وفي عصرنا هذا يجب أن نقيس التربية الحقة بأدق وأكبر من المقياس الذي وضعه ه. ج. ولز؛ ولكن عندئذ لا نجد أحدا - ولا واحدا - يمكن أن يقال إنه حاصل على تربية حقة. فإن العلوم خاصة والثقافة عامة مشتتة غير منظمة، وتحصيلها لهذا السبب شاق، وأعمارنا تفنى في محاولات عقيمة وإن تكن مخلصة للتعلم. حتى إذا انتهينا إلى الطريقة واهتدينا إلى المنهاج وجدنا أن الشباب قد ولى.
وقد يبعثنا هذا إلى القول بأن العمر يجب أن يزيد حتى يبلغ المائة سنة مثلا، فنجني في العقود الأخيرة ما جهدنا لأجله واختبرناه في العقود الأولى. ولكن قبل ذلك يجب تنظيم المعارف ومناهج الدراسة وترقية الصحافة حتى تعود جميعها أدوات ووسائل للتنوير؛ لأن الواقع أن بعضها الآن أدوات ووسائل لتبليد الأذهان ومطاردة الذكاء، ونشر الظلام. والعالم حافل بالتباسات واستغراضات للجهل الفاشي، هذا الجهل الذي يجد دعامة بين المعلمين والأدباء والفلاسفة الذين يدعون إلى مزاعم وعقائد يوحون منها إلى القراء والمتعلمين بأنها آراء وحقائق. وقد سبق أن عانى جوتيه مثل هذه الحال حين قال: «ليس هناك أفظع من الجهل النشيط.»
وإذن أجيب على سؤالي: هل ربيت نفسي؟ بأني ما زلت «صائرا» في سياق التربية. وأني أسر حين أحس أن لي شخصية نيوروزية قلقة مستطلعة أطمع في أكثر مما أستوعب، وأن الثقافة تحتل المكانة الأولى من اهتماماتي. بل أحس أحيانا أنها الاهتمام الوحيد؛ حتى إني لأفجأ نفسي من وقت لآخر بخطاب يرسله إلي صديق فأرجئ فتحه إلى الغد كي أتصفح كتابا جديدا هذا اليوم.
وأسر أيضا حين أجد أن القيم البشرية عندي تأخذ مكان القيم الاجتماعية. وعندي أن هذا الانتقال هو البرهان في عصرنا على الحكمة والفهم. فإن القيم الاجتماعية - بإلحاح العادات والتقاليد - تغمرنا وتقيم في نفوسنا «عواطف» تحملنا على السعي والجهد لما يسمونه «منافسة» وأحرى أن يسمى «محاسدة» لاقتناء أتومبيل أو عزبة أو لقب أو نحو ذلك مما يحملنا المجتمع على احترامه. وكثير من الناس يموتون شهداء هذا الجهد السخيف. وحين ننتقل إلى القيم البشرية نجد أن حياة الصحة والصلاح الاجتماعي والفهم والقناعة بالحاجات الضرورية والاستمتاع بما في الدنيا من أطايبها المجانية خير ألف مرة بل مليون مرة من تلك القيم الاجتماعية. وليس في الدنيا ما يعدل فنجانا من الشاي أو كسرة من الخبز مع الجبن تحت ظل شجرة - كما قال الإمبراطور أوريليوس - أو قراءة كتاب منير أو الحديث إلى المجرة في منتصف الليل في الريف أو تحية الشمس في بزوغها أو - حين أكتب - البحث عن بشائر المستقبل والتشبث بها وشرحها في مقال أو كتاب.
وإذا سأل القارئ: ماذا تستنتج من اختباراتك، وما تكهناتك للمستقبل بعد أن قضيت نحو أربعين سنة وأنت على اتصال وجداني بالعقل العام على هذا الكوكب؟
فإني أجيب بأن الحاضر يومئ إلى المستقبل إيماءة واضحة نراها بالعين وأحيانا نسمعها صاخبة بالأذن، هي الاشتراكية التي سوف تعم الدنيا كلها. وليس هذا لأن الناس سيتحولون من أشرار إلى أبرار، بل لأن الإنتاج الصناعي سيحتم ذلك. كما سيحتم توافر النقل وضرورة التجارة - على أبعاد كوكبية - أن يحال العالم إلى دولة واحدة تتجه نحو ثقافة واحدة ولغة واحدة.
وهذا النظام الاشتراكي العام سوف يرفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية؛ لأنه من جهة سيفتح لها أبواب العمل والاختبار والتعلم كالرجل سواء، كما أنه من جهة أخرى سيغنيها عن عناء الواجبات المنزلية العديدة. وليس هذا لأنها ستترك المنزل بل لأن كثيرا من الواجبات المنزلية ينتقل بالحضارة إلى خارج المنزل. ويتضح هذا من المقارنة في مصر بين المرأة في الريف والمرأة في المدينة. فإن الأولى تعجن وتخبز وتحلب البقرة وتصنع الجبن وتخيط ملابسها وتحمل جرة الماء من الجدول وتجمع الوقود إلى غير ذلك من الواجبات التي لا تعرفها المرأة في المدينة. ثم المقارنة بين المرأة في القاهرة والمرأة في نيويورك تزيدنا فهما بأن الحضارة تلغي الواجبات المنزلية التي ترهق ربات البيوت الآن وتحول بينهن وبين العمل في الخارج أو بين تربية أنفسهن. ولذلك نحن صائرون نحو تحقيق الرؤيا التي حلم بها إبسن في شخصية «نورا» هذه الأنثى التي أصرت على أن ترتفع من الأنثوية إلى الإنسانية.
وأستطيع أن أستنتج من حياتي الماضية أن أعظم العقبات التي تؤخرنا في مصر كما تؤخر كثيرا من أمم آسيا وأوروبا - بعد الاستعمار - هي هذه الرواسب من الثقافات والتقاليد والغيبيات الفرعونية والبابلية وأمثالها التي انحدرت إلينا. وهي تتخذ ألوانا من الصيغ والأساليب، وتعترض عجلة التاريخ وتعوق التطور. والبيئة الصناعية وحدها هي التي تحطمها؛ لأنها - أي هذه البيئة - لا تنهض إلا على العلم. وهو نار كاوية تحرق جميع الرواسب وتبدد عفنها هباء.
والحضارة الجديدة المنتظرة هي الحضارة الصناعية، هي الحضارة التي لا يبعد أن تلغي الزراعة من العالم. وليس هذا بالعمل العظيم المستحيل كما يتوهم بعضنا؛ فإن الكيمياء الصناعية تصنع الآن مركبات كيماوية عديدة كان صنعها قبل هذا القرن مقصورا على الجسم الحي نباتا كان أو حيوانا. فإذا استطاعت الكيمياء الصناعية أن تصنع مادة البروتين فإن الزراعة تعود عناء لا ضرورة له بتاتا وعندئذ يحال العالم إلى حدائق وغابات تعنى بها الطبيعة وحدها. وإذا كنا نظن أن صنع البروتينات لا يزال بعيدا فيجب أن نذكر الطاقة الذرية؛ لأن أي إنسان منا، لو أنه - قبل خمس سنوات - سئل أيهما أقرب إلى خيالنا: استخدام الطاقة الذرية قنابل للتدمير أو صنع البروتين كيمائيا، لظن هذا الثاني أيسر بكثير من الأول.
وظني أيضا أن الزمن ليس بعيدا حين نشرع - حتى في مصر - في تطبيق نظرية التطور بالانتخاب التناسلي؛ أي اليوجنية. وفي العالم نحو أربعين دولة متمدنة تمنع غير الصالحين للتناسل من أن يعقبوا. والأمة التي تعارض في مثل هذا الإصلاح ستتخلف في ميدان التطور البيولوجي أي الرقي البشري الصميم.
Bilinmeyen sayfa