ونشرنا المقال في «الهلال»، وكان مأساة، وقرأته السيدة الكريمة مدام فهمي ويصا، فاشترت نحو خمسمائة نسخة وزعتها على أعضاء البرلمان، وكان من أثر هذا المقال أن سن قانون جديد لمعاقبة المتجرين والمتعاطين للكوكئين.
وانتعشت رويدا صداقتنا القديمة بانتعاش صحته النفسية والجسمية فصرنا نتواعد ونقعد معا على القهوة أو في ناد. وعاد يحترف صناعته ويجد فيها شيئا من الكسب الذي يكفي للوقار في الملبس والمطعم. وهو لا يزال حيا إلى الآن أقعد إليه فأجد النور القديم في عينيه كما أجد أثر العاصفة التي مرت به ولكن مع الإنسانية والتفكير المنظم. وقد بلغ الخامسة والستين. وظني أنه سيعيش كثيرا وسيذكر هذا الكابوس الذي جثم على عقله وأظلمه نحو خمس أو ست سنوات ولكن ما أضيع هذه السنوات!
والآن بعد نحو ربع قرن من هذا الحادث المؤلم أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام وأتعجب وأسائل: كيف كان الكوكئين يباع في كل مكان ويشتريه الجمهور بالقرش والجنيه ولا يجد أي إنسان صعوبة في الحصول عليه، ثم مع ذلك كان بوليس القاهرة يعجز عن ضبط المتجرين به؟
أذكر أني كنت قاعدا مع بعض الإخوان ذات مساء في قهوة بباب الحديد. وشرع أحدهم يتشمم هذا المسحوق الأبيض، فدفعني الاستطلاع إلى أن آخذ قليلا منه وأستنشقه، فأحسست انتعاشا أو «يوفوريا»، ولم أحس أي تخدر ولما آويت إلى الفراش لم أحس أي ميل إلى النوم، فشرعت أقرأ ولا أدري متى نمت. ولكن استيقظت في الصباح في الساعة العاشرة فعرفت أن الكوكئين قد أرقني - أي نبهني - إلى الساعة الثالثة أو الرابعة من الصباح، وتأخري في الاستيقاظ هو وحده الذي أذكرني أني تناولت قليلا من ذلك السم في المساء السابق.
كفاحي الثقافي
واختباراتي الصحفية
الثقافة إما أن تكون راكدة وإما مكافحة. وهي تركد حين تعالج الموضوعات لا تثير المناقشة. وقد يرجع هذا إلى أن المجتمع نفسه مستقر يعيش في بيئة زراعية مثلا، أو أن حق الحكم منفصل منه حين يتولى شئونه مستعمرون مثلا. وقد بقينا نحن على هذه الحال نحو أربعين سنة فيما بين 1882 و1922 كان مجتمعنا فيها منفصلا من الإدارة الحكومية إلى أن تقررت لنا حقوق بالدستور. وكان المتولون من الإنجليز - الذين لا تجدي المناقشة الصحفية معهم - عن موضوع تعليمي أو صحي أو اقتصادي. وأذكر أن المرحوم عوض واصف حين أنشأ مجلة «المحيط» في 1903 قال في العدد الأول: إن مجلته ستعالج الشئون السياسية والحكومية. فردت عليه «المقتطف» بأنه ليست هناك جدوى؛ لأن المتولين لهذه الشئون إنجليز لا يقرءون العربية.
ولكن مجتمعنا أثار المناقشة وجعل الثقافة الدينية - عن طريق محمد عبده - ثم الثقافة الاجتماعية - عن طريق قاسم أمين - موضوعا للمناقشة الحية. وكانت حالنا في تلك السنين أشبه بحال روسيا أيام القيصر؛ فقد كان المفكرون الروس ممنوعين من نقد السياسة، فاتجهوا إلى الأدب. وكان علينا في مصر حظر عام بشأن السياسة وانتقاد الحكومة، فاتجه النقد نحو المجتمع.
وفي أيامي الأولى، في بداية وجداني الأدبي، وجدت مجلات «المقتطف» و«الهلال» و«الجامعة»، من المحركات الذهنية، بل أكسبتني هذه المجلات توجيها تجديديا في العلم والأدب. وكنت قانعا بهذه الثقافة. ولولا حادثة دنشواي لما التفت إلى السياسة أدرس أصولها وأعنى بتفاصيلها في السنين العشر الأولى من هذا القرن.
وكانت نظرية التطور التي فهمت مغزاها من «المقتطف» البذرة الخصبة في ثقافتي. فقد أكسبتني معرفة وأسلوبا، وعينت لي أصدقائي وخصومي من المؤلفين والمفكرين. وغرست في نفسي مزاج الكفاح لأنها تصدت للعقائد والتقاليد. وقد تشعع الكفاح من هذه البؤرة إلى موضوعات أخرى. ولذلك لم أسعد قط بالبرج العاجي. كما أن مغزاها الخطير في التفكير العلمي والاجتماعي جعلني دائم الشك كبير الاستطلاع والمساءلة. وتغيرت الأوزان والقيم عندي، وأخذت بقيم وأوزان جديدة ترى على فجاجتها في «مقدمة السبرمان» التي ألفتها وسني نحو 19 سنة.
Bilinmeyen sayfa