ولكن كل هذه الأحداث لم تكن شيئا في جنب القنبلة الذرية في أغسطس من سنة 1945؛ لأن هذه القنبة تلقي من الآن ضوءا أو ظلا على مستقبل البشر بعد ألف بل آلاف السنين.
زوجة وأطفال
لم أكن طوال عزوبتي أفكر في الزواج. ولكن كانت أمي تلح علي كما هو الشأن في جميع الأمهات. وكنت من وقت لآخر أستمع لندائها وأزور هذا البيت أو ذاك، حتى إذا أوشكت أن أجد الفرصة وأن كل شيء مهيأ لإتمام الزواج، كنت أفزع وأفر بالسفر أو أتمحل الأعذار الكاذبة. وماتت أمي في 1916 وكنت في الثامنة أو التاسعة والعشرين فلم أعد أجد الحافز إلى التفكير في الزواج، وبقيت على ذلك إلى 1923.
وليس شك أنه كان للصدمة التي لقيتها أيام حبي لتلك الفتاة الإرلندية - وأنا في إنجلترا - أثر في كامنتي لكراهتي أو تجنبي للزواج. فلم يكن يقترح علي أحد الزواج بعد هذه الصدمة إلا وأتنهد في حسرة وأسف، ثم أصد في جمود وعزوف. ولكن في 1923 زرت مع صديق لي بيتا لبعض أصدقائه، فوجدت هناك فتاة قد أينع شبابها، وكانت لا تزال بالمدرسة وقد قعدت إلى مكتبها وهي مشغولة بالكراسة والكتاب والقلم. وتحدثت إليها قليلا عن مشاغلها المدرسية، ونهضت وودعت وفي نفسي هواجس، وفي اليوم التالي وفي نفس الميعاد حملت صديقي على معاودة الزيارة، وأدرك هو مأربي واستجاب لرغبتي في سرور.
وبقيت معها في هذه الزيارة الثانية أكثر من ساعتين، ثم تجرأت بعد ذلك على أن أزورها وحدي وتجرأ والداها على أن يتركانا معا، وبقيت خطبتنا نحو خمسة أشهر لم أنقطع عن زيارتها يوما واحدا. وأيام الخطبة تعد من أسعد الأيام لأن الخطيبين يحسان أنهما في مؤامرة سرية يرتكبان فيها المخالفات للعرف والقواعد الاجتماعية. وفي الخطبة نحوم ولا نرد، ونحسو ولا نعب؛ فيزيدنا هذا شوقا من يوم إلى يوم، وقد تعلمنا طرقا في التخلص من أحد الوالدين أو أحد الإخوة، وكنا نجد لذة عظمى في ممارسة هذه الطرق وخاصة حين كان أحدنا يلفق خبرا يؤدي إلى جلاء هذا القاعد الذي لا يريد أن يفهم أننا نرجو خلوة.
وعقب الزواج وجدت صعوبتين: أولاهما أني أحترف الأدب والصحافة وأتعلق بالقراءة وهوايتي هي الثقافة. والزوجة تعد الإنفاق على الكتب إسرافا، ثم هي أيضا لا تطيق رؤية زوجها وهو غارق في كتابه طوال الوقت أو معظمه في البيت، وخاصة إذا كانت هي لم تتعود إدمان القراءة. والصعوبة الثانية هي التفاوت العظيم بين مستويينا الثقافيين؛ فإن الإنجليز كانوا قد حرموا التعليم الثانوي، ولم يكن في القطر المصري كله مدرسة ثانوية للبنات تديرها وزارة المعارف إلى سنة 1925، وكانت زوجتي قد تعلمت في مدرسة فرنسية من تلك المدارس التي تديرها الراهبات ويتجه فيها معظم العناية إلى التعليم الديني؛ ولذلك وجدت أنه للتغلب على هاتين الصعوبتين أن أشرع في تعليمها من جديد. فصرت أشركها فيما أكتب وأناقشها في جميع الموضوعات الثقافية التي أهتم بها. وبدهي أن كل زوجة تهتم بحرفة زوجها. ولما كانت حرفتي هي الصحافة والأدب والعلم فإنها اضطرت إلى تتبع نشاطي حتى ارتفعت على مستواها السابق كثيرا.
وبهذا صح الوفاق بيننا، بل أكثر من ذلك إذ هي قد أصبحت صديقتي كما هي زوجتي. وظني أن خير طريق إلى الصداقة الضرورية بين الزوجين في مصر أن يرفع الزوج زوجته إلى مستواه الثقافي.
إذ هو حين يقصر في ذلك يجد أن التفاهم معدوم أو ملتبس، فلا يكون الحديث بينهما إلا في الشئون التافهة ويعودان وكل منهما يعيش في عالم منفصل من العالم الذي يعيش فيه الآخر. والصداقة التامة تحتاج إلى التكافؤ الثقافي بينهما أو ما يقاربها.
ومن عجب أني - مع الدكتور كامل لبيب - ألفت كتابا عن ضبط التناسل أنصح فيه بمنع الحمل إلا عن وجدان ودراية بما يتفق ومصلحة الوالدين والأطفال. ولكني مع ذلك أجد عندي ثمانية من الأولاد حتى يصح أن أواجه بالبيت القائل في أحد شطريه:
هلا لنفسك كان ذا التعليم؟
Bilinmeyen sayfa