ومن الأخطاء الصغيرة الخطيرة التي ارتكبها المترجمون للإنجيل أنهم يذكرون الله على لسان المسيح بكلمة «أبي». ولكن الحقيقة أن المسيح كان يسمي الله باسم أبا أي «بابا»، وهي كلمة التحبب والإدلال، كلمة الأطفال. وذلك لإحساسه العميق الحميم بأبوة الله أبوة حقيقية. ومن هذه البؤرة العاطفية تشع سائر عواطفه في التحيز للفقراء والمساكين وفي الإحساس بأن البشر جميعهم عائلته لأن «بابا» لا ينسى واحدا منهم.
وشخصية المسيح هي بعد كل ذلك شخصية مقلقة. فإن كل أمثولة من أماثيله تبعث على التفكير المقلق المثمر؛ إذ هو يثير بها المشكلات البشرية العديدة التي تنزعنا من القيم الاجتماعية الزائفة إلى القيم البشرية الصميمة. وحياته الرائعة، ثم مأساته المؤلمة، كلتاهما دعوة إلى البر والشجاعة والشرف والتضحية. ولا يتمالك المتأمل للإنجيل مع الوجدان بأن الضمير المسيحي يقتضي النظام الاشتراكي؛ لأن هذا النظام هو التطبيق العملي للأخلاق المسيحية. والمسيحية تعد - في هذا المعنى - ديانة الكفاح وليست كما يتوهم البعض ديانة الركود.
ولست أشك أن الرجل المسيحي في دنيانا هذه وفي عصرنا هذا هو المثال الأسمى في الأخلاق. وهناك كثيرون يعيشون الحياة الطيبة، أي الحياة المسيحية كما أرادها المسيح الذي دعانا من ناحية إلى أن نكون كالأطفال في السذاجة والاستطلاع والبعد عن الشر، أي أن تكون القيم التي نعمل بها قيما بشرية، نحب الأشياء التي يحبها الأطفال: نحب اللعب ونحب الزهر ونحب كل شيء حسن يرجع حسنه إلى قيمته الأصلية لا إلى القيمة التي يفرضها المجتمع. ثم دعانا من ناحية أخرى إلى أن نخشى مديح الناس. بل قال: ويل لكم إذا أثنى عليكم الناس! وهنا دعوة إلى الاستقلال الفكري أو الروحي، استقلال الضمير، حتى نعمل ما يوحيه إلينا الشرف دون مبالاة لاعتبارات المجتمع. وقد يكون هؤلاء مع ذلك غير مؤمنين الإيمان الرسمي بالمسيحية؛ إذ ليس من الضروري، كي يكون للإنسان ضمير ديني، أن يؤمن بدين معين. فإن جميع الأديان سواء؛ من حيث إنها تنشد الحياة الطيبة.
وأذكر هنا أن نحو ستين عضوا من جمعية الشبان المسيحية كانوا يصطافون في صحراء العريش في سنة 1937، وكان بيننا المسلم والمسيحي واليهودي والبهائي. فكنا في الصباح نقرأ قطعة من القرآن أو الإنجيل أو التوراة مناوبة . وكان البهائي يجد في كل واحد من هذه الكتب كتابا مقدسا له. وكنا نجد نحن في جميع ما يقرأ لنا من أي كتاب منها دعوة صالحة توحي الخير والشرف والحياة الطيبة والحب. وقد وجدت أن الجمع بين هذه الكتب والاختيار منها على مبدأ المساواة قد بعث على التفكير الديني البار بين الأعضاء وربط بينهم برباط ديني محايد أي غير متحيز. حتى لقد انتحى بي بعض الأعضاء وسألوني: لم لا يفعل جميع البشر مثلما نفعل نحن هنا في العريش؟ أي يضعون جميع الكتب المقدسة في جميع المعابد.
وأذكر أني نصحت لهم بأن يقرءوا حياة السلطان أكبر الهندي الذي تولى الحكم في القرن السادس عشر؛ فإنه عقد مؤتمرا من الأئمة والكهنة من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوكيين، وطلب منهم أن يتفقوا على ديانة جديدة موحدة من هذه الديانات الأربع. وقد أخفق المؤتمر لأن الأعضاء - كما ينتظر - لم يتفقوا. ولو أنه كان قد اختار أعضاء هذا المؤتمر من المدنيين دون الدينيين لكان هناك مجال للظن بالنجاح. بل لقد قيل إن السلطان أكبر هذا قد تزوج أربعا نسوة: إحداهن مسلمة، والثانية هندوكية، والثالثة مسيحية، والرابعة يهودية. وذلك كي ينشأ أبناؤه على أساس من الحب الذي يدعمه التقارب الديني. وقد عاشت أسرته جملة قرون وهي لا تعرف معنى للتعصب في الهند بين المسلمين والهندوكيين. فكان الصليب يعلق في الغرفة التي يأتي إليها القارئ في الصباح كي يقرأ إحدى سور القرآن، وكان المبشرون من اليسوعيين يقعدون في حضرته إلى جنب كهنة اليهود. وقصة أكبر هي إحدى قصص القداسة الهندية التي نرى لها صورة أخرى في عصرنا في غاندي.
وجميع الكتب المقدسة سواء عندي. ولكني أضيف إليها عشرات من المؤلفات الأخرى في الفلسفة والأدب. ولذلك أقول إن بعض ديانتي يرجع أيضا إلى «جمهورية أفلاطون» وإلى «الإنسان والسبرمان » لبرناردشو، وإلى مؤلفات جان جاك روسو، وتولستوي، ودستويفسكي، وإلى أخناتون. فقد زودني هؤلاء جميعا بهورمونات دينية. وقبل نحو خمس عشرة سنة شاعت دعوة في أمريكا وأوروبا إلى ما يسمى «البشرية». وهي ديانة تستبعد الغيبيات، وتؤمن بالرقي البشري القائم على التطور. وهي تعتمد على الكتب المقدسة وكتب الأدب والتاريخ والفلسفة. وقد وجدت فيها إغراء كبيرا.
ولكن ما أحب أن أوضح للقارئ هو أن الدين عندي كان تربية بطيئة لم أصل بعد إلى نهايتها ولكني في سبيلها. والدين كالفلسفة أو الأدب نأخذ منها بمقدار ما ورثنا من كفايات وامتزنا به من أوساط تعلم وتربي وتوجه. وهنا يغير كالفين هذا التعبير فيقول: إننا إنما نفهم من الدين بمقدار ما وهبنا من نعمة الله.
وقد كان نفوري أيام شبابي من الغيبيات علميا منطقيا، ولكني أنفر من الغيبيات الآن لأسباب اجتماعية؛ لأنها - أي الغيبيات - جبرية ليست فيها حرية الماديات. أي إن التفكير المادي حر متطور، أما التفكير الغيبي فمقيد جامد، ونحن نتحرر بالأول ونتقيد بالثاني.
ولكن الفلسفة - أي الديانة - ضرورية لكل إنسان. والرجل؛ إذ يقول إنه ليس له ديانة، هو كما يقول برناردشو، إنما يقول إنه ليس له شرف. ونحن حين نستقطر العلم أو الأدب أو الفلسفة أو الفن كي نجد لها كلها غاية، إنما ننشد بهذه الغاية ديانة نعيش بها أي دستورا روحيا وأخلاقيا يعين علاقتنا بالطبيعة والكون والإنسان والمستقبل. ونحن نحس الحاجة إلى هذا الدستور وهو ليس دستورا جامدا إذ هو يتغير ويتطور كلما تقدمنا في السن وازدادت بصيرتنا نورا.
ولما شرعت أدرس السيكلوجية وجدت ناحية من الدين لم أكن قد التفت إليها، هي سلام النفس. فإنه ليس شك في أن المتدين يحس سلاما ويجد ابتهاجا يحرم منهما غير المتدين. ذلك أن المتدين يثق بالكون، وكأنه يحس أنه - أي الكون - لن يخونه، حتى حين يصطدم بالمصاعب. أو قل إنه يعيش في وسط أوسع كما أن آفاقه تمتد إلى آماد أبعد. ونستطيع أن نزن هذا الموقف حين نتخيل غاندي إزاء الجبال من المصاعب التي يلاقيها. فإنه في كل حياته أكثر اطمئنانا وأعمق ابتهاجا من أي إنسان آخر، مع أنه يواجه من المصاعب أكثر مما يواجه كل إنسان آخر. وليس غريبا بعد هذا أن تكون للدين - أي الفلسفة - قيمة سيكلوجية عظيمة؛ لأنه يؤدي إلى استقرار النفس ويحول دون التزعزع الذي قد ينتهي بالتحطم. وعندما نتأمل مرضى النفس نجد أنهم لم يتردوا في الهوة إلا لأنهم استسلموا إلى قيم وأوزان مخطأة. هي في الأغلب قيم وأوزان اجتماعية انساقوا فيها وأرهقوا بها حتى حطمتهم. وأنهم لو كانوا على فلسفة حسنة، وعاشوا العيشة الطيبة التي يوحيها كل دين في العالم، لكانوا قد أخذوا بقيم وأوزان دينية تتيح لهم سلام النفس الذي فقدوه.
Bilinmeyen sayfa