Araplarda Bilim Tarihi Üzerine Araştırmalar
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
Türler
إهداء
تمهيد
1 - أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة1
2 - الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي1
3 - الأبعاد المعرفية1 لكيمياء جابر بن حيان
4 - المنهج العلمي عند العالم النابغة أبي الريحان البيروني
إهداء
تمهيد
1 - أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة1
2 - الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي1
Bilinmeyen sayfa
3 - الأبعاد المعرفية1 لكيمياء جابر بن حيان
4 - المنهج العلمي عند العالم النابغة أبي الريحان البيروني
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
تأليف
يمنى طريف الخولي
إهداء
لأن كل سؤال عن التاريخ - تاريخ العلوم أو سواها - ينطلق من الماضي، ليصب في بوتقة تفهم وتأصيل الحاضر لاستشراف المستقبل، تواصلا ... ونماء ... وتطورا ... أهدي هذا العمل إلى العصفور الذي يغرد في القلب قبل السمع ... إلى ابنتي يمنى حاتم.
حبا ... وتواصلا ... ونماء ...
ي. ط.
Bilinmeyen sayfa
تمهيد
الوعي بتاريخ العلوم ... وعند العرب
لعل أبرز معالم فلسفة العلم في الهزيع الأخير من القرن العشرين هو أنها باتت معنية بتاريخ العلم، ولا تنفصل البتة عنه إن رامت تفهما حقيقيا لظاهرة العلم الحديث الذي يواصل نماءه وتطوره وتعملقه إلى غير نهاية، وبالنظر إلى الحقبة السابقة من فلسفة العلم التي سادتها الوضعية المنطقية، واستغرقها السؤال عن المنهج، يمكن اعتبار هذا الاهتمام بتاريخ العلم بمثابة تطور ونماء معرفي لفلسفته ...
فإذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، وجدنا العلم الكلاسيكي مزهوا بنفسه معتدا بذاته إلى أقصى الحدود، ولم تنشغل فلسفته كثيرا بتاريخ العلم، ولأعني أهلوها وأهل عصرها بالإجابة على السؤال: كيف بدأ العلم؟ كيف اتجه وسار؟ كيف نما وتطور حتى وصل إلى تلك المرحلة؟ وكان حسبهم الافتتان برونق جلال تلك المرحلة وجبروت شموخها، هذا رغم أن العلم - كما أكد كروثر
J. G. Crowther - أقدم عهدا من التاريخ، فكانت معطياته الأساسية أول ما تأمله الإنسان في العصر الحجري. فالتوجه العلمي متأصل في صلب العقل الإنساني، حتى يعنى الأنثربولوجيون الآن بالأصول البعيدة القصية للعلم عند الشعوب البدائية، أو ما أسماه برنسلاو مالينوفسكي
B. Malinowski
العقلية القبل علمية.
إن فلسفة العلم قد سيطر عليها هاجس الافتتان بالنسق العلمي في حد ذاته، واعتبار تاريخه مسألة ثانوية، وتوطد هذا بفعل هيلمان الوضعية المنطقية على أجواء فلسفة العلم، وحتى منتصف القرن العشرين، وليس فينا من ينكر دور الوضعية المنطقية العظيم في توطيد أسس النظرة الفلسفية العلمية، وتعبيد الطرق الاحترافية لفلسفة العلم، بخلاف الأفضال الجليلة في مجال المنطق الرياضي. لكن الوضعية كانت فلسفة علمية تجريبية متطرفة، قصرت فلسفة العلم - بل والفلسفة بأسرها - على محض تحليلات منطقية للقضايا العلمية، مجردين الفلسفة من آفاقها الرحيبة وأبعادها المترامية، وشنوا حملتهم الشعواء على ربيبة الفلسفة المدللة - الميتافيزيقا. فقد نزعت الوضعية إلى تجريبية مطلقة لا ترتبط بسواها، ونسق علمي فوق هامات كل الأبنية الحضارية الأخرى، بل وعلى أشلائها سيما أشلاء الميتافيزيقا، وأمعنت في تنزيه العلم من توجهات التفسيرات الاجتماعية والتاريخية، فأنكرت الدور الذي يلعبه تاريخ العلم في تمكيننا من فهم ظاهرة العلم فهما أعمق وأشمل، وأكدت أن المعايير المنطقية، وليست التاريخية هي التي تحدد فلسفة العلم. هكذا جعلت الوضعية المنطقية من فلسفة العلم فلسفة لا تاريخية، تولي ظهرها لتاريخ العلم اكتفاء بالمعطى الراهن منه، ورأوا أن التجربة قادرة على تفسير كل شيء حتى أنها بمثابة المعطى النهائي والبديهي، وحين ترتفع التجريبية إلى مستوى بديهيات المنطق، فإنها تكاد تلامس حدود المطلق الذي يعلو على الزمان والمكان ودع عنك التاريخ. كانت الوضعية المنطقية فلسفة علمية متعصبة متطرفة، مارست نوعا من الإرهاب الفكري في أجواء فلسفة العلم، فمن لا يكتفي بتحليلاتهم المنطقية هو المتخلف الغارق في سدم الأوهام المعيارية، أو السادر في الشطحات الميتافيزيقية.
ولئن كان كارل بوبر
K. Popper (1902-1994) أهم فلاسفة العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنه هو الذي حمل لواء العصيان والنقد الحاد للوضعية المنطقية، مؤكدا أن فلسفة العلم ليست محض تحليلات منطقية، بل هي فلسفة الفعالية الحية والهم المعرفي للإنسان، والميتافيزيقا أفقها الرحيب الذي يلهم بالفروض الخصيبة العلم أكثر حيوية وإنسانية من أي منشط آخر، قضاياه قابلة دوما للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلاق والعبقرية المبدعة دورا أساسيا في رسم قصة العلم المثيرة، التي علمت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدم، والتقدم العلمي لا تفسره إلا الثورة، بمعنى التغير الجذري لبدء دورة معرفية جديدة.
Bilinmeyen sayfa
والتقط توماس كون
T. Khun (1922-1996) أيقونة الثورة من كارل بوبر، فأقام تفسيره لتاريخ العلم وفلسفته على أساس مفهوم الثورة، التي هي انتقال من براديم
أو نموذج قياسي إرشادي إلى آخر ... وذلك في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية»، ويحمل هذا الكتاب إعلانا صريحا للربط الوثيق بين فلسفة العلم وتاريخه.
ثم تكفل بتوطيد هذا الربط أخلص تلاميذ بوبر: الفيلسوف المجري إمري لاكاتوش
I. Lakatos (1922-1974)، فقد واصل طريق الربط الوثيق بين فلسفة العلم وتاريخه، وبواسطة تعديل قول لإمانويل كانط، صاغ لاكاتوش المبدأ النافذ «فلسفة العلم بدون تاريخه جوفاء، وتاريخ العلم بدون فلسفته أعمى»، ويأتي بول فيير أبند
(1923-1995) ليبرز أهمية النظريات القابعة في تاريخ العلم وقدرتها على إخصاب الواقع العلمي الراهن، ويتكرس لتأكيد التعددية المنهجية، وتأكيد النسباوية بمعنى عدم قابلية النظريات العلمية المتتالية للمقارنة والخضوع لنفس المعايير والحكم عليها بنفس المقاييس. كل نظرية لها مكانها في تاريخ العلم، والحكم عليها بالنسبة لظروفها وتحدياتها.
هكذا نجد كارل بوبر، وتوماس كون، وإمري لاكاتوش، وبول فيير آبند فريق عمل متكاملا، يعرف باسم: الرباعي الأبستمولوجي، شكل معالم فلسفة العلم في المرحلة التالية على الوضعية المنطقية؛ أي في العقود الثلاثة الأخيرة من السنين، وقد أصبحت فلسفة العلم فلسفة إنسانية حية خفاقة، وليست مجرد تحليلات منطقية، لا تستغني طبعا عن رصانة المنطق، لكن تتجاوزه لتصبح فلسفة أبستمولوجية «معرفية» لا تنفصل البتة عن تاريخ العلم.
فتاريخ العلم - وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات - هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد دوما، بل إن فلسفة العلم الآن تسير إلى أبعد مما أنجزه هذا الرباعي العظيم في التأكيد على أهمية تاريخ العلم. فقد تعاظم شأن العلم وتشابكت علاقاته، وأصبح أكثر شمولية للموقف الإنساني أكثر من أي منشط آخر ... ولا يتكشف كل هذا إلا في ضوء تطوره التاريخي عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والاجتماعية والمعرفية. •••
ولئن تعلمنا من فلسفة العلم أهمية تاريخ العلوم على العموم، فباق أن نتفق على أهمية تاريخ العلوم عند العرب على الخصوص. ليس فقط من أجل العوامل الذاتية القومية التي تملي علينا العمل على تجذير الظاهرة العلمية وتوطينها في تربتنا، بل أيضا من أجل العوامل الموضوعية الأعم، والتي تهم المعنيين بأصول ظاهرة العلم الحديث شرقا وغربا. تاريخ العلوم عند العرب يشغل كل الفضاء الحضاري الممتد منذ أفول عهد العلم البطلمي السكندري الذي توهج على شواطئ مصر، وحتى بزوغ الجمهوريات الإيطالية في عصر النهضة، وبغض النظر عن الطول الزمني لهذا الفضاء الذي تشغله العلوم عند العرب، فإن أهميتها الخاصة تأتي من أنها المرحلة المفضية تاريخيا ومنطقيا إلى مرحلة العلم الغربي الحديث.
وتزداد الأهمية الموضوعية والمنهجية لدراسة تاريخ العلوم عند العرب؛ لأنه حظي بنصيب الأسد من التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وبفعل عوامل لا موضوعية ولا منهجية البتة سادت ردحا من الزمن خرافة مغرضة تؤكد أن العلم ظاهرة غربية بدأت من الصفر المطلق مع الإغريق، وعبر فجوة باهتة مظلمة - هي العصور الوسطى - انتقل إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في مراكز العلم الحديث في أوروبا.
Bilinmeyen sayfa
لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية قبل الميلاد بستة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية، التي تطورت عبر التاريخ حتى بلغت مرحلة المد الاستعماري. فلم يتوان مفكرون غربيون في تسويغه، حتى شكلوا فيلقا في الجيوش الاستعمارية، بزعم أن الغرب هو صانع الحضارة ابتداء وأبدا. فيغدو السؤدد الحضاري والسيطرة على العالمين نصيب الغرب المشروع ومكانه الطبيعي، وكان السبيل لهذا هو الإسراف في تمجيد ما أسموه «المعجزة» الإغريقية، وإهدار ميراث الحضارات الشرقية القديمة الأسبق منها، والتي أصبحت مستعمرة.
وبينما الحضارة اختراع مصري، أنجزه الفراعنة - قبل الإغريق بألفي عام - ليكون الفجر الناصع ونقطة البدء الحقيقية، راحوا يزعمون أن هذا قد انزوى، والإغريق هم بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط. فالعلم بدأ مع الإغريق كما بدأت الفلسفة مع طاليس، وبدأت الرياضيات مع فيثاغورث، والميثولوجيا - الأساطير - مع هوميروس، والمسرح مع يوربيديس وإسخيلوس، وبدأت الديمقراطية في أثينا ... إلخ ... إلخ. فيبدو الغرب هو الفاعل الوحيد لكل فعل حضاري ، المالك الوحيد لكل غنيمة حضارية، صاحب الحق في تصريف شئون الحضارة البشرية وفقا لمصالحه، إذن الاستعمار والهيمنة نصيب الغرب المشروع.
ونعود إلى العلم بمفهومه الحديث، لنجد العلوم التجريبية جذعه وجسده وإنجازه الأعظم، وفي هذه العكس تماما هو الصحيح. فقد بلغت مدا مبهرا في الحضارات الشرقية القديمة، انحسر مع الإغريق. لقد تمركزت إنجازاتهم في العقل النظري والعلوم الاستنباطية؛ أي في المنطق والرياضيات؛ لأنهم دأبوا على تمجيد النظر وتحقير العمل، حتى جاهر أرسطو بأن العبيد مجرد آلات حية لخدمة السادة الأحرار المتفرغين لممارسة فضيلتي التأمل والصداقة، ثم انطفأت الجذوة التي توهجت للعلم والتقانة في الإسكندرية، واستمر أثر أرسطو متكاتفا مع كهنوت رجال الكنيسة، كسد أمام العلم التجريبي طوال العصور الوسطى، يئن ويستجير منه الأوروبيون لا سواهم. حتى تحرروا في القرن السادس عشر من هيمنة أرسطو، وبدءوا انطلاقة العلم الحديث.
هذه المرة الإهدار من نصيب دور الحضارة العربية الإسلامية التي احتلت قصب السبق في العصور الوسطى. لقد انفتحت على كل الحضارات الأسبق منها، وشكلت أمة تضم قوميات ومللا شتى ساهموا جميعا في إنجازاتها العلمية الهامة، فكان العرب - كما يقول مؤرخ العلم كروثر - هم المؤسسون لمفهوم عالمية المعرفة، وهي إحدى السمات البالغة الأهمية للعلم الحديث.
ولئن كان الإغريق قاموا بدور جوهري في بلورة مثل العقلانية والعلم، فإن السؤال هو: لماذا كانت هذه المرحلة المتألقة في أيونيا، وليس في أي مكان آخر من أوروبا؟ والإجابة في الموقع الجغرافي لبلاد اليونان، قربها وتوسطها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها. فكانت تمثلا واستيعابا لميراثها، ثم تطورا طبيعيا له؛ لأن الظروف الحضارية الإغريقية كانت موائمة لهذا، ثم صنع الإسلام ظروفا حضارية مواتية لنهضة العلم في مرحلته التالية التي أفضت إلى مرحلة العلم الحديث بجلال شموخها ورونق نسقها، ولئن كان مبدأ أرنولد توينبي
A. Toynbee (1889-1975) في دراسة التاريخ هو أنه لا توجد أمة في العالم يتأتى دراسة تاريخها بمعزل عن تواريخ بقية الأمم، فإنه لا يمكن دراسة مرحلة من تاريخ العلم، بمعزل عن دراسة المراحل الأخرى، والتفهم المنهجي لظاهرة العلم يقتضي أن نعطي كل مرحلة حقها ؛ لأن العلم أنبل مشروع ينجزه الإنسان طرا، إنه أعظم شأنا وأجل خطرا من أن تستأثر بإنجازه من ألفه إلى يائه حضارة معينة، أو مرحلة واحدة من مراحل التاريخ.
ولأنه لا يصح إلا الصحيح فقد حل الوعي التاريخي بفلسفة العلم - بعد طول غياب - وانحسرت - إلى حد ما - دعاوي التشويه الأيديولوجي لتاريخ العلم، وتنامى الاهتمام الأكاديمي به في العالم أجمع، وتجري الآن محاولات منهجية دءوبة لتتبع كل مراحله وصلت إلى الأصول الأنثربولوجية للعلم - كما أشرنا - مع اهتمام خاص بتاريخ العلوم عند العرب، للعوامل المذكورة فيما سبق. •••
في هذا الإطار تجتمع البحوث الأربعة التي تشكل متن الكتاب على الرغم من أنها أجريت في أزمنة متفاوتة. المبحث الأول: عن أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة، يحاول أن يلقي ضوءا على معبر من معابر انتقال العلم العربي إلى العلم الحديث في أوروبا. لم يوضع في المبتدأ كمصادرة على المطلوب، لكن لأن الرياضيات لها منزلتها المنطقية المعروفة التي تجعلها مسبقة وفوق كل المباحث الإخبارية، فضلا عن أن البحث يحوي بين طياته خطوطا عامة لمنهجية تأريخ العلوم من منظور مستقبلي، ولأن تاريخ العلم يجري عبر تفاعله مع البنيات الحضارية والمعرفية كما ذكرنا، كان البحث التالي عن الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في تراثنا، على اعتبار أن هذا هو القاعدة المعرفية التي انطلقت منها العلوم عند العرب. حاول البحث أن يلقي ضوءا على عوامل تدفقها في العصر الوسيط، وأيضا لماذا انحسرت وتوقفت ولم تواصل النماء والسيرورة في العصر الحديث؟ وكان لا بد من لقاء حي مع علمائنا القدامى، وتخيرنا اثنين: جابر والبيروني، لا جدال في تصدرهما العلم في عصرهما، وكلاهما تمثيل للطابع العالمي للعلم وحوار الحضارات وتفاعلها في رسم فصوله، جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري بعقليته التي تداخلت فيها العناصر الإغريقية مع السكندرية والغنوصية والهرمسية والحرانية والإسلامية ...
وفي هذا الإطار كان ما أسداه للكيمياء وللمباحث الإمبيريقية، وأيضا كانت الهند رافدا دافقا غذت عقلية البيروني العلمية المكينة وليس اليونان فقط، لكن بقدر ما كانت عقلية جابر مشربكة بعناصر لا علمية، كانت عقلية العلم الثاني البيروني علمية على الأصالة، بحيث إن الرحلة بينهما تمثيلا للطابع التقدمي للعلم
1
Bilinmeyen sayfa
منذ البدايات الغير هينة للعلم العربي مع جابر وحتى البيروني الذي أتى في قمة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية «القرن الرابع الهجري» ليمثل أعلى مد للعقلية العلمية بلغته الحضارة الإسلامية، بل إذا قارناه بأبي الفلك الحديث يوهانس كبلر لبدا البيروني أكثر علمية وعقلانية ورصانة منطقية، بصرف النظر عن المحتوى المعرفي لنظريات كليهما، والتي لا بد وأن تكون في صالح كبلر طبعا. لعل المقارنة الشهيرة بين كبلر وجاليليو، من حيث إن الأول مدفوع بنزعات الصوفية وعبادة الشمس وما إليه، بينما الثاني علمي وعقلاني على الإصالة، سوف تطرح بين جابر والبيروني. لقد بدا لنا البيروني ظاهرة فريدة في علم العصور الوسطى، وأن قول إدوارد ساخاو بأنه أعظم عقلية عرفها التاريخ لم يكن عشوائيا، فاهتممنا به اهتماما خاصا لنرجو اسمه الجليل مسك الختام لهذا العمل المتواضع، ونسأل الله أن نتمكن من استئنافه بأبحاث تالية تتناول زوايا أخرى من هذا العالم الثري الزاخر - تاريخ العلوم عند العرب، وكيف يعيننا في تفهم ظاهرة العلم الحديث.
وبالله قصد السبيل.
المبحث الأول
أديلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة1
انتقال الرياضيات من بغداد إلى العلم الحديث
أعرق المدن الثقافية آنذاك بغداد وقرطبة.
J. G. Crowther ...
لعل أهم العوامل التي أدت إلى تعملق العلم الحديث، وتميزه عن العلم القديم، إنما هي تسلحه باللغة الرياضية، وكانت إنجلترا على الخصوص - موطن أديلارد الباثي - هي التي شهدت ذروة الفيزياء الكلاسيكية الرياضية، وذلك بنظرية نيوتن التي بلغ العلم معها غاية النضج المهيأ للنماء والتوالد.
وبهذا يتضح لنا دور الرائد المثابر أديلارد الباثي في شق رافد قوي ساهم في تدفق نهر العلم الحديث، وذلك حين تكفل بنقل الرياضيات العربية من مركز توهجها في بغداد إلى اللغة اللاتينية، معتمدا في هذا على التراث الأندلسي والنصوص الأندلسية، خصوصا مكنونات مكتبة قرطبة.
وسوف نرى أن جهود أديلارد الباثي وخطورة دوره، يعنيان أن قرطبة ومدارس الرياضيات فيها من العوامل التي لا يمكن فهم تاريخ العلوم الرياضية ونشأة العلم الحديث بدونها. •••
Bilinmeyen sayfa
فقد كانت قرطبة هي المركز المتألق للحضارة الأندلسية، وللعلم الأندلسي على العموم والرياضيات على الخصوص. فاكتسبت شهرة عالمية، وأصبحت من أهم مراكز الدرس في عصرها، واقترن اسمها بالعلم والعلماء، حتى قيل فيها:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
2
وبطبيعة الحال ثمة عدة عوامل تهيأت لقرطبة وأدت لهذا، يجملها العاملان الجغرافي والتاريخي. العامل الجغرافي: هو وقوعها على نهر الوادي الكبير الخصيب والدافئ وسهولة الانتقال منه إلى بقية مراكز الحضارة الأندلسية في جنوب أيبريا أو إسبانيا، وتكاد قرطبة أن تكون على رأس مثلث، طرفاه مركزان آخران للحضارة الأندلسية توسطتهما، وكانت على مقربة من كليهما، ألا وهما غرناطة وأشبيلية، ولكن إذا كانت أشبيلية تميزت بقصورها وعمائرها، فإن قرطبة تميزت بمدارسها وعلمائها.
على أن دور قرطبة المتميز في الحضارة وفي العلم - وهما عادة لا ينفصلان - تهيأ لها بفعل تاريخها أكثر مما تهيأ بفعل جغرافيتها. فقد كانت قرطبة مركز الدولة الأموية وحاضرتها، وبعد أن اعتلى «الأمير عبد الرحمن بن محمد» الإمارة في قرطبة استطاع أن يضوي الممالك تحت لوائها، وبمجيء عام 330ه كانت قرطبة مركز المجد الإسلامي في إسبانيا، واستمر هذا حتى عام (442ه/1031م) وهو عام سقوط قرطبة وانفراط سلك الخلافة الأموية، وقيام الدويلات والممالك التي كانت بداية النهاية للحضارة الأندلسية، ولكن حتى بعد أن سقطت قرطبة، لم يمنع سقوطها من أن يستمر ازدهار العلوم فيها؛ لأنه كان نتاج فعالية عميقة ومكثفة.
فمنذ أن استقرت فيها الخلافة الأموية، إلا وعمل أمراؤها على اتخاذ بلاط تسوده الأبهة والفخامة، ونشط استقدام الشعراء والفلاسفة والعلماء من المشرق الإسلامي، وولعوا باقتناء الكتب، وجدوا كي تصل قرطبة إلى مستوى يضاهي ما وصلت إليه بغداد ودمشق والقاهرة.
3
Bilinmeyen sayfa
فأصبحت في قرطبة واحدة من أكبر مكتبات العالم القديم، ضمت مائتي ألف مجلد، وقيل أربعمائة ألف، وكانت فهارسها تستغرق أربعا وأربعين كراسة، كل منها خمسون ورقة، ليس فيها إلا عناوين الكتب، بينما كانت أكبر مكتبة في أوروبا آنذاك - وهي مكتبة كنيسة كنتربري - لا تضم أكثر من خمسة آلاف كتاب. أما غيرها من المكتبات الكبيرة فكانت لا تحوي في العادة أكثر من مائة مجلد، مع استثناء مكتبة كلوني التي ضمت في القرن الثاني عشر - قرن أديلارد الباثي - خمسمائة وسبعين كتابا.
4
ويقول ابن سعيد المغربي في كتابه «المغرب في حلي المغرب»:
إن الأمير عبد الرحمن الأوسط وابنه الحكم المستنصر جدا وأنفقا في إرسال الرسل للبحث عن الكتب في المشرق، وجمع ابنه ما لم يجمعه أحد من الأمراء والملوك، وأوجد في قرطبة أكبر عدد من الكتبة والنساخين والمجلدين والمزخرفين، استقدم بعضهم من صقلية ومن بغداد، على الإجمال، كان نقل واستجلاب التراث المشرقي الخصيب يسير على قدم وساق، فتزدهر قرطبة.
وقد كان للأمير القرطبي الرابع «عبد الرحمن الثاني» أكبر النصيب في إنماء الازدهار القرطبي، إذا برز كأكبر الحماة للعلماء وصديقا مخلصا للأدب والفنون، ويهمنا الآن شغفه البالغ بكل ما يتصل بعلمي الرياضيات والفلك.
ولعل أهم النواتج التي تمخض عنها كل هذا هو انتقال الرياضيات العربية من عاصمتها بغداد إلى قرطبة، لتصبح قرطبة بدورها من أبرز مراكز الدرس الرياضي فى عصرها. وإذا كان رائد الرياضيات الأندلسية هو أبو القاسم مسلمة بن أحمد المجريط المعروف بمسلمة المجريطي (وقيل إن المجريطي = المدريدي) (950-1007م) والذي يلقب بإقليدس الأندلس، فإن المجريطي أنجب تلاميذ كثيرين أنشئوا المدارس في قرطبة. من أهمهم الكرماني وهو (أبو الحكم عمرو بن عبد الرحمن بن احمد بن علي الكرماني)، قيل عنه إنه أعلم علماء زمانه بالهندسة، وأيضا ابن الصفار، وهو أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عمر الشهير بابن الصفار، وكان متحققا بعلم العدد والهندسة والنجوم وله زيج مختصر وكتاب في (العمل بالأسطرلاب) ويقول عنه صاعد الأندلسي: إنه موجز حسن العبارة قريب المأخذ، وله تلاميذ كثيرون اشتهروا بالفضل والعلم. وكذلك كان كل عالم رياضة مبرز في قرطبة له تلاميذ، حتى اشتهرت قرطبة بمدارسها الرياضية وأخرجت جحافل من علماء الرياضة العربية. نذكر منهم في القرن العاشر الميلادي: ابن السمينة البصير بالحساب، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد الذي اشتهر في الحساب والمنطق، وابن شهر، وابن البرغوث الذي يعد من أشهر تلاميذ ابن الصفار، ومنهم أيضا محمد بن خيرة العطار أبرز معلمي الهندسة والعدد بقرطبة آنذاك. هذا فضلا عن التالين في القرن الحادي عشر من أمثال التجيبي المعروف بالقويدس، وابن حي
5 ... ولن ننتهي من حصرهم؛ خصوصا وأنها أنجبت أضعافا مضاعفة في القرن التالي - القرن الثاني عشر - وهو قرن أديلارد الباثي
Adelard of Bath . •••
وها هنا يتبدى دور أديلارد الباثي الذي استقطب هذا الزخم الصادر عن قرطبة، وهو ليس راهبا كما يظن، ويعد من أهم الشخصيات الرياضية في أوروبا إبان القرن الثاني عشر؛ وذلك لأنه في طليعة المترجمين الذين تكفلوا بنقل الرياضيات العربية إلى اللاتينية.
لم يكن أديلارد مترجما فحسب، بل كان أيضا عالما وفيلسوفا. جهوده المبكرة في الحساب ظهرت في عمل عنوانه
Bilinmeyen sayfa
Regula abaei
ليس له قيمة كبيرة؛ لأنه تكرار لجهود بؤثيوس
Boethius (480-524م) وجيلبرت. على العموم انكب بعد هذا على الرياضيات العربية ليبدأ في اتخاذ دوره على مسرح الفكر
6
وتاريخ العرفان، والذي يتركز في نقله إياها إلى اللغة اللاتينية.
فقد كان أديلارد صاحب أول ترجمة متكاملة في تاريخ العلم الأوروبي لصرح الرياضيات القديمة الأعظم: أصول الهندسة لإقليدس. كان بؤثيوس قد سبق أن ترجم أشتاتا منه، أما أديلارد فقد ثابر حتى طرح بمفرده ترجمة متكاملة لأجزائه الخمسة عشر، وكما هي مطروحة في الأصل العربي، على الرغم من أن الجزءين الرابع عشر والخامس عشر في هذا الأصل ليست من وضع إقليدس نفسه، بل شروح وإضافات لاحقة.
وكانت هذه الترجمة العربية قد بدأت حين أمر بذلك جعفر البرمكي، إبان العصر الذهبي للعلم والحضارة الإسلامية الذي صنعته بغداد، وكان «الأصول» أول ما ترجم من كتب الإغريق، وقد ترجم من اليونانية إلى السريانية في مدارس الإسكندرية، ولأول مرة ترجم الحجاج بن يوسف بعض كتبها عن السريانية إلى العربية في بدايات القرن التاسع الميلادي من أجل الخليفة هارون الرشيد، ثم راجع ترجمته من أجل الخليفة المأمون، وبصفة عامة يقترن اسم الحجاج الرائد بالترجمات الأساسية للأصول، والتي اعتمد عليها أديلارد ، ولكن على مدار عهدي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما، عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبة من ألمع المترجمين والرياضيين. منهم أشهر المترجمين إسحق بن حنين، وراجع ترجمته ثابت بن قرة الحراني الصابئي (ت 221ه/835م)، وقد أتقن ثابت السريانية واليونانية والعبرية، وكان جيد النقل إلى العربية، حتى عده جورج سارتون من أعظم المترجمين، فضلا عن أنه من أعظم الرياضيين في عصره. كما قام سهل بن رابان الطبري - وهو يهودي من أهل مرو التي كانت إحدى مراكز الثقافة الإغريقية في فارس بعد غزو الإسكندر لها - بترجمة أجزاء أخرى، وقام الحجاج بن يوسف بمراجعة ترجمات سهل، كما راجعها فيما بعد محمد بن جابر بن سنان البتاني عام 929م، كما سبق أن راجع قسطا بن لوقا البعلبكي في عام 912 الترجمة الأصلية التي قام بها الحجاج، وفي نفس هذا الوقت كان سعيد الدمشقي قد ترجم أجزاء أخرى من الأصول
7 ...
بمثل هذه الجهود الجبارة صنعت بغداد صرح أصول الهندسة لإقليدس، وهو هيكل الرياضيات القديمة وعمادها وعمودها وعمدتها، والذي أهداه أديلارد إلى الحضارة الغربية. ليكون فاتحة عهدها بالنهضة الرياضية وبالتالي العلمية، وقد اعتمدت أوروبا على ترجمة أديلارد طوال القرون الأربعة التالية - وهي التي شهدت نشأة العلم الحديث، حتى تم اكتشاف الأصل الإغريقي فيما بعد.
كان أديلارد أيضا شديد الاهتمام بالفلك، ألف كتابا في «الأسطرلاب» أهداه إلى هنري الأصغر - وهو إهداء يفيد علاقاته الوطيدة بالبلاط الملكي - وفي كتاباته إشارات عديدة لها، كما يفيد تأليف هذا العمل بين عامي (1142-1146). بصفة عامة كان أوج نشاط أديلارد بين عامي (1136-1154).
Bilinmeyen sayfa
وأيضا ليس لهذا الكتاب قيمة كبيرة، قيمة أديلارد الفلكية تتركز هي الأخرى في ترجمته للأعمال العربية الفلكية. فقد أعطى الدارسين اللاتين أول مثال متكامل للبحث في علم الفلك القديم حين ترجم ملخصات أبي معشر الفلكي. كما ترجم أعمالا فلكية لثابت بن قرة. على أن أهم ما ترجمه هو الجداول الفلكية للخوارزمي، والتي كان مسلمة المجريطي قد راجعها، وبالترجمة العربية قدم أديلارد للاتين الصورة المتكاملة للتقاويم والجداول والأزياج الفلكية، كما كانت مطروحة في القرن العاشر، وهي خلاصة هندية - إغريقية - عربية.
8
وأيضا كان أديلارد عالما طبيعيا، وذا عقلية علمية. كتابه «المباحث الطبيعية»
Quaestiones Naturales
يؤكد ميلا قويا لمناقشة العلية الطبيعية المباشرة، بدلا من تفسير الظواهر الطبيعية بالقوى الفائقة للطبيعة، ويعكس اتجاها تجريبيا واضحا يرى أن العقل غير كاف لحل مشاكل الكون، ولا بد من الملاحظة والقياس، ومن الظواهر التجريبية التي جذبت الاهتمام التجريبي لأديلارد، مسلك الماء المنحبس في إناء مقلوب دون أن يسيل خارج الإناء إلى أن يدخل الهواء من الفتحة السفلية، ومرة أخرى أبحاثه التجريبية وفي العلوم الطبيعية لا تساوي كثيرا، فحتى في بحثه لهذه الظاهرة لم ينج من الأفكار السحرية، أما العناصر ذات القيمة العلمية فهي تشابه مثيلتها في أبحاث هيرو السكندري المشروحة بكتابه
الذي ترجم عن العربية في القرن الثاني عشر.
9
وشبيه بهذا حال إسهاماته القليلة في الطب.
لكن لا نستطيع إنكار أنه تمتع بعقلية ذات مبادئ وأصول علمية متينة، تكشف عنها محاوراته مع ابن أخيه لتلقينه إياها، والتي نشرت؛ حيث نجد أديلارد ينتصر للبحث العلمي والعقلانية، ويحارب السلطة والدوجماطيقية، ويهاجم الاعتماد الكلي على المراجع، ويقول في هذا: «تعلمت عن أستاذي العربي أن أزن كل شيء بميزان العقل، وإذا أردت أن تسمع مني أكثر من ذلك فناقشني بالعقل؛ لأني لست من الرجال الذين يجرون وراء الخيال.» ... «ومن ذا الذي يستطيع إدراك مدى السماء بمجرد النظر؟ ومن ذا الذي يستطيع تمييز الذرات الدقيقة بالعين المجردة؟» ويقول ثورندايك: «إن مثل هذه الأسئلة تعبر عن الحاجة للمنظار المقرب، وتدل على أن الظروف لاختراعه كانت في طريق النضج.» ويقرر أديلارد مبدأ عدم فناء المادة، فيقول: «من المؤكد في نظري أن لا شيء يفنى كلية في هذا العالم الحسي، أو أنه أقل اليوم مما كان عليه يوم أن خلق، وإذا ما ذاب جزء في مادة ما فإنه لا يفنى، وإنما يتحد مع مادة أخرى.»
10
Bilinmeyen sayfa
وأخيرا، كان أديلارد فيلسوفا محترفا، ألف كتاب «الهوية والاختلاف»
De eodem et diverso - وهو نفس العنوان الذي اتخذه هيدجر عنوانا لأحد مؤلفاته - يعالج فيه أديلارد مشكلة الكليات التي عادت للظهور؛ أي حقيقية وجود الكيانات التي تدل عليها الأسماء الكلية، وقد انشغلت بها العصور الوسطى انشغالا جما. فتناول أديلارد في بحثها الصلة بين الأفراد من ناحية، والأجناس من ناحية أخرى، وانتهى إلى أن الأجناس والأنواع كليات لا تتأثر بالخصائص الفردية.
11
ومع كل هذا، يظل أديلارد - أولا وقبل كل شيء - مترجما للرياضيات العربية، ولن توليه اهتماما كبيرا إلا الجهات والمصادر والمراجع التي تتعرض لهذا الموضوع.
12
ولكن لنلاحظ أن أديلارد تعلم العربية في صقلية جنوبي إيطاليا، وقام منذ فجر شبابه بأسفار واسعة لطلب العلم. مثبوت منها أن أولها كانت إلى فرنسا؛ حيث درس في طوروز ودرس في ليون، وبعد أن غارد ليون قام برحلة استغرقت سبع سنوات، زار فيها صقلية وسوريا وربما فلسطين. يهمنا الآن أن زيارته لإسبانيا ليست مثبوتة تاريخيا!
ومع هذا لا يمكن تناول أعماله بغير التراث الأندلسي ومقتنيات مكتبة قرطبة، وهذه مصادرة ملزمة للباحثين، حتى مثلت مشكلة لا بد لمؤرخي العلم أن يضعوا حلا لها. ذهب بعضهم أن أديلارد استغل إتقانه للغة العربية وذهب إلى قرطبة - وبالتحديد عام 1120م - متخفيا في شخصية طالب علم مسلم؛ ليستطيع التوغل في دهاليز مدارسها.
13
وذهب البعض الآخر أنه اعتمد على المستعربين
Mos Mozarabes
Bilinmeyen sayfa
الذين يعدون من أهم العناصر التي عملت على نقل حضارة الأندلس، وثقافتها إلى أوروبا، والمستعربون هم النصارى واليهود الذين كانوا يمارسون في الأندلس أشغالا عملية وعلمية مختلفة، وكانوا يستعملون العربية في مخاطباتهم ومعاملاتهم، ويتعلمون آدابها وعلومها إلى حد أن البرو القرطبي تحسر على الإفراط في ذلك.
14
ويبدو هذا الاحتمال هو الأرجح، بل ويمكن تحديد أسماء المستعربين الذين حصل أديلارد منهم على النصوص القرطبية، وهما: بطرس ألفونسو
، ويوحنا أكريتوس
J. Ocreatus .
وسواء أكان أي من الاحتمالين هو الصحيح، فإن الذي يهمنا الآن هو أن ننتهي معا إلى أنه لا يمكن فهم دور أديلارد في نقل الرياضيات العربية من مركز توهجها - بغداد - إلى أوروبا والحضارة الغربية، وبالتالي إلى حركة العلم الحديث، بدون المصادرة على الحضارة الأندلسية، ومدرسة قرطبة بالذات.
على أن هذه مصادرة من ماضي العلم، وما زلنا حتى الآن هناك في ماضيه، نريد أن نعود الآن إلى زخم الحضارة في خواتيم القرن العشرين، وما أنجزه العلم طوال ذلك المدى من إنجازات طبقت الخافقين ... نعود إلى الحاضر؛ بل والمستقبل، لنلحق تلك المصادرة من ماضي العلم بمصادرة من حاضر العلم ومستقبله، عسى أن يكون تناولنا لتاريخ العلم مجديا أكثر. •••
فلما كان العلم الحديث هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حياة البشر؛ حيث يكاد يكون المنشط الإنساني الوحيد الذي يمثل - من أية وجهة أو زاوية للنظر - متصلا صاعدا، كل يوم أفضل من أمسه، فإن التفكير العلمي في صلبه تفكير مستقبلي، ومن هذا المنطلق المستقبلي تتأتى البحوث الدءوبة في فلسفة العلم، التي يمكن اعتبارها الوجه الآخر لتاريخ العلم. بعبارة أخرى: نحن نبحث في تاريخ العلم - في ماضيه - من أجل استشراف أفضل لمستقبله، لإمكانياته.
على هذا الأساس المستقبلي لا بد تأكيد أن كل تفكير في فلسفة العلم وتاريخه عقيم غير مجد، ما لم يتم في ضوء ثورة العلم المعاصر التي تفجرت مع مطالع القرن العشرين لتقلب مثاليات العلم وأصوليات منهجه رأسا على عقب، فتفتح أمام العلم إمكانيات جعلت تقدمه يكاد يسير بمتوالية هندسية بعد أن كان يسير بمتوالية عددية، فأمكن اعتبارها أعظم ثورة أنجزها الإنسان، وتحت وطأتها ارتجت وتقوضت دعائم عرش نيوتن، وبعد أن ساد الاعتقاد بأن نيوتن اكتشف حقيقة هذا الكون وانضبطت منظومة التفكير العلمي على هذا الأساس، أدركنا - بفضل هذه الثورة - أن نظرية نيوتن مجرد محاولة جبارة وناجحة في حدودها - فقط حدودها القاصرة دون عالم الذرة والإشعاع - لا سيما بعد أن تفتتت الذرة إلى جسيمات، ثم تفتتت الجسيمات - أخيرا - إلى كواركات
Quark
Bilinmeyen sayfa
فانقشع وهم اليقين والضرورة، وأدركنا أن كل نظرية علمية مهما كانت عظيمة هي مجرد محاولة ناجحة، تفتح الطريق أمام محاولة أخرى أنجح وأكفأ، ولن تصل نظرية إلى سدرة المنتهى، ولن تختم مسار البحث العلمي الذي سيظل مفتوحا إلى أبد الآبدين أمام محاولات أنجح وتقدم أعلى.
ولئن كانت هذه الثورة العظمى قد تمت بفضل نظريتي النسبية والكوانتم اللتين هما نظريتا الفيزياء البحتة، فإن الرياضيات المتربعة على عرش النسق العلمي لا تبقى في عليائها بمنجاة عن مد هذه الثورة؛ ليس فقط لأن الحدود تتماوه في منطقة ما بين الفيزياء البحتة والرياضيات، كما تتماوه الحدود بين النار ومجمرها، ولكن أيضا لأن هذه الثورة العظمى قد بوركت بانضمام فيالق الرياضيات البحتة إلى ركابها الثائر. أولا: باستقامة عود - أو بالأحرى نسق - الهندسات اللاإقليدية، وبعد أن كان يظن أن إقليدس قد اكتشف الحقيقة الهندسية للكون، وأن الله تعالى خلقه بموجب الهندسة الإقليدية، أدركنا أن هندسة إقليدس مجرد بناء منطقي بارع، لا سيما بعد أن اتخذ أينشتين من هندسة ريمان هندسة تطبيقية للواقع الفيزيائي. فلحق إقليدس بمصير نيوتن، وثانيا: بإثبات الخاصة التحليلية للقضايا الرياضية. بمعنى أنها جميعا دوال منطقية لها الصورة «أ هي أ»، ولا شأن لها بالإخبار عن الواقع، ولا تحمل فتوى جديدة عنه. فانتهينا إلى أن الرياضيات علم صوري، يعني بصورة التفكير دونا عن مضمونه أو محتواه أو فحواه، الذي هو من شأن العلوم التجريبية.
15
والآن، في تناولنا لأطروحة من أطروحات تاريخ العلم، ما الذي نستفيده على وجه التحديد والتعيين الدقيق من هذه الثورة العلمية العظمى؟ خصوصا وأن دروسها وعبراتها لا أول لها ولا آخر. يهمنا أن الصورة الكلاسيكية التي استمرت حتى نهايات القرن التاسع عشر عن العلم بوصفه بناء مشيدا من حقائق قاطعة اندثرت تماما، وأصبح العلم نسقا من فروض ناجحة. صلب هذه النسقية صميم خصائصها المنطقية تعني التقدم المتوالي والصيرورة المستمرة. العلوم التجريبية تمثيل عيني لهذا.
16
ورب قائل: «إن الرياضيات - بحكم خاصيتها التحليلية - تتمتع بثبات منطقي مطلق فوق حدود الزمان والمكان.» بمعنى أن القضية الرياضية - إن صحت - فهي صادقة دائما وأبدا مهما استجدت خبرات ووقائع جديدة؛ لأنها لا شأن لها أصلا بالواقع والوقائع، وهذا صحيح. القضية الرياضية في حد ذاتها - بخلاف القضية الإخبارية التجريبية - ثابتة، ولكن العلم الرياضي - الذي كان وسيزال يستقطب أحد العقول وأكثرها صلابة ومثابرة - لا يقف في مساره وفي صيرورته ... في تاريخه بمعزل عن مقولة التطور والتقدم، إن لم تكن الرياضيات بحكم طبيعتها الدقيقة الصارمة أكثر من غيرها تجسيدا للتقدم والإنجاز التطوري الممنهج المقنن، فنجد إشكاليات رياضية أعيت أعاظم العقول في الأزمنة الغابرة، وأفردوا لحلها المجلدات الضخمة، أمكن - فيما بعد بحكم التقدم والتطور - حلها بمعادلة أو اثنتين. •••
وأيا كانت الأهداف والمرامي، فلكي تثمر الجهود المبذولة، لا مندوحة عن وضع هذا الطابع التقدمي في الاعتبار، وإذا كنا نهدف - صراحة - إلى إثبات دور الحضارة العربية الإسلامية في خلق قصة العلم المثيرة الرائعة، تفنيدا لخرافة راجت رواجا، ولم ينج منها نفر من أخلص مفكرينا، مؤداها أن العلم على العموم ثم الرياضي والفيزيائي منه على الخصوص نبتة الحضارة الحديثة وصناعة غربية خالصة، فإن ذلك الهدف أو هذا التفنيد يكتسب أهمية قصوى في مرحلتنا الراهنة لسبب ذاتي هو مواجهة الهيمنة الغربية التي تصاعدت أخيرا، وهدف موضوعي هو الفهم السليم لمسار العلم الذي تعاقبت على خلق فصوله الحضارات المختلفة، وجلو حقيقته بوصفه ميراث الإنسانية جمعاء وإمكانية للعقل البشري من حيث هو بشري.
وفي محاولات تحقيق هذا الهدف، وبوضع الطابع التقدمي للعلم في الاعتبار، يتبدى لنا عقم الجهود التي تحاول تحقيقه بالوقوع في لجنة منطوق النظريات، فتستنفد الجهد في البحث عن تشابه ما بين منطوق نظرية حديثة وقول قديم لأحد أسلافنا ... لا بد من تجاوز هذا وإثبات الذات في صلب الحركية والصيرورة وتوالي حلقات قصة العلم وانتقاله من مرحلة لأخرى. هذه الصيرورة لها بعد منطقي خالص هو أصوليات المبادئ المنهجية التي هي القوة المثمرة الولود من وراء كل تغير، ولكن لها بعد آخر متعين، هو البعد التاريخي الذي يجسد مسار هذه الحركية، ويقع في مجاله موضوع هذه الورقة.
إن البعد التاريخي - موضوعنا - لا بد وأن يضع في اعتباره الظروف الحضارية للمرحلة المتعينة، وقبل ثورة وسائل الاتصال المعاصرة لم يكن البعد التاريخي ينفصل عن البعد الجغرافي، في تاريخ العلم وفي تاريخ سواه. بمعنى أن الموقع الجغرافي كان يحدد الدور التاريخي - كما أشرنا بشأن قرطبة - وبالمثل استطاعت بغداد أن تكون عاصمة المجد الإسلامي والعربي ، وأن يتحول الإسلام فيها من عقيدة وشريعة أو حتى نظام دولة إلى مرحلة حضارية خفاقة، بسبب موقعها الفريد على نهر دجلة. يهمنا الآن أن منه إلى شط العرب ثم الخليج العربي نصل إلى الهند التي أهدت البشرية أصول الحساب، وأعظم العطايا طرا رموز الأرقام الهندية والغبارية التي وصلت إلى أوروبا بفضل العرب، أو بفضل ليوناردو فيبوناسي
Fibonnaci
Bilinmeyen sayfa
الذي تعلم العربية، فأحدث القفزة الكبرى للعلم الأوروبي بنقل الأعداد الهندية ثم الجبر الإسلامي. لقد استقدم الخليفة المنصور العالم الهندي كنكة، وأمر بترجمة «مقالة الأفلاك» أو «السدهانت» التي وضعها «براهما جويت» وعرفها العرب باسم «السندهند» وعرفوا معها أصول الرياضيات، لتبدأ في بغداد مرحلة هامة من تاريخ الرياضيات، وبفعل عوامل عديدة - بينتها تفصيلا في بحث سابق لي
17 - عوامل بعضها يعود إلى طبيعة حركة العلم آنذاك، وبعضها يعود إلى طبيعة الحضارة الإسلامية وخصوصياتها، وطبيعة العقلية العربية الناهضة المتوثبة آنذاك، شهدت بغداد نهضة عظمى في الرياضيات واهتماما متزايدا بها وإضافات جمة لها، وجحافل من عمالقتها نخص منهم بالذكر: الخوارزمي، ثم نصير الدين الطوسي، وإن كان وضع علم الجبر بعدا واحدا من أبعاد هذه المرحلة، وانتصاب هيكل أصول الهندسة لإقليدس في بغداد - كما سبق أن أوضحنا - هو الآخر من أهم أبعاد هذه المرحلة الدافقة الخلاقة.
وكان من الضروري أن تنتقل تأثيرات الحضارة الإسلامية والميراث العربي إلى أوروبا لتبدأ الحلقة التالية في صيرورة التقدم ... تبدأ مرحلة النهضة، ثم مرحلة حضارية جديدة ... أو حديثة، تتيه على سائر المراحل بنشأة نسق العلم الحديث، الذي تعملق لما تسلح بالرياضيات، وطبيعي أن الرياضيات التي توهجت في بغداد كانت مقدمة ضرورية لهذا، وقد انتقلت إلى أوروبا بفعل عوامل عديدة، لعل أقواها الحملات الصليبية، وعبر مراكز عديدة، منها: صقلية وجنوب إيطاليا. لكن الأندلس كانت حالة فريدة في تاريخ الإسلام «لأنها الحالة الوحيدة التي تمثل قيام حضارة متمايزة هي مزيج من ثقافة الإسلام والثقافة الوطنية التقليدية الأصيلة، وازدهار تلك الحضارات ازدهارا هائلا، بحيث تركت بصماتها على كل التاريخ الإسلامي، بل والعالمي.»
18
فقد قامت الأندلس بالدور الأكبر والباع الأعظم في نقل التراث والعلوم العربية، يهمنا منها الآن نقل الرياضيات العربية. ذلك لسببين متعضونين، وهما مرة أخرى: السبب التاريخي والسبب الجغرافي، ولنتحدث أولا عن السبب التاريخي.
أجل، كان لبغداد - وبغير منازع - النصيب الأكبر من إنجازات الحضارة الإسلامية وإبداعات العقل العربي، وظلت حتى القرن العاشر مركزا لا منافس له. لكن خبا وهجها خلال سيادة الدولة البويهية (945-1055م) التي جعلت العاصمة في فارس، وراحت تشارك بغداد - من ناحية الشرق - القاهرة وشيراز وغزنة، ومن ناحية الغرب قرطبة. على الإجمال خبا وهج الحضارة وجذوة الإبداع في الشرق، قبل أن يخبو في المغرب الإسلامي الذي تتربع قرطبة على عرش العلم فيه، وكادت الأندلس أن تنفرد بالميدان في الرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم والطب، إبان القرن الثاني عشر - قرن ابن رشد وأديلارد الباثي - والذي أنجبت فيه الأندلس أكثر من نصف مناطقة القرن ورياضييه،
19
حتى قيل: «إن القرن الثاني عشر من نصيب إسبانيا الإسلامية.»
20
لقد أصبحت راية بغداد في الأندلس، ومركز العلم فيها قرطبة.
Bilinmeyen sayfa
وكان المسلمون قد أخذوا معهم إلى الأندلس الفنون الهندسية الزراعية، وقاموا ببناء مشروعات الري، فعلموا الأوروبيين أصول الهيدروليكا، وكما أوضحنا بالتفصيل جعلوا من قرطبة أهم مركز ثقافي متطور في أوروبا حينذاك، وأهم مراكز الدرس الرياضي، وكما ذكرنا لم ينته مجد قرطبة العلمي حين انتهى مجدها السياسي، وعن طريق قرطبة وجنوب إسبانيا، أخذ المجتمع الإقطاعي الناشئ في أوروبا ينهل من ينابيع العلم الإغريقي والعربي، وكما يؤكد مؤرخ العلم الثقة ج. كروثر، كان ما أخذته أوروبا من هذا المنفذ يفوق بما لا يضاهى كل ما أخذوه عن طريق الحروب الصليبية،
21
فقد استمر هذا المنفذ بقرطبة وجنوب الأندلس في عطائه حاملا خلاصة المد العقلي العربي، حتى بعد أن خبت الحضارة في المشرق، وبفضل هذا التواصل التاريخي والاستمرارية التاريخية كانت مراكز العلم والمدارس الإسلامية في الأندلس - وبالتحديد في قرطبة - أكثر حيوية وفعالية، وأعمق تأثيرا منها في أية مراكز أخرى انتقلت العلوم والرياضيات عن طريقها من بغداد إلى أوروبا.
أما عن العامل الجغرافي، فلا يتمثل فقط أو أساسا في موقع الأندلس بالنسبة للعالم الغربي على حافة أوروبا، وفي الطريق إلى أمريكا، بل أيضا والأهم في موقع الأندلس الفريد - ودونا عن سائر مراكز انتقال العلم العربي إلى أوروبا - بين مواطن حركة العلم الحديث، وبعد أن هجرت هذه الحركة إيطاليا التي احتضنت عبقرية أهل الشمال المتبربرين نسبيا، وكان جاليليو آخر الإيطاليين العظام، وتربعت هذه الحركة في غرب أوروبا لتتألق بصفة خاصة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ولأن الأندلس تتوسط هذه المواقع، فنجد توالي تأثير سهولة انتقال الرياضيات منها، لا سيما إلى إنجلترا؛ حيث بلغت الفيزياء الرياضية أوج نضجها كمحصلة لاستمرارية تاريخية ساهمت فيها عوامل جغرافية ... يسرت لأديلارد الباثي أن يقوم بالدور الذي عرضناه، مثلما يسرت لأقرانه من أمثال روبرت الشستري
Robert of Chestor
وجيرار الكريموني، أن ينكبوا هم أيضا وآخرون على ترجمة نصوص الرياضيات العربية، فتحدث الانطلاقة للعقل الرياضي الغربي، وبالتالي حركة العلم الحديث. •••
بعبارة موجزة تجمل كل ما سبق ... يمكننا القول: إن خطورة جهود أديلارد الباثي في نقل الرياضيات العربية من بغداد إلى غرب أوروبا وحركة العلم الحديث، تمثيل عيني لقضية محورية مؤداها أن موقع الأندلس التاريخي الفريد في الحضارة العربية وموقعها الجغرافي الفريد في الحضارة الغربية خولا لها ولمركزها العلمي - قرطبة - دورا فريدا في انتقال حركية وتقدم العلوم الرياضية من بغداد إلى الحضارة الأوروبية، وهو دور يستحق أن نكرس له بحوثا دءوبة تغوص في تفصيلات الوقائع والأحداث التاريخية والمدارس والمراكز العلمية، وسيرورة نصوص العلوم الرياضية، شريطة أن نستفيد قبلا من تطورات العلم المعاصر في تحديد الجوهري الهام الحقيق بالاهتمام في دراستنا لتاريخ العلم.
المبحث الثاني
الأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في التراث العربي1
علم الطبيعة دائما ذو موقع استراتيجي، موضوعه هو مجمل حلبة عالم العلم التي تصب فيها شتى فروع العلم، فيتربع العلم الفيزيوكيماوي على صدر نسق العلم الحديث، كجسده وجذعه وإنجازه الأعظم بغض النظر عن تقاناته التي شقت أجواز الفضاء، حقيقة لا مجازا.
Bilinmeyen sayfa
وفلسفة الطبيعة هي السلف المباشر للعلم الفيزيوكيماوي الحديث، وأي تفهم لأصوله في العصور القديمة والوسيطة، يستدعي تفهما للأصول الفلسفية لتصور الطبيعة في إطار الحضارة المعنية ومجمل بنيتها المعرفية.
وبالنسبة للتراث العربي، فقد أتى في جملته - ككل وكفروع - كنتيجة لمعلول محدد هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثها نزول الوحي وظهور الإسلام في المجتمع البدوي القبلي.
وقد كان علم الكلام هو أول دائرة معرفية ترسمت حول الوحي إنه نبتة أصيلة نشأ قبل عصر الترجمة - قبل التأثر بالفلسفة اليونانية - كأول محاولة لتجاوز النص الديني وإعمال العقل البشري في تفهمه وإثبات مضامينه. فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانية العربية الإسلامية»، أو أنه - كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرازق - الفلسفة الإسلامية الشاملة حتى لعلم أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.
ومن ثم فعلى الرغم من أن منظور عصرنا يبدي سلبيات جمة في علم الكلام، تفرضها المهام المنوطة به في إطار الحدود الحضارية والقصورات المعرفية لذلك العصر البعيد، فإنه تبقى إيجابية علم الكلام العظمى في أنه تشكل للعقل العربي الصميم، والحق أنه لم يكن إلا ممارسة للتفكير الفلسفي في القضايا التي أثارها نزول الوحي في المجتمع العربي، اتخذت شكل البحث في العقائد؛ لأنه الشكل الأيديولوجي المتفاعل والمثير للقضايا الفكرية.
2
لقد كان بمثابة الفلسفة الإسلامية الخاصة التي شقت الطريق ومهدته للفلسفة الإسلامية العامة أو الحكمة.
فلئن كان كل من الكلام والفلسفة طريقا مستقلا نسبيا في سياق الحضارة الإسلامية، فإن الحدود بينهما مموهة إلى حد ما. لقد استفاد علم الكلام كثيرا في مراحله المتأخرة من أتون التفلسف العقلاني - من المنطق - فكان ينمو ويتطور، ينضج ... ينضج، فنضج حتى احترق - كما يقول الأقدمون
3 - وتنبعث من رماده عنقاء الفلسفة. «ومن القرن السادس الهجري حتى القرن الثامن أصبحت موضوعات علم الكلام هي نفسها موضوعات الفلسفة»
4
ولا شك أن المعتزلة لهم دور خاص في توجيه الفكر الكلامي الإسلامي إلى طريق يؤدي في النهاية إلى التفلسف الذي عاش طور الحضانة تحت جناحيهم - بتعبير حسين مروة - وقد أسهب ابن خلدون - على الرغم من أشعريته - في إيضاح هذه القضية والمجرى الذي شقه المعتزلة بين الكلام والفلسفة.
Bilinmeyen sayfa
فلم تكن الفلسفة إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن استوفى نضجه، لتمثل دائرة أو مرحلة فكرية أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي، أصبح الفكر والواقع مهيئين لها، وكانت الفلسفة أكثر اتصالا بسيرورة العقل البشري، وفي حل عن التمثيل الأيديولوجي الصريح ... وإن كانت بالطبع لن تتحلل من روابطها به، فتميزت عن الكلام بأنها أولا: انطلقت من المفاهيم والمضمون الفكري؛ لا من القضايا المثارة في المجتمع/النص بصورة مباشرة، وثانيا: لم تتخذ من عقائد الدين مسلمة أو قاعدة مباشرة للبحث.
5 •••
خلاصة ما سبق أن نتوقف عند الأصول الفلسفية لتصور الطبيعية في التراث العربي كما تشكلت على أيدي المتكلمين، ثم نتتبع نمو الأصول على أيدي الفلاسفة؛ لنصل إليها مع أولئك الطبائعيين الذين نتفق على أنهم العلماء العرب القدامى. •••
وعلى خلاف الظن الشائع، احتلت الطبيعيات في علم الكلام مكانا فسيحا في صدر المسرح الفكري، ولئن لم تكن الطبيعة من المشكلات الكبرى أو العناوين التقليدية للمصنفات الكلامية، فإنها منبثة في كل هذا، حتى شهدت مع المتكلمين زخما وثراء.
وكما أشار دي بور، غلب النظر في الطبيعة على المعتزلة الأولين، حتى إن عمرو الجاحظ (+ 255ه) - وهو من رواد النزعة الطبيعية في علم الكلام الاعتزالي، ومن المعالم البارزة في تاريخ الثقافة العربية - لم يفته التأكيد على أن العالم الحق يجب أن يضم إلى دراسة الكلام دراسة العالم الطبيعي، وكان هو نفسه يصف دائما أفاعيل الطبيعة.
6
فالطبيعيات هي العالم، أو كما قال الجويني إمام الحرمين: هي كل موجود سوى الله تعالى
7
وملكوته وملائكته، هي عالم الشهادة. بتعبير معاصر هي الكون الفيزيقي، وبتعبير المتكلمين هي اللطائف.
وثمة أسلوبان لتناول علم الكلام، إما النظر إليه كفرق، وإما النظر إليه كموضوعات.
Bilinmeyen sayfa
8
بهذا الأخير يمكن تصنيف الموضوعات إلى ستة هي: «التوحيد، القدر، الإيمان، الوعيد، الإمامة، ثم اللطائف؛ أي الطبيعيات.» الإلهيات (العقليات) تشمل التوحيد والقدر، والسمعيات (النقليات) تشمل الإيمان والوعيد والإمامة. أما اللطائف - أي الطبيعيات - فموضوعها الجسم والحركة والمادة في الزمان والمكان؛ أي العالم الفيزيقي، عالم العلم الطبيعي. وقد كانت الطبيعيات لطائف - كما أوضح عابد الجابري - لأنها «دقيق الكلام» الذي هو مجال العقل وحده، مقابل «جليل الكلام»؛ أي العقائد التي يفزع فيها إلى كتاب الله.
على هذا الأساس انشغل المتكلمون الرواد - كما أشرنا - باللطائف، فكانت بداية اشتباك العقل الإسلامي بالعالم الفيزيقي، وبداية التفكير في الطبيعة، إنه بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني المهيمن، مما يسهم في تفسير زخم الدفع العلمي الذي جعل الحضارة الإسلامية تنفسح للحركة العلمية وتحمل لواءها طوال العصور الوسطى، ولماذا كانت العلوم عند العرب تتدفق في إطار الأيديولوجيا السائدة وتحت رعاية ومباركة السلطة الحاكمة، وليس ضدها بالمواجهة والصراع الدامي معها كما كان الحال بالنسبة للعلم الحديث في أوروبا.
وسوف يفسر لنا أيضا لماذا كان العلم العربي معلولا ومفعولا، وليس علة فاعلة في تشكيل البنية المعرفية الإسلامية، ولماذا استنفد ذلك الدفع ذاته، وبلغت الحركة العلمية الثرية الدافقة طريقا مسدودا، ولم يقدر له التواصل والنماء في العصر الحديث، بل أسلم الحصيلة والراية إلى أوروبا لتقوم بهذا الدور.
فقد انحل العالم الطبيعي على أيدي المتكلمين إلى جواهر وأعراض مأخوذة من المذهب الذري القديم.
9
وأصبحت الجواهر والأعراض هي الأنطولوجيا الكلامية أو أساس تصورهم للطبيعة.
10
فعن طريقهما أثبت المتكلمون هدفهم، وهو أن العالم متغير - لتوالي الأعراض عليه - وبالتالي حادث، أي مخلوق لله.
دليل الحدوث: أي كون العالم الحادث المخلوق دليلا على وجود الله وقدرته وعلم الشاملين وحكمته وحياته. ذلك ما سلم به المتكلمون، بل المسلمون جميعا.
Bilinmeyen sayfa
فلم يكن العالم بالنسبة للمتكلمين إلا علامة على وجود الله، على ما وراءه. «إنما سمي العلم علما؛ لأنه أمارة منصوبة على وجود صاحب العلم. فكذلك العالم بجواهره وأعراضه وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى.»
11
كلمة «عالم» مشتقة أصلا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحس: العلام؛ أي الحناء لما يترك من أثر باللون، والعلامة ما تترك في الشيء مما يعرف به، ومن هذا العلم: لما يعرف به الشيء أو الشخص كعلم الطريق، وعلم الجيش «الراية»، وسمي الجبل علما لذلك، ومنه: علمت الشيء؛ أي عرفت علامته وما يميزه، ونقيضه الجهل، وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية في «العلم»
12
لم ترد لفظة «العالم» ولا لفظة الطبيعة في القرآن الكريم أبدا، وردت فقط في صيغة الجمع: العالمين - ربما على سبيل التأكيد - ثلاثا وسبعين مرة. هذا غير «العالمين بكسر اللام»، من العالم بالشيء التي وردت ثلاث مرات.
13
وكانت المشكلة المحورية للطبيعيات الكلامية هي العلاقة بين الله وبين العالمين أو العالم أو الطبيعة، والتي اتخذت مبدئيا شكل الإيجاد والخلق من العدم، إحداث المحدث: هذا العالم، وهذا ما يتبلور في دليل الحدوث، وبصرف النظر عن عبقرية اللغة التي تطابق بين العلم والعالم وتجعلهما من نفس المصدر نجد دليل الحدوث هو في جوهره قياس الغائب على الشاهد، وهو شكل من أشكال الاستدلال العلمي الإمبيريقي، إنه ينطلق من المحسوس إلى المعقول، فتمتد له خطوط في صلب التيار العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني، الذي جعل البحث في الطبيعة يغلب على المتكلمين الأوائل. لكن دليل الحدوث ذاته بتوغله في الدوائر المغلقة كان من العوامل التي أدت إلى انفصال علم الكلام عن البحث في الطبيعة بعد انتهاء عصور الازدهار، وإجهاض الفكر العلمي البازغ وإسقاطه من الحساب، وسيادة الفكر الديني وحده.
الدوائر المغلقة لدليل الحدوث تتمثل في أن الطبيعيات ليست إلا سلما للعقائد، خادمة للإلهيات وليس للإنسان، في حين أن الإنسان هو الذي يحيا في الطبيعة، وهو الذي يحتاج لترويضها وتطويعها. الطبيعيات ليست مطلوبة في حد ذاتها للتفهم والتفسير - كإشكالية إبستمولوجية - المطلوب فقط استخدامها كوجود أنطولوجي حدوثه يدلل على وجود الله.
ظل دليل الحدوث دائما إطار الطبيعيات الكلامية ككل وكأجزاء، مما جعل الإلهيات هي النهاية والغاية: مثلما كانت قبلا هي البداية والمنطلق وزخم الدفع، في دائرة مغلقة من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس. •••
وإذا تتبعنا مسار التراث العربي في تطوره إلى الفلسفة أو الحكمة، وجدنا الطبيعة ومباحثها عند الفلاسفة أكثر وضوحا وتميزا منها عند المتكلمين. فقد سلموا جميعا بأنها قسم من أقسام الحكمة الثلاثة: العقليات والطبيعيات والإلهيات.
Bilinmeyen sayfa
ثم تفرعت إلى فروعها عند كل منهم. أفردوا لها مصنفات أو رسائل أو فصولا. إنها أصبحت عنوانا للبحث وموضوعا محوريا للحديث.
ولئن ناقش نفر من أهل الاعتزال فكرة خلق القديم، فقد سلم المتكلمون جميعا - من أولهم لآخرهم - بأن العالم حادث. بدأ الفلاسفة بالتسليم بهذه القضية، لكن بوصفها محل نظر ومحتاجة لبرهان «الكندي».
14
وتحت تأثير فلسفة الإغريق الذين عجزوا تماما عن تصور الخلق من العدم، وتأكيد أرسطو أن العالم قديم غير مخلوق، راح فلاسفة الإسلام يتلمسون سبل التعامل مع أطر قضية حدوث العالم. لجئوا إلى الفيض
15
والصدور كبديل «الفارابي وإخوان الصفا وابن سينا»
16
ثم رفض ابن رشد هذا البديل، وأسرف في تبيان أن العلم قديم ومخلوق، في فلسفته الطبيعية الأنضج نسبيا من حيث إنها المركب الشامل في تلك الصيرورة الجدلية: محدثة/فيض/قديمة.
17
في كل هذه التوترات المتتالية، ظلت الطبيعية قابعة دائما في قلب الأنطولوجيا، المتجهة أولا وأخيرا نحو المتجه الإلهي ... نحو الثيولوجيا ... أي أنه لا فرق جوهريا بينها وبين الطبيعيات الكلامية. •••
Bilinmeyen sayfa