من حكومة البندقية، فبعثت به، فظل معتقلًا ست سنين ونيفًا، وكان من عادة مجالس التفتيش مطاولة المتهمين علهم يرعوون عن غيهم. أخذ عليه الديوان ثماني قضايا، منها التهكم على تجسد المسيح وعلى القربان الأقدس، فأصدر البابا أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا المتعلقة بمذهب كوبرنك. فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوبرنك وإنذار جليليو بثماني عشرة سنة، وقبل الحكم الأخير على جليليو بخمس وثلاثين سنة. ولكن برونو رفض الطلب وقال: إنه لم يخالف الإيمان، وإن رجال الديوان يؤولون أقواله، فحكم عليه بالجرم، وبتسليمه إلى السلطة المدنية "كي يعاقب برفق ودون سفك دم". فأعدم حرقًا بعد أسبوع " ١٧ فبراير ١٦٠٠ " وكان إلى النفس الأخير رابط الجأش مصرًّا على عناده، حتى إن كاهنًا مد إليه صليبًا فرده. ومهما يكن من أمر إحراقه -وكان منهاج العصر يحتمل هذا الضرب من الإعدام- فلا شك في أنه خرج على الدين خروجًا خطيرًا، كما أشرنا إليه وكما سيتضح من بيان مذهبه أنه كان راهبًا معيبًا وفيلسوفًا مفتونًا، جواب آفاق، مشاكسًا مهاترًا.
ج- وقد جاءت كتبه كثيرة بالرغم من شدة قلقه وكثرة ترحاله، وجاءت صورة لشخصيته الكدرة الغامضة، أي: قليلة الوضوح، عديمة المنهج، طنانة رنانة، أهمها: كتاب "في العلة والمبدأ الواحد" " ١٥٨٤ " وهو خيرها جميعًا؛ وكتاب "في العالم اللامتناهي وفي العوالم" " ١٥٧٤ "؛ وكتاب "في المونادا والعدد والشكل" " ١٥٩١ "؛ وكتاب "في الكون اللامتناهي وفي العوالم" " ١٥٩١ "، وكتاب "في طرد البهيمة الظافرة" في الفلسفة الخلقية. ومن هذه العناوين نعلم أن مذهبه وحدة الوجود على الطريقة الرواقية.
د- كانت مرحلته الأولى إلى هذا المذهب الأفلاطونية الجديدة بأقانيمها الأربعة: الله، والعقل الكلي، والنفس الكلية، والمادة؛ وبقولها: إن الله فوق متناول فكرنا الذي يعمل بالتمييز والاستدلال؛ ثم قال: ولكن الله يصير موضوع تعقل أو فلسفة من جهة كونه باديًا في الطبيعة أو نفسًا كلية تربط بين أجزاء العالم ربطًا محكمًا؛ ولما كان الله لامتناهيًا، كان العالم لامتناهيًا كذلك؛ لأن العلة اللامتناهية تحدث معلولًا لامتناهيًا؛ ولما كان من الممتنع أن يوجد لامتناهيان،
1 / 34