كلمة للمعرب
تقدمة الكتاب
روسيا القديمة
القيصر نقولا الثاني
ارتقاء روسيا
ابتداء أسرة رومانوف
بطرس الأكبر
الاحتفالات الشائقة
غبطة البطريرك الأنطاكي
كلمة للمعرب
Bilinmeyen sayfa
تقدمة الكتاب
روسيا القديمة
القيصر نقولا الثاني
ارتقاء روسيا
ابتداء أسرة رومانوف
بطرس الأكبر
الاحتفالات الشائقة
غبطة البطريرك الأنطاكي
تاريخ آل رومانوف
تاريخ آل رومانوف
Bilinmeyen sayfa
تأليف
سليم قبعين
تذكارا لمرور 300 عام على ملك أسرة رومانوف السعيد من 1613-1913.
كلمة للمعرب
عندما قامت الاحتفالات في عاصمة الروس، مدينة بطرسبرج، تذكارا لمرور ثلاثمائة عام على ملك آل رومانوف السعيد، طلب إلي كثيرون من مواطني الأفاضل أن أكتب لهم شيئا عن تلك الأسرة الكريمة، مع وصف الاحتفالات الباهرة التي أقيمت في جميع أنحاء روسيا، فلبيت الطلب (مع علمي الثابت بما سيكبدني من النفقات والمشاق)، وذلك للأسباب الآتية: (1)
أن أسرة رومانوف رفعت الإمبراطورية الروسية من حضيض الانحطاط إلى أوج العز والمجد، ورجال مثل هؤلاء جديرون بالمدح والإطراء وتخليد الذكر. (2)
لا يخفى على أي إنسان ما قامت به أسرة رومانوف من المساعدة للشرقيين عموما، والأورثوذكسيين خصوصا؛ فقد ساعدتهم في خلال قرون ثلاثة مساعدات مادية وأدبية.
فشادت لهم الكنائس، وأنشأت المدارس؛ لإرضاع أبنائهم لبان العلوم والآداب منذ نعومة أظفارهم، وقد انتشرت مدارسها في جميع أنحاء سوريا وفلسطين، وأقامت أيضا في كثير من البلاد المستوصفات الطبية لمعالجة الفقراء بلا مقابل؛ ابتغاء مرضاة الله جلت قدرته. (3)
كل من له أقل إلمام بأحوال فلسطين وسوريا، يعلم حق العلم أن الحكومة الروسية، التي يمثلها آل رومانوف، قد حافظت محافظة شديدة على المذهب الأورثوذكسي. (4)
أنجبت المدارس الروسية كثيرين من أبناء سوريا وفلسطين الأفاضل، الذين نفعوا وطنهم وأهلهم وذويهم بعلومهم وآدابهم وسعة معارفهم. (5)
Bilinmeyen sayfa
الإقرار بالفضل واجب، أقول ذلك لأن لروسيا فضلا عظيما علي؛ فقد تلقيت علومي في مدارسها بلا مقابل، ووجدت من أساتذتي الكرام كل معاملة حسنة، وإرشاداتهم ما زالت إلى اليوم قبسا لامعا يسدد خطواتي، ويرشدني إلى العيش الشريف والمبادئ القويمة في هذه الحياة، وفوق ذلك فقد تزوجت من سيدة روسية، أنجبت لي أولادا، هم بفضل تربيتها مثال الآداب والفضائل والنجاح. ومن كان مثلي معدما فلا يستطيع مكافأة أولئك المحسنين، اللهم إلا بالمحافظة على ما غرسوه في نفسي من المبادئ القويمة، وكلمة مدح أسوقها لهم كلما سنحت الفرصة، على قول القائل:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وبناء على ما تقدم، أقدمت على طبع هذا الكتاب من باب الإقرار بالفضل لذويه، وعلى الله الاتكال في كل حال.
كتبه
سليم قبعين
تقدمة الكتاب
إلى منار الطائفة الأورثوذكسية، وعميدها في الديار المصرية، ذي الفضل والحسب والجاه حبيب باشا لطف الله.
لما كان لكل كتاب عنوان، ولكل مقال ديباجة بيان، وقد جرت العادة أن يهدي العامل أجمل وأثمن ثمرات يمينه إلى ملك جليل، أو سيد نبيل؛ تنويها بقدر عمله، وأن يقدم الأديب مبتكرات فكره أو خلاصة بحثه واستقرائه إلى أريحي ألمعي؛ إعلاء وتشريفا لتأليفه، فقد رأيت أن أقدم كتابي هذا إلى مقامك الفخيم، وأتوجه باسمك الكريم، لعلمي بأنك من الطائفة الأورثوذكسية، في الديار المصرية، بمنزلة الغرة من الجبين، والتاج من المفرق. وإنما أقدمت على هذا الإهداء بدافع الثقة من حبك العلوم والآداب، التي أنهلت أشبالك الغر الكرام منها الكأس المعين. فتقبل مني أيها السيد الأمثل هذه الزهرة المتفتحة في روضة الأدب العربي، وبارك بيدك البيضاء هذا الحجر في بناء التاريخ الحديث، فمثلك من تعقد بحجزته نواصي الآمال، وتجمع على محبته قلوب الرجال.
كأنك في كل النفوس محبب
Bilinmeyen sayfa
فأنت إلى كل النفوس حبيب
المخلص
سليم قبعين
روسيا القديمة
احتفلت الأمة الروسية في 21 فبراير/شباط سنة 1913، احتفالات باهرة بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على تملك أسرة آل رومانوف، القابضة الآن على دفة الأحكام في الإمبراطورية الروسية الشاسعة الأطراف المترامية الأكناف. فإنه في 21 فبراير/شباط من عام 1613، حينما انقرضت أسرة ريوريك انتخبت الأمة الروسية، باتفاق الآراء وإجماع الأصوات، ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف ملكا عليها، وهو واضع أساس أسرة رومانوف التي هي من أعظم وأقوى الأسر المالكة في العالم، وقد أخرجت ملوكا عظماء وقياصر حكماء سجل لهم التاريخ صفحات مسطرة بالأعمال المجيدة لخير ومنفعة روسيا، أدهشت شعوب أوروبا وآسيا. ومهما أجهد الإنسان فكرته، فإنه لا يستطيع تعدادها بالنظر لكثرتها، ولما كان ما لا يؤخذ كله لا يترك جله، فإنني سأشير باختصار إلى ما فعله قياصرة آل رومانوف في خلال ثلاثمائة عام.
وقبل ذلك أقول: إن جريدة روسيا الشبيهة بالرسمية، أصدرت ملحقا لعددها 2322 ذكرت فيه أعمال قياصرة آل رومانوف بتفصيل واف، وما قاموا به من الأعمال المجيدة التي رفعت شأن الإمبراطورية الروسية وجعلتها في مقدمة الممالك اتساعا وقوة، وبذلك كفتني الجريدة المذكورة مئونة التعب والمشقة. وإنما رأيت قبل تعريب الملحق المذكور أن أعرف حضرات قراء كتابي هذا بحالة روسيا قبل أن يتولى فيها الأحكام ملوك آل رومانوف، وهي ما يعبرون عنها «بروسيا القديمة»، وقد جمعت ذلك من عدة تواريخ روسية مشهود لها بصحة الرواية، فأقول بإيجاز:
بعد أن تحررت مدينة موسكو عاصمة روسيا القديمة من نير البولونيين الذين حكموها مدة، أرسل أهالي موسكو الرسائل إلى أهالي الجهات ليرسلوا نوابا عنهم لانتخاب ملك، ولما انتظم عقد النواب قرروا أن يصوموا ثلاثة أيام قبل مباشرة الانتخاب، وعلى أثر انتهاء الصيام عقدوا اجتماعا كبيرا، وبعد مفاوضات ومناقشات طويلة قرروا في 21 فبراير من عام 1913 انتخاب ميخائيل ثيودورفيتش رومانوف، وقد صادق على هذا الانتخاب جميع المجتمعين في «ساحة الحمراء».
ميخائيل ثيودورفيتش، هو ابن الشريف ثيودورنيكيتيتش رومانوف (ابن شقيق أناستاسيا رومانوفنا) الذي حكم عليه غودونوف أن يدخل الدير وينتظم في سلك الرهبان تحت اسم «فيلاريت». ولما علا عرش روسيا المدعي بالملك ديمتري الكاذب، أمر بسيامته مطرانا لمدينة روستوف، ولهذا المطران ذكر مجيد في تاريخ روسيا؛ فإنه قاوم ملوك بولونيا الكاثوليك مقاومة عنيفة عندما كانت روسيا خاضعة لسلطتهم، وقد نفوه إلى بولونيا، حيث ذاق صنوف الإهانة والعذاب.
عندما انتخب أهالي موسكو ميخائيل ثيودورفيتش ملكا عليهم، كان عمره 16 عاما، وكان في ذلك الوقت موجودا مع والدته الراهبة مرثا في دير إيباتييفسكي، الكائن في مدينة كوستروما، فلما سمع البولونيون الكاثوليك بأمر انتخابه ملكا أعدوا حملة عسكرية زحفوا بها على الدير الموجود فيه ليقتلوه، ولما قربت الحملة من قرية «دومين» صادفها فلاح اسمه إيفان سوسانين، فسألوه عن مكان الدير، فأدرك هذا الفلاح الساذج بثاقب فكره ما يقصده الأعداء، فصمم على تضحية نفسه فدية للملك الجديد، وقال لرجال الحملة اتبعوني وأنا أدلكم على الدير. فصدقوه وساروا وراءه، فقادهم إلى حرش كثيف ليس له أول من آخر، مملوء بالمستنقعات، وقد أدركوا في النهاية أنهم خدعوا، فجردوا سيوفهم وقتلوا هذا الفلاح الذي خلد له في التاريخ الروسي ذكرا مجيدا، ونظم له الشعراء القصائد مما سيأتي ذكره فيما بعد.
ولما اتفقت الكلمة على انتخاب ميخائيل ثيودورفيتش ملكا، أرسلت له الجمعية العمومية وفدا مؤلفا من كبار رجال الدين والسياسة، يعرضون عليه قبول التاج، ولكنه رفض ذلك رفضا باتا، وكذلك والدته الراهبة رفضت مباركة ابنها، غير أن رجال الوفد هددوهما بالشر إن هما لبثا مصرين على هذا الرفض، وقالوا لهما: إن الله يغضب عليكما إذ لبثتما مصممين على هذا العزم ولم تقبلا ما عرضته عليكما الجمعية العمومية التي تمثل الأمة. وإذ ذاك قبل الشاب الطلب، ورفعت والدته الراهبة مرثا يدها وباركته.
Bilinmeyen sayfa
ولما جلس على عرش الملك، كانت المملكة في اضطراب عظيم، وكانت خزينتها خالية خاوية، والأمة في فقر مدقع، وفوق ذلك، فإن أعداء روسيا في الداخل والخارج كانوا يحاولون تمزيقها ببراثنهم الحادة؛ فإن عصابات القوزاق كانت تطوف البلاد وتعيث فيها فسادا، وتنهب القرى، وتقتل الناس بلا رحمة ولا شفقة. وأعظم خطر كان يهدد روسيا في ذلك الوقت، زحف أهالي ليتفا الكاثوليكية تحت قيادة قائدهم المشهور ليسوفسكي، الذي كان يتنقل من جهة إلى أخرى يقتل من يصادفه في طريقه وينهب القرى.
إن الملك ميخائيل، مع حداثة سنه وعدم خبرته، تمكن من الثبوت على عرش المملكة، واستطاع توطيد أركان السلام والأمن في أنحائها؛ ولذلك أسباب عديدة وجيهة؛ أهمها أن الشعب كان منهكا من كثرة الحروب وتواليها، ونهب الناهبين لأمواله وأرزاقه، وقد وضع ثقته في الملك الجديد، واعتقد أنه المنقذ الوحيد الذي يستطيع إنقاذه من المصائب والنوائب المتوالية، فأصبحت الثقة متبادلة بين العرش والشعب.
وكان الملك الشاب يكثر من عقد الجمعيات العمومية للمداولة في شئون المملكة وأحوالها، ثم وجه التفاته إلى أعداء روسيا الذين يهددونها بين آونة وأخرى، فشتت شمل العصابات القوزاقية، وقبض على زعيمها بلوفين وشنقه، ثم وجه اهتمامه إلى عدو كبير للمملكة، اسمه زاروتسكي، الذي كان محتلا لمدينة أستراخان، وأقلق الأقاليم المتاخمة لبحر قزوين، فقبض عليه أيضا وأماته ميتة شنعاء، ثم أرسل القائد بوجارسكي ضد ليسوفسكي العاتي، فطارده مدة طويلة، ولكنه لم يستطع التغلب عليه. ولكنه في سنة 1616 مات ليسوفسكي وأراح الله بموته مملكة موسكو من شره.
ثم بعد ذلك قام الملك الشاب بحروب عديدة مع أسوج ونروج وملوك آخرين، لا محل لذكرها في هذا الكتاب الذي أرمي في تأليفه إلى جهة أخرى غير الجهة التاريخية، وهي وصف ما كانت عليه روسيا من الانحطاط قبل تملك آل رومانوف، وما جرى لها من التقدم على عهد تملكهم السعيد، إلى أن وصلت إلى حالتها الحاضرة من القوة والرفعة وعزة الشأن.
القضاء في روسيا القديمة
كانت الأحكام في روسيا القديمة على غاية من البساطة المتناهية، فكان الأخصام يحضرون إلى دار الأمير (الحاكم) الذي كان ينظر في الخصام، ثم يعهد حله والحكم به إلى أشخاص منتخبين من الشعب (محلفون). وكان الحكم يجري شفهيا بدون كتابة، فيحضر الخصمان شهودهما، وأحيانا كانا يقدمان تقارير كتابية عن قضيتهما، وإذا ارتاب المحلفون في أمر القضية، كانوا يحلفون الخصمين تاركين الحكم العادل في ذلك لله. وجملة القول أن القضايا كانت تحل بسرعة وبدون تأجيل. وفي مدينة نوفغورد كانوا يعينون مدة لا تزيد عن الشهرين لحل النزاع بشأن الأراضي، ولكن كانت الرشوة شائعة جدا، وقلما كان الإنسان ينهي قضيته بدون رشوة. وكان الحكام إذا لم يملأ الأخصام جيوبهم، يصادرونهم ويضيعون حقوقهم ويعاقبونهم بالعقابات الجسدية، كالجلد وما شابه ذلك. وأما في القرى، فكانت تعهد الأحكام إلى العمد ووكيل الحاكم الذي يعين خاصة لهذا الغرض. ومجمل القول أن الأحكام كانت مختلة معتلة، وقلما يتحصل الإنسان على حقه، وكان بودي إطالة الكلام على الأحكام والأوامر الملوكية والقوانين، ولكن حال ضيق المجال ذلك فاكتفيت بما ذكرت.
حالة المرأة في روسيا القديمة
كانت المرأة الروسية في العهد القديم متمتعة بحرية تامة؛ تحضر الولائم والاجتماعات المختلفة، ولكن في مملكة موسكو، كانت الأسر الشريفة تحجز النساء ولا تسمح لهن بالخروج والاجتماع بالرجال.
وبناء على ذلك كانت الملكة وبناتها لا يظهرن على أحد من الرجال، إلا أقرب أهاليهن، وكذلك الأشراف كانوا يحجبون نساءهم وبناتهم، ولا يصرحون لهن بالخروج إلا إلى الكنيسة وقصر الملك لزيارة الملكة. وقبل زواجهن ما كانت عين رجل تقع عليهن مطلقا، حتى إن العريس ما كان يستطيع رؤية عروسه إلا بعد أن تصبح زوجة له، وكانت والدته وقريباته يخترن له عروسا ويصفنها له.
وكانت المرأة في العهد القديم، في بيوت الأشراف، لا تتمتع بشيء من الحقوق، حتى إنه لم يكن يحق لها إدارة شئون منزلها، أو حق تربية أولادها، الأمر الذي كان يعهده الأشراف إلى المربيات أو الخالات أو العمات، اللاتي كن يربين الأولاد تحت مراقبة أب العائلة. والمرأة العريقة في الحسب كان من العار عليها إرضاع أولادها.
Bilinmeyen sayfa
وظهر في القرن السابع عشر رجل شريف يسمى ماتفييف، كان يميل بطبعه إلى المدنية الأوروبية وعادات أهلها، فزين غرف منزله على الزي الأوروبي، بالمرايات والساعات والصور المختلفة، وأحضر لابنه أساتذة أجانب ليعلموه العلوم والآداب، ولم ينسج على منوال أشراف روسيا في ذلك العهد، الذين كان يرافقهم دائما أبدا عدد من الندماء والمشعوذين. ثم إنه لم يتمسك أيضا بعادات الأشراف من جهة نساء منزله؛ فإنه كان يتناول الطعام على مائدة واحدة مع زوجته وبناته. وحدث مرة أن الملك أليكسي ميخايلوفتش زاره زيارة بسيطة، فرأى ربيبته الآنسة ناتاليا كيريللوفنا من أسرة نارشكين، فأسرت لبه بلطفها وجمالها وعذوبة ألفاظها، وما فتئ حتى تزوجها، ولما أصبحت ملكة خالفت عادات الملكات، فغدت تظهر للجمهور، وأخذت تزور مراسح التمثيل، ومن هذا العهد أخذت نساء البلاط يظهرن للشعب.
الفلاح في روسيا القديمة
كان الفلاحون في روسيا القديمة مستعبدين للأشراف استعبادا تاما، هم وعائلاتهم وأولادهم وبيوتهم، ولم يكن يحق للواحد منهم الانتقال من سيد إلى سيد، وكان أسيادهم يعينون لهم وكلاء، يسومون الفلاحين صنوف العذاب والهوان، ويعاملونهم معاملة الحيوانات العجم، بل أشد من ذلك. وكثيرون من الفلاحين كانوا يهربون تخلصا من هذه المعاملة إلى الأقاليم القوزاقية، حتى خلت البلاد منهم. وقال أحد المؤرخين المسافر في بلاد روسيا في ذلك الوقت، إنه قطع مساحة تبلغ آلافا من الكيلومترات، لم يصادف في طريقه عشر نساء ورجلا واحدا. وكان أسيادهم ووكلاؤهم يجلدونهم ويعاقبونهم بجميع أنواع العقابات الجسدية، وكانوا يبيعون الفلاحين وأولادهم ونساءهم كما تباع الخنازير والحمير. وعلى هذه الطريقة كان الفلاحون لا يملكون شبر أرض، بل يعملون ليلا ونهارا متحملين حر الصيف وبرد الشتاء لخدمة أسيادهم بدون مقابل على أتعابهم؛ ومع ذلك ما كانوا يجدون ما يسدون به رمقهم ويسترون به أجسادهم. ومهما أجهد الكاتب قريحته، فإنه لا يستطيع وصف الحالة السيئة التي كان يقاسيها الفلاح الروسي المسكين. وفي اللغة الروسية كتب كثيرة مؤلفة بهذا الموضوع، تقشعر من هول وصفها الأبدان، وترتعد الفرائص.
وبقي الفلاحون يرسفون بأغلال الاستعباد، ويتحملون ضروب الشقاء إلى زمن القيصر إسكندر الثاني، الذي هزته الأريحية والغيرة الوطنية إلى تحرير الفلاحين من نير الاستعباد. وقد كان لخبر تحريرهم رنة فرح وسرور في جميع أنحاء روسيا، وما زال ذلك اليوم إلى يومنا هذا عيدا عظيما، يعيده الفلاحون في كل عام. وقد سجل القيصر إسكندر الثاني له ذكرا مجيدا في بطون التاريخ الروسي، وما زال ذكره حيا، يردد اسمه كبار الفلاحين وصغارهم مقرونا بالشكر والتمجيد والتعظيم. وقد نظم الشعراء كثيرا من القصائد الرنانة والأغاني الوطنية التي ما زالوا يتناشدونها إلى اليوم في ساعات الصفاء والراحة، وإني ما زلت أذكر من أيام المدرسة الروسية في مدينتي ووطني الناصرة التي تلقيت فيها علومي، بعض أبيات من أغنية علمنا إياها أستاذ الغناء أعربها تعريبا حرفيا:
يا حريتي! يا حريتي الذهبية!
إن الحرية صقر حر طائر في الفضاء الفسيح.
إن الحرية شفق منير.
ومنها:
إن محبنا ووطننا العظيم منحنا هذه الحرية ، التي أصبحنا بعدها أحرارا نرتع في رياض الصفاء والراحة ... إلخ.
وأما الفلاح الروسي اليوم، فقد تحسنت حالته تحسنا يذكر، وأصبح يمرح في رياض الحرية، ويشتغل بأملاكه التي وهبتها له الحكومة، وكل ذلك سيأتي وصفه وبيانه في سياق تعريب ملحق جريدة روسيا الذي أشرت إليه آنفا.
Bilinmeyen sayfa
ومما تقدم، يظهر للقارئ الكريم أن حالة روسيا كانت قبل ثلاثمائة عام، على جانب عظيم من الضعف والانحطاط والهمجية، وأما الآن فإنها أصبحت دولة راقية، وهاك ما كتبه أحد الكتاب عن روسيا الحاضرة:
إن إمبراطورية روسيا العظمى قد ترامت إلى أبعاد شاسعة، حتى إن مساحتها تبلغ سدس العالم المأهول، وقد أوجدت تحت لوائها بلادا شاسعة، وأقاليم عديدة، وعدة بحار وأنهار وجبال شامخة، وأحراش ليس لها أول من آخر، ومروج وحقول، وهي على اتساع مساحتها غنية بالسكان المختلفين في الأجناس والأديان، ومن عدة مئات من السنين كان سكان روسيا مقصورين على الروسيين الأصليين، وكانت تسمى في ذلك العهد «مملكة موسكو»، التي كانت أصغر من المملكة الحالية بعشر مرات، عدا عن أنها كانت ضعيفة لا حول ولا طول لها، وكانت معرضة دائما أبدا لهجمات الشعوب المجاورين لها، ولبثت روسيا مئات من السنين تسام صنوف الهوان تحت نير التتر.
ولما تمكنت من التخلص من تحت ذلك النير الثقيل، تحملت أيضا كثيرا من هجمات مجاوريها الأقوياء، ومن الفتن والثورات الداخلية، ولكنها بالتدريج نمت وتقوت؛ فإنها ضمت إليها أولا سيبيريا العظمى، ثم انضمت إليها روسيا الصغرى، ثم في خلال عدة سنين أشهرت حروبا كثيرة، كان الفوز فيها حليفها والنصر أليفها، وافتتحت عدة مقاطعات من أملاك تركيا، وأخضعت كل إمارة ليتفا، والجهات المتاخمة لبحر البلطيق وفينلاندا، وقسما عظيما من بولونيا، وجميع بلاد القوقاس، وإقليم روسيا الجديدة، وجهات أخرى.
وبناء على ذلك، فإن روسيا أصبحت دولة عظمى مختلفة أجناس الرعايا، وذلك بخلاف الممالك الأخرى التي أهاليها من جنس واحد وقبيلة واحدة، يدينون بدين واحد ويتكلمون بلغة واحدة.
إن روسيا الآن يسكنها قبائل وشعوب مختلفة، الذين يتكلمون بمائة وأربعين لغة، ويدينون بمذاهب شتى ؛ فعدا المسيحيين الأورثوذكسيين يوجد فيها الكاثوليك واللوثريون والبروتستانت، وفي روسيا يعيش عدة ملايين من المسلمين واليهود والبوذيين وغيرهم.
وكان عدد سكان روسيا بحسب الاكتتاب العام، الذي جرى منذ ستة عشر عاما، يبلغون 125 مليونا من النفوس، وأما الآن فإنهم يبلغون 148 مليونا ونصف، منهم الثلثان؛ أي نحو 83 مليونا ونصف روسيون أصليون، والعدد 65 مليونا الباقي يقسم على هذه الشعوب الآتية:
بولونيون: نحو 8 ملايين.
يهود: نحو 5 ملايين.
فينلانديون: نحو 2 مليون.
قوقاسيون وغروزين: نحو 2 مليون.
Bilinmeyen sayfa
أرمن: أكثر من 1 مليون.
أهالي ليتفا واللاتيش: أكثر من 3 ملايين.
تتر وكيرغيز وبوريات وغيرهم من القبائل الرحل في سيبيريا: نحو 11 مليونا.
نمسويون: نحو 2 مليون.
مولودوفانية: نحو 1 مليون.
شعوب أخرى: نحو 1 مليون.
ثم إن 83 مليونا ونصف؛ أي الروسيين الأصليين، يقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ وهم «أهالي روسيا العظمى» (55 مليونا ونصف)، وأهالي روسيا الصغرى (22 مليونا)، وأهالي روسيا البيضاء (6 ملايين)، وكلهم يختلفون عن بعض في لهجة الكلام وفي المعيشة والعادات.
إن هذه الشعوب والقبائل العديدة المستظلة بالعلم الروسي، يعتبرون رعايا خاضعين لجلالة إمبراطور روسيا، وخاضعين أيضا لقانون واحد، ما عدا فينلاندا التي لها قانون خاص بها. ثم إنهم جميعا، سواء كانوا روسيين أو بولونيين أو تتر مسلمين أو يهود، ملزومون بتأدية الخدمة العسكرية والدفاع عن الوطن من هجمات الأعداء، وكذلك ملزومون بدفع الضرائب الأميرية بدون استثناء.
القيصر نقولا الثاني
صاحب الجلالة والعظمة
Bilinmeyen sayfa
القيصر نقولا الثاني: إمبراطور روسيا العظمى.
جلال الملك على عهد أسرة رومانوف القياصرة العظام
لأسرة رومانوف والدهر يشهد
مآثر غر كل يوم تجدد
لهم حفظ التاريخ ذكرا ممجدا
يحدث عن أيامهم ويخلد
همو عدلوا والعدل فيهم سجية
وبالعدل يحيا كل شعب ويسعد
إذا ما نظمت الشعر فيهم فإنني
أنظم درا غاليا وأنضدد
Bilinmeyen sayfa
هم القادة الأنجاب والسادة الألى
إذا فعلوا أو صرفوا القول سددوا
بنوهم رعاياهم إذا ما ملمة
ألمت وكم شمل المظالم بددوا
وكم نهجوا للمجد والعز والغنى
مناهج شتى للرعايا ومهدوا
أياديهم في كل جيد قلادة
وأجيادهم بالمدح منهم تقلد
إذا ضلت الآراء في أي معضل
فآراؤهم مثل الكواكب ترشد
Bilinmeyen sayfa
بهم نهض الفلاح من وهدة العنا
وكم هم أقاموا الخصم روعا وأقعدوا
إذا ما ارتقى العرش المملك منهم
رأيت جلال الملك وهو مجسد
فبطرس ذاك الأكبر العاهل الذي
بنى الأس والأبناء جاءوا فشيدوا
وإسكندر الثاني ولا تنس فضله
محرر فلاح السلاف ومسعد
مشيد صرح العدل فالناس واحد
لديه سواء سيد ومعبد
Bilinmeyen sayfa
ولله در إسكندر الثالث الذي
به السلم مرفوع اللواء مؤيد
وواسطة العقد الفريد وفخرهم «نقولاهم» الثاني الهمام الممجد
نقولا أبو الدستور ذو الرأي والندى
بأفضاله الدوما تقر وتشهد
قياصرة في مجدهم كل قيصر
يخر له كسرى العظيم ويسجد
همو روجوا سوق التجارة والغنى
فليست وهم في حلة المجد تكسد
وهم غرسوا غرس العلوم وهم سعوا
Bilinmeyen sayfa
وهم شتتوا الجهل المميت وشردوا
وهم أرسلوا للشرق نور تمدن
وما الشرق إلا شاكر ليس يجحد
قضت أمة الروس قرونا ثلاثة
وفي كل يوم أمة الروس تصعد
فيا آل رومانوف لا زال ملككم
يزيد ونعامكم على الناس تحمد
أقيموا احتفالات الفخار ونمقوا
وزيدوا اتساع الملك فهو مؤيد
المخلص
Bilinmeyen sayfa
سليم قبعين
كيف يعيش جلالة القيصر نقولا الثاني
ألف العلامة الروسي الأستاذ إيلتشانينوف كتابا تحت عنوان «ملك الإمبراطور نقولا أليكساندروفيتش» ذكر فيه حياة القيصر اليومية، فاقتطفت منه الفصل الآتي:
تبتدئ الحركة في قصر الإمبراطور، أو في أي مكان يقيم فيه، عند الساعة الثامنة صباحا، وأحيانا كثيرة عند الساعة السابعة. وعند الساعة التاسعة تماما يتناول جلالته طعام الفطور البسيط المعتدل شأنه في جميع أدوار حياته، وبعد مناولة الطعام، يقصد مكتبه الخصوصي للعمل، فيطالع جرائد الصباح والتلغرافات المرفوعة له، المتضمنة أمورا شتى، وكل شيء يوجه التفات جلالته، يسطره بيده في كتاب مذكراته الموجود دائما على مكتبه.
والوقت الواقع بين الساعة العاشرة والحادية عشرة، يخصص بحسب البروجرام اليومي لرياضة الصباح، ولكن حقيقة الأمر أن جلالته يصرف الوقت من الساعة العاشرة إلى العاشرة والنصف، في تناول التقارير والأوراق التي يرفعها إليه كبار موظفي البلاط القيصري، وفي هذه الفترة من الزمان يقابل جلالته الذين يلتمسون المثول بين يديه من كبار الموظفين، أو أشخاصا من الأعيان يطلب نفسه مثولهم بين يديه. ثم إن الوقت الباقي حتى الساعة الحادية عشرة يخصصه جلالته للرياضة في حديقته الخاصة، وحده وأحيانا برفق ولي العهد. وفي هذه الرياضة يتبعه عدة كلاب يحبها الإمبراطور محبة شديدة، وفي خلال النزهة لا يكف عن مداعبتها، وهي بدورها لا تنقطع عن تفكيه جلالته بحركاتها الودية.
وعند الساعة الحادية عشرة تماما، يعود جلالته إلى القصر، وقبل أن يبتدئ باستقبال الوزراء وكبار رجال الموظفين، الذين يرفعون له في هذا الوقت التقارير العديدة، يأخذ مع ولي العهد في ذوق أنواع طعام الغداء الذي يقدم لجلالته في أوان مقفلة قفلا محكما، ومختومة بختم موظف خاص، فتفتح أمامه ويذوقها، ويظهر استحسانه أو استهجانه لأنواعها، فيكتب للموظف هذه الملحوظات في دفتر خاص لمراعاتها في طهي الطعام مرة أخرى.
وبعد ذلك يستقبل الوزراء وكبار الموظفين لمطالعة ما يرفعون لجلالته من الأوامر الرسمية التي يدوم نظرها إلى الساعة الواحدة تماما، حيث يكون تهيأ طعام الغداء.
يتناول جلالته طعام الغداء مع أفراد أسرته الكريمة الذين يراهم حول المائدة لأول مرة في ذلك اليوم، وأحيانا يدعو لمناولة الطعام بعض رجال حاشيته. أما طعام الغداء، فإنه يكون وافرا جدا ولكنه بسيط.
وبعد تناول الطعام تتجدد المقابلات حتى الساعة 3-4، وهي تكون مختلفة في عدد الذين يمثلون بين يدي جلالته؛ فإنه أحيانا يكون عددهم قليلا، وأحيانا كثيرا عندما يحظى بمقابلته موظفو إحدى المدارس العالية العسكرية أو الملكية أو أعضاء بعض الجمعيات المختلفة. ويندر كثيرا أن لا يقابل أحدا في هذا الوقت، وما يبقى من الوقت حتى الساعة الخامسة، يعين لرياضة جلالته المسائية. والوقت من الساعة 5-6 يعين لتناول الشاي بين أفراد عائلته القيصرية، وفي خلال تناول الشاي لا يترك الوقت يذهب سدى، بل يستعمله في الأحاديث العملية والقراءة بصوت مسموع، وأما الأوقات الأخرى فإنه يستعملها لأشغاله الخصوصية، وزيارة معاهد العلم والمدارس الحربية وغيرها.
وفي كل يوم قبل النوم، يكتب جلالته في مذكرته اليومية تأثيرات ذلك النهار ولو بكلمات موجزة، وهذا أمر لا بد منه، سواء كان في قصره، أو في الطريق، أو في البلاد الأجنبية.
Bilinmeyen sayfa
إن جلالته كجميع أفراد أسرة رومانوف، له ذاكرة وقادة وذهن حاد وأفكار رائقة، وهو يكتب ملحوظاته بخط ثخين واضح، وبسرعة زائدة وبدون توقف. وجلالته يسطر عباراته بلغة روسية سهلة، ويتجنب الجمل الطويلة، ولا يحب استعمال الكلمات الأجنبية في تعابيره. وأما مراسلاته التي يكتبها للمقربين منه، فإنه يكتبها بالحبر، وأحيانا بقلم الرصاص، وهذه المراسلات تكون عباراتها في غاية الإيجاز والرقة وعذوبة الألفاظ. ثم إن جلالته لا يحب التكلم بالتليفون، وفي غرفة عمله لا توجد عدة التليفون، ولكنها توجد في غرفة خدم جلالته.
كل تغيير يجري في بروجرام جلالته اليومي يخبر عنه رجال البلاط قبل حدوثه. ثم إن الأوراق دائما أبدا متراكمة فوق مناضد ومقاعد وكراسي غرفة عمل جلالته. ثم إنه لا يحب إطالة الزمن في حل المسائل التي تعرض عليه، بل إنه ينهيها أو يصدر أمره بإنهائها بأسرع ما يمكن من الوقت. ومن المدهش أنه مع كثرة الأوراق الموجودة في غرفة جلالته، فإنه يعرف موضع كل ورقة بسرعة متناهية. أما التقارير التي يجب تحويلها إلى محلات الاختصاص، فيضعها جلالته بنفسه في غلافات خاصة، ويعنونها بنفسه، وقد خصص لها في غرفته منضدة خاصة يضعها عليه، وهي تكون على قياسات مختلفة، ومكتوب على كل غلاف منها لمن يجب أن تحول.
إن جميع أدوات الكتابة الخاصة بجلالته ليست من الأدوات النفيسة المزخرفة الغالية الثمن كما يتبادر لذهن الكثيرين، ولا يغيرها بين حين وآخر، وأما أقلام الرصاص فإنه يستعملها حتى النهاية، وأحيانا يعطي بقياتها الباقية إلى ولي عهده ليتفكه بها.
إن جميع الأعمال التي يعملها جلالته مع وزرائه ورؤساء دوائر حكومته، يعدها هؤلاء من أصفى أوقاتهم وألذ ساعات حياتهم، ثم إن كل تقرير يرفع لجلالته يكتب عليه ملحوظة خاصة بيده الكريمة، وهو يشتغل مع وزرائه ببشاشة ورقة اشتهر بها، فيدب في نفوسهم روح النشاط التي تدفعهم إلى قول كل ما في نفوسهم بلا خوف ولا وجل.
ومن كلمات جلالته المأثورة لوزرائه وموظفيه، قوله لهم: «إني أحب سماع الصدق.»
وإتماما للفائدة، نذكر بعض ما يكتبه جلالته من الملحوظات على التقارير التي ترفع إليه: «إني واثق كل الثقة بضرورة إعادة النظر بالدقة على جميع قوانيننا القضائية والإدارية، حتى يسود العدل أخيرا في روسيا، وبناء على ذلك باشروا بمعونة الله هذا العمل الشاق.» «يجب توجيه الالتفات والاهتمام بشئون سيبيريا الشرقية وإقليم أوخوتسكي، فباشروا العمل بسرعة متناهية وبدون إبطاء وتأجيل.» «يجب على نظارة المعارف أن تبذل كل مجهوداتها لإيجاد معلمات وطنيات اختصاصيات، ومع ذلك يجب عليها أيضا أن تبذل وسعها في اتخاذ الاحتياطات الكافلة لحالة المعلمات الأدبية والمعيشية التي إذا فقدت توجد أولئك المعلمات اللاتي لا نصير لهن في مركز حرج.» «في نظري مسألة إنشاء خط مزدوج لسكة حديد سيبيريا غير قابل للتأجيل.» «تلامذة المدارس العليا يستطيعون الاشتغال بتعليم الجمهور، أو التلامذة الموجودين في المدارس الوسطى، ولكن مع ذلك يجب أن يسيروا بحسب نظام المدارس الموجودين فيها القاضي عليهم بالتحلي بالكمالات والآداب.»
وقس على ذلك.
إن الأوراق المرفوعة لجلالته التي تطلب الاهتمام بها، وتوجه أنظار جلالته، يبقيها لديه حتى يطالعها بإمعان، ويكتب على جوانبها ملحوظاته بشأنها.
ثم إن جلالته يأمر بعضهم أن يقرأ على مسامعه جميع تقارير الولاة حرفا بحرف، والمهم منها يقرأ على مسامعه ومسامع الإمبراطورة في أثناء تناول الشاي مساء. ويحدث أحيانا أن جلالته يأمر أحد رجال بطانته أن يلخص له بعض الأوراق كتابة ويرفعها له.
وكثيرا من الأحيان يجلس جلالته مدة طويلة يدرس بعض الأوراق، ويمعن النظر فيها، ويكتب عليها حل المسائل المطلوبة.
Bilinmeyen sayfa
وفي جميع الأعمال يحب جلالته الوجهة الروسية، ويحلها على طريقة التقاليد الروسية التي يتمسك بها تمسكا شديدا، ويكره أن يكون بين الموظفين أشخاص من غير أصل روسي.
وفي بعض الأحيان يزور جلالته مئات من الزائرين، الذين يبلغ عددهم في العام الواحد عدة آلاف.
إن مقابلة جلالته لزائريه تضرب بها الأمثال في جميع أنحاء العالم، فإن الزائر إذا لبث بين يديه 10 أو 15 دقيقة يخرج مندهشا من بساطة المقابلة، والأسئلة التي يلقيها عليه، فيخبره ببعض أشياء عن حياته وأعماله، ويسأله عن أفراد عائلته، فيخرج وقلبه مفعم بالسرور والنشاط والارتياح، وهو يقول في نفسه إن الدعاء بطول بقاء القيصر أمر واجب لا بد منه.
إن جلالته لا يطيل زمن المقابلة أكثر من الوقت المحدد، كما أنه لا ينظر إلى ساعته في خلال الزيارة، ولكنه يعطي لكل واحد الوقت اللازم الذي ينتهي أيضا في الأجل المضروب، الأمر الذي يحير أفكار المقربين من جلالته.
يقيم جلالته كثيرا في القرية الملوكية «تسارسكويه سيلو»، ولكنه يقابل زائريه في القصر الشتوي في بطرسبرج للأسباب الآتية:
يقول جلالته: لا يصعب علي وحدي السفر من العاصمة، ولكن زائري العديدين يحتاج كل واحد منهم لإضاعة نصف يوم في سبيل هذه الزيارة. هكذا يفتكر الحاكم على نحو 160 مليونا من النفوس، ويهتم لكل صغيرة، ويبذل وسعه لتوفير أسباب سعادة رعاياه وراحتهم. أما رياضة جلالته فتكون على أنواع مختلفة، فإما أن يسير مشيا على الأقدام، أو يمتطي صهوة جواد مطهم. وفي بيترهوف يركب زورقا، ويجذف بنفسه تجذيفا محكما، وفي رياضته في الزورق يكون برفقة ولي عهده، فيجلسه على ركبتيه، ويكون برفقته أيضا الأميرات كريماته.
وعند الساعة السادسة مساء يجلس جلالته للعمل، ويلبث يعمل بجد إلى الساعة الثامنة تماما، حيث يهيأ طعام العشاء، وهذا الوقت يصرفه القيصر وحده، وهذا نادرا، ولكن في أغلب الأحيان مع بعض الوزراء ورؤساء الموظفين.
بعد مناولة طعام العشاء يصرف القيصر ساعة ونصف مع عائلته، ومثل هذا الوقت يصرفه بعد مناولة الشاي عند الساعة الخامسة؛ يصرف هذا الوقت في الحديث مع أسرته الكريمة، وعند الساعة التاسعة ونصف يعود القيصر إلى العمل، ولا ينام هذا العاهل العامل قبل الساعة الثانية عشرة أو الثانية عشرة ونصف، وكثيرا ما بعد هذا الوقت.
وأحيانا كثيرة لا ينام القيصر وسط النهار لأخذ شيء من الراحة، وطول النهار يحفظ النشاط والقوة والإرادة، ولم يسمع عنه أنه يشكو ملل التعب أو النصب. وإذا أنهى أعماله الليلية قبل الوقت المعين، فإنه يذهب إلى الإمبراطورة حيث يقرأ على مسمعها بعض الكتب أو الجرائد، ويعيد على مسامعها ما علق في نفسه من أحاديث الوقت الذي صرفوه عند مناولة شاي المساء، ثم تنتهي أعمال النهار القيصرية بالصلاة لله، كما تبتدئ كل يوم.
ومما تقدم يظهر أن القيصر القابض على زمام أحكام الإمبراطورية الروسية يعمل في النهار عشر أو اثنتي عشرة ساعة؛ منها أربع ساعات يعمل بها منفردا، ولا ينام أكثر من سبع ساعات، ومنها خمس أو ست ساعات يخصصها لتناول الطعام والإقامة بين أفراد عائلته.
Bilinmeyen sayfa
وفي ليلة الأعياد الكبيرة يذهب لحضور الصلاة عند الساعة السابعة ونصف مساء، وفي أيام الأعياد يحضر خدمة القداس الإلهية عند الساعة الحادية عشرة صباحا.
إن جميع الأعمال الخاصة بشئون المملكة يعملها جلالته منفردا، وليس لجلالته مستشارون يساعدونه على الأعمال، وإنما يساعده أحيانا بعض أشخاص، أو بعض موظفي البلاط الذين يعهد إليهم بعض الأعمال، كوضع تلغرافات الشفرة أو يبيضون بعض الرسائل وغير ذلك.
قال مرة جلالته لبعضهم: إني أشتغل ثلاثة أضعاف ما يشتغله الرجل، فاشتغل أنت ضعفيه.
إن أنجال جلالته يستيقظون باكرا مثل والدهم، ولكنهم يقضون زمن الصباح في الدور العلوي، وأما جلالته فإنه يكون في الدور الأسفل، وأحيانا قليلة يحضرون عند والدهم لتحيته تحية الصباح، ولكن يرونه كل يوم على طعام الفطور. ثم إن جلالته قبل أن ينام أنجاله يودعهم واحدا واحدا، ويرسم على كل واحد منهم علامة الصليب ويقبله.
تقدم أن الإمبراطور يتناول الطعام مع أفراد أسرته الكريمة، وقبل الأكل وبعده يرسمون على صدورهم علامة الصليب، وفي نهاية الطعام ينهض كل واحد منهم ويشكر والديه، وفي خلال الطعام يكون الحديث ممنوعا بشأن الأعمال، وأحيانا كثيرة يمازح القيصر ضيوفه، ويطلب من كل واحد أن يروي ملحة أو فكاهة، أو يصرح بما يخالج ضميره بكل حرية، وأحيانا يلقي الأحاجي على الحاضرين. وبالجملة فإنه يحب قضاء وقت الراحة بالصفاء والمباسطة والانشراح.
قلنا إن القيصر بعد الطعام يقرأ على مسامع جلالة القيصرة بعض الكتب، الأمر الذي يسرها كثيرا، وأغلب الكتب التي يطالعها جلالته من مؤلفات وبنات أفكار الكتاب الروسيين، ويحب مطالعة مؤلفات الكاتب الروسي المعروف غوغول، والقيصر واقف تمام الوقوف على مؤلفات غوربونوف، ويحسن جلالته الكتابة باللغة الروسية واللغات الأجنبية، وكذلك يحب التاريخ الروسي، وهو رئيس للجمعية التاريخية المعروفة باسم جمعية إسكندر الثالث.
إن القيصر نقولا الثاني يحافظ محافظة شديدة على عادات ومبادئ أسلافه العظام، ويحترمها احتراما شديدا، ويوالي درسها. وفي خلال ساعات الراحة يستعمل كثيرا من الوقت في محادثة ولي عهده، وتدريبه على العمل. والإنسان إذا أمعن النظر في الأعمال التي يعملها جلالته، يندهش دهشا شديدا، فإنه يعلم حق العلم أنه مع كثرة الأعمال لا يشكو الملل، ولكنه يجدد قواه العقلية التي تنهكها الأعمال بالرياضة، وتمرين أعضاء الجسم، والمشي، وركوب الجياد والزوارق، واللعب بكرة القدم، وغيرها من الألعاب الرياضية. وهو ماهر في السباحة، لدرجة أنه لا يستطيع مجاراته فيها أحد، فيمكث تحت الماء عدة دقائق، كما أنه ماهر بإطلاق الرصاص وإصابة المرمى.
إن جميع أفراد حاشيته من الروسيين، وفي مطبخ البلاط تطبخ الأطعمة الروسية فقط - وعد المؤلف أنواعها - ويتناول جلالته أيضا الشمبانيا الروسية، وفي أيام الصيامات تنقطع جميع أفراد العائلة القيصرية عن جميع أنواع الملاهي، وتعيش بسكينة وإمساك النفس، وفي الأسبوع الأول والرابع والسابع من الصيام يأكلون المأكولات الصومية. وكل معيشة القيصر وأسرته تدل بوضوح على الطهارة، واستقامة الرأي، والتمسك بالمذهب الأورثوذكسي كل التمسك.
أما صاحبة الجلالة القيصرة أليكساندرا ثيودورفنا، فإنها تسير على خطة زوجها العظيم، ومتفقة معه اتفاقا تاما على إدارة المملكة، وتشاطره كثيرا من الأتعاب، وهي فوق ذلك مثال للأمهات في تربية الأولاد، وإدارة شئون المنزل، فإنها تخيط بيديها الكريمتين ملابس أولادها، وتعمل في المنزل، وقلما يعمل القيصر عملا بدون استشارة القيصرة. وبوجه الإجمال فإن جلالتها جوهرة كريمة، بل هي مثال الفضائل والكمالات.
صاحبة الجلالة والعظمة
Bilinmeyen sayfa
الإمبراطورة أليكساندرا ثيودورفنا: قيصرة روسيا العظمى.
والجرائد التي يطالعها جلالته هي: نوفويه فريميا، روسكي إينفالد (الجريدة العسكرية الرسمية)، وجريدة الفيغارو الفرنسية، وجريدة إيلليستراسيون (المصورة)، ويطالع أيضا بعض المجلات الإنكليزية المصورة.
وجلالته يحب الصيد كثيرا كجميع أسلافه وأجداده الكرام، الذين اشتهروا بحب الصيد.
ومن أول أكتوبر سنة 1912 ابتدأ البرنس ولي العهد يتعلم العلوم تحت ملاحظة والدته الكريمة التي تخصص قسما كبيرا من وقتها لتعليمه وملاحظة تربيته.
وولي العهد على جانب عظيم من النباهة والذكاء وحدة الجنان، يكثر الأسئلة على أساتذته، فلا يترك شيئا بدون أن يسأل عنه، وهو على استعداد عظيم لتعلم الحركات العسكرية، فإنه يظهر مهارة زائدة في الألعاب الرياضية. وبوجه الإجمال فإن الأسرة القيصرية على جانب عظيم من الاجتهاد والنشاط، حتى ضربت بها الأمثال في جميع أنحاء العالم، أدامها الله كواكب ساطعة في سماء المجد والسؤدد والفضائل.
ارتقاء روسيا
تحت صولجان آل رومانوف
1
إن تاريخ روسيا في خلال ثلاثمائة عام يقود المتتبع له إلى الدهش الشديد والحيرة العظمى، عندما يذكر كيف كانت حالة هذه المملكة عندما جلس على عرش الحكم فيها أول ملك من أسرة آل رومانوف، فقد كانت عبارة عن عدة مدن صغرى، وقرى متاخمة لمدينة موسكو، وكانت في حالة يرثى لها من الدمار والخراب، من توالي هجمات القوازق، الذين كانت عصاباتهم تطوف البلاد وتعيث فيها فسادا، وكذلك عصابات البولونيين، وعصابات أخرى من المتشردين، الذين لا عمل لهم غير النهب والسلب وقطع الطرق. وأما مدينة موسكو فقد دنسها ودمرها الأعداء، الذين احتلوها مرارا، حتى إن قصر الكرملين المشهور لبث مدة طويلة بدون سقف.
وقد استولى الأسوجيون على أراضي نوفغورود، واستولى البولونيون على مقاطعة سمولنسك الروسية، وكذلك أخضعوا لسلطتهم جهات روسيا الصغرى الغربية. ثم إن الجهات الجنوبية والجنوبية الشرقية كانت برمتها خاضعة لعصابات القوازق والتتر الأشداء، فالأولون ما كانوا يعترفون بسلطة، أما الآخرون فكانت تركيا تعضدهم وتعزز سلطتهم. وأما سيبيريا الغنية الواقعة وراء الجبال، كانت مستقلة استقلالا تاما، يحكمها عدة قبائل مختلفة.
Bilinmeyen sayfa
وإذا قابلنا بين هذا الماضي البعيد، وحاضر روسيا السعيد، التي تبلغ مساحة أرضها الكثيرة السكان سدس مساحة الكرة الأرضية، فإننا نندهش دهشا شديدا لهذا الانقلاب العظيم، ولا ريب أنه يخطر على بال كل إنسان، أنه حدث بظروف فوق العادة، أو بحظ عظيم حالف الأمة الروسية وحكامها، أو أن أحد حكامها انتهز فرصة ضعف جيرانها، وأن ذلك حدث بواسطة دهاء رجال سياستها، وبقوة جنودها ومهارة قوادها.
والتاريخ الروسي يدل بإيضاح زائد، على أن روسيا لم يظهر فيها شخص كنابوليون أو كإسكندر الكبير، ولكنها سارت في سبيل القوة والرقي سيرا تدريجيا، حتى أصبحت الآن إمبراطورية عظمى. والحقيقة أيضا أنها ما وصلت إلى حالتها الحاضرة إلا بوجودها تحت صولجان آل رومانوف.
تقوت ونمت روسيا مرهبة الأعداء بالاتحاد والتمسك بالمبادئ القويمة والثقة بقادتها الذين يقودونها في سبيل الحياة. إن المبدأ الأساسي الحيوي، الذي سارت عليه روسيا في خلال ثلاثمائة عام، هو مبدأ الإيمان الأورثوذكسي القويم، وإخلاصها وطاعتها لمليكها الأورثوذكسي. إن القيصر هو ممسوح من الله على المملكة، ولذلك فهو راع للكنيسة، ومدير شئونها الروحية أيضا، وحياة روسيا قائمة على ثلاثة أمور، هي: «اتحاد الشعب والملك والكنيسة»، وفي هذا الاتحاد تكون قوة روسيا.
إن زمن الاضطراب الذي قضته روسيا لم يقتصر على كونه زمن محن وتجارب ودمار، فإن زمن الخصام على عرش الملك زعزع البلاد، وزاد في تعاستها وشقائها، وكل ذلك مهد الطريق لجلوس الشاب ميخائيل ثيودوروفيتش رومانوف على عرش المملكة، ويعتبر عهده عهد سعادة وسلام لها.
ويجب على كل روسي أن يذكر البطريرك جيرموجين
2
الذي كان يعظ الشعب ويرسل له الرسائل إلى المدن، مظهرا له الخطر الذي يتهدد الديانة الأورثوذكسية من قبل البولونيين. ويجب أيضا ذكر المطران إيسيدور في خلال حصار مدينة نوفغورد من الأسوجين، فقد وقف على أسوار المدينة مواجها للأعداء. ويجب ذكر عاموس أسقف مدينة صوفيا، عندما هجم الأعداء ودخلوا المدينة عنوة، فإنه التجأ إلى منزله مع عدد كبير من أهالي المدينة، ودافع فيه عن نفسه وعن قومه دفاع الأبطال، ولكن الأعداء حرقوا المنزل، فمات الأسقف حرقا مع الموجودين.
ويجب ذكر الأب ثيوكتيست، الذي دب روح الحماس في نفوس رعيته، حتى كسروا الجنود الثائرين في عام 1606، وفي عام 1608 فقط عادوا فاستولوا على المدينة وقتلوا أسقفها البار، وقتل الأب غالاكتيون؛ لأنه أبى مباركة المدعي بالملك.
ولما استولت جماهير الخائنين على مدينة روستوف، التجأ المطران فيلاريت رومانوف مع أهل المدينة المخلصين إلى الكنيسة، وأقفلوا أبوابها، واستعد الجميع معه لميتة الاستشهاد، ولكن الأعداء حطموا باب الكنيسة ودخلوها عنوة، وقتلوا عددا غفيرا من الشعب، ودنسوا الهيكل المقدس، ثم ألبسوا المطران ملابس بولونية رثة، وقبعة تترية، وقادوه حافيا بالإهانات والازدراء والتحقير إلى السجن.
ومما تقدم، يظهر لنا أن رجال الدين كانوا يظهرون بمظهر الأبطال البواسل، وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان؛ لأن المنازعات والحروب كانت جميعها تحدث بسبب الدين، وكان الروسي يفضل الاستشهاد على تغيير دينه، وقد أهرقت دماء ألوف الروسيين بسبب الدين، ولكن إيمانهم لم يتزعزع، ولكن هذه الشدائد والأهوال التي ذاقها الروسيون بسبب الدين، قد أثمرت فيما بعد أثمارا شهية غزيرة.
Bilinmeyen sayfa