما سبقت الإشارة. وفيها يروي المرضى بشكل خاص مدى تعسف احتجازهم، ولكن ما يهم في هذا الجزء هي التفاصيل التي يروونها حول حياتهم اليومية داخل المصحة. وبالتالي، يصف أحدهم - جرى احتجازه لمدة سبعة وخمسين يوما عام 1902 في مصحة شارنتون قبل اتخاذ قرار باعتباره غير مريض (هناك بالفعل حالات من هذا النوع) - «العار المعتاد» الذي يصم المؤسسة: «دائما ما نجلس في صالة الطعام الكئيبة، حيث تفوح من المطبخ رائحة كريهة تملأ الهواء الخانق. كانت رائحة سيئة وقوية تشبه الغسيل وبقايا طعام محروق. يا للقرف! كم كنت أتمنى أن أهرب منها [...] لا توجد أطباق، ويقدم الطعام في أوان بشعة على هيئة أطباق صغيرة مستديرة لها أطراف عملاقة. كنت أرى أمامي كتلة سوداء تسبح في سائل أبيض مائل للاخضرار، يشبه أنقاض «بازار الصدقة» بعد أن داهمه الحريق. وفي طبق آخر، كانت توجد مكرونة على هيئة شرائط متلاصقة، ذكرتني بمحتويات أواني الصيدلي. وكانت هناك قطعة خبز إلى جانب هذه الأشياء البشعة؛ التي لم أبدأ في تناولها إلا بعد مضي بعض الوقت. إلا أنني كنت أبذل جهدا لمضغ الخبز ولبابه الذي يشبه الصمغ وقشرته المطاطية كالجلد. واحتسيت رشفة من زجاجة نبيذ لها طعم يشبه الحبر الممزوج بالخل [...] كان اللحم قاسيا وله مذاق يصعب وصفه، فمن المستحيل التمييز بين لحم الثور والضأن والعجل. فهذه القطع من الأعصاب والعظام اللزجة تكون مغطاة بخليط أبيض أو بني غامض ذي رائحة ومظهر وطعم يثير التقزز. وحتى الخضراوات، التي عادة ما تكون فاسدة، فإنها تأتي مبللة بمياه لزجة. مرتين في الأسبوع، يكون هناك ثمرة كمثرى أو تفاح فاسدة على سبيل التحلية.»
14
من المستحيل أن يقترب هذا الوصف من القوائم الرسمية المكتوبة.
ويجب أن نأخذ في الاعتبار الجو العام لصالة الطعام ... بالطبع، يكون هناك عدد من المرضى الذين يتسببون في فوضى رهيبة ولا يأكلون حصصهم. بالإضافة إلى المرضى شديدي الهياج أو المصابين بالشلل غير القادرين على المضغ، وبالتالي يجب إرغامهم على شرب اللبن أو الحساء والمرق أو الطعام المهروس ولو حتى بصعوبة. وفي المقابل، يخشى المرضى الشرهون من أن يسرق أحد طعامهم، فنجدهم يبلعونه مرة واحدة لدرجة تجعلهم يقاربون على الاختناق؛ ولذلك، فإنه من المعتاد أن يكون للحارس عصا محنية تسهل له إخراج الطعام الذي يسد التنفس لدى أي مريض. ولكن يستدعي هذا الأمر ملاحظة سريعة؛ ولذلك يكثر وقوع بعض هذه الحوادث المميتة. بينما يرفض بعض المرضى تناول الطعام، إما لاعتقادهم أنه مسمم، وإما لاعتقاد بعضهم أنهم موتى بالفعل، وإما لإصابة بعض المصابين بالهذيان المتعلق بالحواس بانسداد الأمعاء أو إنهاك المعدة، إلى جانب بعض المرضى في حالة من الوهن تعجزهم عن الإمساك بالملعقة ورفعها إلى فمهم. ومن ثم تكون حياتهم في خطر؛ ولذلك يموت الكثير منهم بسبب نقص التغذية على الرغم من المراقبة.
إلا أن كل الوسائل تستخدم لحملهم على تناول الطعام: من توسلات وتهديدات وحتى استخدام القوة في النهاية. في منتصف القرن التاسع عشر، كانت تستخدم «الزجاجة- المكممة» لتجنب استخدام القوة لفتح الفكين بواسطة ما يشبه اللجام. و«الزجاجة-المكممة هذه عبارة عن أداة خشبية تثبت اللسان بقوة وتثبت خلف الرأس بلجام من المطاط.» يوضع المريض عقليا في مغطس مغلق، ويتم إرجاع رأسه إلى الخلف لربط «الزجاجة-المكممة»، «وإذا رفض المريض الشرب مباشرة، يمرر سلك فضي داخل الزجاجة يتيح وصول السائل إلى اللهاة، ثم يسد الأنف ليصبح المريض مجبرا على البلع رغم إرادته.»
15
وينتقد الدكتور بلانش - مدير المشفى الباريسي الشهير وطبيب الأمراض العقلية المعروف - بقسوة هذه الممارسات «الوحشية»،
16
كما يعيب تقرير عام 1874 من جانبه أنه في بعض الحالات - حتى وإن كانت نادرة - تنزع سن أو أكثر للمرضى للسماح بدخول المسبار داخل فمهم: «إنها وسيلة وحشية لا يسعنا الموافقة عليها.» ولكن، سرعان ما أصبح المسبار البلعومي هو الوسيلة المتفق عليها في كل مكان. فكان يجري إدخاله عن طريق التجويف الأنفي وحتى فتحة الحنجرة، وفي بعض الأحيان حتى المعدة. وهناك العديد من المرضى الذين يقبلون تناول الطعام فقط خوفا من المسبار، فليس هناك ما يمنعه من الأكل، ثم التوجه مباشرة إلى دورة المياه ليتقيأ كل ما أكله. في النهاية، من لا يريد أن يأكل فلن يأكل، وسنرى لاحقا أثر هذا الأمر على نسبة الوفيات.
تدوم فترة الراحة والترفيه التي تعقب ذلك ساعة ونصف. بحلول الساعة الواحدة والنصف، بينما تعج المصحة بضوضاء الغسيل والتنظيف، ويستعد النزلاء من المرضى الأغنياء للتنزه في الحدائق وللألعاب الاجتماعية، يتوجه المرضى العاملون إلى ورش عملهم. أما المرضى العاجزون عن العمل، فإنهم يعودون إلى القاعة المشتركة (غرفة التدفئة القديمة؛ وسميت كذلك لأنها قديما كانت هي الغرفة الوحيدة التي بها جهاز للتدفئة). «يمكث هناك ثلاثون رجلا لمدة اثنتي عشرة ساعة يوميا [...] وفي غضون لحظات، أخرج من معي على الطاولة جميع أدواتهم السرية من علب ألوان وقوائم وآلة لف السجائر، وبدءوا في العمل. ونظرا لأنه لم يكن مسموحا لنا باستخدام أعواد الثقاب؛ كان يوقد قنديل غاز طوال اليوم لنتمكن من إشعال السجائر. وعلى الفور أحاط به البله، وأخذوا يذيبون الغراء للقيام بأعمال غاية في الأهمية، مثل تغطية نشافة المكتب بورقة نظيفة عن طريق لصق ورقة أخرى فوقها لئلا تتسخ، وأخرى على الورقة الثانية للسبب لنفسه. بينما انشغل آخرون برص أعقاب السجائر فوق جهاز التبريد. ومضى آخرون يتشاركون في هدوء في بعض جرائد الأطفال.»
17
تدق الساعة السادسة في الصيف أو الخامسة في الشتاء معلنة موعد وجبة المساء - مثل جميع المصحات - والتي تتكرر فيها كافة مراسم الوجبة الصباحية. وتتلوها استراحة أطول. ويكون هذا هو وقت السلام النسبي؛ حيث يخرج المرضى المسالمون - قبل التوجه إلى المهجع - للعب الورق أو الشطرنج أو الدومينو. بينما يحظر القمار بأنواعه كافة بتاتا ، إلى جانب أنه يمنع اللعب مع الحراس. لدى الرجال، يمكن إشعال الغليون أو السيجارة (في الواقع يكون الحارس هو من يشعلهما؛ لأن الثقاب والقداحة من الأشياء المحظورة تماما). بينما تعمل النساء في التطريز أو التريكو. أما المرضى الأغنياء - الأكثر ثقافة - فيمارسون القراءة. كما تتميز وسائل الترفيه عندهم بنوع من الرقي، فيمتلكون طاولة للبلياردو وبيانو. تفتخر مصحة شارنتون - من بداياتها - بروعة مكتبتها. إلا أن المكان - على حد وصف بعض الشهادات - يبدو أبعد ما يكون عن السكون؛ حيث يقرأ العديد من المرضى بصوت عال، بل ويصيحون، بينما قد يتشاجر آخرون ملقين بالكراسي والكتب.
وبحلول الساعة الثامنة في الصيف أو السابعة في الشتاء، يجب أن يكون المرضى جميعهم في الفراش. وتتلى صلاة قصيرة قبل الشروع في هذا الحدث الأخير في اليوم. ويعد هذا الأمر وقتا صعبا للحراس الذين يتعين عليهم «التأكد من خلود مرضاهم إلى النوم بلياقة وهدوء قدر الإمكان.» فيجري التفتيش على الملابس وإغلاق مكان حفظها بالمفتاح (فمن الصعب الهروب أثناء ارتداء ملابس النوم). كما تغلق النوافذ والأبواب بعناية. إلا أن مفهوم الفراش لا يزال يحدث جدلا؛ فقبل انتشار الفراش الحديدي في كل مكان، كان السرير الخشبي المقوى هو السائد، وكان يحتجز المريض بالمعنى الحقيقي للكلمة. في المقابل، حولت بعض المصحات الخاصة هذه الأسرة إلى نوع من الخزانات الشفافة التي تغلق بمفتاح طوال الليل، وبالتالي فهي تترك مكانا لمزيد من الأسرة داخل المهجع. إلا أن هذا النظام لاقى هجوما بالإجماع من المفتشين، مثله مثل نظام الستائر الذي كان «يمنع تجديد الهواء ويجعل المراقبة أكثر صعوبة».
يتنافس أطباء الأمراض العقلية في المهارة، ويسعون للتعريف باكتشافاتهم في الدوريات الطبية المختلفة. ولقد وضع الطبيب ليلو بمصحة سالبيتريير تخيلا لفراش مخصص لمرضى الصرع. فكان فراشا معدنيا شديد العمق (يشبه الجرن)، ويمكن نزع وتركيب جانب الرأس وجانب القدمين لإخراج المريض أو إدخاله بسهولة. «وتوضع عليه وسادات سميكة، ويمكن ترك المرضى فيه أثناء أعتى النوبات التي قد تصيبهم دون أدنى خطر عليهم.»
18
أما فيما يتعلق بإجبار الخرفين على النوم، فلقد خصصت الكثير من المؤلفات لهذا الصدد. وفي غالبية الأحيان، استخدم سرير يمتلئ قاعه بأخاديد يؤدي منحناها إلى ثقب يسمح بخروج البول إلى داخل درج من الزنك. في المجمل، يكون القاع مصنوعا من القش الرقيق، «وليس من القش الخشن لئلا يجرح المريض».
19
ولا يساعد هذا النظام إلا على حل مشكلة التبول بالطبع.
لا تمتلك معظم المهاجع نظاما للتدفئة، ما عدا المخصصة للتمريض: «لا توجد ضرورة لتجاوز الخمس عشرة أو الست عشرة درجة مئوية، ويجب قدر الإمكان ألا يهبط مؤشر الحرارة عن اثنتي عشرة درجة مئوية.»
20
وتشهد اللوائح - التي تذكر الحراس بأن المرضى يجب ألا يتعرضوا للبرد بسبب أضراره وخطورته - بغياب نظام التدفئة الموجود لدى غالبية الفرنسيين في ذلك الوقت. في عام 1917، نجد شقيقة أحد المرضى الأغنياء بمصحة بون سوفور بكاين تشكر بشدة المدير لموافقته على منح أخيها غرفة مدفأة طوال فصل الشتاء، في مقابل زيادة مائة فرنك. وتخضع أجهزة التدفئة - إن وجدت - لحراسة مشددة. وتوضح رسوم دانييل فيرج الأخاذة عن مصحة سالبيتريير أن هذه الأجهزة كانت محاطة بشبكات ساخنة ضخمة. وداخل المصحة، لا تكون المأساة مستبعدة؛ «ففي عام 1900، بمصحة فيلجويف، نجحت إحدى المريضات في فتح باب الشبكة، وذهبت لتجلس بملابس النوم على القدر الضخم المشتعل، فاحترقت حية.»
21
كان الالتزام بالتوقيت اليومي شديدا، وأيضا بجدول العمل الأسبوعي والشهري والسنوي. يبدأ الصيف في الخامس عشر من مايو، والشتاء في الخامس عشر من أكتوبر. كان من الممكن أن تندلع حروب وثورات أمام جدران المصحة دون أن يتم المساس بأي شيء في الحياة اليومية بالداخل. فانتظام الأمور والوقت هو أول علاج لفوضى العقول. كل يوم جمعة، يحين موعد حلاقة لحى وشعور المرضى وتقليم أظافرهم. وأيام السبوت وليالي الأعياد، تخصص لتوزيع بياضات الأسبوع وملابس يوم الأحد. تسهل الأزياء الموحدة للمرضى عملية المراقبة، بفضل غطاء الرأس المميز الذي يختلف من مصحة لأخرى. يكون هنا عبارة عن قبعة أو منديل للرأس، وهناك طاقية أو قطعة قماش. وفي الأقدام، يتم ارتداء أحذية بدلا من القباقيب الخشبية التي قد تتحول - في يد مريض عقليا مهتاج - إلى سلاح خطير.
يسمح للمرضى، يوم السبت كل أسبوعين، بكتابة مراسلاتهم، ولكن بالطبع يمنع المصابون بهوس الكتابة من حضور هذا اليوم؛ لكيلا يسترسلوا في إخراج هذيانهم الطويل على الورق. وتستعيد جهة الرقابة على الرسائل كل هذه المراسلات دون صعوبة، كما تمارس مراقبة قاسية على أي مراسلات غير مصرح بها؛ لكيلا تتسبب في قلق العائلات التي يكون تدخلها ضارا في بعض الأحيان، ولا سيما حينما تستقبل خطابا سريا من مريضها يدعي فيه شفاءه ويدعوهم لإحضاره من المصحة على وجه السرعة. في الواقع، تمنع الرقابة دخول أي بريد سري، مثلما تشير جهة التفتيش على الطرود إلى وجود حركة للتهريب تقوم بها العائلات بانتظام أثناء الزيارات.
عادة ما تكون للزيارات العائلية أثر كارثي على المريض: «كان هناك نوع من التحسن، إلا أنه عقب زيارة تطفلية قامت بها أسرتها، أصيبت السيدة بحالة ذهول ولامبالاة وصمت لم يستطع شيء إخراجها منها. فلم تعد تعتني بنفسها، بل وأصابها نوع من الخرف» (مصحة بون سوفور - عام 1863). وفي الأغلب تسبب هذه الزيارات نوعا من الاهتياج للمريض؛ ولذلك لا يسمح بها كبير الأطباء إلا في أضيق الحدود. وتتم فقط في بهو الاستقبال أو في الحدائق خلال الفصول ذات المناخ الجيد وتحت إشراف أحد الحراس. ويجب أن تتوقف فور ظهور أي أثر اضطراب على المريض.
وعلى النهج نفسه، تعطى تصريحات الخروج (داخل نطاق العائلة فقط) بالأحرى بتضييق شديد، ولم تتح أبدا إلا في بداية القرن العشرين. ويجب - من أجل الحصول على مثل هذه الميزة - أن يكون المريض قريبا بالفعل من الشفاء ومن مرحلة الخروج. وتكون مدتها وجيزة للغاية، بل وتقتصر في بعض الأحيان على يوم واحد؛ مما يجبر المريض على العودة إلى المصحة قبل حلول الليل. أما تصاريح الخروج الأطول، فتكون هناك تجارب قبل التصريح بخروج المريض. وفي جميع الأحوال، يجب أن يكون أحد أفراد العائلة ضامنا للمريض، ويعد تصريح الخروج أحد أكثر الوثائق إلزاما: «سيادة المدير، أرجو التكرم بإخراج والد زوجتي - السيد س. - اليوم لقضاء اليوم معنا، وأتعهد بمراقبته، وأخلي المصحة من أي مسئولية تجاهه. كما أتعهد بإرجاعه في ذات اليوم قبل الساعة السادسة مساء.» على ظهر البطاقة عادة ما يكتب إشارة كاملة موجهة بوضوح إلى الشرطة في حالة هروب المريض توضح: العمر، الطول، ولون العيون والشعر، والملابس: «معطف رمادي قديم، وبنطلون أزرق قديم ولكن في حالة جيدة، أحذية عمل بأربطة وواقيات للساق من الجلد وقبعة من القش (بالمصادفة يكون ارتداء القبعة هو علامة يوم الأحد).»
لا تكون اتصالات المريض مع الخارج (العائلة فقط) إلا في أضيق الحدود، بل ولا تشكل حقا له أمرا كبيرا: فيمكن لمريض أن يجد نفسه ممنوعا من أي علاقات مع العالم الخارجي لشهور أو لأعوام، بل ولعقود. و«العالم الخارجي» هو كلمة سحرية، كوكب بعيد بالنسبة إلى من يقيمون بين جدران مصحة الأمراض العقلية.
حفلة راقصة للمريضات عقليا
على خلاف النظام الصارم للحياة اليومية في المصحة، وفيما قد يبدو كصدى بعيد لأعياد المجانين في العصور الوسطى، كان إقامة حفلة راقصة للمريضات عقليا تبدو كنوع من الترويح السريالي عن النفس؛ حيث يكون الجنون هو محور الاحتفال. وتبين لنا بعض الرسومات من نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر «الحفل المقام للمريضات المصابات بالهستيريا في مصحة سالبيتريير». وفي إحداها، تظهر مريضة كبيرة مصابة بهستيريا شديدة وهي تلوح بما يشبه عصا الطبلة الكبيرة وتفتتح بقوة عرض الحفل التنكري. وفي رسم آخر، تظهر بداية الحفلة في جو من البهجة والنظام. وفي الخلفية ، تقف الحارسات بقبعاتهن وملابسهن البيضاء ليرقبن القاعة، إلى جانب الأطباء بزيهم الأبيض فوق ستراتهم. وفي المقدمة، على اليمين نلحظ، بصعوبة، حارستين تصطحبان مريضة في حالة هياج شديد، وإن ظلت متماسكة مكتفية بتسديد ضرباتها إليهما.
كل هذا قد يكون موضوعا للوحات تصويرية متعارف عليها، إلا أن الأمر ليس كذلك. ففي عام 1812، أقيم حفل للمرضى بمصحة شارنتون انتقدته مذكرة دعوى قضائية في ذلك الوقت بشدة:
22 «أما بالنسبة إلى الحفل الذي يعقد كل خميس، فإنه ضرب من المبالغة لا يضاهيها شيء [...] ففي المصحة - التي يجب فيها إضعاف الأهواء التي سببت المرض - لا يتورع من هناك عن إذكائها بالجمع بين الجنسين وتحت تأثير الموسيقى والرقص والتلامس والأوضاع المختلفة ... إلخ! ومن يقمن بالرقص هن النساء الأكثر استثارة من الناحية العصبية وخاصة المريضات بالهيستريا والهوس الجنسي!» على العكس الحفل المقام في سالبيتريير لأفراد الجنس الواحد، يجمع شارنتون باستخفاف بين الرجال والنساء. في عام 1900، يذكر مدير المصحة أن هذه الحفلات قد استمرت فيقول: «سيصدم الغريب من الزي الرائع ومن التنسيق الشديد للراقصات والفرسان. وباستثناء حالات نادرة ترجع إلى نوبات مفاجئة، يدور كل شيء بالشكل الأمثل.»
23
لا يرى الجميع الأمر بتلك النظرة المثالية نفسها: «تجلس سيدة على البيانو تحرك أصابعها بطريقة تشبه تلغراف «شاب»، وتعزف رقصة البولكا، بينما أخذ عدد قليل من المخبولين يدورون بوتيرة واحدة [...] فكان مشهدا مثيرا للشفقة أكثر من كونه حفلا، كان حفلا كئيبا. يظل بعض ممن يرقصون الفالس يقفزون بصورة رهيبة، وفي كل لفة، يرتطم فكا أحدهما محدثا صوتا تعسا. بينما يحرك آخر من اليمين إلى اليسار عينيه التائهتين، موجها في ذات الوقت «لامرأته» عبارات رقيقة، بل وقد تكون غزلية [...] وعلى الضوء المرتعش الباهت لقناديل الغاز الرديئة، تكتسي القاعة بجو كئيب. ولقد لاحظت أنه كلما ازداد اضطراب عقل المريض، ازداد استمتاعه بالحفل. في حين تستحوذ على المصابين بالخرف السلمي - وهم الأكثر عددا في القاعة - حالة من الكآبة تشق على النفس رؤيتها. وتمكث غالبية المريضات في صمت، جالسات في صفين وكأنهن في قداس. قد تتمتم بعضهن بصوت خافت بعبارات كالصلوات. أما من يرقصن فيبدو عليهن التيه، ويوحي شكلهن بوضعهن المقلق.»
24
ويتذكر ماكسيم دي كامب هو الآخر حفلا للمريضات بمصحة سالبيتريير: «مرة أخرى حضرت حفلا تنكريا للمريضات عقليا، حيث فتح له متجر الملابس، وتنكرت كل منهن على ذوقها في زي ماركيزة أو بائعة حليب أو مهرجة. عادة ما يكون جنون النساء أكثر إثارة من جنون الرجال، الذين يصبحون أكثر عنفا أو انغلاقا، يفكرون حتى في ظل غياب عقلهم. أما النساء، وهن الأكثر انفتاحا فالواحدة منهن تبالغ في دورها، تتحدث وتومئ وتروي قصصا، وكأنها تفتح منذ الوهلة الأولى أبواب كل خبايا وأسرار جنونها. وأذكر في تلك الليلة رؤيتي لعجوز حدباء؛ كانت تذهب وتجيء تعاني بوضوح من فرط النشاط الجنسي، فكانت تحوم حول رجلين أو ثلاثة كانوا هناك، وتمد يديها النحيفتين ناحيتهم بتعبير يائس. كان الأمر يسير على ما يرام مع باقي المريضات، كانت إحداهن تدق على البيانو، بينما أخذت ترقص الفتيات القائمات على الخدمة مع المريضات بنظام وضعته بتدقيق إحدى المريضات التي ألبسوها قبعة ذات ريشة كرمز للقيادة. وكانت شديدة الفخر بالمهام الموكلة إليها وبقبعتها البيضاء، وكانت تجول منظمة أي مكان في حاجة إليها.»
25
قدمت بعض العائلات شكوى - مثل زوجة أحد المرضى - عند قراءة الجريدة المحلية عام 1892: «يذكر المقال أنه بمناسبة الرابع عشر من يوليو، سينظم حفل للمرضى والمريضات عقليا، للترفيه عن بعض المرضى المميزين، وهم بالتأكيد أكثر رقيا وبالتأكيد الأكثر جنونا بين نزلاء المصحة. وأنت تدرك يا سيدي مدى ألمي بل وغضبي عند قراءة هذا المقال؛ حيث إن زوجي نزيل في تلك المصحة للأمراض العقلية. إني أعترض بشدة على كل من يريدون أن يجعلوا من هؤلاء التعساء، ومن زوجي على الأخص، أضحوكة ومحطا لسخريتهم؛ ومن ثم أرفض بشدة أن يكون زوجي ضمن الحاضرين لهذا الحفل الشنيع ...»
26
إن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.
ولا يكف أطباء الأمراض العقلية ومديرو المصحات عن إظهار تبرمهم من «الملل والكسل اللذين يسودان في أيام العطلات الرسمية».
27
وفي سبيل مواجهة ذلك ، كانت تنظم رحلات إلى الريف أو إلى البحر. وتمتلك كل مصحة حافلة للنزهات تجرها الخيول، يجلس فيها المرضى بزيهم المخصص ليوم الأحد، وعلى سطح الحافلة يستقر الحراس والحارسات بزيهم الموحد، ويقود الحافلة حوذي من الحراس رافعا سوطه. وداخل العربة تخفى بعض سترات المجانين، «قد يستلزم استعمالها في حال أصيب أحد المرضى بنوبة مفاجئة للسيطرة عليه.»
يسعى من في المصحة أيضا إلى وضع إيقاع للعام عن طريق بعض الأحداث الاحتفالية، ومن ثم يأتي الدين في المقدمة، مثل موكب عيد الغطاس - والذي يأخذ في مصحة سالبيتريير طابع الأعياد الباريسية. هذا إلى جانب المسرح، الذي تارة يقدم عليه مسرحيات كوميدية قصيرة لممثلين محترفين - مثل ما يحدث في مصحة فيل إفيرارد - أو أيضا بعض عروض الألعاب الخفيفة. بالإضافة إلى مسرحيات يقدمها المرضى أنفسهم، وتكون نسبتها ضئيلة مثلما في مصحة بيجار في السواحل الشمالية: «حيث يحتفل بأعياد ميلاد مديرة المصحة أو الكهنة الزائرين كمناسبات للترفيه عن المريضات اللاتي يتدربن بالتنافس مع العاملات على تمثيل بعض المسرحيات القصيرة. ودائما ما يتم الترحيب بهذه الجلسات الترفيهية، التي تمتع الممثلات والمشاهدات لمدة ساعات من السعادة تنسيهن مدى تعاستهن.»
في مصحة شارنتون، يعد المسرح مؤسسة فعلية، تعود بطريقة ما إلى دور الاحتجاز وفقا للنظام القديم وإلى ساد، الذي - على الرغم من احتجازه ككاتب إباحي على حد وصف خطاب رسمي مختوم
28 - أصبح خلال حكم الإمبراطورية الثانية مخرجا لعروض مسرحية، بينما كان فرانسوا دو كولمييه مديرا للمصحة في ذلك الوقت، وكان من المحبين لها بصورة خاصة. إلا أن إسكيرول قد انتقد بوضوح هذه العروض، حتى وإن لم يمثل فيها المرضى بأنفسهم: «إن المريض بالسوداوية يتأثر بكل ما يصدم حواسه، ومن ثم سيتحول إلى غذاء لهذيانه، أما المريض بالهوس، فسيستثار من أسلوب التعبير عن العواطف وحيوية الحوار وتمثيل الممثلين.»
29
ويضيف إسكيرول أنه في شارنتون: «لم تكن تقام إلا عروض قليلة ولم تتبعها حالات من الهذيان العنيف أو الانتكاسات.»
ولقد استطاع رواييه كولار - كبير الأطباء بمصحة شارنتون والعدو الصريح للمدير دو كولمييه - استصدار أمر عام 1813 بحظر هذه العروض (وأيضا الحفلات)، إلا أنه في نهاية القرن التاسع عشر، عاد المسرح إلى مكانته القديمة في المصحات، وكانت العروض تقدم إما عن طريق ممثلين وإما يقدمها المرضى أنفسهم. في عام 1900، وقف مدير مصحة شارنتون مدافعا: «لم تعقب هذه العروض ولو حالة واحدة من الانتكاس أو نوبات ثورة. ويظهر النزلاء - بعد كل سهرة مسرحية - ليس فقط رضاهم بل ورغبتهم في المزيد. وإذا كان الأمر مختلفا، فإن الأطباء لم يصروا على عودة هذه العروض التي يعتبرها الجميع عيدا حقيقيا .»
30
وانتقد أيضا «تلك الأسطورة المبالغ فيها، تلك الأسطورة المقدسة التي ترجع إلى أكثر من قرن!» (متحدثا بالطبع عن إسكيرول). ويشير أيضا إلى سعادة «النزلاء» بهذه العروض التي تشحذ من قدراتهم على التخيل. «لا توجد مؤسسة تهتم بالترفيه مثل المشفى الوطني، الذي يتفنن في إبداع مزيد من العروض والأعياد والبرامج المختلفة.» وكأن كولمييه بعث من جديد في شارنتون.
وفي خضم هذه الخلافات، كان للموسيقى وضع خاص. ألا يتفاخر الجميع منذ العصور القديمة بالآثار الجيدة للموسيقى واللحن على النفس؟ وعلى نهج الأطباء التقليديين للأمراض العقلية، يبدأ إسكيرول بالقول إن «القدماء بالغوا في تقدير آثار الموسيقى، مثلما بالغوا في أشياء أخرى كثيرة»، ولكنه يضيف أنه يجب عدم إهمالها على الرغم من ذلك. على أي حال، فإن جميع الأطباء اتفقوا على أن الموسيقى - حتى وإن لم يكن لها آثار علاجية مؤكدة - تمتلك تأثيرا ترفيهيا وصحيا على المرضى عقليا. وكانت جميع المصحات تمتلك بالفعل فرقة ومدرسة للموسيقى، مثل مصحة بيستر؛ حيث كون ديزيريه بورنفيل (1840-1909) فرقة من البله والمختلين. وبلغ الأمر أن هناك مصحات تخصصت في هذا الأمر، مثل مصحة كاتر مار؛ حيث تتغير حال العازفين تماما أثناء العزف: «فتتبدل نظرات بعضهم من الكمد إلى الذكاء، بينما يدب آخرون بأرجلهم لتحديد الإيقاع بانتظام وقد اكتسبوا وقفة أكثر اعتدالا وحيوية؛ مما يدل على أن العقل يخضع للتأثير الرقيق للموسيقى.»
31
ومما لا شك فيه، أن الموسيقى والدين يتماشيان على الوجه الأكمل، على حد ذكر تقرير عام 1874: إن وجود الكنائس في المصحات لا يهدف فقط إلى ممارسة المرضى للعبادة (فرأينا مدى الحرص في السماح للمرضى بهذه الممارسة)؛ وإنما لأن ممارسة العبادة، خاصة بمصاحبة الموسيقى والترتيل، لها أثر نافع لعدد من المرضى. وبالتالي، تمتلك الكنائس مكانا للموسيقى في معظم المستشفيات.
الساحات
ولكن من هم هؤلاء المرضى عقليا؟ سيحين قريبا وقت دراستهم من الناحية الطبية (ففي النهاية، هذا هو سبب احتجازهم في مصحات الأمراض العقلية)، ولكن لنلاحظ أولا كيف يبدون داخل المصحة. على غرار بول كلي - صاحب عبارة أن الفن لا يعيد إنتاج ما هو مرئي وإنما يجعله مرئيا بالفعل - استطاع قليل من الكتاب أن يجعلوا من المرضى في المصحات العقلية أمرا مرئيا. فقد استيقظ، يوم السبت الرابع من أكتوبر 1856، جول باربي دورفيلي مبكرا؛ لأن الدكتور فاستيل - كبير الأطباء بمصحة بون سوفور - «سيريه بعض المجانين»، وعلى وجه الخصوص الفارس دي توش، ويريد دورفيلي كتابة قصة حياته. اجتاز باري ساحات المناطق المختلفة المخصصة للرجال: «كما أنه في الواقع الإنساني، تكون العواطف الكبرى نادرة، فإن حالات الجنون العنيف هي الأقل شيوعا بين مرضى المصحات العقلية. كان أكثر ما صدمني، بل واخترقني وترك في نفسي انطباعا لا ينسى، هم المجانين التعساء. كان هناك الكثيرون منهم بين المرضى الآخرين البله الذين لا يكفون عن الثرثرة والابتهاج، وكانت لديهم حالة من اليأس والضعف والكآبة ذكرتني ببعض الأبيات التي كتبها دانتي في «الجحيم»، من بين كل الأشياء الحزينة، لم أر من قبل ما هو أكثر حزنا من ذلك. كانت أوضاعهم غريبة جديرة بأن يدرسها نحات! وكأنهم عمدان أو أضرحة! كل هذا يلتحف بطابع أسميه - دون أن أقترب من التعبير بالفعل عما رأيته - حدة الألم التي تتخطى الإنسانية. إنها بالفعل تتخطى الإنسانية؛ لأن الإنسانية قابعة في نطاق الذكاء والإشراق. ما أعجب هذه الجبهات المنحنية والأعناق الممدودة على الصدور، والأيدي المتشابكة فوق الرءوس، وطرق الجلوس على الأرض أو الالتصاق بالجدار أو إخفاء الوجه بين الكفين أو الركبتين! [...] في النهاية، رأيت البطل الذي أريده، الذي أتيت خصيصى إلى المصحة لمقابلته. كان جالسا على مقعد حجري أسفل رواق المعرض الذي يضفي على المصحة طابع السجون القديمة. جاءه الطبيب وناداه باسمه، فنهض من مكانه وحيانا بأدب جم، وأراد الطبيب - الذي استمر في محادثته - أن يبين لي ماذا أصبحت حال هذا العقل الذي أطاحت به طلقات الرصاص، والذي تساوي لديه الآن طلقة واحدة ما هو أفضل من الحياة. كان دي توش فاقدا للعقل تماما، ولكنه كان من القوة البدنية أبعد ما يكون عن البلاهة [...] تركناه وهو يهلوس، ولكن بعبارات منتقاة، بسيطة وصحيحة، وكأن التربية القديمة تفرض لغتها حتى على الجنون. تركنا بأدب، مثلما استقبلنا، عاد إلى مقعده أسفل القنطرة الحجرية. عدت لرؤيته مرة أخيرة، كان هادئا، وإن زادت سرعة تنفسه، كانت عيناه - الزرقاوا اللون مثل البحر الذي طالما تأمله في فترات الهدوء والعاصفة والضباب - مثبتتين في شرود على أسوار الحديقة المزينة بالورد الأحمر، وإن لم يبد عليه أنه كان يراه أصلا! [...] ومن أكثر المشاهد المؤثرة التي عدت بها من هذه الزيارة - وهي من أكثر ما أثارني - كانت هيئة كاهن شاب وحالته وجنونه الهادئ غير الملحوظ، كان يبدو كأنه يحلم، وليس كمن هو مصاب بالجنون، مستندا إلى الحائط في الحديقة حيث الشمس فقط. كان الجو به غيوم - كما أحبه بالضبط - وكان يتماشى مع زهور الحديقة ومع هذا الشخص الهادئ. كان طويلا وكان لونه أبيض شاحبا مرتديا طاقية من المخمل الأسود، وكان في حالة من الاستسلام والتيه، وإن بدا عليه التفكير ... ولكن يفكر في ماذا؟ كان هذا هو الكاهن إم ... لم أرد أن أسأل الطبيب عن جنون هذا الكاهن الشاعر الذي يبتسم للحائط. كان يمسك بكتاب صلواته بجانبه بيده البيضاء النحيفة المليئة بالعروق الزرقاء الضعيفة [...] بدا لي وكأن الملاك الحارس لهذا الكاهن واقف على الناحية الأخرى من المقعد، ينظر إليه بعينين ملائكيتين دامعتين.»
32
وفي سجل آخر، يبين الدكتور سيلين: «كانت المصحة تسمى في المكاتبات «دار الشفاء» بسبب الحديقة الكبيرة التي تحيط به؛ حيث يتنزه المرضى خلال الأيام ذات الجو الجميل. كانوا يتجولون هناك ويبدو عليهم أنهم يحافظون بصعوبة غريبة على توازن رءوسهم، كمن يخشى باستمرار سكب محتوياتها إذا سقطت. وداخل هذه الرءوس كانت تتصادم كافة الأشياء الغريبة والشاذة التي يتمسكون بها بضراوة [...] ولم تكن إمبراطورية بأكملها قادرة على نزع هذه الأفكار من عقولهم. فالشخص المجنون هو شخص له ذات أفكار الشخص العادي ولكنها حبيسة رأسه [...] في بعض نوافذ قاعات الطعام التي تطل على الشارع، كان بعض المجانين يصرخون أحيانا أو يثيرون المحيطين بهم، إلا أن الفزع الأكبر كان يبقى قابعا في الداخل. كانوا ينشغلون به ، ويحتفظون به في مواجهة كافة المحاولات العلاجية. كانت هذه المقاومة هي شغفهم» (رحلة حتى نهاية الليل).
عانى هؤلاء المرضى طويلا من الصدمة النفسية لأولى ساعات الاحتجاز. ربما تكون هذه هي اللحظة الأسوأ حين يكتشف المريض المرضى الآخرين. ويستشعر الفزع من رؤية الناس تعامله كمجنون، بل وحين يكتشف نوعا ما جنونه بالفعل؛ كل شيء يشكل ضربا من الرعب: أصوات المفاتيح والأقفال والصراخ والحبس. ويكتب كاهن محتجز في مصحة بون سوفور في عام 1854: «يعذبني ما أراه كل يوم وتؤرقني بشدة الصرخات التي أسمعها. ماذا أفعل وسط هذه الضجة وهذا الصخب؟» أما عن مريض آخر أعيد احتجازه: «فأكثر ما يخشاه هو أن يوضع مع المرضى التعساء المصابين بالهذيان ويسبون أثناء نوباتهم ... إلخ.»
لا يعتقد الكثير من المرضى أنهم مجانين، ويتساءلون عن سبب وجودهم في المصحة؛ «لأن مصحات الأمراض العقلية ليست مصممة لتضم من لديهم وعي كامل بما يفعلونه.»
33 «أعيش بين ما يقرب من مائة رجل، بعضهم بله تماما وآخرون مجانين يصرخون ويومئون ويصيحون، إنه جحيم يصيب بالجنون الشخص السليم. أنا لا أنتمي إلى هنا.»
34
ولكن الأمر هنا لا يتعلق إلا بالمحتجزين الذين لديهم القدرة على إدراك ما يحدث حولهم. فهناك الكثيرون يصلون في حالة من الهذيان الكامل مثلما توضح محاضر استقبالهم: «لا أخشى شيئا من أعلى، فأنا أمتلك أوامر البركة واللعنة.» وهناك مريض آخر يظن نفسه «الإله، ابن الله الأبدي وشقيق المسيح.» كان يسير عاريا في طرقات بايو، إلى أن قابله شرطيان . ويصل مرضى آخرون في حالة مفزعة: «جاء أحدهم عاريا لا يغطي جسده بالكاد إلا بقايا ملابس، ولحيته غير مهذبة تصل حتى بطنه، وشعره مفرط الطول في حالة فوضى كاملة يغطيه كمعطف. كان يعيش منذ فترة طويلة في العراء، فارا من الأماكن المأهولة بالبشر.»
35
وقد يأتي مرضى مغطون بالكدمات. كان هناك مرضى مصابون بهياج يجرى تقييدهم حتى تمزق القيود جلدهم؛ وهو الأمر الذي كان يسارع أطباء استقبال المرضى بتسجيله بوعي كامل لإخلاء أي مسئولية عن المصحة. وتجدر الإشارة إلى أن أطباء الأمراض العقلية لم يكونوا يرون في جميع الداخلين مرضى بالفعل: «يبدو هذا الشاب متشردا وقحا وكسولا ذا هيئة قذرة، ولكن صحته النفسية سليمة.»
وبعد ملاحظة شكلية، يدخل المرضى إلى المنطقة التي يحددها لهم الطبيب. في عام 1879 في مصحة بون سوفور (تضم حينها 1129 مريضا)، كانت النساء الأكثر عددا، حتى بلغ عددهن ستمائة وستا وستين مريضة. وكان الجناح الكبير المسمى نوتردام يضم أربعمائة وثلاثا وعشرين مريضة وإحدى وعشرين راهبة، موزعات على ما لا يقل عن عشر مناطق: الهادئات (ثلاثة أقسام) والمصابات بشبه هياج، والمصابات بهياج كامل وخرف، والثائرات، والمريضات بالصرع، ومن في مرحلة النقاهة، والمريضات (قسم التمريض)، والعاجزات والأطفال. بينما حاول جناحا النزلاء إدخال تصنيف يقتصر على الهادئات والمصابات بشبه هياج، والمصابات بهياج كامل. بالنسبة إلى الرجال؛ الذين بلغ عددهم أربعمائة وثلاثة وستين بالإضافة إلى اثنين وخمسين حارسا وست وعشرين راهبة، فإلى جانب جناحي النزلاء، كان التقسيم كما هو مع زيادة منطقة واحدة للمصابين بالهياج وأخرى للتمريض تضم العاجزين والمرضى.
تمتلك كل منطقة ساحة أو فناء (ساحة محاطة بممرات مفتوحة). قد تكون هذه الساحة أو الساحات صغيرة. وهناك يكون المكان الذي تتبدى فيه مظاهر الجنون. «خلف الممرض، اجتزت ممرات وساحات أكثر كآبة وإهمالا من تلك التي أودعت فيها. قبع فيها بقايا البشر يئنون ويومئون ويصطدمون في تحركاتهم الفوضوية. جلس اثنان أو ثلاثة على مقاعد بعيون ثابتة وذهن شارد يتفوهون بصوت أجش بعبارات ناقصة تصاحبها حركات غير مفهومة. وفي أحد أركان التقسيم الرابع ، لم نستطع المرور بسبب شجار نشب بين المرضى والممرضين. كان أحد المرضى قد تشاجر مع آخر، ورقد على الأرض في حالة من اللاوعي، بينما اختفى خصمه. وخلفه هرع ثمانية رجال ليقيدوه بسترة المجانين.»
36 «للوهلة الأولى، نعرف في أي منطقة نحن بمجرد دخول الساحات، فلا داعي لسؤال الحارس عما إذا كنا في منطقة المرضى المسالمين أو المصابين بالهياج؛ فالحديقة وحدها مؤشر كاف. فالحديقة المخصصة للمجانين المسالمين تكون نظيفة، ذات حشائش خضراء لا تدوسها أقدام المتنزهين [...] يتحدث فيها المرضى فيما بينهم ويقرئون ويحيون من يمر، أما تلك المخصصة للمصابين بشبه هياج، فتكون نصف مزروعة وتندر بها الورود؛ حيث يتمرغ المرضى على العشب. أما بالنسبة إلى المصابين بهياج كامل، فتكون الفوضى هي السائدة في الحديقة؛ فتنتشر الرمال العالقة بأقدامهم في الممرات، وتتقاطع على الحشائش ممرات رسمتها أقدام المرضى المصابين بهوس السير من الصباح إلى المساء، دائما على الخط نفسه، مثل الحيوانات المفترسة حبيسة الأقفاص. بينما تأخذ بعضهم البلاغة، فيمضون يتحدثون بطريقة مسرحية ويكررون العبارات نفسها دون توقف. ويسير آخرون خافضي الرءوس في حالة من التعاسة وأيديهم معقودة على صدورهم بفعل سترة المجانين.»
37
ويمثل مرضى هوس السير بالطبع فئة من نوع خاص: «خايلني شيء يسير بسرعة ويغير اتجاهه بسرعة من طرف الغرفة، ويستكمل مساره حتى يصل إلى الركن الآخر، ثم يغير من جديد اتجاهه من زاوية إلى زاوية إلى ما لا نهاية. كان الرجل الذي يسير هكذا مرعبا، يسير باندفاع شديد بخطوات خفيفة تشبه الحيوانات الحبيسة التي تسير على خطاها نفسها حتى تصل إلى نهاية القفص وتكتشف أنها لا يمكن أن تمضي أكثر من ذلك.»
38
ويتم تشبيه مكان مرضى هوس السير - بالمعنى الحقيقي للكلمة - ب «كهف الدببة»: «انظروا! - قال زميلي - إنهم يزينون كهف الدببة. فقلت: «كهف الدببة»، انتبه إذن! فأمام كبير الأطباء والممرضات لا يوجد سبيل للمزاح! إذا أردت أن تستنشق الهواء، فقل: «أنا ذاهب إلى الساحة» أو أفضل قل: «أنا ذاهب للخارج.» وتعتبر الساحة أيضا نوعا من السجن [...] يسير في كافة أرجائها ما يقرب من عشرين محتجزا، يضطر حارسان إلى البقاء في القاعة، في حين يتنزه الاثنان الآخران بملابسهما البيضاء وبوجهيهما وافري الصحة بين قطيع المرضى البائسين. كان يبدو على الجميع كمن يتنكر لحضور أحد الكرنفالات، فكان ثوب الراهبات موحدا تقريبا بلونه الأزرق الباهت مضفيا على أشكالهن نوعا من الفكاهة [...] وفي خضم هذه التعاسة البشرية، رأيت نظرات ميتة أو مضيئة، نظرات مقلقة أو أخرى توحي بسذاجة خادعة، وابتسامات ساخرة تثير الخوف. ولكنني إذا ما رأيت وجها يبدو لي هادئا وسط هذا الفناء كنت أتساءل عن الهلاوس المفزعة التي تختبئ خلف هذا القناع، مثل تلك المنازل الهادئة التي تخفي في داخلها أعمال السكر والعربدة.»
39
لا يوجد مريض يشبه الآخر، فلا يوجد هذيان يطابق الآخر. وإذا رغبنا في المبالغة في التصنيف، فيجب أن يكون لكل ساحته ومنطقته الخاصة به. «يظلون ثلاثين شخصا منعزلين، وليس مجموعة واحدة، ثلاثين مجنونا تعسا وحيدا في كراهيته الواعية، كل منهم يحتمي في جنونه وبؤسه اللذين أصبحا بالنسبة إليه صورة وجهه وقبحه.»
40
لنتطرق الآن إلى ساحات المرضى المسالمين، حيث يسعى المصابون بالكآبة وعقدة الاضطهاد وذوو النزعات الروحية إلى الوحدة، فلا يتنقلون ولا يعملون ولا حتى يأكلون إن لم يخبرهم أحد. لدى النساء، كانت هناك مريضة «تجلس دائما القرفصاء في أحد الأركان بحجة رعاية أبقارها». بينما «ترقد الأخرى على المقعد في الحديقة طوال اليوم، وبمجرد رؤية الطبيب تهرع إليه وتسير معه متمتمة بكلمات غير مفهومة». كثيرون منهم - رجالا كانوا أو نساء - يتجولون في صمت كالأشباح، يتحدثون أحيانا مع كائنات غير مرئية، يقفون دائما في مكان معين في الممر أو الفناء ولا يبرحونه أبدا. بينما يقوم آخرون بجمع الأشياء الصغيرة من الأرض، ويلتقطونها كأشياء قيمة. وهناك مرضى يمكثون دائما بالقرب من الأبواب يتصيدون لحظة الهروب. (نجح أحد المرضى بفعل تمثيله لمشهد الهروب كل يوم أن يقنع الحراس بتجاهله، حتى تمكن من الهروب بالفعل.) ويظل آخرون صامتين تماما حتى إن وجه إليهم أي حديث، ويكون أهدأ أنواع المرضى هم من يظنون أنفسهم موتى بالفعل .
لا يعرف الكثير من المرضى وضعهم بالفعل، حتى أولئك الذين يعتادون عليه: «لا يوجد لديه أي إدراك للمكان، ولا ينفك يشكر الرجال الطيبين الذين يؤوونه ويطعمونه دون أن يطالبوه بالمقابل» (1874، مريض يبلغ من العمر سبعين عاما). ويقول كبير الأطباء عن هذا المريض، البالغ من العمر ثمانية وأربعين عاما: «إنه يظن نفسه في فندق يقيم فيه حتى إقلاع السفينة التي أوفدها إلى الهند.» أما عن هذا المريض ذي الثمانية والأربعين عاما من نزلاء مصحة بون سوفور، فهو يظن أنه يقيم في «منزل ريفي ساحر».
عادة ما يندرج المصابون بالخبل العقلي ضمن المرضى المسالمين غير المؤذين، لدرجة أن الأطباء ظلوا لفترة طويلة يقولون: إن مكانهم هو دار رعاية المسنين وليس مصحة الأمراض العقلية. إلا أن هذا ليس صحيحا دائما. «إنهم يجلسون معظم الوقت على كراسي كبيرة تتناسب مع عجزهم المهين، غير شاعرين بشيء، وقد عادوا إلى الطفولة الأولى عبر طريق طويل كانت كل خطوة فيه ضربا من المعاناة، ولكنهم لا يزالون أحياء، كان هذا هو كل ما يمكن أن يقال. وإذا طرأت عليهم مؤقتا عودة يائسة للنشاط، واستجمعوا شيئا من قوتهم الخامدة، فإنما يكون هذا لمحاولة إشعال النيران في فرشهم المصنوعة من القش أو خنق حارسهم؛ أي إنه حتى في هذه الحالات يكون المجنون خطيرا. إنه مشهد أليم: أيمكن أن تموت الروح قبل الموت الفعلي؟ [...] منذ بضعة أعوام، كنت في زيارة لمصحة للأمراض العقلية وتوقفت لأشاهد شيئا ما اتضح لي أنه امرأة. كانت جالسة كحطام على كرسي ضخم - إنه أمر مؤثر - وكان اللعاب يسيل من شفتها السفلى، وارتفع جفنها بالكاد عن عينها ذات النظرة المطفأة، ورأسها الحليق يظهر العظام. كان يكسوها جلد مجعد، ولها جسم شديد الهزال. ومن وقت لآخر كانت تقول بصوت أجش مسكين: «آه، آه، آه»!»
41
ويعتقد العديد من الأطباء أيضا أن مكان البله والمختلين عقليا هو دور الرعاية، وليس مصحة الأمراض العقلية. يكتب ماكسيم دي كامب عن البله الشباب في مصحة بيستر: «عندما نشاهدهم نرى خطأ الخليقة الواضح، ونتساءل لماذا فرضت الحياة على مثل هذه الكائنات المحكوم عليها بالبقاء في هذا اللاكيان الدائم؟!»
42
عادة ما يجري احتجازهم في سن صغيرة، ولذلك يحطمون أرقاما قياسية في البقاء داخل المصحة (نصف قرن في بعض الأحيان). وينتهي الأمر بالنسبة إلى بعض منهم بالحصول على وضع «مميز» داخل المصحة؛ مثل ذلك الأبله في مصحة بون سوفور الذي حصل على مكان مشمس مخصص له منذ ثلاثين عاما. وقد تمتد حريات التحرك داخل المصحة إلى كافة أرجائها، بل وقد تفوق حريات الحراس الذين لم يعودوا يراقبونه . ثم سرعان ما نهبط إلى أسفل سلم الحريات: هناك مرضى في مناطق المسالمين لا يخرجون في الصباح والظهيرة إلا للعمل، وهناك أيضا المصابون بالخرف ومرضى الصرع والمصابون بالهذيان الشديد الذين يحظر خروجهم من منطقتهم، بالإضافة إلى المرضى الشديدي الهياج الذين لا يبرحون غرفة العزل الخاصة بهم؛ أي هبطنا من بضعة هكتارات إلى بضعة أمتار مربعة ...
وإذا كانت الساحات المخصصة لمرضى الصرع والخرف هادئة في أغلب الأحيان، فإنها تحتاج إلى مراقبة خاصة؛ فالمصابون بالصرع قد يسقطون من أعلى ويصابون بجروح خطيرة، دون إغفال ميلهم للضرب ولا سيما قبل وبعد نوبات الصرع. فيما يتعلق بالمصابين بالخرف، فإن ميلهم للجنس - الليلي في أغلب الأوقات - قد يصبح نهاريا أيضا. كما يوجد مرضى «قذرون» يلعبون بإفرازاتهم، فيلطخون أنفسهم بها ويلوثون الجدران، ولكن دون ضوضاء أو صوت. وفي بعض التقارير الطبية في بداية القرن العشرين، يتم التحايل على مرض «الخرف» بالقول بأنه «اضطراب السلوك الخاص بالعضلة العاصرة.»
في ساحات المصابين بشبه هياج أو بهياج كامل، سنجد مرضى واقعين فريسة لهذيانهم؛ فهناك المرضى ذوو النزعة الدينية، نجدهم جاثمين يصلون أو يردون على الرؤى والظهورات. فها هو مختل في الثالثة والسبعين من عمره يدعي: أن الله يأتيه يحادثه ويعزيه ويرشده، وأنه يسمع صوت العذراء مريم، وأنه يتناول الأسرار المقدسة في روما أثناء أحلامه. ويقضي اليوم كله يتمتم بصلوات ومسبحته في يده. ومريض آخر يبلغ من العمر سبعة وثلاثين عاما ظن أن «الله يدعوه ليأتي معه، فما كان منه إلا أن التحف بملاءته وقفز داخل المدخنة.»
43
هناك هلاوس متعددة، ولكنها عادة ما تكون سمعية، مثل تلك المريضة ذات التسعة والثلاثين عاما، التي «تسمع أصواتا بالليل وأثناء النهار، تأتيها العصافير لتحادثها؛ ولذلك فهي تغلق فمها بيديها لكيلا تدخله هذه العصافير.» وأحيانا ما تكون الأصوات التي تسمع قادمة من الساحة سبابا وتهديدا ولعنات؛ لأن زوجها وأولادها ماتوا غرقا. وكثير من المرضى يسمعون خطوات الجلاد الذي جاء لأخذهم وقيادتهم إلى المقصلة، بينما يسمع آخرون أجراسا تدق بأسمائهم، ولكنه ليس بالرنين المبهج.
وقد تكون الهلاوس حسية أيضا: «عند التنزه بهذا المريض ليلا، كان يعتقد أن مبنى التمريض كله يسير معه.» وقد يرى بعض المرضى أشياء غريبة تتحرك في السماء. «هناك مريضة يعيش والدها في منزله، ولكنها تراه وتتحدث معه.» عادة ما تكون هذه الهلاوس الليلية المخيفة مرتبطة بإدمان الخمور: «هناك حيوانات تنزل من السقف وتأكل قدمه، أو أن أحدا يدق مسامير في نعوش، أو يقطع جثث الموتى.» بينما يظن أحدهم أن فمه مليء بدبابيس تجعله لا يتوقف عن البصق. أو أن أحدا وضع ثعابين في فمه؛ ولذلك لا يستطيع أن يأكل أبدا. وأن هناك من يرسل إلى أحدهم روائح كريهة عبر الأرض، وإلى آخر شحنات كهربائية (في بداية القرن العشرين، كانت الكهرباء موضوعا مفضلا)، «فكان يعذب بالكهرباء والكيمياء، وكان معذبه يقيم في قبو كبير أسفل قاعة المرضى.»
ما بين المصابين بالهياج الدائم أو ذوي النوبات العرضية، كان المرضى بشعور الاضطهاد هم الأكثر عددا، وتتفاوت موضوعات هذيانهم إلى ما لا نهاية. فالشياطين وأشباح أهله المتوفين والماسونيون واليسوعيون والجيران والأقارب، كلهم شخصيات ترتبط بضياع المريض بالهذيان، وتطارده باستهزائها، تدخل غرفته ليلا عبر ثقب في السقف وتضربه وتحرقه، وتقتله ببطء. «إنهم يريدون الانتقام منه، يطاردونه؛ ولذلك يسمع المريض دائما أصواتا وصليلا وبصقات من خلفه.» فهذا التاجر اليائس لا يتوقف عن الصراخ: «لقد انتهيت، انتهيت، انتهيت! في أوروبا كلها، لا يوجد من هو محطم مثلي!» وتشتكي هذه المريضة ذات التسعة والستين عاما من كونها تحمل أختها المتوفاة طويلا على ظهرها. وبعد الإفراج عنها و«شفائها»، أصيبت بانتكاسة بعد ثلاثة أشهر، معتقدة الآن أن أختها في رأسها. أما هذا المريض ذو التسعة والعشرين عاما والمحتجز عام 1881، فهو يعتقد «أن هناك شخصا آخر داخله يتكلم عنه ويملي عليه تصرفاته ويعذبه ويجعل منه أضحوكة.» في عام 1922، كانت هناك مريضة تشتكي من «أن جسدها بداخله رجل صغير يضايقها».
كل هذا إلى جانب المرضى المصابين بأفكار العظمة والثراء. «فهذا مطرب في الأوبرا، وهذا لواء، بل إمبراطور يعتلي عرشا من ذهب»، «وهذا إله ، يمتلك الأرض بأسرها»، «وبسمارك يعمل لدى هذا كمساعد، واشترى له روسيا؛ ولذلك فعليه أن يرسل له مائة مليون.» دائما ما تكون محاور جنونهم مبالغا فيها، ويتكاثر المليارديرات مع الأباطرة على نحو طريف، مثل هذا المريض البالغ من العمر واحدا وأربعين عاما والمحتجز منذ عام 1890، والذي يعتقد أنه تعرض لسرقة «عدة مليارات بالإضافة إلى زوج من الأحذية الجميلة.» ففي مثل هذه الحالات قد تمتزج هلاوس العظمة وعقد الاضطهاد بسهولة، مثل هذا المريض ذي الأربعين ربيعا المحتجز عام 1880، والذي - بالإضافة إلى اعتقاده بأنه مايكل أنجلو (كان رساما على الزجاج في الحياة الواقعية) - كان يظن أنه سيد الكون، وكان يقول «إنهم سيرون قريبا، وإنه يجب أن يعترف الجميع بأنه القدير.» وبما أن أحدا لم يتعرف به، تبدأ فكرة الاضطهاد بالسيطرة عليه، ولا يكون عبارة عن اضطهاد سلبي يقوم على الشكوى، وإنما اضطهاد فعلي وانتقامي. ومن ثم ظهر نموذج «المعذب-المعذب» التقليدي الذي ينطبق على قسم المصابين بالهياج (فالحراس لا يقسمون المرضى إلا إلى مصابين بالهياج وغير مصابين بالهياج).
يصرخ ضحايا الهذيان ويومئون بإشارات مجيبين على هلاوسهم، حتى وإن رفضوا الاعتراف بهذا. فيقلبون ملاءات السرير ويمزقون مراتبهم؛ بحثا عن محور هلوستهم، ويتمرغون في التراب أو في الطين بحسب الموسم. يجرون فجأة بين الممرات وهم يصرخون أن الشيطان يطاردهم ليحملهم إلى الجحيم، وتكون صرخاتهم مفزعة ومخيفة. في بداية الخمسينيات، كان من يمر بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، يعرف أن هذا المكان مخصص للمجانين: بسبب الصيحات التي تارة تكون متقطعة وتارة أخرى تتوالى كعاصفة من الصراخ.
يتنقل المرضى المضطربون من منطقة إلى أخرى، وينتهي المطاف بالأكثر هياجا بينهم مربوطين بسترات المجانين أو محتجزين في زنزانة؛ أي ينتهون إلى معرفة ما يسمى على استحياء ب «الالتزام الأخلاقي» عن طريق اختبار الوسائل العقابية المتنوعة. كما يمكن نقل بعض المجانين إلى مصحات أخرى، على الرغم من رفض المصحات استقدام المزيد من المرضى الذين تكتظ بهم جدرانها. ولقد وقعت حادثة عجيبة في مصحة بون سوفور عام 1872، حينما احتجزت شابة تبلغ عشرين عاما. ومن المعروف أن المشاعر العاطفية تخبو لدى المرضى بدليل لامبالاتهم بزيارات عائلاتهم. إلا أن والدة الشابة احتجزت هي الأخرى في المصحة، والتقت المرأتان في ساحة المريضات المسالمات. ولقد استحقت هذه الحادثة أن ترد في تقرير: «أثبتت هذه الفتاة التي التقت والدتها في مصحة بون سوفور خاصية شديدة الندرة، وهي أن المشاعر العاطفية لم تختف عند الأم ولا الفتاة؛ مما نتج عنه مشاهد حانية يومية كانت تتسبب في اضطراب باقي المصحة؛ الأمر الذي تطلب نقلها إلى مصحة بيجار.» كان من الصعب بالطبع عزل كل من المرأتين في زنزانة بسبب الحنان. «الالتزام الأخلاقي» «هناك عدة تساؤلات تطرح نفسها؛ أولا: هل معاقبة المريض عقليا أمر شرعي؟ ثانيا: هل من المنطق أن يعاقب مريض عقليا؟ إنه لا يعي أفعاله، ومن ثم فهو ليس مسئولا ويجب عدم معاقبته. تعد الرغبة في تطبيق هذه القاعدة مبالغة شديدة داخل المصحات. بالطبع، من غير المعقول، بل من اللاإنسانية توقيع عقوبة شديدة على المرضى عقليا بسبب الأفعال التي يرتكبونها. إلا أن غالبيتهم - في معظم الحالات - يعرفون جيدا أنهم يرتكبون عملا رديئا ولا يوجد علاج نفسي أو تأديب ممكن إذا شعروا بذلك.»
44
وسنلاحظ عودة مصطلح «العلاج الأخلاقي» مرة أخرى على استحياء، ولكنه مصحوب هذه المرة بنوع من الالتزام بأن تكون وسائله متنوعة ومتدرجة من حيث الشدة. في البداية، يأتي التوبيخ، والحرمان من التبغ أو التنزه أو من بعض الحلوى في الطعام أو من أي خرق للائحة أو لنظام الزيارات والعمل. كما يمكن نقل المريض المتمرد من منطقة المسالمين إلى منطقة المصابين بالهياج، بل والخرف، ولكن كثرة ممارسة هذه الطريقة كانت تتعارض مع فكرة تصنيف المرضى الذي يقوم على قاعدة طبية وليس تنظيمية. ولكنها كانت بالفعل عقابا رهيبا، ما عدا هذا المريض البالغ من العمر ثمانية وستين عاما والمصاب بهلاوس العظمة (1881): «إنه لا يسعد إلا في صحبة المصابين بالهياج، على الأقل - على حد قوله - يوجد من يتحدث!»
لا يتم الانتقال إلى الوسائل الأخرى القمعية بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا بعد فشل كل هذه الطرق. عندما يصاب المريض بنوبة هياج غاضبة ومفاجئة، فيبدأ بسب الحراس والطبيب، ويهجم على زملائه، أو في حالات المصابين بالميل إلى التعري أو المصابين بهوس ممارسة العادة السرية. عندها لا بد من القيام بشيء، وهذا الشيء يكون سترة المجانين، المصنوعة من قماش قوي للغاية، وهي عبارة عن قميص مفتوح من الخلف بأكمام طويلة تتشابك من الأمام وتربط خلف الظهر. بهذه الطريقة، تمنع حركة اليدين، لا الساقين. ويمكن تثبيت سلسلة من العنق تتيح ربط المريض بفراشه أو في سور الساحة. إلا أن استخدام السترة ليس من دون خسائر، فهو يسبب جروحا خطيرة في الجلد الذي يحتك بالقماش القوى، بل وقد يتسبب في مشاكل بالتنفس؛ ولذلك، يوصى بعدم ارتداء السترة لفترات طويلة، على الرغم من كثرة استخدامها في المصحات الفرنسية (على عكس المصحات البريطانية؛ حيث يعوض عن تطبيق سياسة عدم القيود بوجود عدد أكبر من الزنازين). عادة ما يكفي التهديد باستخدام السترة أو أحد مشتقاتها: الكم الإجباري والبنطال؛ والأول هو عبارة عن سترة مصغرة لا تمنع إلا استخدام الأيدي، أما الثاني فهو زي أكثر تعقيدا يغطي الجسم كله، ويمكن تشبيهه بزي عمل ثقيل، ولكنه يسمح بشكل ما بحركة الذراعين في أي وقت. وبدافع طريف من الاهتمام بالجماليات والحياء، «تضاف تنورة إلى زي النساء، لئلا يرفضن ارتداءه.»
45
كما يوجد أيضا الكرسي الإجباري، والذي يطلق عليه أحيانا التسمية الجميلة «الكرسي المهدئ»، وكان يسمح، في صورته الأولى، بالسيطرة على المصابين بالخرف والقذرين على مدار يوم كامل. وإذا كان المرضى عقليا بارعين، فأطباؤهم كذلك، بدليل هذه الطريقة لتقييد القدمين للمرضى الذين ينزعون أحذيتهم باستمرار في الساحة المجاورة أو يستخدمونها كسلاح: وهي وضع قفل صغير يمنع خلعها.
كما يظل الدش أو الحمام، سواء أكان باردا أم ساخنا وطويلا أم قصيرا، وسيلة تقليدية للعقاب، أو بعبارات أكثر تهذبا «للالتزام الأخلاقي». أثناء الإمبراطورية الثانية، يتحدث مريض في الكثير من خطاباته الصادرة من مصحة بو: «عزيزتي، خرجت لتوي من إحدى أصعب المحن التي عذبتني، يسمونها الاستحمام الإجباري ، وأرجوك أن تتخيلي الماء وشكله التعذيبي المؤلم بصورة تفوق استخداماته أثناء محاكم التفتيش. تخيلي الصناديق الحديدية الطويلة المملوءة بالمياه المغلية أو المثلجة التي يجلسوننا فيها لخمس أو ست ساعات [...] يقبض عليك الحراس، ويدفعونك إليها ويرمونك بحيث لا تكون لديك أي فرصة للخروج واضعين فوقك غطاء من الحديد يشبه حد المقصلة [...] كل هذا يضاف إلى صرخات الضحايا الذين يلاقون إلى جوارك العذاب نفسه.»
46
ولقد كان الاستحمام بالمياه الباردة بالنسبة إلى هذا المريض ذي الخمسة والعشرين عاما والمحتجز منذ عام 1853، والذي كان «لا ينطق كلمة واحدة ومصابا بالخرف، فسرعان ما أصبح نظيفا متكلما عقب أخذه حماما باردا بعد بضعة أيام (من دخوله المصحة).»
47
وبالنسبة إلى هذه المريضة البالغة من العمر سبعة وثلاثين عاما، «والتي تتسبب في إحداث اضطراب ليلا ونهارا داخل المؤسسة، فكان الحمام البارد هو الوسيلة لتهدئتها وإخافتها.»
48
كان الخوف الذي يحدثه الحمام البارد في نفس هذه المريضة ذات الثلاثين ربيعا (ورأينا مفهوم المصحة عن الاستحمام) «هو الوسيلة الوحيدة لجعلها مطيعة».
وتبقى وسيلة الحجز داخل زنزانة طوال اليوم؛ وفي تلك الحالة كان يجري إظلام الزنازين أو يتم الحبس فيها ليلا؛ لأنه في انتظار وصول المسكنات كان لا بد من الحفاظ على أكبر عدد ممكن من المرضى مستغرقين في النوم. وقد يمتد العقاب بالإقامة لعدة أيام أو أكثر. ويروي المريض نفسه - الذي اشتكى من تعذيبه بالاستحمام البارد - قصة إقامته في «الزنزانة» بعد أن تشاجر مع كبير الحراس «الذي يتحكم في مصائر المقيمين هناك [...] أكثر ما يعذبني أثناء وجودي في أحد هذه الكهوف، ليس عدم وجود فراش إلا قليل من القش وغطاء خفيف، وليس فقط عدم قدرتي على رؤية شيء إلا جزء صغير من السماء عبر كوة صغيرة ضيقة يغطيها قضبان حديدية، وليس سماعي لأصوات الصراخ والعويل بجواري ليلا ونهارا في الزنازين المجاورة؛ حيث يتشاجر المرضى، لا، ليس هذا؛ إنما هي الرائحة الكريهة والمقززة التي تنبعث من الماء الآسن الذي يتجمع كل يوم والفضلات بكل أنواعها التي تتراكم من الوحوش المحبوسة هنا!»
49
في تقرير صدر عام 1874، كتب مفتشو العموم: «نفضل ترك مريض مصاب بحالة هياج يتجول في الساحة مرتديا سترة المجانين أو مكبلا بالأصفاد، عن حبسه داخل زنزانة حتى ولو كانت مبطنة.» إلا أن الزنازين لم تختف، بما فيها تلك التي تستخدم للحبس لفترات طويلة، كما يوضح هذا التقرير التفتيشي ليومي التاسع عشر والعشرين من أغسطس عام 1930 بمصحة بون سوفور. كان ذلك في منطقة الرجال، «وكانت المنطقة المخصصة للزنازين مختلطة مع تلك المخصصة للمرضى المصابين بالهياج. كانت تتكون من ثماني زنازين قديمة وعلى أدنى مستوى [...] ومن الأفضل ألا تستخدم للإقامة طوال النهار والليل، وأن تكون مخصصة فقط للحبس المؤقت خلال الليل وفي حالات الضرورة القصوى مع بعض الحالات الخاصة. ويكون من الأفضل التخلي تماما عن فكرة استخدامها. أثناء زيارتي، وجدت ثلاثا من هذه الزنازين يقيم فيها مرضى ليلا ونهارا. في إحداها، رأيت مريضا عنيفا للغاية يرقد على الفراش المصنوع من القش، كان هناك منذ سنوات، ويرفض الخروج قطعيا على حد قول الطبيب كوركيه. وسيكون من المستحيل - أيضا على حد قول الطبيب - إخراجه منها ووضعه في وسط مرضى آخرين. وفي الزنزانة المجاورة، كان هنا مريض يمزق كل فراش يقدم إليه، ولكنه جمع القش في كومة واختفى وسطها.» وفي عام 1875، ورد ذكر هذا الأمر - ولو بطريقة رمزية - ولكنه يثبت أن العديد من المرضى يقيمون بالكامل في هذه الزنازين: «يوجد مريض يسعد بإقامته هناك، حتى إنه يصنع لنفسه زيا من القش المضفر.»
50
وأقول بخجل، اكتشف المفتش العام عام 1930، وجود سلاسل من الصلب تربط بكاحل ومعصم المرضى الذين يجدون وسيلة لفك قيودهم المصنوعة من القماش أو الجلد. ويقول مدير المصحة وكبير الأطباء: إن المرضى - على الرغم من اضطرارهم للقفز - يفضلون هذه الطريقة عن الطرق الأخرى للتقييد؟ ولقد اكتشف المفتش هذا الأمر الذي ساءه كثيرا. أليست هذه - بطريقة ما - عودة لعصر السلاسل والقيود؟
في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، انتشرت طرق أخرى غريبة للتقييد، ولكنها سرعان ما انتهت. في شارنتون مثلا، كان هناك السرير-الصندوق المصنوع من سلال الصفصاف وكان يوضع فيه المريض المصاب بالهياج، ولا تظهر منه إلا رأسه ويغلق عليه، وكأنه تابوت. وفي الوقت نفسه، كانت هناك نسخة أفقية منه، يذكرها الطبيب البلجيكي جوزيف جيزلان وتسمى الخزانة-الساعة. ويذكر أيضا - في ألمانيا - حبلين؛ أحدهما مشدود أفقيا والآخر رأسيا، ويجعل المريض واقفا وذراعاه على هيئة صليب بين جدارين. بالطبع، نفضل الاعتقاد بأن «المرضى المضطربين أو المتمردين يعودون إلى حالة النظام بعد قضاء مدة من ثمان إلى اثنتي عشرة ساعة - على الأكثر - في هذا الوضع.»
51
في عصر الطب النفسي الرومانسي، كان يستخدم قناع من الحديد الأبيض له وعاء أسفل الذقن ليحتوي اللعاب الذي يسيل من المرضى البله في مصحة تيرلمون ببلجيكا عام 1842. «كان هناك مريض تعس يرتدي هذا القناع باستمرار منذ ستة أعوام.»
52
وكان هناك أيضا الكمامة؛ وهي قناع من الجلد الصلب يمنع فتح الفم، ويحول صراخ المرضى الهائجين إلى صمت أو همهمات غير مفهومة
53 (يذكرنا بقناع هانيبال ليكتر).
رأينا مدى النجاح الذي لاقاه في عهد النظام القديم كتاب الطبيب تيسو عن الاستمناء في القرن التاسع عشر، كان هذا هو هاجس أطباء الأمراض العقلية. فالعادة السرية، سواء مارسها الرجال أم النساء، كانت تبدو كأحد أسباب الجنون. وتتعدد سبل منعها وتتراوح من الدين والتعليم، وحتى الرياضة والألعاب البدنية، مرورا بحمامات المياه الباردة. إلا أنه بدأ التفكير في سبب عدم وجود نوع من القيود أو «جهاز جراحي ضد الاستمناء»؛ ومن ثم، صنعت أزياء ثقيلة مضادة للاستمناء للشباب والفتيات ، وأيضا تم اختراع فراش مخصوص ليقيد ذراع النائم أو النائمة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. «في تلك الحالة، كما في الآلاف غيرها، يبدو الطب انبعاثا إلهيا يأتي ليريح البشر ويمنعهم من السقوط في الهاوية.»
54
أما هؤلاء الذين يستمرون في هذا الطريق، فلا ينتظرهم إلا التعاسة! كسل ووهن وفقدان للذاكرة وهزال وانحراف الحواس والبله وانقباضات، وأخيرا الجنون: اكتئاب، صرع، خبل مع مؤشرات لما هو أسوأ. مثل هذا المريض بالاستمناء يكون ضحية لجفاف شديد، حتى إنه يمكن سماع صوت مخه يتخبط داخل جمجمته. «أما بالنسبة إلى النساء، فإنهن يسقطن ضحايا مخاوف تتعلق بالرحم تودي بحيائهن وعقلهن أيضا، وتنحدر بهن إلى مصاف الشهوانيات الشرهات حتى يأتي الموت البائس يخلصهن من الآلام والعار.» «إذا اقتضت الحاجة؛ أي في حالة وجود خطر بالموت الفوري»، يمكن اللجوء في النهاية إلى التكميم (نظام من الأحزمة والمشابك على الأعضاء الجنسية للفتيات أو الفتيان تجعل الانتصاب مستحيلا لدى الذكور) أو إلى الختان، وهو «عملية أقل إيلاما».
55
بعد ما يقرب من قرن - في العقود الأولى للقرن العشرين - يرفض الأطباء ومعهم كل الحق مثل هذه الممارسات القديمة والوحشية. إلا أنه - كما رأينا على مستوى الطرق العلاجية - ظلت الوسائل المبالغ فيها تتوالى، حتى وإن لم تتشابه. في سبيل تعويض منع الحبس في زنزانة - الذي يعود بنا إلى عهد النظام القديم وطرقه الرديئة - استبدل بالعزل ملازمة الفراش الإجبارية. في عام 1860، اقترح لودفيج ماير من هامبورج معالجة المرضى الذهانيين ذوي الحالات الحادة بطريقة «العلاج في الفراش». انتشرت تلك الطريقة في ألمانيا كلها، قبل أن تجد طريقها إلى فرنسا على يد مانيان في عام 1897. خلال ثلاثة أعوام، اكتسحت هذه الطريقة وسادت في مجال الطب العقلي الفرنسي. «فالوضع في الفراش يجعل من منطقة الزنازين قاعة عادية للمرضى. ومن ثم يزيد من كرامة المريض، ويجعله مثل مريض القلب أو الدرن.»
56
ويعرف عن العلاج بملازمة الفراش المستمر أو العلاج السريري تزويده للمخ بالراحة اللازمة في بعض حالات الذهان الحاد، إلى جانب كونه وسيلة للملاحظة. وفي النهاية ، فهو أيضا طريقة «للعزل الجماعي» فهو في النهاية إلزام إجباري بالفراش. في عام 1901، تحدث طبيب أمراض عقلية عن نتائج هذا النظام غير الناجحة مطلقا إلا في إخلاء الساحات من المريضات المصابات بالهياج ومن صراخهن عن طريق حبسهن في الفراش. ولكن على الأقل، فإنه قلل من تعرضهن للتقلبات المزاجية. وعن ملازمة الفراش الإجبارية، قال مارك ستيفان - أحد المرضى القدامى لمانيان - إنه «الخمول والوهن الدائم.»
يزداد تعقد هذا الأسلوب العلاجي في حالة هياج المريض لدرجة تجعل هناك اضطرارا إلى تقييده في الفراش. وتعطينا هاتان الشهادتان عن الفراش الإجباري في مصحة سانت آن - حيث أسس مانيان هذا النظام - صورة بعيدة تماما عن فكرة الهدوء والراحة. نحن الآن في قسم التمريض الخاص: «دخلت في وسط ضجة عارمة تشبه غابة يملؤها الصراخ [...] وحولي من الجانبين صفان من الأسرة، كانت الإضاءة حزينة جعلت كل شيء خامدا. لا توجد حركة، بالكاد رعشة. وكان العويل يجثم حرفيا على هذه السلسلة من الوجوه الملتصقة بالفراش، لم يكن هناك مظهر للحياة عليها إلا الأفواه السوداء التي تبدو وسط الظلال كجروح مفتوحة يتفجر منها غضب عارم. وبمشاهدتي لهذه الوجوه عن كثب أدركت في النهاية سبب ثورتهم العاجزة. كان بعضهم مقيدا بسترة المجانين بقوة لدرجة جعلت أقل حركة مستحيلة تماما، فلم يعد باستطاعتهم إلا الصراخ في نوع من الجنون [...] كانوا جميعا من حولي مقيدين بالسترات يدا ناحية اليمين والأخرى لليسار، والساقان كذلك. وتربطهم بالفراش قطع من القماش السميك. بل وكان بعضهم مقيد العنق برباط يمنعه من النهوض [...] في الساعة الرابعة صباحا، يكون موعد التغيير، فرأيت الممرضين الثلاثة الذين استقبلوني يبدءون في تغيير ملاءات الأسرة. كانت معظم الملاءات ملطخة. وفي نوع من الجمود التام، كان الحراس يغيرون الملاءة ويعيدون المرضى ثانية إلى الفراش. بعد قيامهم بفك المرضى المقيدين، كانوا يربطونهم من جديد إلى فراش آخر قبل المضي لتغيير ملاءته؛ ولذلك كانوا يمرون من وقت لآخر يسألون: ألوثت نفسك؟»
57
في عام 1932، ذهب بول ليوتو لزيارة صديق له محتجز بمصحة سانت آن، ولكن في منطقة المرضى المسالمين: «من كل جانب، كان هناك ستة أو سبعة أسرة، ولكن لا يوجد أي كرسي على الإطلاق. وفي أحد الأسرة، صبي جميل، ذو وجه مليح وعينين جميلتين، وبنية قوية، كان يقضي وقته في الصراخ أو في تلاوة القداس أو بعض الأناشيد، ويوجه ابتسامات لمن حوله؛ تارة من على اليمين، وتارة من على اليسار وتارة تهديدات، وفي أحيان أخرى تصيبه حالة من الهياج تجعله يضرب بكفيه على صدره: «أنا ابن الله! اللعنة عليكم جميعا!» ثم يستكمل التراتيل اللاتينية. لم يتوقف المريض البائس عن ممارسة جنونه على الفراش. وكانت تجلس على طرف فراشه امرأة شابة - والدته كما علمت لاحقا - وكلما اقتربت منه كان يصرخ: «أنت مرة أخرى أيتها العاهرة القذرة، أما زلت تمارسين عملك في الشوارع! لا تقتربي مني وإلا حطمت وجهك!» ثم يستأنف أناشيده وتراتيله [...] وعلى فراش آخر، كان هناك رجل هرم قصير، له وجه ينم عن الذكاء ووجه ورأس حليق يشبه البيضة. كان يرفع ملاءته، كل ربع ساعة، ويبصق على فراشه، ثم ينزل الملاءة ثانية ويربت عليها كمن يمسح بصقته وهو يراقب المرضى بنوع من المكر والسعادة. كان أمرا منفرا! ولوحظ أيضا على هذا المريض، أنه عند اقتراب الممرض من فراشه، كان يفزع فيرفع ذراعه ليحتمي كطفل يستعد لتلقي ضربة قوية. ويدعو هذا الأمر للتفكير فيما يدور داخل هذا المكان عندما لا يكون هناك زائرون. بينما يختفي مرضى آخرون بين ثنايا ملاءاتهم من الرأس إلى القدم فلا يظهر منهم شيء.»
58 «كلما ازدادت مهارتهم؛ ازداد خوفي منهم!»
هل هذا يعني أنه لا يوجد علاج داخل المصحة، أو بالأحرى لا توجد مصحة؟ كلا! فالعلاج بالمياه كما رأينا يتقدم الساحة دائما، فهناك حمامات والمزيد من الحمامات ... «فالحمامات بالنسبة إلى المريض بالجنون تعد وسيلة ناجحة للشفاء: وينبغي أن تمتلك المصحة كافة أشكال الحمامات، وبوفرة ...»
59
وفي مستهل عصر الجمهورية الثالثة، كان يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع كبيرة من العلاج بالمياه: المحول، المهيج أو على العكس المسكن؛ أي إنه كان قادرا على علاج مختلف أنواع الجنون. في حالات الجنون المحتقن، توجه دفعات المياه المحولة القوية على المغطس، ومن المعروف أن الأطراف السفلى لها القدرة على إراحة المخ. في حالات الجنون الاكتئابي، تستخدم الحمامات المنشطة القصيرة. «أما في حالات الانقباضات والجنون الموسع، يكون العلاج بحمامات باردة أو بلف المريض داخل ملاءات مبللة. ويكون كل شيء محددا ومعروفا: درجة حرارة المياه وتواتر الاستحمام، زمن الاستحمام الذي قد يمتد لساعات، وحينها كانت الوجبات - نظرا لاستحالة تغيير موعدها - تقدم للمريض وهو في المغطس (والأمر كذلك بالنسبة إلى قضاء الحاجة). ومن جانبه، كان كازيمير بينيل (ابن شقيق بينيل الكبير) يمتد بمدة الحمام في بعض الحالات حتى أربع وعشرين ساعة، إلا أن المدة المتوسطة تقدر بثلاث ساعات إلى أربع ساعات. وتوجد أيضا الحمامات المصحوبة بالأدوية: القلويات والملحيات والكبريتيات والمخردلات ... بالإضافة إلى حمامات البخار وحمامات التعقيم.
إن العلاج بالمياه، سواء كانت ساخنة أم باردة، في المغطس أم بدفعات المياه؛ له أثر شاف حقيقي من الهوس وجنون النفاس والعصاب، منذ العصور القديمة؛ حيث كان يستخدم الرش بالمياه الباردة بصورة طبيعية وكان يحقق نجاحات ساحقة ...»
60
كما يعد «الغمر بالمياه» أفضل وسيلة لعلاج الهذيان والرعشة ومرض الرقاص العصبي والهوس الجنسي و«نوبات الصرع حتى ذروتها»، وأيضا الهستيريا؛ وفي هذه الحالة يفضل استخدام الحمام البارد برشات متقطعة توجه على الجسم كله ما عدا الرأس. ويحذر جوزيف جراسيه (1849-1918) في ثمانينيات القرن التاسع عشر من أن العلاج بالمياه «عملية طبية حقيقية» يجب ألا يمارسها إلا المتخصصون. وبلغ نجاح هذه الوسيلة إلى حد علاج المصابين بالخرف عن طريق حمامات باردة توجه بطول العمود الفقري وإلى البطن. واستطاع بنديكت أوجستين موريل في عام 1850 علاج ما بين خمسين وستين مريضا في الساعة: يقف ستة مرضى بعد حكهم جيدا بإسفنجة رطبة، ثم يخضعون لاستحمام مشترك بواسطة خرطوم الحريق، ويكون الاحتكاك في سبيل تنشيط الدورة الدموية. في بداية حكم الجمهورية الثالثة، وحتى إذا كان استخدام خرطوم الحريق يبدو صادما، فإن العلاج بالمياه ظل محط تقدير، «فلم يكن هناك طبيب إلا ويمتدح فوائده.»
61
ولم ترتفع إلا أصوات نادرة من أطباء الأمراض العقلية للتشكيك في فعالية هذا العلاج المائي. وجازف أحدهم في عام 1874 بالقول: «لم يحدد بعد دور العلاج المائي في معالجة الجنون بطريقة ملائمة.»
62
ليس من المؤكد أن هناك مرضى عقليا يستطيعون التمييز بين الاستحمام كعقاب أو كعلاج. إنهم يشتكون منه في جميع الأحوال: «أمي العزيزة، إنهم يفعلون بي أشياء مستحيلة، ويخضعونني لحمامات رهيبة، إنهم يقتلونني.»
63 «إنه حمام لم أره من قبل، أربعة حمامات مريعة، بل ويزيدون من قوتها.» دائما ما تظهر في الحمام البارد العنيف فكرة العلاج بالصدمة التي ولدت في نهاية القرن الثامن عشر. في مطلع القرن التاسع عشر، تساءل طبيب الأمراض العقلية الإنجليزي ماسون كوكس عما إذا كانت غالبية الطرق العلاجية الخاصة بعلاج الجنون «لم تشتهر إلا بسبب الأحاسيس المؤلمة والسيئة التي تسببها للمرضى، وليس بسبب أي قدرة خاصة بها.»
64
وينصب ماسون كوكس نفسه وريثا حقيقيا للطرق العلاجية القديمة (ولكن ما هو الجديد في مجال علاج الجنون؟) عن طريق اعتماده على المقعد الدوار المسمى أيضا بطريقة «الدوران». وتضيف هذه الطريقة - المختلفة عن «الهزهزة» التي ظهرت في القرن الثامن عشر - إلى العلاج البسيط نوعا من الخوف والصدمة، اعتمادا على فكرة داروين التي تقول بأن الجنون يولد من حركات غير منظمة للألياف العصبية؛ ومن ثم فإن الدوران السريع للجسم من شأنه إصلاح هذه الفوضى. بينما ينصح الطبيب الأمريكي بنجامين روش (1746-1813) - وهو تلميذ كولين، معتمدا على نظرية مختلفة تقوم على أن الدوران يعمل على تقليل تدفق الدم إلى المخ - باستخدام الجيراتور أو الصدمات الكهربائية (وهو الذي وضع أيضا تصورا للمهدئ؛ وهو مقعد ثقيل يقيد به المريض وتعلوه علبة توضع فيها رأسه لإبعاده عن المثيرات الخارجية، وهو يشبه بطريقة مذهلة الكرسي الكهربائي). طبق ماسون كوكس نظام الدوران في إنجلترا، قاصدا إضافة مؤثرات ظلام وضوضاء غير عادية. وعلى نحو تجريبي، صنع إسكيرول أول كرسي دوار في فرنسا. إلا أنه سرعان ما أهمل استخدامه بسبب «بعض عيوبه»: قيء ونزيف أنفي ودوار وإغماء، بل وحتى سكتة دماغية. لقد بدت، بالطبع طريقة «الدوران» كوسيلة إرهاب. في ملاحظته الثانية والعشرين والأخيرة، يوصي ماسون كوكس بشأن إحدى مريضاته قائلا: «لم يكن من الضروري اللجوء للعلاج بالدوران إلا لخمسة أو ستة أيام، وبعدها أصبح يكفي فقط تهديدها به لكي تخضع لما نريده.»
65
أما بالنسبة إلى الكهرباء، فكان لها مستقبل واعد. أليست بطبيعتها الأكثر قدرة على إحداث صدمة؟ بدأ اعتمادها كعلاج في القرن الثامن عشر، ولكن طبقت أول صدمة كهربائية في عام 1804، عندما جرى إخضاع مريض بالسوداوية «لتأثير عامود كهربائي». كانت المحاولات الأولى هي استخدام اليدين قبل أن تصل إلى الجمجمة. واستمرت التجارب بمضاعفة الهزات؛ مما حقق ما يسمى بنجاح كامل: «ما من رجل مصاب بالاكتئاب أو الإحباط إلا وارتسمت على وجهه سعادة رقيقة.»
66
وعلى الرغم من نشأته القديمة، فإن العلاج بالصدمات الكهربائية، استطاع وبعد مرور مائة وثلاثين عاما تحقيق الكثير من النجاحات الساحقة
67
في علاج السوداوية. لا تستخدم الكهرباء فقط في العلاج بالصدمات الكهربائية، وإنما في كافة طرق العلاج الكهربائي، والذي كان يسمى في البداية «الكهربة». في عام 1845، حاول كبير الأطباء بمصحة دو سيفر اختبار التأثير الجلفاني على «الجهاز غير المكتمل للمرضى البؤساء في مصحة لابروفيدانس (من المختلين عقليا والبله).»
68
وأثناء عمله بمصحة ماريفيل، استكمل أسلوبه في استخدام الكهرباء مع المرضى خائري القوى لإخراجهم من حالة الجمود، ومع المصابين بالهياج لتهدئتهم. ولكنه لا يمانع أيضا من استخدام صدمة كهربائية صغيرة بهدف التأديب.
وسرعان ما بدأ استخدام العلاج بالكهرباء بكافة أشكاله بهدف التجريب في علم النفس. في عام 1859، كتب الطبيب أوزوي بيانا بهذا الشأن في مصحة بو،
69
متحدثا عن تجربته على كافة أنواع الجنون. واستخلص منه أن «التيار لا يؤثر على البله، ويحدث أثرا طفيفا على المختلين عقليا، بينما يتناسب أثره لدى المخبولين بمدى تدنيهم العقلي، وهكذا يكون أقل شدة وألما كلما هبطنا على سلم الإصابات النفسية. ويشعر المصابون بالهوس ومرضى الوسواس - خارج نوبات الذروة - بشدة هذه الهزات الكهربائية التي تسبب لهم آلاما موجعة. أما المصابون بالهوس بفكرة واحدة، فعلى الرغم من عنادهم الشديد أثناء اضطراباتهم الهلاوسية، فإنهم يتخلون عنها مؤقتا بمجرد وقوعهم تحت تأثير الكهرباء. فالألم البدني يتسبب في تهدئة الهذيان ويعيدهم مؤقتا للشعور بالواقع. ولقد استطعت بهذه الطريقة اقتناص ردود من مرضى حكموا على أنفسهم لسنوات بصمت إرادي لم يكن ليقهر حتى استخدام الكهرباء. إلا أن الكهرباء تحرز نتائجها الأكثر ثراء بالأخص في علاج السوداوية (حالة اكتئابية من التعاسة العميقة)؛ حيث يضاف إلى السوداوية حالة من الذهول تتملك المرضى [...] يتملك هؤلاء في البداية جمود وبلادة شديدة إزاء المحفزات الكهرومغناطيسية، ولكنهم يصبحون تدريجيا أقل مقاومة لتأثير التيار الكهربائي الذي ينتهي - في غضون بضع جلسات - بصدمهم بطاقة قوية. في اللحظة التي يدرك فيه المرضى الصدمة ويتألمون منها، نستبشر خيرا بأن جهودنا قد أثمرت، ونقرر الاستمرار.» بدءا من الصدمات الكهربائية «الخفيفة» إلى ما هو أكثر ...
في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن هناك بد من تقابل الهستيريا مع الكهرباء. أمن المعقول عدم تجربتها على مرضى الهستيريا؟ في مصحة سالبيتريير، كان الجميع حتى مرضى الوهن العصبي يعالجون بالكهرباء، ولكن بطرق مختلفة: حمامات كهربائية، لفحات من هواء مكهرب، شرارات مسكنة أو محفزة ... إلخ. ويبين لنا سيلين في رواية «بارابين» كبير الأطباء في مصحة فيني سير سين للأمراض العقلية: «في ساعات محددة، مرتين أسبوعيا، كان يحدث عواصف مغناطيسية فوق رءوس مرضى السوداوية المتجمعين عن قصد داخل غرفة مغلقة ومظلمة تماما» (رحلة إلى نهاية الليل).
لم يختف العلاج بالكهرباء. في عام 1903، يصف بابينسكي - الطبيب المساعد بمصحة شاركو - «صدمة كهربائية مخية» لعلاج مريضة بالسوداوية، صنفت حالتها على أنها ميئوس منها بعد أن جربت معها كافة الوسائل: الإقناع، العلاج بالمياه، الأفيون، جرعات عالية من مادة مستخلصة من نباتات تستعمل ضد التشنج. ولكن استطاعت سلسلة من الشحنات الكهربائية على الدماغ أن تصل بها إلى نتائج، يقول عنها بابينسكي بحرص: «أقول بصورة عامة إن هذا العامل (الكهرباء) غير توجه المخ، وأحدث انطلاقا أعاد إليها التوازن.»
70
في أعقاب فترة من عدم الاهتمام، عاد العلاج بالكهرباء بقوة في ثلاثينيات القرن العشرين، في اتجاه العلاج بالصدمات، بعد أن اتخذ اسم «علاج التشنجات». إلا أن هذا العلاج لم يكن في حاجة دائمة للكهرباء، على غرار محاولة ويليام مالامود في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1940 علاج مرضى الفصام عن طريق حقن سحايا معقمة داخل العقد المشبكية الموصلة للنبض العصبي بين فقرات العمود الفقري. ومن جانبهما، تسبب كل من ليبتز وكوجيل في حدوث تشنجات، بل وغيبوبة، بسبب نقص الأكسجين في المخ (عدم كفاية الأكسجين القادم إلى العضو الأكثر حساسية)، بسبب إعطائهما للمرضى
71
الأزوت الخام ليستنشقوه، وكان ذلك في عصر لم تزل فيه وسائل الإنعاش بسيطة للغاية. وهكذا لم تعد وسائل العلاج البالية حكرا على النظام القديم أو الحقبة الرومانسية.
كما كانت تطبق على نحو تجريبي طرق أخرى للعلاج بالصدمات - ولكن أقل شهرة من الصدمات الكهربائية - في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين: الصدمة الرئوية (مسح مخي غازي) والصدمة باستخدام سائل النيتروسيليلوز (حقن في مواضع مختلفة تحدث لدى المريض أعراضا خطيرة لفرط الحساسية في بعض الأحيان)، وأخيرا صدمة الأنسولين. وترتكز هذه الطريقة الأخيرة - المعروفة باسم علاج ساكيل (وهو اسم طبيب الأمراض العقلية الذي اخترعها) - على إحداث غيبوبة بسبب نقص السكر في الدم بحقن الأنسولين. وخلال فترة العلاج التي تتراوح من ستة إلى ثمانية أسابيع، يفترض أن يتيح الضعف التراجعي للمريض فرصة للفريق المعالج (بدأت الكلمات تتغير بالفعل) أن يقيم معه «علاقة حانية عميقة وممتدة». وظل علاج ساكيل مستخدما في المصحات حتى ظهور العلاج بالانقباضات العصبية، وحتى بعد ذلك.
وادعت الجراحة - وهي «أفضل» من العلاج بالصدمة - أنها تستأصل المرض من جذوره، كما نفعل مع الحشائش الضارة. كان علم الأمراض العقلية ينطلق في حقيقة الأمر - بطابعه التجريبي - من ملاحظات عابرة لشفاء بعض المرضى عقليا ممن أصيبوا بجروح في الرأس. واستكمل القرن التاسع عشر - بطابعه النظامي - هذا النهج، ولا سيما بإحداث ثقوب في رءوس مرضى الصرع (خاصة لدى البريطانيين والأمريكيين). في عام 1907، عرض جراح أمام جمعية علم التنويم وعلم النفس فكرة أن علاج الأطفال المتأخرين عقليا «تكون بإجراء عملية وحيدة وهي قطع القحف (أي استئصال جزء من المخ).»
72
وتقوم فكرتها على إعطاء مساحة أكبر لتمدد المخ. وعلى العكس، يتعمد أنصار نظرية القدرة على تمييز الطبع والشخصية من شكل الجمجمة إبقاء المخ مقولبا، وبالتالي الجمجمة التي تغلفه. هذه المرة لا يتعلق الأمر بشفاء الجنون، وإنما منعه عن طريق تركيب «قالب مخي» على جمجمة الأطفال الصغار جدا بمهارة وذكاء. يمكن تعديل ضغط هذا القالب بعدة لمسات، ومن شأنه «تحسين شكل الدماغ وعمله العام».
73
وعلى الرغم من شكوك الجمعيات العلمية، بل وسخريتها، فإن رائد فكرة القالب المخي تنبأ بعصر بعيد سيجري فيه تطبيق جهازه عالميا، محققا خدمات جليلة للأخلاق وللدين، عن طريق «تقوية العضو الوحيد القادر على التعقل وتشغيل الأعضاء الفكرية والمعنوية.»
لم يتردد الأطباء في التصدي بشجاعة لمادة المخ نفسها. فقد ظهرت الجراحة النفسانية عندما تصور طبيب الأمراض العقلية النمساوي جوتليب بورخهارت (1836-1907) - انطلاقا من مبدأ أن الحياة النفسية تتكون من «عناصر تتجمع في المخ» - أنه يمكن معالجة بعض المرضى عقليا الميئوس من حالتهم عن طريق استئصال أجزاء من قشرة المخ. وفي عام 1888، على الرغم من أنه لم يكن جراحا، لم يتردد في إزالة حوالي خمسة جرامات من المادة الرمادية من الفص الأيمن لمخ مريضة تبلغ من العمر أربعة وخمسين عاما مصابة بهذيان وتهور. وخضعت المريضة نفسها لثلاثة تدخلات جراحية خلال عامين. ثم أجرى بالطريقة نفسها لخمسة مرضى آخرين عمليات مشابهة، قبل أن يعلن بورخهارت عن تدخلاته في مؤتمر برلين عام 1890، حيث توصل إلى هذه النتيجة المطمئنة: «إنه حتى وإن لم يتم استعادة الذكاء، فعلى الأقل لم تتدهور درجته.»
74
وشهد مجتمع الأطباء احتجاجات عديدة على هذه الطريقة. في فرنسا، يتساءل طبيب الأمراض العقلية رينيه سيميليني: «ما هي حدود هذا الجنون في الجراحة؟ ألأن المريض يضرب بقدميه، نستأصل من مخه المركز المحرك لأعضائه السفلى؟»
75
وبعد نصف قرن - في عام 1936 - ظهرت الجراحة النفسية الحديثة فعليا مع أول عملية جراحية في المخ تقوم على فصل الفص الأمامي من مراكز المخ المجاورة (المهاد البصري والمهاد الأعلى) بهدف تخليصه من التدفقات العاطفية والعصبية المريضة. وعلى مدار عشرين عاما، قدر النجاح لهذه العملية التي تعنى بالأخص بمرضى الذهان المزمن والمصابين بحالات القلق الحاد، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث كان يتم إجراؤها على مرتكبي الجرائم الجنسية. إلا أن مسألة الأخلاق الطبية ظلت مطروحة بشدة، بالإضافة إلى كثرة حالات الانتكاس؛ مما أثار العديد من التحفظات. وبمجرد ظهور علم التداوي النفسي، توارت الجراحة النفسانية سريعا، فاختفت تماما من فرنسا، بينما ظلت مستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وسرعان ما اتجهت هذه «التقنيات الحديثة» إلى الأعضاء الجنسية . ففي النصف الثاني من القرن العشرين، حدثت مواجهة بين مؤيدي ومعارضي إخصاء المرضى عقليا من الرجال واستئصال المبايض لدى النساء. وكان مؤيدو هذا الإجراء هم الأمريكيين والكنديين والإيطاليين والبلجيكيين، بينما رفضه الفرنسيون. وفي عام 1886، رفع شرام في ألمانيا «من أهمية استئصال المبايض - حتى السليمة - إلى درجة اعتبارها طريقة لعلاج الصرع الهستيري.»
76
في عام 1869، دعا الجراح البريطاني إيزاك بايكر براون - «خاصة بالنسبة إلى الأرامل» - إلى «استئصال البظر»، وخاصة في حالات العادة السرية المزمنة التي تؤدي إلى نوبات صرع واضطرابات عقلية. وتم استكمال هذه العملية بأخرى لاستئصال الشفرين الصغيرين بواسطة سكين «مجلفن كاو». ولقد كلفت هذه النظرية صاحبها شطبه من جمعية طب التوليد بلندن.
أما بالنسبة إلى الطرق العلاجية التقليدية، فلقد احتفظت بمكانتها، بدءا من المهدئات، التي تنوعت وتعددت كثيرا. ولقد حظي نبات الناردين باهتمام كبير في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكنه تراجع لصالح أصباغ نبات كف الثعلب، الذي - إذا تم تناوله بجرعات كبيرة أثناء علاج الهذيان والرعشة - «يحدث نعاسا، ويأتي بعده الشفاء.»
77
كما كان يتم تناول الحشيش بجرعات كبيرة، بدافع من تلك النظرية المتناقضة؛ أن الهلوسة تطرد الأخرى: «يفقد المريض بمجرد سيطرة الأحاسيس الجديدة عليه حتى ذكرى الهلاوس القديمة.»
78
في المقابل، كان يصف آخرون - اعتمادا على مبدأ مقاومة الهذيان - مخدرات فعلية ولكن بجرعات محددة. وفي مطلع القرن العشرين، سادت في الولايات المتحدة الأمريكية موجة من علاج الداء بالداء، حتى إن عدد المصحات العقلية التي أخذت تعالج مرضاها بهذه الطريقة تجاوز الست، مثل مصحة ميدلتاون في نيويورك، والذي بلغ عدد مرضاها ألفين وستة وأربعين عام 1913.
فور اكتشافها عام 1826، استخدمت أملاح البروم لعلاج نوبات الصرع، وضد الهلاوس البصرية المصحوبة بارتجاف. وتوالت الاكتشافات الحديثة مع سرعة التقدم الكيميائي: الكوديين وكلوريدات المورفين وعقار زهرة الخشخاش (أحد القلويات المستخرجة من الأفيون) وجرعات الكلوروفورم والكلوروفورم السائل ... إلخ. إلا أن هذه المواد الحديثة الاكتشاف لم تبطل العمل بالمسكنات التقليدية، لدرجة أنه في نهاية القرن التاسع عشر، اشتكى بعض الأطباء من كثرة منتجات الأدوية المتاحة أمامهم. ولاقى ظهور البربيتورات في القرن العشرين تطبيقا فوريا في علاج الصرع، أثناء انتظار نتائج علاجات النوم. وهذه الطريقة - على الرغم من الأمان التي يوحي بها اسمها - ليست بالهينة، حتى إن هناك إحصائية لعام 1925 تسجل خمسا وعشرين حالة وفاة من بين ثلاثمائة وإحدى عشرة.
79
فالعلاج بالنوم - بأنواعه المختلفة (النوم العميق لستة أو عشرة أيام بدءا من عام 1952، والنوم الخفيف والنوم المتقطع على مدار ثلاثة أسابيع) - لم يكن ليستمر كثيرا داخل المصحات حتى اكتشفت مضادات الذهان.
إذا كان معدل استخدام الأدوية المقوية - كما كان الأمر في الماضي - لقلة أنواعها أقل من المهدئات، فإنها كانت دائما موجودة مثل مشروب الكينين، الذي لم يختف من تراث علم الصيدلة النفسية إلا في نهاية القرن التاسع عشر. وإلى جانب الأدوية المقوية التقليدية، كان الإفراط في التغذية هو أحدث صيحة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر في علاج الوهن العصبي. فبعد اتباع نظام غذائي قائم على اللبن لعدة أيام، نشرع في توفير تغذية وفيرة وغنية بالدسم مزودة بنبات الصبار والحديد، وأيضا بزيت كبد الأسماك بالإضافة إلى مواد مستخلصة من الشعير أو الشمبانيا أو القهوة أو الخمر (ويستخدم الأخير بجرعات قليلة). وتجاوزت صيحة الدواء المقوي جدران المصحة، وأصبحت تستخدم مع الأطفال في عهد الجمهورية الرابعة؛ حيث يقدم إليهم زيت كبد السمك، أو مع الكبار، فيقدم إليهم «المقبلات المقوية» مثل الكينا (حيث يستخدم عقار الكوينتونين الذي يباع في الصيدليات ويخلط في الأغلب مع النبيذ الأحمر بنسبة ثلاث عشرة نقطة؛ مما أضفى على هذه الوجبة المقوية البسيطة الطابع الطبي).
هذا بالإضافة إلى المفرغات: المطهرات والمقيئات (حيث انتهى دور نبات الخربق ومضى طي النسيان)، والوسائل المسيلة للدورة الدموية والتي ظل يشار إليها، على الرغم من عداء إسكيرول لها. «ينتشر الدم بكميات رهيبة، وتسيل دماء المرضى عقليا الذين ينزفون حتى تخور قواهم؛ اعتقادا من الأطباء أنهم يشفونهم.» كانت هناك أشكال معينة من السوداوية المحتقنة والهذيان الحاد لدى المرضى الشباب تستدعي استخدام العلقات والحجامة. فيوصي بها كبير الأطباء بمصحة شارنتون-كالميل (1798-1895): «إذا رأينا نوعا من احمرار الوجه وثقل الرأس وغيرها من المؤشرات المقلقة التي تحملنا على الاعتقاد بضرورة سحب كمية من دم المريض، نفضل استخدام العلقات عند الشرج أو الصدغ خلف الأذن عن استخدام الأدوية المسيلة للدورة الدموية التي ذاع استخدامها بكثرة خلال قرون.»
80
إلا أنه كان هناك مؤيدون متطرفون لهذه الأدوية، مثل بنجامين روش - صاحب اختراع الجيراتور والمهدئ - والذي اقترح استخدام أدوية قد يصل حجمها إلى أربعة أخماس الكتلة الدموية الكلية للجسم.
تعمل الأدوية المهيجة - التي يمكن ربطها بالمفرغات - على الحل محل عمليات الإفراغ غير الكافية. على مدار القرن التاسع عشر بأكمله، كان المرضى غير المتجاوبين يخضعون إلى الفتيلة المنفطة، والاحتكاكات المهيجة ولاصقات الخردل اللاذعة. ويصف راي - بحسه الابتكاري - استخدام الشمع الساخن. بينما يقترح جيزلان وبينيل البلجيكيان - رش ملابس المريض «بمادة نباتية مسببة للحكة.»
81
كما يقول المثل الإنجليزي، إذا كنت تعيسا فاشغل نفسك بشيء آخر، وبعيدا عن نظريات الخلطات القديمة - التي لم تزل إلا على مضض وادعت دائما أنها قادرة على تغيير الحالة المزاجية - ظل التجريب القديم في علاجات الجنون حاضرا.
ويعمل «العلاج بالحمى» (استخدام الحمى لأسباب علاجية) بالطريقة نفسها لعمل المهيجات (ومن بينها يضع قاموس ديشامبر الطبي استخدام نبات القراص لعلاج حالات الشلل الهستيري). وكالمعتاد، ولدت الفكرة من ملاحظة عابرة: بعض حالات الشفاء من الأمراض العقلية تمت على إثر عدوى شديدة. في مطلع القرن العشرين، كانت الحقن الزيتية الكبريتية تحت الجلد تسمح بإحداث نوبات هياج متكررة . إلا أن جائحة البرد تصل بالعلاج بالحمى إلى ذروته. وبعد عدة عقود من التجارب القائمة على إحداث نوبات من الملاريا للمصابين بالشلل العام، استطاع طبيب الأمراض العقلية جوليوس فاجنر فون جوريج (1857-1940) من فيينا عام 1917 أن يقوم بحقن ثلاثة بيتا جرامات من الدم مأخوذة من رجل عسكري مصاب بحمى المستنقعات ودخل حديثا إلى المشفى. ومن هنا ولدت فكرة «العلاج بالملاريا» التي تقوم على إحداث سلسلة من نوبات الحمى (حمى شديدة كل يومين) يجري التحكم فيها باستخدام الكينين. ونال صاحب هذا العلاج جائزة نوبل في الطب عام 1927 - والوحيدة التي أهديت إلى طبيب أمراض عقلية - وحقق العلاج ذاته نجاحات غير عادية، واستطاع أن يفرض نفسه حتى ظهور العلاج بالبنسلين في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وفي وسط هذا الزخم العجيب، تظهر وسائل علاجية نظن أنها كانت في طي النسيان. كانت هذه هي حال المحاولة القديمة للدخول في منطق المريض عقليا؛ وهي الطريقة التي انتقدها إسكيرول بشدة. أفليست أفضل طريقة لتثبيت هلاوس المريض عقليا هي موافقته عليها؟ «فموافقتنا للمريض على واقعية هذيانه ورؤاه، تعني ليس فقط أنه ليس مجنونا، وإنما صحة من يدعي أن يكونه، مثل اعتقاده أنه المسيح.»
82
وعلى الرغم من ذلك، يدافع شارل شتراوس مدير مصحة شارنتون عن هذه الطريقة في مطلع القرن العشرين قائلا: «نعتقد أنه هناك فائدة من خلق وجود خاص لغير الأسوياء، يكون مناسبا لحالتهم الخاصة: متابعة ودفع تلك المحاولة مع محاولة محاكاة مظاهر تتماشى مع التفاوت الغريب في أفكارهم [...] باختصار، نحن نأمل في وجود نية أو محاولة للتأقلم مع عالم الأوهام المتجانس مع هلاوس المريض (ويذكر شتراوس مقطع فيليب بينيل: «في بعض الظروف، يمكننا استخدام المكر واللجوء للكذب الماهر لكسب ثقة المريض والدخول إلى أحلامه بهدف شفائها تدريجيا») [...] كانت هناك امرأة - في وسط أعنف نوبات جنونها - تصرخ باسم طفلها الذي تسبب موته في إصابتها بحالة من الهلع، ولحسن الحظ جاء الإلهام للدكتور ريتي بشراء دمية لطفل وليد بمستلزماتها ومهده وإعطائها لها، وبالفعل هدأت نوباتها وقل توترها، وكانت تقضي وقتها حاملة طفلها بين ذراعيها تغمره بقبلاتها وتضعه بحرص على فراشه.»
83
كان من الممكن تصور أن المريض المحتجز يخضع أو يطبق عليه إحدى هذه الوسائل العلاجية فقط تبعا لحالته أو لرأي الطبيب، إلا أن كثرة أنواع وطرق العلاج الموجهة المريض نفسه إنما هي شيء يدعو للعجب، وخاصة إذا كان المريض مصنفا كقابل للعلاج وليس حالة ميئوسا منها. فمع مريض الهوس يستخدم: العزل والحمامات الفاترة والباردة والأدوية المسببة للنزيف والمسببة للقيء والملينات والأفيون ونبات كف الثعلب والبوروم ونظام تغذية معين. ولمريض السوداوية: الحمامات بكافة أشكالها والاحتكاكات والأدوية المهيجة والمسببة للقيء ووسائل التسلية والتمارين، بينما يستخدم مع مريض الصرع: البوروم والبربيتورات وثقوب الجمجمة، بل وحتى بعض أنواع السموم. ولعلاج مريض الهستيريا: اللعبة الكبرى: تيار مجلفن وعلاج بالمعادن (وضع قطعة معدنية على الجلد) ومضادات التشنج والعلاج بالمياه للتسكين والتنويم المغناطيسي والأدوية المقوية والتمارين البدنية والأدوية المهيجة والمخدرة ... باختصار كل شيء تقريبا.
تختلف هذه الوسائل بالطبع تبعا لزمن الاحتجاز؛ فعلاج هذا المريض ذي الثلاثة والثلاثين عاما - المحتجز في بون سوفو عام 1848 (والذي بدأت هلوسته في وقت حصار مدينة روان) وشخصت حالته «بهوس مستمر وشديد مع حالات هياج شديدة ومتواصلة» - استلزم استخدام الأدوية المسيلة للدورة الدموية العامة والموضعية والملينات والحمامات اليومية ونبات كف الثعلب «بجرعات عالية ومستمرة لفترات طويلة». ولكن لم يفلح شيء منها في تهدئته. فعزل، وبعد مضي شهر، خضع لعملية وضع فتيلة في الرقبة (قطعة من القطن تمرر تحت الجلد لتشكل منفذا؛ أي إنها جرح صناعي يسبب تقيحا موضعيا). مرت ثلاثة أشهر، والهياج مستمر، فوصف له علاج زئبقي، ولكن دون تحسن. وأخيرا توفي المريض بسبب الكوليرا في يوليو 1849 قبل أن يتمكنوا من تجربة علاج آخر أو استبعاده.
في نهاية عهد الإمبراطورية الثانية، روى محتجز سابق في مذكراته: «أعترف أن الجميع يقبلون، بل ويباركون، تلك الأساليب الوحشية التي تدعي حب البشر، مثلما يقبلون ويباركون الأعمال الوحشية اللازمة للجراحة بنية فعل الخير، ولكني أضع لهذه الأشياء شرطا واضحا؛ وهو أن يكون هناك يقين أو على الأقل احتمالية للشفاء بعد تطبيقها.» وبالنسبة إلى الأطباء، يوجه لهم جراسونيه - مريض محتجز سابقا - هذه الكلمة في النهاية: «كلما ازدادت مهارتهم، ازداد خوفي منهم!»
84
احتجاز المجانين
على الرغم من التعدد المذهل لأساليب علاج الجنون، فإن الأمر كان يقتصر في القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية على احتجاز المجانين وليس علاجهم كمرضى؛ أي إبعادهم عن الآخرين وحمايتهم من أنفسهم. ففي الحياة اليومية للمرضى المحتجزين، نجد أول شيء الحراس. هم دائما هناك أول الموجودين بل وأحيانا الوحيدون الذين يتوسطون العلاقة بين المريض والجهاز الطبي والإداري ، وفي يدهم القدرة البسيطة والرهيبة على تخفيف أو تغليظ اللائحة والعمل و«الالتزام المعنوي»؛ ولذلك يأتي الحارس في مرتبة قبل الطبيب، وأحيانا أعلى منه.
يتحكم الحراس - كما رأينا - في كل لحظة من لحظات الحياة اليومية داخل المصحة؛ فيستيقظون قبل المرضى بوقت طويل، ويخلدون للنوم بعدهم. هم من يقع على عاتقهم احترام جدول المواعيد المقدس، ورعاية النظافة واللياقة داخل المصحة وتهدئة الخلافات ومنع المشاجرات. يجب ألا يغيب مريض واحد عن عيني حارسه. وفي كل لحظة يجب توقع أي حركة فجائية، ويتعين على الحارس مواجهتها. وتذكر اللوائح العديدة المخصصة للحراس أنهم «ليسوا بخدم، وليسوا بسجانين»، وإن كانوا يمارسون هذه الأدوار إلى جانب وظيفتهم كممرضين (لم يظهر المصطلح نفسه إلا في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين).
حتى العقود الأولى من القرن العشرين، كان للحراس سمعة سيئة لدى الإدارة والجهاز الطبي. والدليل على ذلك كثرة العقوبات التي كانوا يهددون بها. فعند أقل خطأ، كانوا يعاقبون، إذا نسي أحدهم مثلا إغلاق أحد الأبواب الكثيرة بالمفتاح داخل المنطقة، أو إذا سار أحدهم في مكان ما داخل المصحة غير مصرح له بالتجول فيه. وهناك أيضا حالات من الفصل الفوري ودون تعويض في حالة: سب أو تعنيف أو ضرب مريض، أو سرقة شيء، أو السكر، أو «الثورة ضد السلطة»، أو التشجيع على أي مراسلات، أو تجارة غير قانونية، أو الخروج دون إذن خاصة أثناء الليل. وفي تقريره المرفوع إلى محافظ سير عام 1893، ينتقد كبير الأطباء بمصحة منطقة بورج «طاقم الإشراف» بلهجة قاسية، منددا بعدم كفايتهم عدديا وقلة كفاءتهم مهنيا. «وينقسم الحراس إلى أربع فئات: المتسكعين داخل المصحة والمتشردين والأشرار واللصوص والسكارى والمهملين - ولا أريد أيا من هؤلاء بأي ثمن - ثم من هم أقل مستوى وهم غير مستقرين ولا تتناسب كفاءاتهم مع ادعاءاتهم، وهناك أيضا الطموحون الذين يقبلون على مضض وظيفتهم كحراس في انتظار وظيفة جديرة بقيمتهم، وأخيرا عمال مزارع دون مهارة أو عمال مفصولون من المصانع الخاصة والورش العسكرية بسبب سنهم أو عجزهم. وهؤلاء هم الأفضل، فعادة ما يكونون مسالمين وأمناء، وخاصة المزارعين منهم، يبقون في المصحة ويتعلقون بها أحيانا، إلا أن جهلهم وكسلهم وذكاءهم يفوق كل خيال.»
85
من هم هؤلاء الحراس على وجه التحديد؟ عادة ما يكونون رجالا غير متزوجين لم يتجاوزوا الأربعين عاما، تعليمهم بسيط، قادمين من الريف. وعندما علموا بوجود وظائف في المصحة، حضروا أحيانا في جماعات. يتقاضون راتبا ضئيلا للغاية؛ مائتي فرنك سنويا طوال معظم القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كان يجني فيه النجار ثلاثة أضعاف هذا المبلغ. وكان الحراس الذين يعملون مع المرضى المصابين بالهياج أو بالصرع يتلقون زيادة قدرها عشرون فرنكا. ويضاف إلى ذلك وجبة الظهيرة ولتر من النبيذ يوميا، وزوجان من الأحذية في نهاية كل عام. كانوا يعالجون بالمجان، وأحيانا يتم تنظيف ملابسهم وإصلاحها أيضا. كان يمكن للحارس أن يحظى بإذن لثلاثة أيام للذهاب لبيته مرتين كل عام. خروجه من المصحة محدود للغاية، خاصة عندما كان يبيت فيه، ومن المثير أن منهم من كان يفضل أن تكون له غرفة في المدينة على الرغم من ضآلة راتبهم. قبل صدور قانون 1838، أبدى فيريس - أول مفتش لمصحات الأمراض العقلية - تأثرا شديدا من هذا الموضوع. «كان يحب أن يكون هؤلاء الحراس شبابا وأقوياء وذوي مشاعر إنسانية، ويكرسون كل حياتهم لرعاية هؤلاء التعساء الذين عهد إليهم بهم. تحاصرهم في كل لحظة - ليل نهار - الصرخات والصياح الصادر عن المرضى، بل وقد تتعرض حياتهم للخطر. ومقارنة بما يتقاضاه أقل عامل ومع هذا الكم من التعب والقلق، يتقاضون مكافأة شهرية - قليلة للغاية مع إضافة الغذاء والكساء.»
86
ولا يختلف تقرير عام 1874 كثيرا في هذا الصدد: «إذا تصادف وجود عنصر جيد في الحراس، نادرا ما يظل يعمل في المصحة أكثر من الوقت الذي يستغرقه البحث عن وظيفة أخرى أفضل وأقل تعبا [...] أما العناصر السيئة منهم، أو أكثرهم سوءا، فسرعان ما يتعرضون للفصل من عملهم؛ مما ينتج عنه تغيرات دائمة تؤثر سلبا على انتظام الخدمة وعلى المرضى أنفسهم.» ويضيف التقرير أن الوضع يتحسن في المصحات التي يخضع فيها الحراس لإشراف راهبات.
بالفعل، نادرا ما يمكث الحراس طويلا في مكان واحد؛ سواء لإصابتهم بالإحباط أو لفصلهم من المصحة، أقل من ستة أشهر في الغالب (على الرغم من أن الراتب يزيد إلى مائتين وخمسين فرنكا بعد هذه الأشهر الستة السيئة). لم يكن التحسن في الوضع سريعا بل كان بطيئا جدا. وتكونت بالفعل أسر من الحراس، فيخلف الابن والده، والأمر كذلك بالنسبة إلى الموظفين. وها هم يظهرون في صورة لأحد الهواة في الثلاثينيات من القرن العشرين، مرتدين قميصا أبيض طويلا فوقه بدلة من الكتان الأسود لها أزرار ضيقة، وربطة عنق وطاقية مزينة بشرائط ومربوطة بالحزام بواسطة حبل طويل، وممسكين بكمية مذهلة من المفاتيح؛ وهي الميزة الوحيدة بل وشعار وظيفتهم. وترتسم على وجوههم نظرة فخر. وكونوا من الآن فصاعدا اتحادا.
وعلى مدار القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية، ظل الحراس فاعلين رئيسين في تكوين «حقيقة وواقع المصحة العقلية»، ولم يستطع أحد المؤرخين اكتشافهما. فلم تنقل السجلات كل شيء، وكل ما لا يقال يدور على مستوى الحراس وحدهم في مواجهة المرضى الذين لا يبتعدون عنهم كثيرا على المستوى الاجتماعي والثقافي. فهم - أكثر من الأطباء - الذين يجعلون داخل المصحة الواحدة ألف مصحة. لقد كان أحد أسباب إلغاء سترة المجانين في مصحة القديس لوقا ببو عام 1896، أن الحراس كانوا يستخدمونها من تلقاء أنفسهم، بل ويسيئون استخدامها، في حين أنه ليس لهم الحق في عقاب أي مريض من تلقاء أنفسهم.
87
أما فيما يتعلق بعمليات التهريب الصغيرة اليومية، فقد رأينا واقع الأمر بالنسبة إلى البريد: إذا مر بريد غير شرعي، فهذا يعني أن هناك من جعله يمر، حارسا أو موظفا. وهناك أيضا - في المصحات كما في السجون وكل أماكن الاحتجاز - ما أسماه علماء الاجتماع الأمريكيون بالمكان الحر؛ حيث يتم تجاهل اللوائح قليلا. هذه هي حال الحانات السرية التي تختفي في أعماق الورشة، وحيث يجلس الحراس جنبا إلى جنب مع المرضى المحتجزين. حتى إنه في نهاية حكم الإمبراطورية الثانية كانت هناك حانة مرخصة داخل مصحة الإخوة سان جون دي ديو بمدينة ليل، وكانت تسمى «البطة البيضاء»، وكانت تبيع للمرضى «الجعة والنبيذ والقهوة والبراندي والسيجار بأسعار زهيدة».
88
بيد أن اللائحة الداخلية لهذه «الحانة» الغريبة تنص على أن يكون هناك أمين سر مسئول عن تسجيل أسماء من يشرب وما يشربه وتكون الكميات محددة طبقا لكل حالة. كانت حانة «البطة البيضاء» تقدم للعاملين بالمؤسسة وسائل ترفيه شريفة، وتصل فوائدها إلى تقديم وليمة دورية لكل زبائنها.
يجب الاستفادة من كل شيء لتسيير العمل بالمصحة، وينطبق هذا على الآنسة بوتار كبيرة الممرضات بشاركو بسالبيتريير، التي كانت تشبه «البطة البيضاء». في عام 1891، نظمت المعونة الشعبية «حفلا علمانيا» في المسرح الكبير بمصحة سالبيتريير للاحتفال باليوبيل الذهبي لخدمة مارجريت بوتار. لقد أصبحت هذه المرأة المسنة النحيفة ذات الهيئة الصارمة - والتي أطلق عليها الأطباء «ماما بوتار» أو «بابوت» - نموذجا للممرضة العلمانية في أوج الهجوم الثوري على المؤسسات الدينية، ولقد كرمت بوسام الشرف في عام 1898 على يد الوزير لويس بارتو شخصيا. وتقاعدت وهي في التاسعة والسبعين من عمرها لتقيم في سالبيتريير بموجب قرار أصدره مازاران في هذا الوقت، يعطي الحق لأي موظف خدم لأكثر من عشرين عاما بالمصحة العامة أن يقيم بها.
وخضعت الآنسة بوتار إلى الترتيب الطبقي، الذي يعطي تدرجا للرتب في الجيوش؛ ففي المصحة، يدعى «الرقيب» كبير المشرفين، وتكون له سلطة على الحراس، فيفتش دون إبطاء منطقته بدءا من المناطق المهجورة في أوقات معينة من اليوم، ويكون عليه مراقبة قائمة العاملين والقيام بدور رئيس العمال في الورشة، ويتولى أيضا تفتيش الداخلين، وأي عمليات تفتيش، ويراقب الممرات والبهو، وأخيرا - وعلى وجه الخصوص - يكون هو المتحدث أمام الإدارة والطبيب؛ فمن بين المفارقات داخل المصحة أن يضطر المريض عقليا - إذا ما أراد مخاطبة كبير الأطباء - إلى توجيه الحديث في البداية إلى كبير المشرفين الذي يحكم هو إذا ما كان الأمر يستدعي مقابلة كبير الأطباء أم لا. أليست هناك زيارة يومية؟ ولكننا رأينا كيف تتم تلك الزيارة. يكون كبير المفتشين هو السيد، وعلى كبير الأطباء الذي يرفض التفاهم معه أن يتوقع أياما صعبة داخل المصحة ...
ولكن أين كبير الأطباء من كل هذا؟ يجب ألا تجعلنا الأسماء الكبيرة والشهيرة - التي تظهر على الأبحاث الضخمة، والتي تطلق على كيانات متخصصة في العلاج النفسي - ننسى الجزء المختفي من الجبل الجليدي للطب العقلي؛ أي هؤلاء الأطباء المغمورين المحبوسين داخل مستشفياتهم بعيدا عن المؤتمرات وأضواء الأحداث الجارية. فحقا، لا يصنع هؤلاء تقدم النظريات، وإنما يتولون هم مسئولية تطبيقها وتشغيل المصحة، حتى ولو بشكل سيئ. ربما يمكننا الاعتقاد بأن قلة ظهور كبير الأطباء وضعف حضوره يرجع لكونه أعلى قمة في المصحة والمدير بلا منازع، إلا أن هذا ليس صحيحا.
حقا، يتخذ كبير الأطباء قرارات الاحتجاز والخروج، وهذا ليس بقليل. ويتحدث المرضى باحترام للحراس، وخاصة كبير المفتشين، الذين يتحدثون بدورهم بإجلال مع كبير الأطباء. وهذا أيضا ليس بالأمر الهين. وفي النهاية، فإنه يتلقى أجرا جيدا؛ ففي المصحات العامة يتراوح راتبه بين ثلاثة آلاف وستة آلاف فرنك سنويا تبعا للخمس فئات التي تحدد مسيرته المهنية (ولنتذكر راتب الحارس)، ولكن هذا لا ينفي كم الهموم التي يحملها على عاتقه. في البداية، يجب أن يتقاسم كبير الأطباء (ويسمى هكذا حتى وإن كان الطبيب الوحيد كما هي الحال عادة في النصف الأول من القرن التاسع عشر) السلطة مع المدير أو الرئيس (وفي الأغلب يكون امرأة) لمؤسسة دينية. ويخضع مرسوم عام 1852 تعيينه في المستشفيات الخاصة إلى موافقة المحافظ - الذي يمكنه رفضه - بينما يجري تعيينه في المصحات العامة بقرار من الوزير. وفي الواقع، يشكل هذا الأمر نوعا من الاختلاف، إلا في حالة اختلاط المنصبين، وهو أمر شائع (ولقد كان هناك اثنتان وثلاثون مصحة بهذه الحالة عام 1874). أما بالنسبة إلى المصحات الخاصة، فلا يكون كبيرو الأطباء أكثر من موظفين - بالطبع محترمين ومكرمين - ولكن يمكن استبدالهم بكل تأدب. وإذا كان في مشفى عام أو خاص أو حتى خاص تابع لجهة عامة، على كبير الأطباء أن يقاوم ضد إدارة تافهة ومتدخلة؛ ففي مصحة بون سوفور، تملأ الراهبات التقارير الصحية للمرضى، بالطبع بناء على تعليمات الطبيب، ولكن بأسلوب وعبارات من اختيارهن. لا يشعر كبير الأطباء القابع في أعماق مصحته في الأقاليم يمارس عمله كطبيب أمراض عقلية على أرض الواقع بأنه مهتم بحركات الإصلاح والاكتشافات «الباريسية»، ولكنه قد يحاول دون جدوى إدخال بعضها إلى خدمته. وعن هؤلاء - وهم الأكثر عددا في الواقع - يكون من الصعب الحديث عن «ارتداد الشخصية الطبية» (ميشيل فوكو).
في النهاية، فإن «احتجاز المجانين» ليس آمنا. فلا يكون الحراس أو الأطباء دائما بمأمن من أي اعتداء. في مقال صادر بتاريخ 1911،
89
يعدد طبيب للأمراض العقلية بمصحة فيلجويف - بنوع من التضخيم - حالات القتل والإصابات البالغة التي تجاوزت الخمسين وراح ضحيتها أطباء وحراس بالمصحة؛ إلا أن هذه الأرقام تمتد خلال عشرين عاما وعلى مستوى العالم أجمع. كما أن المصحات الكبرى تعرض إراديا كافة الأسلحة التي تضبط مع المرضى: سكاكين وآلات ثقب ودبابيس، وإن كان فعل الاعتداء نفسه، حتى ولو على مريض آخر، يشكل حالات غاية في الندرة. أما عن التمرد، فهو يحدث بشكل نادر؛ مما يجعله حدثا جاذبا للصحفيين. في مايو 1890، حينما تسلق المرضى المصابون بالهياح بمصحة بيستر الأسطح للاحتجاج على الطعام، لم ينجح تفريقهم إلا بعد استخدام خراطيم رجال الإطفاء التي استخدمت لأول مرة كوسيلة للقمع، واقترح أحد الصحفيين الموجودين بنوع من الدعابة استخدامها كوسيلة لتفريق المظاهرات السياسية. وتم الأخذ بحديثه.
وإذا كان كبير الأطباء يكرس القليل من وقته وجهده لدراسة الطب النفسي، فإنه يحرر في المقابل عددا لانهائيا من التقارير: شهادات دخول ومتابعة ودفتر للزيارات (ودفتر للأدوية ليوقعه ) وتقرير نصف سنوي وبيانات إحصائية وإجابات لطلبات ضرورية دائما للمحافظين حول حالة معينة، ناهيك عن حالات الهرب أو الانتحار. ولمدة طويلة، ظل الطبيب يوزع وقته في المدينة ما بين الأنشطة الخاصة والعامة. ولم يكن يقيم في المصحة؛ ففكرة إقامة الطبيب في المصحة - وهو أمر ضروري لملاحظة المرضى - لم تبدأ إلا بعد ظهور فكرة الطبيب المساعد الذي يقوم بدور المتدرب.
عقدت أول مسابقة إقليمية لاختيار طبيب نفسي ابتداء من عام 1888، وأجريت أول مسابقة موحدة (وطنية) منذ عام 1902. وقبلت أول امرأة في هذه المسابقة في عام 1908. ويعين الأطباء المقبولون في المسابقة في وظيفة طبيب مساعد. وأحيانا ما كان يتعين عليهم الانتظار لعدة سنوات قبل أن يترقوا لمنصب كبيري أطباء. منذ عام 1922، ألغيت وظيفة الطبيب المساعد، وتحولت المسابقة إلى مسابقة اختيار أطباء لمصحة الأمراض العقلية، ثم في عام 1937، إلى اختيار أطباء للمصحات النفسية. بيد أن مهنة الطبيب النفسي - التي ظهرت بقوة - لم تجعل من كبير الأطباء السيد المطلق في المصحة؛ فالسيد المطلق هناك هو المصحة ذاتها، التي تفترس أبناءها مثل إله القدر كرونوس.
الفصل الرابع
«جولة» في مصحات الأمراض العقلية في الغرب
لم يكن القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية ذا طابع فرنسي، ولم يكن ظهوره محددا التواريخ نفسها من بلد إلى آخر (فعام 1838 هو تاريخ فرنسي تماما)، حتى وإن كان بإمكاننا الحديث عن القرن التاسع عشر بأكمله الذي يمتد على الأقل إلى الحرب العالمية الأولى. وبعيدا عن أي كيان نظري أساسي مشترك وضعه بينيل - وسوف نأتي لاحقا على ذكر مدى ثرائه على مدار هذه الفترة - لم تكن الاستجابات المؤسسية واحدة، حتى داخل العالم الغربي نفسه.
شكلت بلجيكا
1
التي نالت استقلالها عام 1830 - والقريبة من فرنسا على عدة مستويات - لجانا مختصة بدراسة مسألة مرضى الاعتلال العقلي، والتي قادت إلى إصدار قانون السابع عشر من يونيو عام 1850، الذي ينص على ضرورة الحصول على تصريح لإنشاء مؤسسة للأمراض العقلية. كانت البلاد تضم ما لا يقل عن 54 مؤسسة، أغلبها صغير. وكانت ثمة المستعمرة العائلية «جيل» التي ظلت تضم مرضى، كانوا في الواقع محتجزين. في عام 1862، أصبحت المستعمرة ملكا للدولة وتحولت إلى مستوصف، ثم أضيفت إليها مصحة للأمراض العقلية. ثم جاء قانون الثامن والعشرين من ديسمبر يعدل ويكمل القانون السابق. فأصبح الطبيب - الذي كان حتى ذلك الوقت يختار بناء على قرار مدير المصحة - يعين بقرار مباشر من وزير العدل وليس الصحة. وتسمح الأحكام الجديدة - وإن شابها الكثير من القسوة فيما يتعلق بالحريات - بفكرة التطور نحو الخدمات المفتوحة قبل فرنسا. كانت هذه «الأجنحة الحرة» موجودة منذ زمن طويل للمرضى القادرين على الدفع، ولكنها كانت تلقى مقاومة من جانب الإدارة التي كانت تعتبرها مصحات غير قانونية. وبعد الحرب العالمية الأولى، افتتح في بلجيكا العديد من المستوصفات النفسية للكبار وللأطفال (أنشئت أول مؤسسة مغلقة لعلاج الأطفال عام 1920)، متجهة بذلك - قبل فرنسا أيضا - إلى سياسة تقسيم القطاعات.
في هولندا، كان الوضع مختلفا بالكامل،
2
وكان قانون عام 1841 يدير الحد الأدنى من مشاكل المرضى. فلم يضع لوائح إلا في أضيق الحدود، ولم يلزم الأقاليم بإنشاء مصحات للأمراض العقلية، محجما دور الطبيب بشكل كبير. ولم يكن قانون عام 1884 أكثر إلزاما، ومن ثم كانت الأقاليم تفضل اللجوء إلى مساعدات المؤسسات الدينية. في ذات العام 1884، تأسست جمعية المعونة المسيحية لمرضى الأمراض العقلية والعصبية. وتهدف هذه المؤسسة البروتستانتية إلى مزج الطب بالدين داخل وحدات صغيرة تأخذ شكل العائلة. وهكذا، يسمى رئيس الجناح «رب الأسرة» (أو «ربة الأسرة»). ويقدم هناك علاج معنوي له طابع أخلاقي ... لم يتمكن الكاثوليك من الاندماج في هذه المساعدة، وأنشئوا مؤسساتهم الخاصة تحت إشراف جمعيات الرهبان والراهبات مثل جمعية المحبة أو الخير. وعلى الرغم من فصل الطب النفسي عن الدين هذه المرة، ظل عمل الأطباء خاضعا لإشراف لصيق من الكهنة.
أما الدول الإسكندنافية
3 (بما فيها أيسلندا وفنلندا)، فقد شهدت تطورات مختلفة. في النرويج - المتحدة في ذلك الوقت مع السويد - جرى التصويت على القانون النرويجي لعلاج وحماية مرضى الاعتلال العقلي في عام 1848. وأنشئت أول مصحة للأمراض العقلية عام 1855 على غرار مصحة أوكسير بفرنسا. وفي العقود التالية، تم إنشاء ثلاث مؤسسات أخرى. في السويد، كان الأمر يتم عبر منظمة خيرية - «مجموعة السيرافيم» - والتي كانت مسئولة عن نظام المصحات حتى عام 1876. في فنلندا - الخاضعة في ذلك الوقت للسيادة الروسية - كانت الدولة هي المسئول الوحيد عن احتجاز مرضى الاعتلال العقلي. وأنشئت أول مؤسسة هناك عام 1841، ثم تلاها ثلاث أخر في النصف الثاني من القرن. وفي الدنمارك، كانت المصحات تابعة للدولة أيضا. وافتتحت الأولى عام 1820، ثم خمس أخر ما بين 1852 و1888. كما تأسست خدمة خاصة للمتأخرين عقليا منفصلة عن المصحات النفسية في عام 1855. أما أيسلندا، فلم تفتتح بها مصحة للأمراض النفسية إلا في عام 1907 بمدينة ريكيافيك. وتشترك هذه البلاد جميعها في تأثرها العميق بالطب النفسي في ألمانيا.
حتى القرن التاسع عشر، كانت مسئولية رعاية مرضى الاعتلال العقلي في ألمانيا تقع على عاتق البلديات. كان في كل مصحة رئيسية في كل منطقة مجموعة من الغرف. واقتضى الأمر الانتظار حتى عام 1764 لإنشاء أول مؤسسة خاصة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي بالقرب من بريم. وفي أعقاب الحروب النابليونية، قادت حركة العلمنة في البلدان المختلفة إلى دفع هذه البلاد إلى تولي مسئولية مرضى الاعتلال العقلي بنفسها. في عام 1805، «أنشئت مصحة مرضى الاعتلال العقلي» ببيرويث، وفي عام 1820، أنشئت مصحة أخرى في شليزويج. إلا أن عدد هذه المصحات لم يتضاعف إلا بعد عام 1850. في عام 1899، كان في ألمانيا ما لا يقل عن مائتين وتسع وسبعين مصحة لمرضى الاعتلال العقلي (من بينهم مائتان وأربع وخمسون مصحة جديدة تماما). كما تم إنشاء مائة وست مصحات خاصة في الفترة من عام 1840 وحتى 1869. بدأ الأمر بمصحات صغيرة (يقترح راي أن يكون بالمصحة ما بين مائة وعشرين ومائة وخمسين سريرا)، إلا أن الطلب تجاوز الأعداد المتاحة، مثلما حدث في فرنسا. أصبحت المصحات تضم في المتوسط ثلاثمائة مريض في منتصف القرن التاسع عشر، وزادت الأعداد بكثرة في مقتبل عام 1900. وأنشئت مصحة كليف عام 1911 لتستقبل ألفين ومائتي مريض عقليا. تمتاز ألمانيا في الأساس بعدم الخلط بين المرضى الذين يمكن علاجهم والمرضى الميئوس من حالاتهم. ولكن في الواقع - لئلا تجرح مشاعر العائلات - ظل عدد كبير من المرضى الذين انتقلوا من الفئة الأولى إلى فئة الميئوس من شفائهم في أماكنهم نفسها (سميت مصحات «التوافق النسبي»). كانت الطرق العلاجية هي ذاتها المستخدمة في فرنسا. في المقابل، لم تكن هناك أحكام تشريعية ألمانية محددة، ولم تظهر إلا في عام 1949.
اصطبغت العقود الأولى من القرن التاسع عشر في ألمانيا
4
بطابع الطب النفسي الرومانسي الذي يعتزم تصحيح مفهوم المرض الروحي. ويعد أهم ممثلي هذه المدرسة هم جوهان كريستيان راي (الذي التقيناه قبلا) وجوهان كريستيان هينروث (1773-1843) - الذي يعد متقدما ومتأخرا على عصره في ذات الوقت. كان متأخرا عندما حاول - وهو من أنصار لوثر - أن يعيد إدخال مفهوم الخطيئة كسبب لحدوث الجنون. ومتقدما لتمييزه بين «هذا» الذي يتضمن الغرائز والمشاعر و«الأنا»، وبين كيان آخر يوصف ب «نحن العليا»؛ وهي ليست الأنا العليا بعد؛ مما جعله رائدا من رواد التحليل النفسي. وكان أول من استخدم مصطلح «نفسي جسمي». إلا أن صاحب الفضل في تحول الطب النفسي الألماني من الرومانسية إلى الإيجابية والأكاديمية في الأساس هو فيلهلم جريزينجر (1817-1868) أستاذ الطب بتوبنجين وكييل وزيورخ، والذي أصبح قبل وفاته بعدة سنوات أستاذا للطب النفسي وعلم الأعصاب ببرلين. كما يعد أحد مؤسسي علم الطب العصبي النفساني. ولقد أسفر هذا الطب النفسي الجامعي الوليد - كما سنرى - عن محاولة لإنشاء نظام أو أنظمة لتصنيف الأمراض العقلية. ولقد ساهم جريزينجر في تطوير مصحات الأمراض العقلية في ألمانيا، خاصة بإدخاله سياسة عدم تقييد المرضى أو ما يسمى بالمستعمرة الزراعية.
ومن بين أطباء الأمراض العقلية الألمان الكثيرين، نذكر جوهان فون جودن (1824-1886) - الطبيب المساعد بمصحة سيجبورج (بالقرب من بون) ثم بمصحة إلينو (في باد). تولى في عام 1855 إدارة مصحة فيرنرك (بالقرب من ورتزبورج) - أول مؤسسة ألمانية تطبق فيها سياسة عدم تقييد المرضى. وفي عام 1869، أصبح مديرا للعيادة النفسية الجامعية بزيورخ، ثم في عام 1872، تولى إدارة مصحة جابيرزي ببافاريا العليا، ونال أيضا كرسي الأستاذية في الطب النفسي بميونخ. عهدت إليه الحكومة البافارية برعاية الملك لويس الثاني «الملك المجنون» - والمحتجز في قصر بيرج. في مساء الثالث عشر من يونيو 1886، لم يرجع الملك ولا طبيبه من نزهتهما عند بحيرة ستارنبرج. ووجدت جثتاهما غارقتين هناك، وظهرت على جثة الطبيب آثار خنق. يبدو جليا أن الملك المجنون - ذا البنية الضخمة - قتل طبيبه قبل أن ينتحر.
شهد الطب النفسي النمساوي
5
في القرن التاسع عشر ثراء بشكل خاص، إلا أن تطوره العلمي تم خارج أسوار المصحات (وسندرس الأمر في الفصل التالي). ولنبقى في نطاق الطب العقلي، كان من المثير ملاحظة أن «برج المرضى» الشهير بفيينا-إيرنتهورم الذي افتتح عام 1789 كان سببا للإحباط؛ فلقد ترك هذا المبنى الدائري الضخم أثرا سيئا. وعندما زاره إسكيرول قال: «أمر جوزيف الثاني ببناء هذا البرج ذي الطوابق الستة، بزنازينه التي تطل على ممر دائري، بينما تستمد كافة الطرقات الضوء من مركز الساحة التي لا يزيد قطرها عن ثلاثة توازات (حوالي ستة أمتار). إنه مبنى كريه.»
6
ويضيف مورو دي تور مقارنا بين برج فيينا وقصر سانت أنج المشئوم بروما: «إنه أثر يرجع إلى عصر بعيد، ولكنه مكان بشع للإقامة.» ولا يختلف رأي أطباء الأمراض العقلية النمساويين كثيرا. في عام 1816، أنشأ بي جورجين - أحد كبيري الأطباء ببرج فيينا ذائع الصيت - مؤسسة صغيرة خارج فيينا لاستقبال المرضى المسالمين، وسرعان ما اقتصر البرج على المرضى الفقراء والميئوس من شفائهم. ومستندا إلى أفكار راي، أنشأ في عام 1819 أول مؤسسة خاصة لمرضى الاعتلال العقلي الأثرياء، والتي يقوم فيها العلاج على الموسيقى ولعب البلياردو والورق وركوب الخيل. ومنذ عام 1820، بدأ التفكير في استبدال البرج (الذي لم يكن قد جاوز الثلاثين عاما) بمؤسسة كبيرة تتماشى مع مبادئ طب الأمراض العقلية الجديدة. وزار كبير أطباء آخر من مصحة برج فيينا - إم فون فيسزانيك - مصحات فرنسا وألمانيا وسويسرا في عام 1843.
كان هذا هو العصر الذي ينبغي فيه أن يقوم كل طبيب أمراض عقلية، ليكون جديرا بلقبه، بجولة (بمعنى زيارة) كبيرة نسبيا في مصحات الأمراض العقلية خارج بلاده. كان هذا يعد تدريبا إجباريا للبريطانيين والأمريكيين يتيح لهم مقارنة الأنظمة المختلفة والإفادة منها. بينما لم يهتم الفرنسيون كثيرا بهذا النشاط. وكان مورو دي تور - الذي رأيناه سابقا يزور برج المجانين بفيينا - خارجا عن النموذج الفرنسي لكثرة «زياراته العلاجية» التي كان يقوم بها بناء على طلب مديره إسكيرول. وبعد مناقشة رسالته في عام 1830، قام بزيارة إلى سويسرا وإيطاليا. وفي عام 1836، شرع في زيارة استغرقت ثلاثة أعوام عبر مصر والنوبة وفلسطين وسوريا وآسيا الصغرى، واكتشف خلالها الحشيش. وفي عام 1845، نشر دراسة «مقال عن الحشيش والجنون»، كما رأى في ألياف نبات القنب الهندي «وسيلة فعالة ومتفردة للبحث في علم نشوء الأمراض العقلية» (متقدما بذلك الدراسات المستقبلية في علم الأمراض النفسية التي تسببها مادة معينة والتي جرى تجريبها على المواد المهلوسة).
وعودة إلى النمسا، أنشئت أول مؤسسة تتسع لسبعمائة مريض في منتصف متنزه واسع في عام 1853. وعلى غرار مصحة براج - التي تأسست عام 1822 - خصصت غرف فيها لأساليب العلاج التي تقوم على العمل اليدوي. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، جرى تأسيس العديد من المصحات العقلية. فمنذ عام 1863، أنشئ حوالي واحد وعشرين مشفى عاما وسبع مصحات خاصة. وكان القانون يحظر احتجاز أي مريض دون شهادة من طبيب حكومي في المنطقة أو البلدية. وحتى في الحالات الطارئة، لا يمكن تأجيل هذا الإجراء لأكثر من أربع وعشرين ساعة. كما كان يمكن للمرضى مغادرة المصحة - سواء أتموا شفاءهم أم لا - بناء على رغبة ذويهم، بشرط أن يتعهد هؤلاء برعايتهم.
وكما كانت الحال في ألمانيا، ظل هناك تصوران مغايران في النمسا؛ الأول نفسي إنساني والآخر جسدي. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر، يعد مسمر في الحالة الأولى وجال في الحالة الثانية مثالا لهذا. إلا أن الاثنين يشتركان في قرارهما بترك فيينا لتعارض نظرياتهما مع التصورات الأخلاقية والدينية في عصرهما. ويعد إرنست فون فوشتيرسليبين (1806-1849) الممثل الأهم للطب النفسي النمساوي الرومانسي. وفي مؤلفه «صحة الروح» - الذي طبع أربعين مرة خلال خمسة وعشرين عاما وترجم للغات الأوروبية الرئيسة - يوضح ضرورة مقاومة مبادئ الجنون الموجودة لدى كل واحد منا دون توقف أو رحمة. كان هو أول من درس الطب النفسي في فيينا، وكان رائدا للصحة العقلية (قبل أن تحظى بهذا الاهتمام في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية). ثم جاء - مثل ألمانيا وبإيحاء من جريزينجر - زمن الملاحظة الإكلينيكية والوصف. ولقد حاول جوزيف ديتيل (1804-1878) - ولا سيما في «التشريح الإكلينيكي للأمراض العقلية» (1845) - ربط المرض العقلي بإصابات في المخ. وبعيدا عن التكهنات، أصبح الأمر من الآن فصاعدا يقوم على إيجاد تشخيص موضوعي للأمراض العقلية. إلا أن المدرسة «الموضوعية» بفيينا انقسمت بدورها إلى مدرسة تشريحية باثولوجية يمثلها بوضوح ثيودور مينيرت (1833-1892) - الذي اتخذ فرويد تلميذا له لفترة من الوقت، ومدرسة أخرى وصفية ترتكز على علم أسباب الأمراض. وهكذا أكد ريتشارد كرافت إبينج (1840-1902) - في محاضرته الافتتاحية بعيادة الطب النفسي الإكلينيكي الملحقة بمصحة فيينا للأمراض العقلية - أن «الطب النفسي الحالي يجب أن يكون قبل كل شيء علما وصفيا وليس تفسيريا.»
في الحقيقة، وبعبارات نظرية، لا يوجد طب نفسي قومي خالص، خاصة في بلاد منفتحة مثل النمسا. والأمر كذلك بالنسبة إلى العديد من الأطباء. فماكس ليدزدورف (1818-1889) درس في النمسا ولكنه أقام في ألمانيا، ثم فرنسا وبريطانيا وروسيا. وشغل منصب كبير الأطباء في مصحة الأمراض العقلية بسان بطرسبرج، قبل أن يبدأ سيرته المهنية في النمسا؛ حيث جمع بين إدارة مصحة خاصة وبين تدريس الطب النفسي بالجامعة.
وعلى الرغم من صغر مساحتها، فإن سويسرا
7
كانت تتسم باللامركزية الشديدة، وكذلك طب الأمراض العقلية لديها. فحتى بعد صدور الدستور السويسري عام 1848، ظلت الأقاليم محتفظة باستقلالها فيما يتعلق بميزانية التعليم والصحة العامة. في الفترة ما بين 1830 و1900، كانت المقاطعات التي تجاوز عدد سكانها مائة ألف تنشئ مصحات أمراض عقلية تضم من مائتين إلى ثلاثمائة سرير. بالإضافة إلى مؤسسات دينية تهدف عادة لخدمة مرضى الصرع. وتكمن خصوصية سويسرا في أن الأطباء مديري المصحات العقلية هم من يعهد إليهم بتدريس الطب النفسي، ومن ثم لا يكون هناك انفصال بين النظرية والتطبيق العملي. وعلى العكس، توجد خصوصية أخرى؛ ألا وهي الفصل الواضح بين الطب النفسي وعلم الأعصاب (الذي يرتبط بالطب الباطني). كان أطباء الأمراض العقلية يأتون عادة من ألمانيا ويشغلون كرسي الأستاذية في العيادة النفسية الجامعية بزيورخ والمسماة «البيرجولزي». في عام 1879، عين أوجست فوريل (1848-1931) من مقاطعة فود مديرا لتلك العيادة. ولقد بدأ هو أيضا مسيرته المهنية خارج بلاده ثم - بعد دراسته في زيورخ وفيينا - تم تعيينه معيدا بالعيادة النفسية بميونخ لمدة خمسة أعوام (كان لفوريل عدة اهتمامات أخرى، مثل دراسة النمل). ولم يتوان خليفته وتلميذه في البيرجولزي منذ عام 1898، يوجين بلولير - كما سنرى - في كسب شهرة عالمية للمكان .
وماذا عن أقصى الشرق، عن روسيا؟
8
لم تكن العناية المقدمة لمرضى الاعتلال العقلي تتقدم هناك بصورة أسرع من المجتمع ذاته. فلم يبدأ الحكام المحليون في إنشاء مستعمرات زراعية لمرضى الاعتلال العقلي إلا في عام 1861 بعد إلغاء العبودية. وأكثر مما كان الأمر عليه في النمسا، فإن البحث العلمي كان يتطور خارج المشافي، ولكن ازداد الأمر تعقيدا لكون الصفوة الروسية ممزقة بين تيار القومية السلافية وتيار يميل إلى الغرب. ولقد نظر الأطباء النفسيون من ممثلي هذا التيار في سان بطرسبرج وموسكو إلى فرنسا وألمانيا، خاصة في عهد جريزينجر. أنشئ أول كرسي أستاذية للطب النفسي في روسيا عام 1857 بالأكاديمية الطبية العسكرية بسان بطرسبرج. ومنح لإيفان بالينسكي (1827-1902) الذي أسس عام 1861 جمعية بطرسبرج لطب الأمراض العقلية. منذ عام 1869، شرع في توفير مصحات للأمراض العقلية في عدة مدن روسية. ويعد فلاديمير بيشتيريف (1857-1927) أحد خلفائه. بعد أن درس الطب في سان بطرسبرج، مارس عمله في عدة خدمات في ألمانيا وأيضا في مستشفيات شاركو وسالبيتريير بفرنسا. وفي عام 1893، عين أستاذا للأمراض العقلية والعصبية بسان بطرسبرج، حيث مكث عشرين عاما أعاد خلالها تنظيم التعليم الإكلينيكي. وأسس في عام 1907 معهدا للأبحاث حول المخ (وقبيل وفاته، كان ينوي إنشاء مبنى يشبه البانثيون لتدريس علم التشريح العصبي «ويصلح لتخزين ودراسة أمخاخ العباقرة»). مثل الكثير من الأطباء النفسيين وأطباء الأعصاب الروسيين، اهتم بيشتيريف أكثر بالبحث عن الممارسة داخل مصحة. وفي روسيا مثل فرنسا، لم يهتم الأطباء النفسيون الكبار بالذهاب لمواجهة الحياة اليومية داخل مصحات الأمراض العقلية. كذلك إيفان بافلوف (1849-1936) وسيرجي كورساكوف (1854-1900) اللذان ذاعت شهرتهما عالميا في مجال البحث. وقد عكف الأخير - الذي سنأتي لاحقا على ذكر متلازمة الأعراض التي اكتشفها - على تحسين الإصلاح في مؤسسات العلاج النفسي. كما انشغل فلاديمير سيربسكي (1855-1917) - إلى جانب عمله الجامعي - (كان يشارك بفاعلية في أنشطة جمعية الطب النفسي وعلم الأعصاب بموسكو) بالطب النفسي والطب الشرعي، وبالتالي سعى إلى الحصول على ضمانات للخبرة في مجال الأمراض العقلية.
في إيطاليا،
9
تبرز فترة زمنية طويلة تضم النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر. كانت حالات الجنون الحادة تعالج في المشافي العامة، بينما أقيمت مصحات في المدن الكبرى والمقاطعات الرئيسة لإيواء المرضى المزمنين. فأنشئت مصحة لوك لعلاج مرضى الهوس مثلا في عام 1773، وكانت تقدم هناك بعض الرعاية الطبية. في غضون بضعة أشهر، بلغ عدد المرضى هناك أربعة وعشرين رجلا وثلاثا وثلاثين امرأة. في عام 1881، ارتفع هذا العدد تدريجيا حتى بلغ أربعمائة وستين مريضا.
10
ثم توالت المؤسسات: بارما وسيينا وبيروس على أراضي البابا ومقاطعة ريجيو إيمليا (دوق مودين) وبالرما، إلا أن التفاوت على المستوى التشريعي كان شديدا. أصدرت توسكاني وحدها قانونا خاصا باحتجاز مرضى الاعتلال العقلي، مخضعا القبول والخروج لتصريح من محكمة. أما غير ذلك، فلم يكن هناك أي التزام إلا إبلاغ المحافظ عن أي احتجاز، ولكن ألم تكن الحال هكذا أيضا في قاعات مرضى الاعتلال العقلي في فينيسيا أو فيرونا؟ لاقى الجيل الأول من أطباء الأمراض العقلية مصيرا أكثر بؤسا من زملائهم الفرنسيين. فكان راتب طبيب المجانين في مصحة أفرسا كامباني - التي أنشئت عام 1813 بقرار من مورا - يعادل راتب حارس عقار؛ أي ما يوازي تسعة دوكات شهريا، بينما كان «معلم المجانين» (أي كبير الحراس) يتقاضى خمسة وعشرين دوكا؛ نظرا لأهمية دوره.
زار ألكساندر بريير دي بواسمون - في بداية مسيرته المهنية كطبيب للأمراض العقلية - العديد من المصحات الإيطالية للأمراض العقلية. وبدت له مصحة جنوة بعيدة كل البعد عن أفكار العصر حول علاج ومصحات مرضى الاعتلال العقلي. كان كل شيء حوله يسبب له «التقزز والشفقة».
11
كان المرضى هناك مربوطين بل مكبلين بالسلاسل. ولم يكن هناك في الغرف الأربع المخصصة للرجال والاثنتين المخصصتين للنساء أي تقسيم أو فصل. «لن نضيف إلا كلمة واحدة عن هذه المؤسسة: لا يتمكن المرضى من الخروج من هناك إلا بعد تأدية سر الاعتراف.» ولم تنل مصحة سينافرا الخيرية - بالقرب من ميلانو - تقديرا أعلى من ذلك بكثير. في عام 1850، جاء تيوفيل جوتييه إلى إيطاليا، ليس كطبيب وإنما كصحفي، وزار مصحة سان سيرفولو بفينيسيا المقامة منذ عام 1733 على جزيرة. بدت له المباني غاية في الرتابة. «فلم يبذل الكثير من الجهد لتحويل غرف الرهبان إلى زنازين للمجانين.» إلا أن المرضى أنفسهم تركوا فيها أثرا كبيرا: «لا يجد ما هو أكثر بؤسا وغموضا منهم، وكأنهم سفن تسير دون بوصلة، شعلة تركت مصباحها، وحياة من دون كيان. لعل الروح المظلمة القابعة داخل المجنون تستعيد وعيها بعد الموت، أم ستكون هناك أرواح مجنونة إلى الأبد؟ ... كان هناك مرضى يلعبون في هدوء بالكرات في الحديقة الجرداء تحيط بهم الجدران، وعلى الجانب الآخر يلعبون الليدو، بينما يتنزه اثنان أو ثلاثة بخطوات متعجلة تطاردهم هلاوس مخيفة. بينما وقف آخر ساكنا وله هيئة جافة ونحيفة ورأس عار مكشوف للرياح وكأنه طائر البلشون يقف فوق أحد المستنقعات، ولا شك في أنه كان يعتقد أنه هذا الطائر الذي يتقمص وقفته.»
12
بعد كل تلك الفترة البائدة، التي كان من الصعب فيها إيجاد مبادئ شياروجي التي تطبق في مصحة القديس بونيفاس بفلورنسا، لاح في الأفق منعطف هام في منتصف القرن التاسع عشر، بتخطيط عام هذه المرة. أصبح الأطباء مشهورين وأصبحوا هم من يقدمون المشاريع. فأندريا فيرجا (1811-1895) - مدير مصحة سينافرا بميلانو، ثم مدير المشفى العام منذ عام 1865 حيث كان يدرس الطب النفسي - كان قد أسس في عام 1873 «جمعية علاج الشرايين الإيطالية»، والتي ستتخذ في عام 1935 اسم جمعية الطب النفسي. ولكونه نائبا بالبرلمان، دافع عام 1876 عن ضرورة وضع تشريع خاص بمصحات الأمراض العقلية. ويعد فيرجا وتامبوريني بروما وتانزي بفلورنسا ومورسيلي بجنوة وآخرون؛ هم الآباء المؤسسين لقانون الرابع عشر من فبراير 1904، المماثل لقانون عام 1838 بفرنسا. ودون جدوى، حلم هؤلاء الأطباء - ذوو النزعة المعادية لرجال الدين - بعلمنة كاملة للعلاج النفسي في بلاد شديدة التمسك بالكاثوليكية كإيطاليا. في عام 1875 - حيث أجري أول تحقيق وطني حول مسألة مرضى الاعتلال العقلي - كانت إيطاليا تضم ثلاثا وأربعين مؤسسة (بلغت مائة وأربعين عام 1914) و12913 محتجزا (بلغوا 54311 في عام 1914)، بينما ظل عدد العاملين - سواء من الأطباء أو الممرضين - لا يتجاوز الحد الأدنى دائما.
كما نرى، فإن «القرن الذهبي لطب الأمراض العقلية» يختلف بشدة من بلد أوروبي إلى آخر. في إسبانيا،
13
يصعب مثلا الحديث عن قرن ذهبي في هذا الأمر. شهدت رعاية مرضى الاعتلال العقلي - التي جاءت كرياح تغيير في عصر التنوير الإسباني متأثرة بالطب العربي الإسباني (فنذكر أول مصحة لمرضى الاعتلال العقلي في أوروبا، وهي مصحة بلد الوليد عام 1409) - انهيارا متتابعا بسبب الدمار الذي أحدثته حرب الاستقلال (1803-1813)، ذلك في الوقت الذي كان يشهد نوعا من الحظوة في باقي دول أوروبا بدرجات مختلفة. فقد كان مرسوم من السلطة المحلية التي يديرها أحد القضاة كافيا لاحتجاز أي شخص دون أي شهادة طبية. ولم يستطع قانون عام 1822 - الذي صمم على النموذج الفرنسي - أن يفرض إصلاحاته على الرغم من التأكيدات المتكررة. كانت رعاية مرضى الاعتلال العقلي في مأزق، ما عدا بعض المحاولات المنفردة، مثل إنشاء مصحة الصليب المقدس ببرشلونة (حيث كان للمدير نفوذ وسلطة أوسع من الطبيب). وفي كتالونيا - التي كانت تشهد تقدما واسعا مقارنة بباقي البلاد - اتسعت حركة إنشاء المصحات الخاصة لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسبب تراجع الدعم الحكومي: مصحة تورلوناتيكا بمدينة لوريه دي مار (1844) وسان بوديليو دي يوبريجات (1854) ونوفا بيلين (1857) ... وفي كتالونيا أيضا، أنشئ عام 1863 أول معهد لدراسة الدماغ، والذي شدد بطريقة «ثورية» على أن يتولى مسئوليته بالكامل الطاقم الطبي. في برشلونة، ولدت أول مؤسسة تضم الأطباء النفسيين عام 1911. وفي مدريد، أنشئت أول مصحة خاصة للأمراض العقلية عام 1877. وفي باقي البلاد، كانت مصحات سان جون دي ديو تستقبل المرضى الفقراء، ولكنها لم تكن تكفي أعدادهم. أما تدريس الطب النفسي التقليدي المستوحى من المدرسة الفرنسية، فلم يبدأ في الاستقرار إلا متأخرا في القرن التاسع عشر، ولم يدخل الجامعة إلا كفرع من الطب الشرعي.
شرعت البرتغال
14
أيضا في محاكاة النموذج الأوروبي، ولكن بتطور مختلف. من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، كان يغلب على قطاع رعاية مرضى الاعتلال العقلي طابع القديس جون دي ديو؛ المولود عام 1595 في البرتغال ومؤسس تنظيم خيري وعلاجي. ولقد انتشر هذا التنظيم - على غرار دور الاحتجاز الجبري في عهد النظام القديم - في كافة أرجاء أوروبا، ولا سيما فرنسا تحت اسم تنظيم الإخوة للأعمال الخيرية. ولقد خصصت المصحات التابعة لهذا التنظيم مكانا لاستقبال مرضى الاعتلال العقلي بدءا من البرتغال وإسبانيا. إلا أن صيحة التحذير التي أطلقها الطبيب برناردينو أنطونيو جوميز عام 1844 - عقب جولته في مصحات الأمراض العقلية في أوروبا (حيث بدا له النموذج الألماني هو الأصلح) - تثبت أنه في مجال الرعاية العامة لمرضى الاعتلال العقلي لا يزال هناك الكثير لتحقيقه. فلم يكن هناك إلا مشفى كبير في لشبونة - ساو جوزيه تمتلك بالفعل مناطق مخصصة بمرضى الاعتلال العقلي. ولقد زار طبيب أمراض عقلية فرنسي مباني هذا المشفى في التاريخ نفسه، ووجدها رديئة، بينما اتسمت المؤسسة نفسها بالنظافة والأطباء بالتفاني.
15
وبعد الاستعلام عن هذا النقص في المصحات، وضع الطبيب عدة تفسيرات هامة: يأتي ثلاثة أرباع المرضى المحتجزين البالغ عددهم مائتين وواحدا وثمانين من لشبونة، بينما «يوجد في القرى والمدن - بما فيها لشبونة - مرضى اعتلال عقلي مسالمون، نتساهل مع وجودهم في الشوارع؛ لأنه لا توجد لدينا مؤسسة يمكنها استقبالهم.» أما «المرضى سيئو السلوك أو الخطرون»، فتضطر السلطات المحلية - نظرا لصعوبة نقلهم - إلى «حبسهم مؤقتا في السجون أو المشافي العادية». بينما يجري علاج مرضى الاعتلال العقلي «الأثرياء في منازلهم، أو يجري إرسالهم إلى بلد آخر». في عام 1849، افتتحت مصحة للأمراض العقلية بالفعل في لشبونة - ريافول - حيث يتم فقط استقبال المرضى الأثرياء الذين يمكن علاجهم. ولكن هذا لم يمنع أن أصبح ثلاثة أرباع هؤلاء المرضى ميئوسا من شفائهم. وعلى الرغم من افتتاح مصحة كوند دي فيريرا ببورتو عام 1881، ظل ثمانية آلاف مريض عقليا مطروحين في القرى أو في السجون، في انتظار أن يتوافر مكان لهم، ولذلك كانت الحاجة إلى قانون. ولقد ساهم الطبيب جي ماريا دي سينا بقوة في هذا الأمر عن طريق كتاباته وزيارته لمصحة شارنتون بفرنسا وأيضا مصحات فيينا وزيورخ. وبالفعل، صدر قانون في الخامس عشر من يوليو 1889، لينظم أخيرا خدمة مرضى الاعتلال العقلي على مستوى البلاد. وتأسس مشفى كبير يسع لستمائة مريض مزود بملحقين من غرف الاحتجاز للمرضى والمريضات ذوي النزعة الإجرامية، يتيح أيضا «تدريس علم الطب النفسي الإكلينيكي» في لشبونة، وأنشئ اثنان آخران أصغر حجما في كويمبرا وفي جزيرة ساو ميجيل (آسور). وأصبح المشفى القديم ريافول وآخر بني في بورتو مخصصين فقط لرعاية مصابي الصرع والبله ومرضى العته غير المؤذين من الجنسين.
وبالمقارنة مع البرازيل،
16
نتمكن من قياس مدى اختلاف العقليات الذي يوجد بين بلد قديم وآخر حديث. فحتى استقلالها عام 1822، كانت المستعمرة البرتغالية الضخمة تحتجز مرضى الاعتلال العقلي في المؤسسات الدينية، وخاصة مصحة سانتا كازا دي ميزيريكورديا بباهيا (السلفادور) فيما يسمى «كازينها دي دودو» (أي منازل صغيرة للمجانين). وبعد استقلالها، اتجهت البرازيل للطب الأوروبي الفرنسي بالتحديد. وبدأت حلمها لرعاية مرضى الاعتلال العقلي من داخل جمعية الطب والجراحة التي تأسست عام 1829. وقدم الطبيب دا كروز جوبيم عام 1830 - لجمعية الصحة العامة - تقريرا غاضبا عن المصير البائس لمرضى الاعتلال العقلي المحتجزين بمصحة سانتا كازا دي ميزيريكوديا: «لا يسعنا تصديق أن في ريو هذا القدر من الوحشية يمارس في مكان من المفترض أن يخفف من معاناة هؤلاء المرضى، الذي قد يصاب أي منا بما أصابهم.» أنشئت أول مؤسسة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي على الطراز الفرنسي عام 1852 في مدينة ريو دي جانيرو، والتي أصبحت مصحة وطنية عام 1890. وتوالى بناء المصحات خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بما فيها مصحة ساو باولو لمرضى الاعتلال العقلي عام 1898؛ وهي الكبرى على الإطلاق في أمريكا الجنوبية. وخصص أول كرسي أستاذية في الطب النفسي عام 1884، بناء على المدرسة الفرنسية، قبل أن يتحول اتجاهه في مطلع القرن العشرين إلى الطب النفسي الألماني. جاء التشريع متأخرا، فلم توضع أي لوائح محددة لطرق الاحتجاز إلا في عام 1893، وفي عام 1903، صدر أول قانون ينظم مسألة علاج مرضى الاعتلال العقلي بالكامل.
ومن جانبها، اتسمت الأرجنتين
17
بمزيد من الديناميكية، خاصة بالمقارنة مع محتلها القديم. قبل استقلالها، كان ثلاثة أرباع مرضى الاعتلال العقلي لا يدخلون المشافي أو يجري احتجازهم. وبعد الاستقلال عام 1816، بدأت الأرجنتين تطبق سياسة أكاديمية جريئة في الجامعات، تقوم أساسا على الطب. وفي عام 1827، ناقش دييجو آلكورتا (1801-1842) أول رسالة في الطب النفسي في أمريكا الجنوبية (عن الهوس الحاد). كان يتبع أفكار بينيل وإن عاب عليه عدم التعمق في التشريح الباثولوجي للمرض العقلي. لم يتحسن وضع مرضى الاعتلال العقلي البائس المحتجزين في منطقة المجانين بالمشفى العام ببيونس أيرس حتى منتصف القرن التاسع عشر. ففي عام 1854، افتتحت أول مؤسسة لعلاج مرضى الاعتلال العقلي فقط في بيونس أيرس، بناء على مبادرة من طبيب الأمراض العقلية فنتورا بوش (1814-1871) والسياسي المحب للخير تومازا فيليز سارسفيلد، وأطلق على قطاعين أو ثلاثة من قطاعات المشفى أسماء «بينيل» و«إسكيرول». أما أعداد المرضى المحتجزين، فازدادت من ثمانية وستين إلى ألفين في بداية القرن العشرين. كما نقل المرضى المحتجزون بالمشفى العام عام 1863 إلى مؤسسة علاجية جديدة، وهي مصحة سان بينافونتورا (وأصبح اسمها لاس مرسيدس منذ عام 1873). وشهدت حركة إنشاء مصحات الأمراض العقلية دفعة جديدة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، نتيجة حركة الهجرة المتزايدة. ويربط لوتشيو ميلينديز اسمه بهذه الفترة الزمنية، بعد أن منح كرسي الأستاذية في طب الأمراض العقلية (الذي أنشئ مؤخرا عام 1886) بكلية الطب. كان يعمل أيضا كبير أطباء بمصحة لاس مرسيدس، مازجا - بطريقة لا تحدث إلا نادرا في أي بلد - بين التدريس والتطبيق العملي في المصحة. خلفه دومينجو كابريد (1859-1929) عام 1892 في المنصبين، مستكملا عمل أستاذه في توجيه مصحات الأمراض العقلية في الأرجنتين نحو تجربة المستعمرة الزراعية أو «الأبواب المفتوحة».
18
كما قام هو الآخر بجولة في كبرى المصحات الفرنسية والألمانية. واستلهم من طرق بورنفيل في بيستر لتعليم الأطفال المتأخرين عقليا (وفي عام 1920 أنشئ أول كرسي للأستاذية في العالم للطب النفسي للأطفال). في بداية القرن العشرين، كانت الرعاية النفسية في الأرجنتين هي الأكثر تقدما على مستوى أمريكا الجنوبية كلها. «وأخيرا وليس آخرا»، ماذا عن بريطانيا التي كانت تمثل النموذج الذي تسير على خطاه أوروبا كلها بما فيها فرنسا في القرن الثامن عشر كما رأينا؟ لا يسعنا بالتأكيد قصر الطب العقلي البريطاني على نموذج مصحة «ذا ريتريت»، ولا سيما أن هذا المشفى لم يكن يحتجز إلا القليل من مرضى الاعتلال العقلي (لم يكن يتجاوز الأربعين في بداية القرن التاسع عشر، ولم يزد عن المائة نحو عام 1840)،
19
ولا أيضا مصحة بدلام أو مصحة القديس لوقا. في عام 1808، صرح مرسوم مشافي المقاطعة لأصحاب المقاطعات إنشاء مشاف تضم مرضى الاعتلال العقلي الفقراء ولكن على نفقة الشعب، ولذلك كانت نتائجها هزيلة للغاية. في عام 1841، لم تكن مقاطعات إنجلترا الاثنتين والخمسين، بما فيها إمارة الغال، تحتوى إلا على خمس عشرة مؤسسة علاجية عامة.
20
في عام 1828، صدر قانون يستبدل باللجنة القديمة بالكلية الملكية للأطباء هيئة جديدة من المفتشين - المفوضين الخاصين بالجنون على مستوى المدن الكبرى - وكانت لهم صلاحيات واسعة. وأخيرا، في عام 1845، جعل مرسوم مشافي المقاطعة وجود مصحة عامة للأمراض العقلية أمرا إلزاميا في كل مقاطعة. ومن ثم اتسع دور الأطباء، في الوقت الذي كانت جمعية الضباط الأطباء في المشافي العامة ومصحات الأمراض العقلية التي أنشئت عام 1841 قد أضفت بالفعل على أطباء الأمراض العقلية هوية مهنية. كان هناك اعتراف عام بقدراتهم، وأصبح هناك نطاق قانوني لعملهم. في منتصف القرن التاسع عشر، عمل إف بي وينسلو (1810-1874) على تعريف المجتمع البريطاني بضرورة وجود خبراء في الطب النفسي في المحاكم. ونشر جيمس بريتشارد (1786-1848) مؤلفا في عام 1842 - «حول الصور المختلفة للجنون وعلاقتها بالعدالة» - درس فيه القضية الصعبة التي تقف أمام الطبيب أو القانوني إزاء تحديد المسئولية الجنائية للمريض عقليا. وأعاد فيها استخدام مفهوم «خلل الصحة النفسية»
21
الذي وضعه في بحثه بتاريخ 1835، وهو عبارة عن جنون معنوي يقوم على خلل جزئي في الحس الأخلاقي والسلوكيات الاجتماعية دون المساس بقدرات الذكاء (وهو الأمر الذي أطلق عليه بينيل «الهوس دون هذيان»).
في عام 1844، بلغ عدد المصحات المصرح به في «ضواحي العاصمة لندن» ستا وثلاثين مصحة للأمراض العقلية، منها ثلاث وثلاثون لا تستقبل إلا المرضى القادرين على الدفع. كانت هذه المصحات تحتجز حوالي 6105 مرضى (من بينهم 2683 من الفقراء). ولم تكن أي من هذه المصحات موجودة وقت ظهور نظام «عدم تقييد المرضى» الذي أسسه - كما رأينا - جون كونولي، الذي تعد سيرته المهنية مثالا لأطباء الأمراض العقلية العظام في عصره. بعد أول منصب تولاه في مصحة ستراتفورد آبون أفون - مدينة شكسبير - بدأ يعمل في التدريس بالجامعة بلندن. وهناك، استطاع إدخال تدريس الأمراض العقلية إلى مناهج الدراسات الطبية. في عام 1830، عين مفتشا في مشافي مقاطعة وارويك، ثم في برمنجهام في عام 1838، قبل أن يصبح في العام التالي كبير الأطباء بمصحة هانويل للأمراض العقلية بالقرب من لندن، وهي أكبر مصحة لمرضى الاعتلال العقلي ببريطانيا. وهناك، تمكن على مدار خمس سنوات من فرض طريقته «بعدم تقييد المرضى»، على الرغم من أن آخرين (خاصة تشارلزورث ثم هيل بمستشفى لينكولن) حاولوا القيام بذلك من قبله. كان الأمر بمنزلة ثورة أشعلت عالم أطباء الأمراض العقلية بالكامل. ويدافع كونولي - الذي تخلى عن مناصبه عام 1844 - عن فكرته: «لا يوجد هناك مشفى واحد في العالم لا يمكن فيه إلغاء نظام الحبس التلقائي، ليس فقط في أمان كامل، بل وبنتائج جيدة لا تعد.»
إلا أن نظام «عدم تقييد المرضى» لم ينتشر في كافة ربوع بريطانيا. فعلى حد قول أحد المراقبين الأجانب (دائما ما يكونون أكثر نقدا)، كان «الاستخدام المعتدل للسلاسل والقيود لتقييد بعض الأجزاء من جسم المريض لا يزال موجودا بقوة»
22
في بعض مصحات الأمراض العقلية المخصصة للفقراء. ولاحظ نفس المراقب - أثناء وجوده في إحدى مناطق مشفى بريستول - أنه يجري حبس مرضى السلوك العنيف أو المتمردين في مخازن مغلقة بإحكام، بها ثقب يتيح تجدد الهواء. في المقابل، «لم يعد القناع الجلدي يستخدم على الإطلاق، والذي كان يربط بسير في وجه المريض الذي اعتاد أن يعض الآخرين.» كان «سوء استغلال هذه الأدوات يتراجع كل يوم بفضل نشاط الأعضاء الحاليين في جمعية لندن.» ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأ استخدام وسائل بديلة عن الحبس داخل المصحة وطبقت مع المرضى المسالمين (إلا أن عددهم ليس كبيرا): مثل طريقة «النظام العائلي» التي وضعها جييل في قرى الاستقبال بعيدا عن المصحة (في اسكتلندا خصيصى)، أو بالقرب منها، مثل طريقة «نظام الأكواخ» والتي تطبق داخل إحدى العائلات (غالبا ما تكون عائلة أحد الموظفين). وأخيرا، تمهيدا لنظام شهد فيما بعد تطورا كبيرا في أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت طريقة «الاحتجاز الانتقالي» التي تتم فيما بين المؤسسة العلاجية والمنزل.
في بريطانيا العظمى كما في الخارج، كانت مصحات الأمراض العقلية مكتظة بالمرضى. وكان على الأطباء - الذين يتولون الآن مسئولية الإدارة أيضا - أن يتفرغوا للمهام اللوجستية والإدارية على حساب العلاج والبحث. وحاول بعض أطباء الأمراض العقلية والنفسية من الشباب أن يخرجوا عن تلك القاعدة. كانت هذه هي الحال مع هنري مودسلي (1835-1918)، الذي عمل طبيبا للأمراض العقلية بمصحة مانشستر، بعد أن كان قد بدأ عمله كجراح. وأثر عمله كجراح على تفكيره؛ حيث ظل يبحث عن كل ما هو جسدي خلف المرض العقلي، مثل فشل عملية التكيف العصبية (فسيولوجيا وباثولوجيا العقل، 1867). كان يريد تطبيق مبادئ الفسيولوجيا وعلم النفس والباثولوجي على ممارسة الطب النفسي. ثم أصبح عضوا بالكلية الملكية للطب بلندن، وأستاذا للطب الشرعي بالجامعة. وفي عام 1908، أهدى ما يقارب الثلاثين ألف كتاب بهدف إنشاء مصحة حقيقية للطب النفسي مخصصة للبحث والتدريس. وبالفعل أنشئت مصحة مودسلي التي استقبلت لاحقا أول مصابي الحرب العالمية الأولى النفسيين.
أما الولايات المتحدة الأمريكية الشابة، فإنه من عادة التأريخ الأنجلوساكسوني أن يقارن بين تاريخ الطب النفسي البريطاني والأمريكي، في حين أن النقاط المشتركة قليلة للغاية، باستثناء اللغة العلمية المشتركة التي سهلت انتشار وتداول النظريات أساسا من بريطانيا إلى أمريكا. في الواقع، كان التطور المؤسسي هناك قد اتخذ نهجا مختلفا. قبل الاستقلال، أنشئ أول مشفى عام في فيلادلفيا عام 1751 - والتي كانت تعد الأولى بين ثلاث عشرة مستعمرة إنجليزية. وأيضا في عام 1751، قدم بنجامين فرانكلين «الأول» في فيلادلفيا عريضة للمجلس المحلي لإنشاء مصحة خاصة «لاستقبال المرضى الفقراء [...] وأيضا لإيواء ورعاية المجانين.»
23
وبالفعل، خصص قسم لمرضى الاعتلال العقلي؛ لأن «أعداد الأشخاص ذوي العقول المضطربة والمحرومين من قدراتهم على التعقل، كان في ازدياد مطرد.» في عام 1773، تأسست أول مصحة للأمراض العقلية بفيرجينيا بويليامزبرج. كانت المصحة مجهزة بثراء، وغير مكتظة بالمرضى، وكأنها بداية لظهور المصحات العقلية الخاصة (والتي سميت هكذا؛ لأنها أنشئت في الأساس بفضل الاكتتابات الخاصة)، والتي شهدت زيادة كبيرة على الساحل الشرقي في نهاية القرن الثامن عشر وفي العقد الأول من القرن التاسع عشر. واتخذ المشفى من مصحة ذا ريتريت الإنجليزية - التابعة لعائلة توك - نموذجا له مطبقا طريقة العلاج المعنوي، مع الأخذ في الاعتبار أفكار بينيل الذي أسقط القيود من على كاهل مرضى الاعتلال العقلي.
وبعد الاستقلال، كان الأطباء الأمريكيون - أكثر من زملائهم الأوروبيين - يقومون بجولات استكشافية في مصحات الأمراض العقلية الإنجليزية والفرنسية والألمانية قبل أن يصبح الواحد منهم طبيبا في مصحة عقلية. كان وضعهم الاجتماعي ضعيفا أيضا، ولكن في أعقاب سلسلة من التعديلات على لائحة المشافي، أصبحوا أطباء ومديرين للمصحات في ذات الوقت. إلا أن هذا لم يكن يعني أنهم أحرار يفعلون ما يشاءون. في عام 1844، تأسست «الجريدة الأمريكية للمرض العقلي»، وهي الأداة الرسمية «للجمعية الطبية للمراقبين الطبيين في المؤسسات الأمريكية لعلاج الأمراض العقلية».
كان المجتمع الأمريكي الجديد يتميز بميل واضح «للاحتجاز» - أكثر من أوروبا القديمة - مظهرا تشددا متناميا تجاه الجنون، بالتناسب مع نمو حركة التصنيع والتعمير السريعة؛ خوفا من شبح الفاقة و«الفساد» الذي تسببه حركات الهجرة (دعارة، سكر، إجرام، جنون). في مثل هذا السياق السياسي والاجتماعي المرتبط بثقافة دينية بروتستانتية، كان العلاج المعنوي يمتاز بطابع «أخلاقي» لم يشهده من قبل. وفي عام 1874، تأسس «المؤتمر الوطني للأعمال الخيرية والإصلاحية»، الذي أصبح في القرن العشرين - بعبارات أكثر ملاءمة للعصر الحديث - «الجمعية الوطنية للخدمة الاجتماعية». ومثلما كان الأمر في الغرب، سرعان ما حل التشاؤم محل الأمل في شفاء مرضى الجنون. ويشدد عالم الاجتماع والمؤرخ للصحة في أمريكا ديفيد ميشانيك
24
بفطنة على أهمية هذا الشعور بالإحباط وثقل وطأته في أمريكا عن أوروبا. ويعرض فكرته المفارقة والمثيرة بأن مهنية الطب النفسي شكلت في النهاية عقبة أمام الرعاية الفعلية لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسبب أنها أصبحت مجموعة من المعارف السرية، مما شكل حاجزا أمام محبي الأعمال الخيرية الذين هم أساس هذه المصحات.
بدأت الآلة تدور، وافتتحت أول مصحة عامة للأمراض العقلية - «ورسيستر ستايت» - في ماساتشوستس عام 1830. وارتفعت معدلات الاحتجاز بسرعة رهيبة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن التاسع عشر. وأصبحت مصحة بلومينجدال بنيويورك تضم أكثر من ألف وستمائة مريض بين عامي 1824 و1836، ومعظمهم من القادرين على الدفع وليس المعوزين، ومن بينهم ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين بالمائة من المرضى مدمني الكحوليات. وازدادت الأعداد في الأماكن الأخرى. وعلى الرغم من وجود ثلاث مصحات خاصة ومشفى عام في بوسطن (يضم 2632 مريضا)، استعدت ولاية ماساتشوستس في عام 1854 لإنشاء المشفى العام الثالث. كان هذا هو عصر انتصار النظريات الطبية المعمارية لتوماس س. كيركبرايد (1809-1883) - كبير الأطباء وكبير المراقبين بمشفى بنسلفانيا لمرضى الاعتلال العقلي ببنسلفانيا الذي تأسس عام 1841. ولقد تأثر كيركبرايد بأسس الإنشاء التي آثرها أطباء الأمراض العقلية الفرنسيون في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. في البداية، يجب ألا تشبه مصحة الأمراض العقلية السجون لطمأنة المرضى وعائلاتهم وأيضا الزائرين (يجب إخفاء وسائل الأمن).
25
ويكون التصميم متماثلا بالطبع، وخطيا في ذات الوقت يشتمل على مجموعة متسلسلة من الأقسام الخلفية تحيط من الجهتين بالجناح المركزي، وفي آخره تكون الكنيسة. تتسع المصحة لمائتين وخمسين «مريضا». تكون مناطق التصنيف أبسط من النموذج الفرنسي، وتقوم أساسا على التصنيف بناء على السلوك. يجري الاعتناء بشدة بالتهوية؛ مما يتضمن إنشاء المصحة في الريف. وبناء على هذا النموذج، أنشئ عدد من المصحات على مدار القرن التاسع عشر، مثل مصحة إلينوي الشمالية لمرضى الاعتلال العقلي عام 1872. كان كيركبرايد ينشر تقريرا سنويا حول وضع مصحة بنسلفانيا للأمراض العقلية التي ازداد عدد مرضاها من ثلاثمائة وأربعة وستين عام 1857 حتى خمسمائة وخمسة وتسعين عام 1868. كان يمتدح فيه اهتمامه بالرياضة البدنية الخفيفة وقاعات القراءة. واستغرق في أحلامه حتى تخيل إنشاء مكان للترفيه (؟) يقيمه المرضى بأنفسهم.
انتهى هذا العصر الطوباوي للطب العقلي بالتداعي منذ عام 1880. ويسجل التعداد الفيدرالي في هذا التاريخ وجود - في مقابل خمسين مليون مواطن - 41500 مريض عقليا في مشافي الدولة ، وضعف هذا العدد في دور الإيواء. كانت النسبة تفوق مثيلتها في أوروبا، ولكنها كانت أقل من عام 1955؛ حيث بلغ عدد المرضى المحتجزين في الولايات المتحدة حوالي 559000؛ أي 0,33٪ من إجمالي عدد السكان
26 (في التاريخ نفسه، كانت فرنسا تضم محتجزين يمثلون 0,23٪ من عدد سكانها). ولكن - كما في فرنسا وفي كل البلاد الأخرى - تلاشى الأمل في الشفاء قبل ذلك بكثير. في ثمانينيات القرن التاسع عشر، عقد الكثير من المحاكمات بسبب الاحتجاز القسري. واحتدم هجوم أطباء الأعصاب - بدوافع أخرى - على أطباء الأمراض العقلية، متهمين إياهم «بخداع ثقة الشعب بإصرارهم على عدم انتهاز الفرص المتاحة لتحسين علم الطب النفسي.» وقد رأينا من قبل كيف كانت الحال مع الجراحة النفسية. وانتهى المطاف بعلماء الأعصاب بفقد ثقة الجمهور الذين أرادوا كسب ثقته، بسبب مبالغاتهم (ألم يتحدثوا عن السعي وراء «المادة غير المستفاد منها»؟)
27
ولقد شهد العقد ذاته مولد الجمعية الوطنية لحماية مرضى الاعتلال العقلي والوقاية من الجنون. في الوقت الذي تزدحم فيه المصحات بالمرضى المزمنين الذين «تدهورت حالاتهم» (بي روزنكرانتز)، لماذا الاستمرار في تكديس المصحات بصورة تزيد من عددهم؟ (بلغ عددهم مائتين في الولايات المتحدة بنهاية القرن التاسع عشر). منذ عام 1874، طرحت مسألة مستقبل المرضى المزمنين وكيفية مساعدتهم خلال أحد المؤتمرات الوطنية بأمريكا. بنهاية القرن التاسع عشر، شهد قطاع مصحات الأمراض العقلية تدهورا سريعا. وكان من الممكن أن تتسبب الزيادة السكانية، وفشل بعض الطرق العلاجية - بداية من العلاج المعنوي - ونسبة الوفيات المرتفعة المرتبطة بتحول الإصابة إلى مرض مزمن؛ في التخلي عن سياسة مصحات الأمراض العقلية، وليس - من باب المفارقة - في زيادة شديدة في عدد المرضى المحتجزين، حتى منتصف القرن العشرين، بل وبعد ذلك. «وعلى عكس مبادئ النظام والسيطرة التي يفرضها المعمار والإدارة، كان نظام الحياة في المصحة يميل دائما نحو الفوضى والتفكك» (سكول). إلا أن مصحة الأمراض العقلية صمدت على الرغم من الناقدين. ويستكمل سكول حديثه بأن المصحة استمرت؛ لأن أقل المستشفيات جودة كان يمثل حلا لبعض الأسر اليائسة. وهكذا، «لم تكن مصحة الأمراض العقلية - كمؤسسة يلجأ إليها في نهاية المطاف - في حاجة أبدا لمزيد من الزبائن.»
الفصل الخامس
البوتقة النظرية في عصر اليقين
ربما نستطيع أن نفهم منذ الآن أن التفكير النظري - في فرنسا - أصبح في جميع الأحوال منفصلا أكثر فأكثر عن المؤسسة العلاجية وعن ممارسة الطب العقلي. ففي فرنسا على وجه الخصوص - على عكس ألمانيا مثلا - كان البحث الإكلينيكي متمركزا في العاصمة بشكل كبير، بل وفي سانت آن على وجه التحديد حيث عين أفضل أطباء الأمراض العقلية، ولم يكن يتم الإبقاء إلا على «أفضل» المرضى (كان المرضى الميئوس من شفائهم ينقلون إلى الأحياء المتاخمة أو إلى سجون الأقاليم).
واستطاع الطب النفسي، بعد أن تحرر من الفكرة التي كانت هي أساس تكوينه (كون المستشفى أداة للشفاء)، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ أن يستعيد قوته وأن يؤكد - بشكل ما - يقينيات جديدة عن طريق مضاعفة التصنيفات (التي هي عمليا واحدة) وتعميق المفاهيم القديمة مثل الصرع والهستيريا، وخلق كيانات جديدة: الشلل العام (الذي بدأ تمييزه منذ مطلع القرن التاسع عشر) والانحطاط العقلي، والعصاب، والذهان على وجه التحديد. وعن طريق وضع تشخيص، كان الطبيب النفسي «يزيل بضربة واحدة مصدرين للقلق: الطابع المجهول للجنون والعلاقة مع المريض؛ لأنه بمجرد تسميته، يصبح المرض شيئا مألوفا مستقلا بذاته يدخل معه الطبيب مباشرة في علاقة، دون الحاجة إلى المريض.»
1
الشلل العام
سبق أن رأينا كيف جعل مؤيدو فكرة الأصل العضوي للأمراض العقلية - وهم أغلبية - من نظرية بايل حول «الشلل الجنوني» أو «الشلل العام» الحجة التي يرجعون إليها دائما. ومنذ ذلك الحين اتخذ الشلل العام «وضعا ملحميا» (جي لانتري لورا) في تاريخ الأمراض العقلية، وأصبح هو «نقطة الانطلاق التاريخية لضم علم الأعصاب لمجال الجنون».
2
يتفق الجميع على خصوصية الوهن العصبي المصاحب «للشلل العام التدريجي» الذي يملأ المشافي بالمرضى من الرجال بين خمسة وأربعين وستين عاما. وتتميز المرحلة الأولى من المرض بأفكار الثراء والعظمة، وأيضا بنوع من فوضى الأفعال يصاحبها نوبات غضب واضطراب في الكلام ومشاكل في الحركة وعدم تكافؤ في حدقة العين، والمرحلة الثانية بتفاقم التدهور البدني والفكري، يصاحبها عادة نوع من الخرف ونوبات صرع؛ مما يؤدي إلى الموت خلال شهور. فها هو على سبيل المثال رجل يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاما محتجز عام 1887: «المريض مصاب بالشلل العام، وأيضا بهذيان مستمر وغير مترابط تدور أفكاره كلها حول البذخ والعظمة والثراء وملايين الأطفال ... إلخ. تعاني حركته من خلل، وكلامه من نوع من التردد، فيختلج لسانه ولا يمكنه البقاء داخل فمه، وتظهر على عضلات الوجه الأعراض نفسها من الارتعاش كلما هم المريض بالتكلم. فقدت يداه مهارتهما، واتسمت خطواته بعدم الثبات. ويعاني من نوم قليل وحالات هياج مستمرة.» وهناك أيضا هذا المريض ذو السبعة والثلاثين عاما، والمحتجز في المستشفى منذ عام 1909: «يعاني من جنون تام وخرف وعبارات مضطربة وعدم تساوي حدقتي العينين، كان يسير نصف عار ويسقط منه بنطاله مفكوك الأزرار، كان قذرا غير واع بما يدور حوله.»
في المقابل، لم يكن التصنيف العلمي «للشلل العام» معلوما في البداية. فطالما دافع مانيان عن فكرة التسمم بالكحول كسبب مباشر ورئيس للمرض. إلا أنه منذ عام 1857، كان كل من إيسمارخ ويسين أول من أكد أن مرض الزهري هو سبب الإصابة بالشلل العام. وعلى الرغم من دعم الكثير من الباحثين لهذه النظرية في الأعوام التالية، لم تستطع أن تفرض وجودها، ثم جاءت نظرية «الشلل العام الخاطئ»، والذي لا يسببه الزهري، لتقضي عليها (أيضا لازيج، عام 1884). في عام 1879، عكفت أعمال ألفريد فورنييه
3
على تدمير هذا التمييز الخاطئ، عن طريق إثارة الشكوك طويلا لدى أطباء النفس والأعصاب. وهكذا، وفي عام 1888 بسانت آن، لم يرد أن يناظر إلا أربع حالات مؤكدة من الزهري وخمسا مشكوكا فيها من أصل مائة حالة إصابة بالشلل العام. وفي عام 1905، وضع أحد أهم خصومه، أليكس جوفروا - التلميذ القديم لفورنييه - هذه الصيغة العجيبة: «أعرف جيدا أن الشلل العام يصيب مرضى الزهري، ولكني لا أعترف بوجود شلل عام يسببه مرض الزهري.»
4
ولكن، المادة الطفيلية المسببة للمرض كانت موجودة. وكان لا بد من الانتظار حتى عام 1906 حين ظهر التحليل المصلي مع بورديه وفاسرمان، بل حتى عام 1913 مع اكتشاف طفيليات مرض الزهري في مخ المصابين بالشلل العام، حتى يتم إقرار الأصل المرتبط بالزهري للشلل العام. وأصبح بالفعل مرض التهاب السحايا المخية الذي يسببه الزهري الثلاثي.
نظرية الانحطاط العقلي
في منتصف القرن التاسع عشر، شهدت نظرية الانحطاط العقلي
5
نجاحا ساحقا وممتدا؛ لكونها تمثل أول محاولة لوضع تفسير عام للجنون. وكانت أعمال بنديكت أوجستين موريل
6 (1809-1873) - كبير الأطباء بمشفى ماريفيل ثم مشفى سان يون - هي ما أعاد هذا المفهوم القديم إلى مجال الطب النفسي. ويقترح موريل تصنيفا للأمراض العقلية يرتبط أكثر بالأسباب وليس بالأعراض، مشددا على «العلاقات غير الطبيعية التي تقوم بين الذكاء وأداته المريضة؛ أي الجسد.» كان الأمر بالنسبة إليه عبارة عن تحول باثولوجي للإنسان الكامل كما خلقه الله، وتبدو الخطيئة الأولى هي السبب الأولي للانحطاط العقلي. ما هي إذن أسباب «هذا الانحراف المرضي للنوع»؟ تكون هذه الأسباب تارة وراثية وتارة حتمية. تقود هذه الميول الأولية - البدنية أو المعنوية، الفردية أو العامة - عن طريق الوراثة إلى الجنون بمجرد ظهور سبب حتمي. ويضع موريل تصنيفا للأمراض العقلية من فئتين: الأمراض العرضية ذات الطابع الإكلينيكي الحاسم، والأمراض البنيوية أو الوراثية. ويندرج تحت النوع الأول حالات الجنون بسبب التسمم: الجنون الهستيري، والصرع، وجنون الوسواس المرضي، والجنون السمبثاوي (المرتبط بهم)، والجنون مجهول السبب (الموجود بذاته دون أي أعراض أخرى). أما النوع الثاني - الأكثر عددا وفقا لتقسيم موريل - فيتكون من حالات الجنون الوراثي، الذي يقسمها إلى أربع مجموعات تبدأ من «المبالغة البسيطة في المزاج العصبي» وحتى الخرف التام.
في نهاية القرن العشرين، كان مانيان وتلاميذه يميزون - في تصنيفهم للأمراض العقلية - من ناحية بين الحالات المختلطة، مستخدمين في ذلك الطب النفسي وأيضا الباثولوجي العام بسبب علاقاتهم العضوية، وبين الذهن من ناحية أخرى بدءا من جنون المختلين. وإلى جانب البله والمختلين عقليا التقليديين، ظهرت فئة جديدة من «المختلين» تتسم بالهذيان الفجائي (مفهوم «نوبة الهذيان» الجديد). أما بالنسبة إلى المرضى الذين لا تظهر عليهم علامات واضحة للانحطاط العقلي، فيجعلهم مرضهم الخفي أكثر استعدادا للجنون المتقطع أو «للهذيان المزمن المنظم» (وهو هذيان منظم بعناية ذو نمط موحد).
كان لهذه النظريات أبلغ الأثر على الأفكار الجديدة حول العبقرية والجريمة وعلاقتهما بالجنون. رأينا أنه في القرن الخامس قبل الميلاد ميز أفلاطون وإمبيدوكليس بين نوعين من الجنون، أحدهما سيئ والآخر جيد مليء بالإلهام الإلهي. ولكن بالنسبة إلى مانيان ومن تبعوه، فإن العبقرية ليست سوى «نوع من الخلل الأسمى». ونجد هذا المفهوم في الأسطورة التي تأصلت بقوة في ذلك العصر واستمرت حتى قبيل الحرب العالمية الثانية، وتقول بوجود «زهري وراثي»
7
يتسبب في تكوين أجنة مريضة (عاجزة عن التفكير)، وفي أحيان أخرى عباقرة. في نهاية القرن السادس عشر، اعتبر كتاب إسبان أن الزهري عدو الجسد، ولكنه في ذات الوقت صديق الروح. حتى إن ليون دوديه - الذي لا يعتقد في الطب ولا الأطباء، ويصف القرن التاسع عشر بالحماقة - أظهر حماسه للفكرة: «إن الميكروب المسبب للمرض الرهيب - الطفيلي - هو إذن المحرك للعبقرية والموهبة والبطولة والتعقل، مثلما يسبب في الناحية الأخرى الشلل العام والهزال وباقي أنواع الانحطاط العقلي تقريبا. ولقد لعب هذا المرض الوراثي؛ الذي يكون أحيانا مدعاة للنشاط والاستثارة، وأحيانا أخرى سببا للخمول والشلل، آكلا ومستهلكا خلايا النخاع والمخ، مسببا الاحتقانات والهوس والنزيف والاكتشافات العظيمة وأيضا التصلب؛ دورا يشبه روح الموت في العصور القديمة، ولا سيما بسبب كثرة أنواع المرض، ولا يزال يلعبه وسيلعبه دائما. إنه تلك الشخصية الخفية الحاضرة التي تحرك الرومانتيكيين والمختلين ومضطربي الفكر ذوي الطابع الأسمى والثوريين وذوي السلوك الشجاع أو العنيف.»
8
في الحقيقة، مع أفكار دوديه، يجب أيضا أخذ عامل الاستفزاز في الاعتبار. ويعد زولا أهم «معتنقي» هذه النظرية، فنراه يعود إليها باستمرار خلال مجموعة روايته «عائلة الروجون ماكار» (الطبيب باسكال، 1893). أما سيزار لمبروزو (1836-1909) - المسئول عن تدريس الباثولوجيا العقلية ببافي، والذي وضع إطارا منظما لنظريات مانيان - فكتب: «إن عمالقة الفكر يدفعون بالأمراض العقلية والذهان ثمن قدراتهم الفكرية العظيمة.»
9
ولقد اشتهر لمبروزو بسبب أعماله حول الإجرام وعلاقته بالانحطاط العقلي وحول مفهوم «الشخص المولود مجرما».
10
أصبحت نظرية الانحطاط العقلي معتقدا ثابتا في فرنسا لمدة نصف قرن واستمرت في صورها المختلفة حتى قبل القرن العشرين. في ألمانيا، استقبلت هذه النظرية بحماس (على يد جريزينجر وكرافت إبينج)، ولكن سرعان ما لاقت مقاومة شديدة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر (على يد كرابلين) بسبب شكليتها. ولم يمكنها إلا أن تشكل مصدرا أكثر إلهاما لعلم تحسين النسل في الولايات المتحدة، بقوانينه التي تحظر زواج مرضى الصرع ومدمني الخمور ومرضى الزهري. ولم تكن فرنسا بعيدة عن هذا الاتفاق الذي يهدف لحماية وتحسين «السلالة».
الصرع
منذ العصور القديمة، كان ولا يزال للصرع وضع خاص؛ فهو ليس مرضا عقليا في حد ذاته (وإن كان هناك بعض الكتاب - وعلى رأسهم بينيل وكرابلين - يقولون العكس)، على الرغم من أن نوباته ترتبط كثيرا باضطرابات نفسية مرضية خفية أو حادة، عرضية أو دائمة، ولا تزال طبيعة هذا التلازم موضع جدل.
11
ويخضع مرض الصرع إلى عدة تصنيفات وظيفية أو مرضية، أساسية أو خاصة ببعض الأعراض، عرضية أو دائمة. في منتصف القرن التاسع عشر، اقترح لويس ديلاسيوف (1804-1893) تصنيفا يقسم المرض إلى صرع مرضي (نتيجة إصابة في المخ)، أو صرع غير معلوم سببه أو أساسي (دون إصابات واضحة)، وصرع سمبثاوي (نتيجة أسباب خارجة عن المخ). بينما يؤيد ثيودور هيربين من جينيف (1799-1865) - حتى قبل ظهور مضادات التشنج (البوروم) في الستينيات من القرن التاسع عشر - أن الصرع يمكن شفاؤه في أغلب الحالات، بشرط أن يعالج في بداياته عن طريق التعرف على «عوارضه الخفيفة».
12
كان البريطاني هيولينجز جاكسون (1835-1911) - طبيب وليس متخصصا في الطب النفسي، ورائد في علم الأعصاب - قد وضع في عام 1861 أساس علم علاج الصرع الحديث. وكان أول من وضع تفسيرا ماديا لاضطرابات النشاط الكهربي التي تحدد ظهور وتطور نوبة الصرع (شحنة مفاجئة قوية وسريعة (تنشيط عنيف) للمادة الرمادية في بعض أجزاء المخ). ولقد ظل هذا المفهوم الخاص بالشحنة الموضعية معمولا به، حتى بعد ظهور علم الأعصاب الفسيولوجي الإكلينيكي في نهاية القرن التاسع عشر، بعد انقضاء عصر التشريح الإكلينيكي. كان الاستكشاف المباشر لوظائف القشرة المخية قد أسفر في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين عن علاج جراحي لحالات الصرع الحادة التي استعصت على أي علاج. في عام 1929، أجرى عالم الفسيولوجيا الألماني هانز برجير أول رسم مخ كهربائي (شهد تطورا حقيقيا في خمسينيات القرن العشرين)، مؤكدا فرضية جاكسون؛ مما أتاح تشخيص الصرع وأسباب تطوره وأيضا متابعة علاجه.
العصاب والهستيريا
يميز العلماء اليوم بشكل واضح بين بين العصاب والذهان، فالعصاب - على عكس الذهان - لا يؤثر بعمق على الشخصية، ويكون مصحوبا عادة بنوع من الإدراك المؤلم والمبالغ فيه أحيانا للوضع المرضي (فهو اضطراب مرضي قبل كل شيء). في قرن ازدهار طب الأمراض العقلية، كان مصطلح العصاب يشمل المعنى الأعم والشمولي: كافة الأمراض المسماة «العصابية» بما فيها فئات المرض العقلي المختلفة.
13
وكان كولين - كما سبق أن رأينا - هو من ابتكر الكلمة عام 1769، فقد كان حينها في كرسي الأستاذية للفسيولوجيا بجامعة جلاسجو، وكان يولي عناية كبيرة لدراسة دور الجهاز العصبي في تكون وتطور الأمراض. في كتابه «التصنيف الفلسفي للأمراض» (1798)، وضع بينيل - متأثرا بكولين - جدولا للأمراض العصابية وقسمها إلى أربعة أنواع؛ في البداية يأتي «الجنون»: وسواس المرض، والسوداوية، والهوس (ينقسم إلى أربعة أنواع: الهوس من دون هذيان، والهوس المصحوب بهذيان، والعته، والبلاهة)، والسرنمة، والخوف المرضي من الماء. ويضم القسم الثاني: «الاضطرابات العصبية الموضعية»، ولا يقل عددها عن سبعة أنواع (لن نذكر منها الآن إلا الألم العصبي و«العصاب المثير للشهوة الجنسية » الذي يشتمل بدوره على عدة أنواع: الشراهة الجنسية، وخلل النطاف، وأمراض العضو الذكري العصبية، والهوس الجنسي). وبعد القسم الثالث، يأتي الرابع والأخير الذي يضم إصابات الغيبوبة: السكتة وتخشب الجسم والخدر (منها السكر) والاختناق.
ولقد أصبح هذا الإطار التصنيفي للمرض - على اتساعه وتكلفه وكثرة تذبذبه - «جامعا للأشياء المتنافرة التي انتهت إليها الأبحاث الطبية في القرن التاسع عشر» (جي بوستيل). وفي الوقت الذي استقرت فيه منهجية التشريح الباثولوجي، لم يكن هناك الكثير ليبحث فيه. «فكافة تقسيمات العصاب بنيت على تصور سلبي؛ فلقد ولدت في الوقت الذي وجد فيه التشريح الباثولوجي - المسئول عن تفسير أسباب الأمراض من واقع اضطرابات أعضاء الجسم - نفسه في مواجهة عديد من الحالات الصعبة عجز عن اكتشاف سببها.»
14
في الواقع، بدأ مصطلح العصاب «الذي يجمع الكل» في اكتساب مزيد من التحديد بفضل أعمال بول بريكيه (1796-1881) حول الهستيريا، مؤكدا تماما على الطبيعة المخية للهيستريا التي تعد «نوعا من العصاب يصيب الجزء المسئول عن استقبال الانطباعات العاطفية والأحاسيس في المخ.» «مع بريكيه، بدأت الهستيريا تظهر كمرض يصيب القدرة الانفعالية.»
15
في عام 1859، نشر مؤلفه «بحث إكلينيكي وعلاجي عن الهستيريا»، وفيه وضع أساسا واسعا يقوم على علم الأعراض المرضية، ويضم ما لا يقل عن ثمانية أقسام: حالات الحساسية المفرطة وحالات الخدر وانحرافات الحساسية والتشنج العصبي اللاإرادي وحالات الشلل وخلل القدرة على التقلص وتغيرات حالات الاستثارة والإفرازات. وينتقد بريكيه دور الإحباطات الجنسية، واضعا إياها إلى جانب حالات الحزن العنيف والعواطف الممتدة لدى الأشخاص الذين لديهم نزوع طبيعي يزيد من «قابليتهم للإصابة» أو بسبب عوامل وراثية. كما دحض الفكرة الثابتة القائلة بوجود هستيريا خاصة بالنساء، على الرغم من أن نسبة المصابين كانت رجلا لكل عشرين امرأة. كانت الطريق مفتوحة أمام أعمال شاركو وبيرنهيم وفرويد ...
كان جان مارتن شاركو (1825-1893) هو من اهتم - على وجه الخصوص - بتحديد الاضطرابات «الوظيفية» للهستيريا. عين عام 1862 في مستشفى سالبيتريير، وهو - على حد قوله - «يشبه المتحف الباثولوجي الحي الضخم الموارد.» في عام 1872، نال الأستاذية في التشريح الباثولوجي، قبل أن يجري استحداث أول كرسي أستاذية في العالم في الطب الإكلينيكي للأمراض العصبية عام 1882، بناء على رغبته. واستطاع شاركو - بتطبيق طريقة التشريح الإكلينيكي للطبيب لايناك على إصابات الجهاز العصبي - أن يجمع ملاحظات دقيقة من سلسلة من المرضى، ووضع رسما مبدئيا (كان في الحقيقة رساما بارعا) للتقسيمات دون استثناءات، محددا أنماطا مصحوبة بوصف لها وبأدلة تشريحية لدعمها. ويشهد هذا المتحف التشريحي والورشة الفوتوغرافية (حيث تطورت الصور الفوتوغرافية القيمة الخاصة بمشفى سالبيتريير) بالحس الابتكاري لشاركو، الذي كانت محاضراته الإكلينيكية تجذب الأطباء من فرنسا وخارجها، بل وأيضا شخصيات من عالم السياسة والأدب والفن. كذلك كانت أمسياته كل ثلاثاء التي يقيمها في 217 شارع سان جيرمان (منزل أمريكا اللاتينية الحالي). وفيما يتعلق بالهستيريا، فلقد كان له العديد من المطبوعات في علم الأعصاب جعلت له شأنا في هذا المجال. في عام 1870، عهدت إليه إدارة المشفى بخدمة إضافية؛ وهي «رعاية مرضى حالات الصرع البسيطة»، والتي تتضمن مرضى الصرع غير المختلين ومرضى الهستيريا. وسرعان ما نما لدى شاركو - الذي كان قد قرأ ودرس أعمال بريكيه عن الهستيريا - ولع بهذا المجال الجديد للبحث. «ترك المجال الذي يعرفه جيدا - الإصابات العضوية للجهاز العصبي - ليغامر باستكشاف مجال خطير للغاية. وأدخل شاركو الهستيريا لنفس المجال، فكانت حتى ذلك الوقت تندرج تحت الحالات التي تصيب الإنسان فتجعله كائنا مريضا، غريبا غير منظم، كائنا غير مفهوم، له مظاهر متعددة وخادعة. فكيف نتناولها إذن لتقليل هذه الحالة من عدم الخضوع؟ وكيف نجبره على الانصياع لقواعد محددة وعلى الدخول في نظام مشدد والالتزام بالسلوك الجيد؟» (إي تريا).
شرع شاركو في وضع قواعد الهجوم الكبير للهستيريا «يمكن تطبيقها في كل العصور وفي كل البلاد وعلى كافة الأجناس» بمراحلها الأربع المتتالية: الأورة، وهي الحالة السابقة للنوبة، وفيها يبدأ المريض في الاضطراب دون أن يشعر؛ ثم المرحلة الخاصة بالصرع نفسه ويصاحبها شحوب وصراخ وفقدان وعي؛ ثم مرحلة التشنجات - المعروفة ب «المضحكة» - ويصاحبها حالات انفعالية؛ ثم المرحلة النهائية والتي تتميز بالبكاء والضحك، بل والهذيان. وفي ذات الوقت، صاغ شاركو قوانين «للتنويم المغناطيسي البسيط»، وهي حالة من التنويم تساهم في تسهيل التمييز بين الوعي واللاوعي، وأيضا تلك الخاصة «بالتنويم الطويل»؛ وهي حالة أعمق من التنويم يمكن بها عن طريق الإيحاء إعادة تمثيل الأعراض الهستيرية. ابتداء من عام 1878 أدخل شاركو التنويم المغناطيسي كوسيلة علاجية، وإن لم يكن يمارسه بنفسه، تاركا تلك المهمة لمساعديه أو تلاميذه الذين يتمثل دورهم في أن يرووا «للمدير» ما يريد أن يعرفه اعتمادا على مجموعة من مريضات الهستيريا «النجمات» أو على بعض ممثلات العروض العامة. وبعد فترة، كانت الواحدة منهن تتفاخر: «لقد عملت مع شاركو.»
كان دوديه ، الأب والابن، قد حضرا هذه الجلسات الواسعة الشهرة. ويصف لنا الأب دوديه جلسة داريت - إحدى مريضات الهستيريا اللاتي يعملن مع شاركو: «كانت فتاة طويلة في الثلاثينيات من عمرها، لها رأس صغير وشعر مموج، وكانت شاحبة ونحيفة [...] كانت في مصحة سالبيتريير، مرتدية سترة المجانين ووشاحا على رقبتها. ثم أمر الأستاذ: «قوموا بتنويمها!» فوضع المساعد الواقف وراءها يديه للحظة على عينيها [...] وفجأة، نامت. كانت نائمة وهي واقفة بصلابة. كان جسدها التعس يتخذ كافة الأوضاع التي يؤمر بها، فإذا مددنا ذراعها تبقى ممددة، وكأن كل عضلة تمس تحرك الواحدة تلو الأخرى، بما فيها أصابع اليد التي ظلت مفتوحة وساكنة. كانت تشبه تماثيل العرض في المحال ولكنها الأكثر طوعا ومرونة على الإطلاق. ويؤكد شاركو: «لا توجد وسيلة لخداعنا، فيجب أن تكون هي أيضا على دراية بالتشريح مثلنا.» كانت تشبه الآلي البشري البائس واقفة في منتصف الدائرة التي رصت حولها مقاعدنا، وكانت خاضعة لأي أمر، وتتغير تعبيرات وجهها باختلاف الحركة التي نفرضها عليها! فتضع أصابعها على فمها وكأنها تقبل أحدا، وتبتسم شفتاها ويضيء وجهها، ثم تغلق كفها بتشنج وكأنها تهدد أحدا، فتقطب جبينها وينفث أنفها بغضب مرتعش. «يمكن أن نفعل هذا أيضا ...» يقول الأستاذ وهو يرفع قبضتها كمن يتهيأ للضرب ويربت في ذات الوقت على يدها اليمنى بحنان. وعندها يتحرك الجسد كله يهزه شعوران مختلفان؛ أحدهما غاضب والآخر رقيق، وكأنه قناع طفولي يضحك باكيا [...] ثم يقول شاركو: «يجب عدم إرهاقها ، هيا أحضروا بالمان.» ولكن عاد المساعد بمفرده؛ لأن بالمان رفضت المجيء، بعد أن غضبت لاستدعاء داريت قبلها. فبين هاتين النجمتين المريضتين بالتصلب - اللتين كانتا أول من استخدمهما شاركو في مصحة سالبيتريير - تستقر غيرة شديدة، بل وأحيانا شجارات ومشاحنات داخل غرفة الغسيل حيث كانتا تتبادلان بعض التعبيرات القاسية؛ متسببتين في حالة هياج عامة داخل المهجع.»
16
أما ليون دوديه، فينتقد بقسوة الأستاذ ومساعديه. ويبدأ بالأستاذ: «كان وصول المدير كل صباح «حدثا بسيطا»، أمرا يشبه - على أقل تقدير - دخول نابليون لصالونات البلاط في حفل مسائي: «أيها السادة! الإمبراطور !» وكان لشاركو بالفعل - بوجهه الرائع شديد الانتظام والحزم المخلوق لنيل الميداليات والتحلي بالنياشين - هذا النوع من المهابة التي تسمى النفوذ. فكان يمد إصبعين لمدير العيادة، وإصبعا واحدة للأطباء المتدربين، ملقيا نظرات ازدراء للمساعدين، محاولا رسم ابتسامة غامضة أثناء حديثه مع زملائه الأتراك والأرمن والألمان والإنجليز واليابانيين الذين يقدمونهم إليه.»
17
والآن ها هن مريضات الهستيريا - «مريضات شاركو»: «كانت النساء اللاتي يدخلن سالبيتريير، واللاتي يرسلهن إليه زملاؤه من باريس أو البروفانس ينتمين إلى فئة الخادمات العصبيات، والمحملات فوق الطاقة أو حارسات العقار أو قارئات أخبار الحوادث، أو فتيات أو شابات على نمط «مدام بوفاري» من الطبقة البرجوازية؛ يرغبن في أن يصبحن محور الأحاديث بعد أن سمعن عن المرض الشهير في الصحف المنتشرة التي يباع العدد منها بخمسة سنتيمات، ولم يكن يعرفن أنه يجب «بالضرورة» أن يكن مصابات بالمرض. وفور وصولهن يدركن من رفيقاتهن أنه لا يكفي السقوط والصراخ مع لي الذراعين، بل ويجب «التقوس» والارتماء على الأرض سائلات اللعاب ورءوسهن ملقاة للخلف. كان ذلك هو مرض التخشب الجسدي، إلا أن مصابات التخشب (اللاتي يغفلن المرحلة الأولى عن جهل) كن يدركن على الفور أنها - وهي المرحلة الخاملة - تسمح بالدخول إلى فئة الموضوعات المثيرة بالفعل، في حين أن المرحلة الثالثة - الخاصة بالسرنمة - تؤدي مباشرة - إذا أتممن هدفهن - إلى الكثير من الهدايا الصغيرة. كان من المعروف أنه بمجرد أن يضغط أحد الأطباء المتدربين على بطن المريضة بقبضتيه (أي على مبيضيها ) كان من المفترض أن تهدأ تدريجيا وهي تبكي وتئن. كان هذا الأمر يشبه الفن الطفولي، وكان المرضى ينجحون فيه ببراعة» (ليون دوديه).
كانت لوحة بروييه الشهيرة - «درس إكلينيكي بسالبيتريير» - قد عرضت في صالون عام 1887 الفني، في الوقت الذي بلغ فيه شاركو أوج مجده. وفي النصف الأيسر من اللوحة، نجد الأطباء والمساعدين الذين أتوا بأعداد كبيرة جالسين في جدية وانتباه، بينما يظهر شاركو واقفا في النصف الأيمن من اللوحة وإلى جانبه خليفته بابينسكي. كانا يمسكان بإحدى مريضات الهستيريا الشهيرات - بلانش وايتمان - وهي ضحية نوبة عنيفة. وفي أقصى اليمين - بالقرب من النقالة - كانت تقف الآنسة بوتار - المشرفة العامة - وهي تمد يدها خفية نحو هذا الجسد المغشي عليه وهذا الصدر نصف العاري وقد سلط عليه الضوء واستسلم بالكامل لكل هؤلاء الرجال الذين يدرسونه. وبعد عامين، اكتشف فرويد - بفضل مرضى شاركو - الطبيعة الجنسية للعصاب.
ويشرح ليون دوديه أن هناك احتمالا كبيرا أن يكون شاركو أول من انخدع بهذه الأكذوبة التي وردت في مئات الكتب والقواميس. ولكن كيف؟ وبين السذاجة والعناد المغرور، لا يتردد دوديه في وصف شاركو بأنه «كان شديد الغرور وعلى قناعة شديدة بأنه مدهش.» في مذكراته، يذكر الطبيب السويدي آكسل مونت - أحد تلاميذه القدامى - الأمر نفسه فيقول: «لم يكن شاركو يعترف أبدا بأي خطأ، وويل لمن كان يجرؤ على التلميح بأنه أخطأ.» وينتقد مونت أيضا «تلك الخدعة السخيفة» عن العروض التي كان ينظمها في سالبيتريير. وسنلاحظ أن الشخصية الوحيدة في سالبيتريير التي راقت لليون دوديه (الذي كان قد رسب في مسابقة اختيار الأطباء المتدربين) هي الآنسة بوتار، التي شبهها «بقديسة علمانية، لها تفان مطلق يستحق إعجابي. كانت متعلقة بهؤلاء البائسات اللاتي يمثلن وهن ضحايا، كانت تشعر إزاءهن بصبر واهتمام غير عاديين. يمكن القول بأنها هي الوحيدة التي ذاقت النعيم على الأرض!»
بالنسبة إلى شاركو، فإن الهستيريا هي الشرط اللازم للقيام بالتنويم المغناطيسي، ومن ثم فلا يمكن الفصل بين دراستهما ولا نقدهما. ولقد ازداد ثبوت الفكرة في عام 1882، حينما قدم بيانا لأكاديمية العلوم صاغ فيه قوانين الهستيريا الصغرى والكبرى، وأيضا قوانين التنويم المغناطيسي البسيط والعميق. وكان ذلك هو بداية اندلاع أحد أعنف الخلافات التي هزت عالم الطب: المعركة الشرسة بين مدرسة سالبيتريير ومدرسة نانسي. ولقد نشأت الأخيرة على يد أوجست ليبو (1823-1904) - الطبيب المعالج بالتنويم المغناطيسي - والذي لم يسلم من اتهامه بالشعوذة. كان قد جاء في عام 1882 ليستقر في مدينة نانسي. ثم جاء إيبوليت بيرنهيم (1840-1919) - وقد أثاره نجاح «عيادة الطبيب ليبو» - ليكشف لديه لإصابته - كما يقال - بعرق النسا. وسرعان ما أصبح بيرنهيم صاحب نظرية «مدرسة نانسي» الرافضة لكل الطرق التي تستخدم السوائل والمغناطيس، مؤكدا أن النوم المغناطيسي أو المفتعل إنما هو حالة فسيولوجية يمكن تطبيقها على أي فرد اعتمادا على آلية الإيحاء. كان ذلك هو النفي التام لنظرية شاركو. أما عن الجلسات الشهيرة التي كانت تعقد في سالبيتريير، فيشكو طبيب أمراض عقلية بلجيكي: «هناك الكثيرون مثلي لم يستطيعوا محاكاتها في ظروف عادية.»
18
وفي النهاية يقول بيرنهيم: «إن التنويم المغناطيسي في سالبيتريير إنما كان عملا مصطنعا، نتيجة للتدريب.» أما المسكنات المهدئة للحواس، فهي «اختراع بحت لهدف الاستكشاف الطبي.»
واستمر الجدل حتى بداية القرن العشرين، محيطا أعمال شاركو جميعها بنوع من التشكك حتى قبل وفاته عام 1893. ويبدو أنه - قبيل وفاته - اعترف شاركو - على حد قول سكرتيره جورج جينون - بأن «مفهومه عن الهستيريا أصبح قديما، وأنه من الأفضل تجاوز هذا الفصل من تاريخ الطب العصبي الباثولوجي». وأصبح على من تبعوه إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فكره، فالإرث الذي تركه كان عظيما حتى وإن كان يعيبه «تفكيكه للهستيريا»، على حد تعبير جوزيف بابينسكي (1857-1932) - الابن الروحي لشاركو والخصم اللدود لبيرنهيم، على الرغم من أنه يبدو أنه اقترب إلى أفكاره في النهاية. ألم يطرح بنفسه في عام 1901 فكرة اعتماد الاقتراح الذي يهدف إلى «استبدال» مفهوم خلل المظاهر الوظيفية المصاحب للمرض العصبي بلفظ الهستيريا؟ إلا أن الهجوم المضاد الواسع الذي شنه زملاؤه في مشفى سالبيتريير انتهى برفض الاقتراح وعزل بابينسكي (وإن عاد مفهوم «خلل المظاهر الوظيفية المصاحب للمرض العصبي» بقوة أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى كنوع من التلطيف للاسم). بينما اتجه فيلجينس ريموند (1844-1910) - الذي خلف شاركو - وبيير جانيه (1859-1947) نحو نظرية ترجع العصاب إلى أصل وأعراض باثولوجية نفسية.
كان جانيه - الفيلسوف والمتخصص في علم النفس - قد دخل مبكرا عالم أطباء الأمراض العقلية، عندما ناقش في عام 1889 رسالته حول «الحركة التلقائية اللاإرادية النفسية» (بمعنى أنها نابعة من اللاوعي)؛ «بحث عن الأشكال البسيطة للنشاط الإنساني». وبدأ بعدها في دراسة الطب، وانتهى عام 1893 من رسالته: «إسهامات في دراسة الإصابات العقلية لمرضى الهستيريا». وقبل هذا التاريخ كان قد بدأ يتردد بكثرة على شاركو، الذي أنشأ من أجله معملا لعلم النفس التجريبي بسالبيتريير. «وبعيدا عن المدارس الصاخبة لشاركو أو بيرنهيم»، فتح جانيه طريقا ثالثا، مؤكدا على الطبيعة النفسية للهستيريا وعلى ضرورة وجود طريقة لملاحظتها نفسيا. كان يحلم دائما بمشروع توحيد الطب العقلي وعلم النفس، منتقدا أطباء الأمراض العقلية لأنهم «لم يتطرقوا للبعد النفسي للمرض العقلي إلا لخفض الانفعال النفسي» (كلود بريفو). ومنذ عام 1901، وضع تعريفا للنوع الآخر من العصاب الحاد: الوهن النفساني (الفزع والوسواس والشك والكبت والهوس العقلي و«غياب القرار والإرادة واليقين والتيقظ»)، وهو مصطلح من اختراعه يستبدل به لفظ الوهن العصبي. وفي تصنيفه الكامل لأمراض العصاب (1909) - الذي يعرفه بكونه «اضطرابات أو توقفا في تطور الوظائف» - يضع الوهن النفسي إلى جوار «الحالة العقلية لمرضى الهستيريا»، إلا أن هذين النوعين من العصاب يمكن وجودهما لدى المريض نفسه.
خلف جول دوجورين (1849-1917) ريموند عام 1911. وهو العام الذي نشر فيه «المظاهر الوظيفية لمرضى الذهان العصابي وشفاؤهم بالعلاج النفسي». انتهى عصر الهستيريا في الغرف المغلقة. ويقول دوجورين لاحقا: إن «الأعراض التي تميز الهستيريا الكبرى لم تستمر على الإطلاق لأكثر من أسبوع خلال خدمتي.» فمن الآن فصاعدا، أصبح التركيز ينصب كله على الأصل النفسي للعصاب؛ مما يفسر الاسم الجديد «الذهان العصابي»، الذي ينتزع الهستيريا من مجال علم الأعصاب ليجعل منها عصابا نفسيا بالكامل. ومن جانبه، كان بول ديبوا (1799-1873) - المعروف بديبوا من بيرن - قد نشر عام 1904 «الأمراض الذهانية العصابية وعلاجها النفسي.» كانت تلك عودة غير متوقعة إلى العلاج النفسي المعنوي، الذي يقوم على مبدأ أن العلاج النفسي المعقول يعتمد على إقناع المريض ذي الطبع غير العقلاني بالآلام التي يشكو منها. لم يقصد دوجورين هذه الطريقة، مفضلا تعزيز ثقة ويقين المريض في طبيبه. «كل شيء يحدث على مستوى العاطفة» (تريا)، خاصة في العلاج كما في حدوث الذهان العصابي الذي يندرج تحته الهستيريا والوهن العصبي (الذي يفصله عن الوهن النفسي كما ذكر جانيه والذي يقوم على الوساوس، بينما ينتج الوهن العصبي بناء على اضطرابات وظيفية)، وأيضا مرض فقدان الشهية العقلي .
ماذا كانت حال مدرسة نانسي - التي يسميها بابينسكي «الجامعة القروية» - في مواجهة مدرسة سالبيتريير؟ كانت نانسي محل جذب لكثير من الأطباء - خاصة الأجانب - الذين اهتموا بالطرق العلاجية هناك، والتي قامت نجاحاتها على فكرة الإيحاء، بعيدا عن أي «ضعف» في الجهاز العصبي أو أي هستيريا. ويتيح الإيحاء تركيز انتباه المريض على أي جزء من جسده المريض. ويذهب بيرنهيم إلى مدى أبعد من ذلك، مؤكدا في النهاية أن التنويم المغناطيسي ليس سوى تلاعب بالإيحاء عن طريق النوم المصطنع أو من دونه؛ أي من دون تنويم - الذي أصبح لاحقا إحدى الطرق العلاجية. ومن بين الأطباء الذين كانوا يترددون على مصحة نانسي، نذكر على وجه التحديد سيجموند فرويد (1856-1939) الذي قضى هناك عدة أسابيع أثناء صيف عام 1889؛ «بهدف إتمام دراسة تقنية التنويم»، وفقا لما ذكره بنفسه في مذكراته.
19
كان فرويد قد التحق أيضا بالخدمة التابعة لشاركو في الفترة من أكتوبر 1885 وحتى فبراير 1886. ولقد انبهر بالأستاذ و«سحره» - على حد قوله. وبعد شهرين من هذا التدريب، افتتح عيادته الخاصة بفيينا. وكانت أعماله الأولى تتناول الهستيريا. وفي الخامس عشر من أكتوبر 1886، عقد مؤتمرا حول الهستيريا الذكورية. ولقد فتح اكتشاف الهستيريا أمامه أبواب علم النفس الباثولوجي. «إن نظرية التحليل النفسي برمتها هي وليدة الهستيريا» (تريا). في فيينا، توطدت العلاقة بين فرويد وعالم الفسيولوجيا جوزيف بروير (1842-1925). ونشرا معا كتاب «دراسات حول الهستيريا» عام 1895، الذي يبدأ بقصة آنا و... (برتا بابينهايم) التي تولى بروير علاج الأعراض الهستيرية لديها دون اللجوء للإيحاء، مستخدما حالات من «التنويم التلقائي»، والتي تسميها المريضة ذاتها ب «العلاج بالكلام» أو ما يشبه «تسليك المدخنة». وسرعان ما تلاشت الأعراض الهيستيرية شيئا فشيئا كلما سلط الضوء على الظروف التي صاحبت ظهورها لأول مرة. من هنا اخترعت طريقة «التفريغ» (نتذكر فكرة التنفيس لدى أرسطو). ويبقى استنتاج الأطر النظرية، مثل معرفة العامل المحدد للحالة العقلية والعصبية للمريض لحظة وقوع الصدمة النفسية والطريقة التي استقبلت بها الصدمة. وبينما يتمسك بروير بفكرة لحظة وقوع الصدمة، يهتم فرويد بطريقة تلقي الصدمة. فما يهم لدى فرويد هو القيمة التي يمثلها الحدث بالنسبة إلى المريض.
في سبيل معرفة معلومات من المريض، لا يعرفها الطبيب ولا المريض نفسه،
20
تخلى فرويد عن طريقة الإيحاء تحت التنويم، التي هي - على حد قوله عام 1904 - «طريقة غير أكيدة، ولها طابع غامض»، وأيضا لكونها تتم مباشرة دون «مقاومة» تتعارض مع إعادة اندماج الذكرى في مجال الإدراك، وتعيق استحضارها. ولذلك، كان يفضل طريقة التفريغ أو ما يسميها ب «طريقة التداعي الحر» عن التنويم المغناطيسي. (كان فرويد يعتقد بالتالي «أن تاريخ التحليل النفسي يبدأ في اليوم الذي ظهرت فيه طريقة مبتكرة تتخلى عن التنويم المغناطيسي».)
21
ويستخدم فرويد مصطلح «الهستيريا الدفاعية» (التحويل) عندما يتسبب الصراع النفسي للمريض «الذي يدافع عن نفسه» (عن طريق استبعاد الصورة غير المقبولة من الوعي) في إنتاج ظواهر بدنية ثابتة (خدر أو شلل أو تقلصات). ولقد أكد بروير وفرويد عام 1895 في كتابهما على الطبيعة الجنسية لهذا «الدفاع» أو هذا «الكبح»: «تلعب المشاعر الجنسية دورا حاسما - وفقا لطب الهستيريا الباثولوجي - فهي مصدر الصدمات النفسية والعامل المحرك لرفض وكبح بعض الصور خارج نطاق الوعي.» واستكمالا للفكرة ذاتها، ميز فرويد المشاعر الجنسية الطفولية، باحثا عن الصدمة النفسية الأصلية. «كانت نظرية التحليل النفسي بأكملها في طور التكوين خلال هذه الفترة الخصبة، وكانت الهستيريا هي التربة التي نمت فيها» (تريا). وسرعان ما تخلى فرويد عن فكرة حقيقة الصدمة الجنسية، وإن ظل مقتنعا «بحقيقتها النفسية». «كون الوهم - الذي يعطيه المريض هيئة الواقع - يتسبب في أعراض حقيقية؛ يثبت مدى قوى وثقل وقدرة «الحقيقة النفسية»» (تريا).
يجب ألا نستنتج من هذا أن فرويد - متقدما بعمق فيما سيصبح التحليل النفسي - لم يكن يهتم بالعصاب ككل. وانطلاقا من مفهوم «الدفاع» في الذهان العصابي وصولا إلى دراسة لأعراض المرض (التي كانت على العكس نقطة انطلاق الأطباء الإكلينيكيين لدراسة الهستيريا)، يميز فرويد بين ثلاث مجموعات: الهستيريا، والخوف المرضي والوساوس، والذهان. وفي الذهان، «تنتزع الأنا من الصورة غير المتوافقة، وإن ظلت الأخيرة مرتبطة بشدة بجزء من الواقع، ولا سيما أن الأنا - أثناء القيام بهذا الأمر - تنفصل أيضا كليا أو جزئيا عن الواقع.»
22
وفي عام 1895، شرع فرويد في دراسة إكلينيكية تهدف إلى فصل مجموعة أمراض العصاب التي يسميها «عصاب الفزع»
23
عن الوهن العصبي.
في عام 1904 - بعد صدور كتاب «تفسير الأحلام» عام 1900 - «أصبحت الأعراض الهستيرية بالنسبة إلى فرويد بقايا أو رموزا لبعض الأحداث؛ أي رموزا تذكارية [...] ولا يدري المريض - الذي يرسل رسائل مشفرة (أي الأعراض) - معناها؛ ولذلك يستطيع إنتاجها لأنه يجهل مغزاها. فإذا عرف معناها، وقبلت الأنا هذا المعنى، فلن يكون في حاجة للأعراض. ويكون على المعالج ممارسة دور الوسيط أو المترجم في محاولة لجعل الأنا تتقبل المعنى المختفي وراء الأعراض؛ التي تختفي بمجرد انتفاء سببها. ولا يكون مريض الهستيريا بعد في أرض عدوة، وإنما يتصالح مع الأنا. وبالوصول لهذه النقطة، لا نعلم ماذا يخص مريض الهستيريا وماذا يخص نظرية التحليل النفسي. «فالمرض» يختفي في النظرية وفي الطريقة التحليلية، وتصبح الهستيريا هي التحليل النفسي» (تريا).
الذهان
في البداية كان لمصطلح «الذهان» - الذي اخترعه إرنست فوشتيرسلبين عام 1845، وقبل أن يعمم استخدامه في القرن التاسع عشر - معنى أوسع يقصد به - على «عكس العصاب» - الاضطراب العقلي الدائم، والذي يؤثر على شخصية المريض بشكل عام (الهذيان). ومن هذا الكيان متعدد الأشكال شديد الشمول، خرجت فئات محددة، لن نذكر في هذا الباب إلا أهمها.
24
ولنبدأ بتصنيف الأمراض الذي وضعه إسكيرول، والذي يقسم الأمراض العقلية إلى أربع مجموعات أساسية: البله والخبل والهوس والهوس الأحادي. وتعد المجموعة الأخيرة - الخاصة بالهوس بفكرة واحدة الناتج عن خلل اكتئابي كما قال بينيل - إضافة نظرية جديدة. ويتميز هذا النوع من الهوس بهذيان جزئي مزمن - مرح أو حزين - ولكنه قاصر على موضوع واحد (ولهذا السبب سمي الهوس الأحادي). ويقسمه إسكيرول إلى هوس أحادي فكري (ومن صوره «الكآبة المرضية المزمنة» أو الكآبة المصحوبة «بهذيان جزئي مزمن تسببه عاطفة حزينة منهكة ومضنية»)، وهوس أحادي عاطفي أو عقلي، وهوس أحادي غريزي (يضم الانحرافات المستقبلية). وفي ذات الوقت، يعطي إسكيرول للخيالات تعريفا لا ينتقص من قيمتها: «الشخص الذي يعتقد يقينا بوجود أحاسيس ملحوظة بداخله، لا يستطيع أي عامل خارجي آخر أن يثيرها فيه هو في حالة من الهلوسة» (أي إنها إدراك لشيء غير موجود). وعلى مدار القرن التاسع عشر، نشب جدل حاد حول مفهوم الهلوسة، اعتراضا على تشبيهها بالوهم.
ظل جميع أطباء الأمراض العقلية في الجزء الأول من القرن التاسع عشر، يفكرون ويكتبون حول مفهوم «الهلوسة المنظمة». وفي عام 1852، فصل لازيج هلوسة الاضطهاد عن باقي الأنواع. ولقد أصبحت هذه النظرية أحد محاور تصنيف الأمراض لمانيان: «الهذيان المزمن ذو التطور المنتظم.» في عام 1890، اقترح بول سيريو (1864-1947) - تلميذ مانيان - تقسيما ظل معمولا به حتى القرن العشرين: ذهان المضطهدين والمضطهدين (دون خيالات)، وهلوسة الاضطهاد المنظمة المصحوبة بالخيالات، وهلوسة الاضطهاد المنظمة غير المصحوبة بخيالات بناء على تفسيرات هلاوسية، وجنون العظمة المصحوب بخيالات أو لا. ويعد «الذهان المشترك» (أو «الجنون المتبادل») - الذي أوضحه بايارجيه عام 1860 - نوعا خاصا من هلوسة الاضطهاد المزمنة، ولقد قدم شارل لازيج وجول فالريه (ابن جان بيير فالريه) وصفا لهذا المرض عام 1877.
وأثناء عملهما حول دراسة الهذيان المنتظم عام 1911، وضع كل من جول سيجلا (1856-1939) وجيلبير باليه (1853-1916) وصفا للذهان المزمن المصحوب بخيالات. وفي عام 1920، طور جاتيان دي كليرامبو (1872-1934) - تحت تأثير أعمال باليه (ولكن دون أن يأتي على ذكره) - نظرية الحركة اللاإرادية التلقائية العقلية (ذهان قائم على حركات لاإرادية تلقائية)؛ حيث ميز بين الحركات اللاإرادية الصغرى - التي هي «توقف التفكير والتفكك الصامت للذكريات التي تفرض» على المريض - والحركات اللاإرادية الكبرى - وفيها يكون لدى المريض انطباع بأن هناك من «يعلق» على أفعاله، وكأن هناك من يستبق أفكاره. وفي الهلاوس التي تتوالى، لا يكون الهذيان إلا نتيجة. ولقد رفض جاتيان دي كليرامبو أي تفسير نفسي للذهان، بل وجعله قائما على عملية عضوية تتسبب في ألم متقطع في الخلايا العصبية.
لاحظ القدماء وجود نوع من الجنون يقوم على حالات هوس وكآبة متناوبة. وفي منتصف القرن التاسع عشر، تصارع جان بيير فالريه وجول بايارجيه (1809-1890) على أحقية كل منهما بالمفهوم الذي أطلق عليه الأول اسم «الجنون الدوري»، بينما أسماه الثاني «الجنون ثنائي الشكل». ويبدو أن الاثنين نسيا أن جريزينجر - منذ عدة أعوام مضت، تحديدا عام 1845 - كتب: «إن حالات الهوس والكآبة المتناوبة أمر شائع للغاية. فكثيرا ما نرى المرض يقوم على دورة من شكلين يتناوبان عادة بصورة متنظمة.»
25
وأخيرا، كان إيميل كرابلين (1856-1926) هو الذي قدم - عام 1899 في «بحث في الطب النفسي» - مصطلح «ذهان الهوس الاكتئابي».
لم يكن جنون العظمة ليستقر من أول وهلة. ولأكثر من قرن، ظل المصطلح - الذي وضعه الألماني فوجيل عام 1772 - مرادفا للجنون المصحوب بهذيان في ألمانيا، قبل أن يوضع تعريف للهذيان المنظم غير المصحوب بخيالات (مندل 1881). كان كرابلين أول من وضع تعريفا لجنون العظمة (بارانويا) أكثر تحديدا وقدرة على الاستمرار: «نظام هذيان محدد ومستمر يستحيل زعزعته، يتكون مع الاحتفاظ الكامل بوضوح الذهن وترتيب الفكر والإرادة والفعل.» في بداية القرن العشرين بفرنسا، انبثق منه مفهوم «الشخصية المريضة بجنون العظمة» الأقل تنظيما وحدة، والتي تتميز بتضخم الذات وعدم الثقة بالآخرين وعدم صحة الأحكام التي تصدرها. ومن جانبه، يصف إرنست كريتشمير (1888-1964) شكلا محددا من جنون العظمة، وهو «جنون العظمة الحسي»، يظهر لدى الأشخاص الضعاف الذين يميلون إلى الخجل والشك، ويؤدي إلى الإصابة بهلاوس الاضطهاد (المضطهد-المضطهد). ويؤسس كريتشمير علاقة ترابط كاملة بين الشكل البنيوي للفرد وأنواع الذهان الكبرى «الداخلية» (التي تحدث بدافع من الشخص نفسه المصاب بها، بغض النظر عن البيئة المحيطة به). كما نشر عام 1929 كتاب «العباقرة»؛ حيث يشدد فيه على الدور الإيجابي لاختلاط الأجناس . ولرفضه أي ضغط خارجي، استقال كريتشمير من منصبه كرئيس للجمعية الألمانية للطب النفسي الباثولوجي عام 1933 بمجرد وصول النازيين إلى السلطة. ووافق كارل يونج - الذي سنتحدث عنه لاحقا - على تولي المنصب من بعده.
يتبقى أهم أنواع الذهان: الذهان الذي يتطور من الخبل المبكر ليؤدي إلى الفصام. ولقد جاء متأخرا لقائمة تصنيف الأمراض، ولكنه سرعان ما انضم إليها. منذ عام 1832، لاحظ بنيديكت أوجستين موريل أن مشفاه يضم «عددا ضخما من الشباب من الجنسين مصابين بالخبل المبكر، وأن الشائع بين المرضى هو هذا الخبل الشبابي الذي أصبح يستخدم مثله مثل الخبل الذي يصيب المتقدمين في العمر.» وفي «بحث حول الأمراض العقلية» (1860)، قرر استخدام مصطلح «الخبل المبكر». وتماما مثل ذهان الهوس الاكتئابي، فهذا النوع أيضا يعد من الذهان الداخلي، الذي يمكن تعريفه بكونه «حالات مرضية مختلفة تطرأ بعد إصابة قوية للحياة العاطفية أو للإرادة، تتطور تدريجيا حتى تصل إلى التفكك التام للشخصية التي تأخذ شكلا أكثر عجزا» (بوستيل).
في ألمانيا، نشر كارل كاهلبوم (1828-1899) عام 1863 «تصنيف الأمراض العقلية»؛ حيث وصف مرضا عقليا جديدا ينتهي سريعا بالخبل، ويبدأ في الظهور في مرحلة البلوغ؛ ولذلك أسماه «العجز العصبي» (جنون الشباب). وبعد عدة أعوام، وصف كاهلبوم حالة من «الذهول» تصاحبها أعراض حركية، أسماها «جنون التوتر» أو «زيادة توتر العضلات». وبعد عشرين عاما، وضع كاهلبوم استنتاجا واسعا يستند إلى فكرة أن الطابع التطوري «للحالة النهائية» هو الذي يجب أن يحدد التصنيفات النفسية. في عام 1898، جمع تحت اسم «الخبل المبكر» العجز العصبي وزيادة توتر العضلات والخبل المصحوب بجنون العظمة. في البداية، لم يكن لهذه الأعمال صدى كبير في فرنسا؛ حيث سرى نوع من معاداة كل ما هو ألماني في الوسط العلمي الرافض بشدة للاعتراف بأسبقية موريل في الوصول إلى هذا المفهوم. ونجد في سجلات جريدة الطب وعلم النفس لعام 1915: «تنبهنا أن ألمانيا قبل أن تغزو أراضينا، منذ وقت طويل قد أدركت أهمية غزو عالم الأفكار، لتخضعه لما يسمى ثقافتها [...] لأنه يوجد بالفعل طب نفسي ألماني وطب نفسي فرنسي [...] لقد بنى الألمان معتقداتهم الجديدة من لا شيء [...] ولكنهم ظلوا كطبعهم جامعين لا يكلون لإنجازات الغير.»
26
في عام 1911، استبدل السويسري يوجين بلولير (1857-1939) - حين كان يرأس البيرجولزي بزيورخ منذ عام 1898 - بفكرة الخبل المبكر (ذي المعيار التطوري) فكرة أكثر ديناميكية وهي التفكك، مقترحا لها اسم الفصام (من اللغة اليونانية وتعني الفصل والذوبان). «أطلق على الخبل المبكر اسم الفصام؛ لأن أهم صفاته - كما أريد أن أثبت - هو تفكك الوظائف النفسية المختلفة.» ويميز بلولير بين الأعراض الدائمة والأعراض الثانوية: «لا تخلو أي حالة من اضطرابات العلاقات والمشاعر - بما فيها التوحد - وكأنها جزء لا يتجزأ من المرض؛ ولذلك تسمى أعراضا رئيسة. وإلى جانب هذه الأعراض، توجد أعراض ثانوية قد تظهر أو لا تظهر: الضلالات والهلاوس وأعراض توتر العضلات والإغماء التخشبي والذهول وفرط النشاط الحركي والرتابة والتصنع والسلبية (المقاومة المرضية النشطة أو السلبية لأي طلب داخلي أو خارجي).» لقد كتب يوجين مينكويسكي تلميذ بلولير (1885-1972): «إن مريض الفصام - وهو يعلم تماما أين هو - لا يشعر بوجوده في المكان الذي يشغله، بل لا يشعر بوجوده داخل جسده [...] فعبارة «أنا موجود» لا تعني شيئا بالنسبة له.»
27
لم يمر كل هذا بالطبع دون صراعات بين المدارس النفسية المختلفة؛ فدائما ما يتخذ المفهوم الجديد سريعا طابعا امتداديا، مستفيدا من الحدود غير الواضحة جاعلا إياها تتراجع دون توقف. وبسهولة جرى ضم العديد من الحالات العصية على التصنيف، حتى إن بلولير كان يتحدث عما يسمى ب «الفصام الكامن»، الذي اعتبره النوع الشائع من الفصام ولكن دون تحديد معايير التشخيص التي يجب أن تفرض عليه.
في الولايات المتحدة الأمريكية، تربع الفصام على عرش الأمراض العقلية. ولقد لعب السويسري أدولف ماير (1866-1950) دورا رئيسا في هذا الأمر. أثناء عمله في الولايات المتحدة، كان ماير معارضا لمفهوم كرابلين عن المرض الذي يشكل كيانا بذاته؛ ومن ثم كان رافضا لفكرة تصنيف الأمراض. وكان يعلم أن الاضطرابات العقلية إنما هي طرق إجابة (ردود فعل نموذجية) لا تتناسب مع المواقف المختلفة من منظور وراثي اجتماعي؛ ومن ثم يجب مساعدة المريض على بلوغ أكبر حالات التأقلم. وانفتح الباب أمام توسع جذري في المفهوم، لدرجة جعلت مينكويسكي يقول: «لقد تمادى الأمر حتى بلغ القول بأن الفصام - بسبب اتساع نطاقه - أصبح مرادفا للجنون. إنه أمر صحيح، مع الفارق أن الصفة «مجنونا» تعني مجنونا ليس أكثر، بينما تعني «فصامي»: كونه قابلا لأن نفهمه ونرشده [...] ولذلك نحن نعتقد أن الفصام يشكل خطوة حقيقية في الطب النفسي؛ لأنه يحرر، ليس فقط المريض، وإنما الطبيب أيضا من القيود التي فرضت عليهما منذ أمد بعيد بفعل مفهوم الخبل [...] ففقدان الاتصال بالواقع يتضمن فكرة إمكانية إعادة هذا الاتصال، سواء بالكامل أو على الأقل جزئيا.»
28
أما طب الأطفال النفسي،
29
ففكرته ذاتها لم تظهر إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وببطء شديد. فعلى مدار زمن طويل، كان الاعتقاد بالفعل بأن مشكلة الأطفال المتأخرين عقليا إنما هي مشكلة في التربية. كان هذا هو الحلم المستحيل لجان إيتار (1774-1838) - في عهد الإمبراطورية الأولى - من خلال «الطفل المتوحش» فيكتور ديلافيرون (الذي لم يكن طفلا مجنونا). ومن جانبهم، عكف إدوارد سوجين (1812-1880) وإيبوليت فاليه (1816-1885) على إيجاد ممارسة تطبيقية يومية للتعليم وللعلاقات العميقة مع الأطفال المتأخرين عقليا. ولقد قام ديزيريه بورنفيل بالأمر ذاته خلال حكم الإمبراطورية الثانية. إلا أن أول طريقة طبية نفسية بحق لم تتم إلا في عام 1888 على يد بول مورو دي تور (1844-1908، وابن الأول) عندما نشر أول وثيقة للطب النفسي للأطفال «الجنون لدى الأطفال». في بداية القرن العشرين، وضع الإيطالي سانتي دي سانكتيس (1862-1935) وصفا عام 1905 «لخبل مبكر» - يشبه الخبل الذي اكتشفه كرابلين لدى مرضاه الشباب - ولكنه يعد - على الرغم من الجدل الواسع الذي أثير حوله - أحد أوليات المحاولات للتمييز بين الحالات الذهانية لدى الأطفال. ولقد كان هناك الكثير من الأعمال الرئيسة التي مهدت لولادة طب الأطفال النفسي؛ منها أعمال ثيودور هيلير عام 1908 عن الخبل الطفولي، وأعمال جولييت لويز ديبير بين أعوام 1930 و1937 بمعهد نيويورك للطب النفسي، والتي وصفت فيها أول حالة لطفل مريض بالفصام.
الأبحاث الكبرى
كان عصر اليقين هو ذاته عصر الأبحاث الكبرى، فما من طبيب أمراض عقلية ذاع صيته إلا وأراد أن يؤلف بحثه الخاص. خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانت المدرسة الفرنسية هي السائدة، ولكنها بدأت تفسح المكان للمدرسة الألمانية ابتداء من نهاية القرن (كان ذلك على مضض، والدليل أن معظم الوثائق الألمانية لم تترجم إلى الفرنسية، حتى بعد الحرب العالمية الثانية).
لم يكن من اليسير الدخول إلى العالم المتشعب للتصنيفات الفرنسية، وهي الأكثر تنوعا بالطبع. كانوا يبالغون في كل شيء، فكل مشفى - وفقا لإحصاءاته - له تصنيف خاص به.
30
ولكي نظل في المجموعات الرئيسة، بدأنا بذكر تصنيف إسكيرول
31
وتصنيف موريل.
32
وتشترك المجموعتان - إلى جانب شهرتهما العالمية - في استخدامهما لطريقة مصورة مبتكرة: فيكون الرسام هو المسئول عن رسم الأنماط المختلفة للمريض عقليا (وهو ما أسماه البريطانيون - الذين قاموا بالعمل نفسه - علم فراسة المرض العقلي). في عام 1818، جعل إسكيرول جورج فرانسوا ماري جابرييل يصمم مجموعة قيمة من بورتريهات لمرضى الاعتلال العقلي بمصحة شارنتون. «إن الفراسة (الاستدلال على الطبع من الشكل) ليست مجرد فضول تافه؛ فهي دراسة تساعد على تمييز طابع الأفكار والمشاعر التي تتسبب في هذيان هؤلاء المرضى. وكم كانت مثيرة النتائج التي توصلنا إليها من هذه الدراسة! لهذا الغرض، قمت بعمل بورتريهات لأكثر من مائتي مريض، ولعلي أنشر يوما ما ملاحظتي عن هذا الموضع المدهش.» ولقد وصل إلينا منها سبعون لوحة بقلم الرصاص.
33
ولكن نادرا ما يصاحب هذه الصور تعليق، وإن وجد يكون موجزا للغاية: «رجل عسكري، أجريت له عمليه ثقب للجمجمة، وأصبح مريضا بالاكتئاب»، «هوجو - شقيق الشاعر - مصاب بالبله ...» أما عن التعبيرات، فلا بد من المزيد من الإرادة لتصوير الجنون - وهنا تكمن مشكلة «الصورة الثابتة» سواء الرسوم أو الصور الفوتوغرافية. في عام 1838، نشر إسكيرول سلسلة أخرى مكونة من سبع وعشرين لوحة مرسومة بالحفر لأمبرواز تارديو (صاحب اللوحة الشهيرة نوريس المريض بمصحة بدلام، والتي ذكرناها من قبل). في هذه اللوحات، كانت أوضاع المرضى أكثر تعبيرا ومحاكاة للمواقف: مرضى مقيدون في الكراسي، مريضة مرتدية سترة المجانين ... في ذلك الوقت - عصر الطب النفسي الرومانسي - كانت الغلبة للحس الجمالي على الملاحظة الإكلينيكية. نحو عام 1820 - وبناء على طلب جورجيه - رسم جيريكو عشرة بورتريهات لمرضى الاعتلال العقلي، من بينها «ضبعة سالبيتريير أو المريضة بهوس فكرة الحسد»،
34
وهي من بين خمس لوحات وصلت إلينا.
سار موريل على النهج نفسه، إلا أن الرسم - خارج نطاق الطب النفسي للعصر الرومانسي - لم يكن مقنعا بالقدر الكافي. كان الأمر يقارب فهرسة الأنماط المختلفة للأمراض. فها هو جان باتيست تي، الذي قالوا عنه: «إنه مريض بالبله ولكن لا تزال لديه القدرة على تنظيم بعض الأفكار تنظيما مرتبا. كان لديه نوع من الهوس الديني، يصاحبه ميول جنسية. إنها الغرائز المدمرة. كانت لديه تعبيرات ولغة خاصة.» كانت التعليقات مصحوبة بصور مليئة بالملاحظات، ولكننا لا نرى أيا من هذا في الرسم. ولن نراه بسبب ظهور التصوير الفوتوغرافي الطبي؛ ربما سنرى ما أراد الأطباء إظهاره. كان أول بحث في فرنسا يدعو على استحياء إلى تصوير المرضى هو «بحث عن الأمراض العقلية» لداجونيه، وقد طبع ثلاث مرات في الفترة من 1862 وحتى 1914. فلم يكن ينقص هذا المريض - وقد ارتسم على وجهه تعبير ذو مغزى واضح - إلا ثلاثة نياشين على صدره لإظهار أنه مصاب بهلاوس العظمة. وأيضا في ثلاثينيات القرن العشرين، نجد هذا المريض «المسافر» الذي وقف خلف دراجته في الصورة التي نشرت في مقال «للجمعية الإكلينيكية للطب العقلي». في الواقع، كان الجنون باديا عليه، كانت دراجته مرتفعة بصورة لا تتناسب مع قامته الضئيلة، ومزينة ببوق سيارة وشرائط كثيرة بالعجلات. ونظرا لكونها غير مقنعة من الناحية الإكلينيكية (وكيف لها ذلك؟) استمرت موجة تصوير أنماط لمرضى الاعتلال العقلي بشكل متقطع في أوروبا كلها حتى قبل الحرب العالمية الثانية. ثم، شرع الانهيار السريع لليقين في إظهار ما يسمى الطابع شبه العلمي للأنماط الشكلية للأمراض العقلية (ابتداء من بعض الصور الفوتوغرافية حول «انحطاط السلالة»).
ما هي أشهر البحوث الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر، في ظل «المنافسة» الألمانية؟ نذكر في البداية طبيب الأمراض العقلية الباريسي بنجامين بال (1833-1893)، الذي نشر عام 1883 وعام 1890 طبعتين من «محاضرات حول الأمراض العقلية»، وترجع أهميتها إلى كونها خلاصة معارف الطب النفسي للعصر. كما نشر - أحد مديري العيادات - إيمانويل ريجي (1855-1918) «الدليل العملي للطب النفسي»، والذي ظل يعاد طبعه بشكل متواصل من عام 1885 وحتى عام 1923، وازداد حجمه تدريجيا من ستمائة صفحة حتى ألف ومائتي صفحة. وكان أول كتاب يولي اهتماما - في طبعته الخامسة - بالتحليل النفسي، والمعروف منذ ذلك الحين ب «مذهب فرويد». عام 1895، ظهرت «محاضرات إكلينيكية حول الأمراض العقلية» لجول سيجلا، وهو عمل شديد التركيز والتجانس يضع إطارا دلاليا حقيقيا (تصنيف فعلي للأعراض) للأمراض العقلية. ولقد ظل تأثيره ممتدا على المدرسة الفرنسية.
كان يتعين ذكر كافة أطباء الأمراض العقلية الفرنسيين الكبار، ولكننا سنذكر على وجه التحديد جيلبير باليه الذي جمع في «بحث حول المرض العقلي الباثولوجي» (1903) أسماء كبار أطباء الطب النفسي في ذلك العصر. قبل الحرب العالمية الأولى، نلاحظ أيضا صدور «الوثيقة الدولية لطب النفس الباثولوجي» الضخمة (3000 صفحة) تحت إشراف أوجست ماري (1865-1934)، جامعا فيها أشهر العلماء الفرنسيين والأجانب (في سابقة هي الأولى في فرنسا). وتوالى إصدار البحوث واتسع مداها في الفترة ما بين الحربين، ولكنها سرعان ما قلت تدريجيا بعد زعزعة اليقينيات الطبية النفسية.
وتمتلك جميع البحوث الفرنسية عاملا مشتركا في كونها تشكل مجموعة جيدة، دون أن تكون متألقة لإسهاماتها النظرية الخاصة. لم يكن الأمر كذلك مع البحوث الألمانية التي بدأت في الظهور بعد حرب عام 1870، وفيها يمكن التمييز بين تيارين: الأول الذي يفضل - وفقا لموريل - نظرية الانحطاط (على سبيل المثال «الكتاب المدرسي في الطب النفسي» في عام 1879 لريتشارد كرافت إبينج)، والثاني يميل - على خطى كارل ويستفال (1833-1890) - إلى نظريات الطب النفسي الباثولوجي الجديدة. ولكن يظل إيميل كرابلين المعلم الذي ليس عليه خلاف في المدرسة الألمانية، بل وفي مجال علم تصنيف الأمراض النفسية على مستوى أوروبا (أي عالميا). في عام 1883، نشر «بحث في الطب النفسي» صدرت منه ثماني طبعات حتى عام 1915، وفي كل طبعة كان يضيف المزيد من النظريات الجديدة. ومن بين الأبحاث العديدة التي ظهرت في ذلك الوقت، يجدر الإشارة إلى «وثيقة آشافنبرج» - وهو عمل جماعي ظهر ما بين عامي 1911 و1913 - حيث جاء المقال المؤسس لبلولير حول الخبل المبكر. أما كارل ياسبرز (1883-1969) - فيلسوف وعالم نفسي - فقد نشر عام 1913 مقالا في الطب النفسي الباثولوجي، اقترح فيه - بأسلوب نقدي جذري لمفاهيم الطب النفسي - طريقة ظواهرية للأمراض العقلية، تقوم أكثر على فهم العلاقات ذات المغزى للأنا المريضة بالعالم، أكثر من العكوف على دراسة الأسباب (بي موريل). لم يترجم العمل إلى الفرنسية إلا بعد عشرين عاما، بينما ترجمت هذه البحوث إلى الإنجليزية والإيطالية، محدثة أثرا عظيما على الطب النفسي في هذه البلاد.
آفاق جديدة
دائما ما يبحث الطب النفسي الناجح - إلى جانب ولعه بالتصنيف والعمق النظري - عن آفاق جديدة يستغلها. وكثيرا ما تفرض عليه بعض هذه الآفاق نظرا لأهمية وجودها داخل مصحات الأمراض العقلية. كانت هذه هي حالة إدمان الخمور. وسنقيس ونناقش لاحقا أثره على معدلات احتجاز المرضى، ولكن التركيز هنا سيكون على النظريات النفسية الباثولوجية التي انتهت بضم السكر وإدمان الخمور إلى مجال الطب النفسي. لم يكن مفهوم «الجنون الكحولي»، أو بالأحرى «جنون السكارى»، مجهولا تماما في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. في عام 1813، كان هناك وصف للهذيان المصحوب بارتجاف، وفي عام 1819 جرى توضيح سببها المتعلق بالخمور. في عام 1830، نشر لوفييه «تاريخ جنون السكارى». كان السكر حتى ذلك الحين مشكلة اجتماعية بسيطة، ولكنه أصبح منذ تلك اللحظة موضوعا طبيا. إلا أن مصطلح «إدمان الخمر» لم يظهر في الحقل الدلالي للطب النفسي إلا على يد الطبيب السويدي مانيوس هاس (1852) (تاريخ إدمان الخمور). «يعد مصطلح «إدمان الخمور» لفظا جديدا مناسبا؛ لكونه يوفر استخدام كنايات طويلة مثل «التسمم بواسطة مواد كحولية» أو «فعل الخمر»، إلخ. ومن جانب آخر، فهو يكون مجموعة مرضية ويحددها ككيان ظل حتى تلك اللحظة غير واضح، جامعا عددا كبيرا من العناصر المختلفة على أساس من تصنيف الأمراض.» وهكذا، في رسالته في الطب،
35
يحيي فيكتور ألكساندر راكل أعمال مانيوس هاس من بين الكثيرين. ومن الطريف ملاحظة أن أول من اهتم بهذا الموضوع من الأطباء الفرنسيين كان طبيبي الأمراض العقلية: موريل ورونودان.
36
والاضطرابات العقلية التي يسببها إدمان الخمور هي التدهور الفكري، والذي قد يتطور حتى الخبل والضلالات وحالات الهياج الغاضبة والميل إلى الانتحار. ولقد أولى الكثير من أطباء الأمراض العقلية عناية كبيرة لهذا الموضوع. وهكذا في إحصاءاته لمصحات الأمراض العقلية، يميز مانيوس بين ثلاثة أنواع «لإدمان الخمور النفسي»: الإدمان الحاد والإدمان شبه الحاد (المصحوب بهذيان) والإدمان المزمن. ويحتل إدمان الخمور مركزا هاما في نظرية الانحطاط العقلي. «النقص المخي - وهو السبب المباشر للإفراط في الشرب - يرجع عادة لأسباب وراثية؛ أي إن شاربي الخمور مرضى، (وعلى الجانب الآخر) فإن إدمان الخمور يعد أحد أقوى أسباب الانحطاط العقلي؛ أي إن أبناء مدمن الخمور يكونون مرضى.»
37
ولقد قادت هذه الحلقة المفرغة الطب العقلي إلى بحث يعطي وضعا متميزا لفكرة دراسة الأسلاف على حساب الدراسة الإكلينيكية؛ مما جعل تصنيفه غير محدد وشموليا. وسرعان ما انتقده بعض أطباء الأمراض العقلية مثل جول سيجلا. ولقد أدى الربط بين الهذيان وشرب الخمر إلى استنتاج لا يتغير بوجود جنون كحولي يصيب الشخص ذا الاستعدادات الوراثية.
إلا أن علم الدلالة العصبي النفسي لم يتوقف عن التقدم: اضطراب كحولي شبه حاد، متلازمة أعراض كورساكوف عام 1889 (ذهان لأسباب متعلقة بإدمان الكحول ويتسم باضطرابات في الذاكرة يصاحبها اضطرابات عصبية)، أفكار ثابتة لما بعد الأحلام، هذيان يصيب الثملين، إلخ. لم يبدأ تراجع مفهوم «الجنون الكحولي» إلا بعد عام 1920، بالتوازي مع مفهوم الانحطاط العقلي. وفي إحدى الرسائل الجامعية في الطب
38
عام 1923، نقرأ: «كنا مضطرين إلى استبعاد عدد كبير من المرضى شاربي الخمور، إلا أن إصابتهم كانت تتفاقم بعيدا عن عامل إدمان الخمور.» ومن الآن فصاعدا، ساد تصور جديد لتصنيف الأمراض أكثر تحديدا، رابطا الإصابات المتعلقة بإدمان الخمور بجدول إكلينيكي طبي نفسي محدد.
لم يكن من الممكن بالطبع عدم ضم إدمان المخدرات - الذي ظهر حديثا - إلى مجال الطب النفسي في القرن العشرين.
39
كانت نشأة هذا النوع من الإدمان نتيجة للحماس الشديد لظهور المهدئات، ولا سيما المستخدمة في التخدير (أثناء معركة واترلو عام 1815، كانت تجرى العمليات الجراحية وعمليات البتر من دونها). ومنذ تلك اللحظة، بدأ الأثير والكلورال والكلوروفورم والمورفين والكوكايين والهروين يتسببون في أنواع معينة من الإدمان. أثناء الحرب العالمية الأولى بفرنسا - في الوقت الذي كان كل ما يهم هو «إنقاذ السلالة» (التي كانت تجري التضحية بها داخل الخنادق في الوقت ذاته) - جرى التصويت على قانون في السادس عشر من مارس 1915 يحظر شرب الأفسنتين (كنا نتحدث حينها عن إدمان الأفسنتين)، وآخر في الثاني عشر من يوليو 1916، وجاء فيه مفهوم «مواد مخدرة» وكان يضم الجدول رقم «ب» (التصنيف القديم للمواد والأدوية المخدرة).
الأفيون هو أقدم المواد المخدرة، وهو موجود منذ قرون في تاريخ العقاقير (خاصة في صورة اللودونوم)، حتى قبل ظهور إدمان الأفيون في إنجلترا في مطلع القرن التاسع عشر. أما الحشيش، فقد كان يستخدم في البداية في الطب النفسي كما رأينا مع مورو دي تور، وقد كانت طريقته تقوم على إعادة إنتاج الحلم تجريبيا. في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، تراجع الأفيون والحشيش إلى المرتبة الثانية بعد ظهور مواد مخدرة جديدة (حتى استعاد الحشيش رونقه خلال سنوات الهيبية). شهد المورفين (مستخرج من الأفيون) - «الصنم الأسود» - انتشارا واسعا بين 1875 و1900. بدأ اكتشافه في بدايات القرن التاسع عشر، وتطور الأمر حتى أصبح مسببا للإدمان ابتداء من منتصف القرن. ولشدة فعاليته في مقاومة الألم، أصبح المورفين يستخدم بكثرة مع جرحى حرب عام 1870، ومنذئذ أصبح «متاحا للعامة». وعلى عكس باقي المواد المخدرة المعاصرة - التي كانت حكرا على المهربين - كان المورفين في نهاية القرن التاسع عشر يوصف قانونيا على يد الصيادلة والأطباء، ومن بينهم تكونت مجموعة كبيرة من مدمني المورفين (نلاحظ أن نظرة المجتمع السيئة لهذا الأمر لم تكن بنفس قوتها بالمقارنة مع القرن العشرين).
وفي الولايات المتحدة الأمريكية تم سريعا حظر الهروين - منتج مركب من المورفين ظهر عام 1898، بينما كان يوصف في فرنسا عام 1920 كعلاج ضد الأرق والصداع النصفي. أما الكوكايين - الموجود من عام 1859 - فقد شهد في البداية - على شكل نبات الكوكا - نجاحا تجاريا وفيرا حينما دخل في صناعة نبيذ مارياني. وهنا أيضا نجد أن استخدام الكوكايين كان قانونيا؛ مما أخر ظهور مصطلح إدمان الكوكايين. كان الكوكايين محتفى به دائما، بل وقبل الحرب العالمية الأولى كان يمكن شراء «الثلج» أو «الكوكو الرائع» داخل ملاهي بيجال ومونبارناس. كان لإدمان الأثير - الذي «يهدئ الأعصاب المتوترة» - أتباعه أيضا. فموباسان مثلا كان مدمنا حقيقيا للأثير، لدرجة أنه في شمال أيرلندا افتتحت ملاه خاصة لتعاطي الأثير. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت أنواع إدمان البربيتورات تزداد؛ مسببة نوعا من التراجع في تعاطي المواد المخدرة السالف ذكرها ، إلا لدى المهمشين بالمعنى الأوسع للكلمة.
ثم جاء التطبيب النفسي، مرتبطا بالنموذج الإكلينيكي لإدمان المورفين، والذي عرف مرة بكونه اضطرابا نفسيا جسديا ومرة عصابا مستمرا ومرة ذهانا. ويرى الأطباء - ومدمنو الخمور أيضا - أن مصحة الأمراض العقلية ليست المكان المثالي للعلاج، في انتظار طرق بديلة قد تبدو غريبة. وهكذا، كان يوصف لعلاج مدم ني المورفين مواد مثل البروم والزرنيخ والكحول والحشيش والكوكايين والأثير والهروين ... كما كانت تطبق طرق الإيحاء في حالات اليقظة، وحتى التنويم المغناطيسي، ولكن الأمر كان كما يقول شامبارد عام 1890 «كمن يوحي للجائع بأنه ليس جائعا أو ظمآن!»
40
فيما يتعلق بطريقة «الوقف المفاجئ للمادة»، والتي تسمى طريقة ليفينشتاين - مدير إحدى المصحات ببرلين - فكانت تقوم على حبس المريض في غرفة للعزل لمدة اثنتين وسبعين ساعة، مهما كانت صرخاته وتوسلاته. وطبقت بالفعل على طبيب الأعصاب الشهير كارل ويستفال - الذي أصيب بإدمان المورفين من فرط اهتمامه بدراسة هوس إدمان المورفين. ولكن عندما فتحوا الباب، كان الأستاذ ويستفال (كان ليفينشتاين تلميذه) قد مات.
ومن الآفاق الجديدة التي فتحت أمام الطب النفسي الجنس والمشاعر الجنسية. تتمثل هذه المشاعر في الاستمناء أو الزهري الوراثي أو الشلل العام. إلا أن الأمر ازداد اتساعا، بعيدا حتى عن مجال اكتشافات فرويد. عام 1870، نشر ويستفال - الذي توفي نتيجة تطبيق سياسة المنع لليفينشتاين - في المجلة الرسمية «أرشيف الطب النفسي» مقالا هاما عن الشذوذ الجنسي الذكوري (الشعور الجنسي المعكوس). عام 1886، نال كرافت إبينج شهرة واسعة بسبب نشره مقاله «الأمراض النفسية الجنسية»، يضع فيه تقسيما للانحرافات الجنسية، والتي قسمها إلى فئتين كبيرتين (تنسب عادة إلى فرويد): انحرافات بحسب الموضوع وانحرافات بحسب الهدف. وكان هو صاحب مصطلحات «السادية» و«المازوخية» و«السادية المازوخية».
في عام 1886، نشر بول سيريو - تلميذ مانيان - رسالة بعنوان «أبحاث إكلينيكية عن انحرافات الغرائز الجنسية». كان هو من قدم أعمال كرابلين في فرنسا، ولكنه اهتم أيضا بدراسة خطابات المرضى وكيف تعطي صورة عن حياة واحتجاز مرضى الاعتلال العقلي في عهد النظام القديم. كما اخترع كيانا جديدا وجريئا يتماشى مع الوضع ، من شأنه فتح آفاق لانهائية أمام الطب النفسي، وهي فئة «المرضى غير الطبيعيين بالتكوين»: المؤولين والمتطلبين ومؤلفي القصص؛ أي كل «المنحرفين أعداء المجتمع»، وكل المختلين وغير المتزنين، وعددهم كثير في واقع الأمر.
ولم يخش أطباء آخرون من توسيع نطاق الانحطاط العقلي لدرجة أنهم ضموا إليه الشعراء. «أردت فقط أن أبين أنه لدى بعض الأفراد، لا يكون الشعر إلا وسيلة للتعبير عن التفكك العقلي؛ أي مظهرا من مظاهر تدني العقل.»
41
فالأمر لا يقتصر فقط على «مرضى الانحطاط السامي» على حد وصف مانيان؛ «فيمكن لبعض المرضى بالانحطاط العقلي أن يشعروا بدفقات مفاجئة، ويمكنهم امتطاء أجنحة الشعر إلى ارتفاعات لا يصلها أحد، ويصقلوا أبياتا رائعة الرقة تغلفها كآبة مؤلمة وساحرة مثل فيرلين أو جي مورياس، بينما يظل المرضى الآخرون عاجزين عن تجاوز التعثر في النطق وتفكك الأفكار التي لا تقوم إلا على السجع الصوتي. الأوائل هم من اتفق على تسميتهم بمرضى الانحطاط السامي، أما الآخرون فليسوا إلا بلها ضعيفي العقل. ولكن لدى البعض والبعض الآخر، نجد - على الأقل لعدة ساعات - آثار الخلل العقلي التي لا تمحى.»
ومن المظاهر الأخرى المميزة للانحطاط العقلي (خاصة لدى البله) الحب المفرط للحيوانات المنزلية. «تدور حياتهم كلها حول هذا الحيوان الذي يرعونه ويهدهدونه كطفل، ويعملون من أجله، وعلى استعداد لتقديم أكبر التضحيات في سبيله.» وفقا لمؤلفنا، فإن أسوأ شيء هو تعلق الشعراء المفرط بالقطط. فها هو أحدهم وقد نقل ولعه هذا إلى زوجته: «كان لفظ قطة وكل ما يتعلق بالقطط يتردد بكثافة في حواراتهما، فكانا يدلل أحدهما الآخر بقطي، وقطتي ... كانت القطة تسيطر على حياتهما وكأنها ابنتهما. طبيب الأمراض العقلية سيقول إنها حالة هذيان مشترك» (د. لوران).
إلى جانب إدراج الشعر وحب القطط إلى مجال الطب النفسي، ولكيلا يبدو الأمر كمزحة، نتطرق إلى «تفاعل كرب القتال» أثناء الحرب العالمية الأولى. وتوجد قائمة مراجع طبية هائلة تعنى بتحليل «ذهان الحرب»
42
والخوف - غير الطبيعي - داخل الجيوش. فالخوف - حتى المعتدل - يعد خوفا مرضيا في جبهة القتال: «فالرجل يكون غير متأقلم على وظيفته، ومن ثم يتخلى عن واجبه الحربي.»
43
لا يعتبر الأطباء النفسيون في فترة الحرب العالمية الأولى هذا الخوف عرضيا، وإنما «بنيويا» لدى الأفراد الذين ظهرت لديهم «اضطرابات انفعالية». وقد يكون هذا «التكوين الانفعالي كامنا»، وقد كشفته «أحداث الحرب». فها هو بي فيكتور «الذي أصيب بصدمة القذائف في الحادي عشر من أكتوبر في الساعة الخامسة مساء. حين وجد كان مغطى بأشلاء ثلاثة من زملائه قتلوا بجواره. في اليوم التالي، كان عاديا، ولكنه غرق منذ تلك اللحظة في صمت تام.»
44
أما جي هيلير - مزارع يبلغ من العمر أربعين عاما - فكان عام 1915 «قد تعرض لهجوم القذائف أربع مرات»، ولكنه ظل «جنديا جيدا حتى فبراير 1917». في هذا التاريخ، «تعرض لقصف عنيف، ومن حينها لم يتوقف عن الارتجاف [...] منذ ثمانية أيام، نشك في أعراض فرط الحركة.»
وهكذا، أصبح تفاعل كرب القتال مجموعة مختلطة من الأعراض العقلية تحدث نتيجة ارتجاج أو صدمة انفعالية. في عام 1918، ذكر رئيس الجمعية العامة لضحايا البتر في الحرب على استحياء - بخصوص أحد المرضى - أنه بالإضافة إلى جروحه البالغة، أصيب بصدمة عصبية نتيجة انفجار في الهواء. قد يكون الأمر نتيجة طلقة قذيفة، دون أي جروح خارجية، أو صدمات أخرى: كما أن أحد القادة كان قد رأى العديد من رجاله يحترقون أحياء بعد أن ألقيت عليهم قنابل يدوية مشتعلة. ولكنه استطاع إنقاذ واحد منهم، بعد أن لفه بعباءته، ولكنه سرعان ما شعر بدوار وفقد الوعي . ومنذ ذلك الحين، وهو يعاني من هذيان يشبه الحلم يرى فيه نفس المشهد دون توقف.
ولكن لننتبه: يذكر الأطباء العسكريون (الأطباء المدنيون سابقا) مرارا أن هؤلاء «العرجان عقليا»
45
لديهم استعداد سابق أو «مسمومون» بمزاجهم الانفعالي. ولكن ازدياد عددهم جعل من الضروري إنشاء خدمة للعلاج النفسي في كل خط من خطوط الجيش. وتتعدد مظاهر الذهان المرتبط بالحرب، من حالات الفوضى العقلية البسيطة المصحوبة بذهول وحتى الاضطرابات العصبية، بل وحتى الهذيان والهلوسة. في جميع الأحوال، كان يتم فحص هؤلاء البؤساء بقدر كبير من التشكك. أليس من الممكن أن يكون بينهم من يدعون المرض أو على الأقل يبالغون؟ كان ذلك هو هاجس أطباء الجيش. «إن محاكاة المرض العقلي فكرة قد تخطر لشخص غير متزن يرغب في التخلي عن التزاماته العسكرية.»
46
وتجدر الإشارة إلى أن الوضع بالنسبة إلى من هم أمام مجلس الحرب (بسبب الهرب من وجه العدو أو التخلي عن الموقع) يكون صعبا للغاية سواء أكان جنونهم تمثيليا أم لا.
الجزء السادس
عصر الشك
الفصل الأول
المصحات العقلية لا تؤدي إلى الشفاء
لم ننتظر تصاعد الحركة المناهضة للطب النفسي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لندرك أن مصحة الأمراض العقلية لا تؤدي إلى الشفاء. فبعد وفاة إسكيرول بقليل، بدأ الكثير من أطباء الأمراض العقلية - كما رأينا - يعلنون استياءهم من الأمر، وقد لاحظوا الواقع المؤسف الذي يحول المجانين المحتجزين إلى مزمنين. لم يغير من الأمر شيئا تغيير اسمهم إلى «مرضى الاعتلال العقلي». وأن يكون قياس ظاهرة محورية بهذه الصورة تؤدي سريعا إلى زعزعة اليقين في المؤسسة ككل، فكان يجب دراسة المسألة من وجهة النظر الإحصائية الطبية. ولكن أي إحصائيات؟ التي وضعها إسكيرول ومن خلفوه. كيف يمكن تنفيذها بطرق أخرى؟ كان أمرا سيئا أن يخرج كبيرو الأطباء ليعلنوا بالأرقام أن مصحاتهم تحولت إلى أماكن للموتى. كذلك كان الأمر وفق «إحصاءات فرنسا» الرسمية. فإلام تشير هذه الإحصاءات في الفترة ما بين عام 1856 و1860؟ ما هي الإحصاءات الوطنية عن نسب الشفاء؟ وعلى الرغم من أن الجداول تتراص بانتظام دون إغفال أي تفصيلة - على مدار ثلاثمائة صفحة - كان هذا الأمر يشكل مشكلة ملحوظة. كيف نقوم بالعد؟ أبالمقارنة مع متوسط أعداد المرضى في المصحات؟ أم بالمقارنة مع عدد المحتجزين في العام، مع حذف المرضى ذوي الحالات المزمنة؟ وإذا اقتطعنا عدد المرضى في منطقة السين - الذين ينقلون بانتظام إلى مصحات الأقاليم - فماذا عن المرضى الميئوس من شفائهم الذين «يدورون» بين مختلف المصحات، الذين «يفسدون نتائج الإحصاءات»؟ الحقيقة أنه بالعد الطبيعي (أي بعد عد جميع المرضى) تكون النتائج مفجعة: لم تتجاوز نسبة الشفاء 8,24٪ في الفترة من 1856 وحتى 1860. إنها نسبة ضئيلة للغاية، ولا سيما بعدما رأينا ما هو المقصود بالشفاء. كما أن معدل فترات الاحتجاز سيئ للغاية: 62٪ من حالات «الشفاء» قضت أقل من ستة أشهر محتجزة في المصحة، في مقابل 10٪ مكثوا قيد الاحتجاز لأكثر من عامين. في تقرير عام 1874 الضخم - الذي ذكرناه قبلا - رغب المفتشون العموميون أيضا في تقديم إحصائية معقولة للشفاء. ولكنهم لم يستطيعوا تجنب النسبة «التي تحزن»: 7,04٪ من «المرضى تم شفاؤهم». وسرعان ما أضاف المفتشون أنه لا يوجد تناسب مع معدلات الشفاء في بريطانيا - الأمر الذي يجب الاعتراف به.
عينة من 18 ألف مريض محتجز
وما دامت هناك شكوك حول الإحصاءات الرسمية عن المرض العقلي، فلم يكن هناك إلا الاعتماد على أنفسنا في عمل الإحصاءات. ولقد قمنا - تحت رعاية الأستاذ بيير شونو (في مجال التاريخ الكمي) والأستاذ بيير موريل (في مجال الطب النفسي) - بتفتيش سجلات الاحتجاز بمصحة بون سوفور بالكامل في الفترة من 1838 وحتى 1925، وتوصلنا إلى دراسة طبية عامة لأكثر من ثمانية عشر ألف مريض عقليا لم تستغل حتى اليوم. ولكن هل يمكن أن تعد مصحة بون سوفور ممثلا لباقي مصحات الأمراض العقلية التي لكل منها خصوصيتها؟ ف «نظام الالتحاق» الخاص بالمصحة الموجود في الأقاليم يختلف عن ذاك الموجود في منطقة السين، وكيف تجري مقارنة مصحة خاصة بمصحة حكومية؟ إلا أن مصحة بون سوفور بكاين بدت جامعة لعدة صفات بالشكل الكافي الذي يجعلها ممثلة لباقي المصحات، فهي مصحة خاصة، ولكنها تمارس دور المصحة الحكومية، كما تعد ثالث مصحة في فرنسا من حيث الأهمية في مطلع القرن العشرين، وكانت تضم عام 1899، 1439 مريضا (من بينهم عدد كبير محولون من مصحات السين).
كان من الملاحظ بشكل كبير أن العوامل التي سبقت الاحتجاز أو الدوافع كانت ثابتة طوال الفترة (1838-1925)، وكانت ملحوظة أيضا في عهد النظام القديم. فالإصابة بالجنون عادة ما تكون قديمة (في 46٪ من الحالات تتجاوز العامين)، ومن ثم تقل فرص الشفاء. «كانت حبيسة في منزلها لأعوام طويلة في حجرة بها شباك يقدمون إليها الطعام من خلاله، قبل أن تأتي إلى هنا.» كانت ملحوظة «جنون قديم» تتكرر باستمرار، حتى وإن كان تاريخ إصابة عائلة المريض عقليا غير معروف، خاصة بالنسبة إلى المرضى المحتجزين بالقوة. أما بالنسبة إلى الدخول الإرادي للمريض، فكانت المحافظة تقدم استبيانات كاملة للعائلات التي تطلب احتجاز مريضها، إلا أن الأسئلة المطروحة كانت أكثر تفصيلا من الإجابات المقتضبة المقدمة. وكان يطلب أيضا - إلى جانب مقدم الدفع - معرفة ما إذا كان المريض قد أصيب قبلا بنوبات جنون أو جرى احتجازه، إذا كانت له ممارسات جنسية زائدة أو متعلقة بإدمان الخمور. أتوجد حالات جنون أخرى في العائلة؟ هل الجنون وراثي؟ في الواقع، لم تكن هناك إجابات كاملة ومحددة إلا للجزء المتعلق بالدافع وراء طلب احتجاز المريض. لا نعلم الكثير عن أجداد ماري إف - ثلاثين عاما - ولكن ما نعرفه جيدا أنها تركت عملها منذ ثلاثة أسابيع، وتحدث ضجة عالية أثناء الليل مما يمنع جيرانها من النوم، وأنها كانت تسير في الشوارع ودخلت الكنيسة وأحدثت فضيحة.
كان الاحتجاز في عهد النظام القديم (هذه المرة يوجد العدد) يتم في معظم الحالات بسبب الجنون الذي يضر بالنظام العام، أو عادة بسبب حالات الانتحار: «ألقت نفسها في النهر»، «اعتقدت أنها ملاك وألقت بنفسها من الطابق الثالث، وبدلا من أن تطير كما اعتقدت، سقطت على الرصيف وانكسرت ذراعها وعمودها الفقري.» كان القفز من النوافذ شائعا بين النساء، بينما كان الرجال يقتلون أنفسهم بقطع رقبتهم بشفرة الحلاقة (الذين يشنقون أنفسهم أو يلقون أنفسهم في بئر كانوا ينجحون أكثر في محاولات انتحارهم). كانت هناك بعض محاولات الانتحار المبتكرة، مثل هذا المريض بعقدة الاضطهاد، الذي أراد أن يهرب من الأصوات التي تنعته ب «القذر»، فقام بوضع رأسه في آلة المنجلة وحاول إغلاقها عليه.
ويتضمن هذا التعليق المقتضب الكثير: «مريض (35 عاما) هادئ منذ يومين، أصيب بحالة هياج منذ عدة أيام، كان يحاول ضرب زوجته ووالدتها»، وبهذه المعلومة الحاسمة، تقرر عجزه عن الاستمرار في عمله. وهناك ملحوظة لها مغزى كبير خاصة بامرأة في الثامنة والثلاثين من عمرها، محتجزة منذ عام 1877: «لم تستطع عائلتها ولا والدها الاحتفاظ بها [...] في النهاية أصبحت حالتها لا تحتمل.» في عام 1912، طلب والد آليس دي (36 عاما) احتجازها. كانت تريد أن تصبح راهبة، ولكنها عادت إلى المنزل مصابة بهلوسة الاضطهاد: «أثناء نوبتها الأخيرة - بتاريخ الأول من أغسطس - جاءت ابنتي باكية ومعلنة بحركات غضب وتهديد أن هناك شخصا ما - في أحد أركان الغرفة التي نحن فيها - ولكنها لا تراه لأنها منومة مغناطيسيا، ولكنها تشعر بتأثيره، وأنني أتفاهم معه بالإشارات لأني أستطيع رؤيته، وأنه كان يغتصبها لعدة ليال بالاتفاق معي. وفي اليوم التالي نحو الظهيرة، ومن دون سبب واضح، تكرر هذا المشهد البشع ولكن بعنف وقبح أكثر. ظلت ابنتي تصرخ بقوة وشراسة أن هذا الشخص الخفي - قد قام بمساعدة مني - باغتصابها لدرجة أنها لم تكن قادرة على الحركة، وظلت توجه لي أقسى أنواع اللوم. وأخيرا، بعدما اعترضت غاضبا، صرت أسنانها وأخذت تلقي بالأشياء في الشقة حتى وجدت سكينة مائدة وأخذت تحكها مهددة بأنها ستنتحر. في المساء، هدأت نسبيا، ولكنها ظلت تردد أنه جرى اغتصابها وأن الشخص الخفي لا يزال قابعا في ركن الغرفة.»
كان من المعتاد رؤية هذه المقدمة: «كانت عائلته ترعاه على أكمل وجه، ولكن هلاوسه أصبحت اليوم ...» يكون طلب الاحتجاز هو الحل الأخير، وليس من أول ظهور الإصابة: «لن تتحسن حالته، ولكنه لا يزال محتفظا بعاداته وعلاقاته مع نفس الأشخاص الذين لا يسببون له أي فزع.» المتحدث هنا كان طبيبا «ممارسا عاما»، فقد كانت شهاداته التي يقدمها عن المريض لازمة لتقديم أي طلب احتجاز، وكانت تعد مصدرا قيما ولكن غير كاف، فقد نحتاج إلى «محاضر شرطة» من عدة صفحات وأحيانا الاقتصار على صيغ نموذجية: «أقر أنا الموقع أعلاه الطبيب ... أن ... مصاب منذ عدة شهور بخلل عقلي قد يصل لدرجة الجنون. [نحن في عام 1891]. ولا يمكنه الحصول في منزله على الرعاية التي تتطلبها حالته، ويحتاج إلى إشراف متواصل؛ لأنه قد يتسبب في أشياء خطيرة. وعليه ...» كان ما يهم هو أن يوقع المحافظ (أو الكاهن في ظل النظام القديم) على الشهادة؛ لاعتماد الحالة.
وبعيدا عن النموذج النمطي للمؤامرة العائلية، نجد حالة هذا الزوج الذي ضاق ذرعا بهلوسة زوجته - التي احتجزت للمرة الأولى العام السابق في 1921. «إنها تردد على مسامعي باستمرار أنها ليست مريضة وأنني أنا من يحتاج للعلاج، وهي حقيقة، فإذا استمر بي العيش هكذا، فسينتهي بي المطاف بالجنون فعلا.» في مثل تلك الحالات - وهي كثيرة - لا يرسل المريض إلى المصحة «لينال العلاج» إلا نادرا. فالحقيقة أنه يجري إرساله قبل كل شيء للتخلص منه وبسرعة لكي تستطيع العائلة استئناف حياتها. واستنادا إلى طلب احتجاز تأجل طويلا، تبدو لنا الإحصائية القومية «لحالات مرضى الاعتلال العقلي الذين يتلقون العلاج في المنزل» معبرة (حتى وإن تساءلنا عن المعايير المطبقة للوصول لمثل هذه التقديرات). دائما ما يزيد العدد المقدر لمرضى الاعتلال العقلي غير المحتجزين عن أولئك المحتجزين في المصحات:
1851
1856
1861
مرضى محتجزون
20537
26286
31054
مرضى مقيمون في المنازل
24433
34004
53160 «تظهر هذه النتائج الرفض المؤسف للعائلات بشكل عام للانفصال عن مرضاهم ووضعهم في مصحة للأمراض العقلية؛ ربما بسبب تأخرهم في القيام بواجباتهم، أو بسبب ميل أعمى، أو أحيانا بسبب الإهمال؛ مما يتسبب في حدوث آثار جسيمة على قابلية المريض للشفاء.»
1
ماذا عن نتيجة التحليل الكمي للألفاظ المستخدمة في طلبات الاحتجاز في مصحة بون سوفور؟ هناك 46٪ من دوافع الاحتجاز تسمى «عنفا، هياجا، استثارة، نوبات مختلفة، أزمة، محاولة انتحار.» وبالتأكيد هناك الكثير، إلا أن هذه الإحصائية لم تكن تمتلك الكثير من البيانات. بيد أن فئة المرضى الخطرين المصابين بالهياج لا بد من أن تخضع لتقسيم أكثر نسبية، فإن المرضى ذوي السلوك العنيف الكامن، عادة ما يجري ضمهم إلى مرضى العنف الصريح. فكلمة «مجنون هائج» قد تعني قاتلا (عشرون حالة بالكاد من أصل ثمانية عشر ألف حالة) أو مريضا حطم لوحين زجاجيين مهددا زوجته وأولاده بالموت. في الواقع، تعد حالات الاعتداءات على أشخاص نادرة. وفي ظل النظام القديم، كان طلب الاحتجاز يبرر بسبب درجة الخطورة والمأساة الوشيكة الحدوث التي سيمنعها الاحتجاز.
وفي المقابل، توجد الفئة الكبيرة الأخرى، فئة المكتئبين ومرضى السوداوية وعقدة الاضطهاد. إلا أنه لا يمكن استبعاد خطورتهم بالكامل. ففي عام 1896، كانت هناك مريضة تدعى جوزفين تبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما. كانت تشعر بأنها محاطة بالأعداء، «بأشخاص يلقون عليها تعاويذ شريرة. وأثناء الليل يحرقونها ويقرصونها ويشدونها من قدميها لإخراجها من فراشها.» وانتهت بتحديد بعض جيرانها لكونهم هم سبب آلامها ومصدر تهديدها. وأقر طبيب البلدة قائلا: «احتجازها الآن أصبح إجراء أمنيا. فمن بين كافة أنواع مرضى الاعتلال العقلي، يعد المصابون بعقدة الاضطهاد هم الأخطر، وحينما يصلون إلى التعرف على أشخاص معينين كسبب لاضطهادهم - كما هي الحالة - يصبح احتجازهم ضروريا.» وتمثل حالات الإصابة بالاكتئاب والهلاوس وهلاوس العظمة والثراء والهذيان الديني والغيرة وعقدة الذنب والخوف المرضي من التسمم وعقدة الاضطهاد؛ حوالي 35٪ من أسباب الاحتجاز. «طوال الليل، تظل تصرخ خوفا من مغتالها أو من سارقها؛ مسببة إزعاجا لجيرانها. كانت ترى قططا وكهنة وراهبات يتجولون حول سريرها ويحملقون فيها بنظرات مرعبة.»
ثم يليه - بصورة أقل أهمية - «العاجزون» (المصابون بالعته والمتأخرون عقليا والبله) ومرضى الصرع الذين تفاقمت حالتهم والمبذرون والمتسللون؛ أي جميع الذين لم يعودوا قادرين على التصرف أو من ليس لديهم أحد يعتني بهم: «أصيب أخوه الذي كان يتولى رعايته بالشلل» (1924). كان فقر غالبية هؤلاء سببا حاسما أيضا: «لا تستطيع أسرته - التي لا تمتلك نقودا - أن ترعاه.» «تظهر على هذه المرأة أعراض واضحة للجنون العقلي ربما نتيجة لإصابتها بالشلل العام. ونظرا لفقر المرأة التي لا تمتلك بالطبع القدرة على رعاية نفسها بطريقة فعالة؛ فمن الضروري إذن إدخالها المصحة» (1906).
لا تزيد نسبة الاحتجاز الإجباري في مصحة بون سوفور (57٪) عن الاحتجاز الإرادي إلا قليلا (43٪)، خاصة أنها - نظرا لكونها مصحة خاصة - تستقبل نسبة كبيرة من المحتجزين من الفئة الثانية (وتشير الإحصائية الوطنية إلى أن متوسط نسبتهم يصل إلى 30٪). ويتوزعون على مساحة تشمل البلاد كلها، وذلك دائما لرغبة العائلات في وضع مريضها بعيدا لأسباب تتعلق برغبتهم في كتمان الأمر. وتمثل حالات الاحتجاز الإرادي حوالي 10٪ من الطلبات المقدمة من الجيش أو من الجمعيات الدينية. كان هذا هو تخصص بون سوفور الذي يدعي أنه يقدم لنزلائه القدر الكافي من السرية والمركز الاجتماعي. أما طلبات الاحتجاز الحكومية، فتضم نسبة لا بأس بها (من 15 حتى 20٪) من الحالات تأتي من المصحات والملاجئ والمحاكم والسجون. وتزيد نسبتهم لدى الرجال عن النساء؛ مما يدل على ارتفاع نسبة الخطورة لديهم.
يتراوح عمر المريض في خمسين بالمائة من الحالات عند احتجازه ما بين ثلاثين وخمسين عاما. وهو ليس صغيرا ولا كبيرا على المستوى الوطني. أما بالنسبة إلى جنس المريض، ففي بون سوفور - كما في باقي المصحات - تكون النسبة الأكبر للنساء. وقد تسبب عددهم سنويا (52 في مقابل 48 في المتوسط) في نشر اعتقاد بأن النساء يقعن فريسة أسهل للجنون عن الرجال. إلا أن نسبة الرجال الذين يجري احتجازهم تزيد عن النساء (من 105 إلى 115٪). ويرجع ذلك - كما سنشرح لاحقا - إلى أن الرجال يموتون في المصحات أو يخرجون منها بطريقة أسرع. أما عن الحالة الاجتماعية، فإن الأفضلية تكون للعزاب أو الأرامل؛ أي الذين يعيشون بمفردهم.
وتعد نسبة الانتكاسات غاية في الأهمية، وهي تدور حول 15٪، أو أكثر قليلا (وهي النسبة نفسها على المستوى القومي). بشكل عام، فإن الانتكاسة لا تحدث مرة واحدة، بل عدة مرات. في عام 1901، احتجز هذا المريض عقليا ذو الستة والثلاثين عاما للمرة الرابعة عشرة لإصابته ب «هوس متقطع». أما هذه المزارعة ذات الواحد والستين عاما، فقد دخلت المصحة للمرة السادسة عشرة عام 1920، لإصابتها ب «حالة سوداء بسيطة يصاحبها اكتئاب». هؤلاء هم من يطلق عليهم - على مستوى البلاد - «المعتادون على المصحات»:
2
مدمنو الخمور، مرضى الصرع، «المختلون أخلاقيا». ففي مصحات منطقة السين، لم تكن حالات الانتكاس المتعددة نادرة. ف «جاس» - نجم مصحة فيلجويف - كان قد دخل للمرة الخامسة والستين في عام 1910، مضيفا إلى سجله خمس عشرة حالة هرب. وهناك أيضا جورج كا، الذي «أصبح مقيما دائما في مصحات الأمراض العقلية بعد أن كان مقيما في السجون.» وهنا تظهر فئة جديدة من المرضى، وهي «مرضى الاعتلال العقلي الأشرار» (الذين يميلون إلى الشر). وتضم هذه الفئة الكثيرين، حتى الشحاذ الأعرج الذي يصطنع الجنون، سواء بوعي أو من دون. إلا أنه بالنسبة إلى أطباء الأمراض العقلية، فإن أي شخص يصطنع الجنون إنما هو مصاب به إلى حد ما. •••
كيف تمت حالات الاحتجاز الثمانية عشر ألفا ومائة وسبع بمصحة بون سوفور بين عامي 1838 و1925؟ وماذا عن كون «المصحة أداة للشفاء»؟
أقل من ثلاثة أشهر
من ثلاثة أشهر إلى عام
من عام إلى عامين
من عامين إلى خمسة أعوام
من خمسة أعوام إلى خمسة عشر عاما
أكثر من خمسة عشر عاما
الإجمالي (من أصل الثمانية عشر ألف حالة بين عامي 1838 و1925)
خروج للشفاء
1601
1570
298
238
102
22
3831
خروج للتحسن
589
715
211
167
119
33
1834
خروج من دون شفاء
645
566
180
178
128
37
1734
حالات خروج أخرى *
197
83
12
22
14
4
332
تنقلات (223) (363) (180) (202) (264) (388) (1620)
وفيات
1592
1564
915
1172
1636
1907
8756 *
هروب أو إقامة غير مبررة.
يظهر الجدول الإحصائي بوضوح فئتين من المرضى: بعد حوالي عام من الاحتجاز. من بين الفئة الأولى، خرج حوالي 62٪ (سواء نالوا شفاءهم أم لا)، في مقابل 30٪ من الفئة الثانية؛ مما يدل - على عكس الفكرة الثابتة - على نوع من الدوران النسبي. استبعدنا من الحسابات حالات التنقلات (9٪)، مؤكدين على أن هذه التنقلات من مصحة إلى أخرى، تضم كافة أنواع المرضى عدا الذين تم شفاؤهم. ومنها هذا النموذج المعروف: عام 1888، كانت هناك هذه المريضة المحتجزة منذ أحد عشر عاما. في البداية كانت تبلغ من العمر ستة وعشرين عاما، وكانت مصابة بالهستيريا مصحوبة بحالة هياج تستدعي القيود. وفي غضون عدة أعوام، أصيبت بحالة خبل عام. كانت من مواليد منطقة أورن، ونظرا لأن تكاليف الإقامة اليومية في مصحة منطقة ألنسون أقل من مصحة بون سوفور، التي كانت قد بدأت فعليا في التخلص من مرضى الاعتلال العقلي الفقراء أصحاب الحالات المزمنة، والذين لا يقيمون في المنطقة التي ولدوا فيها؛ فقد حولت المريضة إلى مصحة ألنسون للأمراض العقلية. كان الأمر يدور حول رغبة المصحات في التخلص من الحالات الصعبة، حتى بلغت درجة أنها كانت تحاول إرسال المريضات العجائز المصابات بالخرف غير المؤذي إلى دور المسنين. فها هي حالة مريضة تبلغ من العمر أربعة عشر عاما مصابة بالبله، حين دخلت مصحة بون سوفور. في عام 1933، أصبح لديها ثلاثة وسبعون عاما قضت تسعة وخمسين منها في المصحة. وهي مريضة هادئة، تمارس الأعمال المنزلية؛ مما يجعل دار المسنين مناسبة لها، حتى وإن تطلب الأمر مساومات صعبة. فبمجرد حدوث النوبة أو صدور أي صرخات أثناء الليل - على الرغم من أنه كان أمرا معتادا في دور المسنين - سيتم طرد العجوز المسكينة على الفور وإعادتها إلى المصحة؛ حيث اعتادت عليه بعد أن قضت هناك أكثر من نصف قرن. لكننا سنرى أن هذه التنقلات للمرضى «داخل المؤسسة» كانت قاتلة بالنسبة لهم.
بعيدا عن هذه التنقلات، كيف يتناقص عدد المرضى في الفئة الهامة التي تضم خمسة وخمسين بالمائة من المرضى المحتجزين لأقل من عام (نصفهم لأقل من ثلاثة أشهر)؟ يموت حوالي 34,5٪ منهم، بينما يخرج الباقون تارة بحجة شفائهم أو تحسنهم أو لعدم شفائهم. وتفرض المقارنة مع الجزء الثاني (45٪) نفسها: فهنا تطول فترات الاحتجاز (20٪ من المرضى يقيمون لخمسة أعوام، و12٪ حتى خمسة عشر عاما). وليس من النادر لدى النساء أن يمكثن لنصف قرن داخل المصحة. وتعد أقدم مريضة محتجزة هي مريضة مصابة بالبله محتجزة منذ خمسة وستين عاما. يموت في الغالب ما يقرب من 77٪ منهم، وتكون الدهشة كبيرة عندما نشاهد بعضهم يخرجون، ولا سيما بعد إعلان «شفائهم» بعد مرور كل هذه السنوات. فنسبة الخروج من المصحة تتناسب عكسيا مع طول المدة التي يقضيها المريض في المصحة. فهؤلاء الذين لا ينالون الشفاء ولا تتحسن حالتهم خلال العام الأول من الاحتجاز ، تقل فرصهم جذريا في الخروج، ولا سيما أن ثلاثة أرباعهم سيموت داخل المصحة.
بشكل عام، يخرج 23,2٪ من المرضى المحتجزين لشفائهم، و11,1٪ لتحسن حالتهم، وحوالي 10,5٪ لعدم شفائهم. يخرج هؤلاء المرضى الذين لم يبرءوا بناء على طلب العائلة أو المؤسسة (في حالة الاحتجاز الإرادي)؛ في أغلب الأحيان لأنهم يكونون على وشك الموت، وبالتالي فليس من اللائق أن تترك العائلة أحد أعضائها يموت «وسط المجانين»: «زوجته تطلب خروجه، فهي لا تريده أن يموت هناك» (1875). ولكن في معظم الأحيان، يرجع سبب الخروج إلى إدراك من طلب الاحتجاز لعدم تحسن حالة المريض، بل تدهورها. يضاف إلى هذا مسألة دفع تكاليف الإقامة؛ حيث قد تضطر العائلة إلى دفعها مدى الحياة، إذا تأكدت عدم قابلية المريض للشفاء. كذلك الحال مع مرضى الصرع الذين مر عليهم وقت طويل دون أن تداهمهم أي نوبات، وإن ظلوا مندفعين ومن السهل استثارتهم، أو حتى ضعاف العقول الذين أصبحوا مسالمين. ويمكن للطبيب أيضا أن يطالب بخروج المريض، أو المحافظ في حالة الاحتجاز بناء على طلب الحكومة. وفي بعض الأحيان قد يتعارض رأي السلطة مع وجهة نظر الطبيب: «إنه مدمن خمور خطير، وقد يرتكب أثناء نوباته أفعالا يعاقب عليها. ونحن نرى أنه لا يجب إخراجه، على عكس رأي الطبيب الذي أبلغنا به» (ولكن خرج المريض رغم كل شيء). وفي المقابل، قد يأتي الرفض من المحافظ لطلب قدمه الطبيب؛ نظرا لتكرار حالات الانتكاس. وفي الأغلب، يوافق الطبيب على طلب الخروج الذي تقدمه أسرة أحد المرضى المحتجزين بناء على طلبها، ولكن دون خداعها: «يبدو مظهره هادئا، ولكنه ليس أقل جنونا من الداخل.» يمكن للطبيب قبول الطلب أو رفضه (المريض ليس في حالة تجعله يحسن التصرف) أو قد يؤجله قليلا. فهذا المريض ذو الثلاثة والستين عاما احتجز عام 1855؛ بسبب عدم اتزانه وهوسه بالشراء بشكل غير معقول، كان في حالة هياج عند دخوله المصحة، ولكن بدأ يتحسن منذ ستة أشهر، وكان على وشك الخروج. ولكن جاء في تقرير كبير الأطباء: «نظرا لسلوكه العنيف للغاية مؤخرا تجاه مريض آخر أبله بائس، لا تواتيني الجرأة على الموافقة على خروجه.» كان هذا المريض يستعد للخروج - وقد أصبح هادئا وواعيا مؤخرا في غضون شهر من الاحتجاز - ولكن يقول كبير الأطباء: «بعد رؤيتي لسجله في البلدية، عدلت عن قراري؛ فقد كان يهدد جيرانه بالقتل، وطارد بالفعل زوجته عدة مرات ممسكا بسكين في يده ليذبحها. إنه يمثل رعبا في قريته.» إلا أن المريض خرج بعد سبعة أشهر.
وتوجد أيضا حالات - وإن كانت نادرة - لمرضى لم يتم شفاؤهم ولكنهم يفضلون البقاء في المصحة، حتى وإن طالبت العائلة بخروجهم: «جاء والداه ليخرجاه، ولكنه رفض تماما المغادرة وانتابته حالة هياج.» وعلى العكس، يوجد أيضا مرضى يهربون من المصحة ولكنهم قلة. ولا يبتعدون كثيرا عن المصحة، وإن تمكن بعضهم من العودة إلى منازلهم. ويقول أحد الآباء عام 1920: «كانت مفاجأتنا كبيرة عندما وصل ابننا المسكين صباح اليوم إلى المنزل. وأمام رفضه العنيف للعودة إلى المصحة، وبعد وعوده بالبقاء هادئا، قررنا إبقاءه معنا.» كان هذا هو ما يحدث عادة، بشرط أن تكون المسألة موضع نقاش إذا ما عاد المريض لعادته القديمة.
ومن النادر وجود حالات الاحتجاز غير المبررة لأكثر من أسبوع بقرار طبيب المصحة. فدوافع الاحتجاز مهمة للغاية: «لا يمكننا اعتباره مريضا عقليا، بل بالأحرى متشردا ينقصه تماما أي حس أخلاقي» (1888). «المريض مصاب بضعف عقلي مصحوب بانحرافات غريزية وغياب للحس الأخلاقي، إلا أنه لا يعاني من أي هذيان؛ ومن ثم فمكانه ليس مصحة الأمراض العقلية» (1916). وأحيانا تكون الفروق بين رأي طبيب وآخر هامة جدا؛ فقد يسمح أحدهم بالاحتجاز والآخر لا يسمح. وإذا جرى اتباع القيود الموضحة سابقا، لكان عدد المحتجزين قد قل بصورة مؤكدة.
وأخيرا، ماذا عن «المرضى الذين تم شفاؤهم» و«الذين تحسنت حالاتهم»؟ تحمل هذه الصيغ - التقليدية - قدرا من الغموض وتطرح إشكالية هامة حول معايير الخروج من المصحة. ولنبدأ بالذين شهدت حالاتهم نوعا من التحسن ... فها هو واحد منهم كان يعمل بقالا ويبلغ من العمر ثلاثة وخمسين عاما، ولقد أدخلته عائلته المصحة بإرادتها عام 1821. ثم خرج «لتحسن حالته» بناء على طلب الأسرة ذاتها، وإن ذكر الطبيب الموقع على قرار الخروج الآتي: «أصبحت حالته أهدأ وأفضل، ولكنه قد يصبح مضطربا إذا تعرض لضغط ما.» ولا تبدو الصيغة أكثر وضوحا من تعليق الطبيب، «فالمريض الذي تحسنت حالته» هو أي شيء ولكنه ليس سليما، فهي تعني بالأكثر: إنه أصبح هادئا.
وهكذا، في بون سوفور - وفي باقي المصحات العقلية - تخرج كمية كبيرة من المحتجزين بسرعة نسبيا؛ مما يتعارض مع فكرة أنه بمجرد احتجاز المريض، فهو يبقى هناك للأبد. ويلقي المنشور السنوي الوزاري بتاريخ العاشر من نوفمبر 1906 - الموقع من جورج كليمنصو رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية - الضوء على هذه المسألة الهامة. فالأمر لا يقتصر على اكتظاظ المصحات بالمرضى، بل على «تخفيف التكدس فيها»: «تعاني غالبية المصحات العقلية في الأقاليم من تكدس فاضح [...] ومن ثم يجب فورا إخراج كل من لم يعودوا في حاجة للبقاء فيها أو من لا يوجد داع لإقامتهم هناك. من يستطيعون الخروج هم المرضى الذين لم ينالوا شفاءهم بالكامل، ولكنهم ليسوا في حاجة لعناية خاصة [...] أما من يجب ألا يكونوا في المصحة أصلا فنوعان: المرضى الذين تم شفاؤهم، ولا يزالون صغارا نسبيا في السن، واليوم يكون هناك دائما استعداد لإخراجهم بشرط توافر معلومة عما سيئول إليه حالهم. والنوع الآخر - الذي لا مبرر لإبقائه في المصحة - هم كبار السن من الرجال والنساء الذين يعانون من تدهور حالتهم العقلية، ولكنهم ليسوا مجانين أو مرضى اعتلال عقلي بمعنى الكلمة، ولا تستدعي حالاتهم أي رعاية طبية خاصة، من ثم يكون مكانهم دور المسنين وسط المسنين الفقراء غير المؤذين مثلهم.» وعلى الرغم من قلة شهرته وقلة العمل به (مثله مثل الباقين)، يعد هذا المنشور هاما للغاية؛ لكونه يوضح ثانية أن الأمر لا يتعلق بتكدس المصحات وإنما بإخلائها على الأقل جزئيا.
ومن حينها، أصبح هناك وعي أكثر بمنطق خروج المرضى، ليس فقط «من تحسنت حالتهم»، بل وأيضا «الذين نالوا الشفاء». ولكن من هو «المريض الذي نال الشفاء»؟ ازدادت مصطلحات مثل «مريض شفي ولكن تحت التجربة »، و«مريض من المفترض أنه شفي»، و«مريض شفي ظاهريا، ولا يبدو خطرا ويمكن إخراجه من المصحة دون أضرار»، وإن اشتملت على بعض التناقضات في الألفاظ. وعلى سبيل الدعابة، نذكر هذا التعليق: «مريض شفي مؤقتا.» باختصار، لا يكون المريض الذي أعلن «شفاؤه» أفضل كثيرا من ذاك الذي «تحسنت حالته». والأمثلة كثيرة؛ فها هو طالب في المدرسة اللاهوتية ذو خمسة وعشرين عاما ومحتجز منذ الثالث من أكتوبر 1925 لإصابته ب «هوس حاد». وفي اليوم الخامس من الشهر ذاته، شخصت حالته على النحو التالي: «هوس حاد مصحوب بهياج شديد ومتقطع.» في التاسع عشر من الشهر، بدأ يتحسن. وفي العشرين من الشهر ذاته، أعلن أنه ليس فقط يتحسن، وإنما شفي، وخرج في اليوم نفسه. ومرة أخرى، تتكاثر الحالات من هذا النوع. فها هي مثلا حالة هوس حاد لدى امرأة في السادسة والأربعين، تعاني من انتكاس لمرضها. كانت قد دخلت المصحة في الثامن من مارس 1924 وهي تعاني من «أفكار اضطهاد وحالة من الهياج والغضب والتهديد.» في الرابع والعشرين، شخصت حالتها بالهوس الحاد. وبحلول اليوم السابع والعشرين من الشهر نفسه، تقرر خروجها «لشفائها». حدث الأمر ذاته مع هذه المريضة بالاكتئاب السوداوي والتي خرجت من المصحة لشفائها في أقل من شهر، ومع هذا المريض ذي الميول الانتحارية الذي دخل المصحة في شهر أكتوبر ليخرج في نوفمبر. أو ذاك المريض الذي لا يفكر إلا في «عدم الكلام عن اختراعاته»، ومع ذلك يتقرر خروجه. أو هذا المريض الذي يطلب عملا، فيطلب كبير الأطباء خروجه. وتلخص إحدى الشهادات - من بين أخرى كثيرة - المقصود ب «المريض الذي يخرج لشفائه»: فقد جرى احتجاز هذا المزارع ذي الخمسة والأربعين عاما في أغسطس 1881 بسبب نوبات هياج خطيرة انتابته، وأيضا بسبب عدم الإدراك (فلم يعد يعرف من هو)، بالإضافة إلى هلاوس ثراء. وبعد ستة أشهر، لم تكن هناك إلا ملاحظة واحدة: إنه هادئ. وبعد شهر آخر ونصف شهر، كان قد شفي وخرج من المصحة: «إنه في حالة من الهدوء الدائم تسمح بإخراجه، صحيح أن نسبة ذكائه ضعيفة، ولكن لم يصدر عنه أي سلوك طوال فترة بقائه في المصحة يحملني على الاعتقاد بأنه خطر ...»
وفيما يتعلق بنسبة الوفيات في المصحة العقلية، فهي تتمثل في هذه النسبة المرعبة: 53,1٪ من عدد من دخل من المرضى. صحيح أنه - إذا أردنا النظر إلى نصف الكوب المملوء أو الفارغ - يمكننا القول بأن نصف عدد المحتجزين يخرجون (أيا كانت حالتهم)، ولكن دائما ما تزيد احتمالية الخروج من المصحة بسبب الوفاة عن الخروج منها على قيد الحياة. ويوضح الحوار الذي أجري عام 1974 مع الطبيب لومارشاند - البالغ من العمر مائة وثلاثة أعوام، والمتدرب بمصحة فيلجويف منذ عام 1898:
المحاور :
إذن، ماذا عن «مصابي الشلل العام»؟ أكان هناك علاج محدد لهم عام 1900؟
الطبيب لومارشاند :
لا.
المحاور :
أكنتم تكتفون باحتجازهم؟
الطبيب لومارشاند :
كنا ننتظر موتهم.
وتعد نسبة الوفيات المسجلة في مصحة بون سوفور أقل بكثير منها في باقي المصحات العقلية. وتزيد نسبة الوفيات في الرجال عنها لدى النساء (54,20٪ في مقابل 51,85٪)، ويزيد الفرق في أقل من عام. ولكن ما هو سبب الموت داخل المصحة؟ أي شيء - كما في الخارج - وخاصة الدرن. فربما توجد حالات وفاة لأسباب خاصة، مثل «حالات الوهن الحادة»، والتي هي السبب الرئيس للوفيات داخل المصحة العقلية، وهي تبدأ بالضعف البدني العام الناتج عن قلة أو رفض الطعام؛ مما يؤدي إلى الهزال الشديد والإسهال المزمن والموت في النهاية. ولم تعد الإصابة بخلل جميع وظائف الجسم مقصورة فقط على المسنين؛ فيكثر الإصابة به في المصحة (وسنتحدث عن هذا الأمر لاحقا فيما يتعلق بزيادة نسبة الوفيات وقت الحرب العالمية الثانية). لدى النساء - اللاتي تزيد فترات إقامتهن في المصحة - يموت 62,50٪ منهن نتيجة الإصابة بخلل في جميع وظائف الجسم فوق عمر الستين، في مقابل 37,50٪ منهن يمتن قبل الستين. أما الرجال، الذين يكونون أكثر ضعفا داخل المصحة، فتكون النسبة معكوسة؛ حيث تكون حوالي 43٪ بعد الستين في مقابل 57٪ قبل الستين. فالتقسيم المرضي لمن هم تحت الستين يكون مختلفا - هم ضعاف عقليا أو بله أو مرضى بالصرع أو غالبا بالاكتئاب - بينما من هم فوق الستين، يكونون دائما مصابين بالخرف. وتزيد معدلات «الوهن العام» الذي يسبب الوفاة وفقا لأسباب معينة، ومن بينها نقل المرضى من مصحة إلى أخرى؛ مما يجعل المريض يفقد عاداته والأماكن المعروفة لديه. ويعاني أغلبية المرضى المنقولين أساسا من منطقة السين - غالبا بأعداد كبيرة (أربعين أو خمسين أو أكثر، وصل عددهم إلى مائة وأربعة عام 1890) - من «الوهن العام»، ويموتون خلال بضعة شهور، بل بضعة أسابيع؛ ولهذا، التصقت بمصحة الأمراض العقلية صورة المكان الذي يحوم حوله الموت. والأمر ذاته يكون مع حالات الاحتجاز المتأخرة، كما في حالات العجائز المصابات بالعته، ولكنهن لسن فقيرات بالضرورة. ففي أغلب الأحيان، تقرر عائلاتهن فجأة أنهم لا يرغبون في وجودهن؛ لأنهن أصبحن «شريرات» ... ومن ثم يدخلونهن المصحة وهن بعمر الثمانين، بل والتسعين. ويمتن خلال أسبوعين.
ومن المثير للدهشة، أن نسبة حالات الانتحار في المصحة قليلة للغاية. فعلى مدار مائة عام، لم ينتحر سوى أربعة وثلاثين رجلا وثلاث وعشرين امرأة (من أصل ثمانية عشر ألفا) محتجزين بمصحة بون سوفور. وأكثر الطرق استخداما هي الشنق (وإلا فما هي الطريقة الأخرى؟) «شنق المريض نفسه في أثناء الليل باستخدام السير المستخدم لتقييده في ملاءة سريره على عارضة إغلاق نافذة مهجع التمريض [!]» (1914). إلا أن لفظ «الانتحار بمصحة الأمراض العقلية» لا يملك بالطبع المعنى نفسه في الحياة «العادية». أيجب أن تتضمن هذه الفئة (نظريا، لاستحالة الأمر عمليا) مجموعة مرضى الاعتلال العقلي - وهم كثر هذه المرة - الذين يمتنعون عن الطعام داخل المصحة بغرض الموت؟
أمام هذا المشهد، ندرك أن «مصحة الأمراض العقلية، أداة الشفاء» لا تشفي في الحقيقة. وفي عام 1908، يذكر كبير الأطباء بمصحة بيجار (وهي فرع لمصحة بون سوفور مخصص للنساء في السواحل الشمالية) أن «علاج مريضات المنطقة - وجميعهن تقريبا من ذوات الحالات المزمنة - كان يقتصر للأسف على متابعة حالتهن البدنية.» ويؤكد الأمر ذاته هذا الخطاب المتواضع المرسل عام 1917من والدة مريض في الثلاثين من عمره مصاب بالبله ومحتجز منذ ثمانية أشهر. «سيادة المديرة، مرفق لسيادتكم مبلغ مائتين وخمسة وثلاثين فرنكا وعشرة سنتيمات ، قيمة إقامة أندريه بي، لست مندهشة من عدم تحسن الحالة العقلية لطفلي المسكين؛ لأنه منذ طفولته وتصرفاته غريبة. كان يلعب بالخيوط طوال اليوم، ويتلذذ بالطعام أحيانا، ولكنه أصبح الآن غريبا مما يقضي عليه.» ولقد مات الشاب بعد ذلك بسبعة أشهر.
من الناحية الطبية، كيف تكون الفترة ما بين الدخول، والخروج أو الموت؟ وتتوالى الملاحظات والتشخيصات شهريا في السجلات القانونية، وإن كانت تتركز أساسا على بداية الاحتجاز، ولا تتغير إلا في حالة حدوث تغيير ملحوظ. فالإقامات ذات المدد الطويلة عادة ما تتضمن فترات طويلة من «الصمت» ما بين الدخول - أو على الأقل السنة الأولى - وبين الملاحظات الأخيرة التي تسبق الخروج أو الوفاة.
ولا تهتم الملاحظات إلا بتدوين السلوك غير الطبيعي أو السلوك السلبي المخالف لما يجب أن يكون عليه المريض عقليا النموذجي، ويتلخص في الآتي: «هادئ ومطيع، يعمل بجد وينام ويأكل جيدا.» وتشير 37٪ من الملاحظات إلى حالات الهياج المستمرة أو النوبات بجميع أشكالها: «نوبات الاستثارة أو النشوة أو الاضطراب أو التمرد أو الوقاحة أو الكلام أو الإزعاج.» ويضاف إليها «نوبات الشر»: «الغضب والاندفاع وتمزيق الملابس وضرب من حوله والعنف والانتحار.» لكن، يجب ألا تعطي هذه الملاحظات صورة دائمة عن اضطراب المكان. ففي حوالي 32٪ من الملاحظات نجد حالات الانهيار بكافة صورها: «الضعف البدني والفكري واللامبالاة والبطالة والخمول والذهول والفتور والبلاهة وحالات الخوف والحزن والبكاء والفزع والقلق»، إلخ. ويشتمل جزء كبير من الملاحظات (35٪) على تعبيرات تحمل طابع الطب النفسي: «تفكك الأفكار أو العبارات، عدم القدرة على التعرف على نفسه، الصمت، الهلاوس (خاصة السمعية)، أفكار الاضطهاد والذنب واللعنة والتسمم والإفلاس»، إلخ. وأمام هذه الفئة الكبرى الأولى من الملاحظات، توجد فئة أخرى - ولكن بنسب أقل - تشير إلى حالات التحسن المحتملة: فتأتي ألفاظ مثل «أفضل» و«هادئ» بعد «انخفاض حدة الهياج» أو «المريض يعمل.» مثل هذه الملاحظات إنما تمهد الطريق للخروج.
وبالإضافة إلى قدم الملاحظات، يأتي قدم وسائل التشخيص. بالطبع، تختلف أنظمة تصنيف الأمراض قليلا من طبيب إلى آخر (ويعد هذا الأمر من خصوصيات الطب النفسي بالمقارنة مع باقي فروع الطب)، ولكن ليس بصورة قاطعة. فجميعهم يشتركون في تصنيف انتقائي للأمراض، يقدم ملخصا عمليا لمختلف التصنيفات الرسمية (ونذكر الرئيسين منهم: إسكيرول وجورجيه وبارشاب وفالريه وبايارجيه وموريل). ويعد هذا دليلا آخر على الفجوة الدائمة - في فرنسا بالأخص - بين النظرية (النظريات) والتطبيق العملي في المصحات. في عام 1869، ينعى لودجر لونييه «غياب التوحيد في طريقة وقواعد الأطباء في مصحات الأمراض العقلية؛ مما يعد عقبة أمام محاولة مقارنة الأرقام التي يقدمونها.» والأشد طرافة أنه يمكن اكتشاف أن بارشاب أو موريل لم يكونا يستخدمان أبدا تقسيماتهما النظرية الخاصة (وهي شديدة التعقيد) في الممارسات اليومية في مصحتيهما.
يمكننا الحديث إلى حد ما عما يشبه التصنيف الفعلي الذي يختلف من طبيب إلى آخر ومن مصحة إلى أخرى، ولكنه يبقى ثابتا بشكل عام، وفيه نجد: الهوس والهوس الأحادي والكآبة المرضية المزمنة والهذيان والخبل والضعف العقلي والشلل العام والعته والبله والصرع وإدمان الخمور ... ولكن كيف يتوزع هذا التصنيف «العام» في بون سوفور ما بين 1838 و1925؟ على رأس التشخيصات بنسبة 18,5٪، تأتي الإصابة ب «الهوس» وكافة ملحقاتها: هوس حاد (واحد من كل خمسة) وهوس قديم وهوس مصحوب بهياج وهوس متقطع وهوس مستمر وهوس مزمن وهوس اكتئابي وهوس متعلق بالنفاس، إلخ. ولكن كلما تقدم الوقت، أصبح المصطلح بائدا، وإن كنا نراه حتى عام 1925، بل وحتى قبل الحرب العالمية الثانية، في حين أنه اختفى تماما منذ زمن من الوثائق النظرية. فدائما ما يقصد به الهوس القديم الذي تحدث عنه بينيل ومن قبله القدماء. وعلى العكس، لا يظهر لفظ «الهوس الأحادي» إلا نادرا.
وبسبب تحول مرضى الاعتلال العقلي إلى مرضى مزمنين؛ تزيد نسبة «العته» إلى 18٪، وغالبا ما يقصد به العته الذي يصيب المسنين بكافة درجاته، ومن جديد يؤثر نوع السلوك على التصنيف: خرف أو هياج أو شر ... (ونرى عادة في تعليقات الطبيب هذه الملحوظة الغريبة ولا سيما لدى النساء: «إنها أشر من أن تكون مريضة عقليا».) وعلى مدار الأعوام، انتشرت تعبيرات مثل «ميل إلى الخبل»، «في طريقه للخبل»، «هوس (أو اكتئاب) يتحول إلى خبل.» أما اللفظ الطبي «الخبل المبكر»، فلم يكن يظهر إلا في 1,2٪ من التشخيصات.
ويشكل «الهذيان» (17,5٪) ثالث أكبر فئة في التشخيص. وبعيدا عن التفرقة التقليدية بين الهذيان الحاد والمزمن والمستمر (أو حتى بين هادئ ومهتاج)، يكون ما يقرب من نصف هذه الهلاوس المتنوعة يتعلق بأفكار الاضطهاد في مقابل الهذيان الديني أو هذيان أفكار الثراء أو العظمة، أو حتى «الهذيان العام». ومن قبيل الفضول، نجد أنه من أصل خمسة آلاف ملاحظة، توجد ثلاث حالات من «الهذيان المبهج»؛ مما يدل على أن المجنون لا يكون سعيدا إلا في خياله. من وقت لآخر يظهر لفظ «هلاوس » في التشخيص.
تنقسم 54٪ من التشخيصات بنسب متساوية بين «الهوس» و«العته» و«الهذيان». بينما لا تمثل «السوداوية» - ويضاف إليها «الكآبة المرضية المزمنة» و«الهوس أو الهذيان الاكتئابي» - إلا 12٪ فقط. ثم تقل نسب التشخيص لأقل من 10٪: إدمان الخمور (7,5٪)، و«ضعف العقل والضعف الفكري والوهن العقلي والانحطاط العقلي» (7٪)، والشلل العام (6٪)، والبله والعته (5٪)، والصرع (3,4٪)، و«الاضطراب العقلي» (1,8٪) ... أما الهستيريا (وهناك أيضا «هوس هستيري»)، فتكون بعيدا عن باريس؛ حيث إن الهستيريا لا تمثل إلا (1٪) من التشخيصات، بما فيها ملحقات الصرع. وتكون الإشارة إلى الذهان (0,3٪) والوهن العصبي والوهن النفسي نادرة للغاية ...
يمكن أن تتجمع لدى المريض الواحد أكثر من فئة من هذه الأمراض؛ فمثلا قد يدخل مريض لإصابته ب «الهوس» أو حتى «الكآبة»، ولكنه نظرا لطول مدة بقائه في الاحتجاز، قد تزيد «فرص» إصابته ب «ضعف الوظائف العقلية» أو «الخبل»؛ ومن ثم فيجب عدم اعتبارها إلا في إطار مدى ترددها الدلالي. وتمثل اثنتان من هذه الفئات مشاكل خاصة؛ إحداهما بسبب المبالغة في التقييم، والأخرى على العكس لضعف التقييم. وتختص المبالغة في التقييم بالشلل العام (6٪)؛ أي حوالي ألف وستمائة تشخيص، في حين أن الرقم الفعلي للمرضى بالشلل العام أقل بكثير (ربما عشر مرات أقل من هذا التقدير). ولكن فلنحذر التشخيص بأثر رجعي! ويمكن تفسير هذا التضخم بأن علم الأمصال لم يظهر في مصحة بون سوفور إلا في عام 1918، وأن التحليل التفاعلي لبورديه وفاسرمان لم يتم العمل به إلا في عام 1906. وحتى هذا التاريخ، لم يكن سبب الشلل الرباعي المرتبط بالإصابة بالزهري معروفا في مصحة بون سوفور، في حين أن الأطباء الممارسين خارج المصحة كانوا قد توصلوا إلى إدراكه. فكان كبار الأطباء يرون أنه يرجع إلى «الإفراط في المشروبات الروحية.» في تقرير ورد عام 1899، يفسر طبيب مصحة بيجار حالات الوفاة السبع عشرة من أصل إحدى وخمسين حالة مصابة بالشلل العام بأنها نتيجة «فرط الإجهاد والحياة النشيطة.» وبدا الشلل العام تشخيصا جامعا وعاما (أكثر من أي مرض آخر)، يقوم فقط على الدلالة. وعلى العكس، أظهر تطبيق تحليل بودريه وفاسرمان - ابتداء من عشرينيات القرن العشرين؛ أي قرب نهاية فترة العينة - وجود كم كبير من الأمصال التي تعالج الزهري (في عام 1921، كانت نسبتهم 26٪ لدى النساء فقط؛ وهو يبدو كثيرا).
3
إلا أن الإصابة الأولية بالزهري لا تعني بالضرورة الإصابة بشلل عام.
والفئة الثانية المشكوك فيها - ولكن دون داع هذه المرة؛ حيث إن النسبة فقط 7,5٪ - هي إدمان الخمور النفسي («هوس كحولي» أو «هذيان كحولي»)، إلا أنه يجب دراسة هذه المشكلة الهامة على المستوى الوطني. وسنركز هنا فقط على مسألة إدمان الخمور في فرنسا وآثارها النفسية. «تصاعد الإصابة بالجنون بسبب إدمان الخمور»
سنظل في مصحة بون سوفور؛ حيث تشير التقارير الطبية في نهاية القرن التاسع عشر إلى أن متوسط معدل إدمان الخمور بين المرضى المحتجزين بلغ 25,2٪ بين الرجال من عام 1899 وحتى 1908،
4
و16,6٪ بين الداخلين في الفترة من 1893 و1898 مع إضافة النساء، وهن أقل عددا نسبيا.
5 «وإلى هذا الرقم، يجب إضافة الحالات التي يتسبب فيها شرب الخمور في الإصابة بأمراض نفسية أخرى.» بالطبع، تبلغ الأعداد نسبة أكبر من 7,5٪ التي وضعت لتشمل الفترة من 1838 و1925. وقد يرجع ذلك إلى تأخر إدراك الأطباء بمصحة بون سوفور لما يسمى بالمرض العقلي الناتج عن إدمان الخمور، إلى جانب عدم الاهتمام بتسجيل كل الحالات. فبالإضافة إلى من تشخص حالتهم كمدمني خمور، يوجد بالتأكيد كثيرون آخرون «مختفون»؛ إذ إنهم مصنفون في فئات مرضية أخرى: الاضطراب العقلي والهوس (بعيدا حتى عن «الهوس الكحولي») والضلالات والوهن العقلي (بعيدا أيضا عن «كونه نتيجة للإدمان») والانحطاط العقلي والهذيان الحاد والهياج الهوسي والخبل (بعيدا عن «الخبل الناتج عن الإدمان») ...
وفي دراسة أخرى عن مصحة بون سوفور وفي الفترة نفسها (1838-1925)، توصل الدكتور فرانسواز لوكلير من جانبه إلى أن النسبة قد تصل إلى 8,8٪. إلا أننا لا نزال بعيدين - كما سنرى - عن الإحصاءات القومية. فمن أصل ألف وستمائة وسبعة محتجزين بسبب الإصابة بإدمان الخمور، تكون النسبة 79,5٪ من الرجال و20,5٪ من النساء. ويدخل الرجال المصحة عادة ما بين عمر الثلاثين والأربعين، بينما تدخل النساء ما بين الأربعين والخمسين. وعادة ما يتخذ قرار احتجازهم على إثر حادثة خطيرة.
6
ولقد بدأ ظهور المريض المحتجز لإدمان الخمور أو المريض مدمن الخمور (وتكمن المشكلة كلها في أن هناك فرقا بين الاثنين) في فترة مبكرة داخل المصحات (بل وحتى قبل ذلك كما في طلبات الاحتجاز الواردة في خطابات مختومة في عهد النظام القديم). وهكذا، يرى بارشاب - بمصحة سان يون
7 - أن 18,3٪ من أسباب الاحتجاز في الفترة من 1825 وحتى 1843 ترجع للإصابة بإدمان الخمور. وتشير إحصائية للداخلين في مصحة بيستر إلى تزايد نسبة مدمني الخمور من 12,78٪ عام 1855 إلى 25,24٪ عام 1862.
8
ومن جانبهما، أشار مانيان وبوشرو أنه - بخصوص مصحة سانت آن عام 1870 - كانت نسبة الداخلين 28,43٪ من بينهم 6,77٪ من مدمني الخمور. وعلى المستوى الوطني هذه المرة، يضم تقرير عام 1874 11,88٪ من المصابين بإدمان الخمور (17,67٪ منهم من الرجال و5,41٪ من النساء). ويشدد التقرير ذاته على أنه لا يزال هناك ضعف في تقدير العدد على الرغم من أن النسبة بلغت 8٪. «غالبا ما تنقصنا البيانات، وفي بعض الأحيان لا نبحث عنها بالانتباه الكافي في بعض المؤسسات.»
رأينا أيضا كيف جعل الطب النفسي النظري من إدمان الخمور أحد مجالاته الجديدة. فأصبحت البحوث العلمية الكبرى والمجلات الشهيرة - مثل الجريدة السنوية للطب والطب النفسي - تخصص له مقالات عديدة.
9
إلا أن إدمان الخمور لم يؤخذ فعليا على محمل الجد إلا في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد تقرير السيناتور نيكولا كلود، الذي قدمه لمجلس الشيوخ عام 1887.
10
كان مجلس الشيوخ قد أمر بالفعل بعمل تحقيقين حول إدمان الخمور عام 1849 وعام 1880، ولكن هذه المرة انصب الاهتمام بشكل خاص على «المرض العقلي الناتج عن إدمان الخمور». كانت هذه هي الجزئية الأطول من هذا التقرير المسهب، وإن كان لا يأخذ في الحسبان إلا المصحات الخاصة بالأقاليم (أي النصف). وفيما يسميه كلود «دي فوج» على سبيل الاقتراح «تصاعد الإصابة بالجنون الناتج عن إدمان الخمور»، لا يتم التشديد على زيادة متوسط الإصابة على المستوى الوطني (من 8 إلى 9٪ عام 1861 حتى 16٪ عام 1885)، وإنما على الفروق العميقة بين المناطق. ففي شمال فرنسا، توجد مصحة كاتر مار للأمراض العقلية (مخصصة للرجال) في جنوب السين، تضم 40,34٪ من حالات الاحتجاز لإدمان الخمور. وفي وسط فرنسا، نجد النسب أقل وتصل لحوالي 5٪. وكأنها مقارنة بين الأماكن المعروفة بجودة الخمور وتلك التي لا تمتلك نوعية خمور جيدة ... «نعتقد أنه يجب تجريم رداءة نوعية الخمور [...] فأنواع النبيذ الجيدة وخمر التفاح والجعة غير المغشوشة لا تتسبب في إدمان الخمور.» ولقد ظلت هذه الفكرة الجامدة - التي دافع عنها بقوة نواب وأعضاء مجلس الشيوخ في المناطق المعروفة بزراعة الكروم - ثابتة. ولقد ذهب تقرير كلود إلى التأكيد على الآثار الجيدة «لخمر العنب الذي يتسبب في سكر غير مؤذ تزول آثاره سريعا.» وبغض النظر عن هذا الوهم المحبب، هناك تأكيد لتكرار حالات الانتكاس، الناتجة عن قصر فترة الاحتجاز بالنسبة للمرضى مدمني الخمور.
كانت تلك هي المشكلة الكبرى. ففي مصحة بون سوفور، من بين المرضى الرجال المحتجزين لإدمانهم الخمور خرج 46٪ قبل ستة أشهر (و78٪ قبل مرور عام)، أما النساء - اللاتي يمكثن فترة أطول داخل المصحة أيا كانت إصابتهن - فخرج 62٪ منهن في أقل من عام.
11
وتوضح ملاحظة بتاريخ 1875 الكثير عن هذا الأمر: «يجب عدم اعتبار هذا الشاب المصاب بإدمان الخمور مريضا عقليا بالمعنى الدقيق. فقضاء بضعة أيام دون تعاطي خمور مع بعض الراحة سيعيدانه إلى حالته، وسيتمكن من مزاولة خدمته (العسكرية).» وتكثر الملاحظات من هذا النوع: «سيسترد قدراته كاملة بعد ثمان وأربعين ساعة من الراحة والامتناع عن الشرب. ولا نظن أن هناك أي داع لمد إقامته» (1880). هذا بالإضافة إلى حالات إدمان الخمور غير الملحوظة؛ لأن النوبة كانت قد مرت بالفعل؛ مما يجعلها تندرج تحت بند «نوبة هوس». وبالطبع لا ينخدع الأطباء تماما بهذه الأوهام: «يخرج المريض لشفائه، حتى حدوث أزمات جديدة بسبب نوبة هوس أخرى.» في عام 1907، سجلت مصحة بون سوفور ثلاثا وتسعين حالة خروج لدى الرجال من بينها خمس وثلاثون من مدمني الخمور. وكان كبير الأطباء أول المستاءين: «من الواضح أن شاربي الخمور الذين يصابون بالهذيان للمرة الأولى أو الثانية يشفون بسهولة، ولكن تكمن المأساة في أنهم بمجرد خروجهم يصابون بانتكاسة قد تكون حتمية، وبعد عدة انتكاسات يتحولون إلى مرضى ميئوس من شفائهم. وعلاج هذا الأمر يكون بإبقائهم في المصحة لفترة كافية؛ ليس لكي يتخلصوا فقط من هلاوسهم، وإنما من عادة الشرب نفسها، إلا أن القانون لا يسمح بتمديد فترة إقامة واحتجاز المريض بمجرد زوال أعراض الاضطراب العقلي.» ولقد بلغ الأمر أوجه مع هذا القاتل الذي قتل عشيقته تحت تأثير الخمر، وحكم عليه بالمؤبد. ولكن في غضون ثمانية أعوام، أطلق سراحه وهو في عمر الثانية والأربعين. وسرعان ما خرج، حتى ألقي القبض عليه ثانية بسبب السكر والقيام بأفعال فاضحة في الطريق العام. واحتجز بمصحة بون سوفور في الثامن عشر من يونيو 1903، قبل أن يخرج بعد إعلان شفائه في الثلاثين من يوليو؛ أي بعد أقل من ستة أسابيع من الاحتجاز.
ما يتطلب الاحتجاز كان «الهذيان الناتج عن إدمان الخمور» وليس الإدمان في حد ذاته. في عام 1902، كتب إدوارد تولوز - كبير الأطباء بمصحة فيلجويف ورائد فكرة الخدمة المفتوحة كما رأينا - في «مجلة الطب النفسي»: «يعد احتجاز مدمن الخمور في المصحة بعد زوال أعراض الاضطراب العقلي الحادة من أكثر المسائل التي توجب على الأطباء التعامل معها بحساسية. فإذا أصدر شهادة لإطلاق سراح المريض، فقد يعجل بخروجه؛ ومن ثم تعرضه للانتكاس، وإذا لم يخرجه وقرر إبقاءه، يكون الوضع متعارضا مع الأحكام العامة لقانون عام 1838.» ويدرك مدمنو الخمور المحتجزون هذا الأمر جيدا، مثل هذا المريض ذي السبعة والثلاثين عاما، الذي كتب في أكتوبر 1910 إلى عمته أثناء فترة احتجازه منذ سبعة أشهر بعد أن نقل من السجن إلى المصحة: «إذا عوقب كل من ثمل، فسيكون لدينا الكثير من المعذبين.»
وفي سبيل سد هذه الفجوة الإدارية، تمنى الكثير من أطباء الأمراض العقلية إنشاء مصحات للأمراض العقلية مخصصة لعلاج إدمان الخمور، مثل مصحة إليكون بالقرب من زيورخ، التي أنشئت بناء على مبادرة من أوجست فوريل، شديد الاهتمام بمقاومة هذا الإدمان (وهي تعرف الآن بعيادة فوريل). «يجب الاعتراف بهذا الأمر، فمدمن الخمور يجب ألا يخضع لإعادة التأهيل النفسي والأخلاقي داخل مؤسسة للمرضى عقليا: فالطبيب - الذي تشغله الحالات الخطيرة التي يجد لها بالكاد وقتا لدراستها - لن يكون لديه الوقت ولا المواد المادية والمعنوية اللازمة للشروع في عملية شديدة الحساسية مثل إعادة تأهيل مدمن للخمور. وبالتالي، يخرج المريض من المصحة - كما كان في السابق - بالعادات والإفراط نفسه، ليعود ثانية بإصابة أبلغ؛ مما يقلل فرص شفائه. إن هذا الاحتجاز المتكرر يعتبر في نظر المجتمع إجراء نافعا وحمائيا؛ لأنه يجعله بمأمن من أعمال مدمن الخمور المهلوس الخطيرة، ولكن من ناحية فعالية هذا الإجراء في القضاء على الرغبة في الشرب، فإنها فعالية وهمية؛ فهو في الحقيقة مجرد اعتقال للمدمن لكونه مريضا عقليا خطيرا، ولكن ليس علاجا لمرضه.»
12
فإذا كانت هناك مؤسسات صغيرة (من أربعين إلى خمسين مريضا) في الريف مخصصة لإقامات طويلة وبها نظام عمل منتظم - زراعي على وجه الخصوص - فسيكون هذا بالفعل علاجا لإدمان الخمور وليس مجرد احتجاز وعزل الجنون الناتج عنه. في عام 1894، طالب فالنتين مانيان وبول لوجرين بإنشاء سبع مصحات متخصصة في فرنسا على غرار تلك الموجودة في ألمانيا وسويسرا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية. كان هذا الأمر يتطلب وسائل وتشريعات جديدة. ولقد تمخضت هذه المشروعات عن لا شيء، فلم تنشأ إلا هيئة واحدة مخصصة لخدمة مدمني الخمور داخل مصحة الأمراض العقلية بمدينة إفرار. وتبين لنا صورة فوتوغرافية من ذلك العصر صالة الطعام بها ؛ حيث نجد الممرضين واقفين بصلابة - فلا نميز بين هذا المشهد وبين مصحات للأمراض العقلية التقليدية - وعلى روافد السقف نجد عبارات عملاقة مثل: «الكحول يفقد العقل ويدعو للشر»، «امتنعوا عن السكر وكونوا مستقلين.»
خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، تغيرت خريطة توزيع نسب إدمان الخمور المرضي (أو إدمان الخمور فقط) بوضوح في الغرب؛ فمنطقة نورماندي بدأت تنازع بريتاني على الصدارة. فما أكثر الكتب الصحية والوقائية ضد إدمان الخمور التي كانت تذكر نورماندي على أنها المثال الذي يجب ألا نحتذي به: «يخلق إدمان الخمور سلالة خاصة ويبدو كل أعضائها متشابهين. ففي القرى الصناعية بروان، نجد أن الجميع يتشابهون. فاحذروا أن تظنوا أن هذا هو النموذج النورماندي! لا، إنه نموذج مدمن الخمر!»
13
ويعكس ازدياد عدد حالات الاحتجاز للجنون الناتج عن إدمان الخمور (مثل حالات إدمان الخمور في المصحات وأمام المحاكم) مدى زيادة الميل للخمور لدى الشعب. وفي الوقت ذاته، تسببت الحملة ضد إدمان الخمور في تضخم في التشخيص دعمته نظريات الانحطاط العقلي التي كانت في أوجها. وفي خطاب أرسله عام 1886، يكتب لوجرين - كبير الأطباء بالخدمة الخاصة بمدمني الخمور في مصحة إفرار والعضو المؤسس للاتحاد الفرنسي لمكافحة إدمان الخمور: «إن مدمني الخمور إنما هم مرضى بالانحطاط النفسي.»
14
ولقد لاحظ المشرع هذا المزج بين إدمان الخمور كسبب رئيس في الاحتجاز وكونه عاملا مساعدا بسيطا، في تحقيق عام 1907 الذي أجراه وزير الداخلية حول «أهمية الدور الذي يلعبه الخمر والمشروبات الكحولية في التسبب في الجنون» (كنا بعيدين عن إدراك باقي المواد التي تحتوي على
C
2
H
5
OH (الإيثانول) بما فيها النبيذ)، وطلب من مديري المصحات العكوف على التمييز بين ثلاث مجموعات: (أ) إدمان الخمور البسيط (اضطراب عقلي وهذيان مصحوب بضلالات وصرع وضعف في القدرات والشلل العام، إلخ)؛ حيث ثبت أن التسمم الكحولي هو السبب الحصري لهذه الاضطرابات العقلية. (ب) إدمان الخمور الذي يزيد من تعقيده الإصابة بالانحطاط أو الوهن العقلي أو الوراثة. (ج) وجود أجداد مدمني خمور.
وبعد كل هذا، ظل المرضى مدمنو الخمور - سواء أكانوا ذوي الحالات النفسية المرضية أم لا - طوال القرن العشرين يتكدسون في مصحات الأمراض العقلية، باستثناء حالات «كمون المرض أو الإقلاع» التي حدثت خلال الحربين العالميتين. ولقد ظل الأطباء النفسيون في المصحات يتساهلون مع وجود هؤلاء المدمنين تحت رعايتهم، دون اعتبارهم في حاجة للطب النفسي. فإدمان الخمور شديد التحول هذا سيختفي - على نحو مفارق - وراء وجوده الكلي، تاركا المبالغة و«الجنون الناتج عن الكحوليات» (د. جان إيف سيمون) وصولا إلى الابتذال.
15
في التقرير الذي قمنا به عام 1983 حول موضوع «إدمان الكحول والطب النفسي» لصالح اللجنة العليا لدراسة وجمع بيانات حول إدمان الخمور،
16
توصل الأستاذ هنري برنارد إلى الآتي: «يبدو إدمان الخمور من دون وجه ولا صوت ؛ فهو يندمج في المشهد الكبير ككل، فاقدا عمقه كمجال خاص، ويشارك في رمادية الأشياء، ولا يستدعي اهتماما مباشرا خاصا. وعلاوة على ذلك، ألا يعتبره الطب - مهما ازداد اهتمامه به - أمرا إضافيا لا نفعل الكثير حياله؟ ألا يستخدمه كسبب خارجي غامض لأمراض كثيرة، عندما ظهر علم تتبع سبب المرض ليحل محل علم نشأة الأمراض؟ الأمر مشابه في مجال الطب النفسي بشكل عام. فمكانة إدمان الخمور في مجالات الدراسة والبحث وأدب التخصص لا تتناسب أبدا مع مكانته داخل خدمات المصحات، وكأن باقي مجالات علم النفس الطبي كانت هي وحدها الجديرة بالتقدير والدراسة. فالمناقشات الطويلة الفارغة حول انتماء إدمان الخمور من عدمه لمجال الطب النفسي - في الوقت الذي كان فيه مدمنو الخمور موجودين بالفعل في مصحات للأمراض العقلية - إنما يدل قبل كل شيء على عجز كبير. باختصار، يمكن القول بأنه إذا كان مدمن الخمور يحول إدمانه إلى أمر عادي، فإن الطب النفسي يزيد من هذا الأمر!»
17
الفصل الثاني
القرن الجديد
كان للتقلبات الجذرية التي شهدها الجزء الأول من القرن العشرين - بدءا بالحربين العالميتين والثورة البلشفية - أثر كبير على حركة التفكير، بل وعلى الحالة النفسية والمشاعر العامة، بما في ذلك تاريخ الجنون والطب النفسي؛ والذي بدأ منذ ذلك الحين التمييز بينهما بوضوح. فبعد القرن التاسع عشر الطويل المليء باليقين والإيمان في التقدم والمستقبل ، جاء قرن الشكوك والتساؤلات بكافة أنواعها. فترك الشعراء - أول من تركوا - تصوير عالم مطمئن، كما كتب جول سوبرفييل قبلا: «لا تمس كتف/الفارس الذي يعبر/لئلا يلتفت/ويحل الظلام»، للتعبير عن عالم آخر يخيم عليه شبح العدم مهددا وجوده.
الحرب العالمية الأولى والحركة السريالية
تمثل الحرب العالمية الأولى منعطفا حاسما في تاريخ الطب النفسي. فعلى عكس «ذهان الحرب» أو «تفاعل كرب القتال»، بدت الحرب للبعض كأنها هي الجنون في ذاتها، بل هي الجنون نفسه. كان أندريه بروتون - قبل تجنيده في الجيش - يعمل كطبيب متدرب. وبعد تنقلات عدة بين مشاف مختلفة، استقر به الأمر في مشفى «فال دي جراس» العسكري. ومن أكثر الحالات تفردا التي جذبت انتباهه، كانت حالة تشبه ذهان الحرب، ولكن معكوسة، لجندي أودع المصحة ليس لشجاعته غير المألوفة، وإنما للدافع وراء كونه شجاعا؛
1
فقد كان مقتنعا بأن الحرب ليست سوى خيال كبير، وأن القذائف لن تؤذيه، وأن الإصابات التي يراها ليست سوى مكياج. وفكرة المحاكاة (بما فيها «المحاكاة الإرادية» التي يسببها المرضى العصبيون على حد قول بابينسكي) لا تتعلق بالباثولوجيا العقلية، وإنما بالحرب ذاتها. «لديه حالة من الفكاهة السوداوية وهذيان بالطبع، يصاحبهما شعور بالدهشة والمفاجئة، يبدو كمشهد سريالي في الحقيقة.»
2
كان الرفض للحرب وللحضارة التي تسببت فيها قد أدى إلى ظهور حركة الدادية (عام 1916 بزيورخ). وانضم إليها أندريه بروتون - المطلع على أعمال فرويد ولوتريامون - ولكن صداقته وتفكيره المشترك مع إليوار وأراجون وسوبو قاداه إلى آفاق جديدة. «منذ كتابة مراجعه الأولى، وهو يرى أن السريالية تنمو في أرض الطب النفسي لتظهر عجائب اللاوعي.»
3
في «بيان السريالية» الأول (1924)، يعرف بروتون المصطلح: «حركة لاإرادية نفسية بحتة، نستخدمها للتعبير [...] عن العمل الحقيقي للفكر. فالفكر هو من ينظمها، في غياب أي سيطرة من العقل، وخارج أي اهتمامات جمالية أو أخلاقية.» في عام 1925، كتب روبرت ديزنوس - الذي انضم إلى مجموعة السرياليين - في مجلة «الثورة السريالية» - التي تأسست عام 1924 - مقالا يهاجم فيه بقسوة الأطباء النفسيين: «أيها السادة، أعطتكم قوانين العادة الحق في قياس العقل [...] دعونا نضحك [...] نحن لا نهدف هنا إلى مناقشة قيمة علمكم، أو الوجود المشكوك فيه للأمراض العقلية. ولكن من بين مئات الأمراض المدعاة التي تضطرب فيها المادة والفكر، ومن بين مئات التصنيفات التي لا يزال مستخدما أكثرها غموضا، كم هو عدد المحاولات النبيلة التي قمتم بها للاقتراب من عالم المرضى الذين تعتبرونهم سجناء؟ [...] نحن نحتج على الحق المعطى لبعض البشر - سواء كانوا محدودي الفكر أم لا - في عقاب آخرين بالحبس المؤبد بناء على أبحاثهم في مجال التفكير. وأي حبس! ونعلم - ليس بالقدر الكافي - أن مصحات الأمراض العقلية - قبل أن تكون مصحات - إنما هي سجون مخيفة. نحن لا نقبل أن يعيق أحد التطور الحر لأي هذيان شرعي ومنطقي مثله مثل أي سلسلة من الأفكار أو الأفعال البشرية [...] فالمجانين هم ضحايا فردية للديكتاتورية الاجتماعية [...] أتستطيع سيادتك أن تتذكر صباح غد وقت الزيارة متى ستقرر أن تتحاور مع هؤلاء الرجال الذين لا تمتاز عنهم بشيء إلا السلطة؟ ولنعترف بذلك.»
ويضيف بروتون: «في رأيي، كل حالات الاحتجاز تعسفية [...] أعلم أنه إذا كنت مجنونا ومحتجزا منذ عدة أيام، فسأنتهز أي فرصة هدوء لأقتل بدم بارد أي شخص - يقع بين يدي وخاصة الطبيب. على الأقل، سأفوز بالحصول على غرفة منفصلة خاصة بي مثل المرضى المصابين بالهياج.» استشاط أطباء الأمراض العقلية غضبا. ويشبه بيير جانيه الأدب السريالي ب «اعترافات أناس مصابين بالهوس.» ويجيب بروتون: «نحن نشرف لكوننا أول من قرر الترفع عما لا يحتمل؛ ورفض الاستغلال المتنامي لبعض الأشخاص لسلطتهم، هؤلاء الأشخاص نراهم أقرب للسجانين منهم إلى الأطباء» (الطب العقلي في مواجهة السريالية). وفيما يخص مصحة الأمراض العقلية نفسها، كتب بروتون في «نادجا»: «ليس هناك داع لدخول مصحة للأمراض العقلية للتأكد من أنه ليس سوى مصنع للمجانين، كما أن الإصلاحيات هي مصانع للسارقين.» ومن جانبه، كتب أنطوان أرتو - الذي انضم لفترة إلى المجموعة السريالية: «لأن المجنون ليس سوى رجل رفض المجتمع أن يستمع إليه، بل وأراد أن يمنعه من البوح بحقائق لا تحتمل.» في عام 1928 - عام ظهور رواية «نادجا » - احتفل السرياليون بحماس بالعام الخمسين لاكتشاف الهستيريا «أكبر اكتشاف شعري في نهاية القرن التاسع عشر.» «فالهستيريا ليست ظاهرة طبية، ويمكن - بجميع الأحوال - اعتبارها وسيلة سامية للتعبير» (أراجون وبروتون - «الثورة السريالية» - الخامس عشر من مارس 1928).
وفي المقابل، أظهر السرياليون اهتماما واسعا بالتحليل النفسي، متخذين موقفا مزدوجا تجاه فرويد، الذي كان يحاول في البداية بأدب، ثم بطريقة جذرية، أن يبتعد عنهم. «وفقا لفرويد، الحلم يتنبأ بالماضي، وليس بالمستقبل.»
4 «فن الأمراض النفسية» ومجانين الأدب
بدا في هذا العصر وكأن الجنون لا بد من أن يخرج من عزلته كمرض عقلي. فلم يكن ينقص إلا أن يفسح له الفن مكانا صغيرا أيضا. كان الأمر يتطلب لتحقيق ذلك أن يصبح الطبيب النفسي الألماني بالمستشفى الجامعي بهايدلبرج - هانز برينزهورن (1886-1933) - مؤرخا في الوقت ذاته لحركة الفن. منذ زمن طويل، ومرضى الاعتلال العقلي يرسمون ويلونون، إلا أن برينزهورن شعر بانجذاب في الفترة من 1919 إلى 1921 لهذا الموضوع، وجمع ما يقرب من خمسة آلاف «تعبير عن الحالة النفسية المرضية»، ونشرها عام 1922 في عمل مليء بالرسومات أسماه (تعبيرات الجنون).
5
كانت تلك إحدى أوائل المحاولات - إن لم تكن الأولى بالفعل - لاستكشاف الحدود بين الفن والطب النفسي، وبين الجنون والتعبير الإبداعي. ولقد عرضت مجموعة برينزهورن في المعرض المفتوح بميونخ عام 1937 على يد النازيين كدليل على الفن المنحط، على النقيض مما يسمى «الفن»؛ «أي الفن الألماني ذا القيمة الخالدة.» تحمس الكثير من الفنانين لهذا الأمر أيضا: بول كيلي وماكس إرنست، وعلى طريقهم مضى باقي السرياليين. بالنسبة إلى بعض المرضى المحتجزين، كان يمكن أن يطلق على رسوماتهم أعمال حقيقية. كانت تلك هي حالة أدولف ولفي، المحتجز منذ عام 1895 بمصحة والدو للأمراض العقلية بالقرب من بيرن. بدأ راعي الماعز والمزارع هذا الرسم منذ 1899 دون أن يتلقى أي تدريب، وظل يرسم حتى موته في المصحة عام 1930، تاركا إرثا مكونا من خمسة وعشرين ألف صفحة هي سيرة ذاتية وهمية (سيرة حياة القديس أدولف)، مصحوبة بألف وستمائة رسمة ملونة وألف وخمسمائة صورة، تعد الآن مصدر فخر لمتحف الفنون الجميلة ببيرن . كان طبيبه النفسي - الطبيب والتر مورجنتهالر - هو الذي قام بالتعريف لأعماله عام 1921.
ومن فرط تأثره بالعمل الرائد لمجموعة برينزهورن، رأى فيه جان ديبوفيه «تصويرا فوريا ومباشرا لما يدور في أعماق البشر.» ولكنه رفض مصطلح الفن النفسي (فلا يوجد فن للأمراض النفسية، كما لا يوجد فن خاص بمرضى عسر الهضم أو آلام الركبة)، وأنشأ عام 1945 مصطلح «الفن الخام» (الفن الخارجي كما يسميه الأنجلوساكسونيون). وهو يختلف عن الفن الساذج أو الفن الأولي (اللذين يتغيران وفقا للمجتمع)، فهو بالنسبة إلى ديبوفيه تعبيرات «كاملة عن ثقافة فنية»، بعيدة تماما عن «الاحترافية في الفن»، ولا تقتصر فقط على مرضى الاعتلال العقلي. فعلى حد قوله، لا يوجد فن للجنون، وإنما يوجد مجانين في الفن. أما عن الجنون لدى الفنان، فهذا أمر آخر: «لا تنخدعوا بهذا الأمر، فالمجنون في هذا المجال شيء مختلف، وإلا لما أتى الفنان بجديد» (جان كوكتو). ولقد كون ديبوفيه - بعد أن زار مصحات فرنسا وسويسرا، مضيفا إليها ابتكارات منفردة - مجموعة متفردة على مستوى العالم من الإبداعات، توجد حاليا في لوزان (مجموعة الفن الخام).
وبعيدا عن استثماره في الفن، لم يكن التعبير النفسي بالرسم ليختفي، وظل تحت أعين الطبيب النفسي، الذي ربما يجد فيه رابطة للتواصل مع مريضه أو وسيلة لفك شفرة هذيانه. في عام 1950، أثناء انعقاد المؤتمر العالمي الأول للطب النفسي، نظم معرض «للفن النفسي» (ظل المصطلح كما هو) بمصحة سانت آن بمشاركة ما لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين «مريضا من العارضين».
الأمر يختلف عن العلاج بالفن - الذي يشهد طفرة هذه الأيام - وكان قد ظهر في بعض المصحات لعلاج الأمراض النفسية في النصف الثاني من القرن العشرين. فالعلاج بالفن هو وسيلة للعلاج النفسي عن طريق الفنون، وأحيانا ما كان يضاف إليها الموسيقى والرقص والمسرح. وانقسمت الآراء حول هذه الطريقة - مثلما انقسمت حول طرق أخرى جديدة أو مطورة من طرق قديمة - وكانت النتائج معتدلة. يمكن اعتبارها أيضا طريقة لتحديد بعض التشخيصات، فكل عائلة من الأمراض العقلية يكون لها «أسلوبها» الخاص. في عام 1956، نشر روبرت فولما - بعد معرض سانت آن عام 1950 - فهرسا حقيقيا لهذه اللوحات. وفي عام 1963، أنشأ المركز الدولي لتوثيق الفنون، الذي أصبح لاحقا مركز دراسة طرق التعبير. على إثر إنشاء الجمعية الدولية للأمراض النفسية التعبيرية عام 1959، أنشئت جمعية فرنسية تحمل نفس الاسم عام 1964. وتهدف الجمعيتان إلى «تكوين علاقات بين مختلف المتخصصين المهتمين بدراسة العلاقة بين التعبير والإبداع والفن وبين الأبحاث في الطب النفسي وعلم الاجتماع وعلم النفس والتحليل النفسي التي حاليا تشهد تطورا على مستوى العالم.» (واليوم أصبحت هذه الجمعية تسمى: «الجمعية الفرنسية للأمراض النفسية التعبيرية وطرق العلاج بالفن».)
أنجرؤ بالفعل على الاقتراب من مجال الأدب، كما حدث مع الفن الخام عن طريق فكرة مجانين الأدب؟ ولكن ما المقصود بمجنون الأدب؟ يفضل المعالج أندريه بلافييه
6 - الذي أحصى عام 1982 ما يزيد عن ثلاثة آلاف منهم - أن يسميهم «شواذ أو غرباء». ويتحدث بعض أطباء الأمراض العقلية عن «المهووسين بالكتابة». ويدخل هؤلاء أيضا هذه المرة في نطاق التوافق الأدبي. ويعدد بلافييه: «يوجد مجانين لاهوتيون يؤسسون ديانات تتحدث عن نشأة الكون، ويوجد مجانين علماء - خاصة في الرياضيات - ويوجد مجانين بارعون في تاريخ اللغات واللغويات بشكل عام، ويوجد المجانين الأدباء بمعنى الكلمة والمجانين علماء الاجتماع والمصلحون ومنقذو البشرية، ومجانين السياسة.»
كان شارل نودييه
7
قد اهتم بدراسة ما يطلق عليه غرباء الأطوار في مجال الأدب، السابقون لعصرهم. وفي روايته «فتات الساحرة» (1832)، يجعل نودييه من جنون «غرباء الأطوار» وسيلة للجمع بين الحلم والواقع. ومن بعده، استلم الراية جوستاف برونيه - تحت الاسم المستعار فيلومنست جونيور
8
عام 1880. ويحدثنا الاثنان عن كثيرين، من بينهم أليكسيس بيربيجييه - المعروف ببيربيجييه من تير نوف دي تيم (أرض الزعتر الجديدة) - المصاب بهلاوس الاضطهاد. ولقد نشر هذا العلم من أعلام مجانين الأدب عام 1821 على نفقته الخاصة بما تبقى له من نقود «العفاريت: كل الشياطين ليسوا من العالم الآخر». كانت القصة مملة، ولكن ما جعل أطباء الأمراض العقلية في ذلك الوقت يشغفون بها، كانت العلاقة بين الهذيان المزمن وأفكار الاضطهاد التي تدور حول موضوع وحيد (كل ما يحدث من شرور في العالم إنما هو عمل الشياطين الأشرار الذين شرع بيربيجييه في مقاومتهم بضراوة). أما بينيل - والذي أرسل له بيربيجييه عام 1816 ووصف له علاج الحمامات - فقد انتهى الأمر بأن اعتبره بيربيجييه في مصاف معذبيه الذين ينوي التخلص منهم بواسطة الإبر، أو حبسهم في زجاجات مغلقة وعليها إشارة إلى من في داخلها. ونرى هنا أن الكفة تميل ناحية الجنون، ولكن بالنسبة إلى معظم مجانين الأدب، تميل عادة ناحية الأدب. فيتحدث بعضهم عن عدم وجود الجحيم، وآخرون عن «الأسباب الجبرية للجنس داخل النوع البشري». عام 1925، كتب - «ماركيز كامارازا» - شيئا عجيبا يسمى «بحث تاريخي نظري عملي فلسفي فقهي شعري رياضي أكروباتي سياحي فني ورائع عن العربة ذات العجلة الواحدة». وبالطبع يكون هؤلاء المؤلفون على اقتناع تام بما يكتبون. في جميع الأحوال، كان هواة الكتب يشترون هذه النسخ ولكن بأعداد قليلة. فمجنون الأدب الذي يحترم ذاته، هو مؤلف لم يقرأ له أحد.
ولقد كان ولع ريموند كونو - بعد انفصاله عن السرياليين - بدراسة مجانين الأدب، الذين جسدهم في رواية «أطفال ليمون»؛ شديدا (1938). ووفقا لكونو، مجنون الأدب هو «مؤلف له كتب منشورة، يختلف هذيانه (لا أقصد المعنى السيئ للكلمة) عن ذلك الذي ينشره المجتمع الذي يعيش فيه [...] كل من كان له أتباع فهو ليس مجنون أدب.» ويرفض كونو - كما سيرفض بلافييه أيضا لاحقا - إعطاء لقب مجنون أدب للمتصوفين «بكل أشكالهم». «في مطلع القرن الحادي والعشرين، في عالم يسود فيه السياسة السليمة والتفكير الموحد»، أتم إنشاء معهد طريف وغريب يسمى «المعهد الدولي لأبحاث واكتشافات مجانين الأدب وغرباء الأطوار والمختلفين والمعزولين، وغيرهم.» وينوي المعهد - الذي أنشأ مجلة «دراسات المعهد» وصدر العدد الأول منها في يونيو 2008 - استكمال ما بدأه السابقون. أي إن الاعتقاد في مجانين الأدب لا يزال حيا. ولكن فلننتبه: الجنون ليس ضمانا للعبقرية.
نهاية الطب العقلي وميلاد الطب النفسي المعاصر
على سبيل الدعابة، قد نشبه الطبيب النفسي بطبيب الأمراض العقلية الذي تساوره الشكوك. وبالفعل، نجد أن الكثير من الأطباء النفسيين ظلوا طويلا حابسين طبيب الأمراض العقلية داخلهم . في حديثه عن «أطباء الأمراض العقلية الآخرين»، يقول كبير الأطباء باريتون في رواية «رحلة إلى نهاية الليل» عن العصور الجديدة للطب النفسي: «لم يحاول أحد منا أن يصبح مجنونا كالعميل [...] لم تكن موجة الهذيان بحجة أنها أكثر انتشارا قد ظهرت بعد، يا لها من موجة فاضحة مثل كل شيء يأتينا من الخارج [...] وكأني أنقب داخلك! وأفتح عقلك! وأطغى عليك بالكامل! أليس كذلك؟! حولهم ركام مقزز من البقايا العضوية ومزيج من أعراض الهذيان المختلطة التي ترشح وتقطر من كل اتجاه. تمتلئ أيدينا بها ومن كل ما يتبقى في الذهن، ونكون كلنا لزجين وأفظاظا ومحتقرين ومقززين.»
في مطلع القرن العشرين، كان الطب العقلي لا يزال مزدهرا على يد مانيان في فرنسا وكرابلين في ألمانيا. وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، تراجع الإيمان في العلم الإيجابي ليحل محله التشكك والارتياب. وشهدت موجة الكيانات التصنيفية الضخمة - مثل الانحطاط - تراجعا، وأصبحت تشخيصا سهلا جامعا تندرج تحته جميع الحالات المحرجة. رأينا إلى أي درجة تعايش المصطلحان «الطب العقلي» و«الطب النفسي» طويلا (فالطب العقلي يختص بالمشفى، بينما الطب النفسي بالنظريات). ولكن منذ عشرينيات القرن العشرين، بدأ الطب النفسي كمفهوم يفرض نفسه، بينما تلاشى الطب العقلي كمفهوم أو على الأقل كمصطلح. في المقابل، ظل استخدام لفظ «المجنون» مستخدما حتى عام 1925، على الرغم من تفضيل البعض، قبل ذلك التاريخ، استخدام كلمة «مريض عقلي». أما لفظ «مصحة المجانين»، فتخلى بصعوبة عن مكانه لصالح «المشفى النفسي» رسميا عام 1937، وإن ظل لفظ «مصحة الأمراض العقلية» مستخدما.
في عام 1906، تأسست مجلة «الدماغ»، والتي تهدف إلى «كسر العزلة التي فرضت مؤقتا على المرض العقلي.» وكان علم الأعصاب وعلم النفس - لئلا نقول الطب ببساطة - دعوة لأطباء الأمراض العقلية للخروج من مشفاهم. وعلى عكس فكرة الانحطاط - التي خلقت فجوة بين ما هو طبيعي وما هو مرضي - وجدت نظرية جديدة (واحدة أخرى) وهي نظرية التكوينات التي سعت على العكس إلى سد هذه الفجوة.
9
وأصبحت هناك هوية واحدة تجمع الآليات النفسية الطبيعية والمرضية، فلم يعد الاختلاف على المستوى النوعي وإنما على المستوى الكمي. في عام 1919، قدم إرنست دوبريه (1862-1921) تفسيرا لهذه التكوينات المرضية المشتقة من وظائف طبيعية مثل التخيل والانفعال، وهي «عمل الإصابة العقلية القوية وسببها». واستنتج عام 1919 أن: «الأمراض العقلية هي أمراض في الشخصية.» ومن جديد برزت تلك النظرية الجاذبة للكل - التي تقول بوجود ميول معينة تنقل بالوراثة - لإعادة إحياء لنظرية الانحطاط العقلي لكل من موريل ومانيان.
كان لأعمال إيميل دوركايم (1858-1917) مستقبل أكثر ثراء، وافتتح بها تيار علم الاجتماع. فخصوصية الوقائع الاجتماعية (طرق التصرف والتفكير والشعور الخارجة عن الفرد والتي تمتلك قدرة قهرية تفرض نفسها عليه) «للحياة النفسية الجماعية» إلى جانب مفهوم «التفاعل»، يمكن تطبيقهما أيضا في مجال الأمراض العقلية التي تعد حالة صراع مع المجتمع المحيط.
أما عن الطريقة الظواهرية في علاج المرض العقلي، فقد رأينا أنها كانت اقتراحا من كارل ياسبرز منذ عام 1913 (دراسة للحالات المعنوية للمرضى). كان يوجين مينكويسكي هو الذي أدخل هذا التيار أخيرا إلى فرنسا خلال فترة ما بين الحربين. وإلى جانب كتابه «الفصام» - الذي أعيد طبعه مرتين يفصلهما ربع قرن (1927 و1951) - نشر مينكويسكي عام 1933 «الزمن المعيش، دراسة ظواهرية ونفسية»، شدد فيه على شكل العلاقة وطريقة التعامل إزاء المريض. بطريقته الظواهرية، يضع مينكويسكي - تلميذ هوسريل وبرجسون - المعرفة في حالة توقف مؤقت في لحظة الالتقاء نفسها بكلام المريض، الذي اتخذ من الآن وضعا جديدا كشخص «يجري التعامل معه بنظرة كلية وفي ظل عمق تاريخه.»
10 «وربما للمرة الأولى في تاريخ الطب النفسي»، لا يشمل مصطلح الفصام «أعراض المريض فحسب، وإنما موقفنا تجاهه، متضمنا بالتالي الإشارة إلى السلوك الذي يجب أن نتبعه إزاءه بصفتنا أطباء نفسيين معالجين، أو معالجين نفسيين قبل كل شيء.»
11
استقبل تيار علم الأعصاب إضافة جديدة. في عام 1920، أوضح كونستانتين فون إيكونومو (1876-1931) - عالم الأعصاب النمساوي من أصول رومانية - بالتزامن مع جان رينيه كريشيه؛ الطبيعة المعدية للعدوى المخية المعروفة بالخمول التي اجتاحت أوروبا مع «الأنفلونزا الإسبانية». ويبرز نوعان من المرضى: مرضى الغيبوبة، ومن يعانون - على العكس - من حالة هياج وهذيان وتبدو عليهم اضطرابات السلوك . يموت الكثيرون. وبدراسة أمخاخ النوعين، عرض فون إيكونومو نتائجه في عام 1928، موضحا أن القسم الثاني يكون مصابا في الجزء الخلفي من تحت المهاد (الهيبوثالامس) نتيجة فيروس التهاب الدماغ الذي يدمر مراكز النعاس. ولمزيد من الدقة، لم يكن هذا الاكتشاف معززا لنموذج الشلل العام، بل فتح ثغرة جديدة في عقيدة التكوين الباطني للذهان.
التحليل النفسي والطب النفسي
كان للتحليل النفسي الدور الأهم في تطوير الطب النفسي. ونؤكد أن حديثنا في هذا الكتاب لا يهدف لدراسة تاريخ التحليل النفسي، وإنما دراسة مدى تأثيره على الطب النفسي الذي انبثق منه كما رأينا أثناء حديثنا عن الهستيريا.
ولذلك، سنعود إلى بلولير في بيرجولزي بزيورخ قبل وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى. كانت بيرجولزي هي المركز الأكثر نشاطا في الطب النفسي الأوروبي وملتقى أطباء الأمس والغد. وكان بلولير من أوائل الأطباء النفسيين الإكلينيكيين الذين اعترفوا بفرويد، إن لم يكن أولهم بالفعل. وكتب - في مقدمة أعظم إسهاماته «الخبل المبكر، أو مجموعات الفصام» في «بحث في الطب النفسي» بآشافنبرج (1911) - ما ذكرناه قبلا: «التقدم والتوسع في مفاهيم الأمراض النفسية ليس إلا تطبيق أفكار فرويد على الخبل المبكر.» كان بلولير لفترة ما منسقا لأول مجلة في التحليل النفسي، والتي أسسها فرويد عام 1908 (مجلة البحوث في مجال الأمراض النفسية والتحليل النفسي). ولكنه لم ينغمس كليا في حركة التحليل النفسي، بل وشهدت علاقته بفرويد نوعا من الفتور منذ عام 1910. ولم يعد بلولير يستخدم مصطلحات فرويد في تحليله حول محتوى الهذيان والاضطرابات النفس-حركية: «تحرك، تكثيف، ترميز، نكوص نرجسي، تعبير اللاوعي»، مؤكدا على التشابه بين تفكير الحلم والتفكير المتوحد (تريا).
12 «يمثل نظام بلولير القطيعة مع الأطر التصنيفية الجامدة للأمراض، وأيضا مع التشاؤم والاستسلام المميزين لنظام كرابلين. فهو يعيد للمريض وضعه ككائن تحركه المخاوف والرغبات. فلم يعد المريض كائنا غريبا، مجنونا [...] بين كرابلين وفرويد، يأتي بلولير في منتصف الطب النفسي المعاصر.»
13
وأيضا في بيرجولزي، اكتشف تلاميذ بلولير - كارل أبراهام (1877-1925) والسويسري لودفيج بينسفاجنر (1881-1966) والأمريكي أبراهام أردن بريل (1874-1948) وخاصة كارل جوستاف يونج (1875-1961) - التحليل النفسي، وعكفوا من حينها على نشره. وأصبح بريل - على حد تعبيره - «الممثل الرسمي للأستاذ فرويد» في الولايات المتحدة الأمريكية والمترجم (تقريبا) لأعماله. وقرب نهاية حياته، كتب: «عندما عرفت التحليل النفسي لأول مرة، لم أتصور أبدا أنه يمكن اعتباره شيئا منفصلا عن الطب النفسي؛ وذلك لأني دخلت هذا العالم الجديد الغريب عني تماما من خلال مركز الطب النفسي بزيورخ.»
14
ويعد المجري ساندور فيرينزي (1873-1933) تجسيدا لهذا الجيل من شباب الأطباء النفسيين الذين سيعتمدون طريقة التحليل النفسي. في عام 1918، أصبح هو رئيسا لجمعية التحليل النفسي الدولية (كانت قد تأسست أول «جمعية للتحليل النفسي» عام 1910).
كان الأطباء النفسيون الذين تأثروا بأفكار فرويد كثيرين، ولكنهم سرعان ما انفصلوا عنه لكونه لا يقبل الاختلافات في المذاهب النفسية. كانت تلك هي حالة ألفريد آدلر (1870-1933) الذي تعرف على فرويد عام 1902، ثم ترأس في عام 1910 جمعية فيينا للتحليل النفسي. وحدثت القطيعة عام 1911 عندما قدم آدلر بيانه حول «الاحتجاج الذكوري كمسألة محورية في العصاب». وقلل في بيانه من دور الكبت والأصول الجنسية للعصاب، معليا من دور الشعور بالنقص. وإذ به يختزل عقدة أوديب المقدسة في «حركة نفسية أوسع»: مفهوم «الاحتجاج الذكوري»، والمقصود بكلمة ذكوري ليس سياقها الجنسي. ورفض بلولير أيضا نظرية فرويد «عن تفسير كل عمل وفقا لدوافع جنسية في العقل الباطن.» ومن جانبه، ابتعد بينسفاجنر عن أفكار فرويد، ولكن دون قطيعة صريحة. فنظرا لدراسته للفلسفة، أبدى اهتماما أكبر بالنظريات الظواهرية لهوسريل وهايدجر، محاولا بلوغ استنتاجات عن طريق الاستفادة من إسهامات التحليل النفسي. ولكن مستلهما أفكاره بالتحديد من علم الظواهر، وتوصل إلى طريقة علاجية جديدة في مطلع الثلاثينيات: «التحليل الوجودي». في كتابه النظري، يعمل بينسفاجنر على إعادة تركيب وفهم عالم التجربة الداخلية للمريض عقليا.
كانت القطيعة الكبرى هي تلك التي ليونج، الذي كان يعد قبلا ولي عهد فرويد، ولكنه سرعان ما انفصل عنه تماما منذ عام 1913. ثم وضع نظريته الخاصة «علم النفس التحليلي» أو «علم نفس الأعماق» (علم الروح العميقة واضطراباتها). في كتابه الضخم «الأنماط النفسية» الذي صدر بتاريخ 1921 - والذي لم يكف عن إكماله وإثرائه في عمل ضخم وهائل - كان يهدف إلى «إسقاط الطابع المطلق» الذي اتخذته نظريات فرويد المتناقضة، وأيضا نظريات آدلر. فإلى جانب «اللاوعي الفردي»، يؤمن يونج بوجود «لاوعي جمعي» يكون نتاج تراكم الخبرات البشرية عبر آلاف السنين، والذي يعبر عنه بنماذج كبرى توجد في أساطير جميع الحضارات، ومن بينها «الأنيما» (وهو مبدأ أنثوي يوجد في كل رجل)، و«الأنيموس» (وهو المبدأ الذكري الموجود في كل امرأة)، و«الظل» وهو صورة خيالية تعبر عن اللاوعي الفردي. وتعمل طريقة يونج العلاجية (والتي تتميز بهذا قبل كل شيء) - وهي أكثر توجيهية من طريقة فرويد - على إعادة ربط المريض على نحو نشط بجذوره باستخدام تحليل الأحلام وبرفض الدور الإيجابي للنقل. وعلى عكس فرويد، لا يعترف يونج بالدور الحاسم للطفولة في الإصابة باضطرابات نفسية في سن النضوج، والتي تتحدد «وفقا لتعامل الشخص مع العالم الخارجي».
15
ورافضا أي جمود في المنهجية، اقترح يونج على من يمارس التحليل النفسي، أو على «أي شخص يريد التعرف على النفس البشرية»، أن يترك جانبا سترته وكتبه و«أن يتجول (كما فعل هو ذاته) على غير هدى في شتى أنحاء العالم بقلبه البشري.»
كانت هناك الكثير من الخلافات (العميقة بلا شك) داخل ما يمكن تسميته ب «عائلة» المحللين النفسيين. ولكن ماذا عن الاستقبال المتحفظ الذي لاقته أفكار فرويد لدى الأطباء النفسيين «الأساسيين» خاصة في فرنسا؟ كان فرويد أول من اشتكى: «ماذا يريد هذا المحلل النفسي؟ [...] أن يعيد إلى سطح الوعي كل ما هو مكبوت. ألم يكبت كل منا الكثير من الأشياء التي نحتفظ بها بصعوبة في اللاوعي؟ كان التحليل النفسي يثير في نفوس كل من يسمع عنه المقاومة نفسها التي لدى المرضى. ومن هنا تأتي بلا شك المعارضة القوية والغريزية التي يتميز علمنا بإثارتها.»
16
في الواقع، أبدى مجتمع الأطباء النفسيين بأكمله وعلى مستوى العالم رفضه لفرويد. وخارج فرنسا، كان هناك كرابلين وفاجنر فون جوريج وآشافنبرج وغيرهم من المعادين لأفكاره بدرجات مختلفة. في فرنسا، كان العداء شبه عام. كان هناك حديث عن «السم الفرويدي». «تأتي دراساته العميقة بكثير من السفالة وبأسلوب خارج عن اللياقة» (تريا). ويصف شارل بلونديل - طبيب نفسي - التحليل النفسي ب «الانحلال ذي الطابع العلمي»، ويندد «بالسخافات التي قد يؤدي إليها هذا الهاجس بالفكرة الجنسية المسبقة.» كان أول طبيب نفسي فرنسي يدخل أعمال فرويد إلى فرنسا هو آنجيلو هينسار (1886-1969)، ولكن بطريقة نقدية تماما لم تؤت فائدة لحركة التحليل النفسي. ثم توالت الترجمات المتأخرة لكتاب «مقدمة في التحليل النفسي» (1922) و«علم الأحلام» (1926). وتكونت مجموعة صغيرة حول رينيه لافورج (1894-1962) بسانت آن، والتي أصبحت عام 1925 «مجموعة تطور الطب النفسي» (كان مينكويسكي واحدا منهم). وهناك كان يحيط بمينكويسكي آخرون غير أطباء، مثل أوجوني سوكولنيكا (1884-1934) التي كانت هي المحرك لحركة التحليل النفسي في فرنسا، وماري بونابرت (1882-1962) - المسماة ب «الأميرة»، وقد أطلق عليها لقب «قال فرويد». كانتا هما الاثنتان قد خضعتا للتحليل على يد فرويد نفسه. وفي عام 1926، تأسست جمعية التحليل النفسي بباريس، وظل لافورج يرأسها حتى عام 1930.
إلا أن هذا لم يمنع العديد من الأطباء النفسيين الفرنسيين - لكي لا نقول معظمهم - من استكمال مقاومتهم لهذه الأفكار. ألم تنشر في عام 1929 «مجلة الطب والطب النفسي» - أقدم وأشهر مجلة في الطب النفسي - دون أي مناقشة مسرحية بعنوان «حوار عائلي حول مذهب فرويد»، وهي هجوم منظم ضد حركة التحليل النفسي؟
17
واتهم فرويد فيها، ليس فقط بأنه أخطأ، بل بأنه مخادع. وقيل: إن التحليل النفسي «إنما هو مزحة بحتة، وإن الطب النفسي ما هو إلا محض أوهام.»
كان لإدوارد بيشون (1890-1940) مكانة خاصة في ظل هذه المؤامرة. كان - وهو عضو بمنظمة الحركة الفرنسية وصهر جانييه - مؤيدا لأفكار التحليل النفسي، ولكنه كان ضد فرويد شخصيا. كان أحد مؤسسي جمعية تطور التحليل النفسي بباريس. وأراد أن يخلص التحليل النفسي، ليس فقط من الأفكار القائلة بالدافع الجنسي وراء أي فعل، وإنما أيضا من التأثير الألماني، بل اليهودي. أفلتت هذه الكلمة عندما حاول صهره - قبل الحرب العالمية الثانية ببضعة أعوام - أن يلتقي خصمه القديم بفيينا، ولكنه رفض مقابلته من أمام الباب. وفي خطاب إلى هنري إي، كتب بيشون: «إن ما بين الرجلين إنما هو سوء تفاهم شخصي سخيف، ولكنه منع أفكارهما من الاندماج [...] لم يكن فرويد [...] يفهم طريقة المناقشات على الطريقة الفرنسية، فتضايق!» يقول بيشون، متطرقا إلى اللقاء الذي رفضه فرويد: «لا أعتقد أن هذه الحركة، خاصة وهما في نهاية حياتهما، كانت لائقة من طرف سيجموند اليهودي التشيكي.»
18
وبطريقة ما، يعد بيشون ممثلا لعصره.
لم يكن فرويد مخطئا عندما قال: «إن الطبيب النفسي، وليس الطب النفسي، هو من يعارض التحليل النفسي. فالتحليل النفسي بالنسبة إلى الطب النفسي، كعلم الأنسجة (جزء من علم التشريح يهتم بدراسة الأنسجة العضوية) لعلم التشريح؛ فواحدة تدرس الأشكال الخارجية للأعضاء، والأخرى الأنسجة والخلايا التي تتكون منها الأعضاء نفسها. ولا يمكن تصور وجود أي نوع من التعارض بين هاتين الدراستين؛ لأن الواحدة تكمل الأخرى.»
19
إذن، فالتحليل النفسي «يعطي الطب النفسي الأساس النفسي الذي ينقصه؛ سعيا وراء اكتشاف أرض مشتركة تجعل اللقاء بين الخلل البدني والخلل النفسي مفهوما.»
20
فهي في حد ذاتها ليست أكثر من فعل علاجي: «فالتحليل النفسي ليس بحثا علميا محايدا، وإنما فعل علاجي، فهي في جوهرها لا تسعى لإثبات أي شيء وإنما إلى تعديله.»
21
إلا أن هذه الطريقة العلاجية لها حدودها. فيكتب فرويد: «إن مجال عمل التحليل النفسي محدود بشكل المرض نفسه. ويوصف العلاج التحليلي في عصاب النقل والخوف المرضي والهستيريا والعصاب الوسواسي، وأيضا في خلل الشخصية الذي يظهر أحيانا بدلا من هذه الإصابات. بينما في الحالات النرجسية والذهانية ... إلخ، لا ينصح بتطبيق التحليل النفسي. ومن ثم يكون من المنطقي تماما تجنب فشل محقق باستبعاد تلك الحالات.»
22
وإلى هذا التحفظ يضيف فرويد أنه «عادة لا يمكن أن نقوم بتشخيصاتنا إلا بعد التحليل.» ويسوق فرويد مثلا، وهو ملك اسكتلندا الذي كان يمتلك طريقة لا تخطئ لمعرفة الساحرات. فكان يغرق المشتبه فيها في الماء المغلي، ويتذوقه بعد ذلك: «نعم، كانت بالفعل ساحرة!» أو «لا، لم تكن منهن!» ويقول فرويد: «إن الأمر كذلك في حالتنا، ولكننا نحن من يحرق. [...] فنحن نشخص دون أن نرى [...] وينتقم المريض، عندما يزيد من قائمتنا الطويلة للفشل، أو عندما يتخيل نفسه طبيبا نفسيا أحيانا - خاصة لو كان مصابا بجنون العظمة - ويمضي يؤلف كتبا في التحليل النفسي.»
وأشار بول بيرشيري
23
أن هذا التحديد الصارم تم تجاوزه سريعا، أو أن «الطب الإكلينيكي التحليلي تجاوز في الحقيقة الإطار النفسي، رافضا التقسيم الحكيم للمهام والاختصاصات الذي يقترحه فرويد. «وفي فترة ما بين الحربين»، ظهر كيان يسائل الطب النفسي.»
24
وخلال هذه الفترة شاع استخدام «الطب النفسي التحليلي» كأداة للعلاج. كان هذا بمنزلة انتصار «للطب النفسي الديناميكي». كتب فرانز ألكسندر (1891-1964) الطبيب النفسي ثم المحلل النفسي المهاجر منذ عام 1930 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أسس في شيكاجو عام 1932 معهدا للتحليل النفسي، قائلا: «وضع تقدم الطب النفسي الديناميكي نهاية لعزلة لطب النفسي. وبصفته طريقة علاجية، أصبح التحليل النفسي في طريقه للالتقاء بالطب، الذي يستخدمه كطريقة نفسية طبية.» ولكن في عام 1939، لم يكن فرويد يريد أيا من هذا، واشتكى من «ميل الأمريكيين لتحويل التحليل النفسي إلى خادم للطب النفسي.»
25
جرى الحشد على مستوى أوروبا، على الرغم من أن الأمر كان شاقا خاصة في فرنسا. «وعادة ما كان الجيل الثاني من الأطباء النفسيين الباريسيين يمرون بالمصحات النفسية.»
26
ونذكر أشهرهم وهو جاك لاكان (1901-1981)، وكان تلميذا لكليرامبو، وناقش رسالته عام 1932 «عن الذهان المصحوب بجنون العظمة وعلاقته بالشخصية». وفي عام 1934، جرى قبوله في هيئة الأطباء بالمصحات النفسية (ولكنه لم يتول قط هذا المنصب) وفي جمعية التحليل النفسي بباريس. واشتهر هناك بعد عامين بفضل بيان ألقاه في مارينباد حول «مرحلة المرآة». وقبل الحرب العالمية الثانية، لم يكن لاكان يحظى بعد بالشهرة التي حظي بها فيما بعد، وإن كان بيشون الغضوب قد وجه له اللوم بسبب «غرابة ألفاظه التي لا تهدف - على ما يبدو - إلا إلى إثارة الدهشة.»
عند وفاة فرويد عام 1939 بلندن، كان التحليل النفسي قد أصبح حركة عالمية، ربما كان ذلك لأن النازيين أجبروا رموز مدارس فيينا وبرلين وبودابست على الهجرة إلى لندن وباريس ونيويورك وشيكاجو ... ولكن ظل التعايش بين التحليل النفسي والطب النفسي يحمل طابع الخصومة والمنافسة. «وبالتالي، تكون طب إكلينيكي تتسم علاقته بالمعرفة الطبية النفسية بالنزاع أكثر من التقسيم الدبلوماسي الذي اقترحه فرويد للسلطات والاختصاصات في الخطوة الأولى أو علاقات التداخل والتنافس، والتي أصبحت تقوم على الخصومة والاستبدال التام والبسيط أكثر من التعاون والتحسين المتبادل» (بي بيرشيري). ويبقى لنا أن نرى كيف - بعد الحرب العالمية الثانية - «تمكن التحليل النفسي - الذي كان في البداية شيئا جنونيا، ثم فقيرا، ثم علما تابعا يستقبله الناس بتردد، ثم حليفا قيما قادرا على تحريك الممارسات والطرق الجامدة [...] - من أن يفرض ذاته كمنافس قوي، قبل أن ينتهي الأمر بالتشكيك وزعزعة أسس هذه المؤسسة ذات الحظوة حتى وقت قريب» (بي بيرشيري).
مصير مرضى الاعتلال العقلي خلال الحرب العالمية الثانية
يبدأ التأريخ للقرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية. وفيما يتعلق بتاريخ الطب النفسي، نتساءل بالفعل أليس من الأفضل اختيار الحرب العالمية الثانية كنقطة قياس لمصير مرضى الاعتلال العقلي خلال الحرب، باعتبارها ليست بداية لعصر جديد وإنما نهاية لعصر مضى؟ فلا يوجد اليوم جدل ضخم حول الجنون، ولا حتى بين المتخصصين. وكأنه أصبح أمرا عاديا، قلت أهميته وسط المشهد الاجتماعي الهش، في الوقت الذي تراجعت معه أهمية الطب النفسي نفسه (وسنعود لهذا الأمر في نهاية هذه الدراسة). إلا أن النخبة المثقفة عادت من جديد لتبدي ولعا بقضية ارتفاع نسبة الوفيات بين مرضى الاعتلال العقلي المحتجزين في فرنسا أثناء فترة الاحتلال الألماني. وتوالى فيضان من المؤلفات والمقالات والبرامج والندوات والمواقف، بل وظهرت عريضة تطالب فرنسا بإعلان أسفها، وكان الجميع يندد منذ عقدين بما عرف ب «الحل النهائي» لمرضى الاعتلال العقلي خلال أعوام الحرب. أما عن المؤرخين النادرين الذين حاولوا التطرق لهذه الأطروحة الخطيرة، فسرعان ما تم اتهامهم بأنهم عملاء لحكومة فيشي. ولكن يجب الانتباه للكلمات ومدى تضخمها؛ لئلا نقلل من شأن الأمر في الوقت ذاته. «في كثير من الأحيان تحل الكلمة محل الشيء نفسه، الذي يذهب هو أدراج الرياح» (جيد). وسنسعى إلى إماطة اللثام عن مثل هذا الموضوع . ولكن قبل التطرق إليه بكل سكينة، ينبغي أن نعرض أولا كيف كانت إبادة مرضى الاعتلال العقلي في ألمانيا وقت الحكم النازي.
عند وصول هتلر إلى السلطة، كان علم تحسين النسل مقبولا بدرجات مختلفة في شتى أنحاء العالم الغربي. وكان يهدف إلى تحسين وحماية «السلالة» (لفظ آخر كان مقبولا للغاية في ذلك الوقت)، على نحو إيجابي عن طريق تحفيز إنجاب من هم أكثر كفاءة، ولكن أيضا بطريقة «سلبية»؛ حيث «يعيق نمو غير الأكفاء»، ومن بينهم كان هناك المتأخرون عقليا ومرضى الاعتلال العقلي. كانت الولايات المتحدة من رواد هذه الحركة، خاصة من خلال عمليات التعقيم الإجباري لهم. إلا أن الموانع الديمقراطية والتشريعية وأيضا الرأي العام كان لها دور في الحد من هذه الممارسات. ولقد حظرت بريطانيا كل هذه الإجراءات. وكذلك فرنسا، على الرغم من وجود تيار مؤيد لتحسين النسل يتزعمه ألكسيس كاريل - الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 1912 - الذي كان يدعو إلى منح «سلطة للأطباء» بموجبها يكون للكائنات «الموهوبة وراثيا وبيولوجيا ضرورة للاندماج مع كائنات لها الخواص العليا نفسها.» كان هذا هو الحلم المجنون والمؤسف، بلوغا إلى نتائجه مع برنامج «ليبينزبورن» داخل المنطقة الوقائية. وإلى جانب هذا التحسين «الإيجابي»، يوجد التحسين «السلبي». عام 1935، نشر كاريل «الإنسان، هذا المجهول»، والذي باع أكثر من عشرين ألف نسخة حتى عام 1939. «لا تزال قائمة تلك المشكلة الخاصة بالجموع الهائلة من العاجزين والمجرمين. ولقد أصبحت تكاليف السجون ومصحات الأمراض العقلية - لحماية العامة من اللصوص والمجانين - باهظة كما نعلم. ولقد بذلت الدول المتحضرة مجهودا ساذجا في سبيل الحفاظ على كائنات غير مفيدة وضارة، فغير الطبيعيين يعيقون تطور الطبيعيين. فلماذا لا يتعامل المجتمع مع المجرمين والمجانين بطريقة أكثر اقتصادية؟ [...] فمؤسسة للموت الرحيم مزودة بأنواع الغازات الملائمة التي تتيح التعامل معهم بطريقة اقتصادية وإنسانية. أوليس من الممكن تطبيق الطريقة نفسها مع المجانين الذين ارتكبوا أفعالا إجرامية؟ [...] وأمام هذه الضرورة، يجب أن تختفي جميع الأنظمة الفلسفية والأحكام المسبقة العاطفية.»
وبسبب هاجس «اختفاء السلالة» (فولكستود)، شرعت ألمانيا النازية في تطبيق سياسة طبية بيولوجية تبدأ بعمليات تعقيم مكثفة بقرار من «محاكم صحية» حقيقية. ولقد أجبر على الخضوع لقراراتها حوالي مائتي ألف شخص من ضعاف العقل ومائة وخمسين ألف مريض عقليا أو مريض بالصرع محتجزين داخل المصحات، بالإضافة إلى المعاقين بدنيا، بل وأيضا الصم وفاقدي البصر لأسباب وراثية. ولقد ساهمت حركة النازية الطبية - التي تجمع بين الحماس لنظريات تحسين النسل والإرهاب الموجه لمن يريد الإبقاء على منصبه - في الوصول إلى مدى بعيد من هذه السياسات بلوغا إلى «الموت الرحيم»؛ أي إلى القتل الطبي المباشر.
27
لم تكن الفكرة جديدة، ولا سيما أنها تستند إلى كتاب بتاريخ 1920 «الحق في القضاء على الحياة التي لا تستحق أن تحيا .» وكان مؤلفا الكتاب جامعيين بارزين؛ أحدهما قانوني والآخر طبيب نفسي.
في عام 1937، أثناء اجتماع الحزب، أعلن هتلر: «إن أعظم ثورة حدثت في ألمانيا هي تفعيل المبادرات المنظمة التي تستهدف تحسين النسل وصحة الشعب، بل وحتى تكوين الإنسان الجديد.» إلا أنه لم يتحدث قط علانية عن إبادة المتأخرين عقليا أو مرضى الاعتلال العقلي. ولم يكن الرأي العام ولا الأطباء والكنائس مستعدين لهذا الأمر، على الرغم من أن عمليات التعقيم كان مصرحا بها. ولكن، ابتداء من عام 1933، تقلصت القروض الموجهة إلى المصحات النفسية جذريا، وسرعان ما أصبحت في وضع حرج. كان هذا يهدف لتشجيع الأطباء والممرضين على عدم رعاية مرضاهم. وشهد الشعب إذاعة «أفلام تسجيلية» تظهر مرضى معتلين عقليا من ذوي الحالات الصعبة. وكان الإعلام النازي يريد أن يبين عدم جدوى بقائهم على قيد الحياة، منددا بكونهم يحيون في «قصور» مقارنة بالمنازل المتواضعة للعمال الذين يكدون ويعملون. في الوقت ذاته، كان أساتذة تحسين النسل (في كل جامعة كان هناك كرسي أستاذية في هذا العلم) ينشرون هذه النظريات القاتلة. ويشير الأستاذ إتش دبليو كرانتز إلى ضرورة التخلص من ما يقرب من مليون «كائن أدنى».
كان هتلر في انتظار الحرب؛ حربه. فلم يكن الأمر يقتصر فقط على انتظار شيء يلفت انتباه الرأي العام، ولا حتى ظروف استثنائية تتماشى مع هذه الإجراءات الاستثنائية . ففي المنطق النازي الطبي، يجب تعويض الانتخاب السلبي للسلالة (الجنود الذين يلقون حتفهم على الجبهة) بحركة تحسين جذري للنسل (القضاء على كل من لا يستحقون الحياة). وخلال عام 1939، بعد أن اعتمدت خطط الحرب، دعيت مجموعة صغيرة من الأطباء النازيين إلى اجتماع أقرت خلاله برامج الموت الرحيم لمرضى الاعتلال العقلي. ولقد سهل من انطلاق البرنامج الطلبات التي كانت تقدمها العائلات التي لديها أطفال يعانون من إعاقات شديدة. ولقد تابع هتلر شخصيا أول عملية موت رحيم لطفل صغير كفيف ومشوه ومصاب بالبله التام. وكان يجب أن يصنف الأطفال الذين سيلاقون ذات المصير من المشوهين أو ضعاف العقول منذ ولادتهم. ويتم «العلاج» بواسطة الحقن بالباربيتورات أو المورفين. وفي شهادتها أمام محكمة نورمبرج، قالت ممرضة: «كان الجميع يتحدثون عن الأمر، حتى الأطفال. كانوا جميعا يخافون من الذهاب إلى المستشفى؛ خوفا من ألا يعودوا من هناك.»
28
وفي خريف عام 1939، قرر المكتب الثاني لمستشار الرايخ أن تمتد عمليات الموت الرحيم إلى البالغين، تحت اسم «البرنامج تي4». كان على المصحات العقلية الألمانية والنمساوية أن تسجل كافة المرضى المصابين بالفصام والصرع والخبل والخرف والشلل العام، أو أي مرض بسبب الزهري أو البله، أو أي إصابة عصبية ميئوس من علاجها. وإلى هذه القائمة، يضاف أي مريض عقليا محتجز منذ ما يزيد عن خمسة أعوام، وبالأحرى أي مريض عقليا محتجز على إثر ارتكابه جريمة أو جنحة. جرى إعداد ستة مراكز للإعدام، مزودة بغرف غاز تبدو كحمام عادي وبأفران للحرق. وكان يختار طاقم العمل بناء على مدى الثقة فيهم سياسيا وليس مدى كفاءتهم الطبية. لم يتم ذلك بموجب قانون، فقد كانت عمليات نقل و«علاج» المرضى تتم خفية. وتكون مهمة الأطباء في «مراكز الرعاية» اختراع سبب طبيعي «للعلاج» يسجل في شهادة الوفاة. وبلغت المهزلة حد إرسال صندوق المتوفى إلى الأسر، وإخفاء المقابر الجماعية في صورة مدافن فردية. أما عملية القتل الطبي، فلم يكن من الممكن القيام بها إلا في إطار طبي وتحت إشراف طبيب. فيذكر مدير مكتب المستشار: «يجب أن يمسك الطبيب بالحقنة.» ويشهد أحد أطباء البرنامج: «تخيلت أنه سيكون هناك إجراء فردي [...] أي واحدا واحدا. ولكن لا [...] كان عملا بالجملة [...] أعتقد أنه من الناحية الإنسانية هناك فرق بين الاهتمام بشكل فردي بالشخص الذي سيخضع لمثل هذا الإجراء وبين [...] القيام به بصورة جماعية.»
29
ولقد ظل الأطباء (بعيدا عن هؤلاء التابعين للوحدة الوقائية) المتورطون في هذا العمل المميت - ضد أخلاقهم - متأثرين بالأساتذة العلماء (والأطباء) الذين شرعوا «علميا» الموت الرحيم «للفاسدين». بالإضافة إلى حالة الرعب والإرهاب التي كانت تمارس ضدهم، كان التهديد الحقيقي بالموت، أو على الأقل النقل إلى معسكر اعتقال، يخيم دائما على الأطباء والممرضين العاملين - أحيانا دون تفكير - في برامج الموت الرحيم.
ولكن ظهرت بعض المقاومة لبرنامج (تي4) من قبل بعض الأطباء النفسيين والممرضات في المؤسسات العلاجية التي تديرها الراهبات - كجزء من الشعب - بعد أن أبلغتها السلطات الكنسية وعائلات «المرضى الذين خضعوا للبرنامج». كان هذا الرفض الشعبي هو الذي قاد هتلر إلى التخلي رسميا عن البرنامج في أغسطس 1941. كان مركز هادامار للموت الرحيم - المصحة النفسية سابقا - قد احتفل للتو - في احتفال صاخب مليء بالخمور (كانت الكحوليات تقدم بوفرة للعاملين في مراكز الموت الرحيم) - بالمريض رقم عشرة آلاف المقتول بالغاز، وقد عرضت جثته عارية ومزينة بالورود أمام فرن الحرق.
30
دمرت غرف الغاز أو جرى تفكيكها لإرسالها للمناطق الشرقية. وليس من قبيل المصادفة أن يطبق برنامج جديد للموت الرحيم يدعى (14إف13) ابتداء من ربيع عام 1941 على المعتقلين غير القادرين على العمل في المعسكرات، تمهيدا «للتصفية النهائية لليهود» (مؤتمر وانسي، العشرين من يناير 1942). وبالفعل، جرى إعدام سبعين ألف مريض عقليا. ولم يمنع هذا الأمر البرنامج من الاستمرار عن طريق ما أسماه النازيون أنفسهم ب «الموت الرحيم الوحشي»، تاركين المبادرة للقائمين على تنفيذه. وبدلا من الخنق بالغاز، كان يحرم المرضى من أي عناية أو تدفئة وبشكل خاص من الغذاء. ويعد الحرمان من الطعام - إذا جرى تنظيمه على نحو علمي - قاتلا في غضون ثلاثة أشهر. كان يسمى «النظام الغذائي ب». وحتى نهاية الحرب، مات أكثر من ثلاثين ألف مريض عقليا، إلى جانب هؤلاء الذين تتم «تصفيتهم» أولا بأول مع زحف ألمانيا ناحية الشرق.
كانت حالة فرنسا تحت الاحتلال الألماني مختلفة تماما. في هذه المرحلة من الحرب، لم يكن مصير مرضى الاعتلال العقلي في فرنسا يهم النازيين. وعندما نقل مائة مريض عقليا من مصحات منطقة ألزاس العقلية إلى مركز إبادة هادامار في نهاية عام 1943
31 (مما يدل على استمرار برنامج تي4)، كان هذا لأن منطقة ألزاس كانت خاضعة لحكم الرايخ الألماني. أما حكومة فيشي، فلم تكن تعنيها على الإطلاق مسألة مرضى الاعتلال العقلي مثل الحكومات السابقة، فلم تهتم حتى بوضع جنحة للعدوى بالزهري، وهي القضية التي شغلت الطب الفرنسي كله في فترة ما بين الحربين، الذي طالب بإصرار بتطبيق إجراءات عنيفة ضد «وباء الزهري». وكان القانون الوحيد ذو الصلة بتحسين النسل الذي أصدرته حكومة فيشي (ظل ساريا حتى نهاية عام 2007) هو الفحص الإجباري قبل الزواج، وإن لم يكن في سلطة الطبيب بأي حال أن يعترض على الزواج.
ويبقى أنه - أثناء الاحتلال - على الرغم من انخفاض نسبة الاحتجاز (ربما بسبب انخفاض معدلات إدمان الخمور)، شهدت معدلات الوفيات قفزة ضخمة مقارنة بنسبة الوفيات المرتفعة بشكل عام. فبلغت نسبة الوفيات في إقليم السين - 1,27٪ عام 1937 - حوالي 1,68٪ عام 1941. وكان الأكثر ضعفا هم المتأثرين بها: الأطفال والمسنين. فازدادت نسبة الوفيات بينهم إلى 25٪.
32
ولوحظ هذا الارتفاع في معدلات الوفيات أيضا في المناطق المحتلة في فرنسا، بل وأيضا في بلجيكا ويوغوسلافيا واليونان.
33
والأسباب معروفة بالطبع، فلا داعي لتكرارها. فبسبب الاستقطاعات الموجهة إلى ألمانيا، كانت فرنسا تعاني من الجوع والبرد، بصورة لا يمكن للأجيال التي لم تعش هذه الفترات القاتمة تخيلها. فأي مواطن فرنسي يكتفي بالحصة المخصصة له كان محكوما عليه بالموت، بالمعنى الحرفي للكلمة. كانت المأساة من نصيب من لا يفكر في الخطة البديلة، الاستعانة بالسوق السوداء - أو السوق الرمادية (سوق سوداء ولكن مسموح بها إذا كانت تساهم مباشرة في إبقاء أسرة على قيد الحياة) - أو من لا يتلقى طرودا من الأقاليم المسماة «عائلية» (بلغ عددها 1350000 عام 1942)، أو من لا يمتلك دراجة (حوالي مليونين في باريس عام 1943 في مقابل ثلاثة ملايين مواطن، وكانت تتم سرقة سبعة آلاف كل شهر). وبالطبع، كان المرضى في المصحات والملاجئ جزءا من هؤلاء التعساء.
34
كانت النحافة الزائدة - التي انتشرت بالفعل بين الشعب (انخفضت الأوزان بنسبة من 10٪ إلى 30٪) - قد اجتاحت هذه الأماكن، مشجعة على انتشار القاتل الأشرس لهذا العصر؛ مرض الدرن، لدرجة أنه في بعض الأحيان كنا نجد مصطلح «درن المجاعة».
35
لم تنج المصحات النفسية من هذا المصير، وكان الأطباء النفسيون أول من ثاروا ضد هذا الأمر. منذ الثامن والعشرين من أبريل 1941، ألقى الطبيب فرانتز آدم بيانا أمام الجمعية الطبية النفسية: «أعتذر أيها السادة عن النزول عن مستوى مناقشاتكم العلمية والمثيرة لكي أتطرق إلى مسائل - قد تبدو في الأوقات العادية ثانوية - تتعلق بحالات ملازمة الفراش والنظام الغذائي للمرضى لدينا. ولكننا نحيا الآن في عصر صعب بل وقاس، يتم فيه التضحية بالضعفاء [...] وتثير البيانات القادمة من مختلف الجهات قلق، بل وأقول تقزز، الزملاء الذين يرون كل يوم انخفاض حالة - بل وكميات - الغذاء المخصصة لمرضاهم؛ مما يزيد من نسبة الوفيات لديهم.» وتضاعفت صيحات التحذير هذه طوال عام 1941. كان الأمر يشبه الحالة خلال فترة نهاية الحرب العالمية الأولى في معسكرات المساجين والمشافي العامة والنفسية. ولوحظت الظاهرة نفسها في ألمانيا.
36
وفي بيان آخر بتاريخ الرابع والعشرين من نوفمبر 1941 بالجمعية الطبية النفسية (بيسيير وبريمون وتالايراش)، جاء ذكر نقص الغذاء المزمن القاتل. وازداد الأمر بالأكثر لدى الرجال، ولدى ذوي الأمراض المزمنة المحتجزين منذ فترة طويلة ولدى المسنين، بل وأيضا لدى «المحرومين من الطرود»، كل هذا في ظل الحرمان من التدفئة. كانت بوادر الأمر عبارة عن انخفاض كبير تدريجي في الوزن (من عشرة إلى خمسة وعشرين كيلوجراما). وتتسم متلازمة الأعراض بارتفاع شديد في الحرارة وبأوديما قلبية وبإسهال يتطور إلى الموت. وعلى المستوى النظري، يكون من المستحيل إعادة تغذية المريض بعد بلوغه مرحلة معينة لا رجعة فيها.
وفي عام 1941، سجل الطبيب سيزاريت - كبير الأطباء بمشفى روش جاندون (مايين) - أيضا وجود 10٪ من حالات الوفاة لدى النساء و20٪ لدى الرجال، في حين أنها كانت تدور قبلا حول حاجز ال 6٪. «وأسباب هذه الزيادة ليست كثيرة ولا غامضة. فلم يكن هناك أي وباء؛ بل كان السبب الوحيد لتلك الزيادة هو نقص التغذية [...] ومثل تلك المشكلة لا يمكن حلها، خاصة إذا كانت تتعلق بجميع المشافي التي لا تستطيع أن تحصل على أكثر من الحصص الرسمية المقننة لكل فرد؛ ولذلك، حكم على مرضانا بالموت جوعا.» وفي عام 1941 أيضا، عبر الطبيب كالميت - مدير مشفى إقليم فيينا العليا - عن أسفه لتضاعف نسبة الوفيات، على الرغم من الجهود المبذولة لزيادة عائدات المزرعة والحقول الملحقة بالمشفى. والأمثلة كثيرة؛
37
ففي مؤتمر أطباء الأمراض العقلية الذي عقد بمونبلييه في أكتوبر 1942، ندد كل من الطبيب كارون ودوميزون وليكولييه «بالتضحية المفزعة بالمرضى التي تتم منذ يونيو 1940.»
وفي كل مرة، تتلقى إدارة المحافظة تحذيرا، ولكن - بغض النظر عن الركود الهائل في الخدمات العامة - كانت الإدارة تخضع تحت ثقل طلبات الإمدادات الإضافية بالغذاء التي تقدمها لكافة فئات الشعب. وبالطبع، لم تكن المصحات النفسية من الأولويات. يمكننا أن نرى في ذلك بالطبع عمليات «تحسين النسل» ولكن بسبب العوز، ولكن إذا اعتبرنا أن الإدارة التي تدير هذا النقص تسير وفقا للأولويات، فإننا بهذا ننظر للمشكلة بالعكس: الرضع على سبيل المثال، أو أطفال المدارس (توزيع اللبن والرقائق داخل الفصول من قبل الإنقاذ الوطني).
في دراسة حديثة عن ارتفاع نسبة الوفيات بين المحتجزين على المستوى الوطني، اقترحت إيزابيل فون بيلتزينجسلوين
38
إجراء عملية حسابية بسيطة. باستقراء نسبة الوفيات «الطبيعية» للفترة من 1935 وحتى 1939 واستكمالها بالنسبة نفسها ولكن لفترة الاحتلال الألماني، كان من المفترض أن تكون النتيجة 34143 حالة وفاة، وليس 78287 حالة جرى تسجيلها؛ أي إن النسبة المرتفعة في الوفيات هي نتيجة الطرح؛ أي ما يساوي 44144 حالة. بيد أن هذا الإجمالي كان يجب أن يوضع في منظور الحركة السنوية للوفيات بالتناسب مع نسبة الموجودين والذين يتم استقبالهم للاحتجاز. فها هي الإحصائية السنوية لمؤسسات الرعاية، والتي تمثل تطور نسبة الوفيات بسبب الإصابة بخلل في جميع وظائف الجسم (ولكن ينقص هذه الإحصائية الكثير من الأقاليم؛ لذلك لن نذكر إلا النسب المئوية):
1938
1939
1940
1941
1942
1943
1944
1945
1946
6,3٪
6,6٪
9,9٪
17,6٪
17,8٪
11,7٪
9,4٪
7,6٪
6,5٪
وباختلاف بعض المتغيرات، نجد المنحنى نفسه في كل مصحة للأمراض العقلية. ومرورا، كان لا بد من ملاحظة أن خلل جميع وظائف الجسم ليس ظاهرة جديدة في المصحات العقلية، كما سبق أن رأينا، وهو الأمر الذي فعله بعض الأطباء في ذلك الوقت. ويعلق بيير شيرير:
39 «بل هو مشكلة طالما وجدت داخل المصحات النفسية كنتيجة للمرض العقلي»؛ ولذلك وجد خلل وظائف الجسم تربة خصبة للانتشار بسبب سوء التغذية. ولقد استطاع بعض المديرين التصرف بصورة أفضل من الباقين (أو على الأقل خصصوا مزيدا من الوقت). إلا أن الخطة البديلة كانت صعبة للغاية، بل مستحيلة على مستوى عدة مئات من المرضى. فقد كانت تفترض في جميع الأحوال مبادرات جريئة، بعيدا عن الأساليب الإدارية. كانت تلك هي حالة مصحة روديز الصغير؛ حيث نظم كبير الأطباء والمدير هناك - الطبيب جاستون فيرديير - سوقا سوداء حقيقية للبطاطس مقابل التبغ الذي كان يمنعه عن بعض فئات المرضى.
40
وإلى حصص التغذية غير الكافية بصورة مأساوية، يزيد - أو ينقص - نوع من التبديد العام. ورغم أنها ليست بالظاهرة الجديدة، فإنها تضاعفت في سياق من النقص والاحتياج العام. من ناحية، كانت هناك الاقتطاعات المصرح بها: الوجبات التي تقدم إلى العاملين وأسرهم (200 وجبة بمصحة لواز للأمراض العقلية)، وأيضا بيع أو توزيع المحاصيل والفحم على العاملين. في كليرمون بمقاطعة إلواز، اتسعت هذه الاقتطاعات إلى حد كبير حتى أطلق على المؤسسة اسم «سامار»
41 (إقليم بالفلبين). بالطبع لم تكن مصحة كليرمون استثناء. ومن ناحية أخرى، كان هناك الكثير من الالتفاف: محاصيل مزيفة في المزارع والأراضي الزراعية بالمصحات العقلية، استقطاعات على اللحوم تخصص للمطابخ (أفضل القطع)؛ حيث انخرط بعض الطباخين في العمل بالفعل في السوق السوداء. ويطالب منشور وزاري بتاريخ الثالث من مارس 1942 المفتشين المحليين للصحة بالتأكد من أن «المنتجات التي تسلم إلى هذه المؤسسات تكون محفوظة ومخصصة للمرضى.» ومن ثم كان على مديري المصحات القيام «بحملات تفتيشية مفاجئة وقت الوجبات للتأكد من أنها توزع على المرضى.»
42
ويروي جاستون فيرديير في مذكراته عن وصوله إلى مصحة روديز في يوليو 1941: «جمعت كل العاملين، وقلت إنه ليس من المقبول أن نحيا على الغذاء الموجود في المصحة.»
43
وجرى فصل الكثيرين، على الرغم من ضرورة التكتم. في مايو 1942، يذكر محافظ فوكلوز مدير المصحة النفسية بمنطقة مونديفيرج ليروز - عقب فصل ممرض وثلاثة من العاملين - أنه «يجب عدم محاكمة أي شخص إلا في حالات السرقة المادية أو الأشياء المنقولة، أما اختلاس المحاصيل أو المنتجات الغذائية، فيجب على العكس أن يحظى بأكبر قدر من الكتمان؛ نظرا للأوضاع الراهنة.»
44
أما العائلات - ولا سيما أنها تعاني ذاتها من الحرمان - فلم تعد تهتم بمرضاها، الذين كانوا يتنقلون عادة من مصحة إلى أخرى. وإذا حدث أن تذكرتهم، فنادرا ما تبعث أحد الطرود. كانت تلك هي حالة بول كلوديل، أثناء الزيارة الوحيدة التي قام بها لشقيقته كاميل المحتجزة حينها بمصحة مونديفيرج. كان ذلك في سبتمبر 1943 في ذروة الفقر المدقع. كانت كاميل - على الرغم من أنها من النزلاء الذين يدفعون مقابل إقامتهم - تموت جوعا مثل الباقين. ولم يستطع أخوها تجاهلها، بعد أن قامت قريبة لهما قبلا بزيارة هذه البائسة المحتجزة منذ سبعة وعشرين عاما، فعادت وكتبت له بأنها تقريبا تحتضر، مضيفة: «أنها تعاني من تورمات بسبب نقص الغذاء [...] وأن طبيبتها تقول إنه يجب أن يرسل لها طرد صغير (عن طريق البريد بالطبع) كل خمسة عشر يوما يحتوي فقط على الزبد والبيض والسكر والمربى والكعك المصنوع منزليا مثلا بجودة عالية ومكونات سليمة. إنه أمر صعب، ولكننا نستطيع أحيانا أن نمارس ضغوطا لصالح المرضى المساكين. على الأقل ربع كيلوجرام من الزبد كل أسبوعين، سيكون هذا كافيا لها.»
45
عند وصوله، كان أول شيء يقوله له مدير المصحة إن المرضى يموتون فعليا من الجوع. وما كان من الشاعر المسيحي الشهير - الذي حضر بيدين فارغتين - إلا أن يصرخ بحماس وهو يقبل جبهة شقيقته: «فلتستريحي أيتها الرائعة العبقرية!» وماتت كاميل كلوديل بعد شهر. ولم يحضر بول كلوديل أو أي فرد من أسرتها مراسم دفنها في المقبرة الجماعية. كانت هناك عائلات أخرى - كالعادة - لا تظهر إلا بعد الجنازة، كأنها اكتشفت مؤخرا وجود مريضها. كانت الأوقات صعبة على الجميع.
ماذا عن سلطات الدول وسط كل هذا؟ بالمقارنة مع بطئها المعتاد، تحركت الدولة بسرعة نسبية بنشرها لمنشور في فبراير 1941 يوصي المحافظين بمراقبة قوائم الطعام على نموذج عام 1938. ولقد أبدى العاملون في المجال استياء شديدا لهذا النقص في الواقعية. ويجيب مدير مصحة الطب النفسي بمنطقة أوش بسخرية لاذعة: «ملاحظة الوصفات المنظمة فيما يتعلق بالتغذية هي بلا شك أكثر ما يرغب فيه كل من يتولى مسئولية علاج وإطعام مرضى الاعتلال العقلي. يا له من تشجيع ودعم قوي يتيح لنا بقوة مواجهة الصعاب المختلفة التي تتوالى كل يوم لتأمين الغذاء لمرضانا! في الواقع، يصعب اليوم الاقتراب - على الأقل من الناحية الكمية - من قوائم الطعام النموذجية لعام 1938 التي تبدو لنا شاهدا على حياة البذخ البعيدة السابقة!»
46
في جميع الأحوال، لم يكن لمرضى الاعتلال العقلي الأولوية في مخالفات التقنين الصارم - الذي هو أقل من المعدل اللازم للبقاء. كان التقنين الأساسي يتضمن ثماني فئات، تبدأ من الأطفال من ثلاثة إلى ستة أعوام، وتتدرج حتى المسنين فوق السبعين عاما. ولهؤلاء، كانت البطاقة
V
لا تعطيهم أكثر من مائتي جرام من الخبز في اليوم (كان الخبز طعاما أساسيا)، بدلا من ثلاثمائة وخمسين جراما للبطاقة
A (من واحد وعشرين عاما حتى سبعين)، والتي انخفضت إلى مائتين وخمسة وسبعين جراما اعتبارا من التاسع والعشرين من مارس 1941. كان مرضى الاعتلال العقلي الذين لهم الحق في كمية أخرى هم أساسا من الذين يعملون ويمكنهم التقدم بطلب الحصول على البطاقة
T
والمسماة ب «بطاقة العاملين بالإكراه» (حوالي أربعمائة وخمسين جراما من الخبز يوميا). ولكن كانت الإدارة تعطيهم هذه البطاقات بنوع من التردد، ليس لأنها تعتبرهم مجانين؛ وإنما لأنها لا تعتبرهم عاملين بالإكراه.
تحت ضغط من الأطباء والرأي العام، قررت الحكومة أن تتحرك أخيرا بطريقة غير التوصيات. ولقد تقرر، بموجب النشرة الصادرة بتاريخ الرابع من ديسمبر 1942 عن وزارة الأسرة والصحة، منح حصص إضافية للمصحات النفسية: من مائتين وعشرين إلى مائتين وخمسة وعشرين سعرا حراريا يوميا، وحوالي أربعمائة سعر لربع المحتجزين.
47
وكعادة هذا الوقت، كانت تلك الهبة هامة للغاية، على الرغم من أنها قد تبدو اليوم تافهة (فلا نزال تحت الألفين والأربعمائة سعر اللازمة في المتوسط يوميا للفرد). إلا أن هذه الإضافات الضعيفة - بالإضافة إلى يقظة أكبر ومحاولات محلية لإعادة التنظيم - قد بدأت تؤتي ثمارها التي تزامنت مع تقليل عدد العاملين؛ مما تسبب في تراجع نسبة الوفيات ابتداء من عام 1943.
لم يكن هناك إذن - لا من ناحية الأطباء، ولا من ناحية السلطات - أي محاولات ولو خفية «لإبادة» مرضى الاعتلال العقلي بفرنسا. فلا يزال يوجد فرق طفيف بين «أن نترك شخصا يموت جوعا» وأن «نميت شخصا من الجوع». كان أبشع ما في هذه المأساة أن من تحملها كانوا الأكثر فقرا والأكثر براءة. وعلى الرغم من كل شيء، طرحت القضية المسئولية. كان هناك نوع من اللامبالاة وانعدام المشاعر والأنانية ضاعفت منها حالة الحرب والاحتلال ... ولكن، يجب أن نضع في الاعتبار السياق الذي اتسم بانتشار فكر تحسين النسل التي سادت منذ فترة ما بين الحربين، حتى وإن لم يكن هناك في فرنسا عمليات لتحسين النسل السلبي، على الرغم من وجود بعض الفكر المتفرقة لألكسيس كاريل (والدليل أنه الوحيد الذي نذكره في هذا الأمر). كان مرضى الاعتلال العقلي يعانون - حتى من قبل الحرب - من الفكر المسبقة السيئة عنهم. في أبريل 1937، في الوقت الذي كان يشغل فيه منصب عمدة ليون، تساءل إدوارد هريوت - الرئيس السابق للمجلس والمتحدث باسم اليسار والذي سيتم ترحيله مستقبلا - بخصوص أحد مرضى الاعتلال العقلي الذي قضى عشرة أعوام في المصحة بفيناتييه، مكلفا المنطقة مبلغ ثمانين ألف فرنك: «ألا توجد تحفظات على التقدم الذي يزيد بؤس حياته لأعوام طويلة بدلا من أن يشفي المريض؟»
48
ويصر هريوت، ويقول بعد بضعة أشهر - أثناء مراجعته لتكلفة إقامة مريض عقليا محتجز منذ عشرة أعوام: «إن التكلفة تفوق تكلفة تربية طفل في ظروف جيدة؛ ولذلك فمن حقنا القول بأنه من الأفضل ترك مريض عقليا يموت في سبيل إنقاذ طفل.» مثل هذا الحديث ولا سيما أنه صادر عن شخص منتخب، لم يعد مقبولا اليوم. في ذلك الوقت، كانت هذه الأفكار تقوم على اتفاق عام. وتضيف إيزابيل فون بيلتزينجسلوين - التي ذكرت هذا التصريح - أن هذه الملاحظات الشديدة التطرف، لم تكن تؤدي إلا إلى اقتراحات وإجراءات معتدلة للغاية.
لقد قوبل المنشور الوزاري للرابع من ديسمبر 1942 الذي يقضي بزيادة حصص الغذاء لمرضى الاعتلال العقلي؛ بسوء فهم، واستنكرته الخدمات المسئولة عن التموين. ويعلق أحد الأطباء وعضو لجنة التزويد بالغذاء قائلا:
49 «أعرف الكثيرين من العمال العاقلين والذين يعانون أيضا من سوء التغذية، والذين سيسعدون إذا ما تلقوا اهتماما كمرضى الاعتلال العقلي.» وفي «جريدة الطب بليون»، كتب كل من الطبيبين روكيه وروفيردي عام 1943: «لم يكن من الممكن ألا يؤثر العصر الغريب الذي نحياه جذريا على تطور المرض العقلي في فرنسا، ولكنه فعله بطريقة غير متوقعة على الإطلاق، في صورة تحسين كبير وتدريجي للصحة العامة.» بالنسبة إلى المؤلفين، هذا التحسن يرجع إلى انخفاض عدد المقيمين بمصحة الأمراض العقلية. هذا الانخفاض قد يرجع إلى قلة عدد الداخلين، أو سرعة خروج المرضى في أوقات السلم، وبشكل خاص إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين مرضى الاعتلال العقلي. ويرى الطبيبان في هذا الارتفاع في نسبة الوفيات - الذي يربطانه مباشرة بالقيود المفروضة عليهما - «صورة من صور تحسين الصحة العامة عن طريق انتخاب طبيعي حقيقي [...] فالعصر الحالي، بقسوته البدائية وصرامته التي لا ترحم، يبدو وكأنه في حالة تطهير للصحة النفسية.»
50
أكان لمثل هؤلاء الأطباء دور في تشجيع نقص التغذية بين المرضى المسئولين منهم؟ على الأرجح لا. في لعبة الاستشهادات الجزئية، بل والمنحازة، يجب ألا نغفل هنري إي - كبير الأطباء بمصحة بونيفال (يور إليوار) في الفترة من 1933 وحتى 1970 - والذي كان ممثلا لمهنته، عندما كتب في فبراير 1941 بخصوص مرضاه: «إنهم مصابون بأحد أكبر آلام البشرية، ويتحولون إلى كائنات لا ترغب في العيش. ويجب علينا - وفقا للمبدأ الأعظم لشرف مهنتنا - أن نحافظ على حياتهم، حتى وإن بدا الأمر عبثيا.» فبالنسبة إلى إدوارد إي وزملائه الفرنسيين، كان قسم أبقراط لا يزال ذا معنى (أمتنع عن أي شر أو أي ظلم، ولن أدس السم لأحد حتى وإن طلب مني ...)
عندما انتهت الحرب، طويت تلك الصفحة. كان سبب قلق الأطباء النفسيين الفرنسيين إزاء قلة الأعداد داخل مصحاتهم هو معرفة ما إذا كانت السلطات العامة ستستغل هذا الأمر لتغير تخصص بعضهم. وبشكل طريف، تحول النظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحرب، لاكتشاف حملة تنديد بالمصير المخصص لمرضى الاعتلال العقلي هناك. وفي العدد الصادر بتاريخ السادس من مايو 1946 من مجلة «الحياة»، ظهر مقال، له عنوان موح: «بدلام 1946»، ربما رجوعا إلى الفيلم «بدلام» الذي كان يعرض في الوقت نفسه في صالات العرض، ويظهر فيه بوريس كارلوف مجسدا شخصية مدير مصحة بدلام القاسي في القرن الثامن عشر. وكتب ألبرت كيه مايزل - صاحب المقال «بدلام 1946» - في مقدمته: «تعد معظم مصحات الأمراض العقلية بالولايات المتحدة رمزا للخزي والعار.» وجاءت التقارير والصور المؤلمة الملحقة بالمقال لتصدم أمريكا، التي لم تكد تفيق من هول صدمة اكتشاف معسكرات الاعتقال. وأجري تحقيق في اثنين من المشافي العامة: بابيري ببنسلفانيا، وكليفلاند بأوهايو. ورأينا هناك مرضى الاعتلال العقلي في أشد حالات الإهمال والعوز الكامل.
في الأعوام التالية، استأنف المراسل ألبرت دويتش التحقيق حول مصحات نفسية أخرى، ووصف الوضع ذاته في سلسلة من المقالات، ثم جمعها في كتاب ظهر في عام 1948 «عار الولايات المتحدة، المرض العقلي والسياسة الاجتماعية: التجربة الأمريكية». في مصحة ولاية فيلادلفيا، التي تضم ما يقرب من ستة آلاف وخمسمائة مريض، انخفض عدد الأطباء من خمسة وستين إلى ثمانية عشر، وعدد الحراس من واحد لكل خمسة وعشرين مريضا إلى واحد لكل خمسمائة. وبشكل كبير، فإن «رعاية» مرضى الاعتلال العقلي الموجودين بست وخمسين مصحة نفسية قد عهد بها جزئيا إلى المستنكفين ضميريا البالغ عددهم 3000 (معظمهم من طائفة الأصدقاء أو الميتدوديست أو المنونيت من الطوائف البروتستانتية). ويعكس هذا الأمر توجها نموذجيا يميل إلى تحسين النسل: «أشخاص عديمو الفائدة يحرسهم آخرون عديمو الفائدة»؛ لأن الممرضين والأطباء الحقيقيين جرت تعبئتهم بشكل «جيد». أما باقي الحراس، فيكونون عادة من معدومي المؤهلات، وأيضا عديمي الأخلاق (على عكس المستنكفين الذين أدلوا بشهاداتهم عقب الحرب).
51
كان مرضى الاعتلال العقلي يجبرون بانتظام على أعمال سخرة، ويبقون مقيدين بالأصفاد وسترات المجانين لمدة أيام كاملة، كما كانوا يتعرضون للضرب أو الاغتصاب؛ وكانت النتيجة وفاة بعضهم. والدليل على مدى النظرة المحتقرة التي كانت توجه إليهم، أنه عندما لا يكون في استطاعة إدارة المصحة غض الطرف عن بعض هذه الممارسات، كانت توقع عقوبات لا تتعدى الفصل، ويكون من حق المجرمين أن يلتحقوا ببساطة بالعمل في مصحة أخرى ليمارسوا هناك مواهبهم في التعذيب.
وهكذا، كان مصير مرضى الاعتلال العقلي في الولايات المتحدة يتسم بشكل ملموس بمظاهر تحسين النسل السلبي؛ الذي لم تشهده فرنسا نفسها إبان حكم فيشي على الرغم من ارتفاع نسبة الوفيات هناك بشكل مخيف. وإذا لم يكن مرضى الاعتلال العقلي في أمريكا يموتون من الجوع بأعداد كبيرة؛ فذلك لأن بلادهم كانت تشهد نظاما لتقنين الغذاء أقل وطأة بكثير من الذي كانت تشهده دول أوروبا.
ففي فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، كان يتم التطرق أحيانا لمسألة ارتفاع نسبة الوفيات داخل المصحات النفسية تحت الاحتلال، فلم تعد سرا في عالم الطب. كانت تطرح تارة دون جدل، كما حدث عام 1966 مع الطبيب أيم،
52
أو في عام 1978 مع الطبيب سيفادون الذي عقد مقارنة (كمية وكيفية) مع فترة 1914-1918،
53
وتارة أخرى تكون محملة بطابع الاتهام كما جاء في مجلة «عقل» عام 1952: «كان يتم التزام الصمت بصورة رائعة؛ بحيث يمكن الاحتفاظ خلف الجدران وفي أعماق الحدائق بما يزيد عن أربعين ألف مريض عقليا على وشك الموت من الجوع والبرد والدرن تحت الاحتلال الألماني [...] كان يجب أن يموت المجانين والمسنون أولا، كان هذا هو النظام.»
54
وفي العدد نفسه، كان هناك مقال آخر بقلم لويس لوجيان ولوسيان بونافيه، وقد تمادى أكثر من الآخر قائلا: «كان هناك تكدس ضخم في المصحات النفسية قبل الحرب، وإزاء هذا الأمر أوجدت الشرطة الفاشية «المعاونة» حلا جذريا لمرضى الاعتلال العقلي بدعم من حكومة فيشي. فمات ما يقرب من أربعين ألف مريض عقليا من جراء الجوع والبرد خلال الحرب.»
ولقد أصبحت هذه الأحداث تحت الاحتلال «القضية المحورية» في كتاب ماكس لافون الذي ظهر عام 1987 بالعنوان الصادم: «الإبادة الرقيقة: موت أربعين ألف مريض عقليا في المصحات النفسية بفرنسا تحت حكم فيشي».
55
بالنسبة إلى المؤلف، كان الأمر يقوم على «قياس مدى نسيان الإنسان للإنسانية، وإلى أي مدى قد تصل الحوارات والأفعال في مجتمع فقد الحس الأخلاقي وواجباته وحدوده.» ففرنسا - التي كانت تعيش في ذلك الوقت أجواء محاكمة كلاوس باربي - تحركت ولا سيما بعد أن أشارت الصحافة إلى: «جبن وعدم وعي الأطباء النفسيين [...] الذين وجدوا في الأمر موضوعا علميا رائعا لدراسته»، على حد وصف الطبيبة إسكوفييه لامبيوت في العاشر من يونيو 1987 في جريدة لوموند؛ حيث تتولى باستمرار مسئولية العمود الطبي. ومن جانبها، تشدد الجريدة الطبية «الممارس العام» في الرابع عشر من يوليو 1987، طابع كشف ما هو سري للكتاب الذي «أظهر في صورة مؤكدة ما كان قبلا مجرد إشاعات مكتومة في الأوساط المطلعة: إبادة آلاف المرضى.» ولقد وضع الطبيب النفسي الشهير لوسيان بونافيه (1912-2003) مقدمة هذا الكتاب. ويتحدث باعتباره «شاهدا مباشرا لعمليات الإبادة الأولى لمرضى الاعتلال العقلي.» كان حينها مديرا للمصحة النفسية بسانت آلبان (لوزير العليا)، وكان مقاوما ومناضلا شيوعيا. وكان أيضا - كما سنرى - من رواد «الطب النفسي الاجتماعي»، في العقود التي تلت الحرب. وعندما وجهت إدارة التحرير بجريدة «الممارس العام» ملحوظة أن لفظ «إبادة» قوي بعض الشيء، أجاب: «أعتقد أنه على العكس ملائم للغاية.» وبسؤاله: «لماذا هذا الصمت لمدة أربعين عاما؟» أجاب: «لم يكن هناك صمت، كانت هناك رقابة.»
ثار غضب واحتجاج الأطباء النفسيين، إلا أن الاتهام البشع الذي تم توجيهه لم يتوقف عن التصاعد. فقد ظهرت روايتان هامتان لدعم أطروحة الإبادة الرقيقة: «قطار الموتى» لبيير ديوران
56
عام 1988، و«حق اللجوء» للطبيب النفسي باتريك لوموان
57
عام 1998. كان هذا ما يسميه دانييل كونرود برجاحة: «احتدام الذاكرة»
58
الذي نتج عنه أيضا عريضة على شبكة الإنترنت (بعنوان «لكي ينتهي الألم»)،
59
والتي تنتهي بهذا الطلب: «نطالب بأن تعترف السلطات العليا الفرنسية بأن الدولة الفرنسية في ظل حكومة فيشي تركت بشرا محتجزين داخل المصحات النفسية يموتون خلال الحرب العالمية الثانية. ونطالب بأن يتم معرفة وضع وتحليل المسئوليات المتعلقة بهذا الأمر - على مستوى الأيديولوجية والنظام السياسي المؤسسي. ونطالب بأن يتم تحديد هؤلاء المسئولين وجرائمهم وإدخالها في البرامج والكتب المدرسية.»
أول محاولة لنبش الماضي كانت مع أوليفييه بونيه عام 1990 بمناسبة الندوة الثامنة للجمعية الدولية لتاريخ الطب النفسي والتحليل النفسي.
60
وتوصلنا إلى أول الشواهد على أطروحة «الإبادة الرقيقة»، التي عانينا جراءها من هجوم عنيف.
61
لم يكن من المفترض التشكيك في حقائق أكيدة وثابتة بهذا الشكل. كان لا بد من الانتظار حتى عام 2007 لتوضع نقطة شبه نهائية في هذا الأمر مع كتاب «التضحية بالمجانين» لإيزابيل فون بيلتزينجسلوين.
62
وبعد دراسة كاملة (خمسمائة واثنتي عشرة صفحة) لاقت استحسان النقاد جميعا.
63
أكدت المؤرخة عدم صحة الأطروحة القائلة بوجود مجاعة منظمة عن قصد من قبل حكومة فيشي لأهداف تتعلق بتحسين النسل. وفي ختام كتابها، ذكرت إيزابيل فون بيلتزينجسلوين بأن «واجب الذاكرة يكون عديم المعنى إذا لم يكن عملا دقيقا.»
الفصل الثالث
ثورة الطرق العلاجية البيولوجية
عندما نذكر - فيما يتعلق بالبحث العلمي - كلمة «السرنديبية» (وهي تعني بالإنجليزية المصادفة السعيدة؛ أي اكتشاف أشياء عرضا)، نميل إلى التركيز فقط على المصادفة، ناسين أنها لا تأتي بمفردها، وأنها عندما تحدث يجب أن نعرف كيف «نقودها». هنا يكمن المعنى الحقيقي للفن الإرشادي. كانت كلمة
sérendipité (التي تأخذ أحيانا طابعا فرنسيا في نطقها) قد ظهرت في إنجلترا عام 1754، وهي مقتبسة من قصة فارسية تحكي عن ثلاثة أمراء لجزيرة سرنديب (سيلان) كانوا يكتشفون دوما أشياء ومكافآت لم يكونوا يبحثون عنها عن طريق «المصادفة وحدة الذهن.»
كانت هذه هي الحال وقت الاكتشاف الثوري لأول مضاد للذهان، في سياق من المعارف الخاصة بالفسيولوجيا العصبية، ولا سيما الوسائط العصبية (مواد كيميائية عضوية تطلقها الخلايا العصبية وتخلق «وسطا» كيميائيا يؤثر على وظائف خلايا عصبية أخرى). ولقد بدأ هذا الاكتشاف السرنديبي بعملية تركيب الفينوثيازين من كلورور الميثيلين عام 1883. كان الفينوثيازين يستخدم في البداية كمبيد للحشرات؛ للديدان (لمكافحة الطفيليات المعوية في الطب البيطري). وبعد ذلك، في عام 1937، اكتشف أن بعض مشتقات هذا الجزيء تمتلك خواص مهدئة ومضادة للهستامين (والهستامين مادة تفرز من العضو المصاب، مثل حالة الحساسية). كان الفينيرجان يستخدم كمضاد للهستامين منذ عام 1940 على يد الطبيبين النفسيين جيرو ودوميزن؛ لقدراته المهدئة في حالات هياج المرضى. وهناك أنواع أخرى من الفينوثيازين تستخدم في مجال علم الأعصاب بسبب خواصها المعالجة لمرض الشلل الرعاش (باركنسون)، ولكن دون أن يكون هناك تفسير لطريقة عملها. عقب الحرب العالمية الثانية، أصبحت دراسة آثار مشتقات الفينوثيازين الهدف الرئيس للباحثين. خلال حرب المحيط الهادئ ، كان الأمريكيون قد بدءوا بالفعل في دراسة الفينوثيازين ومشتقاته في إطار أبحاثهم لمكافحة الملاريا، ولكنهم تركوها عام 1944. في عام 1949، استخدم هنري لابوريت (1914-1995) - الجراح التابع للبحرية في موقع فال دي جراس - أحد مشتقات الفينوثيازين لتجنب صدمة الجراحة، وهو الكلوربرومازين، من خلال «شراب محلولي» يعطى للتخدير ويتسبب للمريض في «حالة من اللامبالاة بما حوله». اختبر لابوريت في البداية الكلوربرومازين على أحد زملائه الأطباء الذي شعر «بحالة من الانفصال عن كل ما حوله».
ولكن كل هذا ليس إلا استخدامات تجريبية محدودة، حتى وإن كان لابوريت هو رائد ومحرك علم الأدوية النفسية في المستقبل. ولكن اختلف الأمر في السادس والعشرين من مايو 1952، عندما نشر طبيبا علم النفس العصبي جان ديلاي (1907-1987) - أول رئيس مؤتمر وطني للطب النفسي عقد في باريس قبل عامين - وبيير دينيكر (1917-1998)؛ نتائج أول سلسلة من عشرين حالة مصابة بالذهان الحاد عولجت فقط بالكلوربرومازين.
1
وبدا الكلوربرومازين - كعلاج ممتد - يؤثر تحديدا على بعض المظاهر الذهانية، ولا سيما الهلاوس. وكان علاج حالات الذهان الحادة في قلب اهتمامات الأطباء النفسيين في ذلك العصر. ولقد أدركت المطبوعات الأجنبية أهمية الحدث حتى قبل نهاية عام 1952. وتمت أولى المحاولات الإكلينيكية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا منذ مطلع العام التالي.
ونال الكلوربرومازين شهرة واسعة تحت اسمه التجاري «لارجاكتيل» (أي «ذو التأثير الواسع»). وكان للاكتشاف صدى كبير، لدرجة أنه - بناء على مبادرة جان ديلاي - أقيم احتفال دولي في مكان ميلاد الاكتشاف في سانت آن عام 1955، ألقي فيه ما لا يقل عن مائة وسبعة وأربعين بيانا، تنطق بمدى الأمل الوليد. وفي العام ذاته، بأكاديمية الطب، اقترح ديلاي ودينيكر مصطلح «الشلل العصبي»، الذي أصبح فيما بعد «المثبط العصبي». ويفضل الأمريكيون الحديث عن «المهدئ الأخطر» (وهو مصطلح غير مناسب؛ لأن المهدئات المعروفة حتى ذلك الوقت لم يكن لها أي تأثير فعال على الذهان).
ويعد الدخول لعصر علم الأدوية النفسية ثورة على عدة أصعدة؛ فهي «تجبر الطبيب النفسي على التفكير بطريقة فسيولوجية» (جان ديلاي)، ولا سيما أنها تعدل جذريا بنية المصحات النفسية. كانت طرق العلاج بالصدمات المستخدمة حتى ذلك الوقت طرقا علاجية للأزمات. ولكن أصبح لدينا أخيرا أدوية فعالة ويمكن استخدامها في العلاج الممتد، تسمح بالتأثير على المدى الطويل على تطور الذهان المزمن.
ومن نتائج هذا الاكتشاف - وهو ليس بالأمر الهين - التطور العظيم للمثبطات العصبية في الأعوام التالية، الذي شجعته حركة التنافسية البحثية، بينما أعلن ديلاي ودينيكر الخاصية ثنائية القطبية النفسية والعصبية. في عام 1954، كان اكتشاف الريزيربين - دواء يستخلص من زهرة «راولفيا سربتينا» - (السيربازيل)، وهو مادة قلوية تستخرج من ذوات الفلقتين بجبال الهيمالايا. كانت الزهرة نفسها تستخدم منذ العصور القديمة في آسيا لعلاج لدغات الحيات، وكانت تسمى «عشبة المجانين» كما هو مسجل في الطب الهندي في القرن السادس عشر. وكان من توصل إلى فصل القلويات الأساسية لهذا النبات هم أطباء هنودا في ثلاثينيات القرن العشرين، ومن بينها الريزيربين الذي أصبح فيما بعد المثبط العصبي الوحيد المستخلص من مادة طبيعية. كما اكتشفت جزيئات أكثر قوة من اللارجاكتيل في أعوام 1959 و1960 و1968 و1977 و1978. وتطلبت كثرة عددهم وضع تصنيف لهم. ويضم تصنيف ديلاي ودينيكر عام 1973 ما لا يقل عن ثماني عائلات كيميائية للمثبطات العصبية، تنتج خمسة عشر دواء مختلفا يتراوح ما بين المهدئات وحتى الكوابح مرورا بالأدوية متعددة الوظائف.
ويضاف إلى المثبطات العصبية المهدئات ومضادات القلق. وتتجاور آثارها المهدئة للقلق والتوتر الانفعالي إلى آثارها المنومة؛ مما جعلها مفضلة أكثر من البربيتورات. في عام 1954، ظهرت مجموعة الكربامات (من بينها الإيكانيل)، ثم في عام 1957، ظهر أول بنزوديازيبين (بي دي زي)، وهو نوع جديد من الأدوية ذات الخواص المنومة والمضادة للقلق والتشنجات وفقدان الذاكرة والمساعدة على ارتخاء العضلات. كان هذا هو الكلورديازيبوكسيد - والذي صنع في البداية بالخطأ، قبل أن يصبح أحد أكثر الأدوية نجاحا في تاريخ صناعة الأدوية: الليبريوم. في الأعوام التالية، ستسوق أنواع أخرى من البنزوديازيبين: الفاليوم والترانكسين والسيريستا والليكسوميل ... وسرعان ما تجاوز وصف هذه المهدئات لحالات القلق الإطار الصارم للمرض العقلي، وأصبحت تصرف بأمر الممارس العام. وفقا لتحقيق عام 1984، كان الأطباء الممارسون يصفون بالفعل ثلاثة أرباع الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض العقلية والنفسية ، سواء لأغراض العلاج الذاتي أو لاستخدامها في مجال الرياضة. وهكذا، كان القناصة يتعاطون أحيانا البنزوديازيبين ليساعدهم على القضاء على تشنج العضلات. كما يستخدمها المدمنون كمسكنات في حالة عدم توافر المخدر الذي يدمنونه.
ولدت العائلة الكبيرة لمضادات الاكتئاب خلال الخمسينيات (فلم يكن البنزوديازيبين ملائما كمضاد للاكتئاب). في غضون عدة شهور، في عام 1957، ظهر بحثان طبيان يعلنان الوصول إلى طريقة شفاء حالات الكآبة عن طريق جزيئين شديدي الاختلاف: إيبرونيازيد وإيميبرامين. ويستخرج الأول من الإيميوزادين (ريميفون) الذي يستخدم في علاج الدرن، وقد لوحظت آثاره المنشطة والمحفزة منذ عام 1952، لدرجة دفعت إلى التخلي عن استخدام الدواء. أعاد الأمريكي ناثان كلاين دراسة هذا الدواء من منظور الطب النفسي، ونشر في أبريل 1957 أول نتائج هذا «المنشط النفسي» في حالات الاكتئاب. وأصبح الإيبرونيازيد هو نموذج الأدوية المضادة للإنزيمات التي تحفز أكسدة الموصلات الطبيعية.
في أغسطس من العام نفسه، شكلت إعادة تحويل الإيميبرامين فرصة جديدة للسرنيديبية. فقد تم اقتراح استخدام الإيميبرامين (تقترب بنيته من الكلوربرومازين) كمثبط عصبي، ولكنه أثبت عدم فعاليته، وسرعان ما «لحق بمقبرة الجزيئات عديمة الفعالية» (بيرون- مانيان)، عندما راود الطبيب النفسي السويسري رولاند كون حدس ما باستخدامه مع مجموعة من المصابين بالاكتئاب. وكانت مفاجأة الأطباء كبيرة عندما اتضح أن الإيميبرامين مضاد قوي للاكتئاب. وظل هو الجزيء المرجعي الذي تشتق منه باقي مضادات الاكتئاب (المحفزة للمزاج لدى المكتئب)، حتى اكتشاف جزيئات جديدة مثل مضادات الاكتئاب رباعية الحلقات وحاصرات البيتا.
لم يعد ينقص إلا طرق تنظيم الحالة المزاجية لكي تصبح كبرى التقسيمات للأمراض العقلية مستوفاة عمليا. تم هذا في وقت متأخر بعض الشيء مع ظهور الليثيوم. كان لهذا المعدن الرخو - المكتشف منذ عام 1817 والذي جرى فصله عام 1855 - استخدام في علاج النقرس ثم الصرع (دون إغفال استخدامه المعاصر كقطب صاعد للبطارية) في صورة أملاح الليثيوم. في عام 1949، قدم الطبيب النفسي الأسترالي جون كاد هذه الأملاح كعلاج لحالات الهياج الهوسي. إلا أن بعض حوادث التسمم، بالإضافة إلى وصول المتقبضات العصبية قد أدت إلى التخلي عن استخدامها. ولكن ابتداء من عام 1954، أعاد طبيبان نفسيان دراسة أملاح الليثيوم، وأوضحا عام 1967 الدور الوقائي لليثيوم في حالات الذهان الهوسي الاكتئابي. وبعد إعادته وتحويله مرة أخرى، أصبح الليثيوم الممثل الأول للفئة الجديدة من الأدوية النفسية وأدوية علاج الاضطراب ثنائي القطبية وأدوية ضبط المزاج.
أتاح ظهور مضادات الاكتئاب وأدوية ضبط المزاج في السوق تلبية الطلب المتنامي على الاهتمام بعلاج الاكتئاب. ويتحدث بيير بيشو عن «الدخول في عصر الاكتئاب»، اعتبارا من ستينيات القرن العشرين. في عام 1976 - ولأول مرة في فرنسا - تراجعت نسبة الاحتجاز بسبب الإصابة بالفصام، التي بلغت 31348 حالة (وأصبحت معاييره تميل أكثر فأكثر إلى الاتساع)، في مقابل 32712 حالة مصابة باضطرابات ذهانية دورية هوسية اكتئابية - التي سميت لاحقا ب «ثنائية القطبية» - و«اضطرابات أخرى للغدد الصعترية» (ولا سيما «أحادية القطب»: الاكتئاب الدوري دون مرحلة «الهوس»).
لقد كان ظهور علم الأدوية النفسية خلال بضعة أعوام من شأنه إحداث تغيير جذري في علاج الأمراض العقلية؛ حيث أتاح وجود علاجات في العيادات الخارجية (دون الحاجة إلى إقامة طويلة في المصحة) قادرة على كبح التزايد في حالات الاحتجاز التي استمرت بعد الحرب. في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكننا حتى أن نتحدث عن الحركة في الاتجاه العكسي. كان الاستخدام المكثف للكلوربرومازين (وباقي علاجات الذهان التي ستضاف إليه) ابتداء من عام 1955 قد تسبب في تقليل نسبة الاحتجاز في المصحات التي كانت قد بلغت ذروتها بحوالي 550 ألف فرد (أي أعلى من عام 1945 بحوالي 90 ألف مريض). في عام 1960، انخفض العدد إلى 500 ألف فرد تقريبا، ثم إلى 400 ألف عام 1970. في عام 1975، أصبح العدد 200 ألف
2 ... في فرنسا، عام 1957، جاء في التقرير السنوي بمصحة بون سوفور بكاين: «على المستوى العلاجي، تؤدي العلاجات الممتدة بالكلوربرومازين إلى نتائج مدهشة. ونال الكثير من المرضى، الذين كانوا في عداد المرضى المزمنين، الشفاء واستعادوا نشاطهم الاجتماعي والمهني الطبيعي.» «اختفت المظاهر الصاخبة للجنون، أو جرت السيطرة عليها سريعا» (جاك هوشمان). ففي عام 1985، كتب جان كريستوف روفين - مختص الطب النفسي العصبي بمصحة سانت أنطوان بباريس في ذلك الوقت: «إن الاختفاء التقريبي لأكبر صور الجنون في التاريخ قد فتح الطريق لطب إكلينيكي يختص بأوجه الجنون الأخف والمختفية والمبتدئة أو المتبقية.»
3
ومنذ ذلك الحين، بدأ الحديث عن «التمويه النفسي». «في النهاية، أوجد هذا التبسيط للمرض العقلي في صوره الأعتى الماضية الظروف المناسبة لظهور حركة فكرية تسمى «المضادة للطب النفسي».»
4
وكان من نتائج تلك الثورة العلاجية، إعادة تقييم مهنة الطبيب النفسي. فبعد أن كان ينظر إليه بوصفه الأب المسكين للطب، أصبح الطبيب النفسي يصف علاجات وتحسده معامل الأدوية. ولقد ظهر تحسن وضعه، بالتالي تحسن الأجر الذي يتقاضاه.
على غرار المصحات الأخرى، سرعان ما استحوذت مصحة بون سوفور بكاين على هذه العلاجات الثورية (مظهرة المزيد من التفاعل أكثر من مثيله لدى الاستماع للنظريات «الباريسية»). منذ عام 1954، يقول كبير الأطباء في قسم الرجال: «في مجال العلاج، نحصل دائما على نتائج ممتازة عن طريق الاستخدام الموسع للعلاجات البيولوجية التي أصبحت اليوم تقليدية.» لم يظهر التقرير الصيدلي إلا عام 1960، ليحظى من وقتها بمكانة متنامية بين التقارير السنوية المقدمة للمحافظ؛ ذلك لأن استهلاك الأدوية النفسية لم يتوقف عن الازدياد، وبطريقة سريعة للغاية: مثبطات عصبية ومهدئات وبربيتورات ومخدرات ومضادات للاكتئاب ومنشطات نفسية ... بلغ الاستهلاك ألف لتر (بالنقطة!) وأكثر من أربعمائة ألف حبة دواء في عام 1962، وألفا وخمسمائة لتر وما يقرب من مليون حبة عام 1970 - كل هذه الأرقام تغطي عدد المرضى في المصحة العقلية (حوالي ألف ومائة). لقد كانت المنتجات الجديدة تلغي دائما بقوة ما سبقها، وإن لم تختف تماما، ففي عام 1959، نقرأ: «إن العلاجات الحالية للحالات الذهانية ازدادت ثراء هذا العام بإضافة الكثير من المهدئات (المثبطات) العصبية والمهدئات و«مضادات الذهان»، التي تحدث تحسنا ملموسا في التنبؤ بالأمراض العقلية.» أما عن عام 1960، فعلى الرغم من شكوى الطبيب «من وجود بعض الحالات التي يعجز فيها العلاج (الخبل والخرف)، أو لا يمكنه فعل الكثير حيالها (التأخر العقلي)، أو يكون العلاج غير مضبوط (العصاب)»؛ فإنه يوجد خبر طيب: «يسعدنا أن نشكر مخترعي هذا الدواء الجديد: هالوبيريدول الذي يصنع عجائب في حالات الهوس والهلاوس.»
في عام 1970، بمصحة بون سوفور، كانت الأدوية التي تعالج الجهاز العصبي (جاء في حصر لإحدى اتفاقيات الأمم المتحدة أن عددها مائة وأحد عشر في ذلك الوقت) تحتل المركز الأول في نفقات الأدوية: 45٪ متقدمة بكثير عن المضادات الحيوية (9٪). كانت المثبطات العصبية وحدها تشكل ثلاثة أرباع هذه الأدوية، متضمنة ثلاثة وثلاثين دواء مختلفا، متقدمة أيضا على المهدئات والمنومات (تقلل اليقظة) ومضادات الاكتئاب والمنشطات (تزيد من يقظة المخ). وفجأة، ارتفعت الميزانيات. في مصحة بون سوفور - مقارنة بعام 1960 - زادت نسبة النفقات الدوائية بنسبة 119٪ عام 1967، ولم يكن هذا إلا البداية: 241٪ عام 1969 و321٪ عام 1971 ...
إلا أن هذا النجاح للأدوية النفسية لم يكن ليمر دون عواقب. فقد كانت الأدوية العصبية تتسبب جميعها تقريبا في إدمان ذي أعراض عنيفة. كما كانت تسبب حالات من الهذيان غير مفهومة. وأخيرا - في معظم الحالات - كان العلاج بالنسبة إلى الذهان وقتيا وليس علاجا شافيا. «صحيح أن الفصامي الذي يشعر أن العالم من حوله يشكل تهديدا يستخدم هلوسته كنظرية لهذا التهديد وأيضا كحصن له ضده. وهكذا، فإن بعض الفصاميين الذين لا يشعرون بهلاوس يكونون كمثل الأرامل اللاتي في حالة عوز.»
5
كانت الأعراض الجانبية كثيرة وقوية: نعاس واضطرابات في الذاكرة واختلاط الأفكار واضطرابات في الكلام وسمنة ورعشة وحركات غير طبيعية كمرض باركنسون وسقوط وموت مفاجئ في بعض الحالات، أو أيضا آثار متعارضة (حيث يزيد العرض بدلا من أن يقل أو يختفي). أحيانا، تكون الآثار ضارة لدرجة تستدعي وقف الدواء. ولكن عادت هذه الأدوية من جديد في التسعينيات بعد أن انخفضت درجة سميتها؛ مثل البروزاك الذي يعد أشهر دواء من فئة السيروتونينات (التي تزيد من كمية السيروتونين في الجهاز العصبي المركزي)؛ مما زاد من استهلاكها (الذي تضاعف في فرنسا من عام 1992 وحتى 1997) بصورة أكثر من ذي قبل خارج المصحات، أو حتى من دون وصفة طبية. فعندما يكون هناك مواطن فرنسي من كل أربعة مواطنين يتعاطى أدوية نفسية (دفع التأمين الاجتماعي مقابل مائة وخمسين مليون علبة دواء عام 2000)، يصبح من الصعب تحديد المرض العقلي.
وفيما يتعلق بالمحتجزين في المصحات، ارتفعت أصوات منذ عام 1955 تندد بدواء لارجاكتيل «كأسبيرين نفسي». وبعد عشرة أعوام، انتشر الحديث عما يسمى «سترة المجانين الكيميائية» فيما يتعلق بالأدوية التي تؤثر على الجهاز العصبي. وأصبحت المشاكل الأخلاقية المتعلقة بالعلاجات البيولوجية تطرح بسهولة من قبل الأطباء النفسيين ذاتهم؛ مما ساهم في نشر نوع من الإحباط في نهاية الستينيات. فلم يتوصل الطب النفسي البيولوجي إلى تحديد طريقة عمل الاضطرابات التي تفسر المرض العقلي. ألدينا الحق في استخدام المريض عقليا كمادة للتجارب؟ ألم نتوصل عبر معركة مشكوك فيها إلى هذه «السلبية التي تحول على نحو مأساوي المريض عقليا الهائج - ولكن الحي - إلى كتلة طيعة من اللحم خالية من أي روح للمبادرة؟» (جي هوشمان). في النهاية، ألا يؤدي اللجوء العملي للعلاجات البيولوجية - على نحو مفارق - إلى تنحي الطب النفسي؟ «أي القول بالضبط أن التخلي عن العلاقة والرابطة النفسية مع المريض يصاحبه تضخم في استخدام العلاج الكيميائي.»
6
فحتى هنري لابوريت رائد الطرق العلاجية البيولوجية ساورته الشكوك حولها. فرأى فيها في البداية مستقبل الإنسان الذي تخلص أخيرا من «التعقيدات ما قبل الدماغية التي ينغمس فيها أكثر فأكثر.» ابتداء من السبعينيات، تغيرت لهجته في كتاباته، ربما بعد فشل أحد الأدوية العصبية الجديدة التي كان يروجها وهو الكانتور، بعد أن طغى عليه البروزاك. ويندد لابوريت : «يا له من عالم غير متماسك بسبب كثرة اليقينيات الرائعة! هذا العالم الذي له ضمير مرتاح؛ لأنه لا يمتلك ضميرا في أي شيء، هذا العالم الذي لا يبحث عن شيء؛ لأنه وجد كل شيء.»
7
بالطبع، تجاوزت ثورة الطرق العلاجية البيولوجية إطار الرعاية فقط لتشمل الجنون بأكمله. تغير الوضع، وفتح التقدم المذهل أبوابا جديدة، طارحا تساؤلات جديدة. «منذ ذلك الحين، أصبح الطب النفسي يرجع كثيرا إلى النموذج العصبي التشريحي - على المستوى المجهري - بطريقة عمله المعقدة كنموذج للمرض العقلي. وأعيد تشكيل تقسيمات وتصنيفات الأمراض. كان الطب النفسي كله مدعوا للتغيير، على مستوى تصور المرض العقلي وأيضا على مستوى بروتوكولات العلاج. ولكن لم يكن إكسير الهدوء مقبولا كعلاج ناجع للمعاناة النفسية، وفي مقابل اتساع مدى الثورة الدوائية، كانت هناك حركات واسعة مناهضة للتحليل النفسي والطب النفسي.»
8
أيمكن القول بأن الطرق العلاجية التقليدية قد اختفت فجأة؟ نعم ولا؛ فقد حدث تعديل بالغ في هذا المجال، ولكنها لم تختف تماما. فعلاجات النمساوي ساكيل لم تختف، ولا اختفت طريقة العلاج بالصدمات الكهربائية. واليوم أيضا - بعد مرور خمسين عاما على ظهور العلاجات البيولوجية - لا تزال الصدمات الكهربائية موجودة تحت اسم «العلاج الإليكتروكونفولسيفي»
ECT . ولكن تطورت بشدة طريقة إخضاع المريض له: يكون المريض تحت التخدير الكلي، ويصاحبه علاج آخر للحد من آثاره الجانبية. وتكون موافقة المريض «الواعية» إجبارية، وإذا كان في حالة لا تخوله الموافقة، فيجب أن يوافق الوصي القانوني عليه. وعلى الرغم من الجدل، تبلغ حالات العلاج الإليكتروكونفولسيفي في فرنسا سبعين ألف مرة سنويا، ومائتي ألف مرة في بريطانيا عام 1999. ويعني هذا أن هذا النوع من العلاج لم يختف. وتظل المؤشرات عديدة: فعالية علاجية على المدى القصير في حالات الاكتئاب الشديدة، بل وأيضا على المدى المتوسط، سواء بمصاحبة أو كبديل عن علاجات دوائية أخرى. وبعيدا عن مؤشراته في علاج ما كان يسمى قبلا بالسوداوية، فلقد أثبت العلاج الإليكتروكونفولسيفي فعاليته في «استثارة أعراض الفصام»، وأيضا - ولكن بصورة أقل قطعية - في حالات الصرع المعقدة.
نخطئ إذا تخيلنا أن العلاج بالمياه البالغ من العمر ألفي عام قد تراجع بمجرد وصول العلاجات البيولوجية. في الستينيات والسبعينيات، أراد الطبيب النفسي الأمريكي مايكل وودبري أن يجدد بالطبع عندما ابتكر طريقة «التغليف»، وهي طريقة تقوم على لف المريض من ساعة إلى عدة ساعات في ملاءات مبللة بالماء البارد (ولكن دون خفض حرارته) على مدار عدة جلسات يومية. ويستخدم «التغليف» أساسا في حالات الذهان الحادة، ولا سيما الفصام. ومن المفترض أن يتسبب في خلق ظروف تسهل تراجع المرض، و«تساعد المريض على استعادة صورة جسدية عن طريق تحفيز حواسه وانفعالاته». ولقد نالت هذه الطريقة التي تستخدم في كل الأوقات - خاصة مع الأطفال المصابين بالتوحد أو الذهان
9 - انتقادات عنيفة. واعترضت الجمعيات التي تضم أهالي الأطفال المرضى: «أوقفوا سوء معاملة الأطفال المتوحدين!» في الواقع، جرى التوصل إلى شيء جديد اعتمادا على القديم، فقد كتبت الجريدة الساخرة «شاريفاري» - في العدد الصادر عام 1842: «يقوم (ممرضك) بتغطيتك بعناية في أغطية انتشلت حالا من أعماق إحدى الآبار، حيث ظلت هناك لمدة أربع وعشرين ساعة [...] ويتركك، وهو يقول لك بصوته العذب: «تصبح على خير يا سيدي، فلتنم وتعرق جيدا».»
كانت توجد أيضا طريقة معالجة التسمم الكحولي بواسطة إسبيرال (التي تسبب اضطرابات مؤلمة أثناء تعاطي الكحوليات). أما فيما يتعلق بعمل المريض عقليا، فأصبح يسمى «المداواة بالعمل». ظلت المهام كما هي في السابق، ولكن على العكس لم تعد موكلة إلى المرضى. إلا أن هذا الأمر لم يفلح، على الرغم من إيجاده لمهنة جديدة في مجال الرعاية الصحية: المعالج بالعمل. وتتضمن المداواة بالعمل الجماعي ألعابا وأنشطة ترفيهية؛ بهدف تيسير إدماج المريض في بيئته وزيادة استقلاليته، ولكن لم يفلح هذا الأمر أيضا.
الفصل الرابع
مناهضة الطب النفسي
الحديث عن مناهضة الطب النفسي يقودنا تلقائيا إلى الاستشهاد بأسماء مثل بازاليا وفوكو وساس وكوبر ولاينج ومجموعة مؤيديهم، الذين يقارب عددهم الخمسين فردا، والذين نشروا - خلال الستينيات والسبعينيات - مقالات شديدة اللهجة لانتقاد مؤسسة الطب النفسي التي لم تعد قادرة على فعل شيء. ولا يمكن اعتبار هذه الهوجة - ذات النتائج المدمرة بالنسبة إلى الطب النفسي التقليدي - ثورة مفاجئة. ففي الحقيقة، تعد حركة مناهضة الطب النفسي قديمة قدم الطب النفسي ذاته، ولقد بدأت مظاهرها خلال القرن الذهبي للمصحات العقلية. إلا أن المؤسسة الطبية النفسية - على عكس الستينيات والسبعينيات - كانت في ذلك الوقت مؤسسة صلبة.
حركة مناهضة الطب النفسي قديمة قدم الطب النفسي
نظرا لعدم إظهار الإمبراطورية الثانية ميلا لتشجيع المعارضة السياسية أو الاجتماعية، فقد كانت المطبوعات المناهضة للطب النفسي نادرة، ولم تكن تلقى قبولا واسعا. ولكن يلاحظ على الرغم من ذلك وجود بعض الكتابات الطبية، مثل «عزل المجانين في مصحات للأمراض العقلية، والأثر السلبي على هؤلاء، وعدم كفاية الحماية التي يوفرها القانون للمريض عقليا» بقلم الطبيب تورك عام 1864. ولكن اختلف الوضع تماما مع الأعوام الأولى للجمهورية الثالثة؛ حيث نجد الصحافة المعارضة تهاجم بضراوة قانون 1838 وتنتقد المصحات العقلية، على إثر بعض القضايا المثارة حينها حول الحبس التعسفي. وفي أكتوبر 1879، شنت مجلة «المصباح» - التي اشتهرت منذ عددها الأول عام 1868 بفضل «الستة والثلاثين مليون موضوع، إلى جانب موضوعات أثارت الاستياء» - حملة ضد مصحات الأمراض العقلية.
1 «لم نعد نسمع أصوات صرير الأبواب الثقيلة ذات المفصلات الصدئة: تم تزييت كل المفصلات.» كان قانون عام 1838 هو محط الهجوم: «وضع هذا القانون ليس لصالح مرضى الاعتلال العقلي، وإنما لصالح عائلاتهم. دائما ما يسيطر النظام على المنظومة الاجتماعية: دائما تكون التضحية بالفرد لصالح أي جماعة، وكأن هذه الجماعات ليست مكونة من أفراد!» ويرد أطباء الأمراض العقلية: «أما عن الأطباء، فأعتقد دوما أنه لا يوجد إلا القليل جدا منهم الذي قد يلجأ إلى مناورات غير شريفة ليحرم فردا من حريته تحت ادعاء المرض العقلي» (هنري داجونيه بسانت آن، كان لجريدة «المصباح» بالضرورة مراسلون يمدونها بالمعلومات). ولم يعد الطبيب - المسلح بقانون عام 1838 - محطا للتأنيب أو السخرية: «فلم يكن الطبيب كامباني - وكله ثقة - يقبل بإدخال أي شخص يقدم إليه على أنه مريض عقليا، سواء برضاه أو رغما عنه. ولم يفته إلا أمر واحد، وهو أن يقدم نفسه كنمط «المتفاخر المغرور». صحيح أنه وفقا لما ذكره، إذا أردت أن تكون مجنونا مفكرا، فلا بد من أن تكون ذكيا. إن تشدده في البحث عن هذه الصفة الأخيرة، كان يضمن له عدم الخطأ في تشخيص مرضاه.»
لقد مضى قانون 1838 وسط العواصف؛ حيث كتب ماكسيم دي كامب عام 1873: «إنه قانون ممتاز في أحكامه الأساسية، إلا أنه يعمل دون أي عوائق لصالح المستفيدين منه، ولمدة عشرين عاما، وفجأة، دون أي دوافع جدية، يشن عليه هجوم حاد بعنف مبالغ فيه. فيتحدث الناس عن حبس تعسفي وإنكار للعدالة وخطابات سرية [...] وتمت الاستعانة بكلمة، يمكنها إثارة العقول في فرنسا بسهولة، وبكل اللهجات؛ وهي أن الحديث يدور حول الحرية الفردية.»
2
منيت مشروعات قوانين - أعدت بجهد شديد - بالفشل في أعوام 1882 و1886 و1893 و1907 ... أيجب إعطاء مزيد من السلطة للقاضي، أم للإدارة، أم للطبيب؟
وعندما روى جول فاليسا - أحد أنصار الثورة الفرنسية الرابعة القدامى، الذي حكم عليه بالإعدام، والعائد من المنفى بعد تخفيف الحكم عام 1882 - عن زيارته لمصحة سانت آن في رواية «جيل بلاس»،
3
كان ذلك ربما يثير انتقادا لاذعا من جانب الرأي العام. ولكن ما حدث كان أسوأ. ففي لوحة مليئة بملامح الإحباط والفزع، روى قائلا: «انتهت الرحلة، جعلونا نرى أثناء المرور مغسلة الثياب بما فيها من أثواب للتعذيب وسترات المجانين المصنوعة من ليف القنب الجديد الناعم الأصفر. كانت الملابس التي ترتديها كل مريضة وقت دخولها المصحة موضوعة في صفوف بالترتيب، وقد تمت خياطة أرقامها على البطن. لعله كان يجب إحضار بعض الأزواج أو الآباء إلى هنا الذين لا يرغبون أن يروا زوجاتهم أو بناتهم وقد تحولن إلى كائنات محطمة صامتة تجر أمامهم في الممرات؛ فربما تعرفوا على الثوب أو الشال أو السلة الصغيرة، هذا الدانتيل على غطاء الرأس، هذا القماش على قبعة القش.» ومن خلال قصة بسيطة، يصدر فاليسا حكما بخصوص المؤسسة: ذهبنا إلى منطقة المريضات المسالمات المشغولات بأعمال الخياطة، «كانت بعضهن يأخذن قطعة من الشرائط ويضعنها في سلاتهن أو وردة صغيرة يضعنها في شعورهن، ولم يكن الطبيب راضيا بذلك. كان يخاف من الورد، ولا يحتمل الشرائط الوردية. كان يفضل رؤية المريضات يعملن ويخطن كسندريلا في انكسار. كان يحب بالتحديد المريضات اللاتي لا يتذمرن أبدا ولا يعارضنه عندما يؤكد لهن أنهن مجنونات.»
جاءت هذه الهوجة على هوى رسامي الكاريكاتير، كما اتضح في العدد الصادر بتاريخ الثالث والعشرين من يوليو 1904 من مجلة «أسيت أو بور» بعنوان المصحات والمجانين. ولكن يظل التقرير الأكثر مناهضة للطب النفسي هو الذي كتبه ألبرت لوندر عام 1925. ولقد اشتهر هذا الصحفي الكبير الملتزم - الذي كتب: «ليست مهنتنا أن نسعد الناس، ولا أن نشهر بالأخطاء، بل أن نضع ريشتنا على موقع الداء» - العام السابق بفضل مقاله «دانتي لم ير شيئا»، وهو تنديد عنيف بالمستعمرات العسكرية للعقوبات. من السادس وحتى العشرين من مايو 1925، كتب - لجريدة «الباريسي الصغير» - سلسلة من المقالات حول مصحات الأمراض العقلية. كان هو نفسه قد حاول أن يدخل رعاية التمريض التابعة للمستشفى الحكومي على أنه مريض عقليا. فاقترح عليه الطبيب كليرامبو - الذي تظاهر بأنه لا يعرفه (كانا قد التقيا قبل عشرة سنوات في تسالونيكي) - أن يقيم في زنزانة مبطنة؛ فتراجع لوندر خوفا من عدوى المكان. فأعاد له كليرامبو قبعته قائلا: «حاول أن تدخل مصحة أخرى.»
4
لم يكتف ألبرت لوندر بالمشاهدة: «المجنون يكون فرديا، فلا يهتم بمن هو بجواره؛ فيقوم بحركته، ويطلق صرخته بكل استقلالية [...] إنهم ملوك منعزلون. والجسد الذي نراه إنما هو بديل يخفي وراءه شخصية أخرى غير مرئية للعامة أمثالنا، ولكنها تحيا داخله. وعندما يبدو لنا المجنون كائنا عاديا، فربما خرجت شخصيته الثانية تتجول [...] فالمجنون الهائج يمكن أن يهدأ أو تقل حدة هياجه. لا أحد يسأله ماذا يفعل، فعندما لا يكون هناك وقت كاف لتهدئته، يتم تخفيض هياجه. وعندما ينخفض، يمكن حينها تهدئته. يتم التعامل معه كأنه أحد أواني الطبخ التي تغلي. هناك بعض الحالات - لدى الرجال - يتم التعامل فيها مع المريض بنعل الحذاء. لا يأمر الأطباء بهذه الطريقة في المعاملة، ولكنها تحدث بالتحديد أثناء الليل.» كان يذكر في كل صفحة: «المجانين متروكون دون رعاية، دون حراسة . وإذا نال أحدهم الشفاء، فإنما يكون هذا بمحض المصادفة [...] واجبنا ليس التخلص من المجانين، وإنما تخليص المجنون من جنونه.»
وقد نالت هذه الحملات الصحفية فرصة الاستمرار بفضل من جاءوا بعده. في عام 1866، كتب شخص غامض يدعى فالابريج موبخا: «لم يكن الأمر يحتاج جهدا كبيرا للتأكد واقعيا مما كنت قد درسته قبلا، من أنه - بملاحظتها عن كثب - تبدو مصادر هذا الفن ثابتة تقريبا منذ عهد الملك شارل الرابع.»
5
وأيضا في نهاية عهد الإمبراطورية الثانية، كان لجرسونيه - الذي ذكرناه قبلا (كلما ازدادوا مهارة؛ ازددت خوفا منهم) - بصمة أكثر استمرارية. فعلى عكس نظرائه الذين يروون أدق تفاصيل معاناتهم، تركزت مذكراته بالكامل حول ضرورة إصلاح قانون 1838، وذلك في ضوء فترتي الاحتجاز المتتاليتين اللتين تم علاجه خلالهما «بطريقتين مختلفتين». ويندد جرسونيه بتعسفية القانون (الذي يشبه بالفعل «شبكة العنكبوت») وبعجز الحامين الطبيعيين للمريض عقليا - أي عائلته - (فأين هي في النهاية؟) والقضاء (المخدوع إن لم يكن المتواطئ). كانت الآلة تدور بنفسها: «فتلك السلطة لا تتبع أحدا، أو بالأحرى تتبع الجميع.» ويذكر جرسونيه «هذه الآلات والاختراعات الحديثة» (كنا في عام 1869) ذات التروس الرائعة: «يكفي أن تعلق بها قطعة قماش، لتجر معها الفرد كله.» أما عن غاية الاحتجاز، «يا له من نفاق لغوي! لا تدع نفسك تقول إنه مريض، وإنهم يأخذونه ليعيدوه إليك قريبا وقد نال شفاءه. لا وألف لا! إنه ضحية، يعتقد أن التضحية به ضرورة للأمن العام.» ويختتم جرسونيه ببراعة وهو يقتبس عن الطبيب تورك: «إن فاعل الخير الحقيقي للبشرية، هو من يدمر عمل بينيل.»
وتضاعفت الشهادات بعد انهيار النظام الإمبراطوري، وحملت عناوين ضخمة: «نظام مرضى الاعتلال العقلي في فرنسا»، «مصحة شارنتون»، «جرائم تمهيدية للخارج»، «سرقات وتبديد»، «أفعال تعسفية»، «مفاسد إدارية منظمة من الداخل» ...
6
ويندد المؤلف - الذي يقدم نفسه كمريض هارب - بالمفاسد والمعاناة داخل المصحة العقلية، مشددا على الحرمان من الآدمية الذي تعانيه أي ضحية جديدة تدخل المصحة. أما عن أي وسيلة يمكن اللجوء إليها، فيقول: «إنه لا يوجد قانون ضد القانون!»
كان هذا ما ناضلت ضده إليزابيث باكار في الولايات المتحدة الأمريكية. فلقد تم احتجازها - وهي زوجة كاهن من أتباع مذهب الكالفينية - بناء على طلب زوجها بمصحة جاكسونفيل (إلينوي) من عام 1860 وحتى 1863. ويبدو أن السبب كان قصصا تعيسة عن اختلافات تتعلق بالمذهب (أو ربما كانت هي النهاية؟) أطلق سراحها بناء على طلب زوجها، ولكن تم حبسها في المنزل، وعندها قررت أن ترفع الأمر إلى القضاء بصورة مزدوجة ضد احتجازها الذي اعتبرته تعسفيا وضد السلطة العرفية.
7
وأصبحت تلك بالتحديد المعركة النسائية التي ستتذكرها الأجيال القادمة.
8
وفي نهاية المحاكمة التي نالت اهتماما إعلاميا واسعا، انتصرت إليزابيث باكار. وخلال جلسات الاستماع، بدا الطبيب الذي أعلن أنها مجنونة مضطربا: ففيما يتعلق بالخلافات الدينية بين الزوجين، يجب الاعتراف بأنه ليس خبيرا في اللاهوت. ويسأله القاضي: إذن ماذا كانت أعراض الجنون الأخرى لديها؟ فيرد الطبيب بسذاجة: «كانت تشعر بغضب شديد عندما نقول لها إنها مجنونة. وأظهرت عداء قويا لي حتى قبل أن أنهي الحوار معها، وكانت تعاملني باحتقار.» ولم تعترف المحكمة فقط بأن إليزابيث باكار سليمة العقل، بل أيضا حكمت بألا يكون هناك (في إلينوي) أي احتجاز دون قرار مبدئي من هيئة محلفين. إلا أن عددا من أطباء الأمراض العقلية والصحافيين الأمريكيين الذين تابعوا القضية لم يبدوا ارتياحا لهذا القرار. ففكرة اللجوء إلى هيئة محلفين ليست بجديدة، ولكن كيف للجنة مكونة من مجموعة مواطنين بسطاء أن تفصل في الجنون أفضل من طبيب؟ باختصار، فإن المناهضين للطب النفسي في ذلك الوقت لم يكونوا يريدون قضاة بقدر رفضهم للأطباء.
لكل من هؤلاء «الشهود والفاعلين» الذين شنوا حملة ضد الاحتجاز لأسباب نفسية، كان السؤال الذي يطرح بالطبع هو معرفة ما إذا كانوا بالفعل مجانين أم لا. لم يصل الأمر إلى حالة إليزابيث باكار - التي كان يشتبه في إصابتها بحالات سابقة من المرض العقلي
9 - الأمر الذي لم يغير إطلاقا من حجاجها القانوني. وفيما يختص بهارسيلي روي، فالسؤال لا يستحق أن يطرح. في عام 1883، ظهر كتابها «مذكرات مريضة عقليا». فبعد أربعة عشر عاما من الاحتجاز المتقطع، رفعت قضية ونالت من الدولة تعويضا ضخما بسبب الاحتجاز غير القانوني. وها هي تصبح في فرنسا بطلة حالات الاحتجاز التعسفي، مشعلة الجدل مرة أخرى حول قانون 1838. في الواقع، تم تنقية طبعات كتابها «مذكرات» التي صدرت بعد وفاتها (توفيت عام 1881) بعناية من هذيانها المتعلق بميلادها الغامض (تعتقد أنها ابنة دوقة بيري، ولكن تم اختطافها من قصر التويلري). إلا أن الحكم استند إلى خطأ في الشكل وليس في المضمون. فجأة، جذبت رواية هارسيلي عن عائلتها اهتمام الأطباء النفسيين الذين اعتبروها نموذجا لحالات «الهذيان الواعي» (هلوسة منطقية ومتماسكة). وهكذا، من هذه الناحية، تمكنت من أن تثبت أنها ضحية احتجاز تعسفي ونالت شهرتها. لكن هذا لا يمنع أنه يتم ذكرها على يد المؤرخين إلى اليوم باعتبارها ضحية للحبس النفسي.
10
وأيضا في عام 1883، ظهر ديوان للذكريات كتبه أندريه جيل بمصحة شارنتون.
11
كان جيل رسام كاريكاتير، ولكنه لم يعرف إلا البؤس طوال حياته. كان صديقا لجول فاليسا، وتم احتجازه بشارنتون عام 1881 بسبب إصابته بهلاوس الثراء والعظمة المصحوبة ب «هياج هوسي»، وفي النهاية تم تشخيصه بالشلل العام. أطلق سراحه للمرة الأولى، وأثناء نقاهته، رسم لوحة تعبر عن ظروفه في صالون عام 1882: «المجنون»، وهي تجسد مريضا عقليا مقيدا بسترته وملقى في زاوية الزنزانة (ولسخرية القدر، كانت هذه اللوحة أفضل لوحة بيعت من مجمل أعماله). ولكن أعيد احتجازه مرة أخرى بشارنتون، ومات عام 1885 في الخامسة والأربعين من عمره. إن جنون جيل ليس موضع شك لأي شخص، كما يظهر ذلك في لوحة الملاحظات الطبية الكئيبة حول حالته.
12
كان يمكن أن تذهب كتاباته القصيرة أدراج الرياح - شأنه شأن الكثيرين - لولا أن ألفونس دوديه - الذي كان أحد أصدقائه - كان قد وافق على كتابة مقدمة لها. «فجأة، أبلغت أنه محتجز في مصحة شارنتون. وقيل لي: إن المقيمين حوله لم يندهشوا من هذا الأمر. ولكن بالنسبة إلي، سبب لي الأمر ذهولا ورعبا. كان جيل هو ثالث عضو في مجموعتنا الصغيرة الذي يصيبه الجنون: شارل باتاي وجان ديبوا كانا قد ماتا في مصحات الأمراض العقلية.» وفي الفترة ما بين الاحتجازين، التقى دوديه بجيل: «لقد خرجت من شارنتون، لقد شفيت.» «وبعد ثلاثة أيام، وجدوه ملقى في إحدى الطرق الريفية فوق كومة من الحجارة والفزع يملأ عينيه، فاغرا فمه، فارغ العقل، مجنونا! كان ذلك منذ عدة شهور، ومن حينها وأنا أسعى لكتابة مقدمة مؤلفه مقاوما الرعشة التي تنتابني بمجرد إمساكي لريشتي. جيل يا صديقي! أأنت هنا؟ أتسمعني؟ أين أنت؟ ... أقسم إني أردت أن أقدم لك شيئا فصيحا، كتابة جيدة مثلك، وفيرة وفنية ومشرقة مثل مذكراتك العزيزة. لقد حاولت، ولم أستطع.» ولكن يبدو الأمر هنا متعلقا أكثر بالخوف من الجنون منه بمناهضة الطب النفسي. فلم يخطر لأحد أن ينكر الجنون.
ولم يكن هناك بد من تورط الأدب. ولكن لن نتوقف هنا إلا عند تعبيره عن مناهضة الطب النفسي، دون التطرق لقضية الجنون الإبداعي أو الخبل الشعري الذي تحركه مصادر الإلهام. «وصمني الناس بالجنون، ولكن العلم لم يقل لنا إلى الآن عما إذا كان الجنون أسمى درجات الذكاء أم لا، وعما إذا كان كل ما هو عميق يأتي من مرض في التفكير» (إدجار بو). وسنترك جانبا حالات الجنون المعترف بها، التي أصابت بعض الكتاب مثل جيرارد دو نيرفال وهولدرلين وأنطونين أرتو، ولا سيما أن هذا الأخير قد أصبح - خاصة منذ فوكو - أحد أعلام مناهضة الطب النفسي. ألم يقل أرتو - أثناء حلقة إذاعية عام 1946: «إن مصحات الأمراض العقلية ليست سوى مستودع للسحر الأسود الواعي والمتعمد.» وليس فقط أن الأطباء يشجعون هذا السحر بطرق علاجهم، بل إنهم يمارسونه أنفسهم. فإذا لم يكن هناك أطباء، فلن يكون هناك مرضى؛ لأن المجتمع بدأ أولا بالأطباء، وليس المرضى. فالذين يحيون إنما يحيون من الأموات، ولكن يجب أيضا أن يحيا الموت [...] لا يوجد شيء مثل مصحة الأمراض العقلية يخفي الموت بكل هدوء، ويحتفظ بالموتى. وكتب أرتو أيضا: «يوجد لدى كل مخبول قدر من العبقرية غير المفهومة، ولكن فكرته التي تشع في رأسه تثير الخوف، فلم تستطع أن تجد مخرجا لها من الضغوط التي تمارسها ضدها الحياة إلا الهذيان.»
لم تكن الروايات في النصف الأول من القرن العشرين، والتي يمكن وصفها بالمضادة للطب النفسي - أو إذا أردنا الدقة المناهضة لأطباء الأمراض العقلية - لها أيديولوجية اجتماعية أو سياسية بالمعنى الذي نقصده اليوم. كانت لها أيديولوجية نوعا ما في طريقتها في إظهار التخوف من مصحة الأمراض العقلية والطب العقلي. كانت هذه هي حال أول جائزة جونكور أهديت عام 1903 لجون أنطوان عن روايته «القوة المعادية».
13
لم تكن الرواية في حد ذاتها تقدم شيئا هاما. وكان المؤلف أندريه توركيه (اسمه الحقيقي) كتب عدة مسودات من قصته، وفي إحداها تدور أحداث الرواية على ظهر سفينة أشباح، وفي النهاية كان مسرح الأحداث هو المصحة؛ حيث يشارك القارئ فشل البطل. أهو مجنون؟ في جميع الأحوال، إنه يشعر بأن هناك «قوة معادية» تسكنه، كما يظهر في نص الرواية المكتوب بصيغة المتكلم؛ حيث تتجلى باستمرار ازدواجية شخصية البطل. ولكن وعيه ويقظته انتهيا بأن تحول الأطباء والممرضون إلى متهمين. فالطبيب بيدهوم - الشرير قبيح الشكل - انتهى بأن أصبح هو نفسه مجنونا في أجمل مشاهد الرواية على الإطلاق. في قاعة العلاج بالمياه، حيث أوشك فيلي - البطل - على الموت غرقا تحت عنف دفقات المياه، أثناء جولة الطبيب بيدهوم الذي يملك ما يكفي من النفوذ ليعطي الممرضين أوامر بالعمل: «أعطوه دفقة صغيرة كالطفل! احترسوا؛ فعظام كتفه رقيقة! أمطارا قليلة! لا أحد يطلب منكم طوفانا!» انتهى الأمر بفيلي بالفرار، وانتهت الرواية - التي ازداد اختلاطها - كأنها رواية حب ومغامرات في أعالي البحار. نتعجب عندما نتخيل أن كبار الكتاب في ذلك الوقت (ويسمانس وميربو وليون دوديه) قد تحمسوا لمثل هذا الكتاب! ولكن ما يهمنا هنا هي الرؤية الشديدة القتامة التي تقدم عن مصحة الأمراض العقلية. لا! فالمصحة لا تشفي بالطبع.
يزداد الجو قتامة في رواية «مدينة المجانين - ذكريات عن سانت آن»، وهي سيرة ذاتية لمارك ستيفان (مارك ريتشارد) ظهرت عام 1905.
14
كان المؤلف مدمنا للمورفين، وتم احتجازه لمدة ثلاثة أشهر بمصحة سانت آن، ويروي رحلته داخل هذا الجحيم الفردي والجماعي. إنه سجن يرتدي فيه الناس الثياب البيضاء، و«فيه يتم تعذيب بقايا البشر البائسين بكل وقاحة على يد مجموعة من المخابيل مدمني الخمور أو مجموعة من مدعي العلم، الذين تدل حركاتهم الجنونية غير المتماسكة على أنهم أول مرضى للاعتلال العقلي داخل المصحة.» إنه مكان لا سبيل للخروج منه ...
ونجد بشكل واضح نفس الجو في رواية «الغرفة رقم 6» لتشيكوف، الذي كان طبيبا قبل أن يتفرغ بالكامل للعمل الأدبي. وفيها أيضا نجد الجحيم والفزع. جاء طبيب جديد ليغرق في البداية في حالة من اللامبالاة (لم يعد يذهب للمستشفى كل الأيام)، حتى لمسته إنسانية مريض عقليا مصاب بهلاوس الاضطهاد. وعبر محادثات طويلة، بدأ ينغمس هو الآخر تدريجيا في الجنون حتى انتهى به المطاف في النهاية إلى الاحتجاز في الغرفة رقم 6. «وفجأة، وفي عمق هذه الفوضى، ظهرت داخله وبطريقة عاصفة فكرة مفزعة لا تحتمل، بأن هناك ألم شديد يرزح تحته هؤلاء الرجال منذ أعوام يوما بعد يوم، حتى بدءوا يشبهون الظلال السوداء تحت ضوء القمر. كيف استطاع طوال العشرين عاما الماضية ألا يعرف أو حتى يرغب في المعرفة؟»
في منتصف القرن العشرين، جاء أيضا ذكر الرواية الوثائقية لأندريه سوبيران، والتي ذكرنا بضعة مقاطع منها قبلا. ويفسر مؤلف رواية «الرجال ذوو الثياب البيضاء» الأسباب التي قادته كطبيب إلى استكشاف عالم المصحات النفسية. وانطلاقا من مرضى الاعتلال العقلي المجرمين، توصل إلى ملاحظة المرضى الآخرين المسالمين «الذين يستحقون عن جدارة كل الشفقة، بل وكل الاحترام مثل أولئك الذين يعانون أمراضا جسدية»؛ فهم «محبوسون ومكدسون، وفوق ذلك مجردون من كل شيء حتى من كرامتهم.» «فعندما نفرض على سفينة حجرا صحيا لأنها تحمل مرضى معدين، لا يجرؤ أحد أن يدعي أن هذا لرعايتهم.» ويذكر الطبيب سوبيران ما يسميه «الموت الروحي الطويل في وسط الجهل واللامبالاة العامة داخل مؤامرة من الصمت المطلق.»
ويجب أيضا ذكر هيرفيه بازين لروايته التي تشبه السيرة الذاتية «الرأس يضرب الحائط» المنشورة عام 1959 وأيضا لتحقيقاته المرعبة حول مصحات الأمراض العقلية التي أجراها خلال الخمسينيات. وهناك العديد من الكتاب الآخرين، ولكن ليس من العدل أن نعتقد أنه خلال العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية لم يكن إلا الأدب الذي أعلن سخطه إزاء مؤسسة مصحات الأمراض العقلية التي فقدت مصداقيتها بالكامل. فهناك الكثير من الأطباء النفسيين - الذين تأثروا بالأعوام السوداء للاحتلال والذين كانوا يخوضون على الأرجح معارك سياسية أو نقابية - كانوا أول من نددوا بالمؤسسة كلها. والمثال على ذلك الطبيب لوسيان بونافيه - الذي التقيناه قبلا أثناء الحديث عن مرضى الاعتلال العقلي الذين ماتوا جوعا خلال فترة الاحتلال الألماني - المناضل لصالح «طب نفسي يبعد عن الطب العقلي»، منددا في مجلة «عقل» بالظروف التي يحيا فيها عشرات الآلاف من مرضى الاعتلال العقلي ممن يعانون من «وضع أبعد ما يكون عما توصلت إليه المعارف الطبية في هذا المجال، بل ويعانون من قسوة لا تغتفر.»
15
في هذا العدد من المجلة الصادر بتاريخ ديسمبر 1952 حول موضوع «مأساة الطب النفسي»، كتب هنري إي: «عندما نعتبره (المريض) «إنسانا آليا» (يستخدم إي بعد ذلك صورة «المريض الآلة»)، يرفض الجميع أن يقارنوا به أو أن يضعوا أنفسهم مكانه بهذه الآلية المتفجرة، يكون الأمر خطيرا ومقلقا، فالجميع بدءا من طبيب الأمراض العقلية وحتى المشرع، مرورا بالأقارب والعائلة والأصدقاء والممرضين، إنما هم موجودون لإقصائه بعيدا عن المجتمع وحرمانه من دليل إنسانيته.»
16
وفي العام ذاته، كتب سيوران: «نحن نتحصن خلف وجوهنا، أما المجنون فيخونه وجهه. فيظهر بجلاء أمام الآخرين منتقدا ذاته. فبعدما فقد قناعه، أصبح يعلن عن فزعه ورعبه ويفرضه على كل من يأتيه، مظهرا ألغازه كلها. كل هذا القدر من الانكشاف يزعج بالتأكيد. ومن الطبيعي أن نقيده ونعزله» (مقاييس المرارة، 1952).
هوجة الستينيات والسبعينيات
ليس من المفارقة أن يبلغ تاريخ الجنون - الذي لم يكن يهم أحدا حتى هذا الوقت - درجة من الاهتمام الشعبي بفضل الهوجة المضادة للطب النفسي في أعوام الستينيات والسبعينيات. وأصبح المجنون - أكثر من الجنون ذاته - فجأة في مقدمة الأحداث والاهتمام الإعلامي، ليتحول إلى صورة كبش الفداء لمجتمع يرفضه.
لا يسعنا أن نعي أو نقيس مدى اتساع حركة مناهضة الطب النفسي في النصف الثاني من القرن العشرين دون أن نضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي؛ ألا وهو أزمة الغرب، أزمة البلاد الثرية في عصر «الثلاثين عاما التي تلت الحرب العالمية الثانية». كان «المجتمع الاستهلاكي» محطا لكافة أنواع الانتقادات. فالزيادة المطردة في الإنتاج ليست دليلا كافيا على نجاحه، ولا علاجا للمشكلات الاجتماعية (جي كيه جالبرايث «عصر الثراء»، 1958). وكانت أزمة القيم والتمرد الطلابي الناتج عن الزيادة السكانية قد زعزعا بالفعل المجتمعات الغربية. في الولايات المتحدة الأمريكية، اتسمت الستينيات بالصراعات - العنيفة أحيانا - ضد «السلطة» لصالح حقوق «السود» والنساء والأقليات وحرية التعبير والسلوكيات. في بيركلي، ظهرت حركة «حرية التعبير» عام 1964، لتسبق وتلهم حركة مايو 1968 في فرنسا. وبالفعل، في بيركلي، تمكن هيربرت ماركوس - الفيلسوف الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة خلال صعود النازية - من التنديد باغتراب الفرد وضياع قيمته وسط المجتمع الذي أصبح يتسم بالوفرة. ويصم هذا الماركسي الفرويدي مبدأ الربح نفسه بالطابع اللاإنساني الذي يقوم بإخضاع وتشويه الغرائز وكبت الطاقات البشرية الكامنة. وفي كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» (1964) - المترجم إلى الفرنسية عام 1968 - ينتقد العالم الذي يأتي في نفس الوقت بالرأسمالية والشيوعية، العالم المصنوع من الاحتياجات الوهمية، والذي يتم فيه إبعاد أي عقل نقدي أو أي معارضة للنظام. هذا ما أسماه ماركوس «الرفض الأعظم».
وتأتي معارضة الطب النفسي إذن في هذا السياق الواسع، وتختلف في هذا تماما عن المعارضة التي صاحبت الطب النفسي طوال تاريخه، والتي لم تكن تهدف إلا إلى تخليصه من العيوب. هذه المرة، تطرح جذريا مسألة نسبية ما هو طبيعي وما هو مرضي. فالجنون ذاته، وليست المصحة العقلية فحسب، هو الذي يخضع للتشكيك. وأصبح الجنون - بمعناه الواسع - صورة مجازية لكل ما يزعج المجتمعات ذات المقاييس الموحدة «للإنسان ذي البعد الواحد». «إن أصل التحريم، هو تحريم التفرد. فعندما تكون مختلفا عن المجموعة، تكون ضدها. وإذا كنت ضدها، فقد تدمرها. وفي هذه الأوضاع وفي سبيل الحماية، يجب على المجموعة أن تقصي الخطر الذي يمثله الاختلاف.»
17
فالمجتمع الذي يقصي، يحدد النموذج الذي يرفضه في المريض عقليا نفسه ... منذ عام 1979، ذكر ميشيل كروزيه «سنوات مناهضة الطب النفسي الجنونية»: «إن منطق اليسار - السائد في ذلك الوقت - كان منطقا جنونيا؛ أي من دون حدود أو قيود. ولم تكن حركة مناهضة الطب النفسي إلا أحد مظاهره ولكن أكثرها قوة، ولا سيما في بلد كانت دائما حذرة بل ومتأخرة في هذا المجال. كان يسود هذه الأعوام أساسا مزيج عجيب وغير عادي من العنف المناهض للمؤسسات والأساليب ذات المضمون الثقافي الأكثر جذرية من دون أي تماسك إلا هذا المنطق.»
18
يعد توماس ساس أحد الآباء المؤسسين لحركة مناهضة الطب النفسي المعاصرة، وأحد أكثرهم تشددا، وإن كان دوره قد بدأ يخبو اليوم أمام الذين استلهموا أفكاره (وعلى رأسهم فوكو). ولد ساس في بودابست عام 1920، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938. كان يعمل فيزيائيا، قبل أن يصبح طبيبا ويتحول في النهاية إلى طبيب نفسي. وسرعان ما حرمته مواقفه العنيفة تجاه مؤسسة الطب النفسي منذ بداية الخمسينيات من متابعة نشاطه في العمل داخل المستشفيات. ومنذ عام 1956، أصبح أستاذا للطب النفسي بجامعة نيويورك (سيراكيوز) وحتى تقاعده عام 1990. ويزخر تاريخه المهني بالكتب النظرية (ما يقرب من الثلاثين كتابا) نذكر منها بالتحديد: «أسطورة الطب العقلي» (1961)،
19
و«الأيديولوجية والجنون» (1970)،
20
و«صناعة الجنون» (صناعة الجنون: دراسة مقارنة لمحاكم التفتيش وحركة الصحة العقلية) (1970)،
21
وأيضا «أسطورة العلاج النفسي» (1978).
22
ويستحق كل عنوان من هذه أن يصبح منهجا يدرس. المرض العقلي أسطورة. بالطبع، يوجد «تفاوت في السلوك داخل المجتمع» (يتحدث ساس أيضا عن «المشكلات الوجودية»)، ولكن من الخطأ اعتباره مرضا. «في مجتمعاتنا المعاصرة، يتم إذن فرض تشخيص للمرض العقلي بمجرد أن نتمكن من تحديد الفجوة بين السلوك الفردي بالنسبة إلى بعض المعايير النفسية الاجتماعية والأخلاقية أو القانونية [...] فما يسمى بالأمراض العقلية ليست في معظم الحالات إلا حوارات تعبر عن أفكار غير مقبولة، تترجم أحيانا في لغة غريبة» (الأيديولوجية والجنون).
وينطلق ساس من الفكرة القائلة بأن الحكومات تتآمر دوما ضد رعاياها لتبقيهم في حالة عبودية بفضل الأيديولوجيات. ولكن اختلف الفخ: «في عصر الإيمان، كانت الأيديولوجية مسيحية، والطريقة كهنوتية والخبير هو رجل الدين، ولكن في عصر الجنون، أصبحت الأيديولوجية طبية والطريقة إكلينيكية والخبير هو الطبيب النفسي» (الأيديولوجية والجنون). ويعود ساس كثيرا إلى هذا التشبيه: «من يجرؤ أن يسخر من الله أو يعارضه داخل مجتمع ديني؟ المهرطق فقط! ومن يجرؤ على السخرية من الصحة (العقلية)، بل ويعارضها في مجتمع علاجي؟ المجنون فقط!»
23
انتقلنا إذن من عصر الإيمان إلى عصر العقل (ويتعمد ساس أن يسميه «عصر الجنون»). «فبدلا من أن يولد الإنسان حاملا الخطية، فهو يولد حاملا المرض.» وهكذا، بعيدا عن أن يكون عالما حياديا كما يدعي، ينحاز الطبيب النفسي (فلا يمكنه معالجة أحد إن لم يسئ معاملة الآخر)، وتحولت دلالة الطب النفسي إلى ألفاظ جديدة لتصف وتروج لقيم أخلاقية وبالتالي سياسية. «كل هذا ليس سوى خداع كبير.» كما أن الأمر يتعلق بالترويج لقيم أخلاقية، وليست لقيم طبية؛ لأن «القيم الأخلاقية تخص الجميع، ولا يمتلك أي فصيل أن يدعي أنها ملكه وحده» (على عكس القيم الطبية التي تظل حكرا على المتخصصين في مجال الصحة).
وفي كل أعماله، ظل يندد بهذه المحاولات لوضع معايير موحدة لكل شيء: «إذا لم تنجح الفاشية والشيوعية في فرض أيديولوجية جمعية على المجتمع الأمريكي، فربما تنجح أدبيات المرض العقلي في هذا الأمر.» وقد تمتد هذه السطوة لتطول العالم أجمع، وقد أصبحت هي مجال التطبيق العملي للطب النفسي. باختصار، أصبحت الصحة هي الحجة الجديدة لسيطرة الإنسان على الإنسان. فنحن نتجه إلى «الدولة العلاجية» ضد الفردية والاستقلالية، ضد حماية المواطنين من الدولة، وأيضا ضد الحكم الحر والمسئولية الفردية.
سندع الآن جانبا التجاوزات العديدة في الحوار، التي سبق بها من تبعوه، والتي لم تساهم بالطبع في جعل حركة مناهضة الطب النفسي أكثر مصداقية. وبالتالي، فكرة أن المجنون حتما هو كبش الفداء الذي تضحي به «مجتمعاتنا الرحيمة» والذي تنقذ تضحيته المجموعة كلها من التفكك والأنا من الانحلال ... أيمكننا أن نضيف إلى المجنون الساحرات واليهود؟ كما يخصص كتاب «صناعة الجنون» فصلا كاملا «لكبش الفداء المثالي للطب النفسي: الشخص المثلي الجنس»، في حين لم يكن يهتم به الطب النفسي التقليدي إلا نادرا. ويتحدث فصل آخر عن «منتج جديد: جنون الاستمناء» الذي رأينا أن تشخيصه قد ظهر منذ العصر الرومانسي للطب النفسي. إن المبالغة الكبرى بالطبع هي التأكيد على أن المرض العقلي ليس له وجود، على الرغم من أن هذه الفكرة كانت هي الترجمة المختصرة لأفكار ساس في فرنسا بالتحديد. فإذا بحثنا جيدا، فسنرى أن ساس قد تقبل فكرة الجنون؛ بما أنه يعتقد أن طرق العلاج النفسي لها مكان بشرط أن تكون مطلوبة.
يدين ساس أيضا التحليل النفسي بشكل قوي. فيعتقد أن العلاج النفسي إنما هو أسطورة (مثله مثل المرض العقلي) وأن التدخلات العلاجية النفسية إنما هي طرق علاجية مجازية، وكأن العلاج النفسي صورة من صور البلاغة. أما عن النموذج الذي اتخذه - أي التحليل النفسي - فهو ليس علما كما ادعى فرويد، وإنما دين جديد مليء بالمعتقدات الثابتة. بل ووصل الأمر بساس حتى الحديث عن طوائف داخله. فيرى في عقدة أوديب (وليست وحدها) مفتاح لغة التحليل النفسي، والتي توازي مكانتها بالنسبة إلى المحلل النفسي التقليدي، مكانة سر التناول لدى الكاثوليكي. ولقد صنع منها فرويد واقعا - بعيدا عن أي مجاز - تماما مثل سر القربان المقدس. «فبالنسبة إلى كنيسة فرويد، فأي طفل ذكر يرغب في قتل والده وممارسة الجنس مع والدته، والفتيات العكس.» ولقد أبعد فرويد يونج لرفضه أن يتقبلها إلا في صورتها الرمزية. «محاولا دحض اعتراضات يونج الذي رفض أن يعتبر عقدة أوديب السبب وراء كل أنواع العصاب، كشف فرويد من جديد عن الطابع الفظ لبلاغته.»
24 «كان حماسه بالإضافة إلى مواهبه هو ما أتاح لفرويد أن يتحول إلى أسطورة في مجال الجنون في النمسا.» ولكن فرويد مدعي ثقافة، مصاب بجنون العظمة وكاره للنساء (وفوق هذا يهودي ينتقم تاريخيا من المسيحية)،
25
كان يستخدم لغة شبه علمية للتدليل على عبقريته: «وبالتالي، يصبح الذهن الجهاز النفسي، والعاطفة ليست إلا ال «هو»، والشخصية هي «الأنا» والضمير هو «الأنا العليا».»
في عصره، أصبح ساس من المناهضين القلائل للطب النفسي الذين عارضوا أيضا التحليل النفسي؛ مما تسبب في فزع كبير في وسط حركة مناهضة الطب النفسي في فرنسا؛ حيث كان التحليل النفسي فيها يحظى بأوج فترات الانتصار. ولقد تولد عن هذا الأمر مؤامرة صامتة نسبيا. ولكن هذا لم يمنع رولاند جاكار - المؤرخ لحركة الجنون والتحليل النفسي - من أن يكتب في عموده بجريدة «لوموند»: «تعد أعمال ساس القطعية في رفضها والمفرطة في النقد وذات المنطق الضعيف من الأعمال التي تسير ضد التيار، ضد كل ما يقال وكل ما يفعل في مجال الطب النفسي، بل وأيضا التحليل النفسي [...] وباسم العقلانية والإنسانية المتفتحة، تعد دفاعا شديدا عن الإنسان لم نقرأ مثله منذ أمد بعيد.»
ومثله مثل الطب النفسي والتحليل النفسي، لم يلق الطب النفسي الحيوي قبولا لدى ساس، الذي يقول لجي سورمان في لقاء عام 1988:
26 «دعونا نتوقف عن القول بأن خلف كل تفكير ملتو، جزيئا ملتويا داخل الدماغ.» «فإذا كانت الحال كذلك، فيجب إذن علاج الفصام مثل أي مرض عادي، ولا نجعل من الأمراض العقلية فئة منفصلة نعزلها ونعتني بها بموجب سلطة ما.»
وهكذا، تكون تفسير شامل للجنون من منظور علم الاجتماع، في الوقت الذي كانت العلوم الإنسانية تفرض نفسها بقوة في الجامعات. وكثيرون هم الرواد في هذا المجال. ومنذ ذلك الحين، كرس أدولف ماير (1866-1950) - عالم الأعصاب السويسري المهاجر إلى الولايات المتحدة عام 1890 - نفسه لدراسة طب الأمراض العصبية والنفسية. ولكنه كان معارضا لتصور كرابلين عن كيان الأمراض، وكان يدرس أن الاضطرابات العقلية إنما هي طرق غير ملائمة للتفاعل مع المواقف المختلفة، وأن العلاج النفسي يجب أن يقوم على مساعدة المريض على التأقلم بصورة أفضل. في إنجلترا، بعد الحرب العالمية الثانية، كان ماكسويل جونز - أحد رواد الطب النفسي الاجتماعي - يدرس من جانبه أن المرض العقلي يجب ألا يعد مطلقا مجموعة من الأعراض، وإنما «المورد الأخير لفرد ينقصه الدعم الاجتماعي المناسب ويعجز عن مساعدة نفسه.»
27
ومبكرا، اقترح ما يسمى ب «المجتمع العلاجي» كحل ليكون نموذجا نظريا وأداة عملية في ذات الوقت (مثل سيفادون وأوري وتوسكيل في فرنسا ). ويقوم الأمر - وسنرجع إليه لاحقا - على تحويل تنظيم المصحة لكي نضمن أن يكون هناك دور لكل فرد؛ المعالج والمعالج في المشروع العلاجي.
ولن يكون البحث عن أسباب الجنون «داخل» الفرد وإنما خارجه. (بالنسبة إلى ليفي ستروس، فإن المجنون - خارج مجتمعاتنا - يمثل بالفعل الملمح الأقل أهمية من نظام الجنون.) وعلى عكس التصور الفردي الذي يؤكد على الشخص المريض، لم يعد الجنون موجودا داخل الشخص، وإنما داخل نظام العلاقات والبيئة المرضية التي تحيط به. «علمتني خبرتي الإكلينيكية أن الفرد يصاب بالفصام جزئيا بسبب الجهد المتواصل - بنسبة كبيرة في اللاوعي - الذي يبذله المحيطون به لجعله مجنونا» (سيرلز، محلل نفسي أمريكي).
28
كان هذا هو العصر الذي ارتسمت فيه صورة والدي الفصامي الشاب: «أم متحكمة عاطفيا ومبالغة في الحماية بنفس قدر إبعادها لابنها، بينما يكون الأب ضعيف الشخصية وسلبيا ومنشغلا أو مريضا أو «غائبا» بشكل أو بآخر كعضو حقيقي في العائلة.» وبالتالي، تنتج الكثير من حالات الذهان ليس بسبب انقطاع العلاقات الأسرية، بل بالعكس بسبب توطدها الزائد. ويضيف رولاند جاكار: «من بين المحللين النفسيين الفرنسيين الذين درسوا طريقة سير العائلات الذهانية، يجب أن نفرد مكانا خاصا لفرانسواز دولتو، التي وصفت كيف يشكل الوالدان زوجا عصابيا منطويا على ذاته، يهتمان فقط بتنشئة أولادهما ماديا، «فيعملان» و«يربيان» فقط. وكأن أطفالهما ليسوا إلا ثمرة رغبات يخجلان منها ولا يعترفان بها. فيربيانهم في جو من السخافة والفزع من الجنس الذي يكبتونه بعنف، شاعرين بالذنب الدائم إلى درجة خطيرة؛ لأنه لم يكن لديهم والدان يسمحان لهما بالتعبير عن الرغبة الجنسية بفخر.»
في جميع الأحوال، ليس المريض هو الذي في حاجة للطب النفسي، بل الأسرة والمجتمع، ذلك المجتمع غير الإنساني الذي ندد به المناهضون في فترة الستينيات. ويقول جورج ديفرو (1908-1985) - رائد التحليل النفسي العرقي: إن الفصام وضياع الهوية إنما يتسبب فيهما المجتمع الذي هو ذاته مضاد للهوية محاولا تفكيك أي كيانات. باختصار، المجتمع هو الذي يعاني من الفصام. «المرض العقلي ليس كيانا في ذاته، فلا وجود له؛ لأنه ينتج عن المواجهة بين فردين، يقدم أحدهما ألغاز اضطراباته، ويحاول الآخر تفسيرها.»
29
فالمرض العقلي «شيء يدور بين المريض والطبيب»،
30
ولكنه في النهاية «حوار بين قسمين من المجتمع أكثر منه حوارا بين فردين.»
31
إلا أن هذين العالمين يشكلان جزءا من نظام عالمي. «النظام الذي نسميه نظام العقليات الطبيعية يعد جزءا لا يتجزأ من عالم الجنون [...] فنحن نحمل جميعنا داخلنا تلك الهوة التي قد تبتلع عقلنا (حسب التعريف المتفق عليه اجتماعيا)، ليمثل الجنون ظهور هذه الميول الدفينة الموجودة لدى كل البشر [...] أي إننا نشعر جميعا داخلنا بخلجات الآخر المظلم الذي يسكن فينا.»
32
هذا الجنون، الجنون الذي يعتبر كبش فداء لمجتمع العقل، قد بلغ ذروته مع أطروحة ميشيل فوكو عام 1961. لم يرد فوكو أن يكون مؤرخا ولا مناهضا للطب النفسي ، ولكنه أصبح كذلك بصفته امتدادا لنظريات ساس في فرنسا (على الرغم من أنه لا يقتبس عنه أبدا): «لم يكن الطب هو من وضع حدودا بين العقل والجنون، ولكن منذ القرن التاسع عشر والأطباء أصبحوا مكلفين بمراقبة هذا الخط الفاصل بيقظة.» بعد كتابه «الجنون والحماقة» عام 1961، استأنف فوكو في محاضراته بكلية فرنسا تدريس نظرياته المضادة «لسلطة الطب النفسي».
33
وظل الجنون - أو العلاج الإكلينيكي للجنون - «نوعا من التخصص» يختلف عن أي تخصص آخر بسبب «طابعه الطبي». «فلم يعد هناك مكان للقراءة الرومانتيكية (أطروحة عام 1961) التي ترتكز على تاريخ الظواهر وأزمة الحدود التي يمثلها الجنون بكونه تجسيدا «لعدم التعقل»، بل القراءة المناضلة تستخرج جذور «التخصص» الذي كان يسمى بالطب العقلي، بكونه نظاما لا يتوقف شكله - وهذا هو قلب المحاضرة - على ظهوره في كافة مناحي الحياة الاجتماعية كنموذج مميز للسلطة وعلى بقائه بعد تدهوره كنمط طبي نفسي، في ظل حالة من التعميم لوظيفة «الطبيب النفسي» في المدرسة وفي القضاء ... إلخ.»
34
ومرة أخرى، لم نكن لنركز انتباهنا في هذه النقطة على فوكو، لو لم يكن يحتل اليوم تقريبا كل الساحة التأريخية للجنون. فلا يوجد اليوم كتاب عن تاريخ الجنون أو قاموس أو موسوعة إلا كتب فوكو، وهذا ليس أقل مفارقة من أن نراه يتحول في النهاية إلى المؤرخ الرسمي للجنون. وباستثناء بعض المحاولات التي تعنى بتحليل «فوكو والجنون»
35 - وهو ليس بالأمر الهين - يظل الباقون في أغلب الأحوال متقبلين لآرائه. «يعتبر ميشيل فوكو الفيلسوف الأكثر أهمية في عصرنا [...] فهو معلم لا يضاهيه أحد في فن الكشف عن كافة آليات السلطة. ولم يتجنب نقده، الذي هدم كافة علاقات السيطرة والقمع والسلطة، الطب النفسي التقليدي ولا عنف السجن ولا جو الاعتقال ولا علاقة الإنسان بالجنس في المجتمعات الحديثة [...] الجنون في البداية: فلقد أعاد فوكو للمحتجزين بالآلاف الذين يملئون مستشفياتنا النفسية صوتهم وعباراتهم وحواراتهم. فقد كان المجنون - مثله مثل الطفل أو المرأة - لمدة طويلة محروما من اللغة والكلام. فجاء فوكو ليعيد إليه صوته [...] بإتاحته فهم العلاقة بين العقل وعدم التعقل، ظل كتابه «تاريخ الجنون» يبدد الأوهام حول موضوع العنف في المستشفيات النفسية الذي كان يتم تبريره بادعاءات علمية. وتعد أعماله قراءة واعية ودرسا لا يزال صالحا لعصرنا هذا، في وقت كان كلام المجنون يظل دائما دون صدى، ويظل سؤاله دون إجابة. جاءت أعمال فوكو لتبحث بعمق وتحطم سطح ظاهرة الاحتجاز لأسباب نفسية. وليس من العجيب أن تساؤل فوكو حول السلطات قد بدأ بتحقيق حول الجنون؛ لأن الجنون ذا المعايير المحددة إنما هو نتاج جميع أبنية الطب العقلي وجميع حالات الإقصاء وجميع القيود وكل أنواع الرفض والحصار.»
36
كان ذلك في عام 1979 وفوكو لا يزال على قيد الحياة، أما الآن فالحوار لا يزال متعلقا في الأغلب بالطابع التاريخي. ويتساءل الفيلسوف بلاندين كريجيل:
37
ما الذي يتبقى من ميشيل فوكو؟ ولماذا فوكو أكثر من آلتوسير ولاكان «اللذين تركا هما الآخرين أثرا لا يمحى على جيلنا؟ لماذا - من بين كل هذه الشخصيات - نختاره بالذات؟» ذلك لأن فوكو - على عكس الاثنين الآخرين - «كان بعيدا عن أي تصنيف سريع. ومن هنا، برز سحره الخاص والتأثير الجذاب الذي مارسه علينا جميعا، المتمثل في رفضه أن يتم تحديده أو قولبته في دور اجتماعي معين [...] ومن هذا التلاشي المقصود وهذه الحرية التي لفوكو، والتي تسمح بتأويلات مختلفة ومتعددة لأعماله، خرجت تعبيرات متناقضة ومتفرقة. أعاد فوكو الصوت للبائسين، مثلما أعاد بيكون اللون الأكثر بدائية، ليس للتقليل من شأن الثقافة وإلصاقها بعادات وقمع، وإنما للانتصار للبشرية التي اقتنصت حريتها: كان هذا هو ما علمنا إياه فوكو، وهذا هو ما يتبقى من عظمة أي كلمات أو لوحة انتهت بإعطائنا قدرا من السعادة.»
وفي هذا الاتجاه تحدثنا عن «الإنجيل وفقا لفوكو»، لدرجة أن كتابه «تاريخ الجنون» لا يتم تقديمه أبدا كسابقة تاريخية لحركة مناهضة الطب النفسي. إلا أن كبار الأطباء النفسيين المعاصرين لنظرية فوكو كانوا يتحدثون بوضوح، على عكس الجيل الشاب الذي أغرته «الحركة الثورية» التي للعصر وأخافته حالة الإرهاب الفكري التي ملأت الأجواء. في عام 1969، كانت الأيام السنوية لجريدة تطور الطب النفسي مخصصة «للتصور الأيديولوجي لتاريخ الجنون لميشيل فوكو».
38
ولقد قدم جورج دوميزون له «قراءة تاريخية» مشددا - على غرار هنري ستولمان (جنون أم مرض عقلي؟ دراسة نقدية ونفسية ومعرفية لمفاهيم ميشيل فوكو) - على «الغموض الدائم لمفهوم الجنون، الذي هو محور تفكير المؤلف.» هنا في الحقيقة تكمن نقطة الضعف، وسنجد في هذه التقارير نفس انتقاداتنا عند قراءة فوكو. «نادرا ما نأسف لأن عملا متفردا بجمال لغته، ورقة وجودة بعض تحليلاته، والحماس المذهل الذي يتطلب عملا غير محدود؛ تنتقص قيمته في النهاية بسبب غفلة مؤلفه عن الحقيقة الإكلينيكية في مجال العلاج النفسي» (ستولمان).
ومن جانبه، لم يكن هنري إي رقيقا (تعليقات نقدية حول تاريخ الجنون لميشيل فوكو): «إن هذا الفيلسوف المتبحر في مجال الطب، والدارس جيدا لبعض نقاط تاريخه، ولكن مدفوعا بمزاج سيئ تجاه الأطباء؛ قد شرع في إثبات أن «المرض العقلي» [...] ليس إلا تأثير قمع اتجاهات عدم التعقل عن طريق العقل والفضيلة ومصالح المجتمع. ومن هنا ينوي فوكو عدم الفصل بين الجنون (الذي يدور حوله وحده مجال الطب النفسي) وعدم التعقل [...] وهكذا، أصبح لدينا علم بالجريمة التي سيرتكبها الطب النفسي باستيلائه على مجال لا يتبعه: عدم التعقل العجيب [...] أي القول بأن الجنون إنما هو نتاج ثقافي يولد ولا يتطور إلا في هذا الحيز؛ حيث يدين العقل عدم التعقل. من مثل هذا المنظور - الذي نسميه «الأيديولوجي» - كون الشخص مجنونا أو كونه يبدو مجنونا أو موصوما بالجنون ليس له صلة بظاهرة طبيعية: فلكل شيء يحدث في التاريخ مثل في التطبيق العملي لمفهوم المرض العقلي وكأن «الباثولوجيا» الخاصة به مصطنعة بالكامل وعلاجه اجتماعي تماما. هذا بالطبع يعني التقليل من قيمة ما يتضمنه الموضوع من ثوابت متماسكة في «الخلل العقلي». إلا أن هذه المقاومة بالتحديد وهذا الثقل النفسي الباثولوجي هو الذي يمثل بالنسبة إلينا أساس الطب النفسي. [...] «فالمرض العقلي» هو مرض الواقع والحرية المقيدة - مثل الحلم - بفوضى الشخص الواعي؛ أي إنه يظهر تقريبا في مرضه العقلي عكس العلاقات التي تنظم عضويا الكائن الواعي داخل اللاوعي.»
ولم يكن هناك بد أمام الكتب النادرة التي تناولت تاريخ الجنون (لم تهتم جميعها إلا بالفترة المعاصرة) - التي تلت «تلك اللحظة» من الجنون وفقا لفوكو - من أن تتخذه مرجعا لها، مثل «نظام الطب النفسي: العصر الذهبي للطب العقلي»
39
لعالم الاجتماع روبرت كاستل. فنجد اتباعه لأعمال فوكو جليا من الوهلة الأولى: «فهي تمثل نقطة فاصلة، لا تستطيع أي محاولة من هذا النوع إلا أن تندرج تحتها.» ولكن لننتبه! فروبرت كاستل يحرص على أن يرفض «لهجة الإدانة الأخلاقية (و) موقف ملقن الدروس.» ولكن ماذا نقرأ؟ «لعلنا قلنا بما يكفي إن المعرفة الطبية النفسية لم تكن جدية وإن طرق التحليل النفسي كانت رتيبة. على أي حال، فإن القائمين عليها لم يكونوا سذجا يتسلون أو مدعين وقحين، بل كانوا فنيين على مستوى عال تمتد معرفتهم ويزداد نفوذهم.» وبعيدا: «إن عملية تآكل القانون عن طريق المعرفة (أو عن شبه معرفة، ولكنها ليست قضيتنا الأساسية هنا) والتخريب التدريجي للشرعية عن طريق أنشطة تعتمد الخبرة؛ يمثلان أحد أكبر الانحرافات التي - منذ صعود المجتمع البرجوازي - تتولى عملية اتخاذ القرار الذي يشكل المصير الاجتماعي للبشر، بداية من العقود وحتى الوضع تحت الوصاية. ولقد كان الطب العقلي عاملا أساسيا في هذا التحول.» ويتلخص الطب النفسي للقرن التاسع عشر في «الرغبة القهرية للأطباء النفسيين في تعريف الجميع بأنهم ليسوا أقل علما من الأطباء الآخرين، وأن السيطرة على الجنون أصبحت أخيرا ممكنة بفضلهم [...] وبدأت سلسلة طويلة من الأحداث المرعبة ترتكب بدم بارد باسم العلم والعقل.»
40
ولكن - وليس فقط في دراستنا - يبدو أن نقد «أسطورة» فوكو قد بدأ منذ قليل. كانت هذه هي الحال مع المقدمة الجديدة للطبعة الثانية عام 2007 من «العقل البشري التطبيقي» (جوسيه وسواين)؛ حيث صيغت بوضوح القطيعة المعرفية بين فوكو وتابعيه: «ما أنتجه فوكو - بحماسته المعروفة عنه - ليس إلا «أسطورة»، يشير أثناء روايتها إلى لعنة منذ الميلاد. فالإقصاء هو الدافع إليها وإقصاء الجنون هو نموذجها. لقد أسرت الأسطورة التاريخ «ابتداء من حاضر اعتقد في ذاته القدرة على الخروج عن المألوف» [...] باختصار، اتضح أن التشبه بالجنون المتخيل هو العامل المؤدي إلى إنكار الجنون الحقيقي. اختفى الألم النفسي وراء نشوة جنون الكتابة. ومن مبدأ أن المجانين مثلنا، ومن ثم يجب معاملتهم بناء على هذا، واستنادا إلى فكرة أن الجنون ليس له وجود؛ لا توجد أي خطوة سهلة يمكن تجاوزها بما أن المنطق التكافئي يعمل بطريقة عاطفية وأحادية الجانب.» ويحدق بنا جهل آخر: «الجهل بالعصر الحديدي القديم لعدم المعرفة الإرادية» الذي ينبع من «تأصل المحددات الضرورية التي يفرضها المنطق التكافئي».
41 •••
وبلهجة أكثر اعتدالا، كان مؤرخو الطب النفسي الأنجلوساكسونيون أيضا من مناهضي الطب النفسي (أكثر من مؤرخي الجنون). لن نذكر هنا إلا «متاحف الجنون» لأندرو تي سكول،
42
الذي يسترشد التاريخ الذي كتبه عن الطب النفسي البريطاني في القرن التاسع عشر بأكمله بفكرة مقدسة؛ وهي «الاستحواذ الطبي على الجنون»؛ أي المؤامرة الكبرى. صدق الأطباء على أطروحة الجنون المرضي، الذي تقع مسئولية علاجه على عاتقهم بنوع من الاحتكار الأيديولوجي. مرت الأعوام، وبدأت الأيديولوجية الفوضوية تمحي، مع وجود شبكة التأويلات المناهضة للطب النفسي. وبدوره، وضع جان جولدشتاين في كتابه «عالج وصنف»
43
أساس شكل تسييس الطب النفسي. ويدعو للعجب التحول الذي جعل من العلاج المعنوي أداة فرنسية، متناسيا أنه في الأصل كان فكرة إنجليزية، وأنه لا يمت بصلة للنظام الديني أو لنظام العلاج. ونقرأ - بنحو ذي مغزى - في مطلع خاتمته هذه الجملة التي اقتبسها عن بروست: «لدى الكاهن كما لدى طبيب الأمراض العقلية؛ يوجد لديهما شيء يشبه قاضي التحقيق.»
وأيضا، ثار الأطباء النفسيون في ذلك الوقت، ولكن لم تسمع اعتراضاتهم في وسط صخب حركة مناهضة الطب النفسي. في يونيو 1971، أثناء ندوة بروزيز المخصصة لحركة مناهضة الطب النفسي، اتهم هنري ستولمان - الطبيب والمحلل النفسي - متهميه: «إن الباثولوجيا أشمل من دراسة الشذوذ ولا تقتصر عليه فقط»،
44
وإن النمطية «ليست دليلا على الصحة العقلية.» وتخلط حركة مناهضة الطب النفسي بين مفهومين مختلفين. «أن مثل هذا المزيج الموجود لدى ميشيل فوكو - الذي لم يعرف عن الجنون سوى حوار مع الأرشيف - ليس مفاجئا. ولكن أن يتمكن الأطباء النفسيون - لعلهم كانوا من المناهضين للطب النفسي - من التجاوز عن مشاهد الاقتياد إلى الموت، وأن يسدوا آذانهم عن سماع شكاوى اليأس؛ هذا ما يثير العجب!» ويقارن ستولمان مناهضة الطب النفسي بأزمة المراهقة: الميل إلى العقلانية ورفض النظريات والزهد والنرجسية وطفرات الهوية ... «أقول في النهاية إنه يجب الاعتراف بأن مناهضة الطب النفسي تمتلك أسبقية؛ فهي تجري تحقيقا مع كل منا بعنف رقيق. فعندما تكون معارضة الطب النفسي نقدا جذريا للمؤسسة، أكون مناهضا للطب النفسي، ولكن عندما تحتمي وراء نفي وجود المرض العقلي، أعارضها.»
وأثناء نفس الندوة - التي لم تتصدر بالطبع الصفحات الأولى في الجرائد التي كانت تذكر بالكاد حركة مناهضة الطب النفسي الغامضة - ندد هنري موريل - عضو جريدة تطور الطب النفسي - من جانبه بسخافة المصطلح الجديد «مناهضة الطب النفسي». ويتساءل، فماذا يفعل كوبر بازاليا إذن إذا لم يكن الطب النفسي؟ بالطبع هم مصلحون ومجددون، ولكنهم يبقون في النهاية أطباء وأطباء نفسيين. أما إنكار وجود المرض النفسي وقصره على كونه «منتجا ثقافيا»، فهذا تراجع كبير: «أمن الضروري التذكرة بأنه منذ زمن طويل قد وعى الأطباء النفسيون أن القضية التي يطرحها الجنون ليست معرفة ما إذا كان المريض الذي يهلوس محقا أم لا، أو إذا كان المريض بالغيرة المرضية مخدوعا فعلا أم لا، أو أن المصاب بوسواس المرض مريض بالفعل بأي إصابة باطنية أو قلبية؟»
45
ويستكمل موريل حديثه بأن مناهضة الطب النفسي ليست سوى نوع من التناقض: «فنفي الجنون يرتبط عادة - في مضمون مناهضة الطب النفسي - بالاعتراف به. فبعد تفكيك «أسطورة المعيار الطبيعي»، نال الجنون حقه بشرط أن يصبح في مصاف القيم. بينما تميل مناهضة الطب النفسي - تحت غطاء التنديد بالعنف - إلى تحويل مجال الطب النفسي إلى مجال ثوري.» باختصار، يجب إزالة الأوهام حول مناهضة الطب النفسي. «فهناك تيار من المثالية والتصوف والتنبؤ والرومانتيكية والعقلانية المشوبة بجنون العظمة بدأ يسري في «مملكة» مناهضة الطب النفسي البائسة.»
بالنسبة إلى هنري إي، فمناهضة الطب النفسي ليست سوى احتجاج على الطب النفسي السيئ. «ولكن بإصرارها على الرفض المطلق، تتحول إلى أيديولوجية أسوأ من أساطير الطب النفسي التي تنتقدها؛ لأنها بذلك لا تناقض خطاب الطب النفسي الرديء، وإنما طبيعة المرض العقلي نفسه.» ومرورا، يتساءل إي بخبث، لماذا لا نتحدث عن «مناهضة علم النفس» أو «مناهضة علم الاجتماع» - مشيرا بذلك إلى هؤلاء الذين انكشفوا بوضوح. «الطب النفسي لا يمكن أن يكون سوى فرع من الطب؛ لأن المرض العقلي ليس ظاهرة ثقافية، وإنما أثر ارتباك وتفكك الكائن نفسيا.»
46
اتخذت حركة مناهضة الطب النفسي أوسع مدى لها داخل المصحة النفسية ذاتها على يد ممارسين كانوا - من دون أن ينكروا وجود الجنون الذي يواجهونه يوميا (نتحدث عن المرض العقلي دون أن يكون سبق لنا رؤية مريض)
47 - يعارضون جذريا الطب النفسي بالطريقة التي يمارسونه بها، والذين يجبرهم المجتمع (الرأسمالي) عليها. وإذا جاز القول، فإن الأطباء الإنجليز هم من كانوا في الطليعة. كان ديفيد كوبر (1931-1986) يدير في البداية وحدة تجريبية للفصاميين تسمى «الجناح 21» بمستشفى شيلي بلندن من عام 1962 وحتى 1966. واجتمع فيه فريق علاجي - بعيدا عن أي ترتيب طبقي وبإلهام من ماكسويل جونز - أطباء وممرضون ومرضى. إلا أن عداء الجهاز الطبي والنزاعات الدائمة مع إدارة المصحة، بالإضافة إلى إنهاك المعالجين نفسيا، قد سارع بوضع نهاية لهذه التجربة الرائدة. اعتقد كوبر أن الجنون ليس مرضا عقليا، وإنما تجربة شخصية واجتماعية، «حالة معدلة من الوعي»، أو «رحلة» يجب اتباعها.
48
في الوقت ذاته، اعتبر عالم الأنثروبولوجيا البريطاني جريجوري باتيسون (1904-1980) أن الفصام رد على الأوامر المتناقضة والمتعارضة (القيود المزدوجة) التي تنتج عن مرض في التواصل. ويتحدث كوبر أيضا عن «المجنون الموجود في كل منا، في حين أن كل شخص طبيعي بالكامل لا يحمل داخله إلا جثة مجنونه المقتول داخله.» وكان هو أول من استخدم مصطلح مناهضة الطب النفسي،
49
ككيان معارض، ليس للمجتمع فحسب بل وأيضا لأسرة المريض عقليا. «من الغباء الحديث عن موت الله أو موت الإنسان - بالسخرية من الأحاديث الجادة لبعض اللاهوتيين والفلاسفة البنيويين المعاصرين - قبل أن نعي بالكامل موت الأسرة (النواة)، هذا النظام الذي - بموجب التزامه الاجتماعي - يقضي بخبث على أساس تجربتنا؛ وبالتالي يحرم أفعالنا من أي تلقائية حقيقية.»
50
أعيد إحياء تجربة «الجناح 21» مرة أخرى عام 1965 بتأسيس دور لرعاية الفصاميين - هذه المرة بعيدا عن إطار أي مستشفى عام - ومن أشهرها دار كينج سي، المكان التاريخي للحركة العمالية البريطانية في شرق لندن. ويرجع الفضل في هذه المبادرة «المستشفى-المضاد» لديفيد كوبر وآرون إيستيرسون ورونالد لاينج (1927-1989). ويقول الأخير في كتابيه «الأنا المنقسمة» (1960)
51
و«سياسة التجربة» (1967)،
52
إن الأزمة النفسية هي رحلة يسميها «شفاء النفس» (التحول والتغيير الروحي). وبالنسبة إلى لاينج، تكمن هنا التجربة الثرية أو «المنعطف الرائع لتطور الشخصية»، بشرط أن يكون هناك من يصحبها جيدا ولا يعالجها نفسيا إلا إذا أصبحت مزمنة. بل وذهب إلى الدعوة إلى «هذه الرحلة» على غرار من يتعاطون ثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (عقار الهلوسة
LSD ). إلا أن لاينج - الذي تم اتهامه لاحقا بالتشجيع على الإدمان - قد شكك في أعماله عام 1985 في سيرته الذاتية «حكمة وعدم تعقل وجنون». أما عن تجربة دار كينج سي، فلم تستمر لما بعد عام 1970، لعداء المحيطين بالإضافة إلى طابعها المتعلق بأقلية صغيرة.
نتيجة تأثرهما بالفيلسوف سارتر (العقل والعنف، 1984)، كان التزام لاينج وكوبر سياسيا وثوريا؛ فكانا يرفضان المجتمع الغربي ككل: «إن الشخص الذي يفضل الموت على أن يكون شيوعيا (كان ذلك في أوج الحرب الباردة) طبيعي. أما الشخص الذي يعلن أنه فقد روحه، فهو مجنون. والإنسان الذي يقول إن البشر ما هم إلا آلات قد يعد عالما كبيرا. ولكن الشخص الذي يقول إنه آلة يكون مريضا بتفكك الشخصية وفقا لمصطلحات الطب النفسي» (لاينج). في عام 1967، بلندن، عقد مؤتمر عن جدلية التحرر بناء على مبادرة منهما. وكان من بين الحاضرين هيربرت ماركوس. كان الأمر يتعلق بتكوين «وعي حقيقي ثوري، يضم الأيديولوجية إلى العمل المباشر مع الأفراد والجموع دون رفض العنف إذا كان ضروريا» لدى الجزء الأكثر تقدما. ويذكر جاك بوستيل بمكر: «يبدو أن المعارضين الإنجليز للطب النفسي يمارسون أناركية مثالية للغاية. من الصعب إيجاد فعل مقاومة بهذه الجدية والخطورة في هذا المجال، بما ينصحون به لتمزيق الجريدة اليومية الفاسدة التي اشتراها من بائع الجرائد علانية. وسرعان ما غرقت حركة مناهضة الطب النفسي الإنجليزية في هذه المثالية الطوباوية.»
53
في إيطاليا، حظيت حركة مناهضة الطب النفسي بنجاح أكبر بفضل نشاط فرانكو بازاليا (1924-1980) المولود في فينيسيا، ويعمل طبيبا منذ عام 1949 وطبيبا نفسيا منذ 1959. كان شديد التأثر بالفكر الظواهري الوجودي وبأعمال بينسفاجنر ومينكويسكي، واهتم بتعزيز قيمة اللقاء مع المريض عقليا. كان متأثرا أيضا بأفكار ماكسويل الذي تدرب معه في لندن. وإيمانا منه بفائدة المجتمعات العلاجية، رفض الطب النفسي التقليدي والتحليل النفسي، الذي هو «الصورة المثالية للمجتمع الرأسمالي». تسببت آراؤه السياسية في نفيه في المصحة النفسية الكئيبة بجوريزيا بالقرب من ترييست؛ حيث اصطدم بالواقع الحزين للحال في المصحات العقلية. ومن هناك، تأصلت مواقفه وقرر إطلاق سراح مرضاه، وهم في الأغلب الفقراء الذين لفظهم المجتمع. «العلم دائما ما يكون في خدمة الطبقة المسيطرة»، والمصحة النفسية «هي إحدى مؤسسات العنف». ولقد ضمت حركة «تحرير المرضى من التمييز في المصحات النفسية»، التي ساهم في تأسيسها حوالي ألفي عضو (أطباء وعلماء نفس واجتماعيين وممرضين) عام 1971. في عام 1968، ظهر كتابه: «نفي المؤسسة: تقرير عن مصحة جوريزيا للأمراض النفسية».
54
لم تعد القضية تحسين أوضاع مصحة الأمراض العقلية وإنما القضاء عليها. تم تعيينه في ترييست عام 1972، ونظم هناك عام 1977 اللقاء الثالث للشبكة الدولية لبدائل الطب النفسي. ومنذ ذلك الحين أصبحت الحركة الإيطالية متزعمة حركة مناهضة الطب النفسي، في حين أن بازاليا نفسه كان يرفض أن يكون «مناهضا للطب النفسي».
نجحت حركة «تحرير المرضى من التمييز في المصحات النفسية»، وهي تمثل أقلية يسارية ومؤثرة - بالضغط على السلطات العامة وبنيل تأييد المعارضة النقابية والحزب الشيوعي الإيطالي (وإن كان ستاليني النزعة أكثر من كونه يساريا، إلا أنه لم يكن من الممكن إعلان ذلك في ذلك العصر) - في الحث على إنشاء لجنة برلمانية يتم فيها تمثيل كافة الأحزاب السياسية. في الواقع، لم يكن هناك من يريد استمرار قانون 1904 القديم، الذي كان يعهد بقرار الاحتجاز الأساسي إلى السلطة القضائية. وأضاف «تعديل 1930» في عهد إيطاليا الفاشية خطوة تسجيل المرضى المحتجزين في ملف قضائي. في السابع عشر من مايو 1978، تم التصويت على «القانون 180» الذي لا يلغي - كما كان يكتب عادة - المصحات النفسية، وإنما يحظر أي احتجاز جديد بها أو إنشاء أي مصحات جديدة. وتأسست وحدات صغيرة للطب النفسي داخل المستشفيات العامة، في حين أن الاحتجاز الرسمي (الذي أصبح يسمى «العلاج الإجباري») لم يعد مسموحا له بأن يتجاوز ستة أشهر، ويجب عدم اللجوء إليه إلا بعد الفشل المعلن لكافة البدائل الأخرى. وأنشئت مراكز للصحة العقلية في كافة المناطق، وكان لها بنية متوسطة: مستشفيات اليوم الواحد وبيوت وشقق علاجية. بالطبع، لم يكن مناضلو حركة «تحرير المرضى من التمييز في المصحات النفسية» راضين عن هذه الإجراءات، التي اعتبروها «نوعا آخر من التطبيب» للجنون بعيدا تماما عن آمال الثورة وتغيير المجتمع.
وإذا كانت النتيجة حدوث طفرة سريعة (اثنا عشر يوما في المتوسط مقابل سبعة وأربعين يوما في باقي دول أوروبا)، فإن حدود النظام الجديد بدأت تظهر على مدار الأعوام. في البداية، لم تتبع الأبنية الجديدة الطريقة نفسها من منطقة إلى أخرى. ولم يكن يتم احتجاز مرضى إلا المصابين بنوبات هائجة من الذهان (وتتم معالجاتهم بجرعات عالية من الأدوية المضادة للذهان)، في حين أن المرضى المزمنين كان يتم «إخفاؤهم» في الملاجئ ودور الرعاية. وكان يذهب القادرون على الدفع إلى الإقامة في عيادات خاصة. ولكن انتبهت العائلات إلى خطورة سلوك المريض ذي الميول الانتحارية، أو تهميش المرضى النفسيين المتروكين دون رعاية؛ مما تسبب في إنشاء جمعيات جديدة، مثل «الدفاع عن مرضى الاعتلال العقلي من ذوي الحالات الصعبة»، لتطالب بإلغاء قانون 180.
55
أصبحت الظاهرة مخيفة، ولا سيما بسبب تشرد وتسكع مرضى الاعتلال العقلي المزمنين في الولايات المتحدة عقب إغلاق عدد ضخم من مصحات الأمراض النفسية. «كان بازاليا قد قال إن التأخر الموجود في بلاده سيتيح تغييرها بطريقة أكثر من الدول الأخرى، إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق.»
56
واليوم في الحقيقة، تشهد إيطاليا إقبالا أقل على الرعاية النفسية؛ نظرا للظروف هناك. إن مناهضة الطب النفسي دمرت الطب النفسي، ولكنها لم تستطع أن تحل محله.
في فرنسا، انصهرت حركة مناهضة الطب النفسي قليلا في الثورة الثقافية في مايو 1968. وكما تشير مود مانوني، فإن خطاب مايو لم يكن يدور «كثيرا حول «المريض» بقدر الحديث عن الوضع المزري الذي وصل إليه. أيجب الاستمرار في حماية المجتمع ضد الجنون؟ أم هل حرية المريض عقليا هي التي يجب الدفاع عنها في مواجهة مجتمع لا يتقبله؟»
57
ولم يغب عن الأحداث الممارسون «المعارضون للطب العقلي» المناضلون في أغلب الأحيان منذ زمن طويل: دوميزون وبونافيه وسيفادون وتوسكيل وأوري ...
يتميز روجيه جينتيس - الطبيب والمحلل النفسي - بكتاباته اللاذعة التي جعلت منه أكثر الأطباء النفسيين الفرنسيين معارضة للطب النفسي في عصره. في عام 1970، ظهر كتابه «جدران المستشفى العقلي» الذي يقول فيه: «إن الأطباء النفسيين أنفسهم هم الذين يفقدون يوما بعد يوم إيمانهم بالطب النفسي، مثلما يتضاءل إيمان البرجوازيين بأيديولوجية طبقتهم.» فما فائدة الطبيب داخل المصحة النفسية؟ «فالطبيب عندما يقابل مريضا - إذا حدث - يكون اللقاء في مكتبه، في «عيادته». إن سلطة الأساطير مرعبة: فبعد عشرين عاما من تجربة المصحة العقلية، بعد ثلاثين عاما منها، ثلاثين عاما من الفساد والاختناق داخل فساد المصحة؛ لا يزال هناك أطباء يعتقدون في العلاقة بين الطبيب والمريض، ويؤمنون بمزاياها وسحرها العلاجي.» ويضيف جينتيس: «وماذا عن الممرضين؟» ألا يمارسون هم أيضا العلاج النفسي لساعات وساعات يوميا؟ وماذا عن الأدوية؟ إنها «المهزلة الكبرى»؛ فالمرضى لا يأخذونها إلا إذا أرادوا، والعاملون يتغاضون عن الأدوية إذا لم يكونوا موافقين على ما وصفه كبير الأطباء، أو في حالات المرضى المزمنين «الذين استقر وضعهم وحياتهم وليس هناك رغبة في تغيير هذا.» أليس المريض هو محط استغلال الجميع في المصحة؟ باختصار، فإن الأطباء «ليسوا عالمين بمجريات الأمور»، ولا يهتم أحد في المصحة بإعلامهم أي شيء. أما «الطب النفسي الحديث»، (الذي يتنكر للطب النفسي القديم ويشبه جينتيس ب «المؤيدين الجدد للاستعمار»)، فسيكون من الخطأ الاعتقاد بأنه سيتمكن من الاستغناء عن المصحة العقلية التي أصبحت مكتظة: «لا أحد يظن أن عقلية المصحة بسبب الرعب الذي يمارسه الطب النفسي تجاهها، والذي اتضح أنه ناجح معها، ستتغير بهذا الشكل، وأن الناس سيتقبلون الآن مثل هذا الأمر التافه الذي يعرفه الجميع منذ زمن طويل، متظاهرين بأنهم لا يعرفونه، بأن الجنون موجود في كل منا وأننا نحمله معنا منذ ميلادنا، ودونه لن نكون ما نحن عليه بالفعل.»
في عام 1973، في مقال «الطب النفسي لا بد من أن يمارسه ويتجنبه الجميع»، اتفق جينتيس على واقعية «تلك التجربة الضخمة التي تمثلها نوبة هذيان»، وضرورة «وجود أماكن لرعاية الجنون» بالتبعية. ونلاحظ أن لفظ «الجنون» - الذي رفضه الطب النفسي العقلي - عاد مرة أخرى إلى الظهور، فلم يكن يتبقى إلا التحرر من الألفاظ. وبأماكن رعاية الجنون، كان جينتيس يقصد «جمعيات تتولى مسئوليتهم». إلا أن الطب النفسي كان أمرا يخص الجميع مثل التعليم. فلقد أصبح وعدا بالحرية، بينما وعد الأمس لم يكن إلا «مزحة سيئة من التاريخ». وماذا عن التحليل النفسي؟ في ذلك الحين (نحن في عام 1973)، كان جينتيس أكثر تدقيقا، الأمر الذي ستغيره الأعوام المقبلة. ولاحظ أن المحللين قد ثبتوا أقدامهم في المؤسسة عن طريق القيام ب «التحليل النفسي من دون أريكة». ويؤكد أنهم في جميع الأحوال يسيرون في اتجاه التاريخ. ولكن، يجب ألا يكون التحليل النفسي حكرا فقط على المتخصصين، أو «الامتياز الممنوح للمثقفين البرجوازيين»، بل «وسيلة فعالة لقلب النظام الاجتماعي ولنشر حقيقة تحرير الرغبة.» وأصبح التحليل النفسي يتماشى إذن مع مناهضة الطب النفسي.
بعد مرور أربعة أعوام، لم يهدأ جينتيس - على الرغم من تفتت أحلام ثورة مايو 1968 - بل على العكس.
58
ماذا يرى في تجربته الجديدة للقطاع (الذي سنتحدث عنها لاحقا)؟ «كل ما تنطقون به إنما هو بؤس.» بؤس مادي وعاطفي وجنسي. ويندد جينتيس أيضا بالوحدة: «قد يكون من المفروض على من يمارس الطب النفسي أن يمارس تمارين للوحدة.» وفيما يخص المجتمع، «فهو مصحة للأمراض العقلية من الخارج» أو «مؤسسة لانتزاع روح المبادرة والمسئوليات من الأفراد، وهناك الكثيرون الذين يرون ذلك أمرا جيدا.» «إذا أردت أن تتحدث عن الصحة العقلية، فأخرج زجاجة المولوتوف خاصتك! فالمهووس على الأقل شخص يفكر قليلا بمفرده ولا يقبل بالطرق التي ترسمها له العقلانية المثبتة.»
كانت طريقة مود مانوني (1923-1998) أكثر اعتدالا.
59
وتعد مود مانوني - المحللة النفسية وتلميذة لاكان والمعروفة بسبب أعمالها حول الطب النفسي للأطفال والشباب - منظرة وأيضا من رواد التطبيق العملي. في سبتمبر 1969 أسست بالاشتراك مع روبرت لوفور - متخصص الطب النفسي للأطفال والمحلل النفسي على طريقة لاكان - مدرسة تجريبية ببونوي سير مارن (لا تزال تعمل)، لتستقبل الشباب المصاب بالتوحد والأمراض النفسية أو الخبل، في إطار تجربة مضادة للطب النفسي تشهد باستفادة التحليل النفسي من هذا المجال.
لم يوصف «التوحد المبكر لدى الأطفال» للمرة الأولى إلا عام 1943، على يد الطبيب النفسي الأمريكي ليو كانر في مقال بعنوان «الاضطراب التوحدي للاتصال العاطفي». وتميز الوصف الإكلينيكي للمرض بعجز الطفل عن إقامة تواصل عاطفي مع المحيطين به (مع بداية ظهور للاضطرابات قبل عمر العامين). وجعل منه كانر متلازمة أعراض إكلينيكية تختلف تماما عن الفصام، وإن كان لفظ «التوحد» (أوتيزم) قد اخترعه بلولير عام 1911 للإشارة إلى فقدان الاتصال مع الواقع الخارجي في حالات الفصام لدى البالغين (من الكلمة اليونانية «أتو» التي تعني ذاتيا). «ولكنه ليس كما في الفصام لدى البالغين أو الأطفال بداية من علاقة تواصل أصلية موجودة؛ فهو ليس تراجعا عن المشاركة في الوجود السابق. يعاني مريض التوحد، منذ بداية ظهور أعراض المرض، من شعور شديد بالوحدة؛ فهو يحتقر ويتجاهل ويقصي، متى استطاع ذلك، أي شيء قادم من خارجه» (كانر). وإلى جانب التوحد الذي يصيب الأطفال، تم تحديد أمراض ذهانية أخرى تصيبهم، وأصبحت هناك طرق رعاية خاصة تضاف إلى المقررات الدراسية. في باريس عام 1959، قام سيرج ليبوفيتشي (1915-2000) - المتخصص في الطب والتحليل النفسي للأطفال وفي العلاج النفسي الجماعي - بافتتاح أول مستشفى لليوم الواحد للأطفال، ثم افتتح رينيه دياتكين (1918-1998) مركزا للكشف والعلاج للحالات العرضية. في الثمانينيات، أسس ليبوفيتشي - الذي اهتم في ذلك الوقت بالعلاج النفسي الباثولوجي للطفل - خدمة للعلاج النفسي الباثولوجي للأطفال والمراهقين بمستشفى أفيسين بوبينيي.
كانت فكرة تطبيق تعاليم التحليل النفسي على «الأطفال المجانين» حديثة نسبيا في فرنسا. فأول أعمال تتناول هذا الأمر في ذلك الوقت كانت أعمال فرانسواز دولتو (1908-1988) المحللة النفسية والصديقة المقربة لجاك لاكان. إلا أن برونو بيتليهيم (1903-1990) كان قد فتح الطريق لهذا الأمر في مدرسة «تقويم النسل» بشيكاجو. ولدى وصوله لم يكن هناك محلل نفسي واحد وطئت قدماه المدرسة المخصصة للأطفال الصعاب المراس بما فيهم المرضى النفسيون. إلا أنه بالنسبة إلى بيتليهيم، فكان من الواضح أن الطب النفسي للأطفال لا يقدر على الاستغناء عن طريقة العلاج بالعلاقات ومن ثم التحليل النفسي. وكان علاجا فرديا كما تشهد «ثلاث حالات» في كتاب «القلعة الفارغة».
60
كان العلاج أمرا يخص الجميع، وأصبح المعالجون يشاركون الأطفال حياتهم اليومية طوال الأربع والعشرين ساعة. ومهما كانت الأعراض الظاهرة لدى النزلاء، كانت هذه الطريقة هي الرد الأفضل على مخاوفهم، كما يؤكد بيتليهيم (والذي يلاقي اليوم انتقادات كثيرة).
في مدرسة بونوي، كان جميع العاملين - بما فيهم الطاهي وعمال النظافة - أعضاء في الفريق العلاجي، الذي ينال معظمه تدريبا في التحليل النفسي. ويجب ألا يكون التحليل النفسي هنا مجرد أداة للمعرفة، وإنما وسيلة عمل وتبادل مع الآخر. ويهدف مفهوم «تدمير المؤسسة» إلى الاستفادة من كل شيء غريب يظهر (لا أن نقهره) والانفتاح على العلاقات المختلفة التي تساعد في إظهار «الفرد الذي يتساءل حول أي شيء يريده».
61
في ظل روح مناهضة الطب النفسي السائدة في ذلك العصر وحتى الآن، كان يجب على المتدربين في مجال علم النفس أن يتركوا أجهزة الحاسب المحمولة وأدوات القياس ليغوصوا تماما في الحياة الجماعية بالمدرسة. لا يكون لديهم ملفات يطلعون عليها؛ حيث إنه أقل أهمية من معايشة الواقع الفعلي للطفل. إلا أن مود مانوني تحذر: «إذا اتخذنا موقفا مناهضا للطب النفسي، فسنكون رافضين للنظرية التي تفترض وجوده. فكل مراجعنا النظرية مراجع بنيوية.»
62
وإذا كانت مانوني تبتعد عن مناهضة الطب النفسي المثالي (فالاعتقاد بأنه في وجود الحرية سيختفي الجنون هو اعتقاد خاطئ)، فإنها تعتقد بأنه من الممكن وجود تعاون بين «المواقف المناهضة للطب النفسي والأبحاث التحليلية.» كان هذا الأمر مستحيلا داخل مؤسسة الطب النفسي التقليدي، الذي هو مكان للحبس لا يهتم فيه أحد بخلق مؤسسة (مؤسسة التحليل النفسي) تهدف لتحرير التعبير. وتستكمل مانوني أنه على عكس الأطباء النفسيين - الذين يغارون من معرفتهم ويعطون تشخيصا لا يفعل المريض شيئا حياله - يكون المحلل «أكثر اهتماما بالحقيقة التي تخرج من وراء حوار المريض النفسي. وهو الأمر الذي سعى المناهض للطب النفسي (لاينج) للمحافظة عليه في صورة تحليل ولكن دون أن يصيغه بصورة واضحة؛ أي إنه صورة للمعرفة تنكشف عبر لغة «المريض» [...] فهو يسعى لوضع شروط تتيح لأقوال المجنون أن تخرج دون قيود.» وتشيد مانوني بالتجربة الإنجليزية (التي تقول بأن الهذيان عملية لاستعادة الشفاء)، والتي يرجع استحقاقها إلى أنها «اتبعت أقوال فرويد حرفيا».
سنلاحظ أنه من الآن فصاعدا، أصبح «هذا التساؤل الثاني» للجنون يتضمن الذهان بالطبع. ولم يرغب التحليل النفسي - المنتصر في ذلك الوقت - أن يكتفي بكلام الأنا لدى العصابي، وإنما أراد أن يهتم أيضا (بل وبالتحديد) بالأنا «المباشرة» لمريض الذهان. ولم يعد المثل الذي قاله فرويد عن ملك اسكتلندا وطريقته لمعرفة الساحرات قابلا للتطبيق. وفي ظل هذه الهوجة الضخمة المعارضة للطب النفسي في الستينيات والسبعينيات، لم يعد التحليل النفسي كما كان - بالضبط كما تنبأ فرويد عام 1939 - الأداة التي تقوم بكافة المهام للطب النفسي. وسرعان ما سينقلب الأمر إلى العكس.
وعلى عكس مناهضة الطب النفسي تحت حكم الجمهورية الثالثة الذي لم يجذب عددا كبيرا من المريدين، كان هناك تركيز إعلامي ضخم على الحركة خلال الستينيات والسبعينيات بسبب تأثر الرأي العام بها. في كل العالم الغربي، كانت هناك مؤلفات ولقاءات ومناقشات جعلت من مناهضة الطب النفسي والجنون محور الأحداث. كان طلبة مايو 1968 يقرءون بحماس أعمال ساس ولاينج وكوبر وفوكو وجينتيس ... ولم تكن هناك تجربة معارضة للطب النفسي لم تصبح هدفا للتقارير الصحفية (بل وتقارير ذاتية)، إلى جانب الدور الهام الذي لعبته السينما التسجيلية. ومن بين أوائل الأفلام التي ظهرت «نظرة إلى الجنون» (1962) بفضل الطبيب بونافيه الذي سمح بالتصوير في مصحته سانت آلبان بمنطقة لوزير. عام 1967، غاص فيلم «تيتيكاتفوليز» في أعماق مصحة بريدجووتر للأمراض النفسية بماساتشوستس. ولقد منع عرض هذا الفيلم لأكثر من خمسة وعشرين عاما. كان الفيلم هو أول عمل إخراجي لفريديريك وايزمان المولود عام 1930، الذي استكمل سعيه وراء سينما الحقيقة في كل مكان، في مستشفى عام أو في سجن أو حتى في مركز تدريب تابع للجيش. رفضت أمريكا الاعتراف بوجود مثل هذه الأماكن التي كان إرفينج جوفمان (1922-1982) - عالم الاجتماع الأمريكي - يدرسها ويصفها بالمؤسسات الكلية (والتي تمت ترجمتها إلى الفرنسية عن عمد إلى «المؤسسات الشمولية»).
63
وسعى جوفمان إلى إثبات أنه داخل المصحة العقلية - مثل السجن - يتأسس فصل تام لا يمكن تجاوزه بين الحراس والمحبوسين (ولا يعدو «المكان الحر» إلا التعبير المعارض له) عن طريق قوانين غير مكتوبة ولكن مطبقة بشدة لا تقبل أي تفاهم.
ظهر فيلم «الحياة في بونوي» في دور العرض عام 1970 و«مصحة الأمراض العقلية» (مجانين الحياة) عام 1972. ويبين لنا الفيلم الأخير بقيادة الطبيب لاينج الحياة اليومية لمجتمع الطب النفسي بأرشواي بلندن. وجذبت التجربة البريطانية الرائدة انتباه وسائل الإعلام بشدة. ومن بين رموزها كانت ماري بارنز - عملت ممرضة أثناء الحرب - ولكن تم احتجازها عام 1952 بسبب الفصام في مصحة هانويل. وبعد أن قرأت عام 1962 كتاب «الأنا المنقسمة»، اتصلت بالطبيب لاينج والتحقت عام 1965 بكينجسلي هول (كان الالتحاق يتم عن طريق التصويت بين الموجودين بالداخل). وهناك خضعت للعلاج التراجعي، الذي مهد لاكتشاف موهبتها في الرسم. وأصبحت فنانة كبيرة، ونشرت أعمالا كثيرة حول الفن والجنون وطفولتها. وكان الفصل الأول من كتابها «حسابان لرحلة عبر الجنون» يحمل عنوان «عائلتي اللطيفة غير الطبيعية».
لم تكن هذه الموهبة السينمائية وقتية أو مرهونة بالظروف، فقد استمرت ومعها مناهضة الطب النفسي، كما يشهد بذلك عقد مهرجان السينما التسجيلية النفسية عام 1977 بلوركان داخل المصحة النفسية القديمة بهذه المنطقة الصغيرة في اللورين. وحتى وإن لم يذكره التلفاز، فإن المهرجان لا يزال يعقد. عام 2005، أتاح لنا فيلم متوسط الطول لأرنو هوبين في تلفاز الإقليم الفلامندي أن نتواصل ثانية مع جيل (أحد رواد حركة مناهضة الطب النفسي): 33 ألف مواطن، من بينهم 550 مجنونا يعيشون في أسر تتبناهم ويقيمون هناك إقامة كاملة وليس مجرد إجازات، ويمرون على أربع عائلات متتالية خلال الفصول الأربعة ... عام 1982، قام ريموند دوباردون - الخليفة الفرنسي لوايزمان - بتصوير فيلم «سان كليمنت» على جزيرته المطلة على بحيرة فينيسيا، التي تشبه على نحو غريب سجن ألكاتراز. ولكن دوباردون كان في الأساس مراسلا ومصورا كما يظهر في الصور الرهيبة التي قام بتصويرها عام 1980 بمصحة ترييست للأمراض العقلية، حين كان بازاليا هناك. وتمتلك تلك الصور بالأبيض والأسود قوة هائلة تحركنا ولا يضاهيها أي كلام؛ ممر الحمامات لدى الرجال، وفناء منطقة النساء (الهادئات)، وتلك القاعة التي تضم هذا المجنون الخائر القوى، وفي الجانب الآخر توجد شجرة عيد الميلاد، وعلى الحائط كتابة بالطباشير: «عيد سعيد».
ومن جانبها، اهتمت السينما العادية أيضا بالجنون منذ «جنون الدكتور تيوب» (1915) لآبل جانس و«عيادة الدكتور كاليجاري» (1919). كما اهتمت أيضا بالتحليل النفسي ... كان «ألغاز الروح» (1926) هو أول فيلم يدور بأكمله حول هذا الموضوع. لم يرغب فرويد في مثل هذا الأمر (لم أعتقد أنه من الممكن التعبير فنيا عن أكثر ما بداخلنا تجريدا). كما تسبب مزيج السريالية والجنون في إنتاج «صفحة مجنونة» (1926) للياباني تينوسوك كينوجاسا، أحد أوائل أعمال مخرج فيلم «باب الجحيم». وكان ل «كهف الثعابين» (1948) - أول فيلم سينمائي مأخوذ عن رواية سيرة ذاتية وبالطبع مناهض للطب النفسي - صدى ناجح وكبير. وقد قام داريل إف زانوك بإنتاج هذا الفيلم للمخرج الأمريكي أناتول ليتفاك، بعد رفض العديد من المنتجين. ولقد قضى كتاب السيناريو ثلاثة أشهر في مختلف المصحات النفسية، وتلقوا النصائح من بعض الأطباء النفسيين ليتمكنوا من عرض قصة فيرجينيا المصابة بالفصام، والتي تروي لنا جحيم الاحتجاز والصدمات الكهربائية والطرق العلاجية النفسية المفزعة. ولقد أدت أوليفيا هافياند - الرائعة في الحقيقة - دورها ببراعة وتقمص لشخصية المريضة بالفصام. وحتى اليوم، لم يفقد الفيلم شيئا من قيمته بسبب اهتمامه بالتفاصيل والملاحظة والرسم الخلاب لشخصيات المرضى و«الذين يرعونهم».
كانت السينما تتأثر وتستلهم من حركة مناهضة الطب النفسي. ومن بين عدة عشرات من الأفلام، لن نذكر هنا إلا تلك الأفلام (الأساسية) التي تبدو غايتها المناهضة للطب واضحة للعيان، مثل «ممر الصدمة» (1963) لصامويل فولر، حيث يخطر لصحفي شاب فكرة رديئة بطلب الاحتجاز ليتمكن من عمل تحقيق صحفي؛ و«الحياة العائلية» (1971) لكين لوتش، وفيه تعيش جانيس - 19 عاما - جحيما بسبب ضغط الأسرة عليها نفسيا، وتقاسي لأنها تكون موصومة بالفصام (ولقد استلهمت شخصية الطبيب دونالسون «محامي الدفاع» من شخصية لاينج). كان عام 1975 عاما زاخرا بفيلم «قصة بول» لريمي فيريه، و«مجنون يطلق سراحه» لماركو بيلوتشيو، وخاصة «طار فوق عش المجانين» لميلوس فورمان المأخوذ عن رواية كين كيسي (1962). وتوالت أفلام أخرى: «فرانسيس» (1983)، و«بيردي» (1984)، و«الأشخاص الطبيعيون ليسوا مميزين» (1993)، إلخ. لكن لم يكن لأي منهم حتى اليوم قوة التعبير التي لماك ميرفي (جاك نيكلسون) في مواجهة كبيرة الممرضات المرعبة، الآنسة راتشد (لويز فليتشر)، في معركة خاسرة مقدما من الطرف المعزول، مجنون أم لا - لا نعرف الكثير عن هذا الأمر - ولكنه كان في جميع الأحوال ماكرا ووقحا مليئا بالحيوية في مواجهة مؤسسة الطب النفسي في شكلها الجديد الهادئ المبتسم، ولكن الذي لا يرحم والمجسد في صورة الممرضة. تم تصوير هذا الفيلم، الذي حاز على خمس جوائز أوسكار، في مصحة أمراض نفسية حقيقية (مستشفى سالم بأوريجون). كانت بعض الشخصيات من المرضى الحقيقيين، ولكن لم يسبق لفيلم ما أن قدم مثل هذا القدر من المعارضة للطب النفسي للجمهور العريض.
في عام 1961، نرى أيضا هذا الفيلم الشهير «البرتقالة الميكانيكية» لستانلي كوبريك، وفيه يندد بالمجتمع ذي المستقبل غير المعلوم ولكن القريب، ونرى فيه الدولة ترد بالعنف على عنف ألكس وعصابته من المجرمين. لم يكن هناك إعدام، ولا سجن، وإنما يتم إعادة تأهيل باستخدام طرق العلاج السلوكي نفسها التي كانت ترى النور في الولايات المتحدة (واتسون، سكينر) استنادا إلى مبدأ الاستجابة الشرطية التي أثبتها العالم الفسيولوجي بافلوف. وخلال هذه الفترة - التي اتسمت بالمعارضة الشديدة - لم يعد الطب النفسي القديم هو موضع الانتقادات، بل الحديث، وعلى الأخص النظرية السلوكية التي تقلص الطريقة التأملية الباطنية للعمليات العقلية لصالح طريقة السلوك كهدف أي فرد (مفهوم وظيفي). وعلى الرغم من النتائج الجيدة، ولا سيما في مجال علاج الخوف المرضي، يتهم العلاج السلوكي بأنه يجرد المريض من إنسانيته من قبل تيار جديد من علم النفس الأمريكي، وهو علم النفس الإنساني (كارل روجرز) الذي يسعى إلى إعادة الإنسان إلى مركز الاهتمام في مجال العلاج النفسي غير الموجه ولا الرنان، عاكفا على تنمية القدرة على القيام باختيارات خاصة لدى من يستشيره. ويسمى «القوة الثالثة»، إلى جانب طرق التحليل النفسي والعلاج السلوكي.
كما أن الفاعلين في المجال هم الذين خلقوا من مناهضة الطب النفسي تيارات جديدة طبية وتحليلية نفسية. ولقد تمرد العديد من الآباء الذين كونوا جمعيات ضد المبالغة في تطبيق النظريات النفسية الوراثية التي «تتهمهم» بكونهم السبب وراء الاضطرابات النفسية التي أصابت أبناءهم. ألم يكن هناك حديث وقتها عن «الأم المسببة للفصام»؟ ولقد أدى رد الفعل المتصاعد هذا ضد «لوبي الأطباء النفسيين» إلى طمس حقيقي للتقدم الذي أحرز في هذا المجال، ولا سيما طب نفس الأطفال. وندد المستخدمون المباشرون - أي المرضى - الذين يعرفون أكثر ب «السترة الكيميائية»؛ أي الأدوية، وبالاعتداءات على حريتهم. في هولندا، نجد أنهم - بالتعاون مع الحركة الطلابية - تمكنوا من تكوين تجمعات من المرضى (روتردام، أوترخت). عام 1971، اجتمعوا في «فيدرالية العملاء» التي لا تهدف فقط إلى تحسين الرعاية وإنما إلى تغيير المجتمع.
64
وتأسست جريدة للمجنون، وظلت تظهر حتى عام 1978، حينما أعلن أنه ليس من الممكن بلوغ الهدف الأصلي: السماح للمجنون أن يحقق ثقافته المضادة الخاصة.
أما عن حركة مناهضة الطب النفسي العنيفة التي شنتها كنيسة الساينتولوجي التي تأسست عام 1954، فأين يجب تصنيفها؟ فعقيدة الساينتولوجي ترفض قطعيا الطب النفسي وتصفه بأنه «صناعة قاتلة». عام 1969، تأسست جمعية تحمل اسما مطمئنا ولكن باعثا على الحيرة في الوقت ذاته بدعم من توماس ساس: «لجنة المواطنين لحقوق الإنسان» التي هي النظير الفرنسي للجنة نفسها في الولايات المتحدة. كان يوجد في فرنسا أيضا «جمعية للأطباء والمواطنين ضد العلاجات المهينة التي يستخدمها الطب النفسي.» كانت الحكومة تفرض «فائدة للتأخير» على تطبيق العلاج النفسي، بالإضافة إلى وجود لجنة متعددة المجالات تهدف إلى «الترويج لرؤية جديدة للإنسان والصحة تختلف عن تلك التي تدعو لها باستمرار مؤسسة الطب النفسي.» ويهدف كل هذا في الواقع إلى اقتراح «تكنولوجيا» منافسة - «الصحوة الروحية» - والتي تعرف بأنها أثر الروح على الجسد؛ أي قوة الفكر على البدن. «تتيح الصحوة الروحية الكشف عن مصدر الأحاسيس والانفعالات غير المرغوب فيها، وأيضا عن الحوادث والجروح التي تسبب الأمراض النفس-جسمية. وتسمح أيضا بعلاج أسبابها بقضائها على «التفاعل العقلي»، الذي هو سبب الضغط والقلق وقلة الثقة بالنفس وباقي الأمراض النفس-جسمية.»
65
في الرأي العام للعالم الغربي، تلقى الطب النفسي الرسمي التابع للدولة الضربة القاضية بعد الكشف عن استخدامه على يد اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في ذلك الوقت. وهو الأمر المعروف جدا اليوم، وشهد ضجة إعلامية ضخمة في إطار الدعاية الإعلامية خلال الحرب الباردة، وكان بمنزلة الصاعقة في ذلك الوقت، ليس فقط في أوساط المناضلين الشيوعيين. ويجب أيضا القول إنه في عالم الطب الغربي للخمسينيات كان الطب النفسي السوفييتي مثلا يحتذى، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يتردد جوزيف ورتيس (1906-2008) - الطبيب والمحلل النفسي الذي حلله فرويد شخصيا - والذي يعد أحد رموز الطب النفسي الرسمي بالولايات المتحدة حيث أدخل إليه علاج ساكيل؛ أن يكتب عام 1953: «يسير الطب النفسي السوفييتي على نمط بافلوف؛ فهو فسيولوجي وطبي وتجريبي، ويعتبر في الوقت ذاته اجتماعيا. ويتميز عن علم النفس السوفييتي بكونه تعليميا وعمليا وموجها لإنتاج نشاط صحي وخصب بين المواطنين السوفييتيين في المجتمع الاشتراكي. ولقد ساهم كل من الطب النفسي وعلم النفس السوفييتي في دعم الانهيار العميق للطب النفسي الغربي، خلف الملامح الاستنباطية والصوفية التي تدعو إلى إعادة التذكير بآراء فرويد ونقصه الأساسي في التجربة المادية وابتعاده عن الممارسة الحية.»
66
وفي ذروة المكارثية، كانت هذه الآراء كفيلة بتحويل قائلها إلى التحقيق على يد لجنة داخل مجلس الشيوخ مكلفة بمراقبة أي محاولات للتسلل الشيوعي في التعليم. ودافع ورتيس عن نفسه بطريقة غامضة: «علمتني والدتي دائما أنه من غير اللائق أن أسأل أحدا عن آرائه السياسية.»
67
وفي غمرة الحماس، برر ورتيس طريقة الاحتجاز في الاتحاد السوفييتي، الذي تتولي مسئوليته لجنة متخصصة تضم بالطبع طبيبين، منهم طبيب نفسي، ولكن يرأسها «مدير الهيئة الصحية بالمنطقة». وكان «لمحاكم الشعب، وهي بنية قانونية وقضائية في الاتحاد السوفييتي» «حرية تصرف واسعة لتأويل هذه المبادئ في الاتجاه الذي يناسب الظروف دون أي اعتبار لهدف القانون والمصلحة العامة أو الرسميات البسيطة للدليل.»
بعد عشرة أعوام من هذه التصريحات الفخورة، في الوقت الذي بدأت ممارسات الطب النفسي السوفييتي تغري نظيره الأمريكي، لدرجة أنه استوحى منها طرق العلاج السلوكي، ظهر في بريطانيا كتاب «بلوبوتل» (لاموش، 1963)، الذي ينتقد بضراوة الحياة والنظام في الاتحاد السوفييتي بتوقيع من إيفان فاليري. كان في الحقيقة اسما مستعارا فرضه الناشر، ولكنه كان معروفا في الاتحاد السوفييتي بأنه لفاليري تارسيس، الكاتب والمترجم الذي أعلن بقوة معارضته للنظام. وبعد عامين من ظهور «بلوبوتل»، تم القبض على تارسيس واحتجز بمصحة كوشينكو للأمراض النفسية بموسكو. وعلم أنتوني دي ميوس - محرر ومترجم «كتابات ساميزدات» والوسيط بين تارسيس وناشره البريطاني - سبب احتجازه في مصحة الأمراض العقلية: «قرأ أحدهم على نيكيتا خروشوف «لاموش»؛ حيث كتب تارسيس أن الثقافة بالنسبة للرجل الأعظم في الكرملين تقتصر على زراعة البطاطس والذرة. فاستشاط خروشوف غضبا وأعلن أن تارسيس هذا لا بد من أن يكون مجنونا. ولقد نفذ الشهود على المشهد كلامه حرفيا، وبعد بضعة أيام وجد تارسيس نفسه في مصحة الأمراض العقلية بموسكو، وظل هناك لستة أشهر.»
68
بالطبع، يجب أن نتساءل حول صحة هذه القصة، «الجميلة بصورة مبالغ فيها».
فالاحتجاز النفسي للمعارضين ليس بالأمر الآمن، بما أن شهادة تارسيس في كتابه «الغرفة رقم 7»
69 (في إشارة واضحة إلى رواية تشيكوف «الغرفة رقم 6») قد بلغت أقصى جنبات العالم. «كان العصابيون والفصاميون والمصابون بجنون العظمة والهوس والمكتئبون كلهم تتم معالجتهم باستخدام الأمينودين العلاج العام كزيت الخروع في «الغرفة رقم 6» لتشيكوف .» وفجأة اكتشف الغرب في ذهول أنه يوجد معسكرات اعتقال نفسية للمعارضين. «كانت رواية «القاعة رقم 7» بمنزلة فلك نوح الذي وجدت فيه كافة أنواع الخليقة. وكانت الأنواع المذكورة في الرواية تنقسم أساسا إلى ثلاثة: أولا أصحاب محاولات الانتحار الفاشلة الذين يتم تصنيفهم كمجانين باعتبار أن من لا يكون سعيدا بالفردوس الاشتراكي لا بد من أنه مجنون [...] وكانت تتم معالجته على مدار شهور باستخدام الأمينودين، وأحيانا لسنوات. كان البعض يعتاد عليه ويرفض التخلي عنه. كان بعضهم من ذوي المزاج المتشائم يقول: «ربما الوضع بالخارج أسوأ» [...] أما المجموعة الثانية من حيث الأهمية، فكانت مجموعة «الأمريكيين» أو الأشخاص الذين حاولوا الاتصال بسفارة أجنبية أو بسائحين في العالم الحر. والأشجع بينهم هم الذين جاهروا برغبتهم في الهجرة إلى الخارج. وأخيرا كانت هناك فئة الشباب دون أي تعريفات أكثر إيضاحا، ويبدو أنهم من فشلوا في أن يجدوا لأنفسهم مكانا في مجتمعنا فرفضوا مبادئه. ربما لا يزالون لا يدرون ماذا يريدون، ولكنهم يعرفون بالتحديد ما لا يريدون [...] لم يكن هناك في الواقع مرضى ولا أطباء، فقط سجانون مهمتهم حراسة المواطنين المتكدسين.»
ولا يمكن عزل حالة تارسيس؛ والدليل على ذلك قضية بوكوفسكي التي أثارت ضجة كبيرة. ولد فلاديمير بوكوفسكي عام 1942، وتم إرساله من يونيو 1963 وحتى فبراير 1964 إلى مصحة الأمراض النفسية لقيامه بتنظيم لقاءات شعرية في وسط موسكو أسفل تمثال مايكوفسكي (الشاعر الثوري المحبط، فبعد إيمانه بتحرير الفرد، انتحر عام 1930). عام 1967، ألقي القبض ثانية على بوكوفسكي لدفاعه عن المعارضين. ثم أفرج عنه عام 1970، وتمكن من إرسال مجموعة كتابات إلى الغرب يتحدث فيها عن المعاملة السيئة داخل المصحات النفسية، مطلقا حملة للرأي من الغرب إلى الشرق. وها هو يعتقل ثانية. ونشر بالتعاون مع زميله في الزنزانة - طبيب نفسي - «دليل الطب النفسي للممرضين» و«مرض عقلي جديد في الاتحاد السوفييتي: المعارضة».
70
في ديسمبر 1976، أفرج عنه بالتبادل مع زعيم شيوعي قديم من شيلي مسجون في الغرب. ثم جاء واستقر في كامبريدج. وفي مواجهة الصحافة الغربية التي تهاجمه، أجاب: «لست من معسكر الرجعيين ، ولست من معسكر الثوريين، أنا من معسكر الاعتقال.»
عام 1975، أثناء عيد الإنسانية، أعلن بونافيه رفضه وتنديده بالاستخدام القمعي للطب النفسي بالاتحاد السوفييتي. (عام 1949، كان من الموقعين «رغما عنه» على البيان الشيوعي «التحليل النفسي والأيديولوجيا الرجعية» - كان الاتحاد السوفييتي بعد انهيار الرايخ الثالث قد حرم التحليل النفسي.) أما ساس - أكثر من سار ضد التيار - فقد اعتقد أنه فيما يتعلق «باستخدام الطب النفسي»، لم يقدم الغرب دروسا تحتذى. فالفرق بين الاتحاد السوفييتي والعالم الغربي ليس إلا درجة استغلال الطب النفسي فقط. «لم نصل بعد إلى هذه الدرجة، ولكن في الشرق كما في الغرب، يكون الأطباء النفسيون عملاء للدولة.»
71
على أي حال، انسحب الاتحاد السوفييتي عام 1983 من الجمعية العالمية للطب النفسي.
بعد مرور عشرين عاما، جاء دور الصين لتكون في موقع الاتهام من قبل الجمعية العالمية للطب النفسي، التي تظاهرت بأنها تفاجأت من وجود طرق استغلال الطب النفسي على الطريقة السوفييتية في الصين. إلا أن المنطق واحد، فيصبح التشخيص مباشرة سياسيا دون الالتفات للنواحي الطبية النفسية. وبدأ الحديث عن «الفصام السياسي»، ودوره في تماسك النظام.
72
كانت المسألة كلها تتعلق - كما في الاتحاد السوفييتي سابقا - بمعرفة النسبة المئوية لهؤلاء المجانين الجدد الذين يجب أن يكونوا موجودين. وأكثر من أي مكان في العالم، كان الطب النفسي يبدو بالطبع للنظام الصيني كطفل غير مرغوب فيه للطب. على الأقل هنا اتضح الأمر، على الرغم من أن العولمة الجارية ستكون عولمة للطب النفسي. ولكن يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت الضربات التي سددتها مناهضة الطب النفسي في الغرب لا تظهر وجود هذا الطفل غير المرغوب فيه، الذي أصبح اليوم بالغا بل ومسنا؛ ألا وهو تلك المؤسسة الضيقة والمكدسة التي تشبه الفنادق الإسبانية بالفعل؛ حيث لا يوجد شيء إلا ما يحمله الشخص معه.
الفصل الخامس
تجزؤ الطب النفسي
غداة الحرب العالمية الثانية؛ أي قبل الهوجة الكبرى من مناهضة الطب النفسي، لم يكن من الممكن النظر إلى الجنون والتجاوب معه بطريقة الماضي؛ فقد تغيرت الكثير من الأشياء. ولم يكن الأمر يتعلق بوازع جديد لاحترام الإنسان بعد كثير من المعاناة، وإنما فكر جديد حول حريته وضميره. وعكف سارتر - بالتحديد في «الوجود والعدم» (1943) - على إثبات أن الضمير هو مرادف للحرية. وفي إطار تصوره الصلد للحرية المطلقة في الحكم على الأشياء، يقول سارتر إنه وإن لم يكن كل شيء يعتمد علينا في الكون، فإننا ما زلنا مسئولين بالكامل. وعبر عن فكره بقوله: «نحن محكوم علينا بالحرية.» إنها الحرية الكاملة، ولكن في ذات الوقت المسئولية التي لا تنتهي.
كانت حرية الإنسان وحسه للعمل وأيضا وحدته وزعزعة يقينياته (وبحثه عن ثوابت جديدة)؛ عوامل لم تضع المرض العقلي (أو لم تعد وضعه إذا لم نصر على تغافل العصور القديمة) وإنما الجنون في قلب تأملاته حول الكائن وحريته. وحلقاته النقاشية التي كان يعقدها منذ عام 1953 في سانت آن والمدرسة العليا الطبيعية والكلية العملية للدراسات العليا ثم في السوربون، كان جاك لاكان ينتقد النظرية العضوية للجنون الذي لم يعد أكثر من مرض عقلي: «بعيدا إذن عن كون الجنون عرضا ملازما لضعف الإنسان، فإنه التعبير الافتراضي الدائم عن الثغرة المفتوحة في جوهره [...] وبعيدا عن كونه «إهانة» للحرية؛ فالجنون هو رفيقها الوفي، ويتبع خطاها بالضبط. وليس أن الكائن البشري لا يمكن فهمه من دون الجنون فحسب، بل إنه لن يكون كائنا بشريا إن لم يحمل في داخله الجنون كحد لحريته.» ويختتم لاكان بهذه الدعابة: «ليس كل من يريد أن يصبح مجنونا يتمكن من ذلك.»
1
نهاية الحبس
بدا في البداية أن المصحة النفسية الفرنسية - على الرغم من الأحداث الرهيبة التي راح فيها كثيرون ضحية الموت جوعا خلال الاحتلال الألماني - لا تزال تمتلك أملا في مستقبل أفضل. بالطبع، لدى الجميع الرغبة في تغييره جذريا، حتى وإن لم تكن الألفاظ الجديدة للتغيير لا تقوم في النهاية إلا باسترجاع القديم: استخدام المصحة كمكان للشفاء تحت الاسم الجديد «العلاج النفسي المؤسسي»، ووضع تصور للمعمار (أحد أهم قضايا الطب العقلي القديم) يتناسب مع هذا الهدف والترويج للعلاج بالعمل تحت اسم المداواة بالعمل. إلا أن ثورة العلاجات البيولوجية وظهور التحليل النفسي كان لهما دور في تعديل الطب النفسي بصورة كبيرة، كل هذا قبل إعصار مناهضة الطب النفسي.
في فرنسا، عادت نسبة دخول المصحات بسبب الأمراض النفسية إلى نموها التاريخي منذ عام 1946، ولكنه لم يمكن تعويض النقص الهائل في العاملين بسبب الحرب حتى عام 1960. ويبدو لنا - في مفارقة اعتاد عليها تاريخ الجنون - أن المؤسسة هي من أوجدت هذه المهنة. فإذا كانت المصحات النفسية مزدحمة، فهذا لأنه ليس لدينا الكثير منها؛ ومن ثم يجب إنشاء مصحات أخرى. والأرقام تتحدث عن نفسها:
2
70500 مريض داخل المصحة عام 1916، 98000 عام 1954 و112000 عام 1962 ... في هذا التاريخ، ازداد عدد المرضى الرجال بطريقة هائلة (بلغ ضعف عدد النساء على الأقل)، دائما بسبب تأثير إدمان الخمور. ويجب أيضا الإشارة إلى زيادة عدد النساء المسنات؛ وذلك لسبب ديموغرافي بسيط وهو طول مدة عمرهن، مما يجعلهن أرامل وقت إصابتهن بالخبل (يكون أزواجهن قد ماتوا قبل ذلك الوقت).
في عام 1969، بلغ العدد 119000 مريض محتجز داخل المصحات النفسية (من أصل 160000 حالة دخلت إلى المصحة) (أي 0,25٪ من عدد السكان)، وفي هذا الوقت بدأت حالة من انخفاض الأعداد لم تتوقف حتى أيامنا هذه. وفي ذات الوقت انخفض مؤشر التكدس بصورة كبيرة (هناك مؤشر بالفعل للتكدس بمقارنة عدد المرضى المحتجزين بعدد «أسرة المرض»): 1,15 عام 1968 ليصبح 0,95 عام 1974. في هذا التاريخ، كان التقسيم بناء على نوع المريض والشريحة التشخيصية للمرض ويظهر في المقدمة حالات الفصام (27932) لتسبق بكثير التأخر العقلي (14508) والهذيان المزمن (14106). ويليهم إدمان الخمور (11826) (8938 حالة لدى الرجال و2888 لدى النساء)، في حين أن الفئات السابقة أظهرت توازنا أكثر بين الجنسين. في المقابل، يأتي إدمان الخمور في المركز الأول في حالات دخول المصحة: 22,5٪، وبمقارنة هذا الرقم بنسبة المرضى المحتجزين بالمصحة لإدمان الخمور وهي 10٪، يتضح لنا سرعة خروج المرضى المصابين به.
من عام 1952 وحتى 1962، تضاعف عدد الأطباء النفسيين في فرنسا سبع مرات، على الرغم من أن السكان لم يزيدوا إلا بنسبة 20٪. وكانت الحالة مشابهة في باقي الدول الغربية. وعادت مسألة تكلفة الصحة العقلية لتطرح من جديد. عام 1971 بمصحة بون سوفور يجب ألا يقل عدد العاملين عن 779 (كل العاملين بمن فيهم ستة أطباء مديرون للخدمة واثنا عشر متدربا) في مقابل 1110 مرضى. كان المرضى النفسيون في فرنسا يمثلون في ذلك الوقت 35٪ من عدد المرضى في المستشفيات العامة. وبالطبع، تكون تكلفة الإقامة لأسباب نفسية أكبر خمس مرات منها عن تكلفة يوم في غرفة الإنعاش، إلا إذا مكث هذا الشخص في غرفة الإنعاش لمدة عام، بل عامين أو ثلاثة. باختصار، إنه حتى في ظل الضمان الاجتماعي، لا يزال الطب النفسي مكلفا للغاية. وبغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، أصبح من اللازم تقليل عدد المرضى الداخلين وعدد أيام الاحتجاز (ولم تعد فكرة الإقامة لسنوات مطروحة!) أصبحت تكلفة اليوم هي الكلمة السحرية التي تتعلق كلها بالمصحة، ولكن يفوقها اتجاه معين للتقسيم يستقر ببطء. وساعدت هذه الأداة الرسمية للقياس على الأقل في ملاحظة أن الاحتجاز في المصحة للإصابات الخطيرة هو الأكثر تكلفة.
3
منذ عام 1952، قامت لجنة خبراء في الصحة العقلية تابعة لمنظمة الصحة العالمية بصياغة مبادئ جديدة تحكم بنية وعمل المصحات النفسية. ولقد أشارت هذه اللجنة تحديدا إلى «مدى إفادة كون هذه المصحات يغمرها طابع المجتمعات العلاجية.» وبعيدا عن الكلمات - التي لا تثبت شيئا في مجال توالت فيه التصريحات عن حسن النية دون انقطاع منذ عام 1785 - كان ما تغير بالفعل أنه منذ الخمسينيات أصبحت المصحة تعد حلقة هامة ولكن مؤقتة في سلسلة العلاج. أصبحت المؤسسات الضخمة والاحتجازات الطويلة سيئة السمعة (كهوف الثعابين). لم تختف المصحة النفسية، ولكن أصبحت تعد مركزا علاجيا انتقاليا: «من بين كل الحلول، تعد الإقامة الطويلة داخل المصحة هي الأكثر تكلفة. وتنطوي ضمنيا على رفض الجماعة نهائيا للفرد المريض، وتفرض على العاملين عملا لا أمل من ورائه في أي نتائج علاجية، بل وتحكم على المريض بتفاقم حالته.»
4
ولكن ما هي باقي الحلقات في سلسلة العلاج؟ في البداية يأتي العلاج في المكان (العلاج المتجول)، أو في الأسرة، ثم تأتي العيادة النفسية ومركز العلاج المبكر (به أسرة)، ولكن يسبقه وحدة العلاج النفسي داخل أي مستشفى «عام »، ثم مصحة النهار (يبيت المرضى ويقضون نهاية الأسبوع في منازلهم). وبعد تدخل كل هذه الخطوات المتنوعة، يأتي دور المصحة النفسية إذا تطلب الأمر. تقوم الفكرة على أن الاستشارة المبكرة تتوقع، بل وتقي إذا أمكن، من الاحتجاز التقليدي. ويوفر فريق العمل النفسي (أطباء نفسيون وممرضون متخصصون وعلماء نفس إكلينيكيون ومعالجون بالعمل وأخصائيون اجتماعيون ومربون ومتطوعون، وغيرهم) استمرار الرعاية في «جو مشجع نفسيا.» فيجب أن يستشعر المريض الأمان، وأن يسعد بالحميمية النسبية بفضل «وحدات الإقامة» (لا يعجز الطب النفسي أبدا عن اختراع تسميات جديدة) وهي تضم من عشرين إلى ثلاثين سريرا، وأحيانا أقل في حالات المرضى الصعبين الذين يعانون في توجيههم. ويجب أن تحترم تلك النسبة من قبل الوحدة النفسية داخل المستشفى العام، وأيضا من قبل المصحة النفسية المتخصصة التي يجب ألا تتجاوز الثلاثمائة مريض (هناك فكرة لجعل المكان يشبه القرية). لم يعد هناك مهجع، بل غرف بها أربعة أو خمسة أو ستة أسرة، وبها مكان مخصص للمريض ليزينه بحسب رغبته، ودولاب خاص به يغلق بمفتاح.
ولقد أتاح اختفاء التقسيم إلى مناطق للتصنيف القيام بتوزيعات جديدة كانت كثيرا ما تخطئ قبلا، ولا سيما في مجالات رعاية الأطفال وطب الشيخوخة. وتساهم المداواة بالعمل والاحتفالات الصغيرة التي تقام في إعادة إعداد المرضى للحياة الاجتماعية من جديد. وعند الخروج من هذه المصحة النفسية الجديدة، تكون هناك حلقات أخرى من العلاج لتدعم من اندماج المريض ثانية في الحياة الفعلية: دور للرعاية اللاحقة داخل المدن، وهي تشبه المنازل الخاصة أو الفنادق الصغيرة إلى جانب ورش عمل مؤمنة، ومجموعات عمل زراعية وصناعية تضم ما بين عشرين وخمسين مريضا خارج المصحة، وتهدف أيضا إلى رعاية مرضى الفصام المزمنين.
تطلب تنفيذ هذه البنية الجديدة للمصحات - التي ظهرت المطالبة بها منذ الخمسينيات وأصبحت في الإمكان بسبب ظهور بعض أنماط للعلاج انتقدها الجميع، وإن ظلوا يعملون بها - عشرين عاما. في فرنسا، دائما ما يطول الوقت بين الفكرة والتنفيذ. فعلى أرض الواقع، نجد في الأغلب مصحات نفسية ضخمة يجب تحويلها بخطط ومشروعات متباعدة في معظم الأحيان إلى نموذج المستشفى القرية، الذي يحلم به ما تبقى من الأطباء النفسيين المعماريين. وخلال فترة طويلة - على الرغم من الإصلاحات المدونة على الورق - استمر ما يقرب من 100 ألف مريض عقليا يعيشون في مصحات الأمراض العقلية التي ترجع إلى القرن التاسع عشر.
بدأ تنفيذ تفكيك «مركزية المصحات» رسميا بمنشور الخامس عشر من مارس 1960 الذي أنشأ «القطاع»، وهو تقسيم جغرافي سكاني مكون من 70 ألف مواطن، وسرعان ما أسماه مناهضو الطب النفسي «فليسياتري». نجد فيه كافة المبادئ المنصوص عليها، وبموجبها يجب أن تأخذ الأبنية خارج المصحة مكانا أكبر. كان الهدف ثلاثيا: العلاج في مرحلة مبكرة وعدم فصل المريض عن أسرته وبيئته إلا في أضيق الحدود وتوفير رعاية لاحقة لتجنب الاحتجاز مرة ثانية. ويتولى الفريق النفسي والطبي الاجتماعي في أي قطاع مسئولية كافة الأبنية التابعة له. ونتذكر حينها أن إدوارد تولوز عام 1927 قد قام بتنظيم خدمة الوقاية الصحية العقلية في منطقة السين: الحالات البسيطة في العيادة، والمرضى ذوو الإصابات البالغة في المصحة، والخارجون يخضعون لمتابعة طبية. ولكن هذه المرة، كانت حركة الإصلاح تستهدف فرنسا برمتها، تلك الحركة التي غيرت جذريا المؤسسة الطبية النفسية. وأقر قانون الحادي والثلاثين من ديسمبر 1985 مبدأ التقسيم إلى قطاعات نهائيا ، معدلا بذلك قانون 1838؛ حيث لم يعد يلزم الأقسام والمناطق بأن يكون لديها مؤسسة عامة (أو خاصة لها مهمة عامة). وجاء مرسوم التطبيق في الرابع عشر من مارس 1986 ليميز بين قطاعات الطب النفسي العام وقطاعات الطب النفسي للأطفال والشباب والطب النفسي في المؤسسات العقابية.
استغرقت عملية تطبيق التقسيم إلى قطاعات طويلا، وكان السبب الأساسي هو التمويل. في البداية، كان الضمان الاجتماعي لا يسدد إلا تكاليف الرعاية في المصحة أما الباقي فتسدده المنطقة أو الدولة. كما توجب أيضا تعيين فريق عمل من الأطباء النفسيين والتعامل مع الرفض المتكرر للعاملين الفعليين التنقل إلى مكان آخر، إلا في حالة ترك المصحة للعمل في أحد تلك الأبنية القريبة من القطاع. عام 1981، استشعر اثنان من الباحثين بالمعهد القومي للدراسات الإحصائية القلق: «يرجع فشل سياسة التقسيم لقطاعات إلى التشدد الكبير من قبل المؤسسات التي تعطي الطب النفسي التطبيقي وضعا متأخرا بشدة عن باقي المعارف النظرية. ويرجع هذا التشدد إلى المباني القائمة نفسها وإلى البيروقراطية الإدارية والاتجاه المحافظ على التقسيمات الاجتماعية المهنية المتورطة في الموضوع. أو ربما لم يتم التوصل إلى وسائل مادية لتنفيذ التغيير المطلوب.»
5
في النهاية، تم تنفيذ خطة التقسيم بنجاح رغم كل شيء. وشهدت طريقة استقبال المرضى وإدخالهم المصحة ثورة عميقة مع تعميم الدخول الحر للمصحات؛ أي بموافقة من المريض الذي أصبح له الآن نفس حقوق أي مريض في مستشفى عام. فمن حقه أن يرفض أي علاج أو أن يغادر الوحدة. تأسس الدخول الحر للمصحات منذ عام 1937، ولكنه بدأ في النمو بعد الحرب العالمية الثانية. عام 1980، أصبح يمثل 58,5٪ من نسبة دخول المصحة (26,8٪ عام 1971). خلال عشرين عاما - من 1965 حتى 1984 - بلغ عدد خدمات الطب النفسي الملحقة بالمستشفيات العامة 130 خدمة (79 عام 1975).
6
وانخفضت بنسبة 28٪ حالات الإقامة الكاملة داخل المراكز العلاجية المتخصصة، أو في المصحات النفسية الخاصة التي تمارس عمل المستشفيات العامة وفي خدمات الطب النفسي داخل المستشفيات العامة، كما انخفض متوسط الإقامة من أحد عشر شهرا عام 1965 حتى ثلاثة أشهر عام 1984. إلا أن هذا لم يمر دائما دون زيادة حالات الدخول الثاني للمصحة (لم نعد نقول انتكاسات): 281٪ بين عامي 1965 و1984، بل أيضا ونسبة دخول المصحة: 152٪. وتسمى هذه القفزة الكمية الهائلة في حالات الدخول الثاني للمصحة في الولايات المتحدة «ظاهرة الباب الدوار». وبالطبع يجعل هذا الأمر القول بانخفاض نسبة دخول المصحات أمرا نسبيا، يشهد تغيرات ولكنه لا يختفي. كانت المراكز العلاجية المتخصصة هي التي تجتذب أكبر قدر من تمويل القطاع. أما نسبة الوفيات، التي كانت الشبح الأكبر للطب العقلي، فلم تكن تزيد عن 1,57٪ عام 1984، في حين أنها كانت قد شهدت ارتفاعا عام 1965 حين بلغت 3,42٪ (وهنا نتذكر نسبة الوفيات التي كانت تصل أحيانا إلى خمسين بالمائة خلال العصر الذهبي لمصحة الأمراض العقلية).
لم يكن قانون 1838 القديم ليستمر وسط هذا الزخم من الإصلاحات. فاستبدل به قانون السابع والعشرين من يونيو 1990، الذي ينظم شروط دخول المصحة لمرضى الاعتلال العقلي وحماية حقوقهم. وفي القانون تم التمييز بوضوح بين الدخول الحر للمصحات والدخول «دون موافقة المريض»؛ أي بناء على طلب طرف ثالث (أي «الاحتجاز الطوعي» القديم) وبين دخول المصحة بناء على طلب جهة رسمية، وهو لا يختلف كثيرا عن الاحتجاز الإجباري الذي نص عليه قانون 1838: في تلك الحالات يجب أن يكون هناك قرار من المحافظ أو شهادة طبية من طبيب المصحة (موضحة في تقارير يومية، ثم كل أسبوعين ثم كل شهر). كما تم تعزيز وسائل المراقبة والعقاب في يد الجهاز الطبي، أكثر من التي في يد المحافظ، حتى وإن كانت هناك في كل قطاع «لجنة من المحافظة للإشراف على حالات دخول المصحة لأغراض طبية نفسية مكلفة بفحص أوضاع وحالات الأشخاص الداخلين للمصحة بسبب اضطرابات عقلية؛ لضمان احترام الحريات الفردية وكرامة الإنسان.» ومن المفترض أن تلعب اللجنة دورا هاما في حالات إدخال مرضى للمصحة دون موافقتهم؛ ولذلك يجب إبلاغها فورا بمثل هذه الحالات. كما يجب عليها أيضا التحقق من كافة البيانات المدونة في السجلات القانونية وزيارة المصحات وتلقي الشكاوى من المرضى ... هذا مثير! ولعل أحد المتشائمين يقول إن الورق لا يدل على شيء.
من المرض العقلي إلى اضطرابات الشخصية
قبل تفكيكه، كان للمصحة النفسية «الكاملة» بريق كبير في العقد الذي تلا الحرب العالمية الثانية، في وقت ظهور طب نفسي جديد يرغب في الابتعاد عن الطب العقلي (كما رأينا مع إي وبونافيه ولوجيان). من الآن فصاعدا أصبح الاهتمام يدور حول المصحة. في عالم الطب النفسي الفرنسي أولا، كان التيار الماركسي يغلب على تيار فرويد الذي اعتبر أنه يشجع على الفردية ويحمل طابعا برجوازيا. أصبح الأمر يدور أكثر حول الطب النفسي الاجتماعي. وبدأ الحديث عن «العلاج الاجتماعي» (محاولة للتشجيع على الاندماج والتآلف مع قيود الحياة داخل المجتمع)؛ ونتيجة لذلك، أصبحنا نتحدث عن الأصل الاجتماعي للاضطرابات العقلية. درس لويس لوجيان «العصاب الذي يصيب العاملين بالتليفونات» (باستخدام ملاحظات في وقت الدليل الموحد)، أو أيضا «الأعراض النفسية المرضية التي قد تصيب الخادمات اللاتي يقمن بكل الأعمال، ويعشن في وضع غريب في عائلة ليست عائلتهن ويعتمدن عليها تماما دون أي تعويض كالأطفال، في حين أنه يتوجب عليهن إطعام العائلة، وهي المهمة التي من المفترض أن يتولاها الآباء.»
7
ويعيد كتاب «عصر المناضلين» (جاك هوشمان) تعريف العلاج المعنوي الجديد الذي اتخذ اسم «العلاج النفسي المؤسسي». ولقد ظهر المصطلح للمرة الأولى عام 1952 بناء على اقتراح من جورج دوميزن (1912-1979). ويعد هذا الطبيب النفسي - كبير الأطباء بمستشفى البيت الأبيض من عام 1951 حتى 1952 قبل تعيينه سكرتيرا عاما لنقابة الأطباء النفسيين لاستقبال حالات الاحتجاز بمصحة سانت آن - أحد أهم الفاعلين في حركة الإصلاح الفرنسية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وبعد رسالة مميزة عام 1935 كرسها لدراسة وضع العاملين من الممرضين في مصحات الأمراض العقلية، أنشأ عام 1949 - بالتعاون مع جيرمان لوجيان - دورات التدريب والتأهيل الأولى للممرضين في مجال الطب النفسي. وقد انخرط أحد المتدربين معه - فيليب بوميل - عام 1960 في مغامرة أول مركز طبي للصحة العقلية، في التقسيم الثالث عشر بباريس على هيئة جمعية تطوعية طبقا لقانون 1901.
كانت هذه الحركة المفعمة بالحيوية (بل إنه كانت هناك مجلة للعلاج النفسي المؤسسي) مليئة بالآمال التي فجرتها حركة التحرير، وكانت تهدف إلى «استخدام الحياة وسط الجماعة لمساعدة المرضى على استعادة العلاقات الاجتماعية، والتواصل الفعال مع الواقع الذي حرمهم منه المرض والعزلة» (جاك هوشمان). أخذ الاضطراب الذي يظهر في المحيط الاجتماعي في الاعتبار أكثر من الذي يؤثر على الحياة النفسية للمريض فحسب. ولهذا الغرض، كان لا بد من تغيير العلاقة بين المريض والمعالج داخل المصحات النفسية، أو بالأحرى «وحدة العلاج» كلها «بفريقها» لما هو أبعد من جدران المصحة العقلية عن طريق مضاعفة لقاءات المعالجين بعضهم ببعض، ولقاءات المعالجين بالمرضى. في البداية، تعددت الطرق المتبعة واختلفت بين بريطانيا؛ حيث انحصر التركيز في النموذج النفسي الاجتماعي لإدارة النزاعات بين فريق العمل (ماكسويل جونز)، وفرنسا؛ حيث فرض الطب النفسي ذاته كأداة علاجية جماعية في الستينيات، ومن ثم أصبح حتى للممرضين وظيفة نفسية علاجية. إلا أنه في البداية في فرنسا، لم يقترب أحد من المصحة، فكان الهدف الأول هو الاستعاضة عن «صحة العزل» المفضلة لدى إسكيرول ب «صحة الحرية».
بلغت هذه الثورة العميقة في طريقة النظر وعلاج الجنون حتى التشكيك في مفهوم المرض العقلي ذاته، بكل ما يحمله المصطلح من تعبيرات مطلقة. وفي هذا الصدد، لعب النموذج الأمريكي في فترة ما بين الحربين - الذي اعتمدته أوروبا منذ عام 1945 - دورا هاما: النظرية السلوكية في البداية، والتي تتمحور حول طريقة تفاعل المريض ورد فعله على موقف معين. وهكذا، أصبحنا نتحدث عن «ردود فعل فصامية» أكثر من الحديث عن الفصام نفسه. ثم تلته نظرية التعددية بين الطب النفسي والأنثروبولوجيا، والتي تهدف إلى دراسة التجربة الفردية اعتمادا على الأبنية الاجتماعية، ولا سيما العائلية (إيه كاردنيه). ويتكامل في هذا الطب النفسي الاجتماعي والتحليل النفسي والطب النفسي؛ لدرجة أنها أصبحت تشكل منهجا واحدا كما في الولايات المتحدة الأمريكية.
بصورة أقل براجماتية، لم تكن فرنسا تنوي أن تحرم نفسها من متعة مناقشة الأفكار كما يبين لنا عمل هنري إي، الذي أدرك خلال عقد ما بعد الحرب العالمية الثانية خطر تفكك الطب النفسي. واعترض هذا الطبيب «غير المنحاز» على جاك لاكان - المدافع عن أطروحة الأصل النفسي للجنون (خطاب حول السببية النفسية) - وأيضا على العديد من الأطباء النفسيين في ذلك العصر، الذين يؤيدون النظريات القائلة بالأصل النفسي للمرض العقلي. ويرد إي على لاكان بأنه لا يمكن خلط العقل والجنون، ويرد على الآخرين بأن مفهوم الاندماج في مجموعة لا يمكن أن يكون معيارا للصحة العقلية.
8
إلا أن إي يجمع هذه الإسهامات في طريقة تجميعية لتكامل وتفكك الحياة النفسية. فهو وريث نظريات أستاذه هنري كلود (1869-1945)، الذي كان يحمل هو ذاته صبغة نظريات علم الأعصاب لجاكسون، والتي تقول بأن الأعراض المرضية تظهر بتفكك المراكز «التي تتحكم فيها وتنظم وظائف المخ بنوع من التجانس.» وبالطريقة نفسها، وضع إي نظرية نفسية مرضية تؤدي إلى اعتبار المرض العقلي كدرجات مختلفة لتفكك النشاط النفسي تخضع لعملية عضوية مشابهة للنوم الذي يطلق العنان للأحلام . وتقدم نظرية «الحركة العضوية» - ظهرت لأول مرة عام 1936 وتطورت على مدار عقود ما بعد الحرب - رؤية «ديناميكية وجدلية للعلاقات بين ما هو نفسي وما هو معنوي»؛ مما يفترض أن «أي صورة نفسية مرضية تقتضي لتكوينها اضطرابا عضويا أساسيا يصحبه بالضرورة بنية نفسية معينة تمثل قاعدته الوجودية كما في علم الظواهر.»
9
وتعد بالفعل هذه المحاولة لتجاوز التناقض بين الأصل النفسي والأصل العضوي للمرض العقلي «أيديولوجية صراع أكثر منها مذهبا علميا. فهي تتيح تبرير استقلالية الطب النفسي كعلم التفككات العامة والوظيفية للوعي، بالمقارنة مع علم الأعصاب الذي هو علم التفككات الموضعية نتيجة إصابة. كما تحدد أيضا مجال الأطباء النفسيين، الذي هو المرض ذاته - الذي يختلف بوضوح عن التغيرات البسيطة في المعايير - لتبعده بذلك عن أطماع علماء النفس وعلماء الاجتماع والمحللين النفسيين غير الأطباء.»
10
عام 1967، في «الكتاب الأبيض للطب النفسي الفرنسي» - الذي يختتم العديد من الجلسات السنوية للتفكير لمجموعة تطوير الطب النفسي، والتي تدور حول مستقبل الطب النفسي - أعلن إي الذي كان يترأس هذه الجلسات وقف النزاع: «يميل تيار عارم إلى الفصل العملي بين هذين المجالين الطبيين (الطب النفسي وعلم الأعصاب).»
11
وبالفعل، عام 1968، انفصل الطب النفسي عن علم الأعصاب، وأصبح يمتلك كراسي أستاذية منفصلة في التعليم الجامعي. كان ذلك بسبب ظهور نظريات «الحركة العضوية»، ومن الآن أصبح مجال الطب النفسي برمته موضعا للتطور. وتشير إليزابيث رودينسكو أن الطب النفسي الديناميكي (اكتشاف اللاوعي واستخدامه في العلاج)
12
وأيضا العلاج النفسي المؤسسي، شهدا تراجعا بسبب تسارع عجلة التاريخ الذي أتى بحركة مناهضة الطب النفسي (التي كانت أكثر من مجرد «تمرد طلابي»). ولكن ألا يستبق ما تسميه رودينسكو «الانحدار الكبير للطب النفسي الديناميكي» الانحدار الكبير للطب النفسي بأكمله؟ وبالحديث عن هذا الانحدار، فإن مناهضة الطب النفسي ذاتها سرعان ما تراجعت، بل وأجبرت على التخلي عن مبالغاتها لتحتفظ في النهاية (بل لتمتلك) الإصلاحات التي بدأت غداة الحرب العالمية الثانية (القطاع، الفريق المعالج ... إلخ). في نهاية السبعينيات - في حين أن مناهضة الطب النفسي لم تستقر في أي مكان بصورة مستمرة (إلا في إيطاليا، ولكن في النهاية اقتصر الأمر على التقسيم إلى قطاعات الذي تابعنا حدوده) - كان وضع المرض العقلي داخل الطب غامضا بطريقة لم يسبق لها مثيل؛ وذلك نتيجة لذاتيته. «ومن هنا تظهر القضية التشخيصية المؤلمة التي تطرح على مدار تاريخ الطب النفسي كله: كيف نجعل الذاتي موضوعيا؟»
13
ولكن لم ينته التوتر بين الطريقة النفسية الديناميكية والطريقة البيولوجية، بل وتدخل العامل الاقتصادي في الصراع. في الولايات المتحدة الأمريكية - بل وفي كل العالم الغربي بفروق طفيفة في الوقت - تدخلت التأمينات في الرعاية الصحية، مرجحة كفة العلاجات البيولوجية الأسرع (ولكن الأقل فعالية في النهاية إذا ما استخدمت بمفردها) على حساب طرق العلاج النفسية الديناميكية. عام 1980، انقطعت القروض الفيدرالية التي تمول الطب النفسي، بينما توقف تسديد نفقات الرعاية النفسية طويلة المدى. لم يعد يؤخذ في الاعتبار إلا العلاج الكيميائي والعلاجات السلوكية التي تقوم على أعراض واضحة.
14
ولذلك، كانت هناك حاجة إلى نظام تصنيف جديد، يأخذ في الحسبان عملية «إعادة المعالجة» (لم يعد أحد يتحدث عن «إبطال العلاج»). وبطريقة ما، يمكننا القول بأن وضع تصنيفات متتالية ابتداء من عام 1952 (الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي)
DSM
يعد مناهضة للطب النفسي في حد ذاته. ألغيت حالات العصاب، بالإضافة إلى أي إشارة لأي آلية نفسية مرضية تعتبر شديدة النظرية. فتلك الطريقة لتشخيص المرض العقلي إنما هي وصفية بالكامل، وقد تخلت عن نموذج التحليل النفسي القائل بأن العرض إنما هو التعبير الرمزي عن اضطراب في اللاوعي، لصالح نموذج طبي بيولوجي غير نظري. لم يعد هناك مجال للتأويل، ولا للعرض أي اعتبار. وتم استبدال مفهوم المرض بمفهوم الاضطراب أو الخلل.
وكان يجب أن يصطدم هذا التصنيف الجديد - الذي فرض منذ عام 1980 في العالم الغربي مع نظام «الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي» - مع علم تصنيف الأمراض التقليدي، إلا أن هذا العلم كان في حالة يرثى لها. فكتب بيير جيرو (1882-1974) حينما كان في سانت آن: «إن علم تصنيف الأمراض يشبه الموضة في عدم ثباته [...] فمرة واحدة نقدم تصنيفا لمئات الأمراض، وبعد بضعة أعوام لم يعد يتبقى منها إلا مرض يسمى الانحطاط العقلي والفصام.» ومن ثم، لم يعد أحد - خارج فرنسا - يرغب في فئات تشخيصية يستخدمها المعهد القومي للصحة والأبحاث الطبية «لعمل إحصاءات للطب النفسي»، والتي زادت منذ عام 1968 من خمس عشرة إلى عشرين فئة: (1)
ذهان هوسي اكتئابي. (2)
فصام مزمن. (3)
هذيان مزمن. (4)
ذهان مصحوب بهذيان حاد وحالات اضطراب. (5)
ذهان بسبب إدمان الخمور. (6)
اضطرابات عقلية بسبب الصرع. (7)
حالات ضعف بسبب الخرف وخبل ما قبل الشيخوخة. (8)
اضطرابات عقلية عرضية نتيجة إصابة مخية غير المذكورة. (9)
اضطرابات عقلية عرضية نتيجة إصابة بدنية عامة غير المذكورة. (10)
عصاب وحالات عصابية. (11)
شخصيات وطباع مرضية. انحرافات وإدمان (غير إدمان الخمور). (12)
إدمان الخمور (غير ذهان إدمان الخمور). (13)
حالات اكتئاب غير ذهانية. (14)
اضطرابات نفس-جسمية، واضطرابات جسمية شبه نفسية الأصل. (15)
اضطرابات منعزلة غير مصنفة. (16)
المستوى الأدنى. (17)
الخبل العقلي. (18)
التأخر العقلي المتوسط (البله). (19)
التأخر العقلي العنيف (العته). (20)
حالات غير مصنفة في الفئات السابقة.
ويضم هذا التصنيف - الذي لا يتضمن فئات خاصة لاضطرابات الطفولة (والتي يجب أن توزع على كافة الفئات التشخيصية الأخرى) - رقما مرتبطا ثالثا تفصل فيه أشكال أو روابط (مثلا: 2-2 فصام مزمن في صورة شلل).
جاء الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي في الوقت المناسب إذن؛ حيث شكل لغة مشتركة طالما تمناها الأطباء النفسيون، بل أيضا كافة الجهات المؤسسية والاقتصادية وشركات التأمين، وممثلو الصناعات الدوائية الذين أبدوا اهتماما كبيرا، لدرجة تقديم دعم مالي قوي لكافة الأعمال التي تتعلق بالأدلة التشخيصية والإحصائية للمرض العقلي المتتابعة. وفي إطار طريقة لا تنظر إلا إلى العرض أو الخلل السلوكي، بل المزاجي، دون التورط في البحث عن أسباب نشوء المرض المختلف عليها، بدت سوق الأدوية النفسية واعدة أكثر من أي وقت سابق، بل وعلى المستوى العالمي، تماما مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي. فبلغ رقم الأعمال للأدوية المضادة للاكتئاب وحدها أكثر من عشرين مليار دولار سنويا.
ظهر الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الرابع عام 1994 (وسرعان ما حل محله الخامس الذي لم يقدم إلا تغييرات تتعلق بالمجتمع الأمريكي فحسب ). وتم الاحتفاظ بأربعة معايير:
الخواص الوصفية للعرض المستهدف.
تواتره ومدته.
السن التي ظهر فيها العرض.
مقاييس الإقصاء المستندة إلى وجود تشخيصات أخرى.
ووضع أربعمائة وعشرة «اضطرابات» نفسية (لم يكن هناك سوى مائتين وثلاثين في الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الثالث) على خمسة محاور كما يلي:
المحور الأول: الاضطرابات الإكلينيكية.
المحور الثاني: اضطرابات الشخصية والتأخر العقلي.
المحور الثالث: الإصابات الطبية العامة.
المحور الرابع: الاضطرابات النفسية الاجتماعية والبيئية (أي شيء خطير حدث في حياة الفرد: عوامل مؤثرة، أو صدمات، إلخ).
المحور الخامس: التقييم العام وطريقة تفاعل المريض وتأقلمه بشكل عام.
ويميز المحور الأول بين:
اضطرابات تشخص عادة في فترة الطفولة المبكرة أو الطفولة أو المراهقة.
هذيان وخبل واضطرابات فقدان الذاكرة وباقي الاضطرابات المعرفية.
اضطرابات عقلية ناتجة عن إصابة طبية عامة.
اضطرابات متعلقة بمادة معينة (الكحول والنيكوتين والمخدرات والأدوية).
فصام أو أي اضطرابات ذهانية.
اضطرابات المزاج (الاكتئاب والاكتئاب ثنائي القطبية).
اضطرابات القلق (الخوف والمرض والوساوس القهرية ... إلخ).
اضطرابات لها شكل بدني (منها الوسواس).
اضطرابات وهمية.
اضطرابات مفككة (منها تفكك الشخصية).
اضطرابات جنسية واضطرابات الهوية الجنسية (لم تعد المثلية الجنسية موجودة في التصنيف التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الثالث).
اضطرابات السلوكيات الغذائية.
اضطرابات النوم.
اضطرابات التحكم في البواعث غير المصنفة (هوس إشعال الحرائق وهوس السرقة واللعب المرضي).
اضطرابات التكيف.
أما المحور الثاني، فهو يميز بين الشخصيات التالية: المريضة بجنون العظمة أو الميالة للفصام أو الفصامية أو الحدية أو الهستيرية أو النرجسية أو المتجنبة أو الاعتمادية أو غير الاجتماعية أو المصابة بالوسواس القهري. •••
وسرعان ما اتخذ هذا «الدليل الدولي» (وهو كتاب ضخم يهدف لإرشاد الممارس الذي يقع في الحيرة) صفة «القانون»؛ مما يعكس الهيمنة الأمريكية منذ عام 1945. عام 1983، أشاد رئيس الجمعية العالمية للطب النفسي في طبعة الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الثالث «كونه وثيقة حقيقية للطب النفسي»، تمثل «تاريخا هاما في تطور الطب النفسي تضاهي ظهور الطبعة السادسة من وثيقة كرابلين عام 1896، التي حددت الأطر الرئيسة لمفاهيم الطب النفسي، والتي لا تزال تسيطر حتى الآن على تخصصنا.» من جانبه، رأى بول بيرشيري في الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي لغة مشتركة كانت ضرورية بسبب الفوضى التي شهدها مجال الطب النفسي. فهؤلاء هم الذين يرون في الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي لغة مشتركة لدى جميع الإكلينيكيين لا غنى عنها لاتخاذ إجراءات الصحة العامة، مضفية على المجال نظاما يقاوم أي محاولات لجعله موضوعيا.
ولكن من ينتقدون الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي هم الأكثر عددا؛ وذلك لأن الإحصائية حلت محل الطب الإكلينيكي والتشخيص، وأصبحت هي ذاتها تشخيصا يمنع أي تفكير حول الجانب النفسي الباثولوجي. فلم يعد الشخص هو ما يتم تقييمه، بل اضطرابه فقط: «ألم يعد الشخص في الدليل خاضعا للعلم، وكأن الجانب البشري تقلص إلى مجرد ظاهرة وقتية؟» ويشكك موريس كوركوس الذي طرح هذا السؤال بشأن البرهنة غير النظرية التي هي الدليل الرابع، ويقول: «أليس ذلك لأنه من الصعب تصور أن واضعي هذا الدليل ليسوا مثل باقي البشر كائنات نظرية واجتماعية؛ أي إنهم لا يستطيعون الوجود بمفردهم، بل يعيشون في وسط بيئة ثقافية وأيديولوجية وأسطورية تخضع لقوانين معينة، وأن إدراكهم ثم تعبيرهم عن الواقع إنما هو تأويل وترجمة لهذا الواقع؟»
15
ويسري الأمر على الصور التي للمجتمع الأمريكي «الصحيحة سياسيا»، والتي تعنى في المقابل بتحديد الكائن الصحي السليم المتكيف. «ويدعو هذا النداء إلى الخروج عن الإطار النظري الاعتقادي أو أسطورة العلم المحض الذي يتحدث عن فرد بحت [...] ويشكل هذا الوهم تراجعا خطيرا في اتجاه علم الصحة في القرن التاسع عشر. فسيأتي يوم ندرس فيه مجموعة الأدلة التشخيصية والإحصائية للمرض العقلي كنموذج تاريخي لإعادة تمثيل المعتقدات السائدة في عصر ما. وسيعتبر الدليل في حد ذاته قاموسا للأطباء النفسيين المتجولين، أو يعتمده مجموعة من التقليديين مرجعا ثابتا يهتدي به التائهون الذين يتوقون إلى معيار للطبيعية، مقدما صورة كاملة للمجالات العقلية خادعة كحدود البحر على الكروت البريدية التي بسبب كونها شديدة التساوي والتعديل، تعطي تقييما براجماتيا للنفس يفسر الوهم واللاوعي والدوافع وما هو جنسي، وتختزل تنوع الحياة النفسية.»
16
وفي انتظار تحول الدليل إلى محط الانتقادات والإهانات - الأمر الذي لم يتأخر على غرار كافة الأنظمة التي سبقته منذ قرنين - يكمن الخطر الحالي في «الافتقار الرهيب في فن اللقاء والحوار والتعاطف والدراسة في سياق» ممارسة الطلاب في فترة التدريب والتأهيل النفسي الباثولوجي اعتمادا فقط على الكتاب النظري «الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي» الرابع:
17 «إن الطبيب النفسي أو الممارس العام المستقبلي - الذي لم يحتك بأي عامل غير متوقع أو مزعج في العلاقة لكونه ملاحظا علميا غير منحاز - لن يكون أكثر من خبير في وصف سطحي للسلوك الإنساني المحدد.»
18
كان من الممكن أن يصطدم الانتشار العالمي السريع للدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي بتصنيف منظمة الصحة العالمية «التصنيف الدولي للأمراض»
CIM . كان هذا التصنيف الإحصائي وحيد المحور (اختيارا حصريا لمرض رئيس) يعتمد في الواقع منذ إنشاء منظمة الصحة العالمية عام 1945 على تصنيف الأمراض الأوروبي. وبعد اثني عشر عاما من المناقشات بين منظمة الصحة العالمية والجمعية الأمريكية للطب النفسي، كان لمبادئ الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي الغلبة في النهاية عام 1992؛ بنشر الطبعة العاشرة من التصنيف الدولي للأمراض الذي يتوافق مع الدليل: الأسس نفسها والنظام نفسه متعدد المحاور والألفاظ المستخدمة نفسها مما يتيح توافقا أكبر بين التصنيفين. ومن أصل واحد وعشرين «فصلا» تضم كافة الأمراض البشرية، يتناول الفصل الخامس «الاضطرابات العقلية والسلوكية» (من إف. 00 وحتى إف. 99). في حين باقي الفصول معنونة بكلمة «أمراض»، يطلق على هذا الفصل «اضطرابات». إلا أن الأمر لا يتعلق بالمرض العقلي، فإن إضافة «اضطرابات السلوك» إلى «الاضطرابات العقلية» تفتح آفاقا غير واضحة ولكن لانهائية. وفي تفصيله، يؤكد التصنيف الدولي للأمراض الطبعة العاشرة باستمرار على مفهوم الاضطراب (فقط التأخر العقلي لم يكن من الممكن إخضاعه لهذه التسمية الجديدة):
اضطرابات عقلية عضوية، بما فيها النفس-جسمية.
اضطرابات عقلية وسلوكية ناتجة عن استخدام المواد التي تؤثر على الحالة النفسية (بالمعنى الأشمل للكلمة وليس الأدوية فقط).
الفصام والاضطرابات الفصامية والاضطرابات المصحوبة بهذيان.
اضطرابات المزاج (العاطفية).
الاضطرابات العصابية المتعلقة بالضغط النفسي والاضطرابات البدنية.
متلازمة أعراض السلوك المرتبطة بخلل فسيولوجي أو بعوامل نفسية .
اضطرابات الشخصية والسلوك.
الاضطرابات العقلية.
اضطرابات التطور النفسي.
اضطرابات السلوك والاضطرابات الانفعالية التي تظهر عادة خلال الطفولة والمراهقة.
اضطرابات أخرى.
التصنيف الدولي للأمراض في طبعته العاشرة ليس إذن بديلا للدليل الرابع والخامس. البديل الحقيقي هو الدليل التشخيصي النفس-حركي
19
الذي يبدو تكميليا أكثر من كونه منافسا للدليل الرابع والذي تم تطويره على أيدي أهم المنظمات الأمريكية في التحليل النفسي لإعادة تقديم طب إكلينيكي «نفس-حركي». وهكذا، يصف الدليل التشخيصي النفس-حركي بطريقة منظمة:
سير الشخصية السوية والشخصية التي يظهر عليها الاضطراب.
النماذج الفردية للعمل العقلي.
أشكال الأعراض (بما فيها الفروق الشخصية والذاتية لهذه الأعراض لدى كل شخص).
باختصار، كان الأمر يتعلق بإعادة تقديم «الشخص الكامل» داخل التشخيص. «تم تطوير الدليل التشخيصي النفس-حركي بناء على فكرة أن وجود تصنيف نافع إكلينيكيا يجب أن يبدأ بفهم طريقة عمل العقل السوي. فالصحة العقلية تتضمن ما هو أكثر من غياب الأعراض، بل تشمل السير العقلي العام للشخص بما في ذلك علاقاته وثباته الانفعالي وقدراته على التكيف ومراقبة ذاته. فكما أن صحة القلب يجب ألا تعرف فقط بأنها غياب الألم في الصدر، فإن الصحة العقلية تتجاوز غياب الأعراض التي يلاحظها الطب النفسي الباثولوجي. ويشتمل هذا على مجموعة كاملة من القدرات البشرية المعرفية والانفعالية والسلوكية.»
20
أزمة أم انهيار؟
لم تكن أزمة الطب النفسي - التي فجرتها هوجة مناهضة الطب النفسي - إلا البداية. وتعددت التساؤلات التي تطرح منذ الثمانينيات، والتي يمكن تلخيصها في الآتي: هل اتخذ الطب النفسي بداية خاطئة؟
عام 1984، قام كل من مارسيل جوشيه (فيلسوف) ومارسيل جاجير (عالم اجتماع) وجلاديس سواين (طبيبة نفسية) - الذين كانوا في محور الصراعات المناهضة للطب النفسي ولكن يمكن اعتبارهم من «غير المنحازين» (ولقد واتتنا الفرصة قبلا للتوقف عند كتاب «ممارسة العقل البشري» الذي نشره جوشيه وسواين عام 1980) - بالرد بوضوح على هذا التساؤل العصيب، مع ملاحظة «الصمت المستسلم» للأطباء النفسيين، متسائلين عن أسبابه.
21
ورأوا فيه في البداية «انهيارا للخطاب المعارض السائد وموتا لليسارية الثقافية التي كانت حركة مناهضة الطب النفسي تمثل أحد وجوهها الأساسية.» كانت مناهضة الطب النفسي هذه «هي الأيديولوجية التي باسمها تم اعتماد التحليل النفسي الذي يمارسه غير الأطباء مع الجمهور ودخوله إلى مجال الرعاية الطبية النفسية.» ويؤكد المؤلفون أن هذا التحليل النفسي «تخرج ممارسته عن أي إطار تنظيمي». كما بدا لهم البديل للعلاج النفسي التحليلي في هذا العصر في حالة تراجع داخل المهنة وعلى مستوى الرأي العام (وهو ما ليس صحيحا تماما في ذلك الوقت، وإن حدث لاحقا). كان «الجنون هو محور الأحداث، ولكنه لم يعد كذلك».
وعلى نحو مثير للمفارقة، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، أسف العديد من الأطباء النفسيين القدامى لاختفاء الطب النفسي كنظرية وليس كخطاب. لم يعد هناك خصوم ولا مؤسسات لتحاربها، بل إن عددا كبيرا من مطالب حركة مناهضة الطب النفسي دخلت بالفعل حيز التنفيذ، قاطعة بذلك الصلة بين السياسة والصحة، ومحولة موضوعيا الأفكار الثورية إلى حركات إصلاحية. ذهب الهدف الأساسي، فقد شهد هذا العصر رواج أفكار الانحدار. أما الأقل تشاؤما فكانوا يكتفون بالإشارة إلى عوامل تدمير الطب النفسي: عدم المساواة في الرعاية داخل الخدمات العامة، وتوجه العناصر الجيدة في الطب النفسي إلى التحليل النفسي، وانخفاض الإنفاق على الصحة؛ فقد كانت الفكرة السائدة، هي أنه «من بين جميع أنواع الطب، كان الطب النفسي في أضعف موقف للمقاومة»
22 (بسبب أن بنيته نفسها كانت تتعرض لانتقادات شديدة من داخل المهنة ذاتها).
واليوم، على الرغم من موته المعلن، فإن الطب النفسي لا يزال موجودا، لا يزال موجودا كما أن الجنون لا يزال موجودا. تماما كما في عرض مسرحي، حينما يتم تغيير الديكور أمام ناظرينا، يكون التغيير كبيرا لدرجة أنه يمكن أن نقول بطريقة ما إن الديكور «اختفى»، لكن سريعا ما يولد من جديد. كذلك الطب النفسي؛ فلقد تعدد وتنوع واختلفت طرقه، ولكن لا تعبر إحداها بمفردها - مهما ادعت - عن المجال بأكمله. أصبحت الانتقائية هي السائدة.
وعلى نحو مواز للطريقة التجريبية التي يؤسسها الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي والتصنيف الدولي للأمراض، لم تستطع الطريقة البيولوجية أن تفي بوعودها الرنانة. عام 1983، ظهر «الإنسان العصبي» لعالم الأعصاب جان بيير شانجو، والذي عني بنشر نموذج جديد أصبح مرجعا لدرجة أن وسائل الإعلام أعلنت حينها نهاية الطب النفسي. «إن الإمكانيات التركيبية المرتبطة بعدد وتنوع الاتصالات العصبية في مخ الإنسان تبدو بالطبع كافية لإدراك القدرات البشرية. ولكن ليس هناك تفسير للتفاوت بين النشاط العقلي والنشاط العصبي. من الآن فصاعدا، ما فائدة الحديث عن الذهن؟ فلم يعد هناك سوى جانبين لحدث واحد يمكن وصفه بمصطلحات مقتبسة عن لغة علم النفس (أي الاستبطان)، أو لغة علم الأعصاب.» ونذكر بصورة عابرة أنه عام 1845، أعلن جريزينجر أن «الأمراض العقلية هي أمراض في المخ.» في الواقع، كان أبقراط قد أكد من قبله أن كل شيء - بما في ذلك الجنون - يأتي من المخ. أسنرى، وعلى عكس كل التوقعات، هذه النظرية «المبسطة» تتحقق أخيرا؟ في جميع الأحوال، كانت الطريقة العصبية البيولوجية في أوجها (والدليل على ذلك كم القروض المخصصة للأبحاث)، وبدا أن المخ لم يقل كلمته الأخيرة. «تبدو بعض المناطق في المخ المتعلقة بالتعرف على الانفعالات وكأنها تعمل بطريقة غير طبيعية لدى المصابين بالتوحد والفصام؛ مما أثبت - عن طريق اختبارات معينة - وجود نقص في المعارف الاجتماعية في حالات الفصام والتوحد لدى الأطفال؛ أي عدم وجود القدرة على استيعاب وفهم الحالات العقلية المختلفة عن حالاته وإضفائها على الآخر.»
23
وقلت الحاجة إلى حسم الجدل القديم بين الأصل العضوي (التحدي) والأصل النفسي (المفضل) للمرض العقلي، وأصبح هناك اتجاه لتجاوزها أو الالتفاف حولها في إطار تعريف جديد للعلاقات بين الجسد والذهن.
وحاليا تشهد الطريقة المعرفية - أحدث القادمين - أكبر قدر من التشجيع، فهي علم النفسي التجريبي الذي أصدر الافتراضية بأن التفكير إنما هو عملية معالجة للمعلومة (على غرار علم التحكم الآلي)، الذي يدرس المبادئ التي تدير تفاعل الكيانات الذكية مع بيئتها. وتعد النظرية المعرفية هي أساس تقنية جديدة للعلاج النفسي: العلاج المعرفي السلوكي، الذي ظهر في الولايات المتحدة بالتزامن مع العلاجات السلوكية. وتعمل طريقة العلاج المعرفي بطريقة تكاملية على أفكار المريض التي تظهر نوعا من التشوش المعرفي. وهي تؤكد على أهمية الأشكال التوضيحية غير الواعية للفكر، والطريقة التي يمكن أن تتسبب بها هذه الأشكال المعطلة (آراء أو معتقدات) في الإصابة باضطرابات عقلية. ولا تهدف العلاجات المعرفية السلوكية إلى تعديل جذري لمجمل الشخصية عبر جلسات طويلة ومكلفة للمريض أو للتأمينات. اعتمادا على التقويمات المتتالية التي تعالج كميا بحرص، يكفي التأثير على هدف محدد يبلبل حياة المريض: الهوس المرضي أو الإدمان أو الوسواس القهري أو اضطرابات السلوكيات الغذائية، بل وأيضا تحمل الألم، ولإدارة الضغوط في الرياضة أو التحكم في التعلم، وفي الحالات الاكتئابية لدى المرضى المتقدمين في العمر ... إلخ.
24
كل هذا في ظل اتساع لمجال الطب النفسي، وسنتطرق إليه لاحقا أثناء الحديث عن الصحة العقلية.
حتى طريقة التحليل النفسي ذاتها شهدت تنوعا ليس له مثيل من قبل. ويجب أن نبدأ بذكر مواطن اختلافها عن العلاجات المعرفية السلوكية التي تميل حاليا إلى اكتساح مجال الطب النفسي كله، مصحوبة بدعم الإدارات الصحية. وسنذكر فقط أنه - على عكس العلاجات المعرفية السلوكية (التي لا تشكل نظرية) - يكون العرض من المنظور النفسي الباثولوجي التحليلي - كما يتضح من اسمه - ذا معنى بالنسبة للمريض؛ لأنه يتكون كتعبير عن التفرد والتاريخ الذاتي المرتبط باللاوعي. وهذا هو الفرق بين السبب والأصل. اهتم بعض المحللين النفسيين بدراسة العلاجات المعرفية السلوكية، ولكن يظل غالبيتهم معادين لها، متهمين إياها بعدم أخذ «البعد الإنساني للمريض» في الاعتبار مثلها مثل الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي. وجاءت دراسات حديثة تؤكد حججهم، مبينة أن النتائج الجيدة للعلاجات المعرفية السلوكية لا تستمر طويلا مع الوقت.
25
أصبحت هذه التقارير أكثر خلافية، ولا سيما أن «أوضاع التحليل النفسي والعلوم المعرفية في مجال المعارف لا يزال ينقصها مزيد من التحديد.»
26
وتضيف هيلين أوبنهايم - الطبيبة والمحللة النفسية - أنه إذا كانت هاتان الطريقتان مختلفتين تماما، «فإن المناقشات الإكلينيكية والحوارات النظرية حول الطرق الخاصة بكل منهج وحول حدودها (قضايا مثل التوحد والفصام والمرضى المصابين في المخ وحالات الخبل) قد تكون محفزة. ويمكن للطب النفسي - نظرا لتعدد مرجعياته الضرورية - أن يكون أحد أطر استقبال هذه المواجهات.»
27
إلا أن «المحللين النفسيين المتورطين في النزاع» لم يكونوا أكثر اتفاقا، فتصف إليزابيث رودينسكو العلاجات المعرفية السلوكية ب «الطرق المهجنة». وفي حوار في جريدة ليبراسيون،
28
يقول جاك آلان ميلر - صهر لاكان ومؤسس مدرسة السبب الفرويدية عام 1981 والجمعية العالمية للتحليل النفسي عام 1992 - عند سؤاله عما إذا كانت النظرية المعرفية تفسر أي شيء: «آه! نعم! فهي أيديولوجية تحاكي العلوم الصعبة وتتطفل عليها وتقدم ملخصا وهميا. ولكن انتشارها الهائل يرجع إلى أنها تعبر عن شيء شديد العمق، عن طفرة في علم الوجود وتغيير في علاقتنا بالكائن. واليوم، نحن على يقين بأنه يوجد شيء ما، وأنه قابل للترقيم. أصبح الرقم هو ضمان الكائن. ويرتكز التحليل النفسي أيضا على الرقم، ولكن بصورة الرسالة المشروحة، فهي تستغل غموض الكلام. وفي هذا الصدد، تكون متعارضة مع النظرية المعرفية، بل لا تحتملها.» ويسأله نفس الصحفي: ألا يزال التحليل النفسي في وضع الدفاع عن ذاته؟ ««فلنعش سعداء، فلنعش في الخفاء»، كان ذلك هو شعار المحللين النفسيين، ولكنه لم يعد كذلك؛ فالانغلاق على ذواتهم قد يكون قاتلا للتحليل النفسي؛ ببساطة لأنه لا يوجد مجال محدد لهم. باختصار، فإن الأطباء النفسيين لن يستطيعوا تجنب المشاركة في الجدل العام.»
دائما ما ظلت طريقة التحليل النفسي ثابتة، حتى وإن تكاثرت الهجمات وحركات التشكيك مع اقتراب القرن الحادي والعشرين. وهي تتناسب مع الغرور الذي تملك المحللين النفسيين - باعترافهم اليوم - عندما بدأ الطب النفسي غير التحليلي في الظهور. في عام 1980، أشاد بول بيرشيري ب «التدخل الفعال للمحللين النفسيين - زاد عدد الذين يمتلكون بينهم لقبا أو تأهيلا في الطب النفسي - في مؤسسة الطب النفسي [...] ولقد شرع التحليل النفسي بقوة في عمله لتفكيك الطب النفسي بسرعة تآكل الحمض.» ويختتم بيرشيري حديثه قائلا: «إن الحالات الصعبة التي يواجهها الأسلوب الإكلينيكي (على سبيل المثال؛ صعوبة الفصل في قضية الأصل العضوي أو النفسي للمرض العقلي) سيكون من السهل تجاوزها عندما يتخلص المحللون كعلاج من الطبيب النفسي (بالمعنى السيئ للكلمة) الذي يرقد بداخلهم. وحينها، سيتمكنون من اكتشاف الآليات داخلهم التي تنظم الذهان، والتي يمنع هذا الرقيب الفصل بينها.»
29
ولم ينتظر الفيلسوف جيلز دولوز والمحلل النفسي فليكس جاتاري حالة التشاؤم التي صاحبت نهاية القرن لينشرا عام 1972 كتابهما «ضد أوديب»،
30
الذي هو هجاء أحدث ضجة رافضا مفهوم الغربة باعتباره نقصا يستدعي وجود آلة تنتج. فالمقصود بأوديب هو ناتج تطور الرأسمالية. لم يكن اللاوعي مسرحا، بل كان مصنعا. وكان للعامل «الاجتماعي» الغلبة على ثنائية «الأب والأم» (أوديب)، ولم يعد يقتصر عليها.
31
فالأمر بالنسبة لمؤلفي «ضد أوديب» يتعلق ب «زعزعة أسس المذهب الفرويدي بفضل آراء ماركس، والعكس صحيح»،
32
ومن هنا بلغ «المذهب الفرويدي الماركسي» ذروته.
ابتداء من التسعينيات، سادت هوجة «عالمية من الكراهية والإقصاء» (لاستخدام نفس ألفاظ بومارشيه) ضد التحليل النفسي. دائما في وضع الاستعداد، ندد جينتيس عام 1998 ب «الإرهاب اليساري»، المتمثل في تأصل نظرية التحليل النفسي في فرنسا، «والتي كانت تقدم نفسها في وسائل الإعلام بكونها أداة لا تقارن للتحرر»، ولكنها سرعان ما أصبحت «أداة للتفكير التقليدي الشمولي». كما يتهم جينتيس المحللين النفسيين بأنهم «كسروا» (على الأقل في بعض الأماكن) حركة التغيير في الجانب المعالج. وهو هنا لا يهاجم التحليل النفسي (لا أحد يعتقد بالطبع أنه سيحمل إجابة عن جميع الأسئلة، ولكن يلاحظ أنه يوضح بعض المشكلات، ونكون مخطئين إذا استغنينا عن دوره)، بل المحللين النفسيين في وسط الطب النفسي. على أي حال، حتى بعد بلوغه عامه السبعين، لم يفقد جينتيس من حدته: «لا ينبغي لنا أن نتعجب في مثل هذه الظروف من وجود رد فعل قوي مناهض للطب النفسي. فالقيام بعمل التحليل النفسي - أي أن يكون الشخص محللا نفسيا - لا يعني أن يعزل نفسه في مكتبه لعدة ساعات أسبوعيا مع بعض المرضى المختارين، على اعتبار أن الباقي ليس ذا أهمية، بما أن التحليل النفسي لا يستطيع أن يفعل شيئا حياله.»
33
ولكن كل هذا لا يضاهى بالهجمة الشرسة خلال هذه الأعوام الأخيرة. عام 2002، جاء كتاب «أكاذيب فرويد ...»
34
لعالم النفس الإكلينيكي والمحلل النفسي للأطفال جاك بينيستو ليتحدث بلهجة حازمة ، منددا ب «أكاذيب» المذهب الفرويدي، متهما فرويد ذاته بأنه لم يلق إلا الفشل في علاج حالاته، ولكنه فشل «حوله إلى انتصار ليجتذب مزيدا من الأتباع وليتلاعب بمعجبيه.» (كتب جاك كوراز عنه في المقدمة «مدع بقامة عملاق».) أصبحت هذه الوسائل مدرسة لمن خلفوه، «الذين انتظموا في شبكات صلبة تحمي ذاتها وتتفنن في الحفاظ على سلطتها وغموضها عن طريق تقديم الكثير من الأشياء المغلوطة.» عام 1995، ما زلنا مع نفس الناشر البلجيكي (ربما كان قطاع النشر أكثر انفتاحا عنه في فرنسا)، قام جاك فان ريالير بنشر «أوهام التحليل النفسي». ويعرض هذا العالم النفسي الإكلينيكي والأستاذ بكلية الطب بلوفان، وأيضا المحلل النفسي السابق، لأسباب «ارتداده عن التحليل النفسي»، مهاجما «الطابع السري الباطني والتعصب والتكبر والتلهف على الكسب وحب السلطة، وقبل كل شيء أسس المذهب الفرويدي ذاته؛ تلك الأسس التي لم تثبت إلا نادرا أمام أي اختبار علمي.»
ثم كانت الصاعقة مع «الكتاب الأسود للتحليل النفسي»
35 (2005)، الذي ينتقد بقسوة وعلى مدار أكثر من ثمانمائة صفحة الأكاذيب (الوجه الخفي لتاريخ فرويد) والطريقة وفعاليتها وشرعية المحلل (بالأمس كانوا ثائرين ومن دعاة الحداثة، واليوم أتباع فرويد ولاكان هم الأكثر عدائية ودفعا عن معاقلهم الفكرية الجامدة) والخضوع في النهاية بالتزامن مع قانون الصمت الإعلامي إزاء أي انتقادات للتحليل النفسي. ولا يكفي القول بأن «الكتاب الأسود» قد أثار جدلا عارما في فرنسا، حتى إن مجلة «لونوفيل أوبسرفاتور» قد جعلت منه غلافا لها (أيجب القضاء على التحليل النفسي؟) بينما انحازت جريدة «فيجارو» إلى لاكان (التحليل النفسي: وثيقة المرفوض). وتتساءل إليزابيث رودينسكو: «لماذا كل هذا الكره؟»
36
في كتاب يحمل نفس الاسم، بينما ظهر في العام التالي «الكتاب الأسود للتحليل النفسي المضاد».
37
كانت الحرب دائرة أيضا على شبكة الإنترنت، ونأسف لعدم استطاعتنا تقديمها كلها في هذه الدراسة. كما سنجد أيضا الأستاذ فان ريالير الشديد الميل للتهكم، وأحد مؤلفي «الكتاب الأسود للتحليل النفسي»؛ يجيب عن الهجوم اللاذع الذي شنته عليه رودينسكو التي غضبت من كون فرويد يشنع عليه وتلصق له صفات «الكذاب والمزور والسارق والمنافق ومدعي الشهرة وأنه يمارس زنى المحارم»، فيجيبها ريالير بسخرية: «لم نقل قط إن فرويد كان يمارس زنى المحارم.»
38
قبل هذه المشاجرة، كانت إليزابيث رودينسكو - أثناء أحد العروض العامة للتحليل النفسي عام 2000 - قد ألمحت أنه «من الآن فصاعدا، أصبح المعالج الحديث مجردا من أي معرفة حول فن معالجة وشفاء المريض بالمريض نفسه [...] لأنه الآن أصبح المريض هو من يصنع علاجه بنفسه باستخدامه لعلاجات نفسية متعددة بنفس الطريق التي يتناول بها أي مواد كيميائية: يوما أدوية واليوم التالي علاجا بالحوار، ولماذا لا يتبعه محاولة علاج الداء بالداء أو المعالجة بالنباتات؟ يوجد مرض في نهاية القرن يقوم على تسارع العلاجات المتعددة أو على معالجة ذاتية دائمة تستند إلى التحرر من أوهام العالم.»
39
وبالعودة إلى التحليل النفسي، تختتم رودينسكو بأن التحليل النفسي هو «المذهب النفسي الوحيد في نهاية القرن التاسع عشر الذي ربط بين فلسفة الحرية ونظرية نفسية [...] ومن ثم، يجب عليه أن يكون اليوم قادرا في مثل هذه الظروف على تقديم رد إنساني في مواجهة وحشية مجتمع يميل إلى توحيد الشكل، وإلى اختزال الإنسان في كائن فردي نرجسي، تغمره عبادة الذات ويسعى دون توقف إلى محو الحلم واللاوعي.» ومن جانبه، عمل جوان دافيد نازيو على إثبات أن «أوديب»
40
وأيضا الهستيريا
41
لا يزالان موجودين.
ويتساءل جي داركور - الطبيب النفسي وعضو جمعية التحليل النفسي - عما إذا كان التحليل النفسي لا يزال نافعا للطب النفسي،
42
وسرعان ما أجاب بنعم، محاولا إثبات أنه يمكن إيجاد حوار بناء بين الطب والتحليل النفسي، مفسرا الانحدار الذي شهده الأخير بسبب إمبريالية الدليل التشخيصي والإحصائي للمرض العقلي والعلاجات المعرفية السلوكية (التي تمثل بالنسبة لمعارضيها آلات تنتج كائنات تتأقلم مع «مقتضيات الإمبراطورية»: مرونة وتنافسية، إلخ). ومثله مثل الكثيرين من زملائه، أصبح جي داركور من دعاة «العلاجات المركبة»، وهو الأمر الذي أصبح - بعيدا عن نزاعات المدارس المختلفة - الطريقة المتبعة بالفعل. وعلى نفس التساؤل (أيمكن للتحليل النفسي أن يكون نافعا للطب النفسي؟) يجيب بيير هنري كاستل: «بلغ التراجع التدريجي للتحليل النفسي في مجال الطب النفسي أقصى مداه تقريبا في هذه الأعوام العشرين الأخيرة. وتقترح بعض المؤشرات أن الكفة تميل برفق إلى الجانب الآخر، في الوقت الذي نستشعر فيه لدى الجمهور دعوات فردية لتولي مسئولية العلاج، وإن كانت ليست «موضوعية» في كل الأحوال، حيث أظهرت فيه الفضائح الصحية المختلفة من جديد ضرورة وجود طب نفسي اجتماعي (مكان طبيعي للتفاعلات النفس-حركية القوية)، وأن البدائل العلاجية المعارضة للطب النفسي السلوكية والدوائية تمثل ببساطة «خطوة ما تبقى لعلاج ما لا يتحكم فيه الإنسان». في الوقت ذاته، أعتقد أنه لبعض الأسباب، يمكننا أن نراهن أن الميزان لن يعود إلى حالته خلال الثمانينيات. فالقطيعة - على حد ما أفترض - ستظل نهائية بين الوضع الفكري للتحليل النفسي (مما يجذب علماء النفس) والطابع العلمي العصبي البيولوجي الذي سيصبح هو السائد (محددا سيرة الطبيب النفسي المهنية).»
43
وعلى نحو أكثر عملية، يدافع سيمون دانيال كيبمان - رئيس قسم «التحليل النفسي في الطب النفسي» بالجمعية العالمية للطب النفسي - عن وجود تدريب على التحليل النفسي داخل منهج الأطباء النفسيين المهني.
44
كل هذا الفوران كان ناتجا بنسبة كبيرة عن تعديل مشروع قانون حول سياسة الصحة العامة لنائب حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» برنارد أكواييه. ولكن ماذا يفهم عن القانون من ديباجته؟ «يعد الفرنسيون على مستوى العالم أكثر المستهلكين للأدوية النفسية، وشيئا فشيئا يزداد عدد الشباب الذين يصابون بأمراض نفسية خطيرة في الغالب. وعادة ما يعهد برعاية هذه الأمراض النفسية إلى العلاجات النفسية. إلا أنه في هذا المجال، كان هناك فراغ قضائي كامل حول هذا الموضوع في فرنسا. فهناك أشخاص غير مؤهلين بالقدر الكافي، بل غير مؤهلين تماما يدعون كونهم «معالجين نفسيين». ويمكن أن يتسببوا في أخطار جسيمة للمرضى الذين هم بالطبيعة ضعاف وقد تتفاقم أزمتهم وحالتهم بسرعة [...] ومن ثم كان من الضروري أن يكون المريض على دراية تامة بمهارات وجدية القائمين على علاجه. ويجب أيضا اعتبار العلاجات النفسية علاجا حقيقيا. وفي هذا الصدد، يجب أن تكون وصفات الأدوية واستخدامها مهمة المتخصصين الذين يحملون شهادة جامعية وشهادة تدريب مهني مؤسسي تضمن الكفاءة النظرية، ويمكن زيادتها بالخبرة العملية.» أيوجد ما هو أفضل من ذلك؟ ألم يكن الأمر عبارة عن مقاومة النصابين والمشعوذين؟ إلا أن المحللين النفسيين (حوالي خمسة آلاف في فرنسا، موزعين فيما يزيد عن عشرين جمعية؛ أي المعدل الأعلى في العالم) شعروا بأنهم هم المستهدفون، واستشاطوا غضبا، واتهموا الدولة بالرغبة في «تصفية العلاج النفسي المؤسسي والتحليل النفسي.»
45
وبمناسبة إحدى القفزات العديدة لفكرة «التعديل الدنيء» (عام 2008، طرح مجلس الدولة تلك القضية المحرجة)، اقتحم جاك آلان ميلر المعركة بموهبته في الجدل. تسعى الدولة إلى الاستعاضة عن طبيب العائلات: «الذي يسمعكم» و«أمامه تستطيعون أن تكشفوا ذواتكم بكل حرية» ب «الطبيب التقني». «والحقيقة أن هذا الطبيب ليس طبيبا: إنما هو عامل للسيطرة الاجتماعية الكاملة، ويخضع هو ذاته لرقابة دائمة. أنا أعلم: يبدو وكأننا أمام مشهد خيال علمي، فحتى ستالين نفسه لم يجرؤ على فعل هذا الأمر. وبسيطرة تفوق أمن الدولة في ألمانيا الشرقية، يتم وضع ميكروفونات، ويأتي تقني ليراقب عمل أدمغتكم.»
46
نحن أمام تفسير جميل، ولكن بعيد عن القضية المطروحة في التعديل.
نتحدث اليوم عن «حرب الأطباء النفسيين» ... فالمحللون النفسيون يشنون حربا على المعالجين بالطرق البيولوجية والمعرفية ويتهمونهم بالرغبة في أن «يحلوا محلهم». أما الأطباء النفسيون، الذين تلاشت أخيرا الضغينة التي يحملونها للمحللين، فيتصارعون بالأحرى مع علماء النفس الإكلينيكيين على أرض الواقع في المستشفيات. فطريقة معالجة كل منهم للمريض مختلفة تماما، دائما في إطار ثنائية الطبيب/غير الطبيب. في الفريق العلاجي (على الأقل لا يزال موجودا)، يحتفظ الطبيب النفسي بالمسئولية والسلطة، بينما يتعين على علماء النفس إقامة روابط وعلاقة شخصية مع المريض (الذاتية المتبادلة)، وفجأة أصبح الأطباء النفسيون - الذين اقتصر دورهم على التشخيص - يحسدون علماء النفس على الحرية والوقت الذي يقضونه خلال العلاج الإكلينيكي. «في الواقع، دفع انخفاض عدد العاملين في الطب وزيادة الطلب وثقل عبء الإدارة هؤلاء المختصين (الأطباء النفسيين) إلى التخلي عن كونهم معالجين نفسيين، والتحول إلى خبراء يقوم عملهم على توزيع المهام. وسرعان ما أبعدهم دورهم الأساسي ، الذي هو إعادة توزيع العمل بين المتدربين وإدارة تنوع المواقع والأوضاع المهنية، عن مكانهم القديم «كممارسين عموميين نفسيين»؛ حيث كانوا هم من ساهموا في اختراع الطب النفسي وتحويله بفضل نظام القطاع.»
47
وعلى جبهة المستشفيات، كان على الأطباء النفسيين أن يتخلوا أكثر فأكثر عن المرتبة الأولى لصالح علماء النفس، بل وحتى الممرضين. باختصار، فإن من يرغب على الرغم من كل هذا في استكمال عمله الإكلينيكي (أي أن يصبح طبيبا) يتم إغراؤه بترك الخدمة العامة.
48
في الولايات المتحدة، بلغ عدد علماء النفس الإكلينيكيين 20000 عام 1980 في مقابل 26000 طبيب نفسي، وعلى مدار الأعوام استمر استقلال الأوائل. وفي هذه الدولة أولا رأينا طاقما صحيا من غير الأطباء يحل محل الأطباء النفسيين. فشخصية الآنسة راتشد - كبيرة الممرضات في «طار فوق عش المجانين» - هي التي تدير جلسات علاج جماعي ليست فقط على الشاشة.
كان جورج لانتري لورا (1930-2004) - الذي ذكرناه قبلا عدة مرات، وهو الطبيب النفسي، وأيضا الفيلسوف ومؤرخ الطب النفسي - قد ذكر أن الطب النفسي لا يمكن اختزاله بالكامل في الطب، متسائلا هو الآخر عما إذا كان يجب الاستسلام لفكرة اختفاء الطب النفسي لصالح المعالجين البيولوجيين وعلماء النفس، «التقنيين القادمين للاوعي والمعرفة والسلوك».
49
وهو تساؤل شهير أجاب عليه بالنفي . فلا يوجد إخضاع ولا تفوق فيما بين «المناهج النظرية أو التطبيقية، بل طرق أسهل لفهمها.» ويضيف أن الطب النفسي «أصبح أكثر استعدادا من ذي قبل.» ولكنه ينعى الخطر المتناقض الذي يمثله تراجع الطب النفسي إلى المرتبة الثانية: «ففي مواجهة مريض واحد، نعرف ما يجب فعله بطريقة أفضل يوما بعد يوم، ولكننا قد نتعرض لخطر عدم امتلاكنا للطرق الملموسة.»
حرب الأطباء النفسيين ... حرب ضد الأطباء النفسيين ... أصبح الطب النفسي في أزمة تفوق أزمته خلال العقدين اللذين شهدا حركة مناهضة الطب النفسي. ولكن يجب ألا يكون الصراع داخليا. وتوالت اللقاءات عامة (مثلا في مونبلييه عام 2003) والمنتديات على شبكة الإنترنت. وينصح توبي ناثان - أستاذ علم النفس الإكلينيكي والباثولوجي، وأيضا الطبيب النفسي الأنثروبولوجي - مثله مثل الكثيرين بأنه من الممكن العمل معا: «فلنترك الكاريكاتير! فلا يوجد بين الأطباء النفسيين «مروضو وحوش» ولا مشعوذون. ومن ثم فلا يوجد صراع بين «التحليل النفسي الإنساني» على اليسار وبين التفكير العلمي على الطريقة الأمريكية الذي يهدد الحضارة الأوروبية على اليمين! فالمجال في حالة فوران وأزمة، بل وطفرة: فالعلاج النفسي [...] وتعدد طرقه ليس شرا بل فرصة! ففي وسط هذا الزخم بالتحديد يمكن الاستفادة من خبرات المرضى الذين يشاهدون ويختبرون ويتناقشون وينتقدون.»
50
وسنلاحظ أن «خبرة المرضى» تعود لتتقدم المشهد من جديد. وسنلحظ أيضا أن ثنائية اليسار/اليمين تطرح هنا حرفيا (بينما كانت عادة ضمنية). ومن المؤكد أن «هذه الشبكة من التحليلات» - التي أصبحت هاجسا في فرنسا - كانت كافية لتقسيم الآراء.
وكانت هناك المؤلفات التي تحذر من أن الطب النفسي أصبح الحلقة الأضعف في سلسلة الصحة التي تتدهور:
51 «اتسمت بداية هذه الألفية بأزمة كبرى لنظامنا الصحي. فالحال التي قادته إليه النظام الاقتصادي الحر قد أفقدته رؤية ضرورة المشاركة في دعم الجانب الإنساني.»
52
وماذا عن «الأطباء النفسيين الأساسيين» في كل هذا؟ «إن معظم الممارسين - الذين أحبطوا بسبب الخطاب النظري الذي يزداد تعقيدا بعيدا عن متطلبات الممارسة اليومية - قد تحولوا عنه ليكونوا معرفة خاصة بهم، مكونة من مقاطع نظرية مأخوذة عن نماذج مختلفة وغالبا متعارضة، في محاولة لملاءمة المعارف المكتسبة مع الحاجات التي يواجهونها مع مرضاهم.»
53
ويظل المنهج التجريبي والمنهج الاختياري هما الوصفات الدائمة ...
الطب النفسي في كل مكان
القول بموت الطب النفسي - أو على أقل تقدير بانهياره - بسبب وجود انتقادات توجه إليه، أو منافسته من قبل طرق علاجية أخرى؛ يرجع إلى رؤية الأمور من زاوية ضيقة. ويمكننا أيضا أن نتوقف عند نقد القطاع الذي لم يف بعهوده، في محاولة لمواجهة الطلب المتزايد على الرعاية بتوفير عدد أكبر من الأسرة التي تقل باستمرار، وأيضا مراكز جديدة غير متوافرة للطب النفسي العام. وعلى الرغم من كل هذا، كانت فرنسا تضم 12500 طبيب نفسي (5500 يعملون أحرارا، و4000 في المستشفيات العامة، و4500 في القطاع و750 منهم في المستشفيات الخاصة - مع الأخذ في الاعتبار الخدمات المختلطة). ويعني هذا - بالمقارنة بعدد السكان - أنها أكبر نسبة في العالم (صحيح أن وضع رقم مغلق لفترة التخصص في الطب سيشهد انخفاضا إلى 7500 عام 2020). أما عن الجمعية العالمية للطب النفسي ومقرها منذ عام 1996 في نيويورك - وهو أمر ذو مغزى، فهي لا تضم أقل من 180000 عضو. وإذا أضفنا إلى هذا الرقم عدد الأطباء النفسيين غير المتخصصين في الطب - وهو أكبر بكثير - لا يصبح الطب النفسي أو علاج الاضطرابات النفسية بشكل عام في طريقه للاختفاء، بل للازدياد.
أما عن طلب الرعاية فأهميته لا تقل عن تنوعه. في فرنسا، لم يتوقف الطلب عن التقدم: شهد زيادة بنسبة 17٪ من الحالات التي تولى مسئوليتها أطباء نفسيون أحرار بين أعوام 1992 و2000، في نفس الفترة شهد أيضا زيادة بنسبة 46٪ في القطاع العام. عام 1995، تولت القطاعات متابعة حالة 920000 مريض بالغ و330000 طفل ومراهق (في عام 1999، زادت النسبة بمعدل 20٪). في الطب العام، كان مريض من كل أربعة تظهر لديه أعراض الاضطراب العقلي.
54
ومن الآن فصاعدا، أصبح هناك طلب، دون أدنى حركة تطور في الطب النفسي. «فكل شيء يتم كما لو كان مفهوم العصاب - الذي رفضه الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض العقلية - قد عاد مرة ثانية من خلال الضغط العصبي والأمراض المسماة «ذات الشكل البدني » (وهي تختلف عن الأمراض النفس-جسمية، التي هي أمراض عضوية بالفعل)» (هوشمان).
في بداية القرن الحادي والعشرين، يأتي المرض العقلي في المرتبة الثالثة على مستوى الأمراض في العالم (المصدر: منظمة الصحة العالمية)، ولقد شهد تراجع الذهان لصالح اضطرابات القلق والسلوك، ولا سيما الاكتئاب الذي أصبح المفهوم الشامل الجديد. ومنذ الستينيات، كان بيشة - رأيناه قبلا - يتحدث عن «الدخول في عصر الاكتئاب». وهو بالفعل اليوم من أكثر أمراض المجتمع
55
اجتياحا. وأيضا وفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن الاكتئاب سيصبح عام 2020 السبب الأول للعجز في الدول المتقدمة بدلا من أمراض القلب والشرايين.
56
تغير مشهد الأمراض العقلية بالكامل، ولم يعد هناك حديث عن الطب النفسي، بل الصحة العقلية. وانتقلنا من المرض العقلي إلى الاضطرابات العقلية، ومنها إلى «المعاناة النفسية» وإلى سوء الحال، وأصبح هناك «ثقافة فعلية للألم الداخلي »
57
الذي تأصل اليوم في مجتمعاتنا. ويقول عالم النفس الأمريكي ألبرت إيليس - أحد رواد العلاجات المعرفية السلوكية - إن النوبات الاكتئابية تأتي من الرؤية العظيمة التي لدينا عن أنفسنا، وهي رؤية يهدمها الواقع بالطبع.
في فرنسا عام 1994، كان هناك أربعة عشر مليون وصفة طبية بمضادات الاكتئاب (دون باقي الأدوية النفسية). عام 2007، تم بيع أكثر من مائة وتسعة ملايين علبة دواء نفسي - أي أكثر من المضادات الحيوية - وتولى الضمان الاجتماعي تسديد نفقاتها. وتأتي فرنسا في المرتبة الثالثة عالميا في استهلاك الأدوية، والأولى في أوروبا في استهلاك الأدوية النفسية. وتعد كل هذه الأدوية من الجيل الجديد أكثر تكيفا وقبولا من سابقتها، ولم تستطع الاتهامات الحديثة بأنها أدوية وهمية دون عناصر فعالة أن تقلل من ظاهرة استهلاكها. وكما تشهد الكثير من المطبوعات،
58
فإن تعديل أكواييه لم يكن الوحيد الذي تأثر لهذا الرقم الذي لا نحسد عليه. ولقد نشرت مجلة «علوم نفسية» (يباع منها 285000 نسخة) في أغسطس 2008 نداء من خمسة عشر طبيبا ينددون فيه بمخاطر «المبالغة في علاج حالات عدم الارتياح»، ويذكرون «بوجود بدائل أخرى غير دوائية.» ولقد تفاقمت المشكلة بسبب أن من يصفون الأدوية هم في الأساس ممارسون عموميون (من 60 إلى 70٪، بل 75٪ وفقا للتحقيقات)، الذين لم يتلقوا أي تأهيل مبدئي في الطب النفسي الذي هو تخصص منفصل. أليس من المفارقة أن يكون على غير الأطباء النفسيين أن يجيبوا عادة على هذا السؤال: ما هو حد استخدام الأدوية النفسية بين العلاج والراحة، ولكن راحة من؟ ولقد أجرت صحفية بمجلة «علوم نفسية» تحقيقا بين ثمانية ممارسين عموميين
59 (أربعة رجال وأربع سيدات تم اختيارهم بالمصادفة من الدليل)، وفي كل مرة قامت بوصف وجود أعراض الضغط والقلق وصعوبة النوم والاستيقاظ، ولكن دون الإشارة إلى أي عرض محدد للاكتئاب. ومنذ الزيارة الأولى، وصف لها سبعة من أصل ثمانية أدوية مضادة للاكتئاب أو مضادة للقلق، وأحيانا النوعان معا. ولقد بدأ ممارس عام منهم - الذي لم يتجاوز متوسط مدة جلسته سبع دقائق - العلاج بوصف مضاد للقلق، ثم أضاف إليه دواء آخر. وعندما سألته المريضة المزيفة عن ماهية هذا الدواء، كانت الإجابة: «إنه لرفع حالتك المعنوية.» كان الدواء هو «ستابلون»، وهو من مضادات الاكتئاب. ولم ترفض إلا طبيبة واحدة إعطاء مضادات الاكتئاب: «إذا كنت تريدين دواء مضادا للاكتئاب فلن تنالي منه هنا!» ولكن لم تطلب الصحفية في أي لحظة علاجا معينا، بل اكتفت بسرد أعراضها المحفوظة. ولكننا نخطئ إذا اعتقدنا أن جميع المرضى أبرياء. ويكفي للتأكد الاطلاع على منتديات الأدوية على شبكة الإنترنت. في معظم الأحيان تكون الرسائل مفجعة، فقد نرى لدى بعض المصابين بالهذيان: «صباح الخير، أنا أتعاطى الحشيش وبدأت أتناول دواء ستابلون؛ لأني أعاني من حالة اكتئاب وفقدان للرغبة الجنسية تصاحبها مشاكل في الانتصاب [...] والأمر على ما يرام، وأعتقد أنني سأتمكن سريعا من التوقف عن تناول ليفيترا (دواء لعلاج مشاكل الانتصاب). أرغب في معرفة رأيكم الطبي حول الخلط بين دواء ستابلون مع الحشيش؛ لأنه يتسبب لي في حالات سيئة وتسمم؛ نظرا لحالة الاكتئاب لدي. ولكن، أأستطيع الآن الاستفادة من المخدرات التي تسعدني دون المخاطرة بإفساد العلاج؟ شكرا.»
إنه طلب فردي، بل وأيضا طلب مجتمعي ... ويتطور القطاع (70000 مواطن في مجال الطب النفسي) من هيكل منطو (الطب النفسي الإجباري) إلى هيكل منفتح، يتعاون مع باقي الأجهزة الصحية والطبية الاجتماعية. يجري الحديث الآن عن «التداخل بين القطاعات» («مخزن للوسائل والإمكانيات» فيما يتعلق بإدمان الخمور مثلا أو الإدمان) أو أيضا عن العمل في شبكات. فأصبح للطبيب النفسي الآن دور في مجال أمراض الشيخوخة وعلاج السرطان، بل وأيضا في حالات الطوارئ، وأيضا مع المعاقين بالتحديد. في فرنسا، يوجد في المستشفيات العامة ما يقرب من ثلث القطاعات النفسية.
إلا أن المصحة النفسية المغلقة لم تختف على الرغم من كل هذا، بل إن عدد حالات «دخول المصحة دون موافقة المريض» (الاحتجاز الإجباري سابقا) لا يتوقف عن الازدياد: بلغ 86٪ بين أعوام 1992 و2001، عقب إصدار قانون السابع والعشرين من يونيو 1990 الذي كان من المفترض أن يحل محل قانون 1838، بينما كانت الزيادة قبلا بين أعوام 1980 و1988 لم تكن «سوى» 34٪.
60
ولا تشير هذه المؤشرات المتوسطة إلى وجود تفاوت إقليمي كبير، فهناك بعض القطاعات لا تتوافر لديها الإمكانات البديلة لإدخال المريض للمصحة. ويبدو أن «اللجوء المعتاد لإدخال المريض المصحة دون موافقته أصبح هو الدليل على حدود حركة السعي لإخراج المرضى من المصحات.» ويصطدم المصطلح الرنان والحديث، دائما، «إخراج المرضى من المصحات»
61 - والذي يطمح إلى «إعادة استقلالية المرضى وضمان حقوقهم وحرياتهم وتخفيض نفقات الصحة» - بالعديد من حالات الدخول الثاني للمصحة، وأيضا بتنوع واختلاف «طرق العلاج النفسي»، وكذلك بارتباطها بتقنين تولي الأطباء مسئولية رعاية المرضى بطريقة متقطعة ومتشتتة بين عدة مؤسسات، ويصطدم أيضا بالحدود التي تختلف كلية باختلاف الوسط الاجتماعي والعائلي.
62
في الولايات المتحدة الأمريكية، نتحدث عن إعادة تكيف أو إعادة اندماج نفسي، والتي تترجم للأسف - أو إذا أردنا بشكل ذي مغزى - بكلمة «إعادة التأهيل».
63
أنشئ في البداية مركز إعادة التأهيل النفسي بجامعة بوسطن بهدف إعادة تأقلم المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية كبرى؛ وذلك لتحسين «سيرهم وعملهم» عن طريق برامج لدعم الدراسة والوظائف والسكن.
أصبح الطب النفسي من الآن في عصر «الصحة العقلية» - مفهوم ممتد وبدأ في الظهور منذ عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية - يتماشى مع آمال الطب النفسي الاجتماعي (بل وأيضا بعض أوامره). وظهر مفهوم الصحة العقلية و«المواطنة» ... «وتسللت إجراءات ضمان الصحة العقلية داخل إجراءات الاندماج المجتمعي.»
64
وأصبح من اللازم مواجهة «المعاناة النفسية» عن طريق فحوصات ورعايات غير ثابتة. وفي الواقع، لم يعد الكثير من المهمشين في وضع يخولهم المطالبة بأي شيء؛ ومن ثم نشأ «الطب النفسي الاندماجي»، الذي يقوم على بنية معينة، بل وأيضا «ترتيبات صغيرة»:
65
شبكات صحية قريبة، وفريق عمل متنقل، و«أماكن» وطرق علاج «ديل» (حالات الإدمان)، وأيضا أماكن للاستماع والرعاية الصحية؛ وهي كلها عوامل تتدخل بصورة طارئة ولا تتوقف عن لعب دور متنام في مجال الصحة العقلية.
66
ويتوسع مجال الطب النفسي بالتناسب: علاقة الأسرة/الطفل وأيضا العمل/البطالة، فنتحدث الآن مثلا عن «متلازمة أعراض الإنهاك والقلق والاكتئاب الذي يصيب المدرس.»
67
وكذلك ظهر ما يعرف ب «شعائر العنف» أو «الهوية الممزقة» ... كما يصاحب أي كارثة إنشاء وحدة للمساعدة الطبية النفسية. وتقول كارولين إلياشيف (محللة نفسية) ودانيال سوليز (محام)،
68
إننا في الحقيقة أصبحنا في عصر يميل إلى «الإيذاء»، ولكن في ظل مجتمع يشجع إعلاميا كل ما هو تعاطفي وانفعالي؛ مما يشكل خطرا على الضحايا أنفسهم؛ ربما لأن «الدعاية التي تصاحب الأمر (الاهتمام الإعلامي والجمعي) لا تكون متوافقة مع عملية إعادة بناء خصوصيته الداخلية.»
69
واليوم، اتخذ «علم الدراسات المتعلقة بالضحايا» - والذي نشأ بنوايا طيبة عقب الحرب العالمية الثانية على يد المحامي الجنائي بنجامين مندلسون - من الضحايا أنفسهم رهائن، وهم عاجزون حتى عن التعبير عن أحزانهم وهم محتجزون بهذه الطريقة.
كما يوجد ما يعرف ب «إدارة العائلة» - الذي يدفعنا إلى التفكير في برنامج الواقع التليفزيوني «سوبر ناني (المربية الخارقة)» (وسرعان ما اتضح أن مصطلح «المربية» يحمل معنى نفسيا عميقا، ولا سيما أن «الدولة المربية» تعني «الدولة الأبوية»). واتخذ الطلب - الخاص أو المؤسسي - للطفل أو المراهق أهمية بالغة. وإلى الاضطرابات الخطيرة التي تؤثر على تطور الطفل وسلوك المراهق (فقدان الشهية المرضي والإدمان والسلوك العنيف أو الانتحاري، إلخ)، يضاف حالات السقم «التي قد تظهر بعنف أو بهدوء في صورة مشاكل جسدية أو مدرسية.»
70
وتتكون البنية التحتية العامة من قطاع محدد: قطاع الطب النفسي للأطفال والشباب (يشمل حوالي 200 ألف مواطن). وتضم فرنسا ثلاثمائة وواحدا وعشرين منهم، ولكن بنسب غير متساوية. وهنا أيضا شهد عدد أسرة المصحات انخفاضا جذريا أمام الهاجس المستمر للميزانية والخوف المحتمل من فكرة «الاحتجاز»، معطيا فرصة لظهور بدائل للعلاج غير المستمر (97٪)، وعادة بدوام جزئي. وفي عام 2000، تمت متابعة ما لا يقل عن 432 ألف طفل ومراهق، بزيادة تقدر بالضعف عن عام 1986 (زيادة في عدد الصبية أقل من خمسة عشر عاما والعكس بعد ذلك). ويضاف إلى هذا النظام العام، مؤسسات أخرى ملحقة، ولعل أكثرها أهمية هي المراكز الطبية النفسية التربوية، والتي وصل عددها عام 1996 إلى ثلاثمائة وثمانية مراكز. كما نلاحظ أيضا التدخل المتزايد لروابط الأهالي الذين أصبح لديهم دور، وإن كان لا يتفق في كثير من الأحيان مع فريق «الأطباء النفسيين».
وعلى الرغم من كل هذا النظام (وهو بالتأكيد أكثر تعقيدا مما نقوله هنا) وهذه الخطط العملية الدورية - التي ظلت دون تنفيذ (مثلا خطة الكشف المبكر عام 2001) - فقد أدت زيادة الطلب على هذا العالم المغلق للصحة العقلية «عالم داخل عالم» إلى حافة الاختناق. وأصبح من العادي أن تمتد مدة الانتظار للخضوع للكشف الأول إلى ستة أشهر. «نحن نساعد عددا من الشباب، ولكن الكثير منهم لا يتمكن من بلوغ أنظمة الرعاية التي نوفرها»،
71
وفي انتظار تحقق ذلك، يعد «الهاتف الطبي» (المستوحى من «الهاتف الاجتماعي» للكبار) طريقة للرعاية موجهة خصيصى للمراهقين. وأيضا، بدأ الطب النفسي عن بعد (لئلا نخلطه بالطب النفسي التليفزيوني الذي يعدنا بوعود جميلة)، الذي هو امتداد للتطبيب عن بعد، بوضع شبكات جديدة للمساعدة النفسية عن بعد. وبدأ الأطباء النفسيون يتحدثون عن الأدوات وآخرون عن التطور الحتمي (والأقل تكلفة للجميع).
وبعيدا عن الابتهاج بقدوم هذا الطب النفسي الجديد، أعرب الأطباء النفسيون بكل الطرق عن قلقهم إزاءه. فكان هنري إي قد ندد بالفعل بالاتجاه - التابع للطب النفسي الاجتماعي بعد الحرب - إلى «معالجة كافة التغيرات الطبيعية للسلوك الإنساني نفسيا: الطفل الذي يبكي بصوت عال، أو الطالب الذي يرسب في امتحان البكالوريا، أو الطاغية الذي يأمر بمذبحة [...] هذه هي بالفعل صورة الطب النفسي الاجتماعي الصرف، الذي - نظرا لغياب أي تعريف لبنية الحدث النفسي الباثولوجي بعلاقته السببية الحقيقية - يخلط بينه بالضرورة وبين كافة آثاره الممكنة.»
72
ووفقا لإي، كان الأمر يتعلق بحكم الطب النفسي على ذاته بألا يضع تحديدا للشكل النفسي الباثولوجي للمريض، و«بألا يفسره أبدا، بل ولا يفهمه إلا بمعناه المضاد.»
وبعد عشرين عاما، أثار هذا النفي للطب النفسي بسبب الامتداد غير المحدد لهدفه قلق لانتري لورا: «تميل ممارسة الطب النفسي إلى التدخل في مجالات قريبة، وإن بدت لنا ملاءمتها محطا للنقاش؛ لأنه باسم أي معرفة مزعومة يمكننا أن نعطي رأيا تقنيا حقيقيا يتعلق بالقدرة على التبني أو المشورة الزوجية أو مخاطر الانتكاس؟»
73
ويخشى لانتري لورا من التوسع المبالغ فيه للممارسة - المشروعة - للطب النفسي، «ليس فقط في مهام جديدة لم يتم التأكد فيها من قدرات الطبيب النفسية بصورة قطعية، بل أيضا في مجالات تقليدية، ولكن بأهداف جديدة مثل الخبرة الجنائية.»
وتعد هذه المشكلة الأخيرة من المشاكل الجسيمة، فخبرة الطب النفسي لم تتوقف عن ملازمة الجنون؛ سواء لإصدار حكم بالمنع ضد المريض عقليا بسبب عجزه المدني (مأخوذ عن القانون الروماني)، أو لتقييم مسئوليته عن عمل إجرامي. وتنص المادة رقم 64 من القانون الجنائي لسنة 1810 على الآتي: «لا توجد أي جريمة أو جنحة إذا كان المتهم في حالة من الجنون أثناء ارتكابه للفعل، أو إذا كان مقيدا بقوة لا يمكنه مقاومتها.» وعلى مدار قرنين، انقسم الأطباء النفسيون حول قدراتهم على تعريف وتقدير ما هي «المسئولية». ويقول جيلبير باليه: «نحن لسنا مؤهلين للحسم في قضية المسئولية التي هي قضية ميتافيزيقية وليست طبية.»
74
إلا أن هذا لم يمنع مجال ممارسة الطب النفسي عن التوسع ليشمل المجال الجنائي أيضا (إطلاق السراح المشروط لأحد السجناء مثلا)، بل وأيضا المجال المدني (مثل البحث حول العواقب النفسية للإصابات الجسدية).
واليوم، أصبح هناك مجال واسع يسمى الطب النفسي الشرعي. وفيما يتعلق بمجال الاستعانة بالطب النفسي، فقد تنوعت أشكالها؛ فقد يضاف إلى طلب القاضي أو المحامي تقرير نفسي إلى جانب التقرير الطبي النفسي (على الرغم من أن القانون ينص على الثاني فقط). كما اتسعت المجالات المعنية: أنواع الوصاية المختلفة وحقوق الضحايا و«التشريح النفسي» عقب حالة انتحار (12 ألف حالة سنويا في فرنسا، وعلى الأرجح عشرة أضعاف هذا العدد من المحاولات) والأوامر العلاجية (الإجبار على الخضوع للعناية الطبية) تحت متابعة الإدارة العامة للشئون الصحية والاجتماعية في حالات الإدمان وإساءة المعاملة، بما في ذلك الإصابة «بمتلازمة أعراض مانشهاوزن» (وفيها يحضر الآباء أبناءهم للخضوع للفحص النفسي لإصابتهم بأعراض تسبب فيها الأبوان ذاتهما)، إلخ.
ومن الناحية القانونية، لا تعد المادة 64 من القانون الجنائي هي الأساس في مجال الطب النفسي. فالمادة 122 الجديدة تنص في فقرتها الأولى على بند المسئولية الجنائية، ولكن تنص في فقرتها الثانية على أن: «الشخص الذي كان مصابا وقت الواقعة باضطراب نفسي أو عصبي نفسي أحدث خللا في قدرته على التمييز أو أعاق سيطرته على أفعاله؛ يظل خاضعا للعقاب. إلا أن القضاء يأخذ في الاعتبار هذه الظروف أثناء تحديد العقوبة وتنظيم طريقة تطبيقها عليه.» ولكن أي نظام؟ على مستوى المؤسسة، يتم احتجاز مرضى الاعتلال العقلي الخطرين في «وحدات خاصة بالمرضى ذوي الحالات الصعبة»، ويبلغ عددها خمسا في فرنسا. وتم إنشاء قطاعات خاصة داخل المؤسسات العقابية البالغ عددها مائة وسبعا وثمانين داخل فرنسا؛ حيث تزداد المشكلات الطبية النفسية: مثل قطاعات الطب النفسي في الأوساط العقابية. وتتساءل الطبيبة بيتي براهمي كبيرة الأطباء بقطاع الطب النفسي للمؤسسات العقابية بسجن فلوري ميروجي، ونائبة رئيس جمعية القطاعات النفسية بالمؤسسات العقابية: «لماذا يوجد هذا العدد من المرضى عقليا داخل السجون الفرنسية؟» عام 1997، كانت نسبة «المرضى النفسيين» في السجن تصل إلى 30٪ من السجينات و20٪ من السجناء. بينما تشير أرقام أخرى إلى وجود 45٪ من حالات الاكتئاب الحاد. ولقد قدمت تفسيرات عديدة لهذا الأمر على يد هذه الطبيبة الممارسة: لا تميز العدالة - ولا سيما في حالة المثول الفوري - إلا نادرا المتهمين المصابين باضطرابات عقلية. أما الخبراء، فهم ليسوا على دراية ببيئة السجن، ويقللون تدريجيا من الإعفاء من المسئولية الجنائية، تاركين بالتالي مرضى اعتلال عقلي حقيقيين يذهبون للسجن؛ أحيانا بحجة «استعادة مكانهم أمام القانون»، وأحيانا أخرى لئلا يفرضوا على زملائهم العمل مع «هذا النوع الصعب من المرضى.» وإلى كل هذا، يضاف لوم الرأي العام لكل حادثة مأسوية تشكك في عدم مسئولية الفاعل جنائيا. ووفقا للأطباء النفسيين، فلا يوجد مجال لاستمرار حجز شخص داخل المصحة النفسية (حتى وإن كان غير مسئول جنائيا) دون سبب لبقائه في المصحة. نعم، قد تحدث انتكاسة بعد الخروج، ولا سيما إذا توقف المريض عن العلاج. ولكن، كما يشير الخبير الطبي النفسي دانيال زاجوري: «فإن الانتكاسة الخطيرة هي استثناء الاستثناء. فكل مرة، تكون المشكلة أن هذا الأمر يفجر داخل الإعلام والسياسات خطابا يتمحور حول الجانب الانفعالي فقط.»
75
وتضيف الطبيبة براهمي أن عدم معرفة محاكم النقض بهذه الحالات النفسية قد يؤثر سلبا على متهم مريض بالفصام، والذي تترك طباعه «السلبية» انطباعا سيئا لدى القاضي والمحلفين.
ويعد تأثير ظروف الاعتقال على المحتجزين معروفا، ولن نزيد عليه. فهذه الظروف تفسر «الإصابات النفسية مثل نوبات الهذيان الحاد التي تصيب أشخاصا لم يتم اعتبارهم مرضى اعتلال عقلي خارج السجن.» ولا تبدي الطبيبة براهمي أي تهاون أمام الطب النفسي العام الذي يبرر - على حد قولها - «جزءا من زيادة عدد مرضى الاعتلال العقلي المعتقلين.» فهناك دائما نقص في الوسائل، ومقاومة من الإدارة، وقلة في عدد الأسرة وعدد المراكز، وقلة المتابعة بعد العقوبة ... ولقد نص قانون التوجيه والبرمجة للعدالة (قانون آخر جديد) بتاريخ التاسع من سبتمبر 2002 على إنشاء وحدات علاجية مهيأة خصيصى ومزودة بفريق عمل من الأطباء النفسيين، ولكن في حماية فريق عمل من المؤسسة العقابية. لم يلق هذا الحل البراجماتي إجماعا، إلا أن مجتمعنا من باب الحيطة (ليس فقط أخذ ما هو محتمل في الاعتبار، بل محاولة القضاء على أي احتمالية)
76
جعله متضمنا للخطر النفسي منطقيا. «وكتب بوريس سيرولنيك
77 - دون أن ندري بالضبط من أين له هذه الإحصاءات المماثلة - أن شخصا من كل اثنين في نهاية حياته يكون قد تعرض لحدث يمكن وصفه بالصدمة النفسية، أو خضع لعنف ما جعله يقارب الموت. وأن هناك شخصا من كل أربعة أشخاص قد يتعرض لعدة نوبات من الهذيان. وأن هناك شخصا من كل عشرة أشخاص لن يتمكن من التخلص من آثار هذه الصدمة النفسية.» وهذا بالطبع عدد كبير، إلا أن الطب النفسي موجود في كل مكان، حتى وإن ألمحت عالمة الاجتماع ديلفين مورو «أنه بدأ يتراجع على ساحة التصور العام، ليغوص في أشكال غير مرئية.»
78
الخاتمة
ليس بالإمكان اختتام هذه الدراسة؛ لأن تاريخ الجنون لم ينته، وعلى الأرجح لن ينتهي إلا بانتهاء تاريخ الإنسانية نفسها. هذا ما نأمله على الأقل. تتبادر إلى ذهننا تلك العبارة الجميلة التي صاغها جيرارد بايل، رئيس جمعية التحليل النفسي في باريس: «الحياة مرض يشهد نموا متزايدا.»
على أي حال، فلنراهن على أن الجنون سيصبح من الصعب للغاية القضاء عليه - إلا إذا ثبتت بالقطع صحة النظرية القائلة بأن منشأه عضوي بحت - تماما كالقتلة العظام المتجسدين في أمراض القلب والأوعية الدموية والأورام السرطانية. كان إسكيرول يتهكم في بعض الأحيان قائلا: «اشرحوا لي كيف يفكر الإنسان تفكيرا عقلانيا، وسأقول لكم كيف لا يفعل ذلك!» وعلى الرغم من جميع الآثار المترتبة على الإعلان عن الإنجازات التي تم تحقيقها في مجال التعرف على المخ وعلاقاته بالفكر (فسيولوجيا المعرفة)، فهل صرنا نعرف كيف يعقل الإنسان أكثر بكثير مما كانت عليه الحال في زمن إسكيرول؟
إن هذا الجنون الشبيه بالضفدع المبرقش ذي الأشكال الجذابة المراوغة التي يصعب الإمساك بها، لم يكف عن إدهاش العالم على امتداد القرون. كيف سيبدو الجنون بعد مائة عام؟ أو بعد خمسة قرون؟ هذا هو ما سيكون من الشائق معرفته! في الخامس من أبريل 1877، كتبت صحيفة التايمز، مبدية مخاوفها إزاء تزايد عدد الاعتقالات، ما يلي: «إذا استمر الاستلاب العقلي في النمو على هذا النحو، فسرعان ما سيصبح المجانين هم الأغلبية، وعندئذ لن يكون أمامهم، بعد أن يقوموا بتحرير أنفسهم، إلا احتجاز ذوي العقل السليم.» ومع تقلص جدران المصحة، بات سيناريو جديرا بالعالم الشمولي الأورويلي، وهو بالطبع أقل عبثية؛ حيث ستضع الصحة العقلية - ذلك القادم المدعو كنوك - الجميع في فراش المرض، ونقصد بذلك إخضاعهم لمؤثرات نفسية من خلال تناول بعض العقاقير أو على الأقل وضعهم تحت مراقبة نفسية. ألم نتحدث بالفعل، وبجدية هذه المرة، عن «صحيفة الحالة النفسية»؟ «فالمجنون يجد دائما شخصا أشد جنونا منه يفقده صوابه ويثير جنونه»، على حد قول أندريه بلافييه. في خريف 2008، قدم فيليب كولين برنامجا جديدا على قناة فرانس إنتر الإذاعية: «هلع في الوزارة النفسية»، كان برنامجا فكاهيا، ولكن إذا تأملنا قليلا في العنوان، فسنجد أن «الوزارة النفسية» يبدو كتعبير له رنة مستقبلية.
يطيب لنا التحدث عن «الدروس المستفادة من التاريخ» (يرى سيوران أن التاريخ يعطينا «أعظم درس يمكن تخيله في السخرية.» علاوة على ذلك، بالنسبة له التاريخ لا معنى له، وإنما هو مجرد مجرى للأحداث). ومع ذلك، إذا أردنا الاعتراف بأن تاريخ الجنون يمثل تاريخ أخطائه المتعاقبة، فيمكننا على الأقل أن نستخلص من ذلك درسا عظيما في الحذر. وهنا نتذكر شارل ديسلون، حين كان يتحدث عن المغناطيسية الحيوانية، و«طب الخيال». بخلاف الأمراض الأخرى، التي تقتادنا فيها معرفة المرض وبالتالي الاستجابة العلاجية، حتما ولكن بصعوبة أحيانا، من الظلام إلى النور؛ أقل ما يمكن أن يقال عن الجنون، هو أنه لا يسير وفق نظام خطي؛ ولذا فهو جنون. تداخلت العديد من الثقافات مع الجنون، ومن ثم ينبغي قياس يقينيات اليوم في ضوء يقينيات الأمس - ولا سيما أنها قد تكون هي نفسها في بعض الأحيان!
ها قد استعرضنا الماضي، وهو ماض سحيق بالفعل، بما أننا رأينا أن الجنون تمت معالجته ودراسته (بالترتيب ذاته) منذ بدايات العصور القديمة، وإنه ليكون خطأ معرفيا (إبستمولوجيا) فادحا أن نقلد تاريخ الجنون وتاريخ الطب النفسي. ولكن، ماذا عن اليوم؟ لقد رأينا اليوم أنه يتم الجمع، على نحو مثير للمفارقة، بين الطلب الذي لا يكف عن التزايد فيما يتعلق بصحة العقل والالتباس الكبير في المقاربات. ولم تعد ممارسة الطب النفسي تحتذي بأي نموذج. بالطبع، لم يحل هذا دون تطور التقنيات الحديثة في الرعاية، بل على العكس تماما. وبطريقة ما، يظل الطب النفسي في عصرنا الحاضر علما تجريبيا، حتى لا نقول إنه ما زال يتحسس خطواته ويتلمس طريقه. وأخيرا، علينا أن نتذكر ذلك التأمل الرائع لسينيكا: «ليس معنى أن الطب لا يشفي كل شيء، أنه لا يشفي أي شيء.»
ينبغي أن نتساءل عما إذا كانت إشكالية الجنون قد أصبحت تدور من الآن فصاعدا حول معرفة أين هو بالضبط مكان الإنسان داخل هذا السياق - أو على الأقل التساؤل بهذا الشأن. في عام 1988، نشر صديقنا المأسوف عليه إدوارد زاريفيان (1941-2007) كتابا بعنوان «بستانيو الجنون».
1
ولقد حقق هذا المؤلف عن جدارة نجاحا باهرا لدى الجمهور العريض؛ لأنه يخاطب بنزعة إنسانية ومنطق سليم جميع أولئك الذين هم ليسوا ممارسين ولا اختصاصيين في مجال العلوم الإنسانية، والذين كانوا وما زالوا يطرحون تلك الأسئلة البسيطة: ما تعريف الجنون اليوم؟ وأي رؤية لدينا عنه؟ من مجنون ومن ليس كذلك؟ ولقد عمل إدوارد زاريفيان جاهدا على التنديد بالأيديولوجيات المختلفة للجنون، التي تحتل كل واحدة منها «مكانة إمبريالية حصرية». لقد كنا إذن في عام 1988، ومنذ ذلك الحين، فقد كل تيار الكثير من روعته، بدءا ب «أيديولوجية التحليل النفسي الشمولية». «كان يتعين على الطبيب النفسي الشاب اختيار معسكر ما»، و«كان الضحايا الحقيقيون هم دوما المرضى وعائلاتهم - التي كان يتم إساءة معاملتها، وإشعارها بالذنب.» أما عن «الاكتشافات المميزة في مجال البيولوجيا العصبية، فلقد استغلت دائما بطريقة غير شريفة فكريا [...] وطرحت الفرضيات بصفتها حقائق، والتكهنات بصفتها يقينيات.» وظل غالبية الأطباء النفسيين «مفتتنين، كما هي الحال دائما؛ لأنهم لا يفهمون». بيد أن إدوارد زاريفيان - الذي كان طبيبا نفسيا بالمصحة النفسية وأستاذا جامعيا (وكلف بالعديد من المهام الوزارية، ولا سيما فيما يتعلق بتناول الأدوية التي تؤثر على الحالة النفسية) - كان من «مؤيدي أفكار المؤسسة التي يعمل بها.» بل لقد اتهمه البعض بأنه ينادي ب «نزعة جديدة لمناهضة الطب العقلي ». ومع ذلك، لم يدافع، متقدما بذلك على زملائه بفارق عشرين عاما، إلا عن «توحيد خدمات الرعاية»، زاعما أنه بحث في مختلف المناهج دون أن يعطي الأفضلية لأيها. ولكن «رفض تفضيل نموذج تفسيري، معناه أيضا التخلي عن فكرة امتلاك الحقيقة.»
يختتم إدوارد زاريفيان قائلا: «الجنون، تلك النبتة الغريبة التي تنمو في أي مجتمع إنساني، يزرعها عدد لا يحصى من البستانيين. من هم؟ إنهم أنتم، وأنا. إنهم جميع أولئك، العائلات، والأطباء النفسيين، والمعالجين الذين يساهمون، كرها، في إدامة الجنون. إن المجتمع بأكمله، من فرط الخوف، والظلامية أو الادعاءات العلمية، والأنانية، والمحافظة بنزعتها التقليدية، والتعصب؛ قد سد، شيئا فشيئا وبلا هوادة، أي فتحة مطلة على العالم الخارجي، وأغلق الطريق أمام أي احتمالية لانعكاس الأمور أو انقلاب الآية، وحكم بذلك على الجنون بتكرار ذاته، إلى ما لا نهاية، باعتباره ضحية لاسمه [...] إن الجنون في جوهره هو جدلية للإقصاء، ولكن في هذه اللعبة، المريض هو الذي يخسر دائما.» في مؤلف آخر، يقول زاريفيان إن الطب النفسي لا ينبغي أن ينظر إليه باعتباره العلم المختص بالأمراض العقلية، وإنما هو الطب الذي يعنى بالشخص المتألم.
2
هل يعني ذلك أنه في بداية هذا القرن الحادي والعشرين، يثير الجنون القدر نفسه من الخوف، أو على الأقل من سوء الفهم الذي كان يثيره في عصر الطب العقلي؟ بالطبع لا، بالإضافة إلى أن الكلمة نفسها، التي ظلت محظورة لوقت طويل، لم تعد محرمة، بل وأصبحت من جديد قيد الاستخدام؛ إذ تبددت، وتغلغلت في الحياة اليومية، وعادت إلى الحياة بشكل عام. لقد تم ترويض الجنون، أو إذا أردنا القول، تكييفه، حتى في أشكاله الأكثر استعصاء. وفيما يتعلق بمستهلكي العقاقير التي تؤثر على الحالة النفسية، فسوف يتفاجئون بالطبع حين نقول لهم إنهم يندرجون أيضا تحت مظلة الجنون. ولم يعد الجنون، فيما عدا بعض الاستثناءات، هو ذلك الجنون الجبار الذي نعاينه عند جينيول الكبير، بنوبات الهلاوس المرعبة التي تصيبه، والتي تبدو اليوم ذات طابع كاريكاتوري. لم يعد هناك جدران تحيط بالمصحة، وتفصل بوضوح بين هؤلاء الموجودين في جانب، وأولئك الموجودين في الجانب الآخر. نحن نعلم بالتأكيد قصة ذلك المجنون الذي يطل من نافذة حجرته بالمصحة ليسأل أحد المارين: «أأنتم كثيرون هناك؟» هذه ليست مزحة: فنحن بالفعل كثيرون هنا.
مصادر مخطوطة
الأرشيف الوطني (الأقسام الرئيسة)
DV Comité des Lettres de cachet.
AF1 Comité de Mendicité.
Dans F4, F13, F15, F16: dépôts de mendicité.
F15: versements des ministères XIX
e
S. (Asiles d’aliénés - Rapports et correspondance-Départements) (une centaine de cotes).
Dans F2, F20, F21, F22, F80 versements ministères XIX
e
S. (d°).
X
2b
1335-1336. PV de visites à Charenton, Saint-Lazare et aux prisons de l’Hôtel de Ville.
Dans AJ
2 : Maison nationale de Charenton (34 cotes).
مكتبة فرنسا الوطنية (قسم المخطوطات)
Dans fonds Joly de Fleury (Hôpital général, Hôtel-Dieu, Saint-Lazare, Charenton, etc. = 31 cotes).
Dans fonds Clairambault 985, 986 (Charenton, Saint-Lazare).
Dans fonds français 16750, 18605, 18606, 21804, 22743, na21804, na22742 (papiers Tenon).
محفوظات مؤسسة المساعدة العامة
Fonds de l’Hôpital général (XVII
e -XVIII
e
S.).
المكتبة التاريخية لمدينة باريس
Ms 18937.
أرشيف مركز المحافظة
AB 380, 381, 382 (lettres de cachet).
أرشيف المقاطعات
série C: pour les fonds de l’Intendance (XVII
e -XVIII
e
S.) (notamment internements par lettres de cachet).
série M: santé publique XIX
e
S.
série X: administration hospitalière, assistance XIX
e
S.
Fonds consultés:
Calvados, Orne, Seine-Maritime, Aisne, Ille-et-Vilaine, Pas-de-Calais, Gironde, Hérault, Puy-de-Dôme, Vaucluse, Pyrénées-Atlantiques.
أرشيف البلديات (العصور الوسطى والنظام القديم)
Fonds consultés:
Angers, Caen, Le Havre, Rouen.
المحفوظات الخاصة
Essentiellement le riche fonds du Bon-Sauveur de Caen (aujourd’hui versé aux Archives départementales du Calvados) (
cf . Claude QUÉTEL,
Le Bon-Sauveur de Caen-Les cadres de la folie au XIX
e
siècle,
Thèse doctorat 3
e
cycle, Paris-Sorbonne, 1976).
مصادر مطبوعة
ذكرت هذه المصادر تباعا في هذا الكتاب. فيما يتعلق بالعصور القديمة، نشدد على أهمية مؤلفات أريتايوس الكبادوكي، وكاليوس أوريليانوس، وسيلسوس، وجالينوس، بالإضافة بالطبع إلى «ناموس الطب» لأبقراط. •••
فيما يتعلق بالقرون الوسطى، نشير إلى القديس توما الأكويني مؤلف (الخلاصة اللاهوتية). •••
فيما يتعلق بعصر النهضة وبداية القرن السابع عشر، استعنا بمؤلفات جون وير، وجون بودين، وبيير دو لانكر، وإف بلاتر «الممارسة الطبية»، وخوان لويس فيفيس «مساعدة الفقراء»، وبي بيجراي. •••
بالنسبة للقرنين السابع عشر والثامن عشر:
استندنا إلى العديد من مذكرات الدفاع، والكتيبات واللوائح التي نشرت حول مسألة التسول والمستشفى العام، وكذلك إلى القوانين والمجلدات، بدءا بمرجع إيزامبير الأساسي، الذي يقع في 29 مجلدا، والذي صدر في باريس في الفترة من 1822 إلى 1833، بعنوان «الجامع للقوانين الفرنسية القديمة منذ عام 420 وحتى الثورة الفرنسية عام 1789». وأيضا دليل جويو في الفقه القانوني (1784-1785).
كما اطلعنا على العديد من التقارير الرسمية، بدءا بذلك التقرير غير المشهور الذي نشر عام 1785، والذي يعد مع ذلك مؤسسا للطب النفسي، وهو تقرير «تعليمات حول الطريقة التي يجب اتباعها من أجل التحكم في المجانين».
هذا بالإضافة إلى العديد من المراسلات المنشورة (على سبيل المثال، تلك الصادرة في ثلاثة أجزاء عن دار نشر إيه إم بواليل بعنوان «مراسلات المراقبين العموميين للشئون المالية مع حكام الأقاليم»، باريس، 1874-1897).
وأخيرا، استعنا بالمذكرات، مثل مذكرات تونون حول مستشفيات باريس (1788). أما عن الأطباء الفرنسيين (دوفور، وداكين ولوبوا) أو الإنجليز (بيرتون، وسيدنهام، وباتي، وتوماس ويليس)، فإن كل بحث من أبحاثهم يشكل بالتأكيد مرجعا قائما بذاته (ويعد كتاب «فلسفة الجنون» لداكين، الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1791، مرجعا أساسيا في نشأة الطب النفسي).
اعتبارا من الثورة:
بدأت المصادر المطبوعة تتضاعف بصورة جذرية منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر: تقارير مطولة، ومذكرات، ولوائح، وقوانين ونصوص تشريعية ... وأخذ «مخترعو الطب النفسي» ينشرون بغزارة، أمثال بينيل، وإسكيرول، وفيريس، وكابانيس، وفالريه، وبارشاب، وبريير دي بواسمون، وكالميل، ولوريه، وجورجيه، وتريلا؛ هذا إذا اقتصرنا على ذكر الفرنسيين فقط. •••
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين (العصر الذهبي لمستشفى الأمراض العقلية)، أصبح هذا التدفق المفرط للمصادر هو أكثر ما يخشى منه:
تقارير سنوية لمستشفيات الأمراض العقلية والنفسية، وتقارير المفتشين العموميين (من بينها «التقرير العام» الذي لا غنى عنه والصادر في 1874)، والإحصائيات القومية السنوية ...
ولقد سار كل طبيب للأمراض العقلية - الذي سرعان ما سيصبح طبيبا نفسيا - على نهج خاص وفقا لبحثه العظيم : فكانت المدرسة الفرنسية ضد المدرسة الألمانية ... وصدر من مؤلف كرابلين البحثي وحده ثماني طبعات في الفترة من 1883 إلى 1915. وخلال هذه الفترة، تغير بالطبع العديد من المفاهيم والتصنيفات. وترددت عشرات الأسماء، فنحن لم نركز إلا على الأسماء الرئيسة ... بل ومئات في العقود الأولى من القرن العشرين. •••
هناك مصدر آخر متمثل في مجلات الطب النفسي المتعددة، التي تعد من أهم المراجع بالنسبة للمؤرخ حين يتم البحث فيها وفرزها مع مراعاة التفاوت والفارق الزمني بصورة كافية. من بين المجلات الفرنسية التي استمر صدورها، نذكر على سبيل المثال: «الحولية الطبية النفسية» (اعتبارا من عام 1843)، و«التطور الطبي النفسي» (اعتبارا من عام 1925)، و«الدماغ»، و«المعلومة النفسية»، و«آفاق طبية نفسية» ... فيما يتعلق ببريطانيا العظمى، نذكر «دورية الطب النفسي البريطانية» التي يتيح موقعها على شبكة الإنترنت الاطلاع على أعدادها الأرشيفية حتى عام 1855. ولا يسعنا أبدا أن ننسى «دورية الطب النفسي الأمريكية» (منذ عام 1921 - والتي كانت تصدر منذ عام 1844 تحت عنوان: «الجريدة الأمريكية للمرض العقلي»). •••
كما أفرز الجنون إنتاجا أدبيا ضخما شكل لنا مادة ثرية للبحث، تمثلت في روايات الشهود أو - إذا صح التعبير - الفاعلين.
وعلى أي حال، طالما بدا الحد الفاصل بين المصدر المطبوع والببليوجرافيا واضحا ومحددا بدقة بالنسبة لنا.
الهوامش
الجزء الأول: العصور القديمة وجذور الجنون
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء الثاني: ممارسات الجنون في العصور الوسطىوفي عصر النهضة
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء الثالث: احتجاز المختلين عقليا
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء الرابع: اختراع الطب النفسي
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
العقلية
الجزء الخامس: العصر الذهبي للطب العقلي
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء السادس: عصر الشك
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الخاتمة
Bilinmeyen sayfa