ولكن القاهرة في تلك السنين 1903-1907 كانت حافلة ببشائر العصر الجديد. فقد رأيت فيها الأتومبيل لأول مرة. ولكن الحياة القديمة كانت لا تزال راسخة. فكان السقاء يحضر الماء في قربته لمنزلنا. وكنا أحيانا نركب الحمير من مكان إلى آخر لأن الترام كان يسير في شوارع قليلة. ولم يكن شيء من المنازل قد بني على الضفة الغربية من النيل، كما أن هليوبوليس كانت لا تزال صحراء، بل إن شمال المدرسة التوفيقية في 1903 كان - كما سبق أن ذكرت - خاليا من المباني إلا القليل المتفرق.
وكنا نتحدث في تلك السنين عن شيئين يحركان المجتمع المصري، هما الاحتلال الإنجليزي وحركة قاسم أمين لتحرير المرأة. ولم أكن أهتم بالحركة الثانية كثيرا. وكان الحزب الوطني أعظم قوة تكافح الاحتلال في ذلك الوقت. وكان قد ألفه في 1897 ستة من الشبان المتنبهين هم: أحمد لطفي السيد «باشا» ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد عثمان (والد أمين عثمان باشا) ولبيب محرم - شقيق عثمان محرم باشا - وسعيد الشيمي. وكان «اللواء» - جريدة الحزب الوطني - يستهوي النفوس، وكنا نسارع إلى شرائه عقب الانصراف من المدرسة ولكن الشبان الأقباط كانوا يجدون بعض الاستياء من الدعوة الدينية في الحزب الوطني وكذلك الدعوة العثمانية - أي التركية - وكان منطقهم يقول: «إذا كنتم تدعون إلى جامعة إسلامية وإلى تأييد الحقوق العثمانية في مصر، مع أن الأتراك ليسوا فقط أجانب، بل إن تاريخهم يحفل بالمظالم في مصر؛ فإن لنا الحق في الاتجاه نحو جامعة مسيحية والاعتماد على الاحتلال البريطاني.»
وقد انتهى موقفهم هذا إلى أن حمل مصطفى كامل عليهم وأثار تعصبا دينيا ساءت عواقبه واستغله الإنجليز أيام كرومر وجورست. ولم يصلح هذا الفساد القومي غير أحمد لطفي السيد حين أسس «الجريدة » ودعا دعوة مصرية بحتة ليس فيها شيء من الدعاية للأتراك أو للعرب أو للإسلام. ولكن حتى مصطفى كامل قبيل وفاته بخمسة أشهر أو ستة أعلن في مقالات أن مصر يجب أن تكون للمصريين فقط، وصار لهذا يعارض الخديوي عباس في ممالأته للدولة العثمانية. وبلغ من معارضته له أن جريدة «المؤيد» وصفته بأنه قد أصبح يشبه عرابي.
والواقع أن المجتمع المصري في بداية هذا القرن كان مجتمعا تركيا أو كالتركي؛ فكان الاصطياف في إستنبول مألوفا. وكانت الحكومة المصرية تؤدي «الجزية» السنوية لتركيا. وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة أو خلاسية. وقلما كنا نجد «مصريا» ثريا. ولذلك حين نتأمل العائلات المصرية الثرية في 1947 نجد أنها كلها حديثة العهد بالثراء. وهذه الحال تفسر لنا سيكلوجية الحركة العرابية. فإن عرابي كان يتأمل وطنه في عام 1880 فلا يجد فيه مصريا صميما يملك شيئا يؤبه له. وأن جميع الأثرياء كانوا من الأتراك أو الألبان الذين كان محمد علي قد اختصهم بالامتيازات وأقطعهم أرض المالكين المصريين السابقين الذين استولوا على عقود امتلاكهم وأحرقها. ولذلك كنا لا نعرف رئيسا للوزارة إلا وهو تركي الأصل، بل أحيانا كانت تؤلف الوزارة وليس بين أعضائها مصري صميم واحد أيام إسماعيل وتوفيق. وكنا نرى هؤلاء الأرستقراطيين على سخفهم ونذالتهم وهم في عرباتهم يتنزهون على جسر قصر النيل. وكان يتقدمهم قواص أو قواصان وكل منهما في سترة تهريجية يحمل عصا طويلة في وضع عمودي ويعدو أمام العربة وهو يصيح بأعلى صوته: هيه. هيه.
وكانت الجرائد المقروءة في تلك السنوات ثلاثا: «اللواء» الذي كان يحرك الأمة إلى المطالبة بالجلاء ويقرؤه جميع الشبان، و«المؤيد» الذي كان يؤيد الخديوي ويقرؤه أبناء البيوتات التركية والمحافظون من المصريين، و«المقطم» الذي كان يؤيد الإنجليز ويقرؤه الموظفون. أما «الأهرام» فكانت في ركود يشبه الموت لا يقرؤها غير عدد صغير من التجار.
وكان الخديوي عباس محور الحركة الوطنية في أوائل حكمه. وهو الذي أوعز بإيجاد الحزب الوطني، وكان يعاونه بالمال. ومما زاد الخديوي اتجاها نحو الحركة الوطنية تلك الإهانات الشخصية التي كان يجدها من كرومر. فقد حصل هذا الرجل على تربيته السياسية في الهند، وكان يعامل المصريين كما كان يعامل الإنجليز الهنود قبل خمسين أو ستين سنة، وكانت له في ذلك أساليب طفلية. وقد رأيته ذات مرة وهو ينزل من عربته، فلم ينزل مستويا على قدميه كما يفعل البشر بل تقدم له خادم مصري وحمله كأنه طفل من العربة في عناية ورقة حتى حط جثته على الأرض ... وقد فعل هذا في ظني كي يثبت أنه سيد مطاع أو ملك غير رسمي. وتشاجر مرة مع الخديوي لأن الحوذي الذي كان يسوق عربة الخديوي إنجليزي. وحاول مرة - عقب انتقاد الخديوي للجيش المصري الذي كان كتشنر قائدا عاما له - أن يعين وزيرا إنجليزيا. وكان كرومر هذا من عتاة الاستعماريين، وهو الذي أحال القطر المصري كله إلى عزبة للقطن، وقتل الصناعة المصرية قتلا تاما؛ حتى إننا حوالي 1898 أنشأنا مصنعا في القاهرة لغزل القطن ونسجه، وجئنا له بمدير إنجليزي، فأصر كرومر على فرض الضرائب الباهظة عليه حتى أغلقه. ثم - وهنا عبرة - عين مديره الإنجليزي في الحكومة المصرية.
وبفضل الحزب الوطني - بل بفضل الشاب مصطفى كامل - تزايدت الحركة الوطنية وأخذت موجاتها تعلو وتزبد. ورأى كرومر عجزه عن مكافحتها. فحمله الغيظ على العنف الأحمق بل على التوحش الإجرامي، فانتهز حوالي سنة 1907 فرصة التقاء الجنود ببعض الريفيين في دنشواي إحدى القرى في المنوفية، وكانوا يصيدون الحمام الذي كان هؤلاء الفلاحون يربونه، فاشتبك الريفيون مع الإنجليز في مشاجرة انتهت بقتل بعض الإنجليز أو بالأحرى بوفاتهم. وعندئذ عينت محكمة «مخصوصة» وكان رئيسها المرحوم بطرس غالي باشا، ومن أعضائها المرحوم فتحي زغلول باشا، وكان المحامي عن الإنجليز المرحوم الهلباوي الذي صار بعد ذلك عضوا في حزب الأحرار الدستوريين. وشرع في محاكمة الدنشوائيين وعم الأمة توتر نفسي وغلت العواطف. وكتب «المقطم» بأن المشنقة أرسلت إلى دنشواي قبل أن تنتهي المحاكمة، فخجلت الحكومة وكذبت الخبر. ولكن المرجح أن المقطم كان صادقا؛ لأنه كان يتصل اتصالا وثيقا بالإنجليز في ذلك الوقت. وصدر حكم المحكمة بجلد البعض وبشنق الآخرين. وأنفذت الأحكام في القرية ذاتها. ورأى الأطفال آباءهم يشنقون أو يجلدون، ورأت الزوجات والأمهات والشقيقات والآباء أعزاءهم وهم يتدلون من الحبال أو يصرخون من الجلد.
وأذكر أني كنت في الإسكندرية في ذلك الوقت أتنزه مع أخي، وكنا نأكل في المطاعم، فلما قرأت الحكم عمني جمود يشبه الغثيان، فلم أستطع الأكل جملة أيام، ودارت في رأسي خواطر جنائية عن هؤلاء المعتدين على بلادنا وأهلنا. وخجل الإنجليز أنفسهم من هذا الحادث الإجرامي، فعزلوا كرومر عن وكالته في مصر. وكان يرأس الوزارة الإنجليزية في ذلك الوقت رجل من الحريين يدعى هنري كامبل بانرمان. ولكن وزير الخارجية المدعو جراي برر جريمة كرومر بأن وقف في البرلمان يقول: «إن التعصب الإسلامي قد تفشى في أفريقيا الشمالية كلها بما في ذلك مصر.» وكتب «المقطم» مقالا عنوانه «التعصب يمتد ويشتد.» أي تعصب المصريين المسلمين الذين يجب أن يكبحوا بمشانق دنشواي. وما زالت كلمات هذه المقال ترن في ذهني، ولا تزال «دنشواي» عندي من الذكريات النفسية الأليمة.
وقد وجدت تعزية في شيء واحد هو أن الوجدان الوطني أصبح عاما وتنبهت الأمة كأنها استيقظت من نوم. فكنت أجد بعض الشبان يشترون «المقطم» ويمزقونه حتى لا يقرأه أحد. وحتى الأقباط الذين كانوا متوجسين من حركات الحزب الوطني الدينية، أصبحوا وطنيين يكرهون الإنجليز. وكان هذا الانفعال الجديد ملحوظا في أعضاء عائلتنا. ولكن اختلاط الحركة الوطنية بالدعوة الإسلامية من ناحية وبالرغبة في السيادة العثمانية من ناحية أخرى عرقل الاندماج التام للأقباط في الحركة الوطنية. فكانوا يشيحون عنها ويذكرون حكم الأتراك ومظالمهم أيام إسماعيل وتوفيق.
وشعرت في ذلك الوقت بما زلت أشعر به الآن، وهو أن الاستعمار البريطاني ليس هو العدو الوحيد لبلادنا؛ لأن الرجعية بالتزام التقاليد، وكراهة الروح العصري في السياسة والاجتماع والعقيدة، كل هذا يتألف منه عدو آخر لعرقلة أمتنا عن التقدم. وكانت نظرية التطور التي تعلمتها من «المقتطف» قد جعلتني ألمح بصيصا من الرؤيا الجديدة ، وأن أومن بأن العلم - الذي حقق السيادة وإن لم يحقق السعادة لأوروبا - جدير بأن يرفعنا من حضيض الفقر والجهل الذي وضعنا عليه الإنجليز، وأن يحقق لنا استقلالنا؛ ولذلك وجدتني من ذلك الوقت أدعو إلى أن نعيش العيشة العصرية، وأن أناصب الرجعيين المصريين العداء الذي أناصبه للإنجليز.
Bilinmeyen sayfa