وأخيرا أقول إني أرى إيماءة ثقافية جديدة هي التخلص من المذهب الانفصالي - مذهب ديكارت الذي يفصل بين الروح والجسم، أو بين الحياة والمادة، أو بين العقل والمادة - إلى المذهب الاتصالي الذي يقول بأن القوة هي المادة المتدفقة، والمادة هي القوة المتجمدة. وفي هذا القول وثبة ثقافية واسعة إلى المستقبل سوف تكون كبيرة الأثر في الحضارة القادمة. وقد سبق للفيلسوف العظيم سبينوزا أن نبه إلى ذلك في لغة فلسفية ونحن نقتنع هذه الأيام بصحة تفكيره عن طريق العلم التجريبي، ونصل إلى وحدة وجودية في الطبيعة ثم نتدرج إلى ما يلائمها في المجتمع.
وعندما أرتفع إلى هذا التفكير أحس أن كثيرا من الاهتمامات بل الهموم الوطنية التي حجبت النور وعكرت الصفاء اللذين كنت أنشدهما في حب وولاء بشريين، هذه الهموم تذوب وتتبدد. أجل! إني أحب أن أعترف. فإني ما كتبت كلمة واحدة ضد المستعمرين الإنجليز إلا وأنا في ألم وارتعاش وأسف أكثر مما أحس من غيظ وحنق وكفاح. وكذلك كان الشأن عندما كنت أكافح، الرجعيين المستغرضين والجهلاء النشيطين من المصريين. فإني أخجل حين أقول إني أحب جميع هؤلاء الإنجليز المستعمرين والمصريين المستبدين. وفي نفسي رجاء بأن يتغيروا وأن يروا رؤياي وأن ينسلخوا من الاستعمار والاستبداد، ويفتحوا عقولهم للثقافة الجديدة: للحرية والإخاء والمساواة. وجميعها مستطاع لو أنهم كفوا عن «الجهل النشيط» الذي يمارسونه.
وقد احترفت الثقافة وقضيت عمري أقرأ وأكتب. وزادتني هذه الحرفة وجدانا بالدنيا، كأني أحس أكثر وأرى أبعد، حتى لقد صغرت همومي الشخصية إلى جنب اهتماماتي العامة. ودراستي للأدب وللفلسفة قد أوهجت خيالي وأحدت ذكائي. ثم انعكست هذه الدراسة إلى حياتي فأصبحت قيمي وأوزاني الخاصة قيما وأوزانا أدبية وفلسفية. ولذلك كثيرا ما أنصح للشبان بأن يقرءوا الأدب والفلسفة، وأن يحاولوا كتابة القصة وقرض الشعر؛ لأنهم وهم في هذا النشاط يتخيلون الحال المثلى ويصعدون بأذهانهم إلى السماء ويختارون أسمى المعاني وأنصع الكلمات. وكل هذا ينعكس على حياتهم الخاصة فيرتفعون عن التبذل ويحيلون حياتهم إلى فن جميل.
لو أني مت ثم بعثت وخيرت في الحرفة التي أحترف لما اخترت خيرا من أن أقرأ وأكتب. ولكني مع ذلك سوف أموت وفي نفسي شيء من الطاقة الذرية؛ لأنه يجب على كل إنسان في عصرنا أن يستوفي ثقافة علمية معينة يدرك منها هذا المنهج البشري الجديد للتسلط على المستقبل. ولم أجد الفرصة لهذه الثقافة كما كنت أشتهي وإن كان حظي منها قد يحسدني عليه غيري. أجل! لقد تركت الطاقة الذرية في نفسي مركب نقص أعانيه في ألم كل يوم.
من 1919 إلى 1947
رأيت الحكم البريطاني في مصر فيما بين 1900 و1919 وأنا على وجدان بتصرفاته واتجاهاته. ورأيت الحكم «المصري» فيما بين 1919 و1947 وأنا على وجدان أيضا بتصرفاته واتجاهاته. وقد قلت «المصري» بهذه الصيغة الكتابية لأنه لم يكن في كثير من الأحيان مصريا بحتا؛ إذ كانت اليد الإنجليزية تعلوه وتقوده إلى الفساد والشر. فإن الإنجليز هم الذين جعلوا زيور باشا يحل البرلمان في 1925 في نفس اليوم الذي عقد فيه. وهم الذين سلطوا علينا إسماعيل صدقي فيما بين 1930 و1934 كي يضرب الأمة بالسياط والبنادق. وهم الذين حملوا محمد محمود باشا في 1929 على أن يعطل البرلمان ثلاث سنوات «تقبل التجديد». ولكننا مع ذلك مضطرون إلى أن نسمي هذا الحكم فيما بين 1919 و1947 مصريا؛ لأن الأيدي التي أنفذت السياسة كانت مصرية. وكانت تستطيع أن تكف الأذى عن الوطن لو أنها شاءت.
فيما بين 1900 و1919 كانت السلطة الإنجليزية صريحة. فقد تعلمت أنا الجغرافيا في السنة الثانية الابتدائية حوالي 1900 باللغة الإنجليزية وكان كل التعليم بالمدارس الثانوية - فيما عدا اللغة العربية طبعا - باللغة الإنجليزية في جميع المواد. وكنا لا نستطيع أن نحل مشكلة تتصل بالحكومة إلا على يد إنجليزي. ولكن كل هذا أو معظمه تغير بعد 1919.
وأول ما يسأل الإنسان عندما يقارن بين الاحتلال والاستقلال هو مقدار الحرية التي يتمتع بها الفرد. حرية القول والخطابة والصحافة والاجتماع. ومع الأسف بل الألم العظيم يجب أن أعترف هنا بأن هذه الحرية نقصت ولم تزد بعد 1919. فإننا في 1947 أقل حظا من هذه الحريات مما كنا حوالي 1905 أو 1910. وهذا هو ما مارسته بنفسي. ففي 1914 استخرجت «رخصة» لإصدار مجلة «المستقبل» ولم أجد الصعوبات الشاقة التي أجدها أو يجدها غيري في مثل هذا الاستخراج في 1947. بل لقد حاول وزير سابق هو الأستاذ فؤاد سراج الدين باشا استخراج «رخصة» لجريدة يومية في 1946 فرفض طلبه. وقد كنت قبل 1919 ألقي المحاضرة بلا ترخيص من المحافظة في القاهرة. أما الآن فإني أحتاج إلى ترخيص. وأنا أكتب هذه الكلمات في أكتوبر من 1947 وقد بلغت التحقيقات بشأن مقالات أو أخبار الصحف العشرات . وهذا ما لم نكن نعرفه قبل 1919.
وفي 1922 صدر الدستور المصري. وفهمنا منه أنه سيحترم وأنه وثيقة رهيبة يجب أن تستنبط منا إحساسا دينيا لاحترامها. ولكن هذا الدستور استبدل به آخر أيام زيور باشا في 1925. ثم عطل أيام محمد محمود باشا في 1929. ثم ألغي واستبدل به آخر أيام إسماعيل صدقي باشا في 1930. وصحيح أن المستعمرين الإنجليز كانوا خلف هذه العربدة في حياتنا الدستورية. ولكن الأيدي المنفذة كانت مصرية.
وكلنا يعرف أن الذين جاهدوا وضحوا هم الوفديون. ومع ذلك حسبت السنوات التي تولوا فيها الحكم فيما بين 1923 و1947، أي نحو ربع قرن، فوجدت أنها خمس سنوات وثمانية أشهر فقط. وحسبت السنوات التي تولى فيها إسماعيل صدقي باشا الحكم، في هذه المدة أيضا وليس له حزب، وليس له رأي عام مصري يؤيده، فوجدت أنها تقارب المدة التي حكم فيها الوفد. فكأن الدستور لم يغير شيئا من أوضاع الحكم التي كانت تشكو منها مصر قبل 1919. وفيما بين 1930 و1934 أوقع بنا إسماعيل صدقي باشا من ألوان الاستبداد البشعة ما اضطره هو نفسه إلى أن يطالبنا بنسيانه في 1946. ولم نر قط مثل هذا الاستبداد من الإنجليز قبل 1919 إلا في حادث دنشواي. والمتأمل للكراهة العميقة عند بعض العناصر للوفد يجد أنها ليس لها من سبب سوى أن الوفد هو الهيئة الديمقراطية الشعبية الوحيدة في مصر.
Bilinmeyen sayfa