قال كارادوفو:
إننا لا نقدر أن نتابع ابن خلدون في جميع آرائه وتعليلاته العلمية للقضايا التي تلقف كرة البحث عنها، ولكنه على كل حال كان النظر إلى فلسفة هذه المبادئ ملازما لتحقيقاته، وفى الغالب كان على أثر سديد، وكانت له نظرات صائبة، وكثيرا ما يأتي في مباحثه بالأدلة المقنعة والشواهد على آرائه، وقد يستشهد بالكتب التي يستظهر بها ويسميها ويذكر أسماء العلماء الذين يتوكأ على أقوالهم. فمقدمة ابن خلدون تشتمل على مباحث قيمة في السياسة، والزراعة، والنجارة، والنساجة والخياطة، وفن البناء، والطب، والتوليد، وغيرها، وكذلك تبحث في الموسيقى والوراقة، والعلوم القرآنية، والعلوم العددية، والجبر، والهندسة، والفلك، والكيمياء والمنطق، والنحو، والبيان، إلخ. فهذا التنقيب الذي نقبه ابن خلدون عن تاريخ الاختراعات البشرية وأطوارها في جميع مناحي العمران يجعل عبد الرحمن بن خلدون الكاتب الأفريقي الذي عاش في القرن الرابع عشر ندا لأعظم فلاسفة أوروبا الحديثة. انتهى ملخصا.
ولنذكر الآن على وجه الإجمال من من الحكماء سبق ابن خلدون إلى هذه المباحث الاجتماعية، ولو لم يكن بلغ فيها شأوه فنقول:
إن القسم السياسي من فلسفة أفلاطون يمس جانبا من فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وكذلك يمسها من جهة ثانية القسم القضائي الحافظ للمجتمع الإنساني الكافل لانسجامه. وهو يرى أن المدنية العادلة هي «عبارة عن مجموع منتظم مؤلف من عناصر مختلفة». وفى كتاب أفلاطون عن الحكومة الجمهورية كلام عن بداية الاجتماع البشري يقول فيه: إن المدنية إنما هي وليدة الحاجة، وهي في الحقيقة استنباط الوسائل اللازمة الكافلة للقيام بها. وإن هذه الوسائل لا تتهيأ إلا بتوزيع الأعمال، فمتى اجتمع عدة أشخاص كل واحد منهم قادر أن يقوم بعمل يحتاج إليه الآخرون فهذه هي المدنية، وكلما اختص الواحد منهم بشيء كان عمله له أكثر تجويدا لما يكون سبق من مرانه له، إذ المدنية ليست مجتمع أشخاص متماثلين متساوين في كل شيء؛ بل هي بالعكس مجمع أشخاص غير متشابهين ولا سوآسيا. والوظائف تزداد صعوبة كلما اتسعت رقعة المدنية وازدادت حوائجها، فبجانب الزارع مثلا يأتي المتخصص بعمل السكك الزراعية، وبجانب أصحاب المحاصيل تأتي الطبقة القائمة بالأخذ والعطاء في البر والبحر. وهذا إتقان للعمل وإكمال له، ولكن المبدأ الأصلي واحد. ثم إن هذه المهن تتميز بعضها عن بعض بسعة المجتمع ويصير أصحابها طبقات متفاوتة؛ فطبقة الصناع تشتغل بسد الحاجات المادية، وطبقة العساكر تشتغل بالدفاع عن المدينة إذا اعتدى عليها جيرانها، وطبقة الحراس أو الحفظة تهيمن على إجراء القوانين، فهذه الطبقات الثلاث أي المشتغلون والجند وحفظة القوانين هم أساس كل مدنية.
ويقول أفلاطون:
إنه لا يجوز استغلال مدنية لفائدة شخص واحد، وإن المقصد من بناء المدينة ليس ترفيه فرد أو طبقة، وإنما هو إسعاد المدينة بأجمعها، فكل فرد من سكانها عليه واجب يقوم به، فإذا قام به فهذا هو العدل. ومن رأي أفلاطون أن احتياجات المجتمع المنظم يجب أن ينظر فيها إلى طبيعة الخلق إذ مهما كان الثقاف ذا تأثير فإن الأصل هو فطرة المخلوق وذلك كحب الكسب عند الصانع، وعلو الهمة عند الجندي، والحكمة والروية عند الحاكم.
ولأفلاطون مذهب آخر وهو: أن أقسام الغرائز في البشر هي تحت تأثير البيئات التي يعيشون بها، فالعلوم الحسابية التي تدرج بعض الناس إلى الفلسفة هي عند بعض الشعوب كالمصريين والفينيقيين وغيرهم زيادة في التحيل لا في العلم (كذا) ولا نرى في هذا الرأي إلا تعسفا.
ويوصي أفلاطون كثيرا باختيار ذوي الغرائز الممتازة كحب الحقيقة، وسهولة الفهم، وتغلب العقل على الهوى، وشرف النفس، والإقدام، وحسن الذاكرة إلخ.
ومن وصاياه تنظيم أعمال الوطنيين بحيث يقلد كل منهم ما هو أهل له فيجوده ويحصر حركته في هذا العمل ولا يتجاوزه إلى غيره. وإذا تأمل القارئ في عقلية أفلاطون الاجتماعية وجدها داخلة في علم النفس، وفى علم الأخلاق، فهو يذكر الأحوال لا على ما تكون عليه في الغالب، بل على ما يجب أن تكون عليه.
فالأساس عند أفلاطون هو أدبي محض، وهو قائم بتطبيق وظائف الاجتماع على القابليات الطبيعية في البشر حتى يأتي العمل أجود ما يمكن، إلا أن أفلاطون يعتقد بأنه لا بد من اختلال النظام شيئا فشيئا، وعند ذلك فلا مفر من التردي، ويدخل أفلاطون حينئذ في شرح كيفية الانحطاط وما ينشأ عن فساد النظام من فساد الأخلاق مما لا يلزم أن نستوفيه هنا، لأننا لم نقصد إلا إجمالا. وإنما نذكر شيئا ذا بال من فلسفته الاجتماعية، وهو ذهابه إلى أفضل حاجز للمدنية عن التردي، وأحسن وسيلة لانتظام جهود المصالح، إنما هو تسليم زمام أمورها إلى الحكماء، وهو على حد ما قال بعضهم: لا تبلغ المدنية السعادة إلا إذا كان الفيلسوف ملكا، أو الملك فيلسوفا.
Bilinmeyen sayfa