Dünya Felsefe Tarihi: Karl Jaspers'ın Yazdığı Son Metin
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Türler
2
ونعود إلى مضمون الجزء الثاني من كتاب «فلسفة» فنقول: إنه يدور حول الوعي بوجودي الحاضر والماضي بما أنا كائن حر يحيا في ظل الحقيقة والكرامة، بحيث أتمكن من تحقيق هذا الوجود وتحمل مسئوليته. ليس ثمة معايير موضوعية جاهزة لهذا التحقق، ولا سبيل لالتماس العون من التراث المأثور ولا من أية سلطة ميتافيزيقية أو دينية لا يعترف بها الفيلسوف. والسبيل الأوحد هو أن يجرب الفرد تلك المواقف الأساسية النادرة، التي يسميها «المواقف الحدية»، فتوقظ فيه حقيقته الباطنة التي هي قانون حريته، هنالك يمر بتجارب تكشف عن تناهيه، من أهمها تجربة «التواصل» التي كتب عنها ياسبرز صفحات خالدة (يطل من خلالها ذلك الوجه الطيب الحنون لرفيقة دربه «جيرترود» التي رعت جسده العليل، وأسندت رأسه المتعب على صدرها طوال العمر). ففي التواصل يشعر الفرد بأن ثمة إنسانا يحبه حبا يفرض عليه الولاء والصدق نحو نفسه ونحو محبوبه، كما يستشعر حرية النهوض بمسئوليته تجاه نفسه وتجاه شريكه، وفي هذا الموقف الذي يعد إمكانية أساسية للإنسان لتحقيق وجوده الحقيقي، لا يتصل فهم بفهم، ولا عقل بعقل، بل وجود حميم بوجود آخر حميم (فيه تتحقق كل حقيقة أخرى، وفيه وحده أكون أنا نفسي، بحيث لا أحيا مجرد حياة، وإنما أحقق حياتي). أما التجربة الأخرى فهي تجربة «المواقف الحدية» (التي قدمها ياسبرز لأول مرة في كتابه «وجهات النظر العالمية»، الذي صدر في سنة 1919م). في هذه المواقف التي يعاني فيها الإنسان تجارب العذاب، والشعور بالذنب، والإخفاق، وفقد الأعزاء، ووطأة الصدفة المباغتة، وضياع الثقة بالعالم يحس أنه يصطدم بجدار لا منفذ منه ولا سبيل إلى تخطيه، ويتبين عجزه عن مواجهته بكل ما لديه من قوى عقلية وقدرات عملية. قد يتمكن منه الإحساس بالإخفاق ويهزمه في النهاية؛ وذلك إذا تهرب منه بالمسكنات والحلول الوهمية، وعجز عن مواجهته بأمانة، وتقبله في صمت، بوصفه الحد النهائي لوجوده، هذا الحد الذي يكشف له عن «الآخر» الذي يستعصي على التحديد والتفسير؛ «فحقيقة الإخفاق هي التي تؤسس حقيقة الإنسان».
غير أن الجرح الذي يؤلم هو نفسه الجرح الذي يشفي، «وداوني بالتي كانت هي الداء» تصدق في هذه الحالة أكثر مما تصدق في حالة السكر والنشوة كما تصورها وعبر عنها أبو نواس؛ فالإخفاق الذي يهز الإنسان من جذوره يمكن من ناحية أخرى أن يهديه الطريق إلى وجوده، ويساعده على أن يكون «هو ذاته»، ويكتشف في داخله البعد الباطن الذي كان خافيا عليه، والذي تحيا عليه الحرية والحكمة والأصالة. هذا البعد هو الذي يسميه بكلمة «العلو» الغامضة المراوغة؛ لأنه هو الإمكان الذي يتخطى آفاق جميع الإمكانات الأخرى.
حول هذا «العلو» أو «العالي» (الترانسندنس)
3
يدور الجزء الثالث الذي جعل عنوانه «ميتافيزيقيا»، كما تدور فلسفة ياسبرز بأسرها؛ فالوعي بالعلو وعي وجودي من كل ناحية، والذي ينخرط في «الموقف الحدي» يعلو فوق الحد ويتوق إلى العثور على أساس يقيم عليه حياته، ويشعر بأن حريته ليست مجرد مصادرة أولية أو مطلب أساسي، وإنما هي تجربة بالوجود غير المحدد، الذي يصفه بالعلو، وهي تجربة مختلفة كل الاختلاف عن التجارب التي نتحدث عنها في العلم التجريبي أو في الحياة اليومية، ويمكننا أن نكررها بإرادتنا؛ لأنها مرتبطة «بحدية» وجودنا الحميم واستعصائه على «التموضع» أو التجسد في موضوع. لهذا تتخذ طابع الاعتقاد أو الإيمان؛ أي التصميم على إمكان تشكيل حياتنا تشكيلا عقليا على الرغم من تناهينا المؤكد أو في مواجهته. وتجلابة العلو التي يقصدها ياسبرز يمكن أيضا أن تفصح عن نفسها في صور مختلفة مما ندركه ونلقاه في العالم الطبيعي. غير أن هذه الصور لن تكون أكثر من «شفرات» ملتبسة متعددة المعاني، ليس بينها وبين ما تشير إليه علاقة ضرورية، ولا يستطيع أن يقرأها ويفك رموزها إلا من خبر التجربة نفسها، فضلا عن أن هذه التجربة - كما سبق القول - مما يستحيل تحديده أو تسميته أو جعله موضوعا للتناول. إنها من الندرة والمفارقة بحيث لا تتفق للإنسان إلا في لحظات ومواقف استثنائية تضيء وجوده، وتقربه من معناه وحقيقته وحريته، وربما لا تتفق له على الإطلاق في حياة تستهلكها الألوان المألوفة من خداع الذات.
ولما كان تاريخ الفلسفة هو الميدان الزاخر بتجارب الحقيقة من كل العصور والحضارات، الغني بصور التواصل مع العالي والشامل، وبالنماذج البشرية التي سمت إلى ذراه أو لمست جذوره، فقد اهتم «ياسبرز » بتاريخ الفلسفة وبأعلامها الكبار منذ مرحلة اشتغاله بعلم النفس، وظل أقربهم إلى نفسه «كانط» «وكيركجارد» بجانب «نيتشه» و«ديكارت» و«هيجل» كما سبق القول. ثم تجلى هذا الاهتمام في كتابه الضخم الذي لم يصدر في حياته غير الجزء الأول منه، وهو «الفلاسفة العظام» كما ظهر واضحا في هذه الدراسة، أو هذا المشروع الذي تجده بين يديك عن كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر كلية وعالمية، وقد وجد في أوراقه التي تركها بعد وفاته، وبلغت أكثر من عشرين ألف ورقة، يعكف على ترتيبها ونشرها واحد من تلاميذه المقربين، سبق له أن كتب سيرة حياته وفكره.
4
يتناول ياسبرز الفلاسفة العظام من منظور عالمي واسع الأفق، يضم فلاسفة الغرب إلى جانب حكماء الشرق الأقصى ومصلحيه ومؤسسي دياناته. والفلسفة من هذا المنظور هي مملكة العقل التي يأتينا منها نداء هؤلاء الكبار من كل العصور. والواقع أنه يؤرخ لهم من وجهة نظر تعلو على التاريخ بمعنى التتابع الزمني حقبة بعد حقبة، وتتأمل أفكارهم الحية وتستوعبها وتدربنا على استيعابها على أساس أنهم عاشوا في زمن فوق الزمن، وارتفعوا فوق أساليب وجودهم التاريخية وشروطها، وانفتحوا - بوصفهم نماذج من الوجود الإنساني الممكن - على العلو أو العالي، وشاركوا - كل على طريقته - في تلمس جذور الحقيقة الخالدة التي تتخطى حدود المكان والزمان واختلاف الآراء والمذاهب والأصول والغايات. ولهذا لا نعجب كثيرا إذا وجدناه يضع كونفوشيوس وبوذا وسقراط والسيد المسيح بوصفهم نماذج دالة على معنى التفلسف، بجانب أفلاطون والقديس أوغسطين وكانط بوصفهم المؤسسين والمطورين للتفلسف، وأرسطو وتوماس الأكويني وهيجل الذين يعدهم حفظة التراث ومنسقيه المبدعين، وأنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلوطين وأنسيلم وكوزانوس واسبينوزا ولاوتزو الصيني وناجارجونا الهندي من الميتافيزيقيين الذين تغذى تفكيرهم على الأصل وانبثق منه، وهوبز وليبنتز وشيلنج من أصحاب العقول البناءة، وأبيلار وديكارت وهيوم من أقطاب النفي الحاد والتشكك النافذ، وباسكال وليسينج وكيركجارد ونيتشه من الذين يؤثر أن يسميهم «الموقظين» العظام. (وطبيعي أن يغضب القارئ العربي ولا ينفد عجبه من تجاهل هذا الفيلسوف لعالم الإسلام وحضارته، وإغفاله لفلاسفة الإسلام وأئمته الكبار وصفوة مفكريه وعلمائه، ولكن لعله لم يعرف عنهم ولا عن الحضارة الإسلامية شيئا يذكر، أو لم يكلف نفسه مشقة المعرفة لأسباب يصعب التكهن بها وتفسيرها.)
من الواضح أن مواطني «الجمهورية العقلية» العالمية التي تدعونا إلى شرف الانتماء إليها قد مارسوا التفلسف بمعناه الوجودي ومعاناته، وانعكس عليهم نور الوجود الكلي والحقيقة الشاملة، على الرغم من اختلاف ميادين نشاطهم التي توزعت بين الدين والأدب والفلسفة والتربية والعمل السياسي وحكمة الحياة، هؤلاء المفكرون الأصلاء يقفون هناك في الأفق اللانهائي المفتوح لكل التفسيرات الممكنة، ينادوننا أن نشاركهم التفكير، ويدعوننا لأن نصبح معاصرين لهم ويصبحوا معاصرين لنا، دون أن يضطر أحد منا إلى التخلي عن خصوصيته النابعة من تفرد ذاتيته وتراثه وتجربته بالوجود.
Bilinmeyen sayfa